بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطيبين
الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
وبعد:
فهذه الدروس التي تلقيتها من أعلام النجف، حين
ما أقصيت مع الوالد - مد ظله - من تركيا إليه،
ولجهات مختلفة كنت أحضرها جميعا، وأضبطها مع ما
أرى فيها من القصور والفتور:
3
الدرس الأول
ما ألقاه السيد الشاهرودي
حول جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي
والذي ظهر لي منه: هو أن الأصول العملية لا تجري، لا لما قيل من
لزوم المخالفة العملية، بل لأجل المناقضة في الجعل، لأن الأصلين
مجعولان عرضا وجمعا، لا طولا أو تدريجا، وعند ذلك تلزم المناقضة بين
العلم الاجمالي ومفادها.
نعم، إذا كان الأصل من قبيل الأصول اللبية أو اللفظية غير المتكفلة
للجمع في الجعل، فإنه - حينئذ - لا يلزم الاشكال المزبور، ومن تلك
الأصول الاستصحاب.
وتوهم الفرق بين الدليل المتكفل للأصل الذي يكون من قبيل
5
العمومات، وبين ما هو من قبيل المطلقات، في غير مقامه، لأن مقدمات
الحكمة تقوم مقام ألفاظ العموم على ما تقرر في محله.
ثم تعرض لمثال في المسألة، وهو المثل المعروف المشهور بينهم
وهو: أنه لو خرج البلل المشتبه المردد بين البول والمني، ولم تكن
الحالة السابقة معلومة، فإنه لا تجري أصالة عدم البولية، لعدم الأثر
لها، ضرورة أن البول مع احتمال الحدث الأكبر، مشكوك الأثر، بخلاف
المني، فإنه مع احتمال الحدث الأصغر ذو أثر، كما لا يخفى.
وفيما ذكره - مع أنه ببيان مني - مجال للنظر، فإن الأصول تجري في
أطراف العلم الاجمالي حتى الاستصحاب، وقد تقرر منا جواز ارتكاب
مجموع الأطراف تدريجا، لتقدم أدلة الأصول على أدلة الأحكام الواقعية
- ملاكا وخطابا ولحاظا - على ما تقرر منا (1).
هذا، وما توهم من الجمع في الجعل، غير تام، ضرورة أن القوانين
الكلية تكون من القضايا الحقيقية في الاعتبار، وتنحل حسب
صغرياتها، فلا يكون جعل مستقل في عرض الجعل الآخر، بل جعل واحد
على عنوان كلي، ينحل حسب المصاديق الطولية والعرضية، الجمعية
والتدريجية، فكل واحد من الترخيصين، لا يلاحظ عند الترخيص الآخر
حتى يتوهم التنافي.
مع أنه لو سلمنا ذلك فالاختلاف في العنوانين يكفي، لأن محرمية
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 6: 185 وما بعدها.
6
الخمر لا تنافي محللية مشكوك الخمرية بما هو مشكوك، من غير دخالة
الخمر الواقعي في الترخيص. والتفصيل في مقام آخر (1)، وهذا هو
التحقيق لاجراء الاستصحاب والأصول المحرزة في أطراف العلم.
وما قاله سيدنا الأستاذ - مد ظله -: من عدم جريان أصالة عدم
البول، لتقومها بعدم الجنابة في الأثر في بعض صور المسألة، إن كان
يرجع إلى نفي جريانها فهو ممنوع، لأن العلم بعدم الأثر غير حاصل،
واحتمال الأثر لا يورث عدم الجريان ثبوتا وإن لا يثمر جريانها إثباتا.
وأما التفصيل في المسألة فيعرف من الكتب الفرعية
الاستدلالية، وربما تبلغ الصور إلى أزيد من أربع صور، كما لا يخفى.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - نفس المصدر.
7
الدرس الثاني
ما ألقاه الوالد - مد ظله -
حول التمسك بحديث السلطنة لتصحيح المعاطاة
وهو: أن التمسك بعموم قوله: الناس مسلطون على أموالهم (1)
لأجل تصحيح المعاطاة غير تام، لأن غاية ما يمكن أن يقال تحريرا: هو أن
مقتضى إطلاق السلطنة على الأموال سراية الحكم إلى الملازمات
واللوازم العرفية، وعلى هذا يكون جعل السلطنة ملازما للحكم
التكليفي والترخيص الوضعي، وهو جواز التصرفات تكليفا ووضعا، أي
نفوذ النقل والانتقال الملازم لانفاذ الأسباب والعقود، ونفي صحة
المعاطاة ينافي دعوى إطلاق قاعدة السلطنة.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - عوالي اللآلي 1: 222 / 99، و 2: 138 / 383، بحار الأنوار 2: 272.
8
وإن شئت قلت: القاعدة تورث السلطنة لكل أحد على كل أمواله
سلطنة مطلقة، ومقتضى ذلك جواز جعل ما له حذاء المال الآخر للنقل
الاعتباري.
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن المعاملات العقلائية تحتاج عندهم
في النفوذ إلى الأمرين:
السلطنة على مورد المعاملة فلو كان مجنونا أو مهجورا أو صبيا
غير مميز، وهكذا، فإنهم وإن كانوا مالكين إلا أن معاملاتهم غير نافذة عقلا.
والتبعية من المقررات العرفية والقوانين العقلائية، فلو باع
شيئا من ما له بشئ من مال الآخر، لا يصح عندهم مع سلطنتهم على أموالهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن القاعدة تعرضت للشرط الأول، وأنفذت
ذلك القيد والمقرر العرفي، ولا يعقل تنفيذ السبب والعقد، لعدم الارتباط
بين مفادها وهذه المسألة، ضرورة أن جعل السلطنة على الاطلاق
لا يورث صحة سبب التصرف والنقل الاعتباري، لأجنبية هذه
الموضوعات عن مورد القاعدة، وتوهم الاطلاق اللحاظي (1) خلاف
التحقيق على ما تقرر في محله، بل الاطلاق - على ما تقرر في مقامه -
رفض القيود، لا جمع القيود (2).
واشتراط القوانين الأخر لصحة النقل والانتقال ولتأثير العقد فيهما،
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 26 / السطر 12.
2 - مناهج الوصول 2: 325، ولاحظ تحريرات في الأصول 5: 447 - 449.
9
لا يورث قصورا في موضوعها، لأن القاعدة تورث السلطنة المطلقة
على الأموال، وأما احتياج نفوذ موجبات النقل الاعتباري إلى قيود أخر،
فهو لا ربط له بها، كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: لا إطلاق لها من تلك الجهة، بل هي متعرضة
لاثبات السلطنة على الأموال وجاعلة لها، أو ممضية لما عليه طريقة
العقلاء، ومتعرضة لعدم حجر الناس عن أموالهم (1).
والذي يظهر لي في المسألة: أنها قاعدة إمضائية، وليست تأسيسية فلو
شك في جواز التصرف، ورجع الشك إلى شك العقلاء فيه، لا شك
الفقيه، فلا تكون هي المرجع لرفع الشك، كما في مسألة عموم دليل
قاعدة اليد، فإن قوله (عليه السلام): من استولى على شئ فهو له (2) لا يكون
مؤسسا في موقف شك العقلاء في كاشفية اليد المستولية، كالأيادي
المسبوقة بالخيانة المعروفة بها.
والجمع بين التأسيس والامضاء وإن أمكن ثبوتا، إلا أنه خلاف
المتفاهم العرفي إثباتا، فمسألة المعاطاة إن كانت من المسائل
العقلائية المحتاجة إلى الامضاء، فعمومه ربما يكفي لامضائها، وأما مع
قطع النظر عن تلك الجهة، فهي لا تدل على مشروعيتها وصحتها.
فتحصل إلى هنا: أن المشهور جوزوا التمسك بقاعدة السلطنة
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 79 - 81.
2 - تهذيب الأحكام 9: 302 / 1079، وسائل الشيعة 26: 216، كتاب الفرائض
والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.
10
لتصحيح المعاملات المعاطاتية، لاستلزام إطلاقها مشروعية الأسباب
المؤدية إليها، بل نفس جعل ما له حذاء المال الآخر للنقل الاعتباري،
من التصرف الجائز بعمومها، فلا نحتاج لتصحيح المعاملة إلى الأخذ
بالملازمات حتى يشكل ذلك بأن الاطلاق غير كاف له.
وأن الوالد المحقق - مد ظله - أنكر ذلك عليهم، واختار قصورها
عنه، معللا: بأن الحيثيات لا بد وأن ينفك بعضها من بعض.
وقد عرفت أن القاعدة تعرضت لحيثية أخرى مع إطلاقها في تلك
الحيثية، وأن الفاضل الخراساني (رحمه الله) أنكر إطلاقها، معللا: بأن القاعدة في
مقابل الحجر، ولا نظر لها بالنسبة إلى الأمور الأخر (1).
وإن شئت قلت: بانصرافها عن أمثال هذه التصرفات، ومما يشهد على
ذلك: أن العقلاء لا يفهمون منها نفوذ المعاملات الرائجة بينهم، ولا ينتقل
ذهنهم منها إلى أن الشرع بها يصحح أسباب المعاملات والعقود، وهذا
ليس إلا لأجل أن تلك الملازمة، لا تفي لكشف حكم الصحة من عموم
القاعدة.
ومما ذكرنا يظهر حال التوهم: لجواز التمسك بأن القاعدة تدل
بالدلالة المطابقية على جواز التصرف، وشمول السلطنة لجميع
أمواله في جميع الأحيان، وبالدلالة الالتزامية على أن الأسباب
والعقود - بأي وجه اتفق - تكون صحيحة ونافذة.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 14.
11
وبيان الملازمة: أن التصرف الغير النقلي يكون في مقابل
التصرفات الناقلة قليلا، فإلقاء العموم المزبور قليل النفع، بل هو
يكون ساقطا.
وإن شئت قلت: تجويز التصرف بنحو الاطلاق يستلزم تجويز
السبب، وإلا تلزم اللغوية.
ووجه الظهور معلوم، ضرورة أن دلالة الالتزام هنا غير تامة لعدم
اللزوم البين.
واقتضاء دلالة الاقتضاء صحة الملازمات غير مرضي، لأن الأقلية
- لو فرضت - تكون مجوزة إذا لم يكن دليل آخر على صحة الأسباب، وأما
مع دلالة الأدلة الأخر فلا يلزم اللغوية، ولا يتم البحث الحيثي في
المسائل الدلالية.
هذا، مع أن الأقلية ممنوعة جدا، والفرار من لغوية الاطلاق ليس
من سنن أرباب الفضل، للزوم ما لا يلتزم به.
وتحصل: أن التحقيق لا هذا ولا ذاك، بل هو أنها قاعدة إمضائية، ولا
يمكن أن تكون مرجعا عند الشك.
نعم، لو فرضنا أنها من الأمور العقلائية، وعليها بناؤهم - كما هو
المتحقق في المعاطاة - يمكن أن يرجع إليها لامضاء تلك الطريقة،
ولكنها غير كافية، لعدم مساعدة فهم العرف لكشف الامضاء من تلك
القاعدة، فتدبر جيدا.
12
الدرس الثالث
ما ألقاه السيد الأستاذ - مد ظله - الخوئي
حول أقسام النواهي
فقال:
قد قسم شيخنا الأستاذ - قدس الله نفسه - النواهي على ثلاثة أقسام:
منها: ما يكون إرشادا إلى الشرطية، كالنواهي الواردة في مسائل
لبس ما لا يؤكل في الصلاة ونحوها، فإنها لا تكون مولوية ذات عقاب
وثواب مستقل، وغايته بطلان الصلاة بدون المأمور به، أو العقاب على
الفعل التشريعي، وأما نفس العمل فهو ليس محرما.
ومنها: ما يكون إرشادا إلى المانعية وبطلان الصلاة معه، فتكون
تلك النواهي مفيدة للقيود الوجودية والعدمية، المستلزمة بطلان
13
الطبيعة، عبادية كانت أو معاملية.
ومنها: ما يكون نهيا مولويا مورثا لحرمة المتعلق.
ففي هذه الصورة لو كان مقتضى إطلاق دليل الحرمة مصداقية
الواجب له، فهل يكون الواجب العبادي باطلا أم صحيحا؟ فيه خلاف،
فالمشهور على الصحة، واختار الشيخ الأستاذ البطلان، معللا: بأن
النهي عن الشئ كما يدل بالمطابقة على محرمية مدلوله ومدخوله،
يدل بالالتزام على أن الواجب ليس قابلا لأن يكون فردا له، وعليه لو سقط
دليل المحرم في مدلوله المطابقي - لأجل إحدى الجهات الموجبة
له - لا يسقط دلالة الالتزام، فتكون العبادة باطلة.
وقال السيد: ما ذكره الأستاذ لا يتم، لأن الدلالة الالتزامية من
توابع الدلالة المطابقية على ما تحرر منا في محله (1)، ولو لم يكن الأمر
كذلك يلزم النقوض الغير الملتزم بها الأصحاب، مثل ما لو قامت البينة
على أن المال الكذائي لزيد، فإنه بالالتزام يدل على عدم كونه للآخرين،
ولو سقطت البينة، يلزم كون الدلالة الالتزامية باقية ومعارضة مع
البينة القائمة على أنه له.
وأنت خبير بما في خلط الشيخ وتلميذه، فإن الدلالة الالتزامية من
الدلالات اللفظية، وكونها منها لأجل أن الانتقال منها إلى المعنى
الالتزامي، يكون بحيث يتوهم أنه من اللفظ، مع أنه من دلالة المعنى على
--------------------------------------------------------------------------------
1 - أجود التقريرات 1: 269، الهامش، محاضرات في أصول الفقه 3: 72.
14
المعنى تحقيقا وواقعا، ولذلك قالوا باعتبار اللزوم البين في الدلالة
الالتزامية (1)، فلا النهي يدل على المعنى الالتزامي المذكور، ولا البينة
على المطلب المشار إليه، ضرورة أن النهي لا يكون متعرضا بتلك
الدلالة لاخراج المحرم عن الفردية للواجب ولا البينة، فإن قوله:
زيد في الدار، ليس يدل على أنه ليس في مكة، ولا في قعر البئر...
وهكذا، مع أن ذلك من التوابع للاثبات.
ولكن مجرد التبعية والتفسير ليس من الدلالة الالتزامية،
فالنهي لا يدل إلا على المعنى المقصود وحرمة متعلقه، ومسألة
كون الواحد مصداق الواجب والحرام، مما فرغنا عنها في محله،
وجوزنا ذلك (2).
وأما حديث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية فهي
ممنوعة، لأن الالتزامات والملازمة قد تكون عقلية وعرفية وعادية
وبنائية، فلو كان المتعارف من كلام المولى - لدأبه المعلوم منه - بعض
اللوازم الجعلية، فإنه عند سقوط المدلول المطابقي لا يسقط الالتزامي،
فلو ورد: أكرم زيدا، وهو يدل على إكرام بكر بالالتزام، لما علم منه ذلك،
بحيث يكون من اللوازم لكلامه، ثم ورد دليل آخر معارض، وسقط
بالمعارضة المدلول المطابقي، أو شك - لأجل بعض القرائن
--------------------------------------------------------------------------------
1 - شرح المطالع: 33، شرح الشمسية: 44، الهامش.
2 - تحريرات في الأصول 4: 113 - 121.
15
الصالحة - في وجوب إكرام زيد، فإنه لا وجه لسقوط الدلالة
الالتزامية، لعدم الارتباط التكويني ولا الجعلي بينهما، بل كل ذلك بمبادئ
خاصة، ولذلك يعقل التصريح منه بعدم إرادته المدلول المطابقي، ومعه
لا يكون تناقضا، كما لا يخفى.
إن قلت: لو كانت الدلالة الالتزامية من توابع المدلول المطابقي،
فعند عدم إرادته ذلك لا يعقل بقاؤها، لأن المدلول الالتزامي من لواحق
المدلول المطابقي.
قلت: نعم، لو كان من توابع المدلول الجدي والمراد اللبي - دون
المدلول الاستعمالي والمراد الانشائي - فما قاله المشهور: من صحة
العبادة التي تكون مصداق المحرم، في محله، لا لأجل سقوط المحرم،
ولا تغفل.
16
الدرس الرابع
ما ألقاه الوالد - مد ظله -
حول عدم شمول حديث السلطنة للشك في الأسباب
وهو: أن قاعدة السلطنة ربما تكون كقوله تعالى: (أحلت لكم
بهيمة الأنعام) (1) بمعنى أنها لا إطلاق لها إلا إطلاقا ذاتيا، وإلا يلزم جواز
التمسك بها لضرب المؤمن، لأن مقتضى السلطنة على الأموال وإطلاقها
ذلك، أو المعارضة بينهما وبين النهي عنه، وتكون النسبة عموما من
وجه، والالتزام بهما خلاف الفهم العرفي قطعا.
فعليه تكون القاعدة مثل الروايات المتعرضة لعد المحرمات
والمحللات، في عدم نظارتها على حكم الطبيعة عند العوارض
--------------------------------------------------------------------------------
1 - المائدة (5): 1.
17
والطوارئ، كما لا يخفى.
فإطلاقها بالنسبة إلى الأسباب والعقود، مضافا إلى عدم معقوليته
لخروجها عن موضوعها، غير تام عرفا (1).
ويشكل الأمر عليه - مد ظله - لأن نفي الاطلاق يورث عدم صحة
التمسك بها، لو شك في جواز أحد التصرفات لجهة من الجهات، وهو
ممنوع، أو عدم جواز الرجوع إليها لكشف رضاه وإمضاءه، وهو مضروب
عنه قطعا.
فعليه يقال: بأن القاعدة مطلقة، إلا أنه لا يلزم من اختيار إطلاقها
جواز المعارضة، لانصرافها عن مثل تلك الصور، بل على ما أفاده - دام
ظله - في أخريات بحثه (2)، لا تعارض بين النواهي الشرعية وعمومها،
لأن البناءات العقلائية عند أبناء الملل التابعين للشرائع الإلهية، تكون
غير منجزة،] بل [معلقة على عدم منع الشرع عنها، ولا إطلاق لها حتى
يكون بناؤهم على تسلط الناس على الأموال وإن لزم منه الهرج والمرج.
بل لنا أن نقول: الأمر كذلك حتى عند غيرهم بالنسبة إلى ما يرونه
عصيانا وطغيانا في المجتمع البشري.
فنفي الاطلاق الأحوالي بإثبات الاطلاق الذاتي لأجل ما مر، غير
تام، للزوم ما لا يمكن الالتزام به.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 82 - 83.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 83.
18
ولو سلمنا إطلاق قاعدة السلطنة وجواز الرجوع إليها في
الشبهات الحكمية، ولكنها لأجل عدم مؤسسيتها لا تقاوم الأدلة
المتكفلة للأحكام - المحرمات والواجبات - فيقال بعدم وجوب
اخراج الأخماس والزكوات، لا نهم مسلطون على أموالهم.
والذي يظهر لي: أنه لو كان مفادها ما يقتضيه ألفاظها، يلزم تعارضها
البدوي مع جميع تلك الأدلة، والعرف يشهد على خلافه، مع لزوم
تخصيص الأكثر، أو المستهجن وإن لم يكن أكثر، كما لا يخفى.
فيعلم أن مصب القاعدة ونطاق إمضائها مع إطلاقها، ليس بتلك
التوسعة، لعدم مساعدة الفهم العرفي عليها، فافهم وتدبر.
19
الدرس الخامس
ما ألقاه شيخنا الأستاذ محمد باقر الزنجاني - دام ظله -
في مسألة الماء المردد بين القلة والكثرة
إذا لم تكن الحالة السابقة معلومة
وقال: المشهور على نجاسته إذا لاقى النجس. والذي يمكن أن
يتوهم لذلك، ويكون سندا لهذه الفتوى، أمور:
أولها: جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإن
المستفاد من الأدلة، هو أن الماء ينجس بملاقاة النجس إلا إذا كان كرا،
وهذا المردد مصداق العام لكونه ماء، ولكنه مشكوك مصداقيته بعنوان
المخصص.
20
وفيه: أن المسألة عموماتها ومخصصاتها على خلاف ذلك، بل
المعروف فيها طهارة الماء إلا إذا كان قليلا، لمفهوم أدلة الكر (1)، ومن
تلك العمومات: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ (2) فلو كان يجوز
التمسك المذكور، فالنتيجة على خلاف المنسوب إليهم.
وثانيها: أن مقتضى قاعدة المقتضي والمانع هي النجاسة، ضرورة
أن الماء بطبعه يقبل النجاسة، ويستقذر العرف من الملاقي - بالفتح -.
نعم، إذا كانت الكرية والمطرية والعصمة معلومة، فإنه - حينئذ - يبني
على الطهارة.
وهذا هو الأمر المساعد عليه في الفهم العرفي في هذه المسائل،
ولا تأسيس للشريعة المقدسة في مسائل الطهارات والنجاسات.
وفيه: أن قاعدة المقتضي والمانع في أمثال هذه المواقف
والموضوعات الجزئية، غير جارية على ما تقرر منا في محله وكون بناء
العقلاء على ترتيب الأثر مع عدم إحراز المانع، غير مقبول، فمع العلم
بالمقتضي والشك في المانع لا يمكن مساعدتهم على النجاسة.
وبعبارة مني: أن الماء المردد بين القليل والكثير والمحتمل
أقليته عن الكرية، في غاية القلة، فإنه في هذه الصور عند العرف،
تكون الكثرة العاصمة موجودة وإن لم يكن القدر الشرعي معلوم
--------------------------------------------------------------------------------
1 - وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
2 - المعتبر 1: 41، السرائر 1: 64، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 1، الحديث 9.
21
الوجود، فمقتضى تلك القاعدة طهارة مثل ذلك دون نجاسته.
وثالثها: ما يلوح من كلام شيخ مشايخنا الأنصاري (1)، واتخذه شيخنا
الأستاذ مدركا لفتواه في جميع الفروع المسانخة مع هذه المسألة: وهو
أن الأحكام الترخيصية الشرعية - كالإباحة والحلية والطهارة - إذا
كانت معلقة على أمر وجودي في لسان الأدلة الشرعية، يستفاد من تلك
الأدلة عرفا قاعدة واقعية وقاعدة ظاهرية: أما الواقعية فهي أن الحكم
- بحسب اللب والثبوت - مرهون لذلك الأمر الوجودي، وأما الظاهرية
فهي أنه مع الشك في وجود ذلك الأمر الوجودي لا بد من الاحتياط، وهذا
أمر يساعد عليه العرف، وإن لم يكن الدليل عقلا مساعدا عليه (2).
ولعل وجوب الاجتناب في الشبهات المعروفة - مثل ما لو شك في
حلية مال زيد، أو حلية النظر إلى الأجنبية، وأمثالها - لأجل هذه
القاعدة المغروسة في أذهانهم الواردة في قلوبهم، فإن الدليل جوز
التصرف في مال الغير إذا كان بطيب نفسه، فلو شك في الطيب فلا يجوز
ترك الاحتياط المستفاد منه، وهكذا جوز النظر إلى الانسان إذا كان من
الأقرباء وغيرها لما تقرر في محله، فلو شك في ذلك فلا بد من الاحتياط
حتى يحرز عنوان المستثنى.
فالماء المردد بين القليل والكثير ينجس بملاقاة النجس، لأن
--------------------------------------------------------------------------------
1 - فرائد الأصول: 571 - 572.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 528 - 530.
22
عدم انفعاله مشروط بالكرية التي هي أمر وجودي، وقد اختار الفاضل
الخراساني - في مسائل الاستصحاب (1) - جواز استفادة القواعد الثلاث
من قوله (عليه السلام): كل شئ حلال حتى تعلم الحرام (2) وكل شئ طاهر حتى
تعلم أنه قذر (3)، فلو كان غير معقول لما ذهب إليه أمثال هؤلاء الأعلام.
وفيه: أن المسألة مما لا يمكن المماشاة معهم فيها، ولا الركون
إليهم فيها، فإن الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمرية الواقعية،
وكون الدليل الواحد متكفلا بالحكم الواقعي والظاهري، يحتاج إلى
قوة وإعمال روية، لو فرضنا إمكانه الذاتي، وهذه الأدلة لا تورث إلا
قاعدة واحدة، متعرضة للحكم الواقعي بلا شبهة واشكال، واستنباط
القواعد المختلفة من لسان واحد خارج عن المتفاهم العرفي.
فالمساعدة] على مختار [الشيخين والعلمين والمحقق الخراساني في
تلك المسألة ممنوعة جدا.
هذا، مع أن صغريات هذه المسألة في غاية الاشكال، فإن الأدلة
فيما علق الحكم الترخيصي على الأمر الوجودي، بحيث لم يكن فيها خلافه،
في غاية الشذوذ والندرة، وتشخيص صغرياتها في نهاية الاشكال.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كفاية الأصول: 452 - 453.
2 - ونص الحديث هكذا: كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه.
الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به،
الباب 4، الحديث 4.
3 - مستدرك الوسائل 2: 583، أبواب النجاسات والأواني، الباب 30، الحديث 4.
23
أقول: هذا ما ورد من الأستاذ - مد ظله - ثم بعد ذلك اختار طهارة
الماء في صورة الجهل بالحالة السابقة، ومع العلم بها فالحكم
يقتضي الاستصحاب من الطهارة والنجاسة.
وقال: إن استصحاب الطهارة وقاعدتها الكبيرة والصغيرة لا يثبت
الكرية، ولكنه إذا ألقي الماء على النجس يطهره، وإن لاقاه النجس فهو
يبقى على النجاسة، وتلك على الطهارة.
وتوهم: أنه خلاف الواقع، مدفوع بما مر في محله: من إمكان
التفكيك بين المتلازمات تعبدا.
وفيه: أن قاعدة الطهارة لا تورث مطهرية موردها لجريانها في جميع
الأشياء، وكون الماء طاهرا غير كونه مطهرا، فإنه مجعول آخر وراء جعل
الطهارة، ولذلك بنى الأصحاب على استفادة المطهرية من كلمة
الطهور في كتاب الطهارة، فلا تغفل.
والذي يظهر لي: أن مسألة القلة والكثرة ربما تكون من قبيل
مسألة القصر والاتمام، فكما هناك يقال: بأن الحاضر يتم والمسافر
يقصر، ولا أصل في المسألة ولا عموم، بل تكون المسألة من قبيل
التنويع، فالماء القليل ينجس، والكثير الكر لا ينجس، والمردد
مشكوك العنوان. ولا يجري ما قيل في المقام من الوجوه في المسألة إلا
الوجه الثاني، فليتأمل جدا.
ولو سلمنا أن المسألة من قبيل العام والخاص، فلا شبهة في أن
24
العمومات على إفادة طهارة الماء بذاته إلا القليل، والماء المردد بين
القلة والكثرة لا يكون مشكوك السابق ومجهولا، لأنه إذا خلق طاهرا،
وله الطهارة الذاتية، والنجاسة تعرضه، ففي جميع الأحيان
والفروض يجري الأصل الموضوعي، وهو استصحاب الطهارة الذاتية
الثابتة له.
فالكلام في مطهريته، فإنه ليس من العناوين الذاتية، فإن قلنا
بالملازمة بين الطهارة والمطهرية فهو، ولكنه خلاف أدلة الكر.
ودعوى الملازمة بين الطهارة والمطهرية في صورة اللقاء دون
الاغتسال فيه، غير مسموعة، بل ممنوعة جدا.
وتوهم أن قوله: الماء يطهر ولا يطهر (1) يشمل مطلق الماء خرج
منه القليل، غير كاف عندنا على ما تقرر في محله. والاستصحاب التعليقي
لو فرضنا جريانه في محله فهو في المعلقات الشرعية، دون الاختراعية
والانتزاعية، فلا يصح أن يقال: إنه كان إذا يلقى على شئ يطهره فالآن
كذلك، لعدم ورود مثله في الأدلة الشرعية، فأفهم وتدبر.
وربما يخطر بالبال أن يقال بالتفصيل بين صور المسألة: فإنه تارة
يكون الماء الملاقي معه النجس قليلا، يحتمل اتصاله بالمنبع المعتصم
بحيث مع الشك يستقذره العقلاء، وأخرى يكون الماء الملاقي - بالفتح -
--------------------------------------------------------------------------------
1 - الكافي 3: 1 / 1، الفقيه 1: 6 / 2، وسائل الشيعة 1: 133 - 134، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 3 و 6.
25
كثيرا جدا، ولكنه يحتمل أقليته من الكر بمثقال مثلا فإنه في الصورة
الأولى يجب الاجتناب لانفعاله العرفي وعدم شمول المطلقات
المقتضية لطهارته وفي الصورة الثانية لا يجب الاجتناب، لاعتصام
العرفي وإن شك في وجود العصمة الشرعية، وهي الكثرة
المخصوصة.
26
الدرس السادس
ما ألقاه سيدنا الأستاذ الحكيم - دام ظله -
حول لزوم الشركة وجوازها
وآخر ما استفدنا منه هو: أن الأصحاب اختاروا جواز عقد
الشركة (1)، واختار بعضهم لزومها (2).
والذي يقتضيه التحقيق: هو أن الشركة على تقدير] عقد [لازم،
وعلى تقدير ليست عقدا، بل هو إيقاع خارج عن مصب النزاع، وعلى تقدير
--------------------------------------------------------------------------------
1 - المبسوط 2: 342، شرائع الاسلام 2: 107، قواعد الأحكام 1: 243 / السطر 6 -
7، جامع المقاصد 8: 22 - 23، العروة الوثقى 2: 703، المسألة 8.
2 - كما اختاره الميرزا آقا الاصطهباناتي الشيرازي في حاشيته على العروة الوثقى، راجع
العروة الوثقى (طبعة المطبعة الاسلامية 1373 ه. ق)، كتاب المضاربة، فصل في
أحكام الشركة، المسألة 5 و 8.
27
معاملة خاصة خارجة عن محل البحث في مسألة الشركة.
وذلك لأن الشركة: إن كانت بمعنى تشريك أحد الشركاء، الآخر في
ما له حذاء تشريك الآخر، فإنه عقد لازم.
وإن كانت بمعنى إذن صاحب المال للآخر في الاتجار بما له، فهو
إيقاع.
وإن كان يأذن له أن يتجر بما له، ويرد إليه الثلث والثلثين وغير
ذلك من المقابلات، فهي معاملة أخرى وعقد آخر خارج عن معنى
الشركة.
فلا يظهر لي أن النزاع في اللزوم والجواز لأجل ماذا؟ (1).
وفيه: أن من معاني الشركة هو أن يعقد الاثنان على أن يتجرا معا،
ويكون الربح والخسران بينهما على نسبة ما لهما، وهذه هي الشركة
العقدية المعروفة بين الناس، والمتداولة في الملل والأقوام، ويكون
بناء العقلاء في هذه الأيام والعصور على لزومها وإحداثها على نعت سائر
العقود اللازمة، ولكن المعروف بينهم جواز هذا العقد لاقتضاء طبعه
ذلك، وما هو محط النظر ويصلح للنفي والاثبات هو ذلك، من دون أن يكون
في البين معاوضة وتبديل، بل هي مجرد العقد والعهد على الأمر
المعلوم في المدة المعلومة أو غير المعلومة.
والذي يقتضيه التحقيق في المسألة: هو أن عقد الشركة
--------------------------------------------------------------------------------
1 - مستمسك العروة الوثقى 13: 11 - 13 و 38 - 39.
28
والشركة العقدية، ليس مفادها التشريك في المال مطابقا، وإن يستلزم
ذلك مطلقا أو أحيانا.
وما قاله السيد: أنه إن كان معناه التشريك فهو لازم، غير تام، لأن
معنى التشريك لا يورث اللزوم تعبدا، فلا بد من دلالة الدليل على لزومه،
وعرفت أن الشركة غير العقدية تحصل من الشركة العقدية استلزاما،
والكلام في أنه عقد لازم أم جائز، فلا ينبغي الخلط.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن المحرر عندنا في كتبنا الأخر لزوم جميع
العقود إلا ما خرج بالنص الصحيح الصريح (1)، وذلك لأن وجه اللزوم
في العقود اللازمة، ليس إلا العهد والتعاهد الحاصل بين العاقلين
المتوجهين إلى الأمور والقضايا، فلو تخلف أحدهما عما عاهد عليه يعد
- عند العرف - فعله قبيحا، وهذا هو اللزوم العرفي.
وأما حرمة التصرف في ما له بعد العقد، أو حرمة نقض العهد، أو
سلب الملكية بالعقد، بحيث لا يتمكن من إرجاعها بعد العقد والقبض،
فهو عندي من الأحكام الشرعية اللاحقة بالبناءات العرفية.
ومن القوي ما يخطر ببالي: وهو أن الناس مختلفون في فهم هذه
الأمور، وهذه الأمور متفاوتة بينهم، فربما يكون عندهم العقد لازما، أي غير
جائز عرفا العود إلى السلف، ومنه ما لا يكون كذلك، كعقد الشركة،
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأول، الجهة الثانية، الأمر الأول من الأمور
الدالة على أصالة اللزوم.
29
وعندئذ مقتضى عموم الأدلة الملزمة لزوم عقد الشركة على رغم أنف
العقلاء، لعدم الدليل اللفظي على جوازه، والشهرة والاجماع في مثل
المسألة بعيدة، فقولهم بالجواز لبناء العقلاء غير تام، لارتداعهم
بالعمومات اللفظية.
فما اختاره السيد من لزومها وإن لا يبعد، إلا أن اعتراضه على القوم
في غير مقامه.
وعلى هذا تنحل عقدة مسألة الشركة العصرية، والبناءات
الخاصة على لزومها وعدم جواز نقض عهدها، وأنه لو لم يرض بالتصرف
في أمواله يكون رضاه غير مرعي، ولا يترتب الأثر على عدم طيب نفسه
بتلك التصرفات، لأن معنى العقد اللازم هو ذلك، كما لا يخفى.
وربما يمكن دعوى جوازه، لأجل أن اللزوم يستلزم الأمر المحرم، وهو
التصرف في مال الغير بلا طيب النفس.
وهو يندفع:
أولا: بأنه أخص، فإن من الممكن بقاء الطيب، ومع ذلك يفسخ
العقد لأجل الأغراض الأخر.
وثانيا: عمومات إلزام العقود، مقدمة ظهورا على أدلة حرمة
التصرف في مال الغير بلا طيب منه، وإن كانت النسبة عموما من وجه،
لتعرضها للسبب الذي به حل التصرف في ما له، وهو العقد، وبعد ذلك
يجوز التصرف حسب اقتضائها وإن زال الطيب.
30
ولكن الانصاف إما على خلافه أو على بقاء الاشكال بحاله، وعدم
إمكان الخروج عنهما بالطريقة العرفية.
ثم إنه - دام ظله - تعرض لمسألة أخرى وهي: مسألة جواز
اشتراط عدم الفسخ في ضمن العقد، وقال:
قد تعرض المصنف في كتاب المضاربة واختار الجواز (1)، وأنه
مقتضى عموم أدلة الشروط، والقدرة على إزالة العقد وفسخه لا
تستلزم منع الاشتراط، كما لا يخفى.
والحق في المسألة: هو أن شرط عدم الفسخ، أو الالتزام بعدم الفسخ
مستقلا: إن كان يرجع إلى عدم انفساخ العقد به، فهو باطل، لانفساخه به
بحكم الشرع فرضا، والشرط المخالف لحكم الشرع غير جائز وغير
صحيح.
وإن كان يرجع إلى الالتزام في ضمن العقد الجائز، ففيه خلاف،
ظاهر بعضهم عدم جوازه (2)، لزيادة الفرع على الأصل، ولعدم مساعدة فهم
العرف على معنى إلزامي في ضمن معنى جوازي وترخيصي.
واختار الوالد المحقق - مد ظله - جوازه، ولزوم العمل على طبقه
ما لم يفسخ العقد (3). وفي المسألة وجوه واحتمالات لا يسع المقام
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 2: 643، كتاب المضاربة، المسألة 2.
2 - العروة الوثقى 2: 644، كتاب المضاربة، الهامش 3، و 673، المسألة 46،
الهامش 9.
3 - مباني العروة الوثقى، كتاب المضاربة 3: 40 - 42.
31
للتعرض لها وحلها ونقدها.
ثم إن الذي ظهر لي بعد ذلك في وجه مرامه: هو أنه أراد أن عقد
الشركة ليس من العقود، لأنه إما التشريك في المال فهو نحو الهبة
يكون لازما، وإما إذن في التصرف فلا يحتاج إلى القبول، وإما إذن بحذاء
الأجرة فهو عمل ومعاملة خاصة غير الشركة.
فما أفاده القوم من أنها من العقود، ثم بحثوا عن الجواز واللزوم،
مما لا يرجع إلى محصل.
ثم بعد ذلك استشكل في المسألة: بأن الإذن في الاتجار على أن يكون
الربح بينهما، يستلزم دخول المعوض في ملك المأذون، مع أن العوض
يخرج من كيس الشريك، وهذا غير صحيح.
وأجاب: بأن المعوض يدخل في ملك الشريك، ثم منه يدخل في
كيس المأذون في الاتجار.
وأنت خبير بما فيه، فإن عقد الشركة من العقود عند العقلاء،
وتحليله إلى الايقاع غير المحتاج إلى القبول لا يورث سقوطه،
ضرورة أن كثيرا من العقود يرجع إلى العقود الأخر تحليلا، ولكن المناط
على العنوان البسيط المتعارف عليه بين العقلاء والملل، والذي هو
من خواص عقد لا يكون سببا لانقلاب عقد آخر إليه.
فبالجملة: ليس عقد الشركة - بالحمل الأولي - الإذن في التصرف
والاتجار بالمال، بل الإذن من آثاره، ولذلك قال الأصحاب: اطلاق عقد
32
الشركة] لا [يقتضي جواز تصرف كل منهما بالتكسب برأس المال.
وقال الفقيه الوالد - مد ظله -: لا يقتضي عقد الشركة ولا
إطلاقه جواز تصرف كل من الشريكين أحدهما في مال الآخر، إلا إذا دلت
قرينة حالية أو مقالية عليه، كما إذا كانت الشركة حاصلة
كالموروث فأوقعا العقد، ومع عدم الدلالة لا بد من إذن صاحب المال،
ويتبع في الاطلاق والتقييد (1) انتهى.
فإنه صرح بعدم كونه من خواصه اللازمة.
وتوهم: أنه غير تام، لأجل التناقض بين عقدها ونفي الإذن، في
محله، إلا أنه لا يورث الإذن في التصرف، لأنه مع نفي الإذن يبقى العقد
بلا أثر، فينقلب وينفسخ.
فبالجملة: نفس عقد الشركة ليس إلا البناء على الاتجار بمال
مشترك بين الشركاء وقبولهم ذلك.
نعم، هذا يستلزم عرفا الإذن بعد العقد، إلا أنه يمكن نفي الإذن لأحد
الشركاء في يوم وتجويزه في يوم آخر، وما هو المنافي لذات العقد هو نفي
الإذن مطلقا، كما لا يخفى.
فتحصل: أن الشبهة في عقديته لا ترجع إلى محصل.
نعم لنا الشبهة في جوازه - خلافا للمشهور (2) - بعدم الدليل عليه
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحرير الوسيلة 1: 625، كتاب الشركة، المسألة 8.
2 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 13: 37.
33
بعد اقتضاء العمومات لزومه.
اللهم إلا أن يقال: بعدم العموم في المسألة، ولكنه خلاف بنائهم،
لاستدلالهم بها في المسائل الكثيرة.
وما قاله إيرادا في المسألة غير وارد لدى التحقيق، لعدم الاعتبار
بالتبادل المالكي في المعاملات، بل يصح خروج المال من ملك زيد
ودخول عوضه في ملك عمرو، وعليه التعارف العقلائي.
وتوهم: دخوله أولا في ملك من خرج عن ملكه المعوض، ثم
دخوله في ملك عمرو، غير مساعد عليه العرف والعقلاء، وغير منظور
إليه، ولا معنى لأن يكون الأمر كذلك من غير توجه من المتعامل، فإن
الأمور الاعتبارية ليست قهرية الوجود، حتى يقال لحل الشبهة بما لا
يكون معقولا.
ولو قيل: عدم اعتبار التبادل المالكي في صحة المعاملات خلاف
ظاهر المشهور بل صريحهم، وهذا لا يكون بناء عليه وجها لحل الشبهة.
فلنا أن نقول:
أولا: بأن نفي الكلي لا يورث النفي الكلي، فربما لا يكون شرطا
فيما نحن فيه، لقولهم بذلك وعدم إمكان الفرار من الشبهة إلا بالوجه
المشار إليه، الذي هو غير معقول قطعا.
وثانيا: لا يدخل الشئ إلا في موضع خرج منه، وهو عنوان
الشركة الحاصلة من البناء والعقد، فإن أحد الشركاء يكون بائعا من
34
قبل العنوان وبعنوان الشريك والشركة، لا من قبل نفسه، فالمبيع يخرج
من كيس الشركة، والثمن يدخل في كيسها، وكل واحد منهم يربح من
الكيس الكلي المشترك الفاني فيه الخصوصيات، ولذلك يقال بصحة
اشتراء أحد الشركاء لنفسه من الشركة، وإلا يلزم بطلان المعاملة
بالنسبة إلى حصته، لعدم معقولية اشتراء ما له لنفسه، فكما تنحل
الشبهة في هذه المسألة بالتقرير المشار إليه، كذلك تنحل في
أمثالها.
35
الدرس السابع
ما ألقاه سيدنا الأستاذ أبو القاسم الخوئي - مد ظله -
في مسألة المتوسط في الأرض المغصوبة
قائلا: إن في تلك المسألة اختلفت أنظارهم وتشتتت آراؤهم: فقد
يقال بالحرمة الفعلية في جميع التصرفات الخروجية والدخولية
على حد سواء (1)، وهو الحق.
وأخرى: يقال بوجوب الخروج (2).
وثالثة: يقال باستحقاقه العقاب وإن لم يكن الخروج واجبا ولا
محرما بالفعل. (3) والذي قيل في المقام: هو أن الامتناع بالاختيار لا ينافي
--------------------------------------------------------------------------------
1 - لاحظ مطارح الأنظار: 153 / السطر 30.
2 - مطارح الأنظار: 153 / السطر 33، أجود التقريرات 1: 374.
3 - كفاية الأصول: 204.
36
الاختيار، فهو يكون معاقبا على التصرف الخروجي أيضا.
وقال شيخنا الأستاذ: بأن تلك القاعدة لا تجري في المقام لوجوه:
منها: أن مجراها لا بد وأن يكون الملاك الالزامي والمبغوضية
التحريمية تاما، ويكون قصور الخطاب لأجل عجز المولى من الايجاب
والتحريم، كما في الحج، فإن الواجبات المعلقة ممتنعة، ولا يعقل
الخطاب الفعلي قبل البلوغ إلى المواقف، ولكن الملاك تام، بحيث لو
ترك المكلف المقدمات يستحق العقوبة على تفويت تلك المصلحة
الملزمة بإعدامها، أو المفسدة المبغوضة بإيجادها، ففي الواجبات
والمحرمات قد يكون الأمر على هذه الوتيرة، وحينئذ يصح التمسك بهذه
القاعدة.
وفيما نحن فيه - وهو الخروج الغصبي - لا يكون الأمر كذلك، لأن
ما هو الممتنع عليه بالاختيار، هو الجامع بين الخروج الغصبي والبقاء
الغصبي، والاضطرار إلى الجامع لا يصحح ارتكاب الفرد، وإلا يلزم
جواز شرب الماء النجس إذا اضطر إلى الماء، وكان عنده إناءان طاهر
ونجس، وهكذا في صورة الاضطرار إلى المائع، وعنده الخمر والماء،
ففي جميع هذه الصور لا يمكن دعوى صحة نفي الضرورة بارتكاب
الماء، فالاضطرار إلى الجامع لا يورث ارتكاب الفرد، وهكذا في مسألة
الاكراه على الجامع (1).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - أجود التقريرات 1: 374 - 377.
37
ثم قال - دام ظله - إن هذه القاعدة ليست من القواعد الشرعية
حتى يدعى انصرافها في صورة كون الامتناع تكوينيا، بل هي قاعدة عقلية
وملاكها العام يشمل الامتناعين: التكويني كما في الحج، والتشريعي كما
فيما نحن فيه، فالتصرف بالخروج مما لا بد منه، لأن مع تركه يبتلي
بالمحرم الأشد، وهو البقاء.
وما قاله من الأمثلة لا ينطبق على ما نحن فيه، لأن الأمر هناك يدور
مدار الجامع بين المحرم والمباح، وهنا يكون الجامع بين المحرمين،
فمقتضى القاعدة على هذا صحة العقوبة، ويكون المورد من مواردها،
كما لا يخفى.
أقول:
أولا: لم يظهر وجه لما قاله وحكاه من أنه اختار جريانها فيما إذا
كان الملاك تاما، وكان قصور الخطاب لأجل العجز الطارئ من سوء
سريرة العبد، فإنه مما لا شبهة فيه، ولكن لا ربط له بالمقام.
وثانيا: هذه القاعدة من القواعد الكلامية المحررة في محله (1)،
لتصحيح عقوبة العباد إذا أوقعوا أنفسهم في مخالفة المولى عن علم
وعمد، من غير نظر إلى مسألة صحة الخطاب وعدمها، ولا ربط بين
المسألتين، بل مقتضى ما تحرر منا في محله (2) صحة الخطاب إليه،
--------------------------------------------------------------------------------
1 - لاحظ تحريرات في الأصول 2: 52.
2 - تحريرات في الأصول 3: 453.
38
لعدم كونه خطابا شخصيا حتى يقال بامتناع نشوء الإرادة الجدية، مع
ابتلائه بامتناع صدور الفعل منه، أو عدم صدوره منه.
وثالثا: ليس الخروج والبقاء والدخول محرمة بعناوينها، بل
المحرم عنوان واحد، وهو الغصب. فتوهم الفرد الدخولي والخروجي
والبقائي غير تام، بل ما هو مورد الاضطرار هو المحرم، وهو الغصب، أو
التصرف في مال الغير، ومقتضى القاعدة أن العناوين المحرمة إذا كانت
ذات أفراد اختيارية بلا وسط، واختيارية مع الوسط، لا يكون العنوان
المحرم مخصوصا بالطائفة الأولى، بل الطائفة الثانية أيضا محرمة.
فتحصل من مجموع ما ذكرناه: أن الوجوب وخلو الواقعة عن الحكم
وأمثال ذلك كله من قصور الفهم، وإلا فالغصب محرم في جميع مصاديقه
والتصرف في مال الغير حرام، من غير فرق بين حالات المتوسط في
الأرض المغصوبة، حتى لو ندم في الأثناء وتاب وأراد الخروج، فإنه
يرتكب المحرم الشرعي المبغوض بالخطاب القانوني وإن لا يعاقب.
وتفصيل المسألة وكيفية الخطابات الكلية يطلب من محله ومحرره،
ولقد تعرضنا للمسألة بحدودها في كتاب الأصول (1)، ومن شاء فليراجع.
ثم إن ما أورده عليه: بأن الامتناع أعم من التكوين، خال من
التحصيل، فإن الممتنع التشريعي ليس كالممتنع العقلي - على ما تقرر
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 4: 259 - 267.
39
في تحريراتنا (1) - لأن ذلك يستلزم قبح التكليف كما في التكوين، فلو كان
الخروج مورد الاضطرار بحكم العقل والشرع، يلزم امتناع الخطاب
بعنوانه، مع أنه بالضرورة باطل، لامكان الخروج، وشرط الخطاب
- وهو إمكان المكلف به - حاصل، فالمراد من الامتناع في القاعدة هو
الامتناع العقلي والتكويني، وأما الاضطرار إلى الخروج فهو ممنوع.
نعم، إذا كان ناظرا إلى حكم الشرع ومبغوض المولى والأهم
والمهم، فهو - حينئذ - لا بد أن يختار الخروج، فرارا من العقاب الأشد مع
قبح الخروج وحرمته وصحة العقوبة عليه، لأن ترك الأقبح باختيار
القبح لا يورث قصورا في قبحه ومبغوضيته.
فتحصل: أن التمسك بالممتنع الشرعي كالممتنع العقلي، في غير
محله، وقد تمسك به الأعلام كثيرا في مختلف المسائل (2)، كما لا يخفى.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 4: 182 و 185 و 191.
2 - جواهر الكلام 4: 184، و 5: 235، كفاية الأصول: 172، أجود التقريرات 1: 281
و 332 و 368، نهاية الأصول: 217، مستمسك العروة الوثقى 12: 209، التنقيح في
شرح العروة الوثقى 9: 444.
