أعلام من الصحابة و التابعين (جزء 8)

حسین شاکری

نسخه متنی
نمايش فراداده

الأعلام من الصحابة والتابعين

 

الحاج حسين الشاكري
الجزء: ٨
المقدمة
لقد دأب معاوية من خلال تسلطه على الحكم أن
يمارس شتى أساليب التعسف والإبادة لشيعة علي عليه السلام
وملاحقتهم بالقتل وقطع الأيدي والأرجل وسمل
العيون، وبقر البطون، وصلب الأجساد العارية على
جذوع النخل، والتشريد، وحرق البيوت وهدمها على
أصحابها وما إلى ذلك من أنواع سبل الإبادة والاستئصال
لشيعة على عليه السلام ومواليه كما دأب على إجرامه،
وحاك على منواله، حكام بني أمية وبني مروان وبني
العباس.
3

والأطفال والمرضى، وخاصة البارزين منه وعوائلهم
أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري،
وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم مما يطول ذكرهم،
والمنفذ لهذه الاعمال الاجرامية في حينها زياد الخزي
والعار ابن سمية وابن مرجانة.
واستطاع معاوية بهذه القسوة والأساليب الوحشية
أن ينشر الرعب والخوف والهلع على عامة المؤمنين.
خاصة أهل الكوفة والبصرة، وأن يحد من تجاهر الكثير
منهم بالتشيع والولاء وإضعاف معنوياتهم إلى حد كبير،
بحيث أن الواحد منهم يرضى أن يتهم بالقتل والسرقة أو
الزندقة أو أي جريمة أخرى ولايتهم بالتشيع لعلي عليه السلام
ومذهبه وموالاته.
وعلى رغم كل تلكم الممارسات الوحشية وسبل
الإبادة ما استطاع استئصال جذور التشيع من قلوب
المؤمنين وعقولهم، ولا إطفاء جذوة الحب والولاء
لعلي عليه السلام وأهل بيته، وظل رمز التشيع الذي يجسد جوهر
4

الاسلام الحقيقي الأصيل يسير وينتشر على مر العصور
والأزمان مستهينا بكل ما يجري عليه من العناء ومتحديا
الصعاب والعذاب الذي يمارسه حكام الظلم والجور
ضده.
وسن سب علي عليه السلام وشتمه من على منابرهم طيلة
ألف شهر، وفرض البراءة من علي عليه السلام ودينه واللعن على
شيعته ومحبيه، حتى نشأت عليه أجبال، وغرس جذور
العداء بين المسلمين، وكأنهم بذلك يدفعون به إلى عنان
السماء، ويرفعونه عاليا حتى أصبحت أقدامه فوق
رؤوسهم.
قال الشافعي، لما سأله أحد أصحابه عن علي بن
أبي طالب عليه السلام (1): ما أقول في رجل أسر أولياؤه مناقبه
تقية، وكتمها أعداؤه حنقا وعداوة، ومع ذلك فقد شاع
ما بين الكتمانين ما ملا الخافقين؟
(1) الكنى والألقاب، ترجمة الشافعي.
5

ما بين الكتمانين ما ملا الخافقين؟
سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي (1) لم هجر الناس
عليا عليه السلام، وقرباه من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال: ما أقول في حق امرى كتمت مناقبه أولياؤه
خوفا، وأعداؤه حسدا، ثم ظهر من بين الكتمانين ما ملا
الخافقين؟
وسئل أيضا: ما الدليل على أن عليا عليه السلام إمام الكل
في الكل؟ قال: احتياج الكل إليه واستغنائه عن الكل.
وقد نظم السيد تاج الدين الحلي هذا المعنى في
قوله:
لقد كتمت آثار آل محمد
محبوهم خوفا وأعداؤهم بغضا
فأبرز من بين الفريقين نبذة
بها ملا الله السماوات والأرضا
* (هام) * (1) سفينة البحار، مادة (خلل) (*)
6

وقال عامر بن عبد الله بن الزبير (1) لابن له ينتقص
عليا عليه السلام:
يا بني إياك والعودة إلى ذلك، فإن (بني أمية)
وبني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلا
رفعة.
وإن الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، وإن الدنيا
لم تبن شيئا إلا عاودت على ما بنت فهدمته.
ومن هذا المنطلق، وعرفانا بفضل أولئك الصفوة
الذين قدموا أنفسهم وما يملكون من غال ونفيس قربانا
على مذبح الحرية والعقيدة، والدين والولاء الصادق،
للرسول الكريم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام وما أخذتهم في
الله لومة لائم. حتى استطاعوا أن يظهروا الحق، ويرسخوا
دعائم الدين الحنيف وشريعة السماء، ويفضحوا أساليب
(1) علي في الكتاب والسنة 3: 239، الحديث 22، وهناك
أحاديث قبله وبعده، فراجع.
7

الطامعين في الحكم، والمنافقين في الدين، ويكشفوا
حقيقتهم الكافرة الحاقدة.
وقد اقتصرت على تراجم عدد منهم في هذا
الكراس، وسنذكر الآخرين في كراسات متتالية ضمن
سلسلة الاعلام: من الصحابة والتابعين.
ومنه سبحانه وتعالى أستمد العون والتسديد، فإنه
أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
العبد المنيب
حسين الشاكري
دار الهجرة قم المقدسة
الفاتح من شهر محرم الحرام 1418 ه
8

بسم الله الرحمن الرحيم
* (إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) * (1)
عبد الله بن عباس
الحواريون
خريجو مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
(1) النحل: 128.
9

عبد الله بن عباس
العباس بن عبد المطلب:
قبل أن أدخل في ترجمة عبد الله بن عباس، بودي
أن أذكر شذرات من حياة والده، فيما يخص الامام علي
وفاطمة عليهما السلام، مقتطفا من كتاب الدرجات الرفيعة،
الصفحة 95.
قال السيد علي بن طاووس: روى كثير من علماء
الاسلام، دوام اتحاد العباس مع علي عليه السلام وتولي أمره لما
مات، وقد كان من أخصاء علي، حتى روى ابن سعد وهو
من أبرز المخالفين لأهل البيت، أن عليا هو الذي (تولى)
تغسيل عمه العباس وتولى أمره حين موته، وقد كان من
11

اختصاص علي عليه السلام بأولاد عمه العباس قبل تمكنه من
خلافته، وبعد ذلك مد يده لمبايعته مما يدل على دوام
الصفاء والوفاء بينهما.
وأخرج الشيخ الطوسي في (أماليه) عن محمد بن
عمار بن ياسر عن أبيه عمار، قال: لما مرضت فاطمة
عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله مرضتها التي توفيت فيها وثقلت،
جاءها العباس بن بن عبد المطلب عائدا، فقيل له: إنها ثقيلة
وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره وارسل
رسولا إلى علي، وقال: قل لعلي: يا ابن الأخ، إن عمك
يقرئك السلام ويقول لك قد فجأني من الغم بشكاة حبيبة
رسول الله صلى الله عليه وآله وقرة عينه وعيني فاطمة عليها السلام ما هدني،
وإني لأظنها أولنا لحوقا برسول الله، والله يختار لها
ويحبوها ويزلفها لديه، فإن كان من الامر ما لا بد منه فأنا
أجمع لك الغداة المهاجرين والأنصار حتى يصيبوا الاجر
في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال الدين.
فقال علي عليه السلام لرسول العباس - وأنا حاضر عنده -:
أبلغ عمي السلام، وقل له: لا عدمت إشفاقك وتحننك،
12

وقد عرفت مشورتك ولرأيك فضل، إن فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله لم تزل مظلومة، ومن حق أبيها ممنوعة، وعن
ميراثها مدفوعة، ولم تحفظ فيها وصية (أبيها) رسول الله
صلى الله عليه وآله، ولا روعي فيها حقها ولا حق الله عز وجل، وكفى
بالله حاكما ومن الظالمين منتقما، وأنا أسألك يا عم، أن
تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنها أوصتني بستر أمرها!
قال: فلما أتى المبعوث إلى العباس ونقل له ما قاله
علي عليه السلام، قال: يغفر الله لابن أخي، وإنه لمغفور له، إن
رأي ابن أخي لا يطعن فيه، إنه لم يولد لعبد المطلب مولود
أعظم بركة من علي إلا النبي صلى الله عليه وآله.
إن عليا لم يزل أسبقهم إلى كل مكرمة، وأعلمهم
بكل قضية، وأشجعهم في الكريهة، وأشدهم جهادا
للأعداء في نصرة الحنيفية، وأول من آمن بالله
ورسوله صلى الله عليه وآله.
وتوفي العباس في خلافة عثمان قبل مقتله بسنتين
بالمدينة، يوم الجمعة لاثنتي عشر خلون من رجب،
وقيل: من رمضان سنة اثنين وثلاثين، وقيل: ثلاث
13

وثلاثين من الهجرة، وهو ابن سبع وثمانين سنة، بعد أن
كف بصره، أدرك منها في الاسلام اثنين وثلاثين سنة.
وصلى عليه أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان، ودفن بالبقيع.
ودخل قبره ابنه عبد الله، وكان له من الذكور تسعة بنين.
وقيل: عشرة، ومن الإناث ثلاث بنات، والله أعلم.
عبد الله بن عباس (3 - 68 ه‍) (619 - 687 م)
(حبر هذه الأمة)
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي
الهاشمي، حبر الأمة. ولد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين،
وقيل: ولد في شعب أبي طالب وهم محصورون فيه.
وذكر الطائي أن النبي صلى الله عليه وآله حنكه بريقه حين ولد ودعا له
بالحكمة مرتين، وقال: اللهم علمه التأويل وفقهه في
الدين.
أمه أم الفضل لبانة بنت الحرث بن حرب الهلالية.
14

