تفکیر فی التصور القرآنی

مرتضى المطهری

نسخه متنی
نمايش فراداده

دراســــات

التفكير في التصور القرآني التفكير في الاسلام

* الشيخ مرتضى المطهري

من أسس التعاليم القرآنية الدعوة والتفكير والتدبر، التفكير في مخلوقات اللّه للتوصل لأسرار الوجود ، التفكير في أحوال واعمال الانسان ، نفسه ، لأجل أن يمارس وظائفه بصورة أفضل ، التفكير في التاريخ ، والاجيال السابقة ، لأجل التعرف على السنن والقوانين التي وضعها اللّه لحياة البشرية .

والتفكير السطحي والعشوائي عملية متيسرة لكل أحد ، ولكن لا ينتج أي ثمرة ، وأما التفكير الذي يعتمد على الدراسات العميقة ، والتجارب ، والمحاسبات الدقيقة ، ولا أقل من الدراسة الدقيقة لأفكار ارباب الفكر ومنجزاتهم فهي أمر في غاية الصعوبة والتعقيد ، ولكن معطياتها ثرة غزيرة ، وتعتبر رصيداً كبيراً للروح البشرية .

والاسلام قد اعتبر التوحيد ، القاعدة الرئيسية له ، والتوحيد أسمى وأعظم فكرة عرفها الذهن البشري، وهي تعتمد على تفكير دقيق وعميق ، وقد رفض الاسلام التقليد والتبعية في اصول الدين ، وبالخصوص في أصل الأصول وهو التوحيد ، ودعا إلى التفكير والتحقيق في ذلك ، إذن فلابد لمثل هذا الدين ، أن يوجه اهتمامه كثيراً «للتفكير والتدبر ، والتحقيق والبحث ، ويخص بهذه المسألة الكثير من الآيات الشريفة ، وبالفعل فقد التزم بذلك .

والقرآن الكريم ، لم يدع مسألة التفكير ، مبهمة ، مطلقة غائمة ، فلم يقل بصورة مجملة ، فكروا في أي موضوع شئتم ، ففي آية (159) من سورة البقرة يحدد الموضوعات التي يلزم التحقيق والبحث حولها ، ويحفز الناس إلى التفكير فيها (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار) ، فكروا حول السماء والأرض ، ودوران الفلك ، ومسيرة الليل والنهار ، ابحثوا عن القوانين الحاكمة في الاجرام والكواكب ، تعرفوا على الأرض ، وطبقاتها وآثارها ، والعوامل التي تؤدي إلى تغيير وضع الأرض بالنسبة للشمس ، بصورة شاملة ، خلال (24) ساعة ، حيث تكون سبباً لحدوث الليل والنهار ، ابحثوا حول هذه الحوادث بعمق ، ادرسوا علم الفلك ، والعلوم التي تبحث حول الأرض ومكوناتها (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) وهذه السفن التي تجري في البحر ، وتطوي المسافات ، وتخوض الأمواج المتلاطمة ، وتثري علم الانسان وتجاربه ، تزودوا من هذه النعم الغنية : البحر ، والسفن التي تجري فيه دون أن تغرق ، والفوائد التي يوصل إليها الانسان من خلال الابحار ، كل ذلك تم وفق محاسبات وقوانين معينة، لا يتوصل الانسان إليها إلاّ من خلال التفكير والدراسة العميقة حولها .

(وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) المطر الذي يهطل من السماء للأرض ، ومن خلال ذلك يحيى اللّه الأرض الميتة ، وهناك الالوف من الأسرار والحقائق ، مخبوءة في هذه العملية ، لا يتوصل إليها إلاّ الانسان المفكر والباحث ، الذي يبذل أقصى جهوده الفكرية ، في هذا المجال ، ليتعرف على الأسرار والحقائق ، يتعرف على الجو وكائناته ، ويتعرف على خواص المطر والنباتات .

(وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض) حركة الرياح وهبوبها ، الغيوم المسخرة بين السماء والأرض في حركة دائبة ، في كل هذه آيات ودلالات على حكمة اللّه وجميل صنعه ، ولكن ليس لكل أحد بل لمن يفكر ويبحث في ذلك .

إذا ألف شخص تجهله ، كتاباً ، وبعد ذلك كتب إليك رسالة ، يخبرك فيها إذا اردت أن تتعرف عليَّ تماماً ، عليك بقراءة الكتاب الذي ألفته ، ويؤكد على قراءة بعض الأبواب والفصول التي يحددها في رسالته فمن الواضح أنه يلزم قراءة تلك الفصول بدقة وعمق مع الرجوع لاستاذ يفسر لك ما غمض عليك ، إذا اقتضى الأمر ذلك ، أو لكتاب لغوي ، والتعرف على لغة الكتاب ، والحروف التي كتب بها ذلك الكتاب فمن خلال هذه القراءة الواعية ، سوف تتعرف على مؤلفه الذي لم تشاهده ، ومن الواضح ، انه لا يمكنك التعرف على المؤلف برؤية غلافه فحسب .