40
الدرس الثامن
ما ألقاه الوالد المحقق - مد ظله -
حول التمسك بعمومات الشروط على صحة المعاطاة
إن الشرط - بحسب اللغة والعرف - هو الالتزامات الضمنية
والمعهودة في العقود. وهذا مما لا شبهة فيه.
وقد يطلق على ما علق عليه الشئ الآخر، ومنه القضية
الشرطية وكلمة الشرط في الكتب النحوية والعقلية، وهذا هو
المعروف بين أبناء العصر ب الشرط بندي، فإنه وإن لم تساعد عليه
اللغة، إلا أن العرف والاستعمالات في مختلف الكتب والفنون تساعد
عليه.
وأما إطلاقه على الأمور الابتدائية، كالبيع والإجارة والمعاطاة، فهو
41
غير معلوم، بل ممنوع (1).
والكلام بعد ذلك يكون في مقامين:
أحدهما: في دعوى القدر الجامع بين المعنيين الأولين، وقد أنكره
لعدم السنخية الذاتية بينهما، وما يقال: من أن الالتزام والربط وأمثالهما
جامعهما (2)، غير تام لأجمعيته عنهما وأشمليته منهما، فإطلاق الشرط على
ما في ضمن العقد هو المقصود من تلك الأدلة، لتمسكهم في المآثير بها
في مثلها، فدعوى إجمالها أو انصرافها إلى الثانية، غير مسموعة،
فالقدر المتيقن دخول المعنى الأولي فيها (3).
ثانيهما: حول دعوى إلحاق الشروط الابتدائية بالشروط
الضمنية حكما وإن لم تلتحق بها موضوعا.
وتدل عليها: أن الروايات في مختلف الأبواب تتضمن ذلك، وأطلقت
الشرط على المعاني الاستقلالية، وهكذا في بعض الأدعية.
واستشكل - مد ظله - في تماميتها: بأن الاطلاق أعم من الحقيقة،
فمع فقد القرينة لا يمكن التمسك بالعمومات.
هذا لو كان أريد منها كشف المعنى الحقيقي والالحاق الموضوعي.
وأما لو أريد منها الالحاق الحكمي فهو - أيضا - غير تام، لأن مقتضى
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 87 - 88.
2 - لاحظ حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 2: 61 / السطر 7، حاشية المكاسب،
المحقق الأصفهاني 2: 138 / السطر 13.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 89.
42
التتبع فيها أنه في كثير منها أطلق على المعنى الثاني، وفي بعض منها
أطلق بلحاظ الضمنية، وليس أطلق الشرط على البيع من غير وجود
الجهة المقتضية له من الجهتين الأوليين.
وقد تعرض - مد ظله - لعدة روايات وأنهاها إلى أكثر من عشرين، ولم
يرض بما قيل فيها، ودعوى الحدائق (1) وإن كانت صادقة في أصل إطلاقه
عليها، إلا أن نكتة الاطلاق خفيت عليه (2).
فتحصل: أن الأدلة بمدلولها المطابقي قاصرة عن تصحيح الشروط
الابتدائية والمعلقات العرفية.
نعم، بعد إلغاء الخصوصية من القيود المأخوذة فيها، ودعوى فهم
العرف ذلك، ومساعدة العقلاء عليه يتمكن من تصحيح جميع المعاهدات
العرفية القديمة والجديدة (3).
أقول: لنا بحثان:
الأول: أن المعاملات وإن لم تكن بصورة الشرط والقضية
الشرطية، إلا أن كلها يتضمن القضية الشرطية، ويكون تسليط أحد
المتعاملين المتعامل الآخر على ما له، مشروطا بالمقابلة وأن يصنع به
ما صنعه به، وربما يصرحون بتلك القضية ويقول: هذالك إن أعطيتني ذلك
من غير إرادة الهبة المعوضة، بل يريدون به البيع بتلك الصورة.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - الحدائق الناضرة 20: 73.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 90 - 91.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 93.
43
فبالجملة: لا إطلاق بلا شبهة في تعويض الشئ بالشئ، بل
التعويض معلق على تعويض الآخر وقبوله. فعليه يمكن دعوى جريان
مفهوم الشركة في جميع المعاملات.
نعم، هو الشرط بالمعنى الثاني، دون الأول، ولا يخفى أن الجعالة
هي القضية الشرطية بهذا المعنى، لأنها هي أن يقول: من رد علي عبدي
فله كذا، فيعلم منه أن العقود كلها كذلك، ولكن بعضها الصريح فيه،
وبعضها يتضمن ذلك.
الثاني: إطلاق الشرط على المعنى الأول ليس إلا لاستلزامه
المعنى الثاني، وأنه لكونه عند انتقائه وتخلفه يورث الخيار
والتسليط على الأعدام، يعبر عنه بالشرط، فقوله: بعت هذا بهذا على أن
تخيط لي ثوبا عقد متضمن للشرط، أي لما لو لم يعمل به يتزلزل العقد، كما
يكون شأن الشرط في سائر الأمور، فإنه بعدمه ينتفي المشروط، وعدم
انتفائه فيما نحن فيه رأسا لا يورث استقلاله في المعنى حتى يكون
المعنى الأصلي ذلك، فالمعنى الأصلي الأولي هو المعنى الثاني الدارج
في جميع العلوم والفنون، ومن ذلك انتقل مفهومه إلى المعنى الأول، فما
اختاره في المسألة غير تام، ولأجله يصح أن يقال في ضمن العقد بعد ذكر
الشرط: إن لم تخط لي ثوبي فلا تعاهد بيني وبينك، فإنه عند ذلك لو تخلف
يبطل العقد من غير حاجة إلى إعمال الخيار لابطاله.
فتحصل: أن حقيقة الشرط هو المعنى المعروف في الصلاة، وهو
44
الأمر الدخيل في الشئ الخارج عن هويته وماهيته، والشرط في
ضمن العقد أيضا شرط لأجل خروجه عن ماهية العقد، ولكنه دخيل في
الأثر المطلوب منها، ومناط لتحصيلها.
وهذا قد يكون مذكورا صريحا، كما في القضايا الابتدائية وفي
الجعالة، وقد يكون مطويا في المطا لب، وما يقال في القضية
التعليقية أنها قضية شرطية، هو أيضا يرجع إلى الدخالة في حصول
الشئ وترتب الأثر عليه، فجميع المعاني ترجع إلى معنى واحد.
نعم، المعاملات المتعارفة الخالية عن التعليق والشرط
بالمفهوم وإن تضمنت القضية الشرطية إلا أنها ليست مشمولة
للعمومات في المسألة عرفا. نعم عقد الجعالة مشمول لها بلا شبهة، وكل
الشروط الابتدائية - المذكورة بهذه الوتيرة - تكون مشمولة لها كما لا
يخفى.
ثم إن قضية إلغاء الخصوصية فيما نحن فيه غير معلوم جريانه،
لأنه نرى من العقود ما ردع عنها الشرع، فمجرد التعاهد والعقد ليس
تمام الموضوع، للزوم الوفاء حتى يقال بصحة المعاطاة.
وتفصيل المسألة في كتاب الشروط، ولقد تعرضنا لحدود هذه
العمومات في مباحث الإجارات (1)، فمن شاء فليراجع.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه للمصنف (قدس سره) مفقود.
45
الدرس التاسع
ما أفاده السيد الأستاذ الشاهرودي - مد ظله -
في مسألة العلم الاجمالي
بأن هذين الثوبين الموجودين عنده مرددان بين الغصبية
والنجاسة، بأن يدور الأمر بين الغصبية والنجاسة، فإنه إن علم
بالغصبية والنجاسة ولم يعلم شخص المغصوب والنجس، فإنه يعلم
بالمانع تفصيلا، فلا يجوز له الصلاة في الثوبين جمعا وتدريجا.
وأما لو لم يعلم إلا إحداهما: الغصبية أو النجاسة، فإنه مقتضى
الصناعة جواز الصلاة في كل واحد منهما تدريجا، لأن الممنوع هو معلوم
الغصبية والنجاسة، وذلك منفي، لعدم العلم بنجاسة ما يصلي فيه ولا
غصبيته بالضرورة.
46
وبعبارة مني: لا يكون العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في تلك
الجهة، وهو لو كان الثاني مأخوذا جزءا في الموضوع، فلو ورد النهي
عن الصلاة في معلوم الغصبية، فإنه لو علم إجمالا بغصبية شئ يجوز له
الصلاة فيه، لعدم كونه معلوم الغصبية.
هذا حسب القواعد، ولكنه مما يشكل الالتزام به، ولو أمكن
الاشكال في جواز الصلاة في مشكوك النجاسة، لاشتراط الطهارة،
وعندئذ لا تصح الصلاة، للزوم إحراز الشرط، لا يمكن ذلك في الطرف الآخر، لعدم اشتراط الإباحة، بل الظاهر مانعية الغصب، ولو أمكن جر
الشبهة إلى هنا أيضا، فلنا فرض العلم الاجمالي فيما كان الطرفان من
الموانع في الصلاة.
مثلا: لو علم إجمالا بأن هذا الثوب أو ذاك من شعر الهرة، فإن
الممنوع ليس وجوده الواقعي حتى يتنجز بالعلم بل الممنوع هو
وجوده المعلوم، ومع العلم الاجمالي لا يكون كل واحد في حد نفسه
معلوما، فالقيد الآخر للمانعية - وهو المعلومية - غير محرز، فتصح
الصلاة، مع أن الالتزام به مشكل جدا. هذا في الثوبين.
وما قيل يأتي في الثوب الواحد المعلوم غصبيته أو نجاسته، فإنه
بناء على أن مفاد صحيحة ابن أبي عبد الله (1)، اشتراط المانعية بالعلم
--------------------------------------------------------------------------------
1 - عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه
عذرة من انسان أو سنور أو كلب، أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لا يعلم فلا يعيد.
وسائل الشيعة 3: 475، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 40، الحديث 5.
47
بالنجاسة، تجوز الصلاة فيه، لأن المانعية من قبل النجاسة ممنوعة،
ومن قبل الغصب مرفوعة بالبراءة، فعندئذ يجوز الصلاة عالما عامدا في
هذا الثوب.
نعم، يمكن الشبهة، لأجل أن الغصبية ليست مانعة، بل الإباحة
شرط، أو عدم الغصبية، وأن النجاسة كذلك، بل المانعية غير متصورة،
وترجع الموانع الشرعية إلى القيود العدمية والشروط السلبية، ولا
يمكن الرجوع بعد ذلك إلى الأصول العملية. وهذا - أيضا - خلاف فهم
الفقهاء.
والذي يظهر لي: هو أن المانعية قابلة التصوير بوجه فصلناه في
رسالتنا المعمولة في قاعدة لا تعاد (1). ولكن الغصبية ليست من
الموانع، بل الإباحة شرط، بخلاف ما لا يؤكل لحمه، فإنه مانع في الصلاة
حسب ظواهر الأدلة وفهم العموم، إلا أن الشئ قد يكون مانعا بوجوده
الواقعي، فإنه - حينئذ - يجب الإعادة حسب القواعد لو تبين وجوده في
الصلاة، وحيث لا تجب فربما يستظهر ابتداء أمران: مانعية المعلوم، فيكون
العلم جزء الموضوع، ومانعية الشئ بوجوده المنجز، فيكون صفة
المنجزية جزءا، سواء حصلت من العلم التفصيلي، أو الاجمالي، أو
الحجة الشرعية، كالاستصحاب ونحوه، أو الطرق العرفية العقلائية
الممضاة، كخبر الواحد والبينة ونحوها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - رسالة في قاعدة لا تعاد للمؤلف (قدس سره) (مفقودة).
48
وتوهم: دلالة قوله (عليه السلام) في الصحيحة - بعد السؤال عن الصلاة
في الثوب النجس -: إنه لا يعيد إذا كان جاهلا على دخالة العلم
بعنوانه في المانعية، فاسد جدا، لعدم أخذه فيها، بل غاية ما يعلم منه أن
مع الجهل لا يعيد، وهذا يحتمل وجوها:
الأول: أن يكون الشئ بوجوده الواقعي مانعا، ولكنه إذا ارتكبه
حال الجهل لا تكون الإعادة واجبة لمصالح أخر، لا لأجل صحة
الصلاة، كما في القصر والاتمام، والجهر والاخفات.
الثاني: أن يكون حال الجهل غير مانع، من غير كون العلم شرطا،
حتى يلزم جواز الصلاة حال العلم الاجمالي، بدعوى أنه ليس علما.
وبعبارة أخرى: لو كان العلم جزء الموضوع يمكن دعوى ظهوره في
التفصيلي.
وأما لو كان الجهل مانعا عن مانعية الشئ، فهو منصرف إلى
الجهل المطلق، دون العلم الاجمالي، مع أنه لو كان العلم شرطا وقيدا،
فمع الشك فيه مقتضى الأصل جواز الصلاة للشك في المانع.
وأما لو كان الشئ بوجوده الواقعي مانعا، ويكون الجهل مانعا عن
مانعيته، فإنه في الشبهة الحكمية لا بد من الاحتياط، للعلم بالمانع
والشك فيما يمنع به المانع.
الثالث: أن يكون الممنوع وجوده المنجز.
الرابع: أن يكون الممنوع وجوده العلمي.
49
الخامس: هو أن يكون العلم جزء الموضوع على الطريقية، بناء
على تصويره، لا الصفتية.
السادس: أن يكون العلم الطريقي جزء الموضوع بقاطعيته في
الطريقية لا ظنيته، فإنه على الصفتية لا تقوم مقامه الأصول
والأمارات، وهكذا على الطريقية بالمعنى الأخير، لأنها طرق غير قطعية.
وهذا هو المحتمل قويا في عدد الركعات في الثنائية والثلاثية،
كما احتمله الفقيه اليزدي في رسالته المعمولة في ذلك
المطبوعة (1)، فليراجع.
هذا كله بحسب الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات والاستظهار، فلا بد من ملاحظة الأخبار
والنظر في مقتضى الجمع بينها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي: 8.
50
الدرس العاشر
ما ألقاه السيد الأستاذ الوالد - مد ظله -
في مسألة إفادة المعاطاة الملكية المتزلزلة والمستقرة
وأن المسألة - من حيث الأدلة الاجتهادية والعملية - كيف تكون؟
وسيتعرض لمفاد الأولى (1)، وقال في مقتضى الثانية باستصحاب
الملكية، وأن فسخ المشتري أو البائع لا ينفسخ، لعدم الدليل على
الانفساخ، ومقتضى الشك بقاؤها.
وقد أورد إشكالات في المقام:
فمنها: أن استصحاب الكلي - القسم الثاني - غير جار، والمسألة
من هذا القبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - يأتي في الدرس 20 و 22 و 24 و 26 و 29.
51
ومنها: أنه لا أثر لهذا الاستصحاب، لأن الأمر الجامع بين الملكيتين
ليس من المجعولات الشرعية والأحكام الإلهية.
ومنها: أنه لو فرضنا جريان الاستصحاب الكلي فهو هنا غير جار،
لأن الجامع بينهما غير معقول، لاختلافهما في تمام ذاتهما، وهما متفاوتان في
هويتهما ومتباينان في الحقيقة، ضرورة أن المستقرة هي ما لا تزول
بالمزيل، والمتزلزلة هي ما تزول به، ولا جامع بين هذين الأمرين.
ومنها: أنه من الشك في المقتضي، وحجية الاستصحاب فيه محل
الاشكال.
والظاهر جريانه لتمامية شرائطه وأركانه. وما قيل في محله: من
عدم جريان القسم الثاني فهو تام، إلا أن العرف لا يساعد عليه، ونفي
الجامع بين القصير والطويل عقلا، لا يورث نفيه عند العرف على ما
تقرر في محله (1).
ودعوى: لغوية الاستصحاب، غير مسموعة، لأن الجامع الانتزاعي
ليس من المجعولات الشرعية في التكاليف الالزامية، كالجامع بين
الحرمة والوجوب، بخلاف الجوامع الاعتبارية العقلائية
في الموضوعات العرفية، فالملكية من الجوامع العرفية بين
الملكيتين، وبقاؤها مع قطع النظر عن الخصوصيات ربما يستلزم الأثر،
ولا حاجة إلى الأزيد منه بنظر العرف في مفاد قوله (عليه السلام): لا تنقض
--------------------------------------------------------------------------------
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 84 - 86.
52
اليقين بالشك (1).
وتوهم: عدم وجود الجامع، مضروب عنه، لأن الملكيتين ليستا
متقابلتين بالسلب والايجاب، ولا بالعدم والملكة، بل هما اعتباران
وجوديان مختلفان في الحكم العقلائي والأثر، من غير فرق بينهما ذاتا، مع
أن الاختلاف في الهوية والذات، لا يورث نفي الجامع إذا كان الأثر
مترتبا على ذلك الجامع البعيد أيضا.
وما قرع سمعك من الشبهة في المسألة لأجل أنها من الشك في
المقتضي مدفوع:
أولا: بعموم حجيته.
وثانيا: بأن المسألة من قبيل الشك في الرافع، لأن الكلام في أن
هذه الملكية - سواء كانت متزلزلة أو مستقرة - لا تزول إلا بالفسخ، وهذا
هو معنى كون الشبهة في بقائها من قبيل الشك في الرافع، كما لا يخفى (2).
والذي هو التحقيق منا في مقامه: أن الاستصحاب في القسم الثاني
جار عقلا وعرفا والتفصيل في محله (3)، وما تخيله من عدم جريانه عقلا
خال عن التحقيق، وأن الأثر المقصود في الاستصحاب ليس الحكم
التكليفي المجعول من قبل الشرع، بل هو الأعم منه ومن كل ما يكون
--------------------------------------------------------------------------------
1 - وسائل الشيعة 8: 217، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10،
الحديث 3.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 94 - 99.
3 - تحريرات في الأصول 8: 464.
53
التعبد به موجبا للأثر كالجوامع الانتزاعية، ولذلك تجري الأصول في
عدم الأحكام الكلية مع أنها ليست مجعولة.
فما اشتهر: أن المستصحب لا بد وأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا ذا
حكم شرعي (1)، غير تام، لجريان الأصول الموضوعية في الأعدام
المضافة لنفي الأثر عن المضاف إليه.
والوالد كان يعتقد بذلك، إلا أنه لا يلتزم به فعلا، فالملكية
الانتزاعية تستصحب والأثر مترتب عليها.
اللهم إلا أن يقال: بأن الجامع بين الوجوبين الشرعيين مورد
الأثر، لأن بقاء الالزام تعبدا موضوع للزوم الطاعة والإطاعة، بخلاف
الجامع بين الموضوعين وإن كانا من الأحكام الوضعية كالملكية، لعدم
الأثر له.
نعم، ربما يمكن دعوى مساعدة العرف على مثل ذلك الجامع، وأنه
يعتبره في المتعددات المملوكة، فتأمل جدا.
وربما ينفعك بعض الكلام في جريان الاستصحاب الشخصي في
المسألة، كما لا يخفى.
ومن تلك الاشكالات: أن استصحاب الملكية محكوم لاستصحاب
عدم حدوث الملكية المستقرة، لتسبب شكه من شكه (2).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كفاية الأصول: 394 و 422، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4:
458 و 471، تهذيب الأصول 2: 397 و 575.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي: 73 / السطر 8.
54
وفيه: أنه من المثبتات الواضحة، ضرورة أن نفي الفرد لا يكون
أثره الشرعي نفي الكلي، سواء قلنا بأن الطبيعي موجود بذاته، أو قلنا
بأن الفرد علة وجود الطبيعي، فإنه على الثاني واضح، وعلى الأول هما
مختلفان في عالم الاعتبار والموضوعية للحكم، فتدبر (1).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 96 - 97.
55
الدرس الحادي عشر
ما ألقاه الشيخ باقر الزنجاني - مد ظله -
في مسألة إحراز عنوان المخصص بالاستصحاب
في الفروض المختلفة
قائلا: إن أخذ الوجود والعدم المحمولين في دليل على نعت
الكثرة، لا التقييد والتركيب، مما يمكن ثبوتا، ويحرز بالاستصحاب
إثباتا، وأما العناوين المنتزعة من الوجودين المأخوذين في موضوع
الحكم وإن كانت دخيلة في الموضوع، إلا أن إحراز منشأ الانتزاع يكفي
لاحرازها، لعدم وجود لها إلا بتلك المناشئ، ولا أثر لها إلا بها.
فعلى هذا لو ورد: أكرم زيدا إذا كان زيد في الدار وعمرو فيها، وكان
56
وجود زيد محرزا بالوجدان، وعمرو محرزا بالأصل، فإنه يجب الاكرام،
وأما لو كان معنى المقارنة دخيلا في الحكم، فهو أيضا حاصل، لعدم وجود
لها منحازة إلا بهما، وهكذا في مسألة السبق واللحوق، فتلك العناوين لو
كانت دخيلة، فهي تحصل بالاستصحاب الجاري في الموضوعين، سواء
كانا وجوديين، أو عدميين، أو وجوديا وعدميا، وعلى جميع التقادير
سواء كان مفاد الناقصة أو التامة، كان كانت أوليس، فإنه - في
جميع الصور - إن دل الدليل على اعتبار المقارنة أو السبق واللحوق،
فلا يكون الأصل مثبتا، وإن لم يدل دليل عليه بدال مخصوص، فالواقع لا
يخرج عن أن يكون تلك العناوين دخيلة لامتناع الانفكاك، كما لا يخفى.
فما أفاده المشهور من جريان الأصول في محله، إلا أن القوم ذهبوا
إلى عدم الدخالة، فلا يكون الأصل مثبتا.
وما هو التحقيق: هي الدخالة وعدم لزوم الأصل المثبت، لأن مع
فرض الوجودين لا بد من إحراز المنشأ للانتزاع. وهذا هو مفاد ما حققه
شيخنا الأستاذ في مباحث اللباس المشكوك.
والذي يظهر لي: هو أن الخلط بين التكوين وبين كيفية جعل الشئ
موضوعا للحكم، أورث أن يقع القوم فيما وقعوا فيه، وذلك أن المسائل
العقلية تؤخذ من الخارجيات، من غير دخالة لحاظ أحد فيه، فيكون
المرجع الوجدان والشهود والبرهان، والموضوعات المأخوذة في
الأدلة تابعة للحاظ المولى ثبوتا ويؤخذ ذلك من الدلالات الواقعة منه
57
في كلامه وخطابه، من غير دخالة الأمور المقارنة والملازمة معه في
موضوعية ذلك الموضوع، بحيث لو أمكن التفكيك لبقي الموضوع
الشرعي بحاله في موضوعيته.
فعلى هذا: تارة يكون الموضوع الأمرين الموجودين في زمان واحد
من غير لحاظ المقارنة، وهكذا في السبق واللحوق، وأخرى يلاحظ ذلك
في الموضوع، فإن دل الدليل على الأول فالاستصحاب ينقح الموضوع،
وإلا فلا، والملازمة العقلية بين المنتزع والمنتزع منه لا تستلزم
الملازمة الشرعية.
ولعمري إن ما توهمه من الأصل أظهر مصاديق الأصل المثبت، كيف
والتفكيك بين المتلازمين معمول به في التعبد، فضلا عما نحن فيه، فما
تخيله - مد ظله - ساقط، كما أن ما ذهب إليه الآخرون: من أن التقارن
غير مستفاد من الدليل، غير محصل، لأن الكلام في المسائل فرضي، وذلك
مما يمكن. ومما يترتب على ذلك: أن أخذ القضية بنحو الكثرة دخيلة في
الحكم، لا يعقل إلا فيما كانت تلك القضية معلقا عليها الحكم، لا أن تكون
موضوعة، فإن الحكم الواحد لا يتعلق بالكثرات لتشخص الإرادة
بالمراد، ولا يعقل جعل الحكم الواحد على الكثير بما هو كثير على ما
تحرر في محله (1).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 3: 444 - 445.
58
فإذا كان الأمر كذلك ففي جميع الموضوعات لا يعقل إحراز جزء منه
بالأصل والجزء الآخر بالوجدان مما بينهما من المعنى الحرفي الرابط،
وفي المعلقات عليها الأحكام تفصيل بين استظهار العناوين المذكورة
وعدمه، فافهم ولا تغفل.
59
الدرس الثاني عشر
ما ألقاه سيدنا المحسن الحكيم - مد ظله -
في مسألة عقد الشركة وجوازه
وقد مر منا تحريره (1).