قال الزركلي في أعلامه (1): نشأ في بدء عصر
النبوة، فلازم رسول الله صلى الله عليه وآله، وروى عنه الأحاديث
الصحيحة، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين، (وكان
رسوله عليه السلام في محاججات الخوارج بالنهروان).
كف بصره في آخر عمره، فسكن الطائف وتوفي
فيها، له في الصحيحين وغيرهما (1660) حديثا.
قال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن. وقال عمرو
ابن دينار: ما رأيت مجلسا كان أجمع لكل خير من
مجلس ابن عباس، الحلال والحرام، والعربية.
والأنساب، والشعر.
وقال عطاء: كان ناس يأتون ابن عباس في الشعر
والأنساب، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعهم، وناس
يأتونه للفقه والعلم، فما منهم صنف إلا يقبل عليهم
بما يشاؤون، وكان كثيرا ما يجعل أيامه: يوما للفقه،
ويوما للتأويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما
(1) الاعلام 4: 95.
15

لوقائع العرب. وكان عمر إذا أعضلت عليه قضية دعا ابن
عباس وقال له: أنت لها ولأمثالها، ثم يأخذ بقوله ولا
يدعو لذلك أحدا سواه، وكان آية في الحفظ، أنشده ابن
أبي ربيعة قصيدته التي مطلعها: (أمن آل نعم أنت غاد
فمبكر) فحفظها في مرة واحدة، وهي ثمانون بيتا، وكان
إذا سمع النوادب سد أذنيه بأصابعه محافظة أن يحفظ
أقوالهن.
ولحسان بن ثابت شعر في وصفه وذكر فضائله.
وينسب إليه كتاب في (تفسير القرآن) جمعه بعض أهل
العلم من مرويات المفسرين عنه، في كل آية، فجاء
تفسيرا حسنا، وأخباره كثيرة، هذا نص ما في الاعلام.
فراجع.
وهذه شذرات من كتاب (رجال حول الرسول صلى الله عليه وآله)
أذكر منه محل الحاجة.
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن
عم رسول الله صلى الله عليه وآله، ولقبه: الحبر.. حبر هذه الأمة.. هيأه
لهذا القلب ولهذه المنزلة استنارة عقله، وذكاء قلبه،
16

واتساع معارفه.
لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه
وازداد بها معرفة، عندما رأى الرسول صلى الله عليه وآله يدنيه منه وهو
طفل، وبريت على كتفه، ويدعو له قائلا:
(اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها
الرسول صلى الله عليه وآله هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبد الله بن
العباس.. آنئذ، ادراك ابن عباس أنه خلق للعلم وللمعرفة،
وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.
فعلى الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الثالثة عشر
من عمره يوم مات رسول الله، فإنه لم يضيع طفولته
الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه
ما يقول.
ويقول عن نفسه:
إن كنت لأسأل عن الامر الواحد، ثلاثين من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
وهكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل..
17

ثم يفحص الإجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جرئ.
سئل ابن عباس يوما أنى أصبت هذا
العلم...؟؟ فأجاب: بلسان سؤول، وقلب عقول.
ويصفه (سعد بن أبي وقاص) بهذه الكلمات:
ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبا، ولا أكثر
علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، ولقد رأيت
(عمر) يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من
المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز
عمر قوله.
وتحدث عنه عبيد الله بن عتبة، فقال:
ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول
الله صلى الله عليه وآله من ابن عباس، ولا أعلم بشعر شولا عربية، ولا
تفسير للقرآن، ولا حساب وفريضة منه.
ولقد كان يجلس يوما للفقه، ويوما للتأويل، ويوما
للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لأيام العرب وأخبارها.
ولا رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا
سأله، إلا وجد عنده علما.
18

ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد
عمل واليا عليها للامام علي بن أبي طالب، فقال: إنه آخذ
بثلاث، تارك لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث،
وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الامرين إذا خولف.
وتارك المراءاة، ومصادقة اللئام، وما يعتذر منه.
حدث أحد أصحابه ومعاصريه فقال: لقد رأيت من
ابن عباس: مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها
به الفخر، وكان يمتلك إلى جانب ذاكرته القوية، بل
الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة.
كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا.
وبهجة، وهو في حواره ومنطقة، لا يترك خصه مفعما
بالاقتناع فحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق
وفطنة الحوار.
ولطالما روع الخوارج بمنطقة الصارم العادل.
بعث به المام علي كرم الله وجهه، ذات يوم إلى
طائفة كبيرة منهم - أي: الخوارج - فدار بينه وبينهم حوار
رائع وجه الحديث فيه وساق الحجة بشكل يبهر الألباب.
19

ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة:
سألهم ابن عباس: ماذا تنقمون من علي؟؟ قالوا:
ننقم منه ثلاثا.
أولاهن: أنه حكم الرجال في دين الله، والله يقول:
إن الحكم إلا لله.
والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا
غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلت له أموالهم، وإن كانوا
مؤمنين، فقد حرمت عليه دماؤهم.
والثالثة: رضى عند التحكيم أن يخلع عن نفسه
صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فإن لم يكن أمير
المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
وأخذ ابن عباس: يفند أهواءهم فقال:
أما قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله، فأي
بأس؟
إن الله يقول: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما مثل من النعم
يحكم به ذو عدل منكم).
20

فنبئوني بالله: أتحكم الرجال في حقن دماء
المسلمين أحق وأولى، أم تحكيم في أرنب ثمنها ربع
درهم؟؟
ولقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله تحكيم سعد بن معاذ في
بني قريضة.
وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساحر
الحاسم، واستأنف حبر الأمة حديثه.
وأما قولكم: إنه قاتل فلم يشب ولم يغنم، فهل كنتم
تريدون وأن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا،
ويأخذ أسلابها غنائم؟ وهنا كست وجوههم صفرة
الخجل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم.
وانتقل ابن عباس إلى الثالثة:
وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير
المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله
صلى الله عليه وآله يوم الحديبية، إذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه
وبين قريش، فقال للكاتب، (وهو على بن أبي طالب):
(أكتب، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.. فقال مبعوث
21

قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن
البيت ولا قاتلناك... فاكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن
عبد الله... فقال لهم الرسول: والله إني لرسول الله وإن
كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: اكتب ما يشاؤون، اكتب
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
واستمر الحواريين ابن عباس والخوارج على هذا
النسق الباهر المعجز..
وما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون
ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومه
الامام على!! هذا ما ذكروه بعض أهل السير من أهل
السنة.
(1) المؤلف: كل الذين خرجوا أولا كانوا أربعة آلاف، ثم التحق
بهم ثمانية آلاف فصاروا جميعا اثنتي عشر ألف خارجيا. ولما
كلمهم ابن عباس لم يستجيبوا له حتى جاء الامام علي
وحاججهم فرجع منهم ثمانية آلاف، وصاروا تحت راية ابن
عباس، وقاتل البقية.
22

أسد الغابة (1): روى عنه عبد الله بن عمر، وأنس بن
مالك... وخلق كثير غير هؤلاء.
عن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك،
احفظ الله تجده، تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن
ينفعوك شيئا لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا
على أن يضروك، لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله
عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. إلى آخر رواياته.
الدرجات الرفيعة (2):
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، يكنى أبو
العباس، أمه أم الفضل لبانة بنت الحرث بن حرب الهلالية،
ولد في شعب بني هاشم وهم محصورون فيه، قبل الهجرة
بثلاث سنين، وذكر الطائي أن النبي صلى الله عليه وآله حنكه بريقه حين
(1) أسد الغابة 3: 292.
(2) الدرجات الرفيعة: 99 - 141.
23

ولد، ودعا له بالحكمة مرتين.
عن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت:
أجمل الناس، وإذا نطق قلت أفصح الناس، فإذا تحدث
قلت أعلم الناس.
وقال مجاهد: ما رأيت أحدا قط مثل ابن عباس،
لقد مات يوم مات وإنه لخير هذه الأمة، وكان يسمى البحر
لكثرة علمه.
قال العلامة الحلي في (الخلاصة): عبد الله بن
عباس رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان محبا لعلي عليه السلام
وتلميذه، حاله في الجلالة والاخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام
أشهر من أن يخفي.
قال مؤلف: كتاب الدرجات الرفيعة (1) السيد علي
خان الشيرازي: الذي أعتقده في ابن عباس رضي الله عنه إنه كان
من أعظم المخلصين لأمير المؤمنين عليه السلام وأولاده، ولا شك
في تشيعه، وإيمانه وستقف على ما نذكره من أخباره
(1) الدرجات الرفيعة: 101.
24

على ما تحقق معه ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال السيد جمال الدين أحمد بن طاووس الحلي
رحمه الله في كتابه (1) عبد الله بن عباس رضي الله عنه حاله في المحبة
والاخلاص لمولانا أمير المؤمنين (وأولاده) والموالاة
والنصرة له، والذب عنه، والخصام في رضاه والمؤازرة له
مما لا شبهة فيه، وقد كان يعتمد ذلك مع من يجيب
اعتماده معه بعده على ما نطق به لسان السير.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن
عباس أنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم
يبكي حتى بل دمعه الحصى، فقلنا: يا ابن عباس، وما يوم
الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه فقال: ائتوني
بدواة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي أبدا، فتنازعوا فقال:
إنه لا ينبغي عندي تنازع، فقال قائل: ما شأنه يهجر،
استفهموه. فذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فالذي أنا
فيه خير مما أنتم فيه. هذا ما رواه البخاري ومسلم في
25

صحيحيهما عن ابن عباس.
وفي الصحيحين أيضا أخرجاه عن ابن عباس قال:
لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وآله وفي البيت عمر بن
الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون
بعده، قال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم
القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف القوم واختصموا فمنهم
من يقول قربوا إليه يكتب إليكم كتابا لن تضلوا بعده،
ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو
والاختلاف عنده، قال لهم: قوموا. فكان ابن عباس
يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبن أن
يكتب لهم ذلك الكتاب.
قال بعض العلماء: صدق ابن عباس عند كل عاقل
مسلم، والله لو لبس المسلمون السواد، وأقاموا المآتم
وبلغوا أعظم الحزن لأجل ما فعل عمر بن الخطاب لكان
قليلا.
روى عبد الله بن عمر، قال: كنت عند أبي يوما
وعنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر فقال: من أشعر
26