ان القراءة العابرة والسطحية ، حول عوالم الوجود ، والتي تتميز بالتحقيق ، والبحث العلمي العميق حولها ، كتلك التي يمارسها العلماء في مختلف العلوم ، علماء الهيئة والفلك ، علماء الأرض علماء الحياة ، علماء النفس ، وغيرهم ، ان هذه القراءة العابرة تشابه تماماً ، قراءة لغلاف الكتاب فحسب ، فهي لا تجدي شيئاً ، ولا يفهم الانسان منها شيئاً ، على العكس من القراءة ، والدراسة العلمية ، والبحوث العميقة ، والتفكر في قضية ، يعني التحقيق والتفحص ، في المعلومات المتواجدة في ذهن الانسان ، والتفكير يعني حركة الفكر في المعلومات التي وجدت في الذهن سابقاً ، فالتفكير كالسباحة، التي تتلاعب بالانسان ، هنا وهناك ، فلابد أن تتوافر معلومات مسبقة ، ليتمكن الانسان من التفكير فيها ، ولابد من وجود ماء ، ليتمكن الانسان من السباحة فيه .

الانسان الذي تعرف على زهرة ، بأن تعرف على جذرها ، وساقها، وأوراقها ، وكيف تتغذى ، وتتنفس ، وتنمو ، وتتفتح ، وتثمر ، مثل هذا الانسان ، العالم بهذه الأمور ، يمكنه التفكير في هذه الزهرة ، وبالقدرة والعلم والحكمة والتدبير والتقدير المحكم في تلك الزهرة ، أما ذلك الذي لا يعرف من الزهرة إلاّ شكلها وحجمها فحسب ، ولم يعرف الأسرار المخبوءة في أعماقها ، لا يتمكن من التفكير حولها ، ومدى علاقتها بالتقدير والتدبير الحاكم في الكون .

ان رصيد الفكر هو العلم ، ويقولون بأن الأمر بالشيء أمر بمقدمته، وبما أنه لا يمكن التفكير بدون وجود العلم والمعلومات ، إذن فالأمر بالتفكير يعني الأمر بالرصيد الذي يسنده ، أي الأمر باكتساب المعلومات الصحيحة والمثمرة ، حول المخلوقات ، ونستهدف من ذلك كله ، القول بأن القرآن الكريم ، لم يحث الانسان على التفكير فحسب ، بل انه حدد موضوعات التفكير ، في هذه الآية الشريفة ، وغيرها من الآيات التي يحفل بها القرآن الكريم .

انحراف المسلمين عن اسلوب التفكير الاسلامي

وما يؤسف له أن حدثت بعض الأحداث ، أدت إلى انحراف المسلمين عن الاتجاه الذي رسمه القرآن الكريم ، ولكن قد وجد بعض الأفراد ، وهم أقلية ، تعرفوا على روح التعاليم القرآنية ، وتجددت لهم موضوعات التفكير ومعالمه ، وبالفعل قد فكروا حولها ، وهؤلاء هم الذين يعدون اليوم من مفاخر المسلمين ، بل من قمم البشرية جمعاء ، ولكن الأغلبية ، قد انحرفوا عن اسلوب التفكير القرآني واندفعوا للبحث والجدل العقيم حول موضوعات ، كما لم يحث القرآن الكريم عليها ، فإنه نهى عن التفكير فيها ، وذلك لأنها لغو ، وعبث ، ولا ثمرة فيها ، والذي يؤمن بالقرآن الكريم يلزمه التجنب عن الأعمال العابثة ، غير المثمرة ، (والذين هم عن اللغو معرضون) ، وحتى لو تقنع اللغو بقناع البحث العلمي ، والبحث الديني .

المناقشات الكلامية

إذا ألقينا نظرة على مؤلفات المتكلمين ، والموضوعات التي دار البحث والجدل حولها ، قروناً طويلة ، حيث اشغلت الكثير من الأذهان، واستنزفت الكثير من القوى والثروات ونتيجة ذلك ذهبت الكثير من الطاقات البشرية سدى ، وبحثنا عن مدى علاقتنا بالموضوعات التي حث القرآن الكريم على التفكير فيها والتحقيق حولها، لرأينا بأنه لا توجد أي قرابة وعلاقة بينهما ، فقد دار البحث والجدل سنوات طويلة ، حول هذه الموضوعات التي لا تعتمد على أساس اسلامي . وأما الموضوعات التي حث القرآن الكريم على البحث والتحقيق حولها ، فلا تزال محتفظة بحيويتها وقوتها ، وفاعليتها ، حتى جاء آخرون ، وأخذوا على عاتقهم القيام بهذه المهمة ، واندفعوا برغبة جارفة للبحث حولها ، فأصبحت لهم المكانة الرفيعة ، في الدنيا ، ومن المخجل حقاً لنا أن نكون ملزمين ، بالتعلم منهم ، لنتلقى من غيرنا دروس القرآن الكريم وتعليماته الحية .

