الشيخ * عبدالمجيد فرج الله ( العراق )
قد يرسم التعـجب عـلامة كبيرة على
وجـوه عـدد من قراء هذا العنوان، ونخـصّ منهم
اولئك الـذين سمعـوا وقرأوا شعر الشاعر
الكبير صفي الدين الحلي، المبثوت في كتب
الفكاهة والمجون والهجاء، لانهم عرفوه من
خلالِ ابيات مثل هذه:
ولولا «سلي الرماحَ العوالي عن
معالينا» لما عُرِفَ عن هذا الشاعر غير ذلك،
ولنُسيت قصائد ومقطوعات جميلة تقطر بالولاء
والاستغفار من قبيل:([1])
بل لفاتَتْنا أبيات تُنبئُ عن ايمان
راسخ، وشعور عميق بالاطمئنان والخلود إلى
الرحمة الالهية، وهي تحثُّ بذكاء أدبي على
سلوك طريق الرجاء والنور، ضمن تضمين رائع
للايات الشريفة. مثال ذلك:
ولا عجب إذا عرفنا ان هذا الشاعر متمسك
بالولاء الصادق لرسول الله(صلى الله عليه
وآله)وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وهذا
هو محور بحثنا الاصلي في شعر «عبد العزيز بن
سرايا» ـ الاسم الحقيقي للشاعر ـ وقد يظن احد
اننا بقولنا هذا ندافع عن الرجل، ونبرّئ
ساحته بدوافع عاطفية. كلا، ولكننا لا نريد ان
نظلم احداً، فقد يكون مقترفاً اخطاءً وذنوباً
في فترة من فترات حياته ثم تاب كما تصرح بذلك
ابياته([2]).
لكن الثابت هو الولاء الصادق الذي كان يعمر قلبه فيُغدق عليه الامن والاطمئنان، وهو حين ينساب من قريحته فإنه يتدفق بهدوء ناعم ترى فيه الرقة والبساطة والبعد عن التكلّف والتزويق اللفظي والبديعي، وتعرف أنه شاعر يمتلك ثقافة عقيدية وتاريخية كبيرة، وقد أبدع في إدخال الجدل العقيدي إلى أشعاره دون أن يحس المتلقي بنفرة من هذا الجدل الهادئ، الذي يأتي من باب خلفي مقتحماً بوداعة هادئة القلب والعقل معاً، ليرسّخ أخيراً فكرة الشاعر في الذهن والروح بخفة وذكاء، بالاضافة الى لوحاته الجميلة جداً، ولفتاته الابداعية المحببة، فإن جوانبَ بلاغيةً شفافة تُريكَ مقدرة الشاعر وخفّةَ ريشته وهو يوشّي خطوطه الاسرة بلمساته البديعية الاخيرة، تلك التي اشتهر بها شعر هذا الرجل، وهي جذابة ـ بشرط البعد عن الاغراق والتكلّف ـ لكن لا مجال للحديث عنها في هذا البحث.
ودعنا نلتقط الابيات التي ضمت بعضاً
مما قلناه في قصيدته التي يمدح بها الرسول(صلى
الله عليه وآله):
فضائلُ رامتها الرؤوسُ فقصّرتْ المْ تَرَ للتقصير جُزّتْ شعورُها([3])
فالشفاه والعيون في مناظرة افتخار، فالعيون ترى مرقدَ الرسول، ومسجدَ الرسول، والاشياءَ المقدسةَ التي شمّتْ رائحةَ الرسول، ولامست بشرتَهُ الشريفة وملابسَه الطاهرة. والشفاهُ تفتخر بهذه القبل التي تطبعها على ارض المرقد المطهّر، المُوصِلِ بين حرقتها وبينَ حرارةِ جسده الموارى على مقربة من هذه اللهفة العارمة المستعرة مع الزفرات.
وتأمّلْ هذه الصورة، حيث يرسل الشاعر أمانيه الجميلة مادّةً رقابها الصافية كأنها تشكو فقدانَ شيء، فإذا بها تعود بعدما يوشّحُها الرسول الكريم بالورد والحلي والجمال:
بعثتُ الاماني عاطلات لتبتغي نداك فجاءت حاليات نحورُها
ولا ينسى الشاعر أبداً ان يذكر صنو
رسول الله(صلى الله عليه وآله) والمفضّلَ
عنده، وهو ابن عمه الامام علي(عليه السلام)،
فيوجّه نحوهما معاً مشاعره الصادقة، مارّاً
على مناقبهم. فهذا رسول الله ينشق له القمر
نصفين، ثم يلتئم مرة اخرى ليعود من جديد إلى
عيون الناس الحائرة، وهو يبارك الاُمة
برسولها، وهذه آية من آيات نبوّته. والامام
علي رُدّت له الشمس بعد غروبها، وهاتان
المعجزتان مذكورتان بالتفصيل في كتب التاريخ.
فلننظر من أيةِ زاوية اختار صفي الدين الحلي
صورته التي التقطها لهذين العظيمين:
على ان الشاعر أبا المحاسن صفي الدين ينتبه ويُنبّه إلى نقطة جوهرية مهمة، هي المحافظة والحرص على تجنّب إثارة شيء من البغضاء العمياء التي تضطرم في نفوس المغفلين من الناس، الذين ضلّلهم الاعلام الاُموي والعباسي، وبقي تأثيره ممتداً حتى أيام الشاعر، بل حتى زماننا هذا.
ويا للاسف، فقد نجحوا في توظيف ذلك من أجل ان يُنفّروا الناس من كلّ شاعر يذكر أهل البيت بخير، وبالتالي يُنفّرونهم حتى من اهل البيت ومن كلّ إشارة إليهم قريبة أو بعيدة.
ولقد تنبّه شاعرنا ونبّه إلى ذلك، واستطاع ان ينتصر لانه كان يريد ـ كما نستشف ذلك من أشعاره ـ ان يرى المسلمين امة واحدة لا تفرّقُها المذاهب.
وهو يقول معلناً عن ولائه الصادق لامير المؤمنين وابنائه(عليهم السلام)، ومعبراً عن فوز محبيهم ومواليهم، ومؤكداً على وجوب تولّيهم بنص حديث الغدير المتواتر:
ويتبين ولاء شاعرنا الصادق لاهل البيت(عليهم
السلام) واطلاعه على العقائد ومعرفته بمعاني
الايات والاحاديث من خلال مقطوعات عديدة منها:
والملاحظ على هذه المقطوعات تَميُّزُها بالسهولة والعذوبة والابتعاد عن التعقيدِ والغموض والاغراقِ في التصنّعِ والتكلّف والهالات والمحسنات البديعية، ولعلّ السبب في ذلك عائد إلى أنّ الشاعر قالها في حالات هي اقرب إلى الارتجال، أو إلى حديث النفس ـ بتعبير ادق ـ حيث تفيضُ دون سابقِ قصد واختيار طافحةً على لسانه من أغوارِ ذاتِه، حيث تتنفسُ هناك من سماء روحه، وتنبض في قطرات دمائه، لتخرج في اجلى لحظات الصفاء والصدق مع الذات، وهذا يَدُلُّ على تمكّن عقيدته بأهل البيت من نفسه ووجدانه الفيّاضين بالشعر والولاء وحب الخير والحياة النيّرة.
وللرسول الكريم مكانة خاصة في روح
الشاعر، فهو يبوح له وحده بما يجيش في صدره،
وهو يتوسل إلى الله ان يُنيله شفاعة رسوله
الكريم، فقد اثقلت ذنوبُهُ كاهلَه، وقد جاءَ
للاستغفارِ والانابةِ والتوبة:
وقصيدته المشهورة المسماة (الكافية البديعية في المدائح النبوية) التي جمعت أنواع المذهب البديعي في الشعر العربي وأسراره هي تُغني عن كثير من الكتب المطوّلة المؤلّفة في هذا العلم، وهي خير دليل على اتصاله الروحي برسول الله(صلى الله عليه وآله). ونحن هنا لا نتناولها من جانب اشتمالها على علم البديع ودقائقه، لان ذلك يستدعي وضع كتاب كامل لشرحها وكشف اسرارها ومخابئها، ولكننا نتناولها من زاوية اتصالها برسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالشاعر نظمها بعد ما «أراد ان يؤلف كتاباً يُحيط بُجلّ انواع البديع، فعرته علّةٌ طالت مدتها، واشتدت شدتها، فاتفق أنه رأى في منامه رسالة من النبي(صلى الله عليه وآله) يتقاضاه المدح ويعده البرء من سقمه، فعدل عن تأليف ذلك الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع اشتات البديع، وتتطرز بمدح محتده الرفيع، فنظم قصيدة عدتها مائة وخمسة وأربعون بيتاً في بحر البسيط، تشتمل على مائة وواحد وخمسين نوعاً من محاسن البديع»(*).([5])
والذي يُهمنا هو هذا الاتصال بين شاعرنا وبين سيده الرسول الكريم، ذلك الاتصال الذي انتج هذه القصيدة النادرة بفنّها وأفكارها ولمساتها الابداعية الجميلة، وهي تكشف الغطاء عن شاعرية فذّة، ومقدرة أدبية كبيرة، يتمتع بها هذا الرجل، إضافة إلى سيطرته القوية على الالفاظ، وسعة اطلاعه على الاسرار اللغوية، ودقة تصرّفه بمفرداتها.
لننتقِ ابياتاً منها، كي نستدل بها
على ما نقول:
وقصيدته النونية (57 بيتا) التي قالها
في ذكرى مولد الرسول الكريم(صلى الله عليه
وآله)دليل آخر على مدى التواصل والاتصال بين
شاعرنا وبين الرسول الحبيب، وقد جمعت باقة
زاهرة من معاجزه وفضائله في اسلوب شعري جذاب،
وان كان قد تأثر بالمباشرة التي لابدّ من أن
تطفح على وجه قصيدة تأخذ على عاتقها إحصاء
مناقب وحوادث تاريخية تحتاج وصفاً ولغةً
نثرية مُضرّة بلغة الشعر الرقراقة:
إلى أن يقول:
على ان قصيدته القافيّة (50 بيتاً) فيها
الكثير من الفنية والجمال، وهي تصبُّ بعد
مقدمة وصفية ذكية الخطوط والالوان في غرضه
الاصلي، وهو المدح الولائي للرسول واهل بيته(صلى
الله عليه وآله). وانت تلمس منذ البيت الاول
فنيتها الرائعة ودفقات ريشته الناعمة،
وانغام ظلالها الهامسة باتساق حلو، وهي تكشف
عن مقدرة تصويرية كبيرة من خلال مساحات
ضرباته الدقيقة التي تجود بها ريشته المبدعة
على لوحات فيّاضة بالفن والسحر الحلال:
ففي كل بيت لوحة فنية رائعة تستحق
التأمل والاستنطاق، تراها غنيةً بإشعاع
الضوء وانكسارات الظلال الاسرة، كلّما
أغرقْتَ في تصورها واستحضارها في خيالك. كل
ذلك من أجل ان يوصلك الى عالم الرسول الطاهر،
المشرق بالنور والربيع الاخضر، وصفاء السماء
الزرقاء الحبلى بقصاصات سحب بيضاء صغيرة هنا
وهناك. إلى ان يقول:
ثمَّ يعدّد مآثره النبوية وكراماته
الشريفة، وأنه كيف كان الانبياء يتقربون الى
الله سائلين الفرج والنصر، وهم يقدمون اسم
النبي الحبيب بين يدي حاجاتهم في اثناء
مناجاتهم ربَّ العالمين.
وفي احدى قصائده يكتشف الشاعر «سرَّ
النبي»، فيا ترى ما هو، أو بالاحرى من هو سرّ
النبي؟
وفي شعر صفي الدين الحلي أشكال وزوايا
اُخرى تعبر عن ولاء هذا الشاعر وصدق عقيدته
بأهل البيت(عليهم السلام)، من قبيل رثائه احد
السادة ينتهي نسبه إلى الرسول الكريم(صلى
الله عليه وآله) كان قد توفي يوم العاشر من
المحرم، ومن خلال قوة انفعال الشاعر مع
ذكريات ملحمة الطف، خرجت القصيدة منبئة عن
قلب ملتهب، فوّار الحسرة، لانه كان يعيش تلك
الذكريات بقلبه وخياله وعواطفه الملتاعة،
وحينما يسمع خبر وفاة أحد ابناء الحسين فإنه
يُفرّغ نفثةً في طيات قصيدته تشير إلى ذلك:
إلى ان يقول:
هذه اغلب المناحي التي ترجم فيها ابو المحاسن عبد العزيز بن سرايا من خلال قابليته الشعرية الفذة ولاءَهُ وحبَّهُ وعقيدته.
المهم أنَّ هذا الشاعر في حقيقةِ وجدانهِ، وبواطن ضميره شاعرٌ يحمل في قلبه وحناياه اماكنَ انارتها عقيدتُهُ الاسلامية الطافحةُ بالولاءِ لله ولرسولهِ وللذينَ آمنوا، وهو شاعرُ وحدة لا بوقُ فُرقة، ما خدش شعور طائفة من المسلمين في الوقت الذي صرّح به عن مذهبه الذي طبع آثارهُ الرقيقة واضحةً على معالمِ شعرِه الشفّافة الاسرة.
ويبقى التاريخُ يشكو بمرارة أفعال كثير من المُزيّفين والمحرفين والمتطاولين على تراث امتنا العظيمة وإبداعها.
(*) هكذا ورد في الديوان، وفيه خلل عروضي، وربما كان الصواب «ويخشى لسوء منقلبه».
([2]) ليس فيها تصريح بارتكابه للذنوب، إذ كثير من الملتزمين في مقام المثول امام الله تعالى تصدر منهم مثل هذه الاقوال. (التحرير)
([3]) التقصير: احد واجبات الحج وهو قص الشعر والاظافر، وكان الشاعر حاجّاً حينما قال هذه القصيدة.
(*) مقدمة القصيدة مثبتة في الديوان بقلم الشاعر نفسه.
([6]) النقع: الغبار، والضمير في «كشفته» يعود إلى الليل، أي لما كشفت الليل غرةُ الفجر.
([7]) اسماء سور قرآنية نزلت آياتٌ منها في فضل الامام علي(عليه السلام).