تفسير ابن عربي (جزء 2)

محمد بن علی ابن عربی؛ محقق: عبد الوارث محمد علی

نسخه متنی -صفحه : 400/ 81
نمايش فراداده

تفسير سورة الفرقان من آية 58 - 60

(وتوكل على الحي الذي لا يموت) أي: شاهد موت الكل وعدم حراكهم بذواتهم، كما قال: (إنك ميت وإنهم ميتون 30) [الزمر، الآية: 30] فإنهم لا يتحركون إلا بدواع أوجدها الله تعالى فيهم بفناء أفعالك وأفعال الكل في أفعال الحق ورفع حجبها عن أفعاله إذ مقام التوكل هو الفناء في الأفعال.

وبين بقوله: (على الحي الذي لا يموت) إن منشأ التوكل شهود صفة حياته التي بها يحيا كل حي لأن من يموت لا يكون حيا بالذات وبالترقي عن مقام فناء الأفعال إلى الفناء في صفة الحياة يصح مقام التوكل كما قالت المتصوفة: لا يمكن تصحيح كل مقام إلا بالترقي إلى المقام الذي فوقه، وإذا كان كل حي يموت إنما يحيا بحي الذات الذي حياته عين ذاته فبه يتحرك، فلا تبال بأفعالهم فإنهم لو اجتمعوا بأسرهم على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك، على ما ورد في الحديث.

(وسبح بحمده) ونزهه بتجردك عن صفاتك ومحوها في صفاته عن أن تكون لغيره صفة مستقلة تكون مصدرا لفعله ملتبسا بحمده، أي: متصفا بصفاته، فإن الحمد الحقيقي هو الاتصاف بصفاته الكمالية التي هو بها حميد وذلك هو تصحيح مقام التوكل وتحقيقه بنفي الصفات التي هي مبادئ الأفعال من الغير، وإذا تجردت عن صفاتك بالاتصاف بصفاته شاهدت إحاطة علمه بالكل، فاكتفيت به عن سؤاله في دفع جناياتهم عنك وجزاء إيذائهم لك، وشاهدت قدرته على مجازاتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: '' حسبي من سؤالي علمه بحالي ''.

وذلك معنى قوله: (وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض)

أي: احتجب بسموات الأرواح وأرض الأجسام (وما بينهما) من القوى في الأيام الستة التي هي الآلاف الستة من ابتداء زمان آدم إلى محمد عليهما السلام، لأن الخلق ليس إلا احتجاب الحق بالأشياء والأيام هي أيام الآخرة لا أيام الدنيا، إذ لم تكن الدنيا ثمة ولا الشمس والنهار (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) [الحج، الآية: 47].