* الشيخ محمد علي التسخيري
قال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(1).
إذا كان لنا أن نعرّف التنمية الاجتماعية بتعريف عام، امكننا القول: إنّ المراد منها هو (التحرك الاجتماعي الواعي المنظم، والمنسق على مختلف الاصعدة المادية، والمعنوية نحو الافضل انسانياً).
وهذا التعريف يستبطن عناصر من قبيل:
1 ـ الهدف الانساني المتميز عن الاهداف الحيوانية الغريزية العمياء، وإنما تكتسب الحركة هذه الهدفية إذا كانت منسجمة مع تطلعات الفطرة الانسانية ومؤشراتها.
2 ـ الحركية الارادية نحو هذا الهدف الانساني، وهي متميزة أيضاً عن الحركية الحيوانية، لانها حركة وعي وارادة وتعقل.
3 ـ التناسق، والتنظيم، والتناسب بين كل الجوانب المادية، والمعنوية من خلال هذه الحركة، وهذا شرط اساسي، فالتنمية التي تهمل عنصر التناسب تصاب بتورم ونمو غير طبيعي في جانب أو جوانب، مع خمول الجوانب الاخرى الامر الذي يعرض المسيرة الاجتماعية لاختلال التوازن ومن بعد التمزق أو التطرف.
4 ـ الاجتماعية في التحرك، بمعنى أن كل جزء من الاجزاء المكوّنة للمجتمع يجب أن يساهم في هذا التحرك وينمو من خلاله، وبمعنى أن الاثار التي سيتركها هذا التحرك يجب أن تنعكس على مختلف العناصر والمكوّنات الاجتماعية.
بعد هذه المقدمة احاول أن يكون حديثي في موضوعين:
الاول: الاشارة إلى دور المرأة في عملية التنمية الاجتماعية.
الثاني: الاشارة أيضاً إلى لقاءات ومؤتمرات الامم المتحدة في هذا الصدد.
والمرأة تارة ننظر اليها بوصفها إنساناً فعالاً في عملية التنمية، واخرى نركز عليها بما لها من خصائص تنفرد بها باعتبارها الام والبنت والاخت والزوجة، وهي بهذا الاعتبار تمتاز على الرجل بما تحمله من طاقات عاطفية متميزة، وقدرات تكوينية مؤثرة، ومن ثم ما تحمله من وظائف اجتماعية فريدة.
فإذا نظرنا اليها بوصفها إنساناً نشطاً في عملية التنمية، واخذنا بعين الاعتبار حقيقة (أن الانسان هو محور التنمية)، ومقولة أن (التنمية المستدامة هي تلك التي تحقق انسجاماً متوازناً بين مجموع عناصر التنمية، والاسس التحتية للثقافة المعنوية التي تعمل في مجال اسقاطاتها)، وادركنا بعد أن مكونات الفطرة الانسانية هي أهم هذه الاسس واعمقها في وجود الانسان، بل بدونها يفقد الانسان هويته ويتحول إلى (شيء) لا نستطيع أن نتحدث عن (حقوقه) أو (نموه الاجتماعي)، أو (حركته العادلة)، أو (أخلاقيته)، أو حتى (بقائه الحضاري)، وأضفنا إلى كل هذا حقيقة اخرى هي أن الدين (الذي يستمد اصوله من منابع فطرية)، هو الصيغة الاكمل التي وضعها خالق الانسان ليحقق من خلالها تكامله المادي والمعنوي المنسجم، وأن الدين وحده هو الذي يستطيع أن يمنح هذه المسيرة ثباتاً في الهوية والشخصية، واطمئناناً في القلب، واملاً دفاقاً بالمستقبل، كما يستطيع أن يحل الاشكاليات الاجتماعية الكبرى من قبيل حل التضاد الدائم بين حب الذات والانانية، والعمل لصالح المجتمع ونسيان الذات في سبيله، وحل التناقض بين اتجاهات (الالحاد) واتجاهات (الايمان المفرط بالامور النسبية أو ما يسمى بالشرك)، إذا اخذنا بعين الاعتبار كل هذه الحقائق الكبرى ادركنا أن المرأة الانسان هي محور التنمية وركنها الركين، ولن تستطيع أية عملية تنموية أن تحقق صدقاً مع ذاتها ومدعياتها، إلاّ إذا طورت الحس الانساني والفطري في وجود المرأة، واعطتها مكانتها الانسانية الطبيعية، ورفعت من البين كل عناصر التفريق ـ من الجانب الانساني ـ بين الرجل والمرأة، ومنحتها الدور الانساني المتساوي في هذا المضمار، ثم عادت لتستفيد من هذه الطاقة الانسانية الخيرة لصالح المجموع الاجتماعي بأفضل اسلوب.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ المرأة إن تأصل الثبات في شخصيتها، والاطمئنان في قلبها، والامل بالمستقبل في وجودها منحت كل المسيرة الاجتماعية طاقة كبرى، وهيأت لها كل مقومات المسيرة الصالحة.
وإذا عدنا وركزنا على خصائص المرأة التي تميزها عن الرجل، فسنجد أن خصائصها لا تغير مطلقاً من قيمتها الانسانية بل تزيد عليها، وإنما تترك أثرها الوظيفي في البين، بمعنى أن هناك تقسيماً طبيعياً قدّرته الرحمة الالهية بين وظيفة الرجل ووظيفة المرأة، في عملية التنمية الاجتماعية بل الفردية أيضاً.
فالمرأة الزوجة والمرأة الام لهما دوران متمايزان عن دور الرجل الزوج، والرجل الاب بلا ريب، إلاّ أن هذين الدورين متكاملان تماماً بحيث لا يمكن أن تستغني الحياة عن هذين الدورين، بمقدار عدم امكان استبدال احدهما بالاخر تماماً.
بعد هذا نقول: إن للمرأة أثرها الكبير ـ بهذا الاعتبار ـ على عملية التنمية أيضاً، ومهما تعددت علل التنمية فشملت (العلل الفاعلية، والعلل الغائية، والعلل الصورية بالاضافة للعلل المادية)، فإن اسقاطات دور المرأة يبقى لها أكبر الاثر في هذا المجال.
ذلك أن المرأة تستطيع أن تترك آثاراً كبرى، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1 ـ اعداد وتهيئة وتوفير البيئة العائلية السليمة، وهي بهذا ـ لو وفقت فيه ـ تستطيع أن تضع الحجر الاساسي لمجتمع إنساني سليم ثابت الجأش قوي القلب، منشدّ للمستقبل.
وبدون هذا سيبقى المجتمع ممزقاً عاطفياً، ومهلهلاً معنوياً تتفشى فيه الجريمة، ويعيث فيه الكسل، ويفقد صفته الخلاقة شيئاً فشيئاً.
فالزوجة الصالحة والام الصالحة هما قوام الحياة العائلية الصالحة، وهذه بدورها هي قوام المجتمع الصالح (كما تؤكد ذلك النصوص الاسلامية).
2 ـ توفير الجو المناسب لتربية الجيل القوي الفاعل.
وقد قلنا: إن الانسان الصالح هو محور التوسعة، وهو يحتاج إلى عملية تربوية مستمرة تفجر فيه طاقاته، وتبرز فيه مكنوناته الذاتية، وهي لا تتفجر ولا تبرز عشوائياً أو تلقائياً، وإنما تحتاج إلى عملية تربوية وجو تربوي مناسب.
ولا ريب أن للمرأة اعظم الاثر في تربية العناصر الانسانية، ووراء كل عظيم امرأة ـ كما يقولون ـ بل ما اكثر العظماء النساء في تاريخنا الطويل، فآسية بنت مزاحم، ومريم ابنة عمران، وفاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) تركن من الاثر التاريخي ما لا يمكن أن يوصف.
3 ـ الاعداد لجو وبيئة حماسيين عاطفيين من خلال الاستعداد الطبيعي للمرأة، لتسد به هذه الحاجة الضرورية للانسان من جهة، وتوفر له الحالة الحماسية الضرورية لتخطي العقبات وصنع تنمية اجتماعية مستديمة.
أما المجتمع الذي يخلو من هذه الحالة العاطفية والحماسية فهو مجتمع خامد، وبيئة جامدة ربما تتقدم في بعض المجالات المادية إلاّ أنها تفقد الصفاء الانساني المطلوب، ومن بعد تفقد القدرة على ايجاد التنمية المتوازنة.
ومن هنا يظهر جلياً أن المرأة لها دورٌ كبيرٌ في توفير الجو العائلي النظيف، وأن العائلة وتشكيلاتها بما لها من مفهوم كلاسيكي معروف لدى المجتمعات والاديان كلها، هي حجر الزاوية في عملية التنمية.
كما يظهر أيضاً أن أية ضربة توجه لدور المرأة في البناء العائلي المشار اليه، وأي تقليل من اهمية الرباط العائلي المقدس، أو محاولة لطرح مفاهيم جديدة، وادعاء مصاديق عصرية له، أو إضعاف روابطه، أو ايجاد بديل مزعوم له. كل هذه المحاولات تترك اعظم الاثار السلبية على مستقبل الانسانية جمعاء، وتفقده الحركية التنموية المطلوبة، بل هي تآمر واضح على كل الوجود الانساني حتى ولو جاء هذا التآمر تحت غطاء الخدمة الدولية لعملية التنمية.
لا ريب في أن عملية التنمية استأثرت من أنشطة الامم المتحدة بالحظ الوفير، وخصوصاً في السنوات الاخيرة، وعقدت لها مؤتمرات دولية على مختلف المستويات، كمؤتمر بخارست 1974، ومؤتمر مكسيكو سيتي 1984 ومؤتمر القاهرة 1994 ومؤتمر كوبنهاكن عام 1995، وغيرها من الاجتماعات الدولية. وكان التركيز على دور العائلة في عملية التنمية ملحوظاً تماماً في كل الاجتماعات الدولية.
إلاّ أن الملاحظ في مختلف الوثائق المقترحة أنها نُظّمت تنظيماً يبعدها عن المسيرة المتوازنة، وينسيها دور الدين في الحياة، ويتغافل أثر العناصر المعنوية في هذا الصدد.
وكانت وثيقة القاهرة المقترحة على مؤتمر السكان والتنمية القنبلة الضخمة التي فجرت الوضع، ورأى المخلصون التآمر الاستعماري الواضح على كل القيم والمقدسات الانسانية، لانها سعت إلى تفكيك الروابط العائلية، وطرح مفاهيم متنوعة للعائلة، وفسح المجال لعلاقات وروابط خارج الاطار العائلي (اطار الزواج المشروع)، وذلك بحجج الدفاع عن كيان المرأة، ورفع التفرقة العنصرية، وانصافها والدفاع عن توعيتها، وعن دورها الاجتماعي الاصيل.
ومن هنا كان الرد الديني على هذه المحاولة التحللية قوياً وواسعاً، حتى إن المناقشات ركزت على هذا الجانب وكادت أن تنسى، أو نسيت بالفعل كل عناصر التنمية السكانية الاخرى.
وإذا كان الرد الديني قد نجح إلى حد كبير في ايقاف المدّ التآمري
المنحرف، وحماية الانسانية من آثاره السيئة المعادية حتى لعملية التنمية الصحيحة، فإنه ما زال الطريق طويلاً.
والذي أتصوره أن ما حدث في القاهرة قد ترك آثاراً ايجابية على مؤتمر كوبنهاكن للقمة، حيث جاء السند المقترح على المؤتمر المذكور اكثر ايجابية، وأكثر اعترافاً بدور القيم الثقافية في عملية التنمية الاجتماعية، وقد أكد على عناصر كثيرة منها:
1 ـ ضرورة ملء الفراغ الاخلاقي بالتعليمات الاخلاقية، لا من خلال المنافع الفردية الضيقة.
2 ـ لزوم نفي أي تفرقة بين الرجل والمرأة في المجالات المختلفة.
3 ـ ضرورة الترشيد الثقافي المعنوي لدى الانسان.
4 ـ ضرورة نفي أي تفرقة عنصرية.
5 ـ ضرورة التأكيد على رعاية حقوق الانسان.
6 ـ التأكيد على أن الفقر ليس قدراً مفروضاً على الانسان.
7 ـ التأكيد على اهمية التربية والتعليم.
8 ـ لزوم منع الاستغلال للاخرين.
9 ـ التأكيد على المبادئ الانسانية، كالمسؤولية والحرية والعدالة والكرامة.
10 ـ التأكيد على أهمية التشكيل العائلي.
هذا، وعلى رغم المواقف المتصلبة للدول القوية في المؤتمر فإنه قد حقق بعض المكاسب.
وأمامنا مؤتمرات وملتقيات دولية. حول المرأة تعقد بين حين وآخر، ومن الطبيعي أنه سيحاول اعداء الخلق الانساني استغلال مثل هذه الفرص، لتأكيد قيم التحلل أو لمهاجمة الاسلام، وهو الدين الذي اكرم المرأة وحفظ لها حقوقها الطبيعية، في حين أنهم يسعون إلى نشر الفهم الغربي لحقوق المراة، على رغم ما فيها من تضييع فاضح لهذه الحقوق، وفسح مريب للعلاقات المتحللة، ومن ثم طمس كل معالم كرامة المرأة الانسانية.
وربما جرت محاولات كتلك التي جرت في كوبنهاكن لطرح وجوه مرفوضة اسلامياً، من قبيل المرأة المنحرفة (تسليمه نسرين)، و(سلمان رشدي) وأمثالهما من اعداء المقدسات الاسلامية، وعليه فينبغي الحذر الشديد من مثل هذه الاساليب الملتوية.
وإنني بهذه المناسبة اقترح ما يلي:
1 ـ لزوم توحيد الموقف الاسلامي من كل ما يحدث في المؤتمرات والملتقيات الدولية، سواء وثائقها المقترحة أو الانشطة الاخرى، وذلك بإشراف لجنة تنسيقية تحت اشراف منظمة المؤتمر الاسلامي، تسعى بنشاط لتوعية الوفود الاسلامية بالحوادث الجارية وتنسيق مواقفها وارتباطاتها.
2 ـ لزوم الحضور الاسلامي الفاعل في التشكيلات واللجان والاجهزة الرأسية والقانونية، وعدم فسح المجال للمنظمات المعادية لتملا الموقف بأباطيلها ولا يتم هذا إلاّ إذا قامت كل دولة بارسال العناصر النسوية الخيرة فيها، مع منحها قدرة على التأثير المطلوب.
3 ـ ضرورة الاتصال المستمر مع الامم المتحدة والدولة المضيفة، ودعم التوجهات الايجابية والوقوف بوجه التوجهات السلبية من خلال معونتهما ونفوذهما هناك.
4 ـ لزوم توعية الجميع بالتوجهات الاسلامية السلبية في مجال حماية المرأة وحقوقها، بنشرات ذات محتوىً مدروس تحت اشراف مجموعة من الاساتذة والمفكرين .