تطرف، الاسباب و العلاج

فؤاد کاظم المقدادی

نسخه متنی
نمايش فراداده

كلمة التحرير

بقلم رئيس التحريـر

التطرف الاسباب والعلاج

التطرف كما يجري في عالم الفكر يجري أيضاً في الحياة العملية ، وخصوصاً في الواقع السياسي منها ، وفي عالم السياسة هو اصطلاح يحمل في روحه المعنى اللغوي الذي اشتق منه ، وهو ـ أي المعنى اللغوي ـ "من تطرّف : صار طرفاً ، أي جاوز حدّ الاعتدال ، ومنه تطرّف في آرائه فهو متطرف أي جاوز حد الاعتدال فيها"(1) .

ويقال أيضاً : "رجل طِرف ومتطرف ومستطرف ، وهو الذي لا يثبت على أمر ، ورجل طَرِف وامرأة طَرفة إذا كانا لا يثبتان على عهد"(2) ، وهذا يعني أن المتطرّف المتجاوز للحد قد بلغ ـ رأياً أو عملاً ـ أحد الاطراف وهو جانب الافراط ، وبذلك وصل حدّ النهاية واوشك على السقوط والخروج من ذلك الجانب ، فهو غير ثابت ولا مستقر ; إذ كل من يقف على طرف يوشك أن يسقط ; بخلاف الامة الوسط فهي تكون ثابتة ومتوازنة ، تلك هي أمة الاسلام : (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(3) .

ويتساءل الكثير من العاملين في الحياة الثقافية والسياسية عن اسباب حصول ظاهرة التطرف والتطرف المضاد في العمل السياسي والثقافي ، وذلك بالانشداد مرةً إلى أقصى اليمين ، ثم التحول بردِّ فعل معاكس إلى أقصى الشمال مرةً اخرى ، ولا يحصل هذا في الدوائر العامة للعمل الثقافي فحَسب ، بل قد تجده حتى في اطار الدوائر الخاصة لحركة أو جماعة معينة ، مهما كانت صغيرة ومحدودة ، وتتعاظم خطورة هذه الظاهرة في حالتين رئيستين :

الحالة الاولى : عندما يكون المصاب بهذا المرض العضال من المتصدّين الذين تبوّأوا منصباً أو موقعاً مؤثراً في الحياة الثقافية والسياسية للامة ، الامر الذي سيؤدي إلى تحرك الواقع المؤثر فيه باتجاه حركته المتطرفة ، مرةً لهذا الجانب وأخرى للجانب المعاكس ; لتبرز تبعاً لذلك حالات من التصادم والخلاف الحاد ، فتصبح الجماعة الواحدة جماعات ، والوجود الواحد وجودات متعارضة متخالفة .

الحالة الثانية : عندما يكون هذه المرض على شكل حالة اجتماعية نتجت بسبب حدث استثنائي حاد ، كثورة عارمة عصفت بواقع وسلبت وجوده من الحياة الثقافية والسياسية ; لتبدأ حياة وجود جديد لمّا تظهر معالمه الثقافية والسياسية في الواقع بعد ، وهنا تبرز حالات كثيرة من التطرف في التعامل والمواقف على الصعيد العام ، فمرة تظهر على شكل آراء وشعارات حادّة ، أو فهم متطرف لها باتجاه معين ثم لا تلبث بعد فترة أن تتحول إلى اتجاه مضاد ، وهذا قد يحصل أيضاً في الوحدات الحركية التي تتأثر كثيراً بالاحداث الثقافية والسياسية الكبرى لمجتمعاتها ، وغالباً ما تحدث هذه الظاهرة المرضيّة عند فقدان القيادة المبدئية الحكيمة التي تمسك بزمام الامور ، وتسير بالامة باتجاه الرشد والتكامل الحركي في بناء حياتها الثقافية والسياسية الجديدة ، ففرق كبير بين الثورة الاسلامية في ايران ، والثورة في الجزائر ضد الاستكبار الفرنسي ، التي فقدت قيادتها الاسلامية الاولى وتحولت فيما بعد إلى واقع لا اسلامي ، واظهر منها الثورة الفلسطينية ـ قبل ظهور الحركات الاسلامية بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران ، كحركة حماس وامثالها ـ ، تلك الثورة التي بدأت اسلامية ثم تحولت عن اسلاميتها وعاشت فصائلها أنواع التطرف والتطرف المضاد ، عندما تجزأت على اساس ذلك وغابت عنها قيادتها الاسلامية الاولى ، فارتمى جزء منها في أحضان الشرق والاخر في احضان الغرب ; فالثورة الاسلامية في ايران سارت برشد قيادتها الاسلامية الفذّة ، وتكاملت بفضل إمامها الحكيم الخميني الكبير(قدس سره) . وواضح إن هذه الحالة تختلف عن سابقتها بسعة شمولها للواقع الثقافي والسياسي ، وفي بطء ظهور حالات التطرف المضاد فيها .