العرب، فقالوا: فلان وفلان. فطلع عبد الله بن عباس مسلم
وجلس فقال عمر: قد جاء الخبير من أشعر العرب يا عبد
الله؟ قال زهير بن أبي سلمى، قال: فأنشدني مما
تستجيده له فقال: إنه مدح قوما من بني غطفان. يقال لهم
بنو سنان:
لو كان يعقد فرق الشمس من شرف
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا
مرزؤن بهاليل إذ جهدوا
محسدون على من كان من نعم
لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر قاتله الله: لقد أحسن ولا أرى هذا المدح
يصلح إلا لهذا البيت من بني هاشم لقرابتهم من رسول الله.
فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل
موفقا، قال: يا ابن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟
27

قال: لا. قال: لكني أدري. قال: ما هو؟ قال: كرهت
قريش أن يجتمع لكم الخلافة والنبوة فتجحفوا بالناس
إجحافا، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت
فأصابت. فقال ابن عباس: أيميط عني أمير المؤمنين
غضبه. قال: قل ما تشاء.
قال: أما قولك إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى قال
لقوم: * (ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم) *.
وأما قولك: كنا نجحف، فلو أجحفنا بالخلافة لأجحفنا
بالقرابة، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله
الذي قال الله تعالى له: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، وقال
له: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *، وأما
قولك: إن قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول: * (وربك
يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) *، وقد علمت أن
الله اختار لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث
نظر الله له لو فقت قريش. فقال عمر: على رسلك يا بن
عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش
لا يزول وحقدا عليها لا يحول. فقال ابن عباس: لا
28

تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب
رسول الله صلى الله عليه وآله طهره الله وزكاهم، وهم أهل البيت الذين
قال الله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *.
وأما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب حقه
ويراه في يد غيره. فقال عمر: أما أنت يا بن عباس، فقد
بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي.
قال: ما هو؟ أخبرني به، فإن يك باطلا فمثلي أماط
الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتك عندي لا تزول
به. قال: بلغني أنك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منا حسدا
وظلما.
قال: أما قولك حسدا فقد حسدا فقد حسد إبليس آدم
فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود، وأما قولك
ظلما، فأنت تعلم صاحب الحق من هو؟ ثم قال:
ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله صلى الله عليه وآله،
واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وآله،
فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله من سائر قريش. فقال عمر:
29

قم الآن وارجع إلى منزلك. فقام، فلما ولى، هتف به
عمر، أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك.
فالتفت ابن عباس وقال: إن لي عليك حقا وعلى كل
المسلمين برسول الله صلى الله عليه وآله، فمن حفظه فحق نفسه حفظ،
ومن أضاعه فحق نفسه أضاع. فقال عمر لجلسائه: واها
لابن عباس، ما رأيته لاحى أحدا إلا خصمه (1).
فقد جاء في الاخبار والسير التأريخية عن ابن
عباس رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وآله في سياقه حديث
المعراج، إلى أن قال: إني لم أبعث نبيا إلا جعلت له
وزيرا، وإنك رسول الله، وان عليا وزيرك.
وعندما وصل الامام علي أمير المؤمنين عليه السلام في
خطبته الشقشقية على منبر الكوفة إلى:
أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة (2)، لولا حضور
الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر (2). وما أخذ الله على
(1) الدرجات الرفيعة: 104 - 109.
(2) النسمة: الروح، وبرأها الروح.
(3) الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة له.
30

العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب (1) مظلوم،
لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها،
ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.
قالوا: وقام اليه رجل من أهل السواد، عند بلوغه
إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه،
قال له ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، لو اطردت
خطبتك من حيث أفضيت، فقال: هيهات يا بن عباس،
تلك شقشقة هدرت ثم فرت.
قال ابن عباس: فو الله ما أسفت على كلام قط
كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ
منه حيث أراد.
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري،
قال: حدثنا أبو زيد عمر بن شبة بإسناد رفعه إلى ابن
عباس قال: إني أماشي عمر في سكة من سكك المدينة
يده على يدي: فقال: يا بن عباس، ما أظن صاحبك إلا
(1) السغب: شدة الجوع.
31

مظلوما. فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها. فقلت: يا
أمير المؤمنين، فإذا إليه ظلامته. فانتزع يده من يدي ثم مر
يهمهم ساعة ثم وقف، فلحقته، فقال: يا بن عباس، ما
أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه. فقلت
في نفسي: هذه شر من الأولى. فقلت: والله ما استصغره
الله حين أمره بأخذ سورة براءة من أبي بكر. وعن ابن
عباس قال (1): ما شيت عمر بن الخطاب يوما فقال لي: يا
بن عباس، ما منع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟
قلت: لا أدري. قال لكني أدري، إنكم فضلتموهم
بالنبوة فقالوا إن فضلونا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا
شيئا، وإن أفضل النصيبين بأيديكم بل ما أخالها إلا
مجتمعة فيكم وإن نزلت على رغم أنف قريش.
وروى احمد بن أبي طاهر في كتاب تأريخ بغداد.
بسنده عن ابن عباس قال: دخلت على عمر في أول
خلافته وقد ألقي إليه صاع من تمر على صحفة فدعاني
(1) وفي شرح النهج: لابن أبي الحديد 12: 20.
32

للاكل فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ثم
شرب من جرة كانت عنده واستلقى على مرفقة له وطفق
يحمد الله، يكرر ذلك، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله.
قلت: من المسجد. قال: كيف خلفت ابن عمك، فظننته
يعني عبد الله بن جعفر. قلت: خلفته مع أقرانه يلعب.
قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت:
خلفته يمتح بالغرب على نخلات له وهو يقرأ القرآن.
فقال: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها أبقي في
نفسه شيء من أمر الخلافة. قلت: نعم، وأزيدك. سألت أبي
عما يدعيه. فقال: صدق. قال عمر: لقد كان من رسول
الله صلى الله عليه وآله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع
عذرا، وقد كان يزيغ في أمره وقتا ما ولقد أراد في مرضه
أن يصرح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقا وحفيظة على
الاسلام، لا ورب هذه البنية، لا تجتمع عليه قريش أبدا.
ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها * فعلم رسول
الله صلى الله عليه وآله أني علمت ما في نفسه فأمسك وأبي الله إلا إمضاء
33

ما حتم.
قلت: يشير إلى اليوم الذي قال فيه صلى الله عليه وآله: هلم أكتب
لكم كتابا لا تضلون بعده. فقال عمر: إنه قد غلبه الوجع،
وقد ذكرنا الحديث أنفا.
وحدث ابن عائشة عن أبيه، قال: نظر الحطيئة (1)
إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد برع بكلامه، فقال:
من هذا الذي قد نزل عن القوم في سنه وعلاهم في قوله؟
قالوا: هذا ابن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنشأ يقول
شعرا:
إني وجدت بيان المرء نافلة * تهدى له ووجدت العمى كالصمم
المرء يبلى وتبقى سائر الكلم * وقد يلام الفتى يوما ولم يلم
وعن الشعبي قال: قيل لابن عباس: من أين
أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
(1) الحطيئة: أحد الشعراء المعروفين.
34

قال ابن عباس: قدمت من مكة بعد مقتل عثمان
بخمسة أيام، فجئت عليا عليه السلام لا دخل عليه فسألت عنه
فقيل لي عنده (المغيرة بن شعبة)، فجلست بالباب حتى
خرج المغيرة ودخلت على علي عليه السلام، فحدثني بما جرى
بينه والمغيرة إلى آخر حديثه، قال ابن عباس: فقلت أما
أول ما أشار به عليك فقد نصحك فيه، وأما الاخر فقد
غشك به، وأنا أشير عليك ان تبقي معاوية فإن بايعك فعلى
إن أقفله من منزله، قال عليه السلام: والله لا أعطيه إلا السيف
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك رجل شجاع، أما سمعت
رسول الله يقول: الحرب خدعة. فقال: بلى. فقلت: إني
والله لأصدرن بعد ورود ولا تركتهم ينظرون في إدبار
الأمور ولا يدرون ما وجهها في غير نقص عليك ولا إثم.
فقال عليه السلام: يا بن عباس، لست من هناتك ولا هنات
معاوية في شيء، لك أن تشير علي وأرى، فإذا عصيتك
فأطعني. فقلت: فأنا أفعل، فإن أيسر ما عندي لك الطاعة.
ثم خرج ابن عباس معه عليه السلام إلى البصرة وشهد معه وقعة
الجمل، ولما صار علي عليه السلام إلى البصرة بعث ابن عباس
35

فقال له: لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور
عاقصا قرنه يركب الصعب ويقول: هو الذلول، ولكن القى
الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك:
عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا.
قال ابن عباس: فأتيت الزبير فقلت له ما قال عليه السلام. فقال:
إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك ولم يزدني على ذلك،
فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته.
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما أرسل ابن عباس
إلى الزبير قال: من كان له ابن عم مثل ابن عباس فقد أقر
الله عينه.
وأخرج الكشي بإسناده قال: لما هزم علي بن أبي
طالب عليه السلام أصحاب الجمل بعث عبد الله بن عباس إلى
عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة، قال ابن
عباس: فأتيتها وهي في قصر بني خلف في جانب
البصرة، قال: وطلبت عليها الاذن فلم تأذن فدخلت
عليها من غير إذنها، فإذا بيت قفار لم يعد لي فيه مجلس،
وإذا من وراء سترين فضربت ببصري فإذا في جانب
36

البيت رحل عليه طنفسة، قال: فمددت الطنفسة فجلست
عليها، فقالت من وراء الستر: يا بن عباس، أخطات
السنة، دخلت علينا بيتنا بغير إذننا وجلست على متاعنا
بغير إذننا. فقال لها ابن عباس: نحن أولى بالسنة منك
ونحن علمناك السنة، وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول
الله فخرجت منه ظالمة لنفسك غاشة لدينك عاتية على
ربك عاصية لرسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا رجعت إلى بيتك لم
ندخله إلا باذنك ولم نجلس على متاعك إلا بأمرك، إن
أمير المؤمنين عليه السلام بعث إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة
وقلة العرجة. فقالت: رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن
الخطاب. فقال ابن عباس: هذا والله أمير المؤمنين وإن
تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أمير
المؤمنين عليه السلام وأمس برسول الله صلى الله عليه وآله رحما وأقرب قرابة
وأقدم سبقا وأكثر علما وأعلى منارا وأكثر آثارا من أبيك
ومن عمر. فقالت: أبيت ذلك. فقال: أما والله إن كان
إباؤك فيه قصير المدة عظيم المشقة ظاهر الشؤم بين
النكد. وما كان إباؤك فيه إلا كحلب شاة حتى صرب ما
37

تأمرين ولا تنهين ولا ترفعين ولا تضعين. وما كان مثلك
إلا كمثل ابن الحضرمي بن نجمان أخي بني أسد حيث
يقول:
ما زال إهداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركتهم كأن قلوبهم * في كل مجمعة طنين ذباب
قال: فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وتبدى
نشيجها، ثم قالت: أخرج والله عنكم فما في الأرض بلد
أبغض إلى من بلد أنتم فيه. فقال ابن عباس: فلم والله ماذا
بلاؤنا عندك ولا صنيعنا إليك إنا جعلناك للمؤمنين اما
وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي
قحافة. فقالت: يا بن عباس، تمنون علي برسول الله
صلى الله عليه وآله؟ فقال: ولم لا نمن عليك لو كان منك قلامة منه مننتنا
به ونحن لحمه ودمه ومنه وإليه، وما أنت إلا حشية من
تسع حشايا خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا أحسنهن
وجها، ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقا، ولا
38

بأطراهن أصلا، فصرت تأمرين فتطاعين وتدعين
فتجابين، وما مثلك إلا كما قال أخي بني فهر:
مننت على قومي فأبدوا عداوة * فقلت لهم كفوا العداوة والنكرا
ففيه رضا من مثلكم لصديقه * وأحجى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا
قال: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته
بمقالتها وما رددت عليها، فقال عليه السلام: أنا أعلم بك حيث
بعثتك.
وأقام أمير المؤمنين بعد وقعة الجمل خمسين ليلة
ثم أقبل على الكوفة واستخلف ابن عباس على البصرة.
ولما خرج عليه السلام إلى صفين لحرب معاوية كتب إلى
عماله يستفزهم، فكتب إلى ابن عباس وهو عامله على
البصرة: أما بعد، فاشخص إلى بمن قبلك من المسلمين
والمؤمنين وذكرهم بلائي عندهم وعفوي عنهم في
الحرب، وأعلمهم الذي في ذلك من الفضل، والسلام.
فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة قام في
39

الناس فقرأ عليهم الكتاب وحمد الله وأثنى عليه. وقال:
أيها الناس، استعدوا للشخوص إلى إمامكم وانفروا خفافا
وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون
المحلين القاسطين الذين لا يقرأون القرآن ولا يعرفون
حكم الكتاب ولا يدينون دين الحق مع أمير المؤمنين عليه السلام
وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله الامر بالمعروف والناهي عن
المنكر والصادع بالحق والمقيم بالهدى والحاكم بحكم
الكتاب الذي لا يرتشي في الحكم ولا يداهن الفجار ولا
تأخذه في الله لومة لاثم. فقام اليه الأحنف بن قيس،
فقال: نعم والله، لنجيبن ولنخرجن معك على العسر
واليسر والرضا والكره، نحتسب في ذلك الاجر ونأمل به
من الله العظيم حسن الثواب. وأجابه سائر الناس إلى
المسير، فاستعمل أبا الأسود الدؤلي على البصرة وخرج
حتى قدم على أمير المؤمنين عليه السلام بالنخيلة (مصغر نخلة)
موضع من الكوفة على سمعت الشام.
وعن عبد الله بن عوف بن الأحمر: أن عليا عليه السلام لم
يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة.
40

وروي أن نصر بن مزاحم قال: لما اشتد الامر
وعظم البلاء على أهل الشام قال معاوية لعمرو بن
العاص: إن رأس الناس بعد علي عليه السلام لعبد الله بن عباس،
فلو كتبت إليه كتابا لعلك تخدعه به، ولعله لو قال شيئا لم
يخرج علي منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى
العراق إلا بهلاك أهل الشام. فقال عمرو: إن ابن عباس لا
يخدع، ولو طمعت فيه لطمعت في علي. قال معاوية: على
داك فاكتب. فكتب عمرو إليه: أما بعد، فإن الذي نحن ففيه
وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء، وأنت رأس هذا الجمع
بعد علي عليه السلام، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقت
هذه الحرب لنا ولكم حياء ولا صبرا.
واعلم أن الشام لا تملك إلا بهلاك أهل العراق، وأن
العراق لا تملك إلا بهلاك أهل الشام، فما خيرنا بعد هلاك
أعدادنا منكم، ما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا، ولسنا
نقول ليت الحرب عادت، ولكنا نقول ليتها لم تكن، وإن
فينا من يكره اللقاء كما أن فيكم من يكرهه، وإنما هو أمير
مطاع ومأمور مطيع ومؤتمن مشاور وهو أنت، فأما
41

الأشتر الغليظ القاسي القلب فليس بأهل أن يدعي
في الشورى ولا في خواص أهل النجوى. وكتب في
أسل الكتاب:
طال البلاء وما يرجى له آسي * بعد الإله سوى رفق ابن عباس
قولا لا قول من يرجو مودته * لا تنس حظك إن الخاسر الناسي
انظر فداؤك نفسي قبل قاصمة * للظهر ليس لها راق ولا آسي
إن العراق وأهل الشام لن يجدوا
طعم الحياة مع المستغلق القاسي
يا بن الذي زمزم سقيا الحجيج له * أعظم بذلك من فخر على الناس
إني أرى الخير في سلم الشآم لكم * والله يعلم ما بالسلم من باس
فيها التقى وأمور ليس يجهلها
إلا الجهول وما نوكى كأكياس
42

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على
أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: قاتل الله بن العاص، ما أغراه
بك يا عبد الله، أجبه وليرد عليه الشعر الفضل بن العباس
فإنه شاعر، فكتب ابن عباس إلى عمرو: أما بعد، فإني لا
أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك، إنه مال بك معاوية
إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير، ثم حيطت الناس في
عشوه طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا، ثم
تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع، فإن كنت صادقا
فارجع إلى بيتك ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا
الفانية، واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي عليه السلام،
بدأها علي عليه السلام بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها
معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل العراق
فيها كأهل الشام، بايع أهل العراق عليا عليه السلام وهو خير
منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه. ولست أنا
وأنت فيها سواء، أرادت الله تعالى، وأردت مصر، وقد
عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي
قربك من معاوية، فإن ترد شرا لا نسبقك إليه، وإن ترد
43

خيرا لا تسبقنا إليه، والسلام. ثم دعا أخاه الفضل فقال:
يا بن أم، أجب عمرا. فقال الفضل:
يا عمرو حسبك من مكر ووسواس * فاذهب فليس لداء الجهل من آسي
إلا تواتر طعن في نحوركم
يشجي النفوس ويشقي نخرة الرأس
أما علي فإن الله فضله
بفضل ذي شرف عال على الناس
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيبة * أو تبعثوها فإنا غير أنكاس
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة * هذا بهذا وما بالحق من بأس
ثم عرض الشعر والكتاب على علي عليه السلام فقال: لا
أراه يجيبك بعدها بشيء أبدا إن كان يعقل، وإن عاد عدت
عليه. فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه
على معاوية فقال: إن قلب ابن عباس وقلب علي عليه السلام
واحد، وكلاهما ولد عبد المطلب، وإن كان قد خشن فلقد
44

لان، وإن كان قد عظم صاحبا فلقد قارب وجنح إلى
السلم.
قال نصر: وقال معاوية: لأكتبن إلى ابن عباس
كتابا أستعرض فيه عقله وأنظر ما في نفسه، فكتب إليه:
إلى آخر كتابه المذكور في الدرجات الرفيعة: 112 -
113.
وفي مناقب ابن شعر آشوب: إن أمير المؤمنين عليه السلام
أنفذ يوم الجمل زيد بن صوحان وعبد الله بن عباس إلى
عائشة، فوعظاها وخوفاها، ثم نقل عن (رامش أفزاي)
أنها قالت: لا طاقة لي بحجج علي. فقال ابن عباس: لا
طاقة لك بحجج المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق.
كان ابن عباس تلميذ أمير المؤمنين عليه السلام وخريجه
مضافا إلى ما أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله، ولذلك كان يسمى حبر
اللامة، وصحبه في حروبه كلها (الجمل وصفين
والنهروان) وولاه البصرة، وكان يعده لمهام الأمور، فقد
أرسله إلى عائشة بعد حرب الجمل، فكان له في ذلك
المقام المشهود والحجة القاطعة، وأراه للحكومة يوم
45

صفين فأبى أهل الجباه السود العمي القلوب، وبعثه إلى
الخوارج يوم النهروان فاحتج عليهم بأبلغ الحجج وكان له
في نصرة أمير المؤمنين وأبنائه مواقف مشهودة، منها:
لما مر بصفة زمزم (1) وسمع شاميا يسب عليا عليه السلام، ومنها
مع عبد الله بن الزبير ومع معاوية، وهو الذي كتب إلى يزيد
بعد قتل الحسين عليه السلام بما كتب وكان يمسك بركاب
الحسنين عليهما السلام إذا ركبا وروى الكشي بسنده أنه قال لما
حضرته الوفاة: اللهم إني أحيا على ما حيي عليه علي بن
أبي طالب وأموت على ما مات عليه علي بن أبي طالب.
وقد نسب أنه فارق أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ مال
البصرة وذهب إلى مكة، وقد أنكر ذلك جماعة.
كما أنكر ذلك بعضهم، وقال: لم يزل عاملا عليها
- أي البصرة - حتى قتل علي وشهد صلح الحسن مع
معاوية ثم خرج إلى مكة.
وفي الحقيقة لو صحت خيانته لحاسبه أمير
(1) سنذكر حديث بن عباس فيما بعد.
46

المؤمنين حسابا شديدا، وهو الذي لا تأخذه في الله لومة
لائم، ولأقتص منه.
وقال ابن أبي الحديد، الأكثرون على القول الأول،
وقال آخرون وهم الأقلون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد
الله بن عباس عليا عليه السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميرا
على البصرة إلى أن قتل علي عليه السلام، ثم قال: وهذا عندي هو
الأمثل والأصوب.
وقال العلامة في الخلاصة: كان محبا لعلي عليه السلام
وتلميذه، حاله في الجلالة والاخلاص لأمير المؤمنين
عليه السلام أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن
قدحا فيه وهو أجل من ذلك، ومن جملة تلك الأحاديث
حديث مفارقته عليا عليه السلام وأخذه مال بيت مال البصرة
المتقدم والحديث الآتي من كتاب أمير المؤمنين إليه في
ذلك وجوابه.
وقال الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة: جملة ما
ذكره الكشي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلها ضعيفة
السند. وقال السيد ابن طاووس: حاله في المحبة
47

والاخلاص لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وموالاته والنصر له
والذب عنه والخصام في رضاه والمؤازرة له مما لا شبهة
فيه، ثم قال معرضا بأخبار الذم: ومثل الحبر موضع أن
يحسده الناس ويباهتوه.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسدا وبغضا إنه لذميم
قال: ولو ورد في مثله ألف رواية أمكن أن تعرض
للتهمة، فكيف بهذه الاخبار الضعيفة الركيكة: قال ابن أبي
الحديد: ويدل على عدم مفارقة ابن عباس أمير المؤمنين
عليه السلام ما رواه أبو الفرج الأصفهاني أنه لما استشهد أمير
المؤمنين عليه السلام دس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفة
ورجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان له بالاخبار، فدل
عليهما فقتلا، فكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى
معاوية: أما بعد فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة
تلتمس من غفلات قريش: إلى آخر الكتاب، فهو يدل
على وجوده في البصرة عند وفاة أمير المؤمنين عليه السلام قال:
وقالوا كيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجره إلى
48

جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من عمال أمير
المؤمنين عليه السلام واستمالهم بالأموال، فما باله وقد علم النبوة
التي حدثت بينهما لم يستمل ابن عباس، وكل من قرأ
السير وعرف التواريخ يعرف مشاقة ابن عباس لمعاوية
بعد وفاة علي عليه السلام وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وما
كان يثني به على أمير المؤمنين ويذكر خصائصه وفضائله
ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر
لما كان الأمر كذلك.
قال السيد محسن الأمين في الأعيان: إنكار أخذ
ابن عباس المال من البصرة وإنكار كتاب أمير المؤمنين
عليه السلام إليه المقدم ذكره صعب جدا بعد ملاحظة ما تقدم ولا
يحتاج فيه إلى تصحيح روايات الكشي، وبعد ما ذكرناه
من الشواهد على اشتهار الامر في ذلك، كما إن إخلاص
ابن عباس لأمير المؤمنين عليه السلام وتفوقه في معرفة فضله لا
يمكن إنكاره، والذي يلوح لي أن ابن عباس لما ضايقه
أمير المؤمنين عليه السلام في الحساب عما أخذ ومن أين أخذ
وفيما وضع كما يقتضيه عدله ومحافظته على أموال
49

المسلمين وعلم أنه محاسب على ذلك أدق حساب وغير
مسامح في شيء سولت له نفسه أخذ المال من البصرة
والذهاب إلى مكة، وهو ليس بمعصوم وحب الدنيا مما
طبعت عليه النفوس، فلما كتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام
ووعظه وطلب منه التوبة تاب وعاد سريعا، وعدم وجود
نص للمؤرخين على عودته لا يضر بل يكفي ذكرهم أنه
كان بالبصرة عند وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، كما دل
عليه كتابه السابق إلى معاوية، أما الجواب الأخير الذي
زعموا أنه أجاب به أمير المؤمنين عليه السلام فمعاذ الله أن يصدر
منه، والله العالم بحقائق الأمور، انتهى.
ويعتبر هذا البهت من اختلافات الحاسدين لابن
العباس وأعداؤه.
وجاء في الجزء الأول من أمالي المرتضى:
روى أبو عبيدة، قال: دخل عمرو بن عبيد على
سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة فقال له
سليمان: أخبرني عن صاحبك، يعني الحسن البصري،
إلى أن قال: فقوله في عبد الله بن العباس يفتينا في القملة
50

والقميلة وطار بأموالنا في ليلة، فقال له: فكيف يقول هذا
وابن عباس لم يفارق عليا حتى قتل وشهد صلح الحسن
عليه السلام، وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة علي
إلى الأموال وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كل خمس
ويرشه، وقالوا: إنه كان يقبل فيه فكيف يترك المال يجتمع
بالبصرة؟ هذا باطل.
وقال عبد الله بن العباس في أمير المؤمنين عليه السلام:
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه إن قيل هل من منازل
فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا * أشم كنصل السيف غير حلاحل
عن ليث بن أبي سليم، قال: قلت لطاووس لزمن
هذا الغلام - يعني ابن عباس - وتركت الأكابر من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا تدارأوا في شيء صاروا إلى
قول ابن عباس.
عن يعقوب بن زيد عن أبيه، قال: سمعت جابر بن
51

عبد الله الأنصاري يقول حين بلغه موت ابن عباس،
وصفق بإحدى يديه على الأخرى: مات أعلم الناس،
وأحلم الناس، ولقد أصيبت الأمة به مصيبة لا ترتق (1).
وفيه يقول حساب بن ثابت:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه * رأيت له في كل أحواله فضلا
إذا قال لم يترك مجالا لقائل * بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفئ شفى ما في النفوس فلم يدع * لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة * فنلت ذراها دنيا ولا غلا
خلقت خليقا للمروءة والندى * فليجا ولم تخلق كهاما ولا جبلا
الإصابة لابن حجر العسقلاني (2): سئل ابن عمر
(1) الاستيعاب على هامش الإصابة 2: 350.
(2) الإصابة 4: 147.
52

فقال سل ابن عباس (كانتا رتقا ففتقناهما)، فقال: كانت
السماوات رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت، ففتق
هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل فأخبر ابن عمر،
فقال: لقد أوتي ابن عباس علما صدقا هكذا، لقد كنت
أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس في تفسير القرآن، فالآن
قد علمت أنه قد أوتي علما.
وقال عمرو بن حبشي: سألت ابن عمر عن آية،
فقال: انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما
أنزل الله تعالى على محمد.
سعيد بن جبير، قال: مات ابن عباس بالطائف سنة
68 ه‍، فشهدت جنازته، وله من العمر واحد وسبعين سنة،
فجاء طائر أبيض لم ير على خلقته، فدخل في نعشه ولم
ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية: * (يا أيتها
النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) *.
أخرج أبو عبد الله الملا، في سيرته عن ابن عباس:
إنه مر بعد ما كف بصره، على قوم يسبون عليا، فقال
لقائده: ما سمعت هؤلاء يقولون؟! قال: سبوا عليا. قال:
53

ردني إليهم. فرده فقال: أيكم الساب لله عز وجل؟!
قالوا: سبحان الله من سب الله فقد أشرك. قال: فأيكم
الساب لرسول الله؟! قالوا: سبحان الله ومن سب رسول
الله فقد كفر. قال: أيكم الساب علي بن أبي طالب؟!
قالوا: أما هذا فقد كان. قال: فأنا اشهد الله، وأشهد اني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من سب عليا فقد سبني،
ومن سبني فقد سب الله عز وجل، ومن سب الله كبه الله
على منخره في النار، ثم ولي عنهم فقال لقائده: ما
سمعتهم يقولون؟! قال: ما قالوا شيئا. قال: فكيف رأيت
وجوههم إذ قلت ما قلت؟ قال:
نظروا إليك بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر
قال: زدني، فداك أبوك. قال:
خزر العيون نواكس أبصاركم * نظر الذليل إلى العزيز القاهر
قال: زدني، فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا.
قال: لكن عندي:
54

أحياؤهم عار على أمواتهم * والميتون فضيحة للغاير
أخرجه محب الدين الطبري في (الرياض 10:
166)، والكنجي في (الكفاية: 27)، وشيخ الاسلام
الحموي في (الفرائد، الباب السادس والخمسين)، وابن
الصباغ المالكي في (الفصول: 126).
أخرج النسائي في صحيحه، عن أبي مليكة، قال:
كان بين ابن عباس وبين ابن الزبير شيء، فغدرت على
ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرام
الله؟ فقال: معاذ الله، كتب ابن الزبير، وبني أمية محلين
للحرام، وإني والله لا أحله أبدا.
وروى المسعودي، عن سعيد بن جبير، إن ابن
عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير: إلى م
تؤنبني وتعنفني؟ فقال ابن عباس: إني سمعت رسول الله
يقول: بئس المسلم يشبع ويجوع جاره، وأنت ذلك
الرجل، فقال ابن الزبير: والله إني لأكتم بغضكم أهل هذا
البيت منذ أربعين سنة، وتشاجرا، فخرج ابن عباس من
55

مكة فأقام بالطائف حتى مات.
وروى غيره، أن ابن الزبير حسب عبد الله بن عباس
مع محمد بن الحنيفة رضي الله عنه في رجال من بني هاشم في
شعب غارم حتى أرسل المختار من الكوفة جيشا
فاستخلصوهم منه كما سيأتي ذكره في ترجمة ابن الحنفية
إن شاء الله تعالى.
وروى المدائني، قال: لما أخرج ابن الزبير عبد
الله بن عباس من مكة إلى الطائف مر بنعمان فنزل فصلى
ركعتين ثم رفع يديه يدعوه، فقال: اللهم إنك تعلم أنه لم
يكن بلد أحب إلي من أن أعبدك فيه من البلد الحرام وإني
لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه، إن ابن الزبير أخرجني
ليكون الأقوى في سلطانه، اللهم فأوهن كيده واجعل
دائرة السوء عليه. فلما دنى من الطائف تلقاه أهلها
فقالوا: مرحبا بابن عم رسول الله، أنت والله أحب
إلينا وأكرم علينا مم أخرجك، هذه منازلنا تخيرها فانزل
منها حيث أحببت. فنزل منزلا، فكان يجلس إليه أهل
الطائف بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلم بينهم.
56

قال المسعودي، في مروج الذهب: ذهب بصر ابن
عباس لبكائه على علي بن أبي طالب والحسن والحسين
عليهم السلام، وهو الذي يقول:
أن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير مدخل * وفي فمي صارم كالسيف مشهور
وأخرج الكشي، عن سلام بن سعيد عن عبد الله بن
عبد باليل، رجل من أهل الطائف، قال: أتينا ابن عباس
رحمه الله نعوده في مرضه الذي مات فيه، قال: فأغمي عليه في
البيت، فأخرج إلى صحن الدار، قال: فأفاق، فقال: إن
خليلي رسول الله قال إني سأهاجر هجرتين وإني سأخرج
من هجرتي، فهاجرت هجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهجرة مع
على عليه السلام، وإني سأعمى فعميت، وإني سأغرق فأصابني
حكة فطرحني أهلي في البحر فغفلوا عني فغرفت ثم
استخرجوني بعد، وأمرني أن أبرأ من خمسة من الناكثين
وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أهل الشام،
57

ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم
الذين ضاهوا النصارى في دينهم فقالوا لا قدر، ومن
المرجئة الذين ضاهوا اليهود في دينهم فقالوا الله أعلم،
قال: ثم قال: اللهم إني أحيى ما حي عليه علي بن أبي
طالب عليه السلام وأموت على ما مات عليه علي بن أبي طالب
عليه السلام. قال: ثم مات، فغسل وكفن ثم صلي على سريره
فجاء طائران أبيضان فدخلا في كفنه فرأى الناس إنما هو
فقهه، فدفن.
وأخرج أيضا، عن شريح عبد أبي عبد الله الصادق
عليه السلام، أن ابن عباس لما مات وأخرج خرج من كفنه طير
أبيض ينظرون إليه نحو السماء حتى غاب عنهم، فقال عليه السلام:
وكان أبي يحبه حبا شديدا وكانت أمه تلبسه ثيابه وهو
غلا فينطلق إليه في غلمان بني عبد المطلب، قال: فأتاه
بعد ما أصيب ببصره فقال: من أنت؟ قال: انا محمد بن
علي بن الحسين عليه السلام. فقال: حسبك من لم يعرفك فلا عرفك.
وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده، عن السدي، عن
أبي صالح، قال: لما حضرت عبد الله بن عباس الوفاة،
58

قال: اللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب.
قال الشيخ أبو الحسين يحيى بن الحسن بن البطريق
قدس الله روحه هذا القول من ابن عباس من أدل دليل
على أن الميت يسأل عن معرفة الله تعالى معرفة النبي صلى الله عليه وآله
وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لأنه قد ثبت
عند من يعلم ومن لا يعلم أن منكرا ونكيرا ومبشرا وبشيرا
يسألان الميت عند نزول قبره عن ربه ونبيه وإمامه، وهذا
من أدل دليل على سؤال الملائكة عن ولاوية أمير المؤمنين
عليه السلام ولولا ذلك لما جعلها ابن عباس خاتمة علمه، لأنه
بلا خلاف، وكان يقول له أمير المؤمنين عليه السلام: أنت كنت
مملوء علما ولو لم يتحقق في ذلك حالا عن النبي صلى الله عليه وآله لما
كان قد جعل غاية تقربه إلى الله آخر كلام يكتب له ولاية
علي بن أبي طالب عليه السلام، ولو لم يعلم أن فيها النجاة لما
جعلها آخر عمله، فهذه مما يجب على خلق الله كافة أن
يأتوا بمثل ما أتى به ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم.
توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين، أيام
59

ابن الزبير وله من العمر إحدى وسبعون سنة.
ودفن بالطائف وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقال:
اليوم مات رباني هذه الأمة، وضرب على قبره فسطاطا.
يقول المؤلف: وقد زرت قبره، وله ضريح في أكبر
جامع بالطائف اليوم.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم بارك له الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله، ويوم درس ودرس، ويوم جاهد، ويوم مات، ويوم
يبعث حيا.
المصادر
1 - أسد الغابة 3: 290، ت 3035
2 - الإصابة 4: 141، ت 4784
3 - الاعلام 4: 95
4 - حلية الأولياء 1: 314
5 - الدرجات الرفيعة: 99
6 - طبقات ابن سعد 2: 365
7 - معجم رجال الحديث 10: 229
8 - الاستيعاب على هامش الإصابة 2: 350
9 - رجال حول الرسول: 569
60

بسم الله الرحمن الرحيم
* (إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) * (1)
عثمان بن مظعون
الحواريون
خريجو مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
(1) النحل: 128.
61

عثمان بن مظعون
عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي،
(أبو السائب)، صحابي جليل، كان من حكماء العرب في
الجاهلية، حرم الخمرة على نفسه في الجاهلية، أسلم بعد
ثلاثة عشر رجلا، وكان الرجل الرابع عشر ممن أسلم
على يد رسول الله صلى الله عليه وآله ومن الأوائل الذين آمنوا به
وصدقوه واتبعوا النور الذي جاء به صلى الله عليه وآله.
هاجر إلى الحبشة مرتين، المرة الأولى كانت
بإمرته، واصطحب معه ابنه السائب، والهجرة الثانية كانت
بإمرة جعفر بن أبي طالب، وبعدها عاد إلى مكة، ثم هاجر
إلى يثرب، وأراد التبتل والسياحة في الأرض زهدا
63

بالحياة، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: يا عثمان، إن الله لم
يبعثني بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية.
شهد عثمان بدرا، ولما عاد من بدر بأشهر قليله
مات بالمدينة، وذلك في سنة 2 للهجرة = 624..
وبعد موته جاءه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد تغسيله، قبله
كما رؤيت دموعه تتحادر على خده صلى الله عليه وآله.
وهو أول من دفن بالبقيع من المهاجرين والمسلمين.
إن هذا الصحابي الجليل الذي نطالع سيرته، كان
راهبا بكل ما في الرهبنة من معان، وكانت رهبانيته عملا
دائبا في سبيل الحق، وتفانيا في سبيل الخير والصلاح.
وكان عثمان بن مظعون واحدا من القلة الأوائل
التي سارعت إلى الايمان بالله ورسوله والتفت حوله صلى الله عليه وآله.
ولقد نزل به العذاب، والأذى والضرر، ما كان ينزل
يومئذ بالمؤمنين الصامدين الصابرين.
عند ذلك آثر الرسول صلى الله عليه وآله هذه النخبة المؤمنة
المضطهدة بالعافية * آمرا إباها بالهجرة إلى الحبشة، مؤثرا
أن يبقى وحده في مواجهة جبابرة قريش.
64

كان (عثمان بن مظعون) أمير الفوج الأول من
المهاجرين إلى الحبشة، مصطحبا معه ابنه (السائب) موليا
وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكائد أعداء الله ورسوله، أمثال
(أبي جهل) وضراوة طواغيت قريش، وهول عذابها.
والهجرة الثانية كانت يإمرة جعفر بن أبي طالب.
وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا
الهجرتين... الأولى والثانية، ولم يزدد (عثمان بن
مظعون) إلا استمساكا بالاسلام واعتصاما به.
والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان منعطفا تاريخيا،
وظاهرة فريدة، ومجيدة في الاسلام.
فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله، واتبعوا النور
الذي انزل معه، قد سئموا الوثنية بكل ضلالات ها
وجهالاتها، وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد معها
تسيغ عبادة الأصنام المنحوتة من الحجارة، أو معجونة
من صلصال، وهي جامدة، لا تضر ولا تنفع.
وحينما هاجروا إلى الحبشة وجدوا فيها دينا سائدا
منظما، له كنائسه وبيعه ورهبانه وقساوسته. ومهما تكن
65

فهي بعيدة عن الوثنية وعبادة الحجارة، التي ألفوها في
بلادهم من الأصنام بشكلها المعروف التي خلفوها وراء
ظهورهم.
ولا بد أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا
جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين بدينهم، وإقناعهم
بالمسيحية دينا، وأنا لهم ذلك، وق تركز الايمان بالواحد
الأحد وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله في نفوسهم، مما جعلهم
يتركون بلادهم وعشيرتهم ومسقط رأسهم هاربين بدينهم
وعقيدتهم، مترقبين ذلك اليوم القريب الذي يعودون فيه
إلى بلادهم الحبيبة، منتصرين لعبادة الواحد الأحد
ومؤتمن برسوله الكريم صلى الله عليه وآله والدفاع عن شريعة السماء
حتى لو اقتضى ذلك قتال الكافرين والمشركين.
عاش المهاجرون في الحبشة آمنين مطمئنين في
ظل ملك عادل، ومنهم (عثمان بن مظعون) الذي تذكر في
المهجر مكائد ابن عمه (أمية بن خلف)، وما الحقه به
وبغيره من المؤمنين من الأذى والعذاب، فأخذ بهجائه
وتوعده بقوله:
66

تريش نبلا لا بواتيك ريشها * وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة * وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع
ستعلم إن تأتيك يوما ملمة * وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
بينما المهاجرون في دار هجرتهم يؤدون طقوسهم
ويعبدون الله ويتدارسون ما حملوه من القرآن الكريم، إذ
الانباء تؤاتي هم أن قريشا أسلمت وآمنت بالواحد الأحد
وهادنت المسلمين.
هنالك حمل بعض المهاجرين أمتعتهم راجعين إلى
مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم حنينهم.
بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارف مكة حتى
تبين لهم كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش،
وعندئذ سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد تورطوا
واستعجلوا في العودة، ولكن إلى أين يذهبون؟ وهذه مكة
على مرمى البصر.
67

وقد سمع مشركو مكة بعودة الذين طاردوهم
ونصبوا شباكهم لاقتناص هم، وها هم الآن في قبضتهم.
كان حكم الجوار يومئذ جاريا وتقليدا عند العرب،
فإذا دخل رجل مستضعف في جوار أحد من زعماء مكة،
أصبح في حماه، ومنع من يعتدي عليه، ولا يهضم في حق.
ولم يكن العائدون إلى مكة من يظفر بجوار أحد من
الزعماء، إلا القلة، وكان من بينهم (عثمان بن مظعون)
الذي دخل في جوار (الوليد بن المغيرة) ودخل مكة آمنا
مطمئنا، يسير في دروبها وأزقتها ويشهد ندواتها، لا يسام
ظلما ولا ضيما.
غير أن (ابن مظعون) الذي كان حكيما في
الجاهلية كما في الاسلام الذي صقله وجعل منه رجلا
بعيدا عن الدنيا وما فيها زاهدا، قد ملى إيمانا من قرنه إلى
قدمه، وبعيدا عن الأنانية وحب الذات، لا يرون له أن
يكون في جوار، وإخوانه المستضعفون تحت سياط
تعذيب طغاة قريش، بينما هو آمن في سربه بعيدا عن
اضطهاد قريش وأذى قومه، فتثور روحه الحزة، ويجيش
68

وجدانه النبيل، فيخرج من داره مصمما على أن يخلع
جوار (الوليد بن المغيرة)، وأن يرفع عن كاهله تلك
الحماية التي يشعر بثقلها، والتي حرمته لذة مسايرة
إخوانه المسلمين، ومشاركتهم في حياتهم الجهادية،
حلوها ومرها.
ولندع وصف شاهد عيان من أصحابه، قال:
لما رأى (عثمان مظعون) ما في أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله من البلاء والاضطهاد ويغدو ويروح في
حماية (الوليد بن المغيرة) وفي أمان، قال في نفسه: والله
إن غدوي ورواحي آمنا في جوار رجل م المشركين،
وأصحابي وأهل ديني يلقون من أنواع الأذى والاضطهاد
ما لا يصيبني، لنقص كبير في نفسي ومروءتي.
فمشى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له: يا أبا عبد
شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
فقال له: لم يا ابن أخي... لعله آذاك أحد من قومي؟
قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن
أستجير بغيره، فانطلق بنا إلى المسجد فأردد علي جواري
69

علانية، كما أجرتني علانية.
فانطلقا حتى أتيا المسجد، فنادى الوليد: هذا
عثمان بن مظعون، قد جاء يرد على جواري.
قال عثمان: صدق، ولقد وجدته وفيا كريم
الجوار، ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله.
ثم انصرف عثمان، ودخل مجلس من مجالس
قريش، وكان لبيد بن جعفر بن كلاب الشاعر ينشدهم،
فجلس عثمان، وسمع لبيد يقول:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل.
قال عثمان: صدقت. ثم أردف لبيد:
وكل نعيم لا محاله زائل
قال عثمان: كذبت... نعيم الجنة لا يزول.
ثار لبيد وقال: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى
جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟
فقام رجل من الجالسين وقال: إن هذا سفيه فارق
ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله. فرد عليه (عثمان بن
مظعون) حتى اشتد النزاع بينهما، فقال إليه ذلك الرجل
فلطم وجه عثمان بن مظعون فأصاب عينه، والوليد بن
70

المغيرة جالس قريب منه يرى ما حدث لعثمان، فقال
الوليد: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها
لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة...
فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى
مثل ما أصحاب أختها في الله... وإني في جوار من هو أعز
منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي، إن شئت فعد إلى
جواري.
قال ابن مظعون: لا أرب لي في جوار أحد إلا في
جوار الله. وغادر ابن مظعون المجلس وعينه تضج بالألم،
ولكن روحه تتفجر إيمانا وصلابة في الدفاع عن دين الله.
ومضى إلى داره وهو ينشد هذه الأبيات:
فإن تك عيني في رضا الله نالها
يدا ملحد في الدين ليس بمهتدي
فقد عوض الرحمن منها ثوابه
ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غوى مظلل
لأحياء على دين الرسول محمد
71

أريد بذاك الله والحق ديننا
على رغم من يبغى علينا ويعتدى
وفي حلية الأولياء: قال على بن أبى طالب عليه السلام
فيما أصيب من عين عثمان بن مظعون:
أمن تذكر وهو غير مأمون
أصبحت مكتئبا تبكى كمحزون
أمن تذكر أقوام ذوى سفه
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا
والعذر فيهم سبيل غير مأمون
ألا ترون - أقل الله خيرهم -
إنا غضبنا لعثمان بن مظعون
إذ يلطموه ولا يخشون حفلته
طعنا دراكا وضربا غير مأفون
فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلا
كيلا بكيل جزاء غير مغبون (1)
حلية الأولياء 1: 104.
72

ولقد ضرب عثمان بن مظعون أروع الأمثلة في
التفاني لنصرة دين الله، لا تأخذه فيه لومة لائم، وهو له
أهل، وبه جدير. وهو واحد من تلامذة رسول الإنسانية
صلى الله عليه وآله الذي انصهر في بودقة الإسلام، وواحد من أفذاذها،
وصمد بعد رد جوار الوليد ليتلقى من قريش أذاها، وكان
سعيدا بها، ويرى ذلك قليل في الله ورسوله، فقد كان ذلك
الأذى بمثابة النار التي تنضج الإيمان وتصهره وتزكيه.
وهكذا سار عثمان بن مظعون مع إخوانه المؤمنين
وشاطرهم العنت والعذاب، لا يروعهم زجر، ولا يصدهم
إثخان.
ويهاجر عثمان بن مظعون إلى يثرب حيث لا
يؤرقه أبو جهل هناك، ولا أبو لهب، ولا أمية بن خلف،
ولا عتبة، ولا شئ من هذه الغيلان، التي طالما أرقت
المؤمنين ليلهم، وأدمت نهارهم.
فقد ذهب إلى يثرب، وهاجر مع أولئك الأصحاب
الذين هاجروا بعد أن ضربوا أروع الأمثال بصمود هم
وثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته.
73

وفي دار الهجرة المنورة، يتكشف جوهر عثمان بن
مظعون وتظهر حقيقة الفذة الفريدة، فإذا هو العابد الزاهد
المتبتل الأواب والراهب الجليل الذي لا يأوى إلى
صومعته ينزل فيها الحياة، بل كان يملأ الدنيا بعمله
وجهاده في سبيل تثبيت دعائم شريعة السماء.
وما أن ذاق حلاوة الاستغراق في الله، حتى هم
بتقطيع أواصر الحياة التي ينعم بها الناس وهجرها بهجرته
هذه.
وكان من أشد الناس اجتهادا وعبادة، يصوم نهاره
ويقوم ليله، ويتجنب الشهوات، ويعتزل النساء، واستأذن
رسول الله صلى الله عليه وآله في التبتل والإخاء، فنهاه عن ذلك وقال له:
يا عثمان، إن الله لم يبعثني بالرهبانية، وإن خير الدين عند
الله الحنيفية.
وهو ممن حرم الخمرة على نفسه في الجاهلية،
وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي، ويضحك بي من هو
أدنى منى، ويحملني أن أنكح (المحارم من أهلي).
فلما حرمت الخمرة في الإسلام قيل له: يا
74

عثمان، حرمت الخمرة. قال: تبا لها، قد كان (بصيرتي)
وبصرى فيها نادرا.
فمضى عثمان بن مظعون من يومه لا يلبس إلا
الملبس الخشن، ولا يأكل إلا الطعام الجشب... فدخل
يوما المسجد وكان يرتدى لباسا ممزق، فرقعه بقطعة من
فرو، وشاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه فرق له، ودمعت
عيون أصحابه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في
أخرى، وتوضع بين يديكم قصعة، وترفع أخرى، وسترتم
بيوتكم كما تستر الكعبة؟
قال الأصحاب: وددنا أن ذلك يكون يا رسول الله،
فنصيب الرخاء والعيش.
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وآله: إن ذلك لكائن... وأنتم اليوم
خير منكم يومئذ.
ومن البديهي أن يختار عثمان بن مظعون شظف
العيش في سلامة من دينه، على الرخاء، هربا من الدنيا
ونعيمها.
75

ولما حضرته الوفاة، وتهيأت روحه للرحيل،
وكان أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأول من دفن من
المسلمين في البقيع وذلك بعد رجوعه من بدر بثلاثة
أشهر، وقد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقد أكب رسول الله صلى الله عليه وآله على جبينه يقبله، ويعطره
بدموعه التي هطلت من عينيه. وقال صلى الله عليه وآله وهو يودعه:
إذهب يا أبا السائب، فقد خرجت منها ولم تلبس منها
شيئا.
وقال صلى الله عليه وآله: رحمك الله يا أبا السائب، خرجت من
الدنيا وما أصبت منها، وما أصابت منك.
وقال صلى الله عليه وآله: نعم السلف لنا هو عثمان بن مظعون.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بتجهيزه، فلما وضع في قبره
وأهيل التراب عليه، علم على قبره بحجارة، وكان يزوره.
وعن ابن عباس، قال: لما دفن عثمان بن مظعون
قالت امرأته: هنيئا لك الجنة، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله
بغضب، وقال: ما يدريك؟؟ قالت: يا رسول الله،
فارسك وصاحبك؟ فقال صلى الله عليه وآله: إني رسول الله، وما أدرى
76

ما يفعل بي؟ فأشفق الناس، وأنشدت هذه الأبيات:
يا عين جودي بدمع غير ممنون
على رزية عثمان بن مظعون
على امرئ بات في رضوان خالقه
طوبى له من فقيد الشخص مدفون
طاب البقيع له سكنى وغرقده
وأشرقت أرضه من بعد تعيين
وأوردت القلب حزنا لا انقطاع له
حتى الممات، فما ترقى له شوني
وقالت أم العلاء: رأيت لعثمان بن مظعون عينا
تجرى، فجئت رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته، فقال صلى الله عليه وآله: ذاك
عمله.
ولما توفى إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله ودفنه بالبقيع قال
صلى الله عليه وآله له: إلحق بالسلف الصالح عثمان بن مظعون.
وكذلك لما توفيت ابنته زينب قال صلى الله عليه وآله: إلحقي
بالسلف الصالح عثمان بن مظعون.
وهكذا انتهت حياه هذا الصحابي الجليل، وحكيم
77

العرب عثمان بن مظعون، فسلام عليه يوم ولد، ويوم أسلم
وجاهد، ويوم هاجر، ويوم مات، ويوم يبعث حيا.
المصادر
1 - الاستيعاب على متن الإصابة، لابن عبد البر
القرطبي 3: 85
2 - أسد الغابة، لابن الأثير 3: 598
3 - الأعلام، للزركلي 4: 214، طبعة دار العلم للملايين
4 - سيرة ابن هشام 1: 364 - 371
5 - الإصابة، للعسقلاني 3: 461، ت 5457، طبعة
دار الجيل - بيروت
6 - الصفوة 1: 178
7 - حلية الأولياء، لأبى نعيم الإصفهاني 1: 102 - 106
8 - معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 11: 127
9 - رجال حول الرسول: 245 - 253
10 - تأريخ الخميس 1: 411
78

بسم الله الرحمن الرحيم
(ان الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) (1)
سعد بن معاذ
الحواريون
خريجو مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
النحل: 128.
79

سعد بن معاذ
سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، كلاهما من زعماء
الأنصار، هذا زعيم الأوس، وذاك زعيم الخزرج.
سعد بن معاذ النعمان بن امرئ القيس، الأوسي
الأنصاري، صحابي جليل، وبطل من الأبطال، من أهل
يثرب، كانت له سيادة الأوس، وحمل لواءهم يوم بدر،
وشهد أحدا، فكان ممن ثبت فيها، وكان أطول الناس
وأعظمهم جسما، وكان شجاعا، وقد أسلم وآمن بين
العقبتين الأولى والثانية، على يد مصعب بن عمير، ورمى
بسهم في يوم الخندق فمات إثر إصابته بجراح، وقد
حكمه رسول الله صلى الله عليه وآله في بنى قريظة وبطلب منهم
81

ورضاهم، لأنه كان حليف بنى قريظة في الجاهلية.
مات السنة الخامسة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب
بشهر.
ودفن بالبقيع وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين
سنة، ويروى أهل السير والتأريخ، منهم: طبقات ابن سعد،
وابن الأثير في أسد الغابة، والعسقلاني في الإصابة،
وصفوه الصفوة، قول رسول الله صلى الله عليه وآله: اهتز عرش الرحمن
لموت سعد بن معاذ:
في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم سعد بن
معاذ، وفي السابع والثلاثين قتل شهيدا بسهم قريش يوم
الخندق، يوم تحزبت قوى الشرك على إبادة المؤمنين
المسلمين، وبرسول رب العالمين.
ومنذ إسلامه إلى يوم شهادته قضى عمره في خدمة
الرسول الكريم صلى الله عليه وآله مجاهدا وذابا بين يديه.
وقد زاده الله بسطة في الجسم والهيبة والوسامة.
وما أن سمع بنبأ دخول مبلغ الدين الجديد الذي بعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله حتى أسرع إلى دار أسعد بن
82

زرارة، ليرى هذا الوافد الجديد إليهم من مكة (مصعب بن عمير)
ليبشر ويدعو فيها للتوحيد والإسلام ونبذ الأوثان،
وليدفع بهذا الغريب خارج حدودها، حاملا معه دينه
وتاركا ليثرب دينها.
ولكنه لم يكد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن
خالته (أسعد بن زرارة) حتى يذهل وتنفتح نفسه،
وينسحر بتلك الكلمات الجذابة التي هبت عليه هبوب
نسيم الحسر، ولا يكاد يأخذ مكانه بينهم حتى تكون
الهداية قد حلت في قلبه ونورت ظلام نفسه وروحه.
ومن مفاجآت القدر المذهلة للمسلمين أن يلقى
زعيم الأوس حربته بعيدا عنه ويبسط يمينه مبايعا لرسول
الله صلى الله عليه وآله عن طريق مبعوثه (مصعب بن عمير).
و بإسلام (سعد بن معاذ) تغيرت الموازين ورجحت
كفة المسلمين، وأصبح هو داعية للتوحيد والإسلام، وقال
لقومه من بنى عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم على
حرام حتى تسلموا، فأسلموا فكان من أعظم من أسلم
بركة في الإسلام، وشهد بدرا وأحدا، والأحزاب
83

(الخندق) الذي رمى فيها بسهم من المشركين فقطع
كاهله، واستشهد بسببها بعد شهر من انتهاء الغزو.
أسلم (سعد بن معاذ) وتحمل تبعات إسلامه ببطولة
عظيمة. وعندما شرف رسول الله صلى الله عليه وآله يثرب كانت دور بنى
عبد الأشهل قبيلة سعد في مقدمة البيوتات المشرعة
أبوابها لاستقبال المهاجرين وإيوائهم وكانت أموالهم
تحت تصرف المهاجرين يشارطون هم إياها في غير من
ولا أذى ولا منة ولا تردد.
علم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله بخروج قريش بجيش
لجب مدججين بالعدة والعدد زاحفين لغزو المسلمين في
مدينة الرسول صلى الله عليه وآله، فاستشار أصحابه من المهاجرين
والأنصار.
فقام الأول من المهاجرين فقال: يا رسول الله، إنها
قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ أن كفرت، ولا ذلت منذ أن
عزت، ولم نكن على أهبة الحرب (كلام مثبط للعزائم)،
وقام الثاني من القوم وقال مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: إجلس. فجلس.
84

ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، إنها
قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما
جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا،
وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو
إسرائيل لموسى: (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا
قاعدون) (1)، ولكنا نقول: امض لأمرك فإنا معك
مقاتلون، فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا على قوله.
ثم قال صلى الله عليه وآله: أشيروا على أيها الناس، إنما يريد
الأنصار لأنهم الأكثرية، ولأنهم بايعوه بالعقبة أن يمنعوه
في يثرب، فكان صلى الله عليه وآله يتخوف أن لا ينصروه خارجها.
فقام سعد بن معاذ فقال: بأبى أنت وأمي يا رسول
الله، كأنك أردتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله: نعم. فقال سعد: يا رسول
الله، إنا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو
الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا.
فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.
المائدة: 24.
85

والذي بعثك بالحق نبيا، لو استعرضت بنا هذا البحر
فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، ونكره أن
تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.
ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على
بركة الله.
فرح رسول الله صلى الله عليه وآله وتهلل وجهه الشريف وقال:
سيروا على بركة الله، فإنه وعدني إحدى الطائفتين (إما
النصر، وإما الشهادة) ولن يخلف الله وعده، والله... لكأني
أنظر إلى مصارع القوم.
فخرج بهم إلى بدر.
وفي غزوة (أحد)، عندما تشتت المسلمون، تحت
وقع المباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين
من خلفهم ورجوع المنهزمين من أمامهم.
لم تكن العين لتخطي النفر القليل الثابتين
والمدافعين عن حرم الرسالة واستبسال هم، وكان سعد بن
معاذ أحدهم.
وجاءت غزوة الأحزاب (الخندق)، لتتجلى بطولة
86

(سعد) تجليا باهرا.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وآله منهمك في لم الشعث بعد وقعة
أحد، وتثبيت قواعد دولة الإسلام، حذرين من مكائد
مردة أهل الكتاب ومطاردة المشركين، راجين أن تكف
قريش عن غاراتها ومؤامراتها إذا فريق من زعماء اليهود
القاطنين في قلاعهم حول المدينة المنورة يخرجون سرا
إلى مكة محرضين قريشا على رسول الله صلى الله عليه وآله المؤمنين
به من أصحابه، باذلين لهم الوعود والعهود على أن يقفوا
بجانب القرشيين إذا هم خرجوا لقتال المسلمين، وعقدوا
اتفاقا مع المشركين، ووضعوا الخطط لغزو المسلمين
وقتالهم في المدينة.
وفي طريقهم وهم راجعين إلى المدينة حرضوا
قبائل غطفان وهم أكثر القبائل العربية عدة وعددا،
وعقدوا مع زعمائها اتفاقيات على الانضمام لجيش
قريش الغازي.
وضعت خطة الحرب، وأحكمت بنودها، ووزعت
أدوارها، فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيوش هما،
87

واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها
ويعتدون على أهاليها في الوقت الذي يباغت ها جيش
الشرك المهاجم.
لما علم النبي صلى الله عليه وآله بتفاصيل خطة المؤامرة الغادرة
راح يعدلها العدة ويستشير أصحابه من المهاجرين
والأنصار، فأشار الصحابي سلمان الفارسي بحفر خندق
حول المدينة، كما كان يصنع الفرس عندما كان يداهمهم
العدو الذي لا طاقة لهم بصده ميدانيا، فاقتنع النبي صلى الله عليه وآله
بالفكرة. وفي رواية: رجح له جبرائيل عليه السلام هذه الخطة
الدفاعية.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بحفر الخندق حول المدينