من فقه مدرسة أهل البیت (ع)

السید نورالدین الجزائری

نسخه متنی
نمايش فراداده

من فقه مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)

الاسلام في مواجهة الحداثة الشاملة

* السيد نور الدين الجزائري

بدأ الدين الاسلامي في تشريعاته ديناً عالمياً لا يعرف حداًبشرياً ولا حداً جغرافياً من البلدان ، ولم يختص بزمان ولا بمكان ولا بجيل ولا قوم خاص من بني آدم .

اختص بخصوصية من بين الاديان لا توجد في غيره ، وهي خاتميته للاديان وخاتمية رسوله للرسل ، فلا يأتي بعده دين ولا يبعث برسول بعد رسوله .

ولم يجعل الاسلام تشريعاته مجموعة من الاعمال الفردية ، بل تعم رسالته المسائل الاجتماعية مجيبة عن الاسئلة في جميع مجالات الحياة غير مختصة بجماعة خاصة ولا بزمان خاص .

فهو دين كامل جامع لجيمع الاحتياجات الواقعية للانسان الدنيوية والاخروية ، جسمياً وروحياً وعقلياً واحساسياً فكرياً وعاطفياً فردياً واجتماعياً في جميع الازمنة والامكنة ، وفيه التشريعات لجميع الحركات والسكنات في طول الحياة مساندة من ناحية العقل والفطرة .

فهو تشريع كامل في جميع شؤون الحياة في الفرد والمجتمع ، مغن عن غيره من التشريعات والقوانين والدساتير ، شامل لجميع مناهج الحياة المادية والروحية ، قادر على الاستجابة لحاجات الانسان في سبيل سعادته ونيله إلى اعلى درجات الكمال في التقرب إلى اللّه تعالى والاخلاق الحسنة والمسائل الاجتماعية .

وأول شيء يبدو في هذا المجال هو التساؤل عن شمولية الدين وعن الغرض في بعث الرسل وانزال الكتب السماوية ؟

وقد أجاب القرآن الكريم عن هذا السؤال في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(1) .

يبيّن لنا القرآن الكريم في هذه الاية أن الدعوة من اللّه تعالى ومن الرسول احياء حياة حقيقية ثانوية أعلى من الحياة المادية الاولوية ، وهي السعادة والكمال والهداية إلى سبيل التقرب إلى اللّه تعالى وعالم الغيب والحياة الطيّبة .

وقد اجمعت الامة الاسلامية بجميع فرقها على هذه الحقيقة بحيث يغنينا عن اقامة الدليل عليها .

ولكن لا بأس بالاشارة إلى بعض الادلة في ذلك تتميماً للافادة والاستفادة في هذه المقالة :

1 ـ فمن الكتاب الايات الدالة على أن القرآن تبيان لكل شيء وتفصيل لكل شيء كقوله تعالى : (يوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسملين)(2) .

تدل هذه الاية على أن كل ما يحتاج إليه الناس في امور معاشهم ومعادهم في القرآن بيانه والهداية إليه .

وقوله تعالى : (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمة للمؤمنين)(3) .

وهذه الاية تدل على أن في القرآن تفصيل كل شيء وتمييزه .

ومقتضى دلالة الايتين أن القرآن مبينٌ لكل شيء ومفصّل له ، والشيء من المفاهيم العامة المبهمة صالحة للانطباق على كل موجود ، فيكون القرآن كتاب هداية لعامة الناس في كل ما يرجع إليهم من أمور الدنيا والاخرة ، وما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والاخلاق الفاضلة والشرائع الالهية وعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، كما دلت عليه الروايات ايضاً .

2 ـ الايات الدالة على أن الاسلام دين عالمي خالد ولا يختص بزمان دون زمان ، وتعاليمه تعم أبناء البشر جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة كقوله تعالى : (وما ارسلناك إلاّ رحمة للعالمين)(4) .

(وما هو إلاّ ذكر للعالمين)(5) .

(وما ارسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً)(6) .

وحيث إن الدعوة القرآنية عامة لافراد الانسان فلابد أن تكون تعاليمه مغنية في جميع مجالات الحياة عن غيره ، مستجيبة لمتطلبات الانسان في جميع حالاته وحوادثه واطواره ، قادرة على معالجة المشاكل والصعوبات .

3 ـ ومن السنة قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مخاطباً لاهله وعشيرته حين نزل قوله تعالى : (وأنذر عشيرتك الاقربين)(7) : «إن الرائد لا يكذب أهله . واللّه الذي لا إله إلاّ هو إني رسول اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامة»(8).

ومكاتبات النبي(صلى الله عليه وآله) إلى ملك ايران وقيصر الروم وزعماء البلاد ورؤساء القبائل تدل على عالمية رسالته وشموله لجميع ابناء البشر .

وقال امير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) : «ثم إن هذا الاسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه وأصفاه خيرة خلقه ، واقام دعائمه على محبته . أذلّ الاديان بعزته ووضع الملل برفعه ، واهان اعداءه بكرامته وخذل محادّيه بنصره ، وهدم اركان الضلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض بمواتحه ، ثم جعله لا انفصام لعروته ولا فكّ لحلقته ولا انهدام لاساسه ، ولا زوال لدعائمه ولا انقلاع لشجرته ولا انقطاع لمدته ، ولا عفاء لشرائعه ولا جذّ لفروعه ولا ضنك لطرقه ولا وعوثة لسهولته»(9) .

وقال(عليه السلام) : في ذم من افتى برأيه : «أم انزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه ، أم كانوا شركاً له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم انزل اللّه ديناً تاماً فقصّر الرسول عن تبليغه وادائه ، واللّه سبحانه يقول : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقال : (فيه تبيان كل شيء) ، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وأنه لا اختلاف فيه : (ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) . وإن القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلاّ به»(10) .

وقال زرارة سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) عن الحلال والحرام فقال : «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(11) .

وقال محمد بن علي الباقر(عليه السلام) : «قال جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : يا أيها الناس ، حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة»(12) .

وقال الباقر(عليه السلام) : «إن اللّه لم يدع شيئاً تحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة إلاّ انزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدل عليه»(13).

وقال الصادق(عليه السلام) : «إن اللّه لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة»(14) .

4 ـ إن احكام الشريعة تابعة للمصالح والمفاسد ، وحيث إنها ما تزال على ماهي عليه ولم يتغير ما فيها وهي باقية بقاء الدهر ، فأحكام الشريعة المبتناة عليها ايضاً خالدة لا تتغير ولا تتبدل . وهذه الاحكام ناشئة عن المصالح والمفاسد في سبيل تنمية الثقافة والسياسة والاقتصاد والنظام ، وتوسعة امور الحياة في الصناعة والعلوم وكشف قوانين الطبيعة وتوجيه الانسان إلى اظهار الجمال في الجهات المختلفة والاستفادة من اللذات المادية .

5 ـ الاسلام رسالة خالدة وخاتمة لاكمل التعاليم في جميع مجالات الحياة ; لان تشريعاته ملائمة للفطرة وموجهة إلى الانسان الفطري لهدايته إلى الاعتقاد النقي الفطري والعمل النقي الفطري والمقصد النقي الفطري والمقصود النقي الفطري . واستقرت تعاليمه على اساس فطرة البشر ولا ترى فيها اختلافاً ولا تضاداً ، كما قال اللّه عزّ وجل : (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم)(15) .

وعن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) : قال «سألته عن قول اللّه عزّ وجل : (فطرة اللّه التي فطر الناس) قال : هي الاسلام»(16).

والفطرة ثابتة لا تغيير فيها ودائمة لا نفاد لها أبداً ، فالاحكام المبتنية عليها دائمة باقية ، فإن الغرائز البشرية كالجوع والعطش والشهوة وغيرها مما يرتبط بخلقة الانسان والصفات الكامنة في وجوده باقية مادام الانسان باقياً .

والشريعة جاءت للاستجابة لنداءات الفطرة ومعالجة مشاكلها ، وهداية الانسان إلى تعديل اعمال هذه الغرائز .

نعم المتطلبات في حياة الانسان لا تنحصر بالغرائز الثابتة في وجوده ، بل الظروف تتغيّر وموضوعات الاحكام تتبدل وتحدث امور جديدة وتوجد مسائل مستحدثة ، والزمان والمكان قد يؤثران في تبديل الحالات الطارئة على المكلف أو على موضوع التكليف ، فالحكم الشرعي ايضاً يتغير في جميع هذه التغيرات والتبدلات ، ومن هنا يحصل عنصر متغير للاحكام الشرعية ، والاحكام الشرعية تتنوع حسب تنوع العنصرين إلى ثابت ومتغير .

الشؤون الثابتة والشؤون المتغيرة :

للانسان في حياته شؤون ثابتة واخرى متيغرة ، والمقصود من الشؤون المتغيرة هو ظروف الحياة وشروطه المتغيرة والحالات الطارئة المختلفة عليه ، كما أن المقصود من الشؤون الثابتة هو الميول والرغبات والغرائز المحققة للهوية الانسانية الملازمة لحياته التي لا تنفك عنه مدى عمره ودهره .

وحيث إن التشريع الاسلامي شامل لجميع أبعاد الحياة ومجالاته ، فلابد أن تكون تشريعات الاسلام كاملة والاحكام الصادرة من الشارع مطابقاً لجميعها ، فتكون الاحكام الصادرة من الشارع نوعين نوعاً منها مطابقاً للغرائز الثابتة فيكون احكاماً ثابتة ، وآخر منها مطابقاً للحالات المتغيرة فيكون احكاماً متغيرة .

وإليك نموذجاً من النوعين فيما يلي :

1 ـ رعاية مصلحة الاسلام والمسلمين واجبة على الحكومة الاسلامية ، وهذا اصل ثابت وقاعدة عامة ، ولكن المصلحة تتغير مع تغير الظروف الخاصة في الازمنة والامكنة . والمصلحة قد تقتضي الحرب وقد تقتضي الصلح ، فالحكم الثابت الذي لا يتغير هو رعاية المصلحة ، والحكم المتغير هو وجوب الحرب أو الصلح على حسب اقتضاء رعاية مصلحة الاسلام والمسلمين .

2 ـ المصلحة قد تقتضي عقد اتفاقيات اقتصادية وتجارية مع الاجانب وقد تقتضي خلاف ذلك .

3 ـ الدفاع عن كيان الاسلام وحفظ استقلال بلاد الاسلام وحفظ الحدود واجبة على الحاكم ، وهذا اصل ثابت لا يتغير . وأما كيفية الدفاع واسلوب الاستخدام للقوات فذلك مرتبط بالظروف الزمانية والمكانية وهي متغيرة .

4 ـ على ولي امر المسلمين نشر العلم والثقافة الاسلامية المتكفّلة بحصول السيادة المادية والمعنوية ، كما أن عليه قلع جذور الجهل والفساد ، وهذا اصل ثابت لا يتغير . وأما نوع العلم والخصوصيات الملحوظة في الحالات المختلفة فليس امراً ثابتاً ، بل هو منوط بنظر الحاكم ورأيه ويختلف باختلاف الظروف والحالات .

5 ـ حفظ نظام الاسلام وتحصيل الامن في الطرق والبلاد لا زمان للحكومة ، وهذا امر ثابت لا يتغير ، ولكن استخدام الوسائل المؤثرة في ذلك يختلف باختلاف الظروف والامكنة والازمنة .

6 ـ التصرف في مال الغير بغير اذنه حرام واكل ماله بدون رضاه باطل ، وهذا حكم ثابت في الشريعة ، ولكن حسب عروض بعض الحالات كما في المخمصة وعام المجاعة يكون التصرف حلالاً واكل ماله حقاً ، وإن كان الاكل ضامناً ولكن الحرمة تزول حسب عروض هذه الحالة .

7 ـ المعاملة السفهية باطلة ومبادلة شيء لا يكون فيها منفعة محللة باطلة ، ولكن حسب الظروف والحالات العارضة قد تصير المعاملة عقلائية صحيحة ، كما في بيع الدم فإن بيعه في الزمان السابق كان حراماً لعدم وجود منفعة عقلائية فيها إلاّ الاكل المحرم ، ولكن في الزمان الحاضر قد تتوقف حياة إنسان على حقنه به في الوريد ، وهذا منفعة عقلائية مهمة فيجوز بيع الدم في هذا العصر .

8 ـ تغيير الحكم بتغيير موضوعه : بقاء الحكم واستمراره منوط ببقاء موضوعه ، فإذا انتفى موضوع الحكم يرتفع الحكم بالضرورة ، وحصول موضوع جديد يستلزم حكماً جديداً ، والصحيح أن يقال إنه حكم آخر لموضوع آخر .

وعلى هذا المنطق افتى الامام الخميني فتواه المشهورة حول موضوع الشطرنج ، حيث إنه افتى بحرمته حينما كان معدوداً من آلات القمار ، وبعد تغير ذلك في عصرنا وصيرورته من وسائل وأدوات الرياضة الفكرية ، وعدم احتسابه من آلات القمار على سبيل الفرض حكم بحليته ، لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وعروض عنوان آخر عليه .

فالاحكام تتغير بحسب تغيير موضوعاتها ، والمجتهد لابد أن يعرف زمانه ومقتضياته ، ويفي بناءً على معرفته بالاوضاع وشرائطه فيفتي في جميع شؤون الامة وما يحتاج إليه الناس في جميع جوانب حياتهم ، ولا يقف على ظاهر الموضوع وقشره بل ينظر إلى مغزاه وواقعه وما تقتضيه الدقة فيه .

طرق معالجة العنصرين :

لم يحصل التجاهل والغفلة عن العناصر الثابتة والمتغيرة ابداً ، وكان ذلك العنصر مورداً للبحث والتساؤل من اول الشريعة ، والشاهد على ذلك التعابير المفسّرة لبعض الروايات الصادرة عن النبي والائمة(عليهم السلام) ، كالتعبير بأن الحكم في هذه الرواية قضيّة في واقعه أو مستند إلى علم الامام أو ناشئ عن الولاية وغير ذلك .

وقد تصدى الفقهاء لمعالجة العنصر الثابت والمتغير من الاحكام الشرعية ، واختار كل واحد منهم طريقاً أو اكثر من طريق . والطرق المعهودة عندهم ما يلي :

1 ـ جعل الاحكام الشرعية على نحو القضايا الحقيقية ، والتوجه إلى هذه الحقيقة يورث التوسعة في قابلية الاحكام لتحمل التطورات العارضة على موضوعاتها ، وتحرير الموضوع عن مرحلة الاقتضاء وتصعيده إلى درجة التطبيق في كل عصر ومصر .

قال المحقق النائيني : «لاينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لاحقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فإن ذلك ضروري البطلان ، بل هي انشاءات ازلية ، وإن المجعولات الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية كما هو ظاهر ما ورد من الكتاب والسنة»(17).

فيكون مقتضى ما ورد في الكتاب والسنة عموم التشريع وثبوته لجميع الناس من عصر الشارع الاقدس إلى يوم القيامة ، وابدية الاحكام الواردة فيهما من اجل أن الموضوع في القضايا الشرعية الواردة من الكتاب والسنة يكون عاماً يشمل محقّق الوجود ومقدّره .

2 ـ التحقيق في باب التزاحم : قد يقع التزاحم بين حكمين في الشريعة ، فيتصور الفقيه ابتداءاً أن بينهما التعارض وعدم امكان الافتاء بهما ، ولكن بعد التحقيق يبدو أن الواقع بينهما إنما هو التزاحم، فإذا عرف الفقيه الاهم من الحكمين يتمكن من معالجة المشكلة والعمل بأهم الحكمين منهما .

3 ـ تدخل العقل في التشريع الاسلامي : الاحكام الشرعية ناشئة عن المصالح والمفاسد الواقعية ، وحيث أن للعقل طريقاً إلى معرفة العنصرين يتمكن العقل من كشف التشريع فيما إذا ادرك المصلحة أو المفسدة في الموضوع الخارجي ، وهذه الحقيقة اورثت قاعدة مشهورة هي كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ، وعكسها كل ما حكم به العقل حكم به الشرع .

ولاندعي احاطة العقل بجميع ملاكات الاحكام ومناطاتها ، حتى يقال إن العقل محجور عن ذلك وقاصر عنه ، بل المقصود اثبات عدم حرمان العقل عن ذلك تماماً ، وادراك بعض الامور الواقعية احياناً ، خصوصاً العلل المنصوصة في الاحكام والمصالح والمفاسد الواضحة بالبيان .

4 ـ منطقة الفراغ التشريعي : نرى في السنة الشريفة نوعين من التشريع : تشريع من باب ابلاغ الاحكام الشرعية الالهية ، وتشريع من باب الحكومة ومنصب الولاية ، والنوع الثاني يشكل دائرة محدودة تسمى بمنطقة الفراغ التشريعي ، ويمكن أن يراد منهما معنيان :

الاول : تمكّن ولي الامر من استنباط الحكم الشرعي من العقل العرفي ، مع الاستمداد من اهل الخبرة في الموضوعات .

الثاني : استنباط الحكم في نطاق الاحكام الكلية الثابتة واطار الثوابت من الاحكام الشرعية ، مع ملاحظة اغراض الشرع ومقتضيات الزمان ، والمعنى الثاني يكشف عن الفحص عن الثوابت والمتغيرات في الاحكام .

وإليك نص البيان في ذلك عن الشهيد الصدر ملخصاً . قال(قدس سره) : أحدها قد ملئ من قبل الاسلام بصورة منجزة لا تقبل التغيير والتبديل ، والاخر يشكل منطقة الفراغ في المذهب قد ترك الاسلام مهمة ملئها للدولة أو ولي الامر ، يملؤها وفقاً لمتطلبات الاهداف العامة ومقتضياتها في كل زمان .

ونحن حين نقول منطقة فراغ فإنما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الاسلامية ونصوصها التشريعية ، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للاسلام الذي عاشته الامة في عهد النبوة ، فإن النبي(صلى الله عليه وآله) قد ملا ذلك الفراغ بما كانت تطلبه اهداف الشريعة على ضوء الظروف التي كان المجتمع الاسلامي يعيشها ، غير أنه حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملاه بوصفه نبيّاً مبلغاً للشريعة الالهية التامة في كل زمان ومكان ; لكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي لذلك الفراغ معبراً عن صيغ تشريعية ثابتة دائماً .

ملاه بوصفه ولي الامر المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف . ونريد أن نخلص من هذا إلى نتائج الاتية :

أولاً : أن تقويم الجانب الاقتصادي من الاسلام لا يمكن أن يتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث وتقدير امكانيات هذا الفراغ .

ثانياً : أن نوعية التشريعات التي ملا النبي بها منطقة الفراغ من المذهب بوصفه ولي الامر ليست احكاماً دائمية بطبيعتها .

ثالثاً : أن المذهب الاقتصادي يرتبط على هذا الاساس ارتباطاً كاملاً بنظام الحكم في مجال التطبيق(18) .

5 ـ التوسعة في اهداف الاجتهاد : المقصود من الهدف في الاجتهاد هو الاثر الذي ينتظر من الاجتهاد ، ويكون المجتهد في صدد تحصيله وتحقيقه في مسرح الحياة وحركة الاجتهاد ، ومصيره يكون إلى صوب الهدف ، ومع تحول الهدف وتبدله يتغير الاجتهاد ويتبدل ، والهدف من الاجتهاد هو استنباط الاحكام الفردية والاجتماعية لا الفردية خاصة ، فإذا كان الهدف في الاستنباط ملاحظة الحالتين الفردية والاجتماعية يتوسع الاجتهاد وفقاً للتوسعة في الهدف . وإليك نص البيان في ذلك عن الشهيد الصدر(قدس سره) ملخصاً : قال(قدس سره) : إن حركة الاجتهاد تتحدد وتكسب اتجاهاتها على اساس عاملين ، وهما عامل الهدف وعامل الفن ، ومن خلال ما يطرأ على هذين العاملين من تطور وتغيير تتطور الحركة بنفسها .

واقصد بالهدف الاثر الذي تتوخى حركة الاجتهاد ويحاول المجتهدون تحقيقه وايجاده في واقع الحياة ، واريد بالفن درجة التعقيد والعمق في اساليب الاستدلال التي تختلف في مراحل الاجتهاد تبعاً لتطور الفكر العلمي .

اظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به ، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة ; لان التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفصيلها ، ولكي ندرك ابعاد الهدف بوضوح يجب أن نميز بين مجالين لتطبيق النظرية الاسلامية للحياة :

احدهما تطبيق النظرية في المجال الفردي وبالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته .

والاخر : تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي واقامته حياة الجماعة البشرية على اساسها ، بما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية .

وكان من الطبيعي أن توسع نطاق هدفها وتبدأ بالنظر إلى مجال التطبيق الفردي والاجتماعي معاً ، وهذا ما يلحظ بداياته بوضوح في الوقاع المعاصر لحركة الاجتهاد عند الشيعة ، وما تمخض عنه من محاولات للتعبير عن نظام الحكم في الاسلام أو عن المذهب الاقتصادي في الاسلام ونحو هذا وذاك من الوان .

وفي مجال البحث الاجتماعي في الاسلام ، مادامت الامة في حالة الارتقاء وقد بدأت تعي الاسلام بوصفه رسالتها الحقيقية في الحياة ، والتقت بحركة الاجتهاد عند الامامية ضمن هذا المفهوم الرسالي الشامل للاسلام ، فمن الطبيعي التأكيد على أن التطور في الهدف الذي تتبناه حركة الاجتهاد ، واتساع هذا الهدف لمجالات التطبيق الاجتماعي للنظرية سوف يستمر ويبلغ اقصاه ، تبعاً لنمو الوعي في الامة ومواصلة الحركة للخط الاجتهادي في حماية الاسلام .

إن من الطبيعي حين يستعيد الهدف المحرك للاجتهاد ابعاده الحقيقية ، ويشمل كلا مجالي التطبيق ، أن تزول بالتدريج آثار الانكماش السابق ، ويتكيف محتوى الحركة وفقاً لاتساع الهدف ومتطلبات خط الجهاد الذي تسير عليه حركة الاجتهاد(19).

6 ـ الاجتهاد الفعّال : إن من خصوصيات فقه المسلمين الشيعة ومميزاته المنفردة دوره واثره في الاحداث الطارئة طول التاريخ في عصر الغيبة ، فإن الفقهاء في هذا العصر تابعوا الاحداث بدقة وافتوا بما ادى إليه اجتهادهم الفعّال من الاحكام الشرعية ، ولم يبالوا بما افرزته الصراعات والمواقف العدائية لهم ، وجور الزمان لم يمنع من استمرار حياة الاجتهاد الشيعي وفاعليته ، فاستمر حيّاً على الرغم من كل المضايقات التي كان يتعرض لها فقهاء الامامية في كل عصر .

يقول الامام الخميني(قدس سره) : «إن فقه الشيعة الذي يعدّ اغنى فقه في العالم هو فقه تشريعي ; حيث إنه شرح وفرع عليه بجهود علماء الشيعة»(20).

ويقول : هناك آلاف المسائل التي هي مورد ابتلاء الناس والحكومة ، وقد بحث حولها الفقهاء الكبار واختلفت آراؤهم بشأنها ، وإن كانت بعض المسائل لم تطرح في الازمنة السابقة أو لم يكن لها موضوع ، فعلى الفقهاء اليوم بصورة مستمرة أن يقوموا بطرح الاراء الاجتهادية الفقهية في مختلف المجالات بحرية ، حتى إذا كانت متعارضة(21) .

فالاجتهاد في مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) الفعال هو الفلسفة العملية للفقه الاسلامي اجمع وفي مختلف شؤون الانسان ومجالات حياته . والمجتهد مقتدر على معالجة كافة المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية .

والفقيه المجتهد لا يتوانى عن اعطاء الفقه جميع ابعاده العملية في الواقع ، وهذا ما اقدم عليه فقهاء المسلمين الشيعة في كل زمان ، والزمان والمكان عنصران اساسيان في الاجتهاد ، وعدم ملاحظة الزمان والمكان في عملية الاجتهاد يورث القصور في العملية وعدم التلبية للطموحات والتغيرات في الواقع ، والاجتهاد غير المتحرك يوجب تحجيم الاسلام وعدم حيويته الشمولية لمختلف جوانب الحياة المتجددة ، فتثار الشبهات حوله تحت عناوين من قبيل عدم ملاءمة الاسلام لهذا العصر أو ذاك ، بالرغم من أن الاسلام دين كامل وصالح لكل زمان ومكان ، ودور الفقيه المجتهد هو الاحاطة بكل القضايا المعاصرة لاجل ايجاد الاحكام المطابقة لها ، بحيث لا يكون هناك أي مجال لاحكام اخرى غير اسلامية كي تنفذ إلى الواقع .

لقد اشار الامام الخميني إلى دور واثر الزمان والمكان في عملية الاجتهاد والاحكام الحكومية والفتاوى ، وعن دور الفقيه في تحديد مصالح المسلمين والدفاع عنها في كل زمان ومكان ، باعتبار أن مهمة الولي الفقيه هي ايجاد الاحكام المناسبة لما يطرأ على المجتمع من احداث ووقائع سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية .

فقال عندما حكم الميرزا الشيرازي بحرمة التنباك إنه كان صادراً في حكمه عن موقف ولاية الفقيه العامة على الناس والفقهاء الاخرين ، وإنه لم يكن حكمه ذاك قضاء في نزاع أو خلافاً بين اثنين ، وإنما كان حكماً حكومياً روعيت فيه مصالح المسلمين بحسب الوقت والظروف والملابسات ، وبارتفاع تلك الظروف ارتفع الحكم(22) .