وقد ذكرنا سابقاً ، ان الانسان كلما كان أكثر دقة وعمقاً في التفكير والبحث حول الموجودات في العالم ، سيكتشف الانسجام والترابط الموحد ، والنظام الواحد ، والتلاحم الذي يربط بين أجزاء العالم ومكوناته ، وسيعرف ان كل موجود ، بل وكل ذرة ، وان امتلكت طاقة، وحركة معينة ، ولكنها ليست مستقلة في مسيرتها ، بل انها مترابطة مع سائر الأجزاء ، فهناك علاقات وثيقة تشد بين الأجزاء كلها ، ولكل جزء هدف معين ، في نطاق هذه المجموعة ، ومهمة في هذا المدار ، وبهذه الرؤية الموحدة ، يكون للعالم حكم الوحدة الواحدة .

اتحاد الدليل على وجود الصانع ووحدته في القرآن الكريم

ويجدر بنا أن نشير إلى هذه الملاحظة : ان الدليل القرآني الذي يدل على وجود اللّه هو بنفسه الدليل على انه واحد ، والمتداول بين الفلاسفة ان يعقدوا لكل منهما بحثاً مستقلاً ، فهناك بحث لاثبات وجود الواجب ، وبحث آخر لتوحيده ، وقد قلدهم في ذلك المتكلمون الاسلاميون .

ولكن الأمر ليس كذلك ، في القرآن الكريم ، فلم يذكر في موضع مستقل ، الدليل على وجود الخالق، وواجب الوجود ، والذات القائمة بنفسها ، ولا تعتمد في ذاتها على غيرها ، وفي موضع آخر، يستعرض الدليل على وحدة الخالق وواجب الوجود ، فليس الأمر كذلك ، وهذه ملاحظة لها اهميتها في القرآن الكريم ، فقد عرف المنطق القرآني ذات اللّه، بصورة لا يمكن أن يفرض لها ثان ، وقد اثير لهذه الفكرة في الآيات القرآنية ، بنحو الاشارة ، ولكن الامام أميرالمؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة ، قد اوضح هذه الفكرة ووسعها ، وهذه الفكرة بنفسها ، من المعارف القرآنية الكبيرة ، والتي تدل بوضوح على اعجاز القرآن الكريم ، والامام(عليه السلام) هو الذي كشف هذا الاعجاز ، واكتشاف الاعجاز بنفسه اعجاز آخر .

ففي حديث ، قد سئل أميرالمؤمنين(عليه السلام) «هل عندكم شيء من الوحي أجاب: لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ أن يعطي اللّه عبداً فهما في كتابه» يريد الامام(عليه السلام) أن يقول ، بأن هذه الأفكار الكبيرة التي ينطق بها ، نابعة في واقعها من فهمه للمضامين القرآنية السامية .

وقد ذكرت ، ان النظام الحاكم في الوجود ، يدل على الانسجاموالترابط بين الموجودات ، بحيث يجعل من أجزاء العالم كلاًواحداً ، ولكن يمكن أن يوجد ترابط ووحدة وانسجام بين أجزاء كلمجموعة ويمكن أن لا يتوافر ذلك ، ونوضح هذه الفكرة بالمثال التالي :

قطيع الغنم يؤلف مجموعة لا يوجد أي ترابط وانسجام بين أجزائها ، فكل واحد من الغنم يتخذ لنفسه ، طريقاً مستقلاً ، يسير فيه ، ويأكل لوحده وينام لوحده ، ويشكل لنفسه بنية معينة ، ووحدة خاصة ، ولكن الانسجام والترابط بين القطيع يمكن ملاحظته بحركته الموحدة بأمر من الراعي وتوجيهه .

وكل واحد من هذه الشياة ، يتكون بدنه من ملايين بل والوف الملايين من الخلايا الحية ، ومجموعة من هذه الخلايا تؤلف جلده ، ومجموعة أخرى تشكل بناء عضلاته ومجموعة أخرى تشكل بناء قلبه ، وأخرى لعينه ، وهكذا ، فكما ان كل مجموعة منها تمارس فعاليات ونشاطات مختلفة وعديدة ، ولكل منها في حد ذاتها مهمة خاصة ، وهدف معين وكل منها تجهل الأخرى ، فخلية الدم جاهلة بوجود خلية الاذن ، وخلية الاذن لا تعلم بوجود خلية الأعصاب ، فكل خلية لا تعلم بأنها مسخرة ومستخدمة لمجموعة موحدة ، وهي الشاة، كما أن لذلك الكائن الحي (الشاة) في نفسه روحاً وحياة ، وهدفاً ، أشمل وأسمى ، فالهدف الذي تنشده كل مجموعة من هذه الخلايا ، ضمني ، ومقدمي، ووسيلة لذلك الهدف الأشمل والأسمى للحيوان ككل .