(وقلنا اهبطوا) أي: ألزمناهم الهبوط إلى الجهة السفلية التي هي العالم الجسماني (بعضكم لبعض عدو) حال من الهبوط مقيد له إذ الهبوط إلى الدنيا التي هي الجهة السفلية يستلزم كون مطالبها جزئية في ضيق المادة محصورة لا تحتمل الشركة. وكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فمنعه، فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية وجمع الخطاب لأن خطابهما خطاب النوع إذ الأصل يتناول الفرع (ولكم في الأرض) أي: في هذه الجهة (مستقر) استقرار (ومتاع) تمتع (إلى حين) أي: حين تجردهما بالموت الإرادي وانقطاع حظوظهما بالموت الطبيعي وقيام أحد القيامتين الكبرى أو الصغرى.
(فتلقى آدم من ربه كلمات) أي: استقبل من جهة ربه أنوارا وأطوارا، أي: مراتب من الملكوت والجبروت وأرواحا مجردة، إذ كل مجرد كلمة لأنه من عالم الأمر كما سمي عيسى كلمة أو تلقن منه معارف وعلوما وحقائق. (فتاب عليه) تقبل رجوعه إليه بالتجرد عن الملابس الطبيعية والانخراط في سلك الأنوار الملكوتية، والاتصاف بالكمالات القدسية، والتجلي بالعلوم الحقيقية.
وأصل تاب عليه: ألقى الرجوع عليه وجعله راجعا. ولعمري إنها هي التوبة المقبولة لا الرجوع الناشئ من قبله. (إنه هو التواب) الكثير القبول لتوبة عبادة (الرحيم) الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في حين غضبه، كما جعل غضبه على آدم سبب كماله ورجوعه إليه وبعده ليتقرب منه.
(قلنا اهبطوا منها جميعا) كرر ذلك الأمر بالهبوط ليفيد أنه هو الذي أراد ذلك ولولا إرادته لما قدر إبليس على إغوائهم، لهذا أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب مما قال لنبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [الأنفال، الآية: 17] فتفطن منه سر قضائه وقدره وبين وجه حكمة الإهباط بتعقيبه بقوله: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وإيراده بالفاء إذ لولا الهبوط لما أمكنهم من متابعة الهدى، ولما تميز السعيد والشقي، ولا حصل استحقاق الثواب والعقاب، ولبطل دار الجزاء من الجنة والنار، بل ما وجدت. والهدى هو الشرع فمن تبعه أمن سوء العاقبة فلم يخف مما يأتي من العقاب والفناء، وتسلى عن الشهوات واللذات، فلم يحزن على ما فاته من حطام الدنيا ونعيمها لاكتحال بصيرته بنور المتابعة واهتدائه إلى ما لا يقاس بلذات الدنيا من الأذواق الروحانية، والفتوحات السرية، والمشاهدات القلبية، والعلوم العقلية، والمواجيد النفسية.