إن الاسلام دين سياسته عبادة وعبادته سياسة ، والاجتهاد في مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) من معانيه أن يكون الفقيه رجلاً سياسياً مع كونه فقيهاً ، ومن معانيه أن يكون قادراً على ايجاد الاحكام الملائمة للقضايا في كل زمان ومكان ، وأن يعمل على تحقيقه في الواقع بحيث يكون له اثر وفاعلية .

وقد جاء في الحديث عن الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم»(23).

وهذا الحديث يشير إلى قدرة الاجتهاد على استنباط الحوادث الطارئة والوقائع الجديدة ، ولزوم الرجوع في كل عصر وزمان وفي كل مرحلة من مراحل البشرية إلى المجتهد ، وضرورة تقليد الجاهل للمجتهد الحي العارف بزمانه ومكانه المقتدر على استخراج الحكم الشرعي وفقاً للحوادث الجديدة .

ولكن الملاحظ في هذا الحديث هو الارجاع إلى رواة الحديث عنهم(عليهم السلام)لا غيره من العناوين الاخر ، كالمجتهدين والعلماء والفقهاء أو اهل النظر أو غير ذلك .

بل الامام(عليه السلام) استخدم عبارة رواة الحديث ليؤكد على اهمية التزام بالنص الوارد عنهم ، وأن كل ما نحتاجه للحوادث الواقعة يمكن استنباطه من تلك النصوص الصادرة عنهم ، وأنه لا غنى للمجتهد في دين اللّه عن الرجوع إلى احاديثهم ، وأنه لا مرجعية للمقلد إلاّ عند من روى اخبارهم وعرف احكامهم .

وعليه فإن من يستنبط الموقف الشرعي من أحاديثهم للحوادث الواقعة ومتغيرات الموضوعات انما يتبع منهجاً اسلامياً اصيلاً .

والامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه الشريف في قوله : «وأما الحوادث الواقعة ...» قد شخّص المرجع التشريعي فيما بين الغيبة والظهور ، مهما امتدت المساحة الزمنية وما ستأتي به من حوادث تفرزها الوقائع المتناسبة مع كل ظرف من الظروف وحال من الاحوال ، فإن المخرج لا يكون إلاّ بالرجوع إلى رواة حديثهم الملتزمين بضوابطهم المستدلين بنتائج استنباطهم مما ورد في احاديثهم .

فعبارة (الحوادث الواقعة) في توقيعه الشريف تطرح في الواقع والحقيقة الاجتهاد المراعي لعنصري الزمان والمكان في زمان غيبته . لان كل حادثة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو فنية أو ادارية أو طبيعية وغير ذلك محكومة من قبل هذين العنصرين ، ومحصورة في دائرتيهما الزمانية والمكانية ، والاجتهاد المشروع في الفقه الاسلامي يجيب على الاسئلة التي توجه إليه بالنسبة إلى الموضوعات المستحدثة ، فعلى الفقيه أن يستنبط حكم الموضوع الذي حدث ولم يكن قبل ذلك ، والاستنباط إنما يكون بدلالة النصوص تضمناً أو التزاماً لا اقتراحياً من عند نفسه .

فالاجتهاد الفعال يسير مع النص في الزمان والمكان ، ويواكب حركة المجتمع والناس ويمنع عن التأخر عن النص وتجاوزه ، بحيث لا يكون هناك افراط ولا تفريط بل اعتدال في فهم القضايا وفي ايجاد الاحكام الملائمة لها ، وهذا يتطلب أن يكون الفقيه محيطاً بالقضايا المعاصرة وعالماً بانماط السياسة والمعادلات التي تحكم العالم .

قال الامام الخميني : المجتهد يجب أن يتصف بالفطنة والذكاء والفراسة اللازمة لقيادة المجتمع الاسلامي الكبير ، بل والمجتمعات غير الاسلامية ، اضافة إلى الاخلاص والتقوى والزهد وهي الخصال التي تستلزمها طبيعة المجتهد الديني(24) .

وعلى المجتهد أن يكون محيطاً بمسائل عصره وعارفاً بالمخططات والاساليب الخادعة التي تملكها الثقافة الحاكمة على العالم ، وطرق مواجهتها . وأن يكون ذا بصيرة اقتصادية وسياسية واطلاع على كيفية الاقتصاد الحاكم على العالم ومعرفة للسياسيين والدساتير المفروضة عليهم ، فكل ذلك من خواص المجتهد الجامع للشرائط ، فإن الفقه هو الطريق النظري الواقعي الكامل في ادارة الانسان والمجتمع من المهد إلى اللحد ، والمقصد الاعلى هو كيفية انطباق الاصول المحكمة للفقه على عمل الفرد والمجتمع وكيفية التمكن من اجابة المعضلات .

والاجتهاد الفعال يبتنى على اصول هي :

1 ـ ادراك الرسالة الخالدة للفقه والاجتهاد لتبيين كل ما يحتاجه الانسان في حياته .

2 ـ معرفة متطلبات العصر والمجتمعات الحديثة .

3 ـ فقه الشريعة والاصول التي تهدف الشريعة إلى حفظها .

4 ـ سد ابواب الخلل من ناحية العوامل النفسية والخارجية والسنن الاجتماعية الباطلة ونحوها .

5 ـ معرفة الموضوع على النهج الدقيق وخواصه المتحولة ولو بمعرفة المتخصصين في كل علم يرتبط به .

قد احال الشارع المقدس في كثير من موارد تشخيص الموضوعات إلى العرف ، وهذا لا يكون إلاّ في العناوين العرفية التي القاها الشارع إلى العرف العام ، والفقهاء اعترفوا بدور العرف .

ولابد للفقيه من تشخيص الموضوع في جميع الموارد حتى يتبين له حكم الواقعة على نحو صحيح . ومن المعلوم أن تطور الزمن يؤثر في تغيير حقائق العناوين التي كانت موجودة في الازمنة السابقة .

والفقيه لابد أن يعرف حقيقة الموضوع بجميع جوانبها وشرائطها واجزائها ، حتى يتمكن من ترتيب الحكم على الموضوع المرتبط بالحكم ، والموضوع المأخوذ في لسان الادلة الشرعية قد يختلف بسبب التطور الزمني في حدوده وقيوده ، فإنه قد يتردد في الحكم من جهة القيد المأخوذ في الموضوع ، ويشك فيه هل يكون قيداً مقوماً للموضوع حتى يزول الحكم بزواله ، أو يكون من حالات الموضوع ولا يوجب زواله تغييراً في الحكم .

وقد ذكر الشيخ الانصاري ضابطاً للتمييز بين الموارد وتشخيص القيد ، وأنه من مقومات الموضوع أو من حالاته ، وإليك نص كلامه ملخصاً :

قال : إنه كثيراً ما يقع الشك في الحكم من جهة الشك في موضوعه ومحله وهو الامر الزائل ، والزائل ليس موضوعاً ولا مأخوذاً فيه ، فلو فرض شك في الحكم كان من جهة اخرى غير الموضوع ، فلابد من ميزان يميز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، وهو احد امور :

الاول : العقل ، فيقال إن مقتضاه كون جميع قيوده قيوداً للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتاً لامر واحد يجمعها .

الثاني : الدليل ، فيرجع في معرفة الموضوع للحكم إلى لسان الدليل المأخوذ فيه ذلك العنوان .

الثالث : العرف ، فكل مورد يصدق عليه عرفاً عنوان الموضوع يترتب الحكم عليه ، وأن يعلم بالتدقيق العقلي أو بملاحظة الدليل كونه موضوعاً(25) .

وبعد ما فصّل الشيخ الانصاري خواص كل واحد من الوجوه الثلاثة اختار الوجه الاخير .

ودليله أن القضايا الشرعية الصادرة من الشارع إنما كانت موجهة إلى العرف ، فالمتبع في فهم العناوين الواردة في الخطابات الشريعة إنما هو العرف العام لاعتماد الشارع في خطابه على فهم مخاطبه ، والمخاطب إنما هو العرف ، مع أن الشارع في محاوراته العرفية ايضاً من العرف ، ولم يقترح طريقاً خاصاً لنفسه في خطاباته فيكون خطاب الشارع خطاباً عرفياً مثل الخطابات الاُخر العرفية .

6 ـ الالتفات إلى أن في كل واقعة حكماً يخصها ، والاجتهاد يهدف إلى استنباطه واستخراجه من مصادره الموضوعة لذلك ، وهذا معنى أن الاسلام دين عالمي وابدي لا يوجد فيه خلل بمرور الزمن ومرّ العصور ، ومن دون أن نشرع شيئاً من انفسنا بعنوان الحكم الاسلامي ، بل نبحث عن الحكم الواقعي باستخدام الادلة المرتبطة به . وقد دلت الروايات الكثيرة عن ائمة اهل البيت(عليهم السلام) على اثبات ذلك(26) .

7 ـ استنباط المناط للحكم الشرعي : استفادة المناط الواقعي للحكم الشرعي وإن لم تكن مما تناله العقول البشرية ، إلاّ إنه يمكن استظهار المناط من نفس الاحكام بطرق معتبرة عند العقل والشرع ، وهي ما يلي :

أ ـ بالقياس المنصوص العلة :

وقد ورد التنصيص بعلة الحكم في كثير من الموارد ، فحينما نعرف العلة من الدليل نستطيع أن نستكشف الحكم في كل مورد وجدت فيه تلك العلة ، كما في تعليل حرمة الخمر بإسكاره ، وعدم جواز التقرب إلى الصلاة في حال السكر . والمشهور بين الفقهاء حجية قياس منصوص العلة .

ب ـ تنقيح المناط :

قال المحقق الوحيد البهبهاني في تعريفه : اعلم أن التعدي ربما يصير بتنقيح المناط ، وهو مثل القياس إلاّ إن العلة فيه منقحة ، أي حصل اليقين بأن خصوصية الموضع لا دخل لها في الحكم ، وكذا اليقين بعد المانع في مورد آخر ، فنجزم بالتعدي لامتناع تخلف المعلول عن العلة ، مثل قول النبي(صلى الله عليه وآله) للاعرابي حين سأله عن مجامعة أهله في شهر رمضان أن يكفّر .

فإن القطع حاصل بأن العلة هي الجماع فيه من غير مدخلية الاعرابية ، ولا كون الجماع مخصوصاً بالزوجة الدائمة بل المتعة والجارية والزنا أيضاً كذلك ، وربما لا يحصل القطع بالنسبة إلى الزنا.

وكيف كان فالقطع إنما حصل بالاجماع وهو المنقّح ، إذ لابد للتنقيح من منقّح شرعاً وليس فيما نحن فيه سوى الاجماع . نعم في بعض المواضع يصير المنقّح هو العقل على سبيل اليقين ولكنه قليل جداً(27) .

جـ ـ مناسبة الحكم والموضوع :

قال الشهيد الصدر في تعريفه : قد يذكر الحكم في الدليل مرتبطاً بلفظ له مدلول عام ، ولكن العرف يفهم ثبوت الحكم لحصة من ذلك المدلول ، كما إذا قيل اغسل ثوبك إذا اصابه البول ، فإن الغسل قد يطلق على استعمال أي مائع ، ولكن العرف يفهم من هذا الدليل أن المطهر هو الغسل بالماء ، وقد يذكر الحكم في الدليل مرتبطاً بحالة خاصة ، ولكن العرف يفهم أن هذه الحالة مجرد مثال لعنوان عام ، وأن الحكم مرتبط بذلك العنوان العام ، كما إذا ورد في قربة وقع فيها نجس أنه لا تتوضأ منها ولا تشرب ، فإن العرف يرى الحكم ثابتاً لماء الكوز أيضاً ، وأن القربة مجرد مثال ، وهذه التعميمات وتلك الخصوصيات تقوم في الغالب على اساس ما يسمى بمناسبات الحكم والموضوع ، حيث إن الحكم له مناسبات ومناطات مرتكزة في الذهن العرفي ، وبسببها ينسبق إلى ذهن الانسان عند سماع الدليل التخصيص تارة والتعميم اخرى ، وهذه الانسباقات حجة لانها تشكل ظهوراً للدليل ، وكل ظهور حجة وفقاً لقاعدة حجية الظهور(28) .

فإذا توفرت هذه الاصول في الاستنباط ، فالفقيه المستنبط قادر على استخراج الحكم الشرعي للحوادث والموضوعات المستحدثة ، والحالات الطارئة العارضة على وفق النصوص الواردة عن الشارع ، ولا يلزم الغاء حاكمية الدين ، والحداثة غير مخالفة للتشريع ; حيث كان استخراج الوقائع الحادثة من فهم النصوص مع الاستفادة من القواعد الثابتة في الدين ، فالدين الاسلامي باق ، والامة ترجع إليه في كل شيء وفي كل حين ، وليس على الاسلام ولا على المسلمين خطورة من ناحية الحداثة لان الاجتهاد المشروع الحي والفعّال مقتدر على استنباط الاحكام الشرعية من منابع الوحي والتشريع ، من دون تزلزل في مبادئها أو خلل في متطلباتها .

نتيجة الدراسة

1 ـ الاسلام دين عالمي لا يعرف حداً ولا يختص بزمان ولا مكان .

2 ـ الاسلام دين كامل في جميع شؤون الحياة في الفرد والمجتمع ، ومغن عن غيره من التشريعات والقوانين .

3 ـ ينقسم حكم الشريعة إلى الحكم الثابت والمتغير وفقاً لمتطلبات الحياة ، من الغرائز الفطرية الثابتة والحالات والظروف المتغيرة الطارئة طول الحياة .

4 ـ الاجتهاد المشروع الفعال فلسفة عملية للفقه الاسلامي في مختلف شؤون الحياة ، والمجتهد قادر على معالجة كافة المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها من الحوادث الطارئة .

5 ـ الاجتهاد الناجح في ذلك إنما هو الالتزام بضوابط الشريعة والاستناد إلى النصوص الصادرة ، والاعتماد على القواعد الثابتة من الشرع لا التفوه بالاقتراحات الظنية ولاراء المجتثة غير المستقرة .

6 ـ الحداثة إذا وافقت الشريعة فلا تكون مخالفة للاسلام ولا خطراً عليه .

والحمد للّه أولاً وآخراً

(1) الانفال : 24 .

(2) النحل : 89 .

(3) يوسف : 111.

(4) الانبياء : 107.

(5) القلم : 52 .

(6) سبأ : 28 .

(7) الشعراء : 314.

(8) الكامل لابن الاثير 2:61.

(9) شرح النهج ابي الحديد 9:10.

(10) جامع احاديث الشيعة، المقدمة :67.

(11) اصول الكافي 1: 58، ح19.

(12) وسائل الشيعة 18:124، ب 12، ح 47.

(13) جامع احاديث الشيعة، كتاب القرآن: 174.

(14) الكافي 2:599، ب 1، ح2.

(15) الروم : 30 .

(16) الكافي 2:2، ح1.

(17) فرائد الاصول 1: 278.

(18) اقتصادنا: 378.

(19) فقه اهل البيت: 13.

(20) الامام الخميني ريادة الفقه الاسلامي: 50 .

(21) م . ن : 86 .

(22) راجع الحكومة الاسلامية للامام الخميني : 116 .

(23) وسائل الشيعة 18:101، ح 9.

(24) الحركات الاسلامية في القرن الاخير: 180.

(25) فرائد الاصول: 378.

(26) الكافي 1: 59 .

(27) الفوائد الحائرية: 293.

(28) حلقات الاصول، الحلقة الثالثة : 183 .