الاسباب

ولو أمعنا النظر في هذه الظاهرة وبحثنا عن جذورها واسبابها ، فإننا نجدها لا تعدو الاسباب التالية متفرقةً أحياناً ومجتمعةً أحياناً أخرى :

الاول : الجهل ، ولا نقصد به هنا الجهل البسيط فإن أمره هيّن يسير ; إذ يكفي فيه التنبيه على موارد الجهل والتصدّي لبيانها وتعليم الجاهل بها ، وهذا شأن أغلب سواد الامة ومن هو على سبيل النجاة ، وإنما نقصد بالجهل هنا الجهل المركب الذي تصوّر صاحبه أنه يعلم ، وهو يجهل أنه يجهل ، وهذا السبب هو اقوى الاسباب واخطرها ; إذ منه يحصل الانحراف المبدئي ، وفي باحته تحطّ رحال البدع والضلالات ، ومنه تتشكل قوة المعارضة الجاهلية لخط الاسلام الاصيل ، حين تبرز ظواهر التطرف شيئاً فشيئاً ، حتى تسفر عن وجهها الطالح في صور من العداء الذي قد يأخذ صوراً من المواجهة العملية تخرجهم عن اصل الدين ، كما هو شأن كثير من الفرق الاسلامية المنحرفة ، كالخوارج ومن على شاكلتهم .

وفي مرحلتنا المعاصرة نجد أن الجهل هو الذي مكّن الدعوات الاستعمارية بعد الاحتلال العسكري المباشر ، وتقسيم بلاد المسلمين بين دول الاستكبار ، من تغذية حالة التطرف السلبية تجاه بعض مظاهر الدين في الامة ، كالحجاب مثلاً ، وأن يزرع الوجودات الثقافية والسياسية التي تتطرف نحو العرقية والقومية ، مقوّماً انتماءها الديني على اساسها ، فأصبحت الامة الاسلامية قوميات متطرفة ، منها للعروبة واخرى للفارسية وثالثة للتركية وهكذا .

وحتى بعد قيام الثورة الاسلامية في ايران ، وبروز ظاهرة الصحوة الاسلامية بين المسلمين ، نجد أن البعض من الفئات والخطوط السياسية الاسلامية كابرت واتخذت موقفاً سلبياً من الثورة الاسلامية ، وذلك لان اجواء التطرف القائم على الجهل المركب جعلها في شباك المخططات الاستكبارية بشكل مباشر أو غير مباشر ، راكبة مركب العداء السافر والمبطن من خلال ذلك . وصدق أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عندما قال : "... فمن جهل شيئاً عاداه ، فأنزل اللّه (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه) "(4) .

الثاني : الشبهات والرواسب الفكرية المنحرفة ، وهذا السبب وإن كان يلتقي بسابقه من حيث أنه نوع من انواع الجهل المركب ، ولكن صورته تختلف من جهة أن لتاريخ هذا الشخص المتطرف أو الجماعة المتطرفة مضامين وركائز فكرية أثرت على مسار تفكير كل منهما ، وشابته بشوائب خلقت له سلوكاً ومنهجاً متطرفاً بالنسبة إلى منهج الاسلام المستقيم والتفكير السليم .

(1) غافر : 83 .

والتاريخ بكافة فتراته الغابرة والقريبة يحكي لنا صوراً كثيرةً عن هذه الحالة ، فغني عن التعريف الرواسب الجاهلية التي ضلّت عالقة في اعماق الكثيرين ممن أعلن اسلامه ، سواء كان قبل فتح مكة أو بعدها ، والتي برزت آثارها شيئاً فشيئاً منذ حياة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى المرحلة التي اعقبت وفاته ، والتي تجسدت فيما بعد بشكل واضح وجلي في جاهلية وانحراف دولة بني أمية ومن لحقها من دول البدع والضلال ، وفي تاريخنا القريب شيء كثير من ذلك تجده في واقع الامة والعديد من رجالاتها ، ولعل أبرز تلك الرواسب هي رواسب العصبيّة الاقليمية والعرقية التي زرعها وغذّاها الاستكبار خلال عشرات السنين من احتلاله للبلاد الاسلامية ، تلك الرواسب التي وقفت عقبة كؤوداً دون تفاعل الامة وذوبانها الفعلي في الاسلام ، وهكذا بالنسبة لسائر موروثات الفترة الاستكبارية التي حجبت النور والصحوة عن الامة طيلة سنين مضت ، تركت آثارها على طريقة تفكيرها ، وخصوصاً على طبقاتها المثقفة ، التي أُسرت بالمنهج الغربي على كافة الاصعدة ، حتى إنهم راحوا يقيسون مدى نجاح مجتمعهم الاسلامي على ضوء ما يحاكيه من صور التقدم المدني والتقنين الاجتماعي والثقافي والسياسي للغرب ، واكتفوا من اسلامهم باسمه ومن قرآنهم برسمه ، وقد اشار القرآن إلى ذلك بقوله عزّ من قائل : (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل)(5) ، كما وصف حالهم قائلاً : (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزئون)(6) .

ومثال على ذلك من تاريخنا المعاصر ما اعلنه الكثير من العلماء في العراق ، وخصوصاً في النجف الاشرف في الفترة ما بعد اعلان ما سميت في حينه بالحكومة الوطنية ـ أي حكومة الانتداب الانجليزي ـ عن تعهدهم بعدم التدخل في الشؤون السياسية للبلاد ، ولعل الهدف الرئيسي من ذلك كان لاجل حماية الجامعة العلمية الاسلامية في النجف الاشرف وكربلاء ، لئلا يُمعَن في تصفية وجودها ، وهي الحصن العلمي الحصين للاسلام والمسلمين ، خصوصاً بعد الموقف الثوري من دخول الانجليز العراق عام 1917 م ، واعلان الثورة في عام 1920 م من قبل علماء الاسلام في النجف الاشرف وكربلاء . هذا التعهد أوحى بموقف سلبي من التدخل في الشؤون السياسية ، وأنها ليست من الدين الاسلامي ، الامر الذي خلق حالة متطرفة تجاه أي تحرك سياسي اسلامي ظهر فيما بعد ، وقد عاشت المرجعية الاسلامية الرشيدة وحركتها المجاهدة ، خصوصاً عند بروز المفكر العملاق آية اللّه العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) ، حالة من العداء والتشويه من قبل المتطرفين ضد العمل السياسي ، ولعبت الرواسب والشبهات الفكرية لتلك الفترة دورها في الموقف العدائي من السيد الصدر ، ومقاومة دوره الرسالي في التوعية السياسية للامة ، ووضعها في موقعها الاسلامي المطلوب ضمن عملية الصراع بين الاسلام والكفر .

الثالث : التعصب العاطفي ، ونقصد به عدم قبول الحق عند ظهور الدليل والبرهان ، بسبب ميل إلى جانب أو تعاطف مع جهة ، ولهذا تشير الاية الكريمة : (وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون)(7) ، وقوله عزّ من قائل : (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)(8) .

ولعل هذا الداء من أكبر الادواء واكثرها شيوعاً بين العاملين ، وهو يشكل نقطة ضعف اساسية على صعيد الفرد والجماعة ، ومنها تنشأ ظواهر المحورية على مستوى الجماعات ، وظواهر الذاتية الانانية على مستوى الافراد .

وقد لا يقف حد التعصب هذا عند حدود الموقف السلبي من قبول الحق ، وإنما قد يتخذ صوراً من الفعل الايجابي ، كالتخطيط لتكريس حالة ذاتية أو محورية قائمة على اساس التعصب العاطفي ، وتتجسد الخطورة لا بالتجسيد الظاهري لهذه الحالة فقط ، وإنما تكمن أيضاً ، وبصورة خفية ، في زوايا الممارسات والمواقف ، ومقدمات الاعمال ، والاعداد في ما وراء الستار . إن مثل هذا التعصب المخطط هو الذي يصادر جهود المجاهدين ، وثمرات العاملين الرساليين ، ويهدد مصير حركتهم بالاُفول والانحراف عن سبيل اللّه المستقيم . وتاريخنا الاسلامي مملوء بمصاديق تحكي هذه الانتكاسات ، سواء في حياة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أو ما بعد وفاته ، بل طيلة حياة الائمة(عليهم السلام) إلى يومنا هذا ، فكثير من العقبات التي ظهرت في طريق الثورة الاسلامية المعاصرة ، وخصوصاً في ايران الاسلامية ، كان بفعل العناصر التي تتحرك على اساس التعصب المحوري والذاتية الانانية ، وكثيراً ما انبرى امام الامة الخميني الكبير(قدس سره) ، ومن بعده ربيبه آية اللّه العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله) ، بحكمتهما ونفاذ بصيرتهما ليُشخّصا مواطن هذا المرض الخبيث ، ويعرضا لاسبابه ، والموقف المناسب منه ، معبرين في ذلك عن حقيقة قول الامام علي(عليه السلام) : "غير منتفع بالحكمة عقل مغلول بالغضب والشهوة"(9) .

الرابع : ضعف التجربة والتخلف الحركي ، فقد يتصور البعض أن الاحاطة النظرية بالعلوم والمعارف كافية في تأهيل المرء لخوض معترك العمل الثقافي والسياسي ، والانطلاق في حركته نحو هدفه الكبير ، متغافلين عن أن الجزء الاساسي الاخر لنضج القدرة العلمية والكفاءة الحركية للعاملين السياسيين ، هو رسوخ وتكامل التجربة من خلال تدرج طبيعي في سلّم العمل والحركة الثقافية والسياسية الهادفة ، لذا قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) : "رأي الرجل على قدر تجربته"(10) ، وقال أيضاً : "العقل غريزة يزيد بالعلم والتجارب"(11) ، وهذا لا يعني أن يؤخذ الزمن مجرداً عن مستوى التجربة وسعتها ، بل إن الزمن بما هو ظرف يستوعب في أجزائه تلك التجارب المتواصلة والمتراكمة والمتكاملة ، "فالايام تفيد التجارب"(12) كما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) ، ويقول أيضاً : "لولا التجارب عميت المذاهب ، وفي التجارب علم مستأنف"(13) .

ومن موارد ضعف التجربة وضآلتها هو الانغلاق على الذات والاستغناء بتجاربها عن تجارب الاخرين ، في حين أن نظرية تراكم التجارب وتكاملها تقوم على اساس اكتساب تجارب الاخرين ، واضافتها إلى التجارب الذاتية ، والاستفادة منها ، وإثراء الحركة الهادفة بها ، ففيما اوصى به أمير المؤمنين(عليه السلام) ابنه الحسن(عليه السلام) : "ولتستقبل بجدّ رأيك من الامر ما قد كفاك اهل التجارب بُغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة"(14) . وضعف التجربة هذا سيفرز بطبيعته تخلفاً حركياً لا لدى الافراد العاملين بما هم افراد وحسب ، بل إن ذلك سيلازم العمل الحركي ككل ، فتراه يسير وراء الاحداث وكأنه ليس في خضمّها ، وتراه يتأخر عن مسيرة الامة وكأنه ليس منها ، وبمرور الزمن لن تجد رجاله إلاّ ركاماً من المتقاعدين والمتقاعسين ، ليس لهم إلاّ أن يجلسوا على قارعة المسيرة يلسعون العاملين الدائبين في جهادهم بالسنتهم الحداد ، ويخرمون الهمم بتثبيطها وتوهينها ، فيحق فيهم قول صادق اهل البيت(عليهم السلام) : "لا يطمعنّ ... القليل التجربة المحجب برأيه في رئاسته"(15) .

الخامس : ضعف التقوى وغلبة الهوى ، فالمعروف أن هناك عاملان اساسيان شهيران يحقّقان الاستقامة في المسيرة في دائرة الفرد وفي دائرة الجماعة وهما العلم والعدالة ، وقد أشرنا في سياق ذكر اسباب التطرف إلى عامل الجهل بما يؤشر إلى ضرورة العدالة في التخلص من حالات التطرف والشذوذ ، فقد أكد علماء الاخلاق أن التوازن والحكمة والعلم تفتقر في حصولها وفي ثباتها ورسوخها إلى مدى نقاء النفس وطهارتها بالورع والتقوى عن كل ما يخالف احكام اللّه ، وما يخرق نظام الاسلام المقدس ، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله عزّ من قائل : (واتقوا اللّه ويعلمكم اللّه واللّه بكل شيء عليم)(16) ، وقوله : (ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة)(17) ، فقدّم التقوى والتزكية على العلم والتعليم ، وفي قوله التالي أيضاً دلالةً على المراد : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به)(18) . أما كيف يكون من نتائج ضعف التقوى وغلبة الهوى ظهور حالات التطرف ، فهذا ما تكفينا الاشارة فيه إلى بعض تلك الحالات ، فمنها حالة النفاق في حمل الشعارات ، والمزايدة من خلالها ، والغلو في تحميلها مفاهيم وتفسيرات تبعدها عن روحها الحقيقية وحدودها الواقعية ، مما يحصر الواقع في زاوية هذه التحميلات الضيقة ، لتكون وسيلة للسبق الثقافي والسياسي والامتياز الشكلي على اخوة الدين والمصير ، ثم لا تلبث في ظرف معاكس أن تنقلب الاية ، وبتطرف يصبح ما كان تهمة وشيناً امتيازاً وزيناً ، وما كان ضرورةً ووعياً انحرافاً وتخلفاً ، فلو كانت التقوى في البين ، والخلق الاسلامي ضابطاً حقيقياً للعمل الثقافي والسياسي ، لما لاح كل ذلك في افق العاملين ، ولوجدت العقل إماماً يُحتكم إليه ، "ومن لم يُهذّب نفسه لم ينتفع بالعقل"(19) .

وحالات اخرى لا نستطيع في هذه الكلمة المقتضبة التفصيل فيها ، ولكننا نشير إليها على سبيل التذكرة ، كالدعوة إلى العناوين الثانوية بتطرف ينسي صاحبه عنوان دعوته الاول ، وهو اللّه وسبيله الوحيد الاسلام العظيم ، حتى تجده في نهاية المطاف قد استغرق في عالم الدعوة إلى الذات الفردية أو الفئوية من حيث يشعر أو لا يشعر ، عندها يكون مصداقاً لقول امير المؤمنين علي(عليه السلام) : "... الهوى شريك العمى "(20) ، فيصاب بهوى الذات ، وتعمى بصيرته عن هدفه الاساسي وهو اللّه والاسلام ، ومنها أيضاً غلبة الجانب الذاتي في العمل الثقافي والسياسي على الجانب الموضوعي ، فهو لا يرى مصلحةً للعمل إلاّ من خلال نظرته الذاتية للواقع ، وأفقه الخاص في العمل ، ولا مصلحة عليا فوق كل ذلك ، ولا وجود للاخرين إلى جنبه من اخوة الدين والطريق يشاطرونه الهم والاجتهاد في تحقيق الاهداف العليا لمسيرة العاملين كل العاملين ، بحيث تجدهم يُنكرون ذواتهم في سبيل المصلحة العليا والهدف الكبير ، فيجعلونها في خدمتها ومن اجلها ، وليس العكس ، وهو أن تتكبّر نفسه ، وتتعاظم ذاته ، فيصبح كالذين حكت عنهم الاية الكريمة : (إن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلاّ كِبر ماهم ببالغيه فاستعذ باللّه إنه هو السميع البصير)(21) .

العلاج

بقي الحديث فيما يحدّ هذا التطرف ويعالج امره . قد يقول قائل إن الجواب واضح من خلال ما تمّ عرضه من اسباب حصوله وعوامل سريانه ، لكننا نقول إن الوقاية منه شيء ـ وذلك بالاقلاع عن مقدماته واسبابه ـ وعلاجه شيء آخر ، وفي الجواب على ذلك نميز بين أمرين :

الاول : الجواب على ماهو العلاج ؟ ، والثاني الجواب على ما الذي يحدُّ سريانه؟

وهذان الامران يترتب احدهما على الاخر ، فلو لم ينفع العلاج لاصل الداء ، وجب الحدّ من السريان ، مَثَله بالضبط كمثل المصاب بالتعفن في عضو من أعضائِهِ الحسّاسة ، فإن لم ينفع معها العلاج المبرئ من الداء ، وجب ايقاف سريان العفونة ببتر الجزء المتعفّن حفاظاً على باقي أجزاء الجسم واعضائه ، وهكذا ما نحن فيه ; فعلاج التطرف يكمن في إرشاد العناصر المصابة به إلى خطر ما هم فيه ، وإلى ضرورة اخضاع العقل والنفس إلى عملية تطهير وخلق جديد ، وإلى مراجعة نقدية شاملة لكل المواقف والتصرفات ، في ظرف مناخ يضفي على عملية التطهير والخلق هذه جواً من الفعل والانفعال والشد والتحريك باتجاه التوازن والحكمة في الفكر والعمل . ومما نقل عن الامام علي(عليه السلام) في هذا المجال قوله : "ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ; فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أو مشورةً بعدل"(22) ، على أن يتم ذلك في اجواء اجتماعية تعكس واقع هذا السلوك التغييري نحو الحق والعدل ، وتحكيه صورة حيّة ناصعةً ، وهذا المعنى نلمسه في ارشادات الامام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم قائلاً له: "... يا هشام ، مجالسة اهل الدين شرف الدنيا والاخرة ، ومشاورة العاقل الناصح يُمنٌ وبركة ورشد وتوفيق من اللّه ، فإذا أشار عليك العاقل فإيّاك والخلاف ; فإن في ذلك العطب"(23) .

ويجب أن يكون علاجنا هذا كعلاج الطبيب للمريض مليئاً بالعطف ، صبوراً على ما يصدر منه ، حسناً كان أو قبيحاً ، ولا يكلّ من المضي بالعلاج حتى مراحله النهائية ، وفي قول الامام علي(عليه السلام) إشارة إلى ذلك : "المسلم مرآة أخيه ، فإذا رأيتم من أخيكم هفوة فلا تكونوا عليه إلباً ، وكونوا له كنفسه ، وأرشدوه ، وأوضحوا ، وترفقوا به"(24) ، حتى إذا رأينا أن الداء بلغ مداه وعوامل العلاج قد استنفدت اغراضها ، ولا ثمرة محسوسة منه ، فهنا لا مناص من حماية الجماعة والامة من خطر هذا المنحرف وتخريبه ، وذلك بالحجر عليه وقطع كل سبيل له على الامة ، ومقاطعته حتى يعود إلى رشده أو يكون عبرةً لمن اعتبر ، ليمتاز الخبيث من الطيب والمصلح عن المفسد ، وصدق رسول اللّه ومرشد الانسانية النبي محمد(صلى الله عليه وآله) فيما قال : "لا تجلسوا عند كلِّ داع مُدّع يدعوكم من اليقين إلى الشك ، ومن الاخلاص إلى الرياء ، ومن التواضع إلى الكبر ، ومن النصيحة إلى العداوة ، ومن الزهد إلى الرغبة ، وتقربوا إلى عالم يدعوكم من الكبر إلى التواضع ، ومن الرياء إلى الاخلاص ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الرغبة إلى الزهد ، ومن العداوة إلى النصيحة ، ولا يصلح لموعظة الخالق إلاّ من خاف هذه الافات بصدقه ، واشرف على عيوب الكلام ، عرف الصحيح من السقيم ، وعِلل الخواطر ، وفِتن النفس والهوى"(25) .

أما حالات التطرف العامة التي تظهر على الامة أو بعض فئاتها وفصائلها ، فلا يختلف علاجها في الجوهر عن علاج الحالات الفردية ، من ضرورة الترشيد الاجتماعي إلى المدى الذي لابد فيه من الحجر وقطع دابر الجزء الفاسد منه ، ويبرز هنا بشكل اساسي دور القيادة الرشيدة في العلاج وحسم الموقف ، وادارة دفة الواقع باتجاه التكامل على صعيدي الوعي والرشد التطبيقي للرسالة . وتبقى الحقيقة القرآنية الخالدة درساً وضابطاً لعملية الهدم والبناء في منهج التغيير للامة : (واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب)(26) .

ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم والحمد للّه رب العالمين

* * *

(1) المنجد، حرف الطاء، كلمة طرف .

(2) لسان العرب، حرف الفاء كلمة طرف .

(3) البقرة : 143 .

(4) البحار 104 : 370 .

(5) المائده : 77 .

(6) غافر : 83 .

(7) فصلت : 5 .

(8) الاعراف : 198 .

(9) غرر الحكم : 223 .

(10) م . ن .

(11) م . ن .

(12) م . ن .

(13) البحار 71 : 342 .

(14) البحار 77 : 201 ـ 221 .

(15) البحار 78 : 195 .

(16) البقرة : 282 .

(17) الجمعة : 2 .

(18) الحديد : 28 .

(19) غرر الحكم : 293 .

(20) نهج البلاغة، كتاب 31 .

(21) غافر : 56 .

(22) نهج البلاغه ، خ 216 .

(23) تحف العقول : 293.

(24) البحار 10 : 97.

(25) البحار 2 : 52 .

(26) الانفال : 25 .