وقال بعد تكرار المسألة: إن عقد الشركة بمعنى التشريك في
الأموال، فيقول فلان لصاحبه: أنا شاركتك فيما أشتريه، أو في ما لي، أو في
هذا الدرهم، فإنه يحتاج إلى القبول، ويكون عقدا لازما، لعموم (أوفوا
بالعقود) (2) وأصالة اللزوم، وعقدها بمعنى الإذن في الاتجار، فهو ليس من
العقد على تفصيل مضى منا (3).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تقدم في الدرس السادس.
2 - المائدة (5): 1.
3 - تقدم في الدرس السادس.
60
وقد عرفت ما في مختاره، فإن الشركة بالمعنى الثاني - المسماة
بالشركة العقدية - هي العقد على أن تحصل الشركة في المنافع
المترتبة عليها والآثار والثمرات الحاصلة من الاتجار بها، بحيث تكون
مشتركة بينهما، وربما تكون على وجه لا يمكن تمييزها وإن حصلت مع
التمييز أيضا أحيانا.
ولو صح رجوع العقود المتعارفة العقلائية - بدعوى ارتكازهم
على ذلك وإن لم يكونوا مشعرين بها - إلى العقود المعروفة، لكانت ترجع
المضاربة والمساقاة والمزارعة إلى نوع من الإجارة مع الشرائط في
ضمن عقدها، فالاشتراك في الأثر واللازم، لا يورث رجوع الموضوع إلى
الموضوع الآخر إلا مع الاتحاد في الآثار والاعتبار، كما لا يخفى.
ودعوى لزوم الشركة بالمعنى الأول ممنوعة، لأنه عبارة أخرى
عن هبة المشاع بلفظة الشركة، وهذا مما يرتكزه العقلاء، فافهم ولا
تغفل.
61
الدرس الثالث عشر
ما أفاده السيد الوالد - مد ظله -
في مسألة جريان الاستصحاب الشخصي في الملكية
الحاصلة بالمعاطاة، المرددة بين المتزلزلة والمستقرة
فقال: يمكن دعوى عدم جريانه، لأجل أن الملكية اعتبار مقولة
الإضافة أو الجدة، وهما لا يتقبلان الاشتداد والضعف، وليستا ذات مراتب،
فهي من الكليات ذات الأنواع، فلا يعقل جريان الاستصحاب
الشخصي، لأن الموجود في الخارج: إما صنف المتزلزل، أو المستقر،
وحيث لا يعلم الخصوصيات الفردية، فلا يعلم الشخص حتى يستصحب،
وما هو المتيقن هو الجامع بينهما، وهي نفس الملكية.
62
فما أفاده الشخص من استصحاب الجزئي في غير مقامه.
ولنا دعوى جريانه بتقريب منا: وهو أن الملكية ليست من
المقولات قطعا، واحتمال كونها اعتبار إحدى المقولتين، مدفوع: بأن
المقولات متأخر زمان العلم بها عن اعتبار الملكية، فعندما يعتبرها
العقلاء لم يكن يعلم بالمقولات أحد من الفلاسفة بالضرورة، فضلا عن
أهل السوق والبوادي وكونها اعتبار المقولة، لا يستلزم سريان جميع
أحكام المقولة إليها، حتى لا تكون ذات مراتب، ولم يجر فيها التشكيك
الخاصي.
فالحق أنه اعتبار من غير لحاظ المقولة في ذلك، ولا شبهة أنها
كسائر العقود والاعتباريات، ليست من العلل والمعاليل التكوينية،
حتى يكون في البين تأثير وتأثر، فيقال: بأن الملكية معلول العقد
كمعلولية الحرارة للنار وأمثالها.
وهكذا لا شبهة في أن لزوم الملكية وجوازها، ليس من الآثار
القهرية الحاصلة من لزوم العقد وجوازه، ولا مبدءا تكوينيا للزوم العقد
وجوازه، حتى يكون لزوم السبب من آثار لزوم المسبب، أو يستند إليه
بالمجاز والعرض، أو يكون اللزوم مستندا إلى السبب بالذات وإلى
الملكية بالعرض وهكذا.
بل التحقيق: أن اللزوم والجواز من اعتبارات الأسباب والعقود،
ويكون عند العقلاء العقود على صنفين: لازمة وجائزة والملكية
63
الحاصلة من العقود ليست شديدة وضعيفة حتى يتوهم التشكيك
الخاصي فيها، بل السبب إذا كان عقدا لازما، فهو يورث الملكية الغير
المنفكة بالفسخ، وإذا كانت عقدا جائزا فهو يورث الملكية المنفسخة
بأسبابه، وذلك ليس معناه اشتداد المعنى الاعتباري، كما يتصور في
الماهيات الحقيقية، بل الزوال وعدمه من آثار الأسباب.
فالملكية الحاصلة من العقد المردد بين الجواز واللزوم، هي
الملكية الشخصية، لأن الجواز واللزوم ليسا من الجهات الدخيلة في
النقل والانتقال، بل العقد بعنوانه دخيل في النقل، وإيجاد الملكية
والجواز واللزوم الطارئ عليه، لا مدخلية له في النقل بالضرورة.
وإن شئت قلت: لو فرضنا أن المسألة من قبيل المسائل التكوينية،
وأن العقود تؤثر في معا ليلها، فالذي هو المؤثر ليس الجواز واللزوم
بالقطع واليقين، بل المؤثر هو الحيثية العقدية، فالاستصحاب
الشخصي جار لعدم اختلاف الأثر بين العقد اللازم والمتزلزل، بل
الملكية الحاصلة منهما معنى واحد شخصي، واعتبار خاص جزئي،
وجواز الفسخ وانتقال الملكية وزوالها من آثار خصوصية الجهة
الناقلة، وهو اللزوم والجواز، فلا تغفل.
ثم إنه إذا جرى الاستصحاب الشخصي، يمكن إجراء الكلي القسم
الأول منه، كما لا يخفى (1).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 99 - 101.
64
هذا ما أفاده المحقق النحرير في المسألة، وما قاله وإن وافقناه في
أصل المسألة، إلا أن اللازم علينا الإشارة إلى نكتة فيها وهي: أن اللزوم
والجواز من الأحكام العقلائية للعقد، وليسا من الآثار، ولا ذوي الدخل
في التأثير، فلا يكونان من قيود المؤثر، ولا من قيود الملكية المتأثرة،
وصفة الاستقرار والتزلزل، من الصفات الاعتبارية المنتزعة من
الحكمين الثابتين للعقود، فما ظنه: من أنهما من قيود المؤثر وإن لم يكونا
دخيلين في التأثير، غير تام، كما أن نفي التشكيك الخاصي من الملكية،
لا يورث نفي التشكيك العامي، ولذلك اختار الفقيه اليزدي في ملحقات
العروة صريحا - وغيره في غيرها كثيرا -: أن الملكية ذات مراتب (1)،
والمراد منه اختلافها في الأحكام والآثار.
بل الوالد - مد ظله - اختار في حواشيه على إرث الملا هاشم
الخراساني الملك الضعيف بالنسبة إلى مراتع القرى والقصبات (2)،
فراجع.
ثم إن الملازمة بين جريان الاستصحاب الشخصي والكلي القسم
الأول ممنوعة، كما فيما نحن فيه، فإنه يصح دعوى بقاء الملك
الشخصي، ولكنه لا يعتبر الملك الكلي على حذو الاستصحاب
الشخصي، وبيانه يعرف بالرجوع إلى المثال.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 4 / السطر 33، الإجارة، المحقق الرشتي: 13 /
السطر 24.
2 - حاشية الإمام الخميني (قدس سره) على إرث ملا هاشم الخراساني (مخطوطة).
65
ففي مثل العلم بوجود زيد في الدار، يعلم وجود الانسان في الدار،
فيستصحب كل واحد على حدة، ويترتب عليه الأثر المقصود، وربما يغني
أحدهما عن الآخر، أو الشخصي عن الكلي، أو بالعكس على تفصيل تقرر
في محله (1).
وأما إذا علم بوجود ملكية الدار لزيد بالعقد المعاطاتي، فلا يعلم
بالملكية الكلية، بل يعلم بملكية مضافة إلى الدار، والمضاف إلى
الشخصي والجزئي في مثل المسألة جزئي.
نعم، يمكن دعوى إجرائه في موقف آخر، وهو أنه بعد العلم
المذكور يعلم بمالكية زيد لشئ، وإذا فسخ العقد يشك في بقاء العنوان
المزبور، ولكنه ليس على حذو الاستصحاب الشخصي، ولا يعقل دعوى
كفاية أحد الاستصحابين عن الآخر، فافهم وتدبر.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 8: 455 - 458.
66
الدرس الرابع عشر
ما ألقاه سيدنا الأستاذ الشاهرودي - دام مجده -
في مسألة العلم الاجمالي
بأن أحد الشخصين دائن أو الأشخاص
بشرط أن لا تكون غير محصورة، فإنه في هذه الصورة ربما تكون
من المجهول المالك والداخلة في أحكام المظالم:
فقال: قد يقال بالقرعة، وقد يقال بالتنصيف بعد لزوم تحصيل
الرضا، والظاهر هو التقسيم بالنسبة، وذلك لأن العلم بالاشتغال محرز،
ولزوم التفريغ معلوم، فإن أمكن التراضي وإن لم يعط شيئا فهو، وإلا فلا
وجه للقرعة، لأنها موضوعة لمواقف لم تكن الحجج الأخرى جارية
67
حتى الأصول العقلائية، وفيما نحن فيه مقتضى الأصل العقلائي هو
التقسيم بالنسبة، وأما التنصيف فهو غير تام، لأن اختلاف الدائن في
مقدار الدين، يورث عند العقلاء أن يكون المال على نحو المال المبذول
للغرماء.
وتوهم: أن الشبهة المحصورة كغير المحصورة، فيكون الدين
مظلمة ومجهول المالك، في غير محله.
وكان يظهر منه - حفظه الله تعالى - عدم لزوم الاحتياط بأداء الدين
بالأشخاص، ولعله لأجل استلزامه الضرر المفروغ نفيه، فليتدبر.
وعدم قبول الدائن بعنوان الدين لا يورث خللا في تكليفه، إذا
تمكن من أدائه ولو بالعناوين الأخر على زعمه، كما لا يخفى.
أقول: فيما ذكره مواقف للنظر، ولما يكثر النفع فيه لا بأس بالإشارة
إليها. وقد عنون الأصحاب المسألة:
ويظهر من الفقيه اليزدي وجوها في المسألة: إرضاءهم بأي
وجه كان أو وجوب اجراء حكم مجهول المالك عليه، أو استخراج
المالك بالقرعة، أو توزيع ذلك المقدار عليهم بالسوية، واختار
الأخير ولعل اختيار التسوية لمفروضية تساوى الديان (1).
والتحقيق: أن مقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط بحكم العقل،
وعليه يجب دفع الدين حتى يعلم بالفراغ.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 2: 381، كتاب الخمس، فصل فيما يجب فيه الخمس، المسألة 30.
68
وتوهم: لزوم الضرر وهو منفي، في غير محله، لأن ما يستلزم الضرر
هو حكم العقل دون الشرع، وما هو المنفي على الفرض - طبق اقتضاء
القاعدة - هو الحكم الشرعي. وأما جهلنا بالواقعة، وسوء تدبيرنا، وعدم
ضبط الدائن وذي الحق، وغير ذلك، فهو ليس منفيا، ولا ذا حكم منفي.
وما توهمه: من عدم جريان أدلة القرعة فيما نحن فيه لأجل الأصل
العقلائي، في غاية الوهن، لأن جميع موارد القرعة يجري فيه هذا
الأصل، وهو التقسيم بالنسبة أو السوية، فعدة من أخبارها في مورد
اختلاف الوارث والمورث حياة ومماتا، والجهل بحالهم... وهكذا، فلو
كان الأمر كما توهمه، يلزم سقوط أصل القرعة، وسقوط الأخبار
المتمسك بها في تلك المواضع، فلا تغفل.
نعم، في مورد العلم الاجمالي فليس الأمر مشكلا، لحكم العقل في
المسألة.
اللهم إلا أن يقال: إنها لكل أمر مجهول، وهو يشمل المورد.
وفيه: أن الظاهر رجوع مفهوم الجهل إلى الاشكال، لأنه يورثه.
هذا بناء على التمسك بعمومات القرعة في غير مواقف فتوى
الأصحاب وعملهم بها، كما ذهب إليه الوالد المحقق - مد ظله - وبعض
الأعلام المعاصرين (1) على ما يظهر منهم.
ثم إن اختيار التسوية في التقسيم أو النسبة فيه يحتاج إلى
--------------------------------------------------------------------------------
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 398 - 399، مصباح الأصول 3: 341 - 343.
69
الدليل، فلو كان حق أحدهما أقل من النصف، فربما يتعين إيفاء حقه ثم
إيفاء حق الآخر، لأنه يدور الأمر بين القطع بعدم إيفاء حقهما، وبين العلم
بإيفاء بعض الحقين واحتمال إيفاء حق أحدهما كلا.
وربما يقال: بأن البذل بأحدهما مطلقا أرجح، لاحتمال وفائه
بالدين، بخلاف ما لو قسمه عليهما، فإنه يعلم ببقاء الدين، فإن تقليل
الدين ليس من الواجبات الشرعية، بل الواجب هو أداؤه، وهو غير
ميسور، فمقتضى العقل هو الفرار عن المخالفة القطعية بموافقة
احتمالية.
ثم إن مقتضى ما تحرر منا في محله، جريان الأصول في أطراف العلم
الاجمالي، وجواز ارتكاب المجموع (1) إلا في مواقف خاصة، وفي كون ما
نحن فيه منها إذا كان الأطراف كثيرة، وإن لم تدرج في الشبهة غير
المحصورة وعدمه، وجهان، والتفصيل في مواضعه.
والعجب من الفقيه اليزدي، حيث اختار في المسألة التوزيع (2)،
وفي ختام الزكاة قال: إذا علم اشتغال ذمته بالخمس أو الزكاة وجب
عليه اخراجهما إلا إذا كان هاشميا فإنه يجوز للهاشمي] أن [يقصد ما في
الذمة (3).
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أنه في مسألة الدين وتعلق حق الغير
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 6: 185 وما بعدها، و 7: 195 وما بعدها.
2 - العروة الوثقى 2: 381، كتاب الخمس، فصل فيما يجب فيه الخمس، المسألة 6.
3 - العروة الوثقى 2: 381، كتاب الخمس، فصل فيما يجب فيه الخمس، المسألة 30.
70
بذمته، ليست الجهة المشتركة موجودة، بخلافها هنا، فإنه يصح له أن
يرد المال الواحد المردد إلى وكيل المستحقين للزكاة والخمس،
فحينئذ يتمكن من الفرار من الاحتياط نوعا، مع أنه اختار الاحتياط
تعيينا.
نعم، إذا لم يتمكن من ذلك، وقلنا بعدم جواز صرفه بعنوان الوكيل من
قبلهم، تكون المسألة من قبيل هذه المسألة، وتأتي فيها الوجوه
السابقة.
71
الدرس الخامس عشر
ما ألقاه السيد الأستاذ الخوئي - دام مجده - في
مسألة ترجيح جانب النهي والحرمة على الأمر والوجوب
فقال: قد ذكروا في المسألة وجوها:
منها: الاستقراء، فإنه بعد ما نراجع الفقه نجد ترجيح الشرع جانب
الحرمة على الوجوب.
ومنها: إيجابه الاستظهار بعد انقطاع دم الحيض، مع أن المسألة
تدور بين وجوب العبادة وحرمتها، وهكذا في مسألة إراقة الماءين
المعلوم نجاسة أحدهما، فإنه قدم جانب الحرمة على الوجوب وإلزام
الاهراق والتيمم.
وفي ذلك نظر، ضرورة أن الاستقراء الناقص لا يحصل بالموردين،
72
فضلا عن التام، فهو من القياس الذي لا نقول به، مع أن كونهما من موارد
القاعدة ممنوع، ضرورة أن ترجيح ترك العبادة على فعلها لو كان معلوما في
الشريعة، فلا يعلم أنه لتلك الجهة، بل لعله لجهات أخرى مثل
استصحاب حكم الحيض أو موضوعه، مع أن العبادة ليست محرمة - على
ما قال به جماعه - إلا تشريعا، والكلام في المحرم الذاتي، مع أن
وجوب الاستظهار محل خلاف، وقد اختار استحبابه الفقيه اليزدي (1)،
والحق وجوبه يوما، وقيل: ثلاثة أيام، ولو كان الأمر كما ذكر، لما كان
وجه لما قيل في المسألة وقلنا، فالمسألة خارجة بالضرورة عن
القاعدة.
نعم، على القول بالحرمة الذاتية ووجوب الاستظهار في تمام
المدة، ربما يمكن أن يحتمل ذلك، ولكنه مجرد احتمال، وهو غير كاف،
وهكذا المورد الآخر، فإن الوضوء بالماء النجس ليس من المحرمات،
حتى يقال: بأن ذلك من باب ترجيح جانب النهي على الأمر، فالإراقة
والتيمم لأجل الجهات الأخر، وإلا فمقتضى القاعدة هو التوضي
بالماءين، والتطهير بالثاني قبل الوضوء، والصلاة بعد كل وضوء، فإنه
عند ذلك يعلم بالفراغ، ومع ذلك ألزم بالتيمم.
فهذا الوجه غير تام، لاختيار بطلان الصلاة في الدار المغصوبة،
لغلبة جانب النهي وخروج الفرد من الواجب المطلق، فتدبر.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 1: 338، المسألة 1.
73
أقول: ما كانت تمس الحاجة إلى هذا البسط لابطال هذا الوجه،
المعلوم ضعفه كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النهار.
ولعمري إن قلة فهم الطلاب وتداني منزلتهم العلمية والأفق
الفكري، أوقع هذا الأستاذ وأمثاله في صف الآخرين، ويعدون في عصرنا
من وجوه المحققين، ونرجو من الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وفي كلماته مواقف للنظر:
أولا: أنه يظهر منه جواز الاتكال على الاستقراء الناقص، حيث نفى
قولنا بالقياس، فلا تغفل.
وثانيا: لو كانت العبادة في أيام الاستظهار محرمة تشريعا - لجواز
الاتيان بها بداعي الأمر - لكان ذلك جائزا في أيام الحيض أيضا، لاحتمال
عدم صحة ما يدل على حرمة العبادة عليهن ثبوتا ولبا، ولذلك قلنا بعدم
جوازها وحرمتها، وإلا يلزم] حلية [جميع المحرمات، باحتمال أن الأدلة
المقتضية لحرمتها غير صادرة، لعدم الدليل على صدورها إلا الحجج
الشرعية والعقلائية، وهذه هي لا تورث القطع بالحكم.
وأنت خبير بما فيه، فلا ينبغي اختيار ذلك وإن قال به كثير من الأعلام
في كثير من المقامات. والتفصيل في محله.
هذا، مع أن الاختلاف في المبنى لا يورث سقوط البناء على جميع
التقادير، ولذلك يسقط احتمال التمسك بالاستصحاب.
وثالثا: خروج المحرم التشريعي عن محل الكلام ليس لأجل
74
اختصاصه بغيره كما يظهر منه، بل ذلك لأجل أن المحرم التشريعي متقوم
بقصد المكلفين، وهو يتبع جعل الشرع، بخلاف المحرم الذاتي الغير
المنوط بالقصد.
اللهم إلا أن يقال: إذا لاحظ الشرع أن الأمر في تلك الأيام يدور بين
ترك العبادة وإتيانها، وحيث لو أتى بها يقصد بها ما يحتمل مبغوضيتها، أو أن
نفس الاتيان بها تشريع محرم ولا يؤاخذ على العبادة، بل يؤاخذ على الاتيان
بها في تلك الحالة المجهولة، تكون المسألة من دوران الأمر بين
الحرام والواجب، ولاحظ الشرع جانب المحرم، فافهم.
ورابعا: غرض المستدل من التمسك بالموردين بيان: أن الشرع
في دوران الأمر بين الفعل والترك قدم جانب الترك، فيقدم جانب
الحرمة، لأنها الترك، أي لاحظ جانب الوضوء بالنجس وترك الوضوء،
فقدم الثاني على الأول، ولذلك لا يكون المورد الثاني فعلا وتركا داخلا
في المسألة بعنوانها.
وخامسا: ربما يكون غرضه جعل أمثال هذه الموارد، قرائن عرفية
للاستظهار في المواقف الخالية من تلك القرائن في التمسك بالاستقراء
والقياس، فإن الاستقراء عندنا كالقياس لا يفيد شيئا إلا إذا رجع بالاستظهار
من الدليل فلا يخفى.
وسادسا: لا حاجة إلى الصلاة بعد الوضوء الأول، لأنه بعد ما
توضأ بالماء الأول، ثم طهر مواضع الوضوء والمسح بالثاني، ثم توضأ
75
به، يعلم بالوضوء الصحيح، ثم يشك في نجاسة بدنه، وتجري أصالة
الطهارة لو قلنا بجريان الأصلين وسقوط الحالة السابقة، وإلا فبعد
الحالة السابقة فإنه يبني على الطهارة.
نعم، في بعض الصور يحتاج إلى تخلل العبادة بينهما، كما لو كانت
الحالة السابقة الطهارة، فالأخذ بنقيض تلك الحالة يرجع إلى
نجاسة اليد، فعليه يلزم التكرار، فليتدبر جيدا.
76
الدرس السادس عشر
ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله -
في مسألة جريان الاستصحابات المعارضة مع
استصحاب الملكية
من أنها ليست جارية في حد ذاتها، أو ليست مثمرة.
فمنها: الاستصحاب التعليقي، فإنه بعد المعاملة كان له إذا يفسخ
العقد ينفسخ للخيار، ويحتمل بقاؤه، لأجل تزلزل الملك وكون المعاطاة
من العقود الجائزة المفيدة ملكية متزلزلة.
وفيه: أن التعليقات الاختراعية غير جارية.
ومنها: استصحاب جواز الفسخ وضعا ونفوذه، ولا تعليق شرعا، بل هو
77
حكم منجز.
وفيه أنه ليس من الأحكام الشرعية، بل الثابت هو أن البيعين
بالخيار، وأما المعنى المنتزع منه - الصادق على البيع الخياري
والعقد الجائز - فهو غير كاف، لأنه ليس من الأحكام الشرعية (1).
ومنها: استصحاب عدم كون العقد لازما بالعدم الأزلي.
وفيه: أن الأصول العدمية الأزلية أمرها بين اللاجريان
والمثبتية على ما تقرر في محله (2)، والأعدام الناعتية أيضا في
الموضوعات المعدولة غير جارية، سواء كانت من قبيل القضايا
الموجبة المعدولة المحمول، أو السالبة المحمول، أو السالبة
المحصلة المفروض وجودها. والتفصيل في محله (3).
وفي ما ذكره - مد ظله - بعض الأنظار:
منها: أن الأمور الانتزاعية القابلة للبقاء، والمثمرة في الإطاعة
والثواب، يجري فيها الاستصحاب، فاستصحاب الوجوب المنتزع من
الوجوبات الشرعية يجري، ونتيجته لزوم الإطاعة، فالمناط هو الأثر
العملي لا غير، وإلا يلزم عدم جريان استصحاب عدم الوجوب والحرمة،
فليتدبر.
فعلى هذا نقول: كان المالك نافذا فسخه، والآن كذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 102 - 104.
2 - مناهج الوصول 2: 259 - 269، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 96 - 106.
3 - نفس المصدر.
78
وإن شئت قلت: العرف يستظهر من قوله: البيعان بالخيار (1) نفوذ
الفسخ ويستند ذلك إلى الشرع، فإن معنى الخيار عرفا ذلك وثمرته هو،
فلنا استصحاب بقائه لأجل احتمال حدوث العلة الأخرى، القائمة مقام
العلة المقتضية لجعل ذلك الخيار، واستصحاب عدم حدوث تلك العلة
غير كاف لرفع اليد عن ذلك الاستصحاب، فتدبر.
ومنها: أن المقرر منا في مقامه أن الأصل العدم الأزلي إذا كان نفس
التعبد به موضوع الأثر، كما لو ورد: أكرم زيدا إن لم يكن عمرو موجودا
يكون جاريا (2)، ففيما نحن فيه يصح دعوى أن نفس التعبد بعدم لزوم
العقد، يكفي لنفي الحكم الشرعي.
وتوهم: تعارضه مع الأصل الجاري في صفة الجواز، أيضا في غير
محله، لأن الالتزام بهما ممكن، لامكان خلو العقد من الصفتين تعبدا، ولا
علم إجمالا بأنه موصوف بهما واقعا، مع أن الأثر إذا كان للأعم من العقد
العاري منهما ومن الموصوف بالجواز، لا يلزم في المسألة إشكال،
فتأمل.
ثم إنه - مد ظله - حكى الاستصحاب الآخر، وهو استصحاب بقاء
العلقة الجامعة بين الملكية الزائلة والاسترجاع المشكوك بقاؤها.
وفيه: أنه يندرج في القسم الثاني، والمجرى أمر كلي انتزاعي لا
--------------------------------------------------------------------------------
1 - وسائل الشيعة 18: 6، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 5.
2 - تحريرات في الأصول 8: 493.
79
أثر له شرعا، ونفس التعبد بها لا يورث ترتيب أثر العلقة الخاصة إلا
بالاثبات.
ولنا أن نقول: هو من القسم الثالث، لأن علقة الاسترجاع وحق
الارجاع من الأمور المستحدثة، وليست في عرض حق التصرف في
ماله والاستفادة عنه والعلقة الملكية لأنه من توابع خروج المال عن
ملكه، ولو سلمنا جريان القسم الثالث في بعض الصور لمساعدة
العرف عليه، فهو هنا ممنوع لعدم المساعدة عليه.
فرع
لو شك في أن اللزوم والجواز من آثار العقد وأوصافه، أو من آثار
الملك وعوارضه، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟
والمفروض هو أن اللزوم والجواز لو كانا من توابع العقد، يكون
الاستصحاب الشخصي جاريا للعلم بحصول الملكية، وإذا كانا من
أوصاف الملكية فيلزم اختلافهما ذاتا ووجودا، فلا يعلم بالشخص حتى
يجري الاستصحاب الشخصي، وإذا شك في أنهما من أوصاف الأسباب أو
المسببات، حتى تكون الملكية أمرها دائر بين كونها موصوفا بأحدهما، أو
لا موصوفا مطلقا إلا بالعرض والمجاز تبعا للأسباب، فالشخصي غير
جار، بخلاف الكلي.
وتوهم: أنه في هذه الصورة تكون المسألة من الشبهات
80
الموضوعية للاستصحاب (1)، فاسد جدا، لعدم إمكان الشبهة
الموضوعية، لعموم لا تنقض من جهة القيدين - الشك واليقين - وإن
أمكن من جهة سائر القيود المعتبرة في جريانها.
ثم إنه لم يظهر لي وجه ما وقع فيه بعض الأعاظم، من أن التمسك
به هنا من التمسك بالاستصحاب في الشبهة المصداقية، وحيث يكون
المخرج لبيا يجوز التمسك به (2).
وقال الوالد: لو كانت المسألة من شبهات تلك المسألة، فقد
فرغنا من عدم الفرق بين اللبيات واللفظيات في محله (3)، وأن اللبي
كاللفظي، فإن كان مجملا فلزوم القدر المتيقن منه دليل جواز التمسك،
لكن الشك يرجع إلى الشك في أصل التخصيص، وإن كان مبينا
فلا يجوز، لتأتي ما قلناه في وجه عدم الجواز هناك هنا. والتفصيل
موكول إلى محله (4).
والأصحاب في تلك المسألة، وقعوا في الخلط بين الشبهة
المصداقية والشبهة في أصل التخصيص، وعرجوا منها إليها، فراجع.
ولنا سؤال منهم جميعا في خصوص مسألتنا: وهو الشك في أن اللزوم
والجواز من طوارئ الأسباب والمسببات، فإنه لا ربط له بالشبهة
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 73 / السطر 31، منية الطالب 1: 61 / السطر 14.
2 - منية الطالب 1: 61 / السطر 18.
3 - مناهج الوصول 2: 252 - 254.
4 - مناهج الوصول 2: 247 - 251.
81
المصداقية، بل هو لو فرض فيه الشبهة، فهو لأجل كونها من الشبهة
الموضوعية لعموم لا تنقض، ولا مخصص له حتى يبحث عن لبيته
ولفظيته وعن إجماله ومبينيته.
والحاصل: جريان الأصل الكلي - دون الشخصي - عقلا وعرفا.
82
الدرس السابع عشر
ما ألقاه سيدنا الأستاذ الشاهرودي - مد ظله -
في مسألة تردد الحق المتعلق بالغير بين الأفراد المحصورة
وقد عرفت تفصيلها (1)، وهو - حفظه الله - كان يخلط بين المسألتين:
إحداهما: ما لو علم بمديونيته إما لزيد أو عمرو.
ثانيتهما: ما لو علم مديونيته لزيد وعمرو، وليس له إلا المال
القاصر عن دينه.
فإن المسألة الثانية فيها التوزيع قبل الحجر، وبعده يتعلق الدين
بالخارج، ولا يأتي البحث عن التوزيع بالنسبة فيها.
وأما المسألة الأولى فهي موضوع المحتملات السابقة، ولا يأتي
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تقدم في الدرس الرابع عشر.
83
فيها البحث عن التوزيع بالنسبة إلا على تقدير، وهو ما لو علم إجمالا
بمديونيته لزيد أو عمرو، ولكنه يعلم أنه إن كان مديونا لزيد، فهو الأقل من
الفرض الثاني، فإنه على القول بالتوزيع في أصل المسألة يمكن
دعوى التوزيع بالنسبة، فلاحظ وتدبر جيدا.
ثم إنه - مد ظله - اختار في المسألة التوزيع - كما هو مختار
الفقيه اليزدي (1) - معللا: بأن تنجيز العلم الاجمالي في هذه المواقف
غير معلوم، وهو خلاف الضرورة، وأن القرعة في هذه المواضع غير
جارية، لجريان الأصول العقلائية غير المردوعة، وإجراء حكم مجهول
الملك غير موجه.
وأما التوزيع فربما يساعد عليه البناءات العقلائية الحجة لعدم
مردوعيتها.
وهذا خلاف ما ذكره في حواشيه على المسألة في كتاب الخمس،
حيث قال - بعد اختيار السيد التوزيع -: كونه أقوى الوجوه غير معلوم.
نعم، هو أقوى من بعض الوجوه. ومن هنا يعلم الحال في الفرع الآتي (2).
انتهى.
والذي هو الحق: أن مقتضى الصناعة هو الاحتياط، إلا أن الرجوع
إلى مآثير القرعة (3)، يورث الاطمئنان بأن مسألتنا هذه تعرف منها، فكأن
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 2: 381، كتاب الخمس، فصل فيما يجب فيه الخمس، المسألة 30.
2 - العروة الوثقى 2: 382، كتاب الخمس، فصل فيما يجب فيه الخمس، الهامش 2.
3 - تهذيب الأحكام 6: 233، الباب 90، وسائل الشيعة 27: 257، أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، الباب 13.
84
الإمام (عليه السلام) لم يعمل بقاعدة الاحتياط ولا التوزيع، فيعلم منه أن المسألة
من موارد القاعدة، فليتأمل.
وإن شئت قلت: العمل بالعمومات الواردة في القرعة إن لم يكن
موافقا للتحقيق، ولكن استكشاف حكم هذه المسائل مما ورد فيها خصوصا،
مما لا يمكن إنكاره لعدم التعبد في الخصوصيات المفروضة في
الروايات (1)، فليراجع.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - نفس المصدر.
85
الدرس الثامن عشر
ما ألقاه سيدنا الأستاذ الحكيم - مد ظله -
في مسألة جواز إيقاع عقد المزارعة بالأمر
قائلا: أنه غير صحيح إلا إذا كان المقصود الانشاء به، دون نفس
المدلول المطابقي، أو الاستعمال المجازي، فإنه من المجازات البعيدة
المستنكرة قطعا، والأمر لا يتقوم بالقبول، فلو كان المقصود من الأمر
إحداث المعنى الاعتباري كالتكويني فهو يحصل، ولا يحتاج إلى
المقابل، بخلاف ما لو قصد به المعنى الحاصل من الايجاب.
ثم إن المعروف جواز تقديم القبول على الايجاب، ولكنه ممنوع،
لأن القبول: تارة يكون بالمعنى اللغوي المستعمل في المقاصد
المتعارفة مثل قوله: أنا أقبل أن أكون كذا وكذا، سواء كان من الأمور
86
الممتنعة أو الممكنة.
وأخرى: يكون بالمعنى المتقوم به العقد المقابل للإيجاب، ويعد
قبولا للإيجاب وقبول المنشأ.
فإنه على الأول لا يتقدم ولا يتأخر، لعدم معقولية التقديم والتأخير
فيه، وعلى الثاني لا بد وأن يتأخر، لأنه لا بد وأن يلتقم ما أنشئ بالايجاب
ويبلعه، ويكون قبولا في العقد قبال الايجاب، وهذا غير معقول تقدمه عن
الايجاب، لتقومه بالوجود الانشائي السابق المعلق في الهواء حتى
يأخذه ويقبله ويلتقمه.
وما قرع سمعك من جواز تقديم القبول على الايجاب في البيع،
فيقول المشتري: أشتري منك الفرس بدرهم، ويقول البائع: قبلت أو
بعت (1)، فهو ليس من تقديم القبول على الايجاب، بل هو من قبيل تقديم
الايجاب على القبول.
نعم، يجوز في عقد البيع الايجاب بكلمة الاشتراء والبيع، والسر
هو: أن المبيع والمعوض في الفرضين هو الفرس، والدرهم هو
العوض، ولا يختلف العوض والمعوض باختلاف التعابير، بل هما من
الأمور الواقعية في عالم الاعتبار، ويكونان محفوظين إجمالا.
فحصل: أن القبول قبول الانشاء، وهو يتقوم بسبق الانشاء، وما
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كما في جواهر الكلام 22: 254.
87
لا وجود له كيف يقبل القبول؟! (1).
أقول: في كلامه مواقف للنظر:
أولا: أن المراد من الأمر والايقاع الأمري ليس إلا إنشاء المعنى
المقصود بتلك الصيغة، ولا يستعمل في جميع الفروض، الأمر إلا في معنى
واحد، وإنما الاختلاف في الدواعي والمقاصد الخارجة عن الاستعمال،
ولا مجاز في البين حتى يكون من المجازات المستنكرة.
وثانيا: لا نفرض القبول العقدي ما يلتقم المعنى المنشأ حتى يلزم
ما ذكر، ويكون من القضايا] التي [قياساتها معها، بل القبول العقدي هو قبول
المعنى الانشائي المعلوم في البين، والمعروف بين الطرفين، غير المظهر
بعد، فيقول المشتري: إني قابل بيعك ومزارعتك وإجارتك، ويقول البائع:
بعتك وآجرتك وزارعتك... وهكذا، والأمور الاعتبارية لا تأتي فيها
التوالي الفاسدة الآتية في الأمور الحقيقية على ما تقرر (2).
وثالثا: لو فرضنا لزوم كون القبول قبول المنشأ الفعلي الموجود
سابقا، لا نسلم اشتراط العقد بذلك، بل معنى العقد هو الأعم من العهد
الموجود من تقدم الايجاب على القبول والعكس، فالكبرى - حينئذ - في
المسألة ممنوعة جدا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - مستمسك العروة الوثقى 13: 50 - 51.
2 - تحريرات في الأصول 3: 32.
88
ورابعا: أن عناوين المشتري والمستأجر والبائع والمؤجر
والمعوض والعوض وإن كانت لها واقعية محفوظة في عالم الاعتبار في
الجملة، بخلاف الايجاب والقبول، ولكن ذلك لا يورث خللا فيما أشرنا
إليه، كما لا يخفى.
89
الدرس التاسع عشر
ما ألقاه السيد الخوئي - مد ظله -
في مسألة جريان النزاع في الاجتماع والامتناع
فيما إذا كان العناوين مختلفة حسب اختلاف الإضافات:
فإن صاحب الكفاية - قدس الله نفسه - اختار ذلك (1)، وقال: لو
ورد: أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، واتحد مصداق العالم والفاسق،
يجري البحث المعروف والنزاع في إمكان اجتماع الأمر والنهي، لأن
النزاع في الحقيقة دائر مدار تعدد العنوان المورث لتعدد المعنون،
ويكون التركيب انضماميا، أو تعدده لا يورث تعدده، فيكون التركيب
اتحاديا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كفاية الأصول: 216.
90
والإضافة الحاصلة في ماهية الاكرام تورث تكثره، فإن قلنا
بالامتناع في العناوين المختلفة بالذات نقول به هنا، وإن قلنا بالجواز
نقول هنا بالجواز، ضرورة أن الحصة المضافة من تلك الطبيعة، غير
الحصة المضافة إلى الطبيعة الأخرى.
ويتوجه عليه:
أولا: أن المثال المذكور لا يكون مثالا لهذه المسألة، لاشتراط
المندوحة وإمكان الامتثال في المسألة، والمكلف فيما نحن فيه لا يقدر
على الامتثال والجمع، فترجع المسألة إلى باب التزاحم أو التعارض،
وتخرج عن مبحث الاجتماع، لعدم معقولية الجعل والخطاب على ما تقرر.
وما هو مثال المسألة: أكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، ويكون
الواجب إكرام صرف الوجود، فإنه يتمكن من الجمع بين التكليفين، فلو
ابتلي بهما لسوء اختياره فيأتي النزاع - مثلا - فيه.
وثانيا: البحث في مسائل الاجتماع والامتناع، يدور مدار التراكيب
الانضمامية والاتحادية، والقائل بالأولى يجوز، والثاني لا يجوز، وهذه
الاختلافات - الآتية من قبل الإضافات - خارجة عن ميزان المسألة،
ضرورة أن الفسق والعلم من عوارض الوجود الخارجي المجتمع قطعا،
ولا يعقل فرض التركيب الاتحادي حتى يجري النزاع، فالكبرى في
كلامه أيضا ممنوعة، وفيه مواضع للنظر لا ثمرة للبحث عنه وإن تعرض له
الأستاذ، وقال في آخر كلامه: فجميع ما قاله صاحب الكفاية في الأمر
91
الأخير غير قابل للتصديق، فليتدبر.
أقول: ما توهمه: من خروج المثال من كبرى المسألة، مبني على
اشتراط المندوحة في المسألة، وهو ممنوع على ما فصلناه (1).
وما تخيله: من أن مدار المسألة على التركيب الاتحادي
والانضمامي، من قلة الباع وقصور الفهم.
وقد تحرر من الوالد المحقق في محله ما هو الحقيق بالتصديق،
وأن مسائل الاعتباريات لا ربط لها بالعقليات (2).
وقد تحرر منا في غير مقام: أن العلل والمفاسد في الأمور العقلية
والتكوينية - مثل اجتماع الأضداد والأمثال - لا تجري في الاعتباريات (3)،
وأن مسألة اجتماع الأمر والنهي ترجع إلى أن العناوين المختلفة
- اعتبارا وذهنا وحكما - إذا تصادقت على موضوع واحد يلزم سراية أحد
الحكمين إلى الآخر، ومن متعلقه إلى المتعلق الآخر، حتى يلزم اجتماع
المتنافيات، أو يسقط أحد الحكمين لجهة أخرى، أو يبقى الحكمان على
موضوعهما، ولا ربط بين عالم الجعل والامتثال والخارج، فإن الخارج
ظرف السقوط، ولا يعقل الاجتماع فيه، والمتعلقات للأحكام في ظرف
التعلق والجعل مختلفات قطعا، فلا وجه لتوهم امتناع الاجتماع.
ولعمري إن الغفلة عن البحث وحيثياته أوقعهم في توهم
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 4: 178 - 179.
2 - تهذيب الأصول 1: 210 - 211 و 224.
3 - تحريرات في الأصول 6: 225.
92
محظورية الاجتماع.
فعليه يكون الاختلاف الذاتي والحاصل من الإضافات داخلا في
حريم المسألة، ويصح دعوى الاجتماع بالضرورة، فافهم وتدبر.
فقوله: أكرم العلماء، وقوله: لا تكرم الفساق، كلاهما باقيان
بفعليتهما إلا أن المكلف قاصر عن الجمع، لامتناع اجتماع الاكرام وتركه،
والامتناع في صورة جزئية، لا يورث امتناع الخطاب القانوني وإن يورث
امتناع الخطاب الشخصي، والخلط بينهما أوقع أصحابنا فيما لا ينبغي أن
يقعوا فيه.
فما توهمه السيد المشار إليه كله خال عن التحصيل.
93
الدرس العشرون
ما ألقاه سيدنا الأستاذ الوالد - مد ظله -
حول قاعدة السلطنة والاستدلال بها للزوم المعاطاة
والتقريب هو: أنها قاعدة شرعت حسب ظاهرها لاثبات سلطنة
الناس على أموالهم، ومقتضى إطلاقها عدم جواز التصرف في ملك الغير
وما له تصرفا خارجيا أو اعتباريا، فلا معنى لتملك المالك الأول ماله بعد
المعاطاة والاخراج عن الملك، وهذا هو معنى اللزوم المقصود في الباب.
وتوهم: عدم الاطلاق لأجل أنها في قبال نفي الحجر (1)، ممنوع كما
لا يخفى.
إن قلت: مقتضى نفي إطلاقها، وعدم صحة التمسك بها لصحة
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 12 و 14.
94
المعاطاة، عدم جوازه للزومها لاتحاد المناط والملاك.
قلت: لا، ضرورة أن قيود الأسباب وإنكار سببية المعاطاة، لا يزاحم
السلطنة الثابتة على الأموال، بخلاف تملك المالك الأصلي المال
الموجود في يد المالك الثاني، فإنه خلاف سلطنته، فلا يخفى.
إن قلت: مقتضى كونها قاعدة حيثية، كقاعدة تحريم الخبائث
والمحرمات، وكقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (1) عدم جواز
التمسك بها للزوم القصد، لأنه أمر خارج عن تلك الجهة.
قلت: لا، ضرورة أن نفي الاطلاق بالنسبة إلى العوارض كضرب
اليتيم بماله، لا يورث نفي الاطلاق في مورده الحيثي، فكما لو شك في
حلية بهيمة يتمسك بالآية، كذلك فيما نحن فيه يتمسك بإطلاق القاعدة،
فنفي الاطلاق من جهة لا يورث نفيه المطلق.
إن قلت: مقتضى ما تحرر منكم: هو أن القاعدة معلقة عرفا على أن لا
يكون للشارع المقدس سلطنة قبال هذه السلطنة، ولا تعارض سلطنته
المقدسة الثابتة - بالعقل والنقل - على الأعراض والأموال والنفوس
قطعا (2).
فعليه إذا فسخ المالك الثاني، فربما يكون ذلك تملكا لمال
--------------------------------------------------------------------------------
1 - المائدة (5): 1.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 83 وتقدم في الدرس الرابع.
95
المالك الأول لسلطنة مالك الملوك، وإذا شك في ذلك فلا تكون القاعدة
مرجعا لرفع الشبهة الحكمية، لأن المعلق عليه أمر عقلي مستقل،
وتكون الشبهة في حكم الشبهة الموضوعية المتفق عليه عدم جواز
التمسك بالعمومات فيها لامتناعه.
قلت: القيود العقلية والمعلقات اللبية على صنفين:
أحدهما: ما يكون من العقليات البديهية، التي يتذكرها العقول عند
ذكر الدليل وإنشاء القانون، بحيث يعد عندهم من أول الأمر قانونا مضيقا.
وثانيهما: ما يكون نظريا حاصلا بعد التأمل والتدبر.
ففي الأول لا يجوز التمسك لعين ما مر، وفي الثاني يجوز، لأن
الظهور منعقد على سعته، والحكم اللبي العقلي ليس أزيد من
المخصص المنفصل، فإذا شك في نفوذ الفسخ، وفحصنا عن دليله، ولم
نجد ما يكون دليلا على قصر سلطنة المالك، فالقاعدة محكمة لعمومها،
فافهم وتدبر جيدا (1).
أقول: مفاد هذه القاعدة معارض بدوا مع جميع الأدلة المقيدة
للسلطنة والمزيلة لها، مثل أدلة الأخماس والزكوات والكفارات
وأمثالها، فإن إيجابها وإخراجها بإيجاد الشركة مخالف لبسط السلطنة
وإطلاقها، خصوصا على القول بالإشاعة، وعلى الحكم الوضعي زائدا
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 105 - 110.
96
على الأمر التكليفي، كما هو المشهور المعروف.
والخروج من تلك الشبهة يحتاج إلى البسط في المسألة، للزوم
التخصيص الكثير وإن لم يكن أكثر، ومن تلك التحقيقات العقود الجائزة
الواقعة على الأموال كالهبة، فإنه بعد ما ملك الموهوب له الموهوب،
فتملك الواهب ثانيا خلاف السلطنة.
ثم إن هذه القاعدة عرفية عقلائية، ناظرة إلى ما عليه المرتكزات
العقلائية، وكونها قابلة لرفع الشك والشبهة الحكمية ممنوع، مع لزوم
كونها قاعدة إمضائية وتأسيسية. وهذا لا ضير فيه لامكانه، إلا أن العرف
لا يساعد عليه، فإن الأدلة الناظرة إلى المرتكزات العرفية ليست
مرجعا لرفع الشبهات الحكمية.
وما قاله: من أن جواز تملك المال مناف للسلطنة، ممنوع، ضرورة
أن الفاسخ لا يتملك المال بالأصالة، فإنه يفسخ العقد، ويرجع فسخ
العقد إلى رجوع كل مال إلى مالكه لاقتضائه، فليس إطلاقها قابلا لمنع
الفسخ، فلا دلالة لها على لزوم الملك وإبقاء المال عند المالك الثاني.
ثم إن المراد من اللزوم في هذه المسألة ونظائرها، هو المعنى
القابل للاجتماع مع الخيار الواقع على خلافه، ولو كان اللزوم في العقود
مستفادا من تلك القاعدة، يلزم ممنوعية جعل الخيار في ضمن العقد،
لأنه على خلاف حكم الله وكتابه، فتأمل.
وأما ما قاله: من التفصيل بين اللبي البديهي والنظري، فهو غير
97
مهذب، فإن الفهم العقلائي والحكم العقلي، لا يورث عنوانا معلوما قيوده
وتعبيره في الدليل، ولا يمكن أن يتصرف في العام بجعل القيد وإخراجه
من العموم إلى العموم المقيد، بل غاية ما يفهم هو أنه لو قال: أكرم
العلماء ينال أن المقصود غير المضرين بالديانة، فإن أحرزوا ذلك فلا
يكرمونه، وإلا فبناؤهم على الاكرام وعدم الاعتناء بالاحتمال مطلقا، فلاحظ
وتدبر جيدا.
98
الدرس الحادي والعشرون
ما أفاده السيد الحكيم - مد ظله للاسلام -
في مسألة صحة الايجاب من كل من الزارع والمالك
وهو: أن ذلك لا يورث تجويز تقدم القبول على الايجاب، ويجوز
القبول الفعلي بعد الايجاب القولي، كما صرح به العروة (1)
والقواعد (2)، ولا وجه للاختصاص، لجواز القبول القولي بعد الايجاب
الفعلي.
وقد يتوهم: أن التسانخ بين الايجاب والقبول شرط، فإن المعاطاة
تجري في المزارعة، وهكذا العقد اللفظي، وأما الملفق منهما فلا، ولعله
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 2: 707، كتاب المزارعة، الشرط الأول.
2 - قواعد الأحكام 1: 237 / السطر 12.
99
لقصور الأدلة عن هذه الصورة، وعدم التعارف يكفي له، ولدعوى عدم
السيرة عليه.
والذي يظهر لي: هو أن الايجاب الفعلي من جانب الفلاح مشكل
التصور، إلا بالتصرف في الأرض بعنوان العامل والمزارعة، وهذا غير
كاف لاحتياج العقد إلى القيود الأخر المحتاجة إلى الذكر، ومنها
الإذن من المالك للتصرف، وعند عدمه لا يجوز، وهكذا في جانب
المالك يشكل، لأن تسليم الأرض إليه، والإذن في التصرف بعنوان
المزارعة وأمثاله، يكون من غير الفعلي، ضرورة أن أساس العقود على
الالتزامات القلبية المبرزة بنوع من المبرزات، قولا كان أو فعلا أو إشارة
أو كتابة. اللهم إلا أن يدعى أن الثلاثة الأخيرة تحت عنوان واحد، وهو
الفعل.
ثم إنه كان يقول بعدم الحاجة في المسائل العقدية إلى المبرز
رأسا، بل نفس علم الطرفين بتلك الالتزامات المقيدة موضوع دليل اللزوم،
لأن ما به قوام العقد ليس إلا الأمر القلبي، والمظهرات نحتاج إليها عند
خفائه، فلو بنوا على العقد المذكور وعملوا، فظاهر تعابيره يقتضي صحة
المعاوضية، ولزوم الاتباع بناء على أصالة اللزوم.
وقد يشكل: بأن المبرزات لا دخالة لها في تقوم المعنى العقدي، إلا
أن الحاجة إلى المهملة منه مما لا يكاد ينكر في مرحلة الاثبات - أي
لزوم الوفاء به عرفا - لا الثبوت، أي عقدية ذلك العقد.
100
وبعبارة أخرى: القيود في المسألة على صنفين: قسم منهما ما هو
الدخيل في موضوعية الموضوع، كالقيود الشرعية والعرفية في
حصول حقيقة العقد من التنجيز وغيره، وهذه تحصل وإن لم يكن في
البين إبراز، بل نفس اطلاع كل منهما على ذلك المعنى القلبي كاف.
وقسم منهما ما هو الدخيل في الحكم - أي لزوم الوفاء بالعقد -
وهو المبرز بنحو الاهمال، فإنه في غير تلك الصورة ربما لا يلتزمون به،
كما لا يخفى.
101
الدرس الثاني والعشرون
ما ألقاه الوالد - مد ظله -
حول حديث: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس
منه (1)
وإجماله: أن هذه الرواية تدل على اللزوم، والمراد منه هو بقاء
الملك.
وتقريبه هو: أن الحلية والحرمة - من حيث اللغة - لا تنقسم
إلى التكليفية والوضعية، بل هما من الاعتبارات المخترعة من
الخصوصيات الحاصلة من موارد الاستعمال والاطلاق، فلا يكون
--------------------------------------------------------------------------------
1 - الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي،
الباب 3، الحديث 1.
102
محذوف فيها، بل المراد منه ممنوعية مال الغير، إلا أن الممنوعية كما
توجب المنع التكليفي وحرمته مستلزمة للعقاب، كذلك توجب البطلان
والمنع الوضعي، لأن معنى ممنوعية المال قطع يد الأجانب عنه، ولو كان
يدعي ممنوعية عنوان آخر مضاف إليه فلا يفيد ذلك، فالتملك بالفسخ
ممنوع أشد المنع، وهكذا التملك الخارجي والرجوع إليه في البين
بالتصرف العملي.
إن قلت: هذا هو استعمال مجازي قطعا، والذي ينقدح لدى الأذهان
العرفية حذف المضاف، وهو التصرف، وهو منصرف إلى التصرفات
الحسية، دون الاعتبارية.
قلت أولا: كونه من المجازات بالاصطلاح المعروف ممنوع، بل هو
الحقيقة، إلا أن الاستعمال قد يكون بدواع مختلفة مورثة لانتقال النفس
من الاستعمال إلى المرادات الجدية، فلا حذف على ما تقرر منا في
محله (1).
وثانيا: لا دليل على أن المحذوف مفهوم خاص كالتصرف، فلعله أمر
آخر، ومجرد وقوع هذه الجملة في التوقيع الشريف: لا يجوز لأحد أن
يتصرف في مال الغير إلا بإذن الغير (2) لا يورث حذفها هنا، والدليل على أن
المحذوف أعم نفس حذفها، فإنه قرينة العموم.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - مناهج الوصول 1: 104 - 106.
2 - كمال الدين: 520 / 49، الإحتجاج 2: 559، وسائل الشيعة 9: 540، كتاب
الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 6.
103
وثالثا: التصرف لغة أعم من التصرف الحسي، ويظهر ذلك
بمراجعة اللغة قطعا (1)، فليراجع.
ورابعا: إلغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع، يوجبان
الأعمية في الفهم وإن كانت العبارة قاصرة، فلا تغفل.
ودعوى: نفي الاطلاق بدعوى ظهور الحديث في المنع الخاص،
لأجل القرينة في صدرها، وهي قوله (عليه السلام) - على ما في الرواية -:
لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه (2)، فكما أن نفي الحلية في
الدم يوجب التكليفي كذلك هنا، غير مسموعة لما عرفت، فلاحظ.
وتوهم: أن الحديث مثل قاعدة السلطنة في عدم شمول التصرفات
المزيلة للملكية، لا نهما متعلقان بالمال، فلا بد من وجوده في جميع
الفروض والصور، فكما لا يجوز التمسك بها لنقل المال، لأنه إفناء
المال، وهو مسلط على المال، دون إفنائه وإعدامه، لا يجوز التمسك به
لحفظ المال عند صاحبه وإبقائه ونفي إزالته، فاسد جدا عقلا وعرفا.
أما الثاني: فهو واضح مما يضحك الثكلى.
وأما الأول: فلأن المال محفوظ الوجود حال السلطنة على
الإزالة، وخروجه بها لا يورث قصورا فيها.
وإن شئت قلت: المال من العناوين الخارجة عن مفهومي الوجود
--------------------------------------------------------------------------------
1 - المنجد: 423، مادة (صرف).
2 - الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي،
الباب 3، الحديث 1.
104
والعدم، وهما يعرضانه، وما هو مورد السلطنة هو ذلك العنوان، إلا أن
العنوان المأخوذ هو الموجود منه، وما به شيئية المال هو ماليته
وصورته المالية دون مادته، فلو كان ما ذكره كلاما تحقيقيا، يلزم منع
تجويز التصرف المورث لانقلاب صورة ماليته إلى صورة مالية
أخرى، لأن المحفوظ في الحالتين ليس مالا، بل هو المادة التي
لا دخالة لها في شيئية الشئ، فكما لا يمكن الالتزام بذلك، كذلك لا يمكن
الالتزام بممنوعية إحراقه، لأجل عدم السلطنة عليه، أو لعدم دلالتها
عليه، فإيراث الصورة الثانية المعدمة للصورة الأولى كإزالة المال
عن المالية، فلاحظ جيدا (1).
هذا هو ملخص ما قاله الوالد، مع إضافات كثيرة منا حول تقريب
الاستدلال.
ثم إنه لو فرضنا أن المحذوف هو التصرف، ومفهوم التصرف لا
يشمل إلا التصرف الحسي، فالتملك الفعلي ممنوع، لأنه تصرف حسي -
أي لا يجوز للمالك الأصلي أن يتصرف - بالتصرف الحسي - في المال
الموجود عند المشتري بعنوان الفسخ، مع أنه جائز في العقود الجائزة،
فإذا يلزم التفصيل، ومع القول بعدم الفصل يلحق الفسخ القولي
بالفعلي، فتأمل.
أقول: محل الكلام هو أن فسخ المالك الأول يكون نافذا، أم لا؟
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 110 - 114.
105
وهذا غير مرتبط بالمال والتصرف فيه ولو كان تصرفا اعتباريا، فإن
الفسخ يتعلق بالعقد، وانفساخ العقد يرجع إلى انعدام المقتضي لبقاء
المالين عند المتعاملين، وإذا انعدم المقتضي فلا بد أن يرجع كل منهما
إلى مالكهما الأول، وأين هذا من الحديث حتى يرجع إليه لرفع
الشبهة الحكمية؟!
وما ذكرنا: من إلحاق الفسخ القولي بالفعلي غير تام، لعدم القول
بعدم الفصل، وعدم القول بالفصل غير كاف، فليتدبر.
ثم إن المستثنى يشهد على أن المقصود أخص، لأن الطيب في
العقود لا يتعلق بالمال، بل هو متعلق بالعقد، ولو كان متعلقا بالمال لكان
يجوز التصرف فيه ولو كان العقد فاسدا، مع أنه لا يلتزم به، خصوصا
الوالد - مد ظله - كما سيأتي (1).
فالانصاف: أن الفهم العرفي غير مساعد على استفادة صحة العقود،
وهكذا عدم نفوذ الفسخ، وعدم جواز بيع مال الغير وأمثاله، لقوله (عليه السلام):
لا بيع إلا في ملك (2)، لا لأجل هذا الحديث، فإنه ساكت عن ذلك، فلا
ينبغي الخلط.
فبالجملة: عطف المال على الدم واستثناء صورة الطيب، مما يصح
أن يكونا قرينة على المعنى التكليفي، لو لم نقل بظهوره فيه مطلقا، فكأن
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 247.
2 - عوالي اللآلي 3: 205 / 37، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب
عقد البيع وشروطه، الباب 1، الحديث 4، وفيه لا بيع إلا فيما تملكه.
106
الحديث سيق لحفظ النفوس والأموال من الغارات والسرقات.
وإن شئت قلت: هو يمنع التصرفات الحسية لسوق الذهن العرفي
إليها، وإنشاء العقود على مال الغير ليس ممنوعا في حد ذاته، ولكنه
ليس بنافع ما لم يتعقب بالتسليم والتسلم الذي هو من التصرف المنهي
عنه، والنهي عن التسليم لأجل التصرف الحسي يورث قهرا سقوط
الانشاءات المتعلقة بتلك الأموال، فهولا يشمل إلا التكليف المحض،
ولكنه ينفع لسلب الأثر عن العقود، وأما فسخ العقد فهو غير ساقط، لعدم
مس الحاجة إلى التصرف الحسي، إلا بعد الشك في كونه مال الغير،
ولا يجوز التمسك به بعده.
نعم، لك استصحاب المالية للغير وبقائها عنده، فإنه - حينئذ -
يشمله الحديث، ويحرز به موضوعه وينقح به متعلقه، كما لا يخفى.
ولو قلنا بأن العقود لا تمنع به، لأنه بعد العقد على مال الغير يشك
في بقائه عنده، ولا يجوز التمسك بالعموم والاطلاق في الشبهات
الموضوعية.
وبعبارة أخرى: إذا عقد على مال الغير واحتمل انتقاله إليه، فيشك
في كونه مال المالك الأول، فلا يصح التمسك.
قلت: ما ذكرنا من جريان الأصل المنقح آنفا يأتي في هذه المرحلة
أيضا، ويلزم سقوط العقود لعدم الأثر لها متعارفا، فلا تغفل.
107
الدرس الثالث والعشرون
ما أفاده سيدنا الأستاذ الشاهرودي - مد ظله -
في مسألة إمكان التعبد بالأمارات
وأن ما أوقعه ابن قبة غير تام
فقال: ليست الأمارات العقلائية الممضاة إلا مثل القطع، وأن
العبد معذور حال المخالفة، ويدرك الواقع والمصالح النفس الأمرية
حال الموافقة، وهذا من الأمور الخارجة عن اختياره، والشرع أمضاها
لمصالح في إمضائها، ومنها لزوم العسر والحرج لو أوجب الاحتياط، مع
أن إدراك الواقع به على نحو كلي غير تام وممنوع، فالمصالح النوعية
الغالبة توجب صرف النظر عن الملاك التام في مورد جزئي.
108
فما ظنه ابن قبة: من لزوم التناقض والتضاد، والجمع بين
المصالح والمفاسد والحرمة والوجوب وغير ذلك، خال عن التحقيق.
ودعوى: أن الأمارات إيجاب شرعي وتعبد إلهي، غير مسموعة،
للزوم كونها كالأصول الشرعية، لرجوعها إلى إيجاب ترتيب الأثر، وهو
عين الأصول الشرعية، فلا وجه لتقدمها عليها، وغير ذلك مما قيل فيها.
وهذه الملاحظة بين المصالح الغالبة النوعية والمغلوبة
الشخصية، تجري في الأمور العينية والتكوينية، كما لا يخفى.
وهذا لا يرجع إلى اختصاص الحكم بالعالم، حتى تلزم لغوية
البراءة الشرعية والرخص الإلهية، بل الحكم في جميع الأحيان عام
يشمل العالم والجاهل، فلو أخل الجاهل بالطرق وخالفت الواقع لصح
العقاب، لتركه الواقع من غير عذر، فالملاك في صورة المخالفة
موجود تام، إلا أن جعل الاحتياط كان يستلزم المفسدة، فعليه غض عينه
عنه وأن يطلبه غاية الطلب لبا وثبوتا، والترخيص في نيل الواقع
بالطرق الأخر مثل الرمل والجفر، كان على خلاف المصالح العامة
فتركه.
أقول:
هذا ما أشار إليه في مجلس درسه، مع إضافات منا في تقريب
كلامه وتنظيم مرامه، وما ذكره هو في المسألة - أي في خصوص بحث
109
الأمارات - يوافق ما سلكه الوالد المحقق - مد ظله - في المقام (1)،
ولعله هو الأوفق بالذهن من سائر ما قيل في الباب.
نعم، ما توهم: من أن الأمارات لو كانت كالأصول في كونها تعبدية يلزم
ما لزم، غير تام، لما تقرر منا في محله: أن من الممكن تعبد وإيجاب
الشارع في مورد أصلا شرعيا أو عقلائيا طبق الأمارات، وترتيب آثارها
عليه حذوا بحذو، فلا يلزم التوالي الفاسدة، فتدبر.
ثم إنه على مسلكهما يلزم اختيارهما الاجزاء في صورة التخلف،
لأن حقيقة الاجزاء ليست إلا مضي الشرع عن واقعه لمصالح، وأساس
الاكتفاء بالناقص هو أنه اكتفى بالبعض، لأن في عدمه مفاسد كثيرة.
فلو كان الجمع بين الأمارات والواقعيات بذلك يلزم] منه [عدم
وجوب الإعادة مطلقا، حتى في صورة ترك الطبيعة، فإنه وإن لم يكن من
الاجزاء المصطلح عليه، إلا أنه في اصطلاحنا هو الاجزاء بالمعنى الأعم،
فإطلاق دليل الامضاء - سكوتيا كان أو لفظيا - يقتضي عدم الإعادة مطلقا -
أي سواء ترك بعض الطبيعة أو كلها - لأنه بعد ملاحظة الملاكات رجح
جانب العمل بالطرق والأمارات على الآخر، وكان لا يرى وجوب تحصيل
تلك المصالح الفائتة في ضمن العمل بها.
وتوهم: كون الأمر مراعى إلى حال كشف الخلاف، ومعلقا على عدم
العلم بتخلف المحرزات العقلائية عن الواقع، في غير محله، بعد إطلاق
--------------------------------------------------------------------------------
1 - أنوار الهداية 1: 196 - 202.
110
الأدلة اللفظية الامضائية وسكوتهم الاطلاقي، فانحفاظ الواقع بعد العلم
بالتخلف يحتاج إلى دليل آخر غير دليل الواقع، وما هو التحقيق في
الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ليس إلا ذلك، وما هو رافع
الشبهة في سائر الأمور المجعولة - حجة شرعية أو إمضائية - المؤدية
إلى خلاف الواقع، كالأصول المحرزة وغيرها، ليس إلا ذلك.
ولقد تقرر منا: جريان الشبهة في العلم الجزمي التكويني (1)، لأنه
مراده - تعالى - الجاعل للأحكام التشريعية، فبإرادته التكوينية خلق
الطريق المؤدي إلى خلاف الواقع، فيأتي الاشكال هنا أيضا، مع أن
حجية العلم ليست ذاتية، بل هي كحجية سائر الأمور تحتاج إلى الجعل
أو الانجعال، الحاصل من عدم ردع صاحب الشرع، فسلب جعل الحجية
عنه لكونها ذاتية له، في غير محله.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 6: 216 - 217.
111
الدرس الرابع والعشرون
ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله -
حول قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1)
فقال: الكلام فيها يقع في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: حول جملة المستثنى منه
وكيفية الاستدلال بها للزوم المعاملة بعد الفسخ على نحوين:
أحدهما: أن الباطل من المفاهيم العرفية، والفسخ عند العقلاء
--------------------------------------------------------------------------------
1 - النساء (4): 29.
112
يكون باطلا فالأكل بعد الفسخ يكون من الأكل المنهي عنه بالآية
الكريمة، فالآية بالمطابقة تشمل الفسخ، لأن اللزوم أمر عقلائي،
وإرجاع المال به من الأكل بالباطل وبالسبب الغير النافذ، فالفسخ
غير نافذ.
ثانيهما: مقتضى إطلاقها حرمة الأكل والتصرف، فالأكل بعد الفسخ
حرام، وإذا كان حراما يستكشف عرفا عدم نفوذ الفسخ، لعدم الوجه
المعقول للجمع بين حرمة الأكل ونفوذ الفسخ، فالملازمة العرفية
ثابتة بين حرمته وعدم نفوذه قطعا.
إن قلت: الفسخ هو إرجاع العقد وإبطاله، فالأكل مستند إلى مقتضى
الأول، ولا سببية للفسخ حتى يكون موضوع الآية الشريفة.
قلت: لا دلالة للآية على أن الباطل السبب منهي عنه، بل مطلق ما
هو الباطل الدخيل في الأكل منهي عنه، وهو يشمل الفسخ، كما لا يخفى.
ولكن بعد اللتيا والتي يشكل التمسك بها، لأجل أن المخصص
المفروض للآية الكريمة ليس من التخصيص الحكمي لإبائها عنه،
فإن العرف غير مساعد على فرض بطلان السبب الدخيل في الأكل
وفرض نفوذه. وما اختاره السيد من التخصيص غير تام (1).
بقي الكلام: في أنه يكون من الخروج الموضوعي، ويكون ما هو
الباطل بنظر العرف غير باطل بعد التخصيص أيضا بنظر العرف، وهذا في
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 126 / السطر 34.
113
حد نفسه غير معقول، لعدم إمكان الانقلاب الواقعي في فهم العرف، فلا بد
وأن نقول: بأن العرف التابع للشرع لا يحكم ببطلان شئ إلا بعد ملاحظة
الشرع، المتبوع المالك لهم بأنفسهم وأموالهم، فلو فرضنا استفادة نفوذ
سبب من الشرع فالعرف يراه حقا وغير باطل، فيكون حكمه بالبطلان
معلقا على عدم ردع الشرع] عن [ذلك، وعدم ترتيب الآثار عليه من قبله
شرط إدراكه الباطل، فلو يرى أنه رتب آثار النفوذ فهو يدرك صحته،
وإلا فيدرك بطلانه.
فعلى هذا لا يمكن التمسك بها لو شك في حصول المعلق عليه، فبعد
الفسخ لا يمكن التمسك بالآية الكريمة، لأن إحراز الموضوع شرطه،
وهو ممنوع للشك في نظر الشرع، وحصول المعلق عليه غير معلوم، كما هو
المفروض.
وما قرع سمعك: من أن اللبيات الحافة بالعمومات والمطلقات لا
تورث قصور التمسك بها، غير موافق للتحقيق هنا، ضرورة أن ذلك فيما إذا
كان الحكم معلقا دون الموضوع، مع أن في المسألة تفصيلا بين اللبيات
النظرية والبديهية، كما عرفت.
المقام الثاني: حول جملة المستثنى
وتقريب الاستدلال بها للزوم المعاطاة على وجه يخلو من الاشكال:
هو أن الظاهر منها حصر مجوز الأكل في التجارة على أن يكون ملكا للأكل
114
لا لغيره، حتى لا يلزم خروج المباحات وأمثالها منها، وحيث إن الفسخ
ليس من التجارة، ولا عن تراض، فليس موجبا لصحة الأكل والتصرف.
وتوهم امتناع التمسك بالجملتين للزوم المعاطاة، غير تام،
لاختلاف الوجه في كيفية التمسك، كما لا يخفى.
ويمكن دعوى عدم الحاجة إلى تفسير التجارة بما سبق، لامكان
تخصيص المستثنى ببعض المخصصات اللفظية وغيرها، وهذا لا ينافي
الحصر، لأن الحصر ليس إلا ما يستفاد من الظهور، فإذا قاومه ظهور آخر
مقدم عليه، يبقى الحصر بحاله بالإضافة كسائر العمومات.
فبالجملة: مقتضى الجملة الثانية جواز أكل مال التجارة، وأن
العرف يفهم منها أن الأموال لا يجوز أكلها بالباطل، ويجوز أكلها
بالتجارة، فإن كان المال مقيدا بالتجارة فلا يمكن التمسك، لأن الفسخ
مشكوك تجاريته، وإن لم يكن مقيدا، إما لامتناع تقييد المعلول بالعلة -
كما قيل - وهو غير تام، لامكان فرض ذلك في القانون، وإما لعدم الدليل
عليه، وإن يكن المال الجائز أكله هو المال الآتي من قبل التجارة
ثبوتا، فالتمسك أيضا غير جائز، ضرورة أن إطلاق جواز الأكل لا يشمل
صورة عدم علته، للزوم شمول عدم نفسه، فبعد الفسخ لا يمكن تجويز
الأكل، لأنه يحتمل انتفاء التجارة التي هي سبب جواز الأكل، وإطلاق
جوازه لا يشمل صورة انتفاء التجارة، وعندما يشك في وجودها لا يصح
التمسك، لأنه شبهة موضوعية.
115
وتوهم: أن الفسخ ليس تجارة فلا يصح التمسك بها لعدم نفوذه،
مدفوع بما سيوافيك إن شاء الله تعالى.
فتحصل: أن التمسك بالجملتين بناء على فرض الاستقلال لا يورث
لزوم المعاملة، لأن الشك في الموضوع لا يندفع بالدليل.
المقام الثالث: التمسك بالآية الكريمة ملاحظا حال الجملتين
فقد يقال: بأن الاستثناء متصل، لأن المنقطع خلاف الصناعة، وذلك
إما لأجل أن كلمة الباطل من القيود الغير الاحترازية، فيكون مفادها:
لا تأكلوا أموالكم إلا كلوها بالتجارة، وإما لأجل أن المستثنى منه
محذوف والاستثناء مفرغ، فيكون المعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بوجه
من الوجوه إلا بوجه التجارة، وعلى هذا يتم الاستدلال، لأن إطلاق
المستثنى وتجويز الأكل، يرفع الشك في جواز الأكل بعد الفسخ، ولا
تناسب بين جواز الأكل ونفوذ الفسخ، فيعلم ارتفاع النفوذ، فيبقى المال
عند المالك الثاني، وهذا هو مفاد اللزوم المقصود.
والذي يتوجه عليه: هو أن إمكان فرض الاستثناء المتصل لا يلازم
كونه موافقا للظهور، ولا شبهة في أن الظاهر هو كون الباطل قيدا، ويكون
الاخراج موضوعيا، لإباء المستثنى منه عن التخصيص، ولأجله أتى
بالمنقطع، فالمستثنى الانقطاعي في كمال الصناعة في هذه المواقف، مما
يترتب عليه تأكيد العموم والاطلاق، وأنه لم يكن مورد التخصيص حتى
116
يخصص وحيث إن نفس المستثنى منه يأبى عنه، لأن الباطل غير قابل
للتخصيص، وغير قابل للتنفيذ والتجويز عرفا، بل وعقلا، كما لا يخفى.
فتوهم التخصيص الحكمي - كما عن السيد المحشي (رحمه الله) (1) - في
غير مقامه، ودعوى عدم لياقة المنقطع للكلام الإلهي، غير مسموعة، بل
ربما هي لائقة دون المتصل، كقوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا
تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) (2)، فإنه في مقام أن اللغو في الجنة هو
السلام، وهذا في الحقيقة يرجع إلى انتفاء اللغو إلا ادعاء، أي لو كان فيها
لغو فهو هذا، أي السلام وأمثاله، فافهم وتدبر جيدا.
والذي هو التحقيق: أن المستفاد عرفا من الكريمة، هو أن ما هو تمام
الموضوع والعلة لتحريم الأكل، هو الباطل ليس إلا، ولا خصوصية
للمال والأكل وغير ذلك، ولا يلزم استفادة العلية من حروفها المخصوصة
بها، وإذا كانت الجملة الأولى مفيدة لمثل ذلك، فلتكن الثانية أيضا في
مقابلها، إلا أن التقابل بين مصداق الحق ومفهوم الباطل، فيكون الأمر في
الجواز وعدمه دائرا مدار الحق والباطل، ولا خصوصية للتجارة حتى
يلزم التخصيص وغيره.
وعلى هذا إن كان الفسخ - بعد المعاملة المعاطاتية - معلوما من
الباطل أو الحق فهو، وإلا فالآية تقصر عن شموله.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 126 / السطر 34.
2 - الواقعة (54): 25 - 26.
117
وبعبارة أخرى: مجرد كونه حقا أو باطلا عرفا، لا يكفي لشمول الآية،
لما عرفت أن حكم العرف على الباطل والحق، معلق على عدم دخالة
الشرع، كما مر.
ومقتضى ما تقرر: أن الفسخ وإن لم يكن من التجارة، إلا أن المستفاد
منها أن جواز الأكل يدور مدار الحق، سواء كان في التجارة، أو في
الايقاعات المستتبعة لجواز أكل المال، الخارجة عرفا من مفهوم
التجارة. ودعوى انصرافها إلى البيع لا تفيد شيئا، كما لا يخفى.
هذا كله ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله - في المسألة، مع بيان
مشتمل على زيادات منا لتقريب مقصوده ومرامه.
أقول:
أولا: على مسلكه يلزم سقوط الآية عن المرجعية في جميع
الشبهات الحكمية، لأنه ينفي صحة التمسك بها حتى بعد الفحص،
لأنه بعده لا تنقلب الشبهة الموضوعية عما هي عليه، وإلا فبعد
الفحص عن حكم الفسخ يلزم جواز التمسك بها، فكون الموضوع معلقا
يورث سقوط الآية عن الاستدلال، كما اخترناه في بعض كتبنا (1).
وإجماله: هو أن الحق والباطل ليسا معلقين، بل هما من العناوين
المستقرة كسائر العناوين، إلا أن الاخراج الموضوعي، يرجع إلى تنبه
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأول، الجهة الثانية، الآية الأولى من الآيات
المستدل بها على أصالة اللزوم في المعاطاة.
118
العرف للملاكات المخفية الموجبة لانفاذ ما هو الباطل بنظره، وعندئذ
يسقط التمسك لصيرورة مفهوم الباطل والحق من الموضوعات
المستنبطة، أي لا يجوز الاتكال على تخصيص العرف، بل الموضوع في
هذه القضية يتخذ من الشرع لخصوصية فيه، ضرورة أن الشرائع في
أنظارهم تختلف مفاهيم الباطل والحق، لما يرون المصالح الكلية،
فيكون الكذب أحيانا حقا والصدق باطلا... وهكذا، فلا بد من الرجوع
إليهم في فهم ذلك، وعليه تسقط الآية.
ولعمري إن العرف والعقلاء لا يدركون البواطل، لما لا يدركون
سيرانها، ولا ضير في أن يقال: هذا العنوان في حكم الحقائق الشرعية،
لتقومها بالملاك الغير المعلوم لنا، فالقول بالتعليق بعيد إنصافا، لما نجد
خلافه من أنفسنا بعد الرجوع إلى وجداننا.
ثم إن المقرر عندنا: جواز التمسك بالعمومات في الشبهات
المصداقية، إذا كانت المخصصات من اللبيات العقلية أو العقلائية
دون الاجماع، وعدم جواز التمسك مطلقا إذا كانت من اللفظيات وإن كانت
مجملات، والتفصيل في محله (1).
فعليه لا وجه لما ذهب إليه المحقق الوالد - مد ظله -.
والذي ينحل به الخطب هو: أن في الشريعة لا يوجد مورد يكون
باطلا عرفا وممضى شرعا، فلا وجه لدعوى التعليق، بل في جميع المواقف
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 5: 251 وما بعدها.
119
يكون الباطل مرفوضا.
وتوهم: أن الأخذ بالشفعة وأكل المارة من الباطل الموضوعي،
غير تام، ضرورة أن الدقة في الأمر تورث كون الأكل من باب الحق، لما
أن الشرفات على الشوراع يترقى قيمها السوقية، لأجل كونها في مسعي
الناس وممرهم، فتلك الزيادة القيمية تحصل من ذلك، وتورث جواز
الاستيفاء، وكون الأخذ من باب علاج التشاح قبل وقوعه، بل الشريك
يكون ذا حق عرفي بالنسبة إلى ذلك المال، ولذلك يكون حق الشفعة
من الحقوق العقلائية، دون الشرعية والأحكام الإلهية، وهكذا في كل
موقف ظننت ذلك، فإنه بعد التدبر والدقة تجد إلى نكتة التجويز سبيلا
لطيفا، موافقا للموازين العلمية الاقتصادية، فالتخصيص الحكمي
والتعليق الموضوعي مما لا يمكن المصير إليهما.
وما وجدنا بعد موردا يكون باطلا وهو من المقررات الشرعية،
حتى يلزم دعوى تخطئة العرف، وأن في المسألة مصالح خفية عنهم.
وعلى هذا يقال: لو شك في نفوذ الفسخ - بعد كونه باطلا في نظر
العقلاء - يصح التمسك بجملة المستثنى منه، لأن الاستثناء منفصل.
اللهم إلا أن يقال: بأن المتبادر منها هو النهي عن التصرف بالوجوه
والأسباب الباطلة المبتدأة، وليس الفسخ منها، وذلك لأن الباء إما
للسببية فلا يشمل الفسخ، لأنه حل العقد، والأكل مستند إلى نقيض آخر
أو يكون لإفادة معنى في المسببات، فهو أيضا خارج ولو أمكن إدخاله
120
عقلا، ولكن دعوى التبادر والانصراف غير بعيدة إنصافا.
فالمسألة خارجة عن المستثنى منه، وقابلة لادراجها في
المستثنى، لأنه بعد الفسخ يشك في بقاء العنوان، ومقتضى الاستصحاب
جواز الأكل وبقاء الموضوع، ونفي التمسك بها في الشبهات الموضوعية
- بعد وجود الأصل المحرز غالبا - غير موافق للمقصود، فليتدبر.
فعلى هذا لو كان المستثنى عنوان مال التجارة، فهو قابل
للاستصحاب بعد الشك في خروجه عنه بالفسخ، ولو كان المستثنى
عنوان التجارة عن تراض - بدعوى أن الأموال هي التجارة - فهو أيضا قابل
للاحراز بالأصل المنقح.
وما يظهر منهم: من أن اللزوم المقصود ليس إلا ما يثبت بالكتاب
وظاهره أو الاستصحاب أو السنة، غير معلوم الوجه فإن اللزوم من
الأحكام العقلائية، وليس المستثنى في باب الشروط شاملا لها على ما
تقرر منا (1)، بل مفاد الاستثناء فيها الأحكام المجعولة في الشريعة، أي
يكون المطرود كل شرط خالف حكم الله التأسيسي، دون الامضائي، فإنه
ليس حكم الله عرفا.
ولو كان اللزوم ثابتا بالشرع، ويكون حكما ثابتا بالكتاب والسنة،
فجعل الخيار المزاحم له القابل لحل العقد، خلاف الكتاب، فتدبر.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، المقصد الثالث: في الشروط، المبحث الرابع: ما
هو الضابط للشرط المخالف والمضاد.
121
ثم إنه لو فرضنا أن الفسخ بعد المعاطاة غير معلوم حقيقته
وباطليته، وقلنا بأن التجارة لا تصدق عليه، فإنه يرجع - حينئذ - إلى
استصحاب جواز الأكل للمالك الثاني، وبقاء التجارة المورثة لجواز
الأكل، أو إلى إطلاق دليل منع التصرف في مال الغير إلا بإذنه، فإنه قد
خرجنا عنه بالتجارة إلى زمن الفسخ، وأما بعده فهو مشكوك.
وبعبارة أخرى: مقتضى الدليل الاجتهادي عدم جواز الأكل في جميع
الأزمنة، بعد كونه مال المالك الأول، وقد خرج عنها الزمن الخاص،
وهو - إلى وجود رضا المالك الأول ووجود التجارة - يشك في أن
المال خرج من ملكه مطلقا، أو خرج إلى زمن الفسخ، فمقتضى
الاستصحاب عدم خروجه عن ملكه مطلقا وبقاؤه في ملكه، ومقتضى
الاطلاق ممنوعية التصرف فيه إلا بإذنه، وهذا هو المقدم على
الاستصحاب الجاري في طرف المالك الثاني حكميا كان أم موضوعيا.
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن المفروض خروجه من سلطانه على
الاطلاق، فليتدبر.
122
الدرس الخامس والعشرون
ما أفاده السيد الحكيم - مد ظله للاسلام -
في مسائل المزارعة وشروطها
فقال: قال في العروة:
ومنها: تعيين المزروع من الحنطة والشعير وغيرهما، مع اختلاف
الأغراض فيه، فمع عدمه يبطل إلا أن يكون هناك انصراف يوجب
التعيين، أو كان مرادهما التعميم (1).
وقد يشكل ذلك، لأجل أن وجه البطلان في صدر العبارة هو الغرر
اللازم.
ووجه الاشكال: هو أن الغرر لا ينتفي ولو كان المراد التعميم،
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العروة الوثقى 2: 708، كتاب المزارعة، المسألة 8.
123
ضرورة أن عمومية المراد هي رضا الفلاح والمالك على الأمر المطلق،
ويكون بالخيار في المزروع، مع أن هذه العمومية تورث صحة بيع
الموجود في الكيس المردد بين الشيئين إذا كان المراد أعم، أي
يشتري المشتري ما في الكيس - سواء كان الدينار أو الدرهم - لتعلق
الغرض بالأعم، مع أنها ممنوعة عندهم، للزوم معلومية المبيع وليس
اختيار الأمر بيدهما حتى يشتري ما فيه، فيقول: بعني ما فيه ولو كان حجرا،
فإنه عند الشرع غير نافذ قطعا.
فالتعميم المفروض في كلام السيد بعد اختلاف البذور في
الجهات المختلفة، من المدة المحتاج إليها في الزرع، ومن أن الأرض
تترك في بعض الفروض في سنوات، لعدم إمكان استيفاء الزرع منها، وغير
ذلك، فالأخذ بالقدر المتيقن في الأجر لا يورث صحة المعاملة، كما
عرفت في المثال المذكور.
ثم إن دليل نفي الغرر غير تام عندنا، لأن ما هو المعروف هو نفي
الغرر في البيع (1)، وما هو غير المعروف هو النهي عن الغرر (2)،
والاجماع غير كاشف عن نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه في جميع المعاملات، حتى يقال
بالبطلان في بعض الصور التي لا يعتنى فيها بالغرر، فليتدبر.
هذا، مع أن المناط في لزوم التعيين ليس اختلاف الأغراض، فإنها
--------------------------------------------------------------------------------
1 - وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3.
2 - تذكرة الفقهاء 2: 291، المسألة 2، لاحظ مستمسك العروة الوثقى 12: 7، و 13:
271، و 14: 403 - 404.
124
ربما لا توجب شيئا في المعاملة، بل المناط هو اختلاف القيم وأجرة
الأرض بالنسبة إلى البذر، فإن الأرض التي تزرع حنطة تزيد أجرتها
على المزروعة شعيرا... وهكذا، ولعل المراد من الاختلاف في الأغراض
هو الاختلاف في المالية والتقويم، كما لا يخفى (1).
أقول: مقتضى ما تقرر منا في محله: أن الغرر المورث لبطلان
المعاملة، هو الغرر الذي لا يقدم العقلاء عليه بطبعهم، ولا تعبد من
الشرع في المسألة، والتفصيل في محله (2).
ثم إن مراد السيد ربما كان صورة أخرى وهي: ما لو كان مرادهما
التعميم مع عدم الاختلاف في الأغراض، بالمعنى الذي مضى تفسيره،
فتأمل.
أو أن وجه تعيين المزروع في الصورة الأولى، لأنه يرجع إلى
الفرد المردد، وليس وجه البطلان الغرر حتى يتوجه إليه ما مر،
ولأجل ذلك قال بالصحة في الصورة الثانية، وهي صورة التعميم، لأنه
يصير كالكلي.
والانصاف: أن العقلاء لا يقدمون على مثل هذه بعد تفاوت الأرض
المزروعة في الاستفادة للسنوات الآتية، وعليه تختلف القيم، فلو كان
البذر حنطة فربما يعين ثلثها، ولو كان شعيرا يعين ربعها، بل وخمسها، ولا
--------------------------------------------------------------------------------
1 - مستمسك العروة الوثقى 13: 59 - 60.
2 - تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الرابع، المرحلة السابعة، الأمر الأول: قاعدة نفي الضرر.
125
جامع حتى يمكن تصحيح هذه المعاملة، إلا بالغض عما هو المعتبر في
صحتها.
وإذا كان مجرد الأغراض العقلائية غير كاف لصحة المعاملات،
فتلك التجارات منهي عنها قطعا، وإن أقدم عليها العرف لأغراض خاصة
خارجة عن الأغراض المعاملية، كما لو فرضنا تعلق غرض المالك
بزرع الأرض لمنافع جمالية، ولا نظر له إلى قيمتها وما يخرج منها، فإن
ردعهم عن تلك المعاملة مشكل، مع أن مقتضى دعوى الأصحاب بطلانها،
كما في بيع ما في الخزينة المردد بين الكثير، فليتدبر.
126
الدرس السادس والعشرون
ما ألقاه السيد الوالد المحقق - مد ظله -
حول أدلة خيار المجلس، وكيفية الاستدلال بها
للزوم المعاطاة
فقال: مقتضى إطلاق هذه المآثير شمول عناوينها للمعاطاة، ومقتضى
ذيلها وجوب البيع، وهو ظاهر في اللزوم.
وبعبارة أخرى: المستفاد منها أن طبع البيع على اللزوم، إلا إذا اعتبر
فيه خيار، فإنه ما دام الخيار لم يجب، وإذ أتم أمده يجب البيع، ولا فرق
بين البيوع اللفظية والفعلية.
وقد يشكل: بأن الخيار مجعول فيما كان لازما بطبعه، أي لا يعقل
127
جعله في العقد الجائز، للتنافي، أو للغوية ذلك، وهذا هو حكم العقل
خارجا وإن لم يدل من الشرع دليل عليه، فيكون الدليل اللبي والادراك
العقلي: على أن ما هو الجائز بطبعه لا يجعل فيه الخيار، فما هو
المشكوك جوازه ولزومه كالمعاطاة، معلوم البيعية إلا أنه مشكوك
الجواز، وفي جواز التمسك بالعمومات والمطلقات في مثل هذه
الفروض وجوه أو أقوال.
والمختار عدم الجواز، لأن ما هو السر - المحرر في محله - لعدم
جوازه في اللفظيات، جار هنا أيضا (1)، فالجملة المغياة - مع قطع النظر
عن الغاية - غير قابلة للتمسك بها للزومه.
وأما الغاية وهي قوله (عليه السلام): وإذا افترقا وجب البيع (2) فهي أيضا لا
تدل على المقصود، وذلك لأن مقتضى ظاهر الرواية اتحاد الموضوع
المفروض في الجملتين - أي البيع في الصدر هو البيع في الذيل -
ولا يكون بينهما الاختلاف بالتباين، ولا بالاطلاق والتقييد، فلو فرضنا
إطلاق الصدر، وإمكان جعل الخيار للأعم من اللازم والجائز، يلزم
التهافت بين الجملتين، لأن الصدر يورث الخيار في الجائز، والذيل
يحكم باللزوم، والحكم باللزوم مع فرض الاطلاق ممتنع، فلا بد من
التصرف في إحدى الجملتين، فإن قلنا: بأن الصدر خارج عنه الجوائز،
--------------------------------------------------------------------------------
1 - مناهج الوصول 2: 247 - 254.
2 - وسائل الشيعة 18: 6، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 4 و 9،
والباب 2، الحديث 4.
128
فلا يمكن التمسك، للشبهة في أن المعاطاة جائزة أم لازمة.
وإن قلنا: بأن الذيل ناظر إلى ما بطبعه اللزوم، ويكون الموضوع
في الذيل أخص، فهو - أيضا - غير نافع لما هو المقصود كما ترى.
ثم إنه لو فرضنا إمكان اعتبار الخيار في الجوائز، فالذيل لا يدل
على اللزوم، وذلك أن نفي الخيار لا ينافي بقاء الجواز، ضرورة أن الخيار
من الحقوق، والجواز من الأحكام، ولا تلازم بينهما وجودا وعدما، فنفي
الخيار لا يورث اللزوم، فيمكن أن يكون جائزا غير ذي خيار بناء على
إمكان الفرض، فلا تخلط.
ودعوى: أن إطلاق الوجوب يقتضي الوجوب المطلق - أي وجب
البيع بذاته وعلى الاطلاق - غير مسموعة، لجريان الخيارات الأخر فيه
قطعا، وفي الأخبار شواهد على أن المقصود من الوجوب هو الحكم
الحيثي، لا الاطلاقي حتى يلزم التقييد المستهجن.
فتحصل: أن هذه المآثير غير قابلة للاستناد إليها (1).
أقول: فيما ذكره مواقف للنظر:
أولا: أن المختار جواز التمسك باللفظيات في الشبهات
المصداقية اللبية العقلية أو العقلائية (2).
وثانيا: لو سلمنا ذلك ففيما نحن فيه لا يجوز التمسك، لأن العنوان
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 120 - 123.
2 - تحريرات في الأصول 5: 251 وما بعدها.
129
المدرك بالعقل ليس أخص من العام اللفظي، بل النسبة بينهما العموم
من وجه، لأن ما يدركه العقل عدم مساعدة الأمر الجائز على جعل
الخيار، سواء كان بيعا أو صلحا أو غير ذلك، فالموضوع للخيار ليس جائزا
بالطبع. وهذا أعم من الدليل اللفظي، فإذا شك في جواز المعاطاة ولزومها
بعد كونها بيعا، يرجع إلى الاطلاق لكشف العرف - حينئذ - عن لزومها بذلك
الاطلاق، فلو فرضنا نصا من المولى على لزوم المعاطاة، فكما أنه لا ينافي
الادراك العقلي، كذلك الكلي والعموم الكاشف عن حال المعاطاة
جوازا ولزوما.
وثالثا: وجه مصيره - مد ظله - إلى عدم التمسك في اللفظيات: هو
أنه بعد خروج عنوان من العام، يشك في جريان أصالة التطابق بين
الجد والاستعمال في الشبهة المصداقية، وهذا غير جار هنا، لعدم خروج
عنوان من العام، لعدم وجود البيع الجائز، ومجرد الحكم العقلي على
العنوان المذكور، لا يورث قصورا في جريان الأصل العقلائي.
فالوجه لعدم صحة التمسك: عدم جريان الأصل العقلائي بالنسبة
إلى طائفة، وأن العرف - من دليل المخصص - توجه إلى عدم الإرادة
الجدية من المولى إلى هذه الطائفة، فإذا شك في مصداق فلنا الشك
في جريانها في هذه الشبهة، فإن العقلاء ربما يترددون في ذلك، فالوجه
للتردد ولشكهم هو العلم بخروج جماعة من العام، وأن طائفة من العام
غير موافق فيهم الاستعمال مع الجد، وفيما نحن فيه ليس الأمر ذلك. ولعمري
130
إنه - مد ظله - غفل عن سر مختاره في تلك المسألة، فليراجع ويتأمل.
هذا، مع أن المختار لعدم الجواز ليس ذلك، وقد فرغنا عن تزييفه
في محله (1)، وما هو الوجه لعدم جواز التمسك في الشبهات
المصداقية اللفظية، لا يجري في هذا المقام.
ثم إن التحقيق هو: أن هذه المآثير ليست ناظرة - قبل حصول
الغاية - إلى الجواز واللزوم، بل الموضوع لجعل الخيار، هو البيع
العاري عن جميع الاعتبارات الخارجة عن مفهوم البيع، من الأحكام
والقيود، ولا نظر فيها إلى جعل الخيار للبيع اللازم، أو غير الجائز، أو
هما معا، لأن الاطلاق رفض القيود بأجمعها، ففي نفس طبيعة البيع يجعل
الخيار حتى يفترقا، ثم بعد ذلك ينظر إلى جعل اللزوم الحيثي، وسقوط
خيار الاجتماع والمجلس، وهذا لا يورث لزوم المعاطاة، لأن وجه
الاستفادة منها للزوم المعاطاة لغوية جعل الخيار فيما هو الجائز ثبوتا،
وهو غير كاف، ضرورة أن هذه اللغوية نظير لغوية شمول أدلة
الاستصحاب للأصل المسببي، فإنه لا معنى لشموله ومحكوميته، فكما
يجاب هناك بأن اللغوية في الاطلاق مما لا ضير فيها، وما هو الممنوع
اللغوية في أصل الدليل وتمامه، يجاب هنا أيضا، فمقتضى هذه الأخبار
ثبوت الخيار لمطلق البيع، وسقوطه في صورة الافتراق، واللغوية في
إطلاق الجعل لا تورث نفعا لنا في المسألة، فخذ واغتنم.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 5: 256 وما بعدها.
131
نعم، لو قلنا: بأن الغاية لها إطلاق وتورث وجوب البيع على
الاطلاق، فهو ينفع إلا أنه التزام غير موافق معه الأدلة قطعا.
إن قلت: ما ذكرتم يورث سقوط هذه الأدلة عن الاستناد إليها، إلا أن
كثرة المعاملة المعاطاتية، تكون إلى حد يشكل دعوى اللغوية في
إطلاق تلك الأدلة، بل هو يوجب اللغوية في أصل الدليل والخطاب.
قلت: بعد النظر إلى مجموع الأعصار والأزمان والأمصار، ليست
الكثرة بالغة إلى هذا الحد، وما ترى في نفسك من دلالة هذه الأخبار
على المسألة، فذلك لأجل ما ترى في نفسك من لزوم المعاطاة، وأنها
واجبة، فكيف لا يشملها الحديث، وهذا مما لا غبار فيه، ضرورة أن هذه
المآثير تدل على ثبوت الخيار في المعاطاة، لأنها من العقود اللازمة،
سواء كانت بيعا وصلحا ومتشكلا بأشكال العقود، أو كانت عقدا مستقلا، ومع
إلغاء الخصوصية يثبت فيها الخيار، كما قلنا به في الإجارة (1)، فليراجع.
وقد يخطر بالبال أن يقال: بأن هذه الروايات ليست إلا في مقام جعل
الخيار وأمده، وأما أن الموضوع له هو البيع مطلقا، أو بيع خاص، فلا
إطلاق لها، لعدم نظرها إلى تلك الجهة، ومن تأمل في أخبار المسألة،
يطمئن إلى عدم ثبوت الاطلاق لها في هذه المرحلة، التي هي مرحلة
القيود المأخوذة في الموضوع، ويكون أساس النظر إلى ترتيب الحكم
عليه وبيانه، فتأمل جيدا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه للمؤلف (قدس سره) (مفقود).
132
الدرس السابع والعشرون
ما ألقاه السيد الخوئي - حفظه الله تعالى -
في مسألة أن الصحة والفساد من الأمور القابلة للجعل
فحكى القول بقبولهما الجعل، وبعدم قبولهما الجعل مطلقا، وقال:
اختار صاحب الكفاية التفصيل بين العبادات والمعاملات: بأن
الصحة في العبادة لا تقبل الجعل مطلقا، ضرورة أنها من الأمور
الانتزاعية، فإن طابق المأتي به المأمور به يكون - حينئذ - اعتبار
الصحة، وإلا فيعتبر الفساد، وعليه هما من الواقعيات النفس الأمرية
الموجودة بوجود المناشئ، فلا يعقل تعلق الجعل بهما - لا مستقلا
ولا تبعا - بخلافهما في المعاملات، فإنهما فيها يعتبران من حكم الشرع
133
بالتأثير وحصول الأثر وعدمه، وعند ذلك يكونان قابلين للجعل بالتبع (1).
واختار شيخنا الأستاذ - قدس الله نفسه - تفصيلا آخر بين الصحة
الواقعية والظاهرية، فاختار عدم قبولهما الجعل في الأولى دون
الثانية، لأن الواقعية - في العبادات كانت أم المعاملات - تعتبر حال
الوجود، ولا يعقل اتصاف الطبائع الكلية بالصحة والفساد، فإذا كان
الموجود في الخارج مجتمع الشرائط، فيكون صحيحا من غير فرق بين
العبادة والمعاملة، ثم إذا كان الموجود في الخارج فاسدا بحسب
الواقع، فيكون تعبد الشرع دليلا على الصحة وجعلها، فهما لا تنالهما يد
التشريع بالنسبة إلى الواقع، لأنها غير مبسوطة، بخلافها بالنسبة
إلى مقام الامتثال والظاهر، فإنها مبسوطة (2).
ولنا أن نلتزم بهما - أي بالمقالتين - أي نختار عدم قبولهما الجعل في
العبادات مطلقا، وقبولهما الجعل في المعاملات والظاهرية، فما هو
التحقيق هو التفصيلان، وذلك لما مضى في العبادات، وأن الصحة
والفساد من لواحق الوجود الخارجي قطعا، وأن الحكم الفعلي
المنجز لا يورث اتصاف المتعلق بهما.
وأما الظاهرية فلأن الشرع بعد التصرف والتعبد والتوسعة في
الامتثال، يوجب اتصاف المصداق الخارجي بالصحة، فهي مجعولة.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - كفاية الأصول 1: 220 - 222.
2 - أجود التقريرات 1: 392.
134
وأما في المعاملات فهو أن العبادات تكون متعلقات الأحكام،
والمعاملات تكون موضوعاتها، والأحكام في المعاملات متعلقة
بالخارج النافذ، أي كل ما صدق عليه البيع المملك والناقل، صدق
عليه أنه الصحيح، فعلى هذا لا معنى لنفي قابليتها عن الجعل، ضرورة أن
حكم الشرع بحصول الأثر مبدأ ذلك الوصف، فهو قابل للجعل تبعا.
فتحصل: أن باب العبادات غير باب المعاملات، فإن الأحكام في
الأولى تعلقت بالطبائع، وفي الثانية هي موضوعاتها على ما تحرر منا في
محله.
وإذا كان الأمر كذلك فالصحة في الأولى لا توجد إلا بعد وجود
الطبيعة، وأما في الثانية فقد فرض الشارع تلك الطبيعة موجودة،
وحكم بحصول الأثر، فالحكم بحصول الأثر والنفوذ والحلية بعد
الوجود المفروض، وبعد ذلك يعتبر الصحة، فهي في العبادات توجد بعد
وجودها وإن كان الحكم قبله فعليا تاما لا يكفي لوجودها، بخلافها في
العبادات، فإنها فيها توجد بعد الحكم، فهي من توابعه ومجعولاته
التبعية فلاحظ وتدبر.
أقول: يتوجه عليه:
أولا: أن البابين من باب واحد، ولا يعقل تعلق الحكم بالوجود
المفروض وجوده، ضرورة أن ما وجد في الخارج مفروضا، فهو في مرتبة
ذاته: إما يكون مؤثرا أولا، فإن كان مؤثرا فلا حاجة إلى الحكم
135
الشرعي، ولا يعقل تأثيره به، لعدم دخالته فيه، بل هو إمضاء ما وجد
مؤثرا، ولا سببية له للتأثير، وإن كان غير مؤثر فلا معنى للحكم بالتأثير،
فالحكم الشرعي دليل إمضاء ما هو المؤثر العقلائي.
وثانيا: ليس الفرق بين العبادات والمعاملات بأن الأولى متعلق
الأحكام والثانية موضوعها، لأن الموضوع فيهما هو المكلف، والعمل
المتعلق للحكم أمر يتسبب إليه، وهو الصلاة والعقد، وكما أن حلية
العقد - بمعنى نفوذه وتأثيره - من توابع الوجود، كذلك تأثير الصلاة - وأنها
معراج المؤمن - من توابع ذلك، وحلية العقد بمعنى أنه الجامع للشرائط
المعتبرة الشرعية، فهي عين معناها في الصلاة المحللة.
وأما الحكم التكليفي فيهما فهو أيضا من سنخ واحد، فكما يجب
الصلاة ربما يمكن أن يصير البيع واجبا بالعرض.
فتوهم: أن الحكم في العبادات ليس منشأ لاعتبار الصحة، بخلاف
الحكم في المعاملات، فاسد جدا، فإنه فيهما ليس مبدأ الاتصاف.
وثالثا: هذا المقدار من الجعل التبعي المفروض في المعاملات،
يأتي في العبادات، لأن الصلاة من الأمور الاختراعية والأحكام
الوضعية، وإذا كانت هي بيد الشارع، فأوصافها - أيضا - قابلة للجعل تبعا
لجعل الموصوف واعتباره.
ورابعا: كان عليه وعلى أقرانه مطالعة تقريرات الوالد
136
المحقق (1) - مد ظله - حتى يتوجهوا إلى مسائل جديدة، وهو أن الصحة
والفساد لا يقبلان الجعل على الاطلاق، فإن الأحكام متعلقة بعناوينها
والمصاديق إذا كانت مجتمعا فيها ذلك العنوان بشرائطه وقيوده تصير
موصوفة بالصحة، وإلا فبالفساد، فالبيع الفاسد هو ما كان موجودا في
الخارج، ولم يكن منطبقا عليه العناوين بشروطها الشرعية كالصلاة،
ومسألة أن البيع موضوع للمؤثر باطلة قطعا، لما ترى من صدقه على
الأعم بالوجدان والضرورة.
وما ترى من اتصاف الصلاة الفاقدة للشرط والجزء بالصحة، فهو
ليس لأجل اعتبار هما فيها، بل الوجه دخالة الشرع في منشأ ذلك
الاتصاف، وإلا فلا يعقل وجوب السورة مطلقا، ومع ذلك تكون الصلاة
الفاقدة لها صحيحة، بل الصلاة تصير صحيحة إذا كانت بدونها - حال
الجهل وغيره - واجبة، وتكون السورة جزءا في بعض الحالات.
ومن هنا ظهر حال مختار الوالد - مد ظله - في المسألة، ولعله لا
يقول بعدم قبولهما الجعل العرضي والتبعي، لأن معنى الجعل العرضي
هو جعل شئ آخر مستقلا، وانتساب الجعل إليه ثانيا ومجازا، ولذلك
تصح دعوى أنها من المجعولات الشرعية، لمجعولية ما هو الدخيل في
وجودهما، فلو لا الصلاة ولولا القيود الشرعية في المعاملات لا يعقل
اعتبارهما إلا بالنسبة إلى القيود العرفية، فلا تغفل.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تهذيب الأصول 1: 411 - 412.
137
هذا ما هو عند القوم.
والذي ذهبنا إليه واخترناه: هو أن الصحة والفساد من العناوين
العرفية مع قطع النظر عن الشرع، وعندهم تكون العبادة صحيحة
والمعاملة فاسدة، وإذا راجعنا] نجد [أن منشأ اتصافهما بهما ليس إلا جهة
واحدة، فيعلم أن تلك الجهة - أيضا - منشأ لاعتبارهما بالنسبة إلى
العبادات والمعاملات بعد الشرع، وبعد التوسعة والتضييق الواقعين
فيهما بأمره ونهيه. فتوهم: دخالة الأمر الشرعي والحكم في تلك الأمور
الرائجة بين الملل والأقوام، ناشئ من القصور.
وتحقيق المسألة يستدعي الإشارة الاجمالية، وقد أوضحناه في
محله (1)، وهو أن المقرر في مقامه: أن العناوين والطبائع الحقيقية
بأنفسها موجودات في الخارج، وما اشتهر: أن الكلي الطبيعي موجود
بمصداقه وشخصه دون نفسه (2)، خال عن التحصيل وكلام لا يساعد عليه
العقل والعقلاء، ولما يرون أن الانسان في الخارج، وهكذا العناوين
الاختراعية والاعتبارية، فإنها تصير بأنفسها في الخارج، ولأجله يكون
حكم الشرع ساقطا بالعقل قطعا، وإلا نحتاج إلى إقامة الدليل لو لم يكن
المأمور به بنفسه في الخارج.
فإذا كان المأمور به والحلال الوضعي بنفسه في الخارج، فإن
--------------------------------------------------------------------------------
1 - شرح المنظومة، قسم المنطق: 21 / السطر 13 - 17.
2 - الحكمة المتعالية 4: 213.
138
كان بتمام أجزائه خارجيا وفي الخارج، فهو منشأ اتصافه بالصحة، وإلا
فهو يوصف بالفساد لعدم تمامية الأجزاء والشرائط، وعند عدمه لا يترتب
عليه آثارها من معراجية المؤمن ومن الملكية والزوجية، فلا تعدد بين
المأتي به والمأمور به حتى يقال: ينتزعان من التطابق واللا تطابق، كما
هو مختار المحققين في المسألة - كلا أو بعضا حتى الوالد - مد ظله (1) -
مع أنه كان ينبغي أن] يتذكر [إلى تلك الجهة، فعنوان الصحة يعتبر من
الماهية الموجودة، لا من التطابق بين المأمور به والمأتي به.
نعم، إذا كانت الماهية الموجودة تامة الأجزاء والشرائط تتصف
بالصحة، وإلا فبالفساد وما ذكره القوم - مضافا إلى أنه غير موافق لما
تقرر في الكتب العقلية - يلزم منه عدم سقوط الأمر، لأن ما أتي به هو
مصداق المأمور به، والأمر متعلق بالطبيعة وسقوط ذلك الأمر بهذا
المصداق يحتاج إلى الدليل، بخلاف الذي قررناه، فإن المأمور به
بنفسه يأتي في الخارج، وإذا أتى فيه فهو ظرف السقوط قهرا، ولا يعقل
الثبوت، فالصحة والفساد من الكيفيات المزاجية في التكوين
والتشريع اعتبارا، وغير قابلين للجعل، فتأمل.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تهذيب الأصول 1: 211، كفاية الأصول: 222، مناهج الوصول 2: 154 - 155،
نهاية الأصول: 280، أجود التقريرات 1: 390.
139
الدرس الثامن والعشرون
ما ألقاه السيد الشاهرودي - حفظه الله تعالى -
حول شبهات ابن قبة
وقال: ليست الأمارات من الأمور المجعولة الشرعية، ولا أساس
لما قيل من التنزيل، بل هي كالعلوم القطعية إلا أن الشرع يتمكن من
الردع عنها.
وعلى هذا بعد التأمل في المسألة يظهر: أن المناط في مسألة
الأمارات على العلم العادي والظن النظامي، الحاصل من التفحص
والتدبر في التاريخ والتراجم والكتب الرجالية، فإنه لولا حصول
العلم بمقالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، لا يمكن الاستناد إليهم، لأن
مجرد الشك تمام الموضوع لحرمة الافتراء والكذب عليهم، وتخيل
140
حصول العلم بقول الرجالي لا يكفي لصحة الاستناد، بل الرجالي
لا يدرك إلا ما لا يورث شيئا، فلا بد من تحصيل الظنون المتراكمة حتى
يحصل العلم بحال الراوي، وإلا فأصحاب الكتب الرجالية لا يكلفون
بالشهود على أحوال الرواة، بل هم باستماعهم من المشيخة - غير
المعلومة حالهم أيضا - قالوا: فلان ثقة، وهذا عندنا غير كاف، لعدم
الدليل على اعتبار أقوالهم وتوثيقاتهم خصوصا، فكل خبر تضمن حجية
خبر الثقة بنفسه مشكوك الحجية، ولا قطع بالنسبة إلى خبر معين
- كما قيل - وهذا لا يورث دعوى إنكار العلم بوثاقة الرجال، لا نا نعلم
وثاقة مثل محمد بن مسلم وزرارة وأمثالهما، وليس هذا إلا لكثرة
المراجعة إلى أحوالهم وخصوصياتهم، وعند ذلك يجب تحصيل ذلك
العلم بالنسبة إلى غيرهم أيضا، وإلا فالعمل بقولهم - مع حرمة الافتراء
والكذب على الله تعالى ورسوله - غير صحيح.
أقول: ولعمري إنه ما كان يريد من هذه المطالب أمرا جديا، وإلا لما
كان يقتدر على الافتاء إلا في مسائل نادرة جدا، فيعلم من رسائله العملية
أن ارتكازه وطينته على خلاف مقالته، وأنه يعمل بالظن، فضلا عن
المتراكم منه، وعن القطع والعلم. والذي هو التحقيق ما قررناه في
محله (1).
ويتوجه عليه ثانيا: أن كون الشك تمام الموضوع لحرمة الافتراء
--------------------------------------------------------------------------------
1 - تحريرات في الأصول 6: 222 وما بعدها.
141
والنسبة خلاف الصناعة، لأن المحرم هو الكذب على الله ورسوله،
والكذب مخا لفة الواقع وإذا شك في قضية يشك في كونها كذبا، يشك
في حرمتها. وأما كون النسبة بغير العلم محرما، فهو من الأدلة اللفظية
والروايات غير القطعية، وتحصيل العلم هنا إن أمكن يمكن في مواقف
أخر، وإلا فلا.
والعجب أنه يذكر رواية للاستدلال على أن الشك تمام
الموضوع، حال البحث عن عدم حجية الأخبار إلا بعد الاطمئنان والعلم
النظامي، فليتدبر.
142
الدرس التاسع والعشرون
ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله -
حول الكريمة الشريفة في مسألة لزوم المعاطاة
فقال: الاستفادة من قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1) على تقريبين
ومبنيين في معنى الوفاء، فإنه على المختار هو أن الوفاء بالعقد هو
العمل على طبق المعهود والمقرر، فإن كان بالصيغة فمعنى الوفاء به
هو ترتيب آثارها، من التسليم على وفق المقرر في ضمن العقد، وإن كان
على نحو المعاطاة فقد يشكل تصوير الوفاء، لأنه يتقوم بالتسليم، وهو
حاصل.
وفيه: أن المعاطاة تجري في النسيئة والسلف، وتفرض مع كون
--------------------------------------------------------------------------------
1 - المائدة (5): 1.
143
العطاء من طرف واحد، فيكون الوفاء بالنسبة إلى الآخر بالتسليم، ولو
كان العقد حاصلا بالطرفين ووقع التعاطي في زمن واحد، فمعنى الوفاء
هو البقاء على المقرر المعاطاتي، فلو رجع إلى رفيقه لاسترداد ماله
بعنوان نقض العهد والعقد، فهو خلاف الوفاء بالعقد عرفا، فكما يجب
التسليم قبله بعنوان الوفاء كذلك يجب الابقاء بعنوانه، فبعد العقد الفعلي
لو استرد ماله بعنوان نقض العهد فقد خالف الحكم، وإن أخذه بعنوان
السرقة فقد أكل مال الغير. هذا كله هو أحد المعنيين في الوفاء.
والمعنى الثاني: هو عدم حل العقد بالفسخ، وعدم نقضه بإعمال ما
يورث حل العقدة، وأما وجوب التسليم والرد فهو غير مربوط بمفهوم
الوفاء بالعقد، وإلا يلزم خروج المعاطاة، لعدم إمكان فرض الوفاء فيها.
والذي هو التحقيق: هو المعنى الأول، لفهم العرف ذلك، ولكننا
نبين كيفية استفادة اللزوم من المعنيين فيه. فالكلام على هذا يقع في
مرحلتين:
أولاهما: في الطرق الممكنة لاستفادة اللزوم من الكريمة بناء
على المعنى الأول، وهي كثيرة:
فمنها: أن يكون وجوب الوفاء بالعقد كناية عن لزوم العقد، لأن
معنى الوفاء هو ترتيب آثار العقد عليه وإيجاد ما يقتضيه، فإذا أريد بيان
اللزوم فتارة يصرح: بأن العقد لازم، وأن زيدا جواد، وأخرى يأتي
بالكناية الأبلغ من التصريح، فيقول: يجب الوفاء بالعقد، وإن زيدا كثير
144
الرماد، فإذا كان يجب الوفاء والتسليم - مثلا - وعدم الاسترداد
بالكناية، أي لانتقال النفس منه إلى وجوب ملزومه، وهو العقد، تنتقل
النفس من المراد الجدي وهو الثاني، ولا جد بالنسبة إلى المراد
الاستعمالي، فلا يجب في الحقيقة الوفاء بالعقد إلا أنه أطلق ذلك
للانتقال إلى أنه يجب العقد ويلزم، ولولا ذلك لما قال بوجوب الوفاء،
وهذا بعينه كالمثال المعروف المشار إليه.
ومنها: أن يكون الوفاء بالعقد واجبا بالكريمة كوجوبه ببناء
العقلاء، فأريد إيجاب الوفاء جدا، إلا أنه إذا كان يجب ذلك على
الاطلاق، فيعلم منه عدم إمكان الفسخ وعدم تأثيره، وإلا فلا وجه
للإيجاب المطلق، ولسد باب الفسخ والحل على المكلفين، بعد إمكان
تجويز امتناعه من التسليم بإعمال الفسخ، الرافع لموضوع العقد
المقتضي للزوم التسليم، فإذا وجب الوفاء على الاطلاق جدا، فيجب
العقد ويلزم قهرا في نظر الشرع والعرف، وهذا هو الوجوب الطريقي
الشرعي.
ومنها: أنه يكون الهيئة مولوية، ويجب تكليفا الوفاء، وإذا وجب
ذلك ويكون التصرف في المال الموجود عنده محرما شرعا، فلا بد من
القول بلزوم العقد، وهذا - أيضا - من توابع الاطلاق المستفاد من الآية
الشريفة.
ولا يخفى أن الوجوب المذكور يمكن أن يكون مولويا ذا عقاب
145
وثواب، ويمكن أن يكون مترشحا من حرمة التصرف في مال الغير، لأنه
بالعقد صار ملكا للآخر، والالتزام بالأول إن يشكل فالالتزام بالثاني ممكن،
وتصير النتيجة لزوم العقد أيضا.
ومنها: لو فرضنا صحة ما قيل: من أن الأمر بالشئ يقتضي النهي
عن ضده العام، فالأمر بالوفاء يقتضي النهي عما يناقضه ويضاده ضدية
لا ثالث لهما، وهذا النهي إذا لوحظ بالنسبة إلى التصرفات الناقضة
الكثيرة، يفيد فائدة النهي المولوي لاقتضاء موضوعه عرفا، وإذا لوحظ
بالنسبة إلى الفسخ - بناء على أنه أيضا مناقض الوفاء - يفيد فائدة
النهي الارشادي إلى أنه غير مفيد للفسخ وغير مؤثر، وعليه يعلم لزوم
العقد، لأن الفسخ إذا كان غير مفيد لحل العقد يكون العقد واجبا ولازما.
هذا كله غاية ما يمكن أن يقال في المسألة.
ولكنك تعلم أن الوجهين الأخيرين مما لا يمكن الالتزام به، ويكون
خلاف المتفاهم العرفي، فإن الارتكاز العقلائي على لزوم العقود في
الجملة، وهذه الكريمة إرشاد وإلزام طريقي إليه.
الجهة الثانية: في كيفية استفادة اللزوم من المعنى الثاني، وهو
يتوقف على مقدمة:
وهي أن الأمر بالوفاء وعدم الفسخ يقتضي القدرة على المأمور
به، فلو كان العقد لازما عند العقلاء، فلا يكون المؤمنون قادرين على ترك
الوفاء، لأن الفسخ لا يؤثر عندهم لانتقال المال إلى المالك الأول،
146
فهذا أمر بما هو حاصل، ولا يمكن التخلف عنه. فعلى هذا لا بد من أحد
أمرين: إما اختيار كونه أمرا إرشاديا إلى أنه لا بد من الوفاء، لأنه لا
يمكن غير ذلك، كما في النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، فإنه ليس
نهيا مولويا، بل هو نهي يورث عجز المكلف عن الاتيان بالصلاة معه، وهو
معنى ما نعيته عنها، وإما اختيار أن الشرع أقدر المكلفين على تكليفه،
فجعل العقود جائزة، ثم أمرهم بالوفاء بذلك، وهذا تارة يكون مستفادا من
لازم الخطاب وحكم العقل، وأخرى من دعوى الكناية، وأنها تكون
إرشادا إلى الجواز، وحيث لا يعقل كونه إرشادا إليه مع نهيه عنه وأمره
بالوفاء مولويا، للزوم الجمع بين الارشاد والمولوية والمجاز
والكناية، وهذا - ولو أمكن تصويره - غير مناسب حمل الكلام عليه،
وتكون الآية عليه من اللغز والأحجية، كما لا يخفى، يتعين الحمل الأول،
لما أن دعوى أن العقل يستكشف منه جواز العقد في نظر الشرع - فيكون
على هذا هذه الكريمة من أدلة جواز العقود وإن كان يجب الوفاء
بالعقد - ممكنة، إلا أن الالتزام بذلك غير صحيح، للزوم جواز الأكل بعد
الفسخ، مع عدم إمكان الالتزام به قطعا.
فبالجملة: لو سلمنا مساعدة العرف بدوا على مثل ذلك، وتكون الآية
ناظرة إلى دعوى جواز العقود، أو كانت هذه الدعوى مسبوقة بها وإن لم
تصل إلينا، غير ملتزم به، لما يلزم من إنكار الحكم الوضعي رأسا في
المعاملات، وأنه بعد العقد - سواء كان بالصيغة أو بالمعاطاة - يجوز
147
وضعا، ويمكن أكل المال للمالك الأول وإن يحرم عليه حل العقد
وفسخه.
ولو قلت: بأن الآية إذا كانت كناية عن الجواز، أو كانت إرشادا إلى
الجواز، يكون الحمل عليهما حملا خارجا عن محيط العقلاء، لأن مثل
هذه الطريقة في الكناية مثل اللغز، ولأن الارشاد إلى الجواز يستلزم
كونه جائزا قبل ذلك، وحيث هو لازم، فيلزم الجمع بين جعلها العقود
جائزة وإرشادها إليه بعد ذلك الجعل، وهو جمع غير معقول، أو غير قابل
لحمل الكلام عليه.
وأما لو كانت محمولة على المعنى المطابقي، إلا أن مثلها مثل النهي
عن العبادة والمعاملة إذا كان مولويا، فإنه كما يستلزم الصحة - وإلا فلا
يعقل - كذلك الأمر هنا، وهذا الحمل ليس خارجا عن محيط العقلاء.
قلنا: نعم، إلا أن إدراك العقل ذلك اللازم، لا يكون قابلا للاستظهار
منه، لأنه ليس في قالب لفظي، فليتدبر.
ثم إنه قد يتوهم: أن الهيئة في الكريمة تكون موعظة حسنة، أو
إرشادا إلى حسن في الوفاء بالعهد والعقد، ويشهد له قوله تعالى: (يا
أيها الذين آمنوا)، فإن ذلك في حكم القرينة على أن الأمر كذلك.
وفيه: أن العدول عن الهيئة الظاهرة في الوجوب، أو الهيئة
التي هي الحجة - ولا يمكن العدول عنها إلا بمثلها، أو الكاشفة نوعا
148
عن الإرادة اللزومية - بمثل ذلك غير ممكن (1).
أقول: قد تقرر منا في محله أجنبية الكريمة الشريفة - حسب
القرائن المتصلة والمنفصلة - عن هذه المواقف والمسائل، أو أنها غير
قابلة للاستظهار منها أمرا تكليفيا شرعيا، وليست مؤسسة لمعنى شرعي
جزئي تكليفي أو وضعي، وتفصيله يطلب من بعض كتبنا الأخرى (2).
والذي لا بأس بأن نقول هنا: هو أن مقتضى إطلاقها وجوب الوفاء
الأعم من المعنى الأول والثاني، ولا وجه للاختصاص فإن اللازم الوفاء
بالعقد، والممنوع هو التخلف عن المقرر في المعاملة، وهذا كما يقتضي
لزوم تسليم الثمن والمبيع، كذلك يستلزم إبقاء العقد بحاله وعدم فسخه،
وعدم استرجاع ماله بعنوان إرجاع المعاملة.
وما قرع سمعك: من أن المعنى الثاني، مفروض على نحو يتمكن فيه
المكلف من الوفاء وعدمه، دون المعنى الأول، لا يرجع إلى محصل،
فإن وجوب الوفاء بالعقد يلازم عرفا ممنوعية نقض العهد والعقد، أي أن
العرف يفهم من الكريمة أنه لا يجوز نقض العهد، وهذا لا يمكن اعتباره
إلا مع القدرة عليه، المستلزم لحل العقد بعد النقض، فإن من نقض عهده
ولم يوف بعقده فقد حله، لأن معنى نقضه ذلك، فيعلم من هنا أن معنى العهد
والعقد فيها، هو الذي لا ينقضه الأمر الوضعي الخارج عن قدرة العبد
--------------------------------------------------------------------------------
1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 125 - 131.
2 - تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأول، الجهة الثانية، الآية الرابعة من الآيات
المستدل بها على أصالة اللزوم في المعاطاة.
149
وحيطة سلطانه، وحملها على الإرشاد إلى لزوم الوفاء وممنوعية النقض
- بأن ذلك لازم، وإلا يلزم أكل مال الغير قهرا وقطعا - حمل بعيد عن مساق
الآية، الظاهرة في أنه من الأمور التي يرغب فيها المؤمنون، ولا يستمع
إليها الكفار، فالصدر يشهد على أن المسألة داخلة في قدرة العباد،
وتكون من الأمور المخصوصة بالمؤمنين، ويكون المتوقع منهم ذلك،
دون غيرهم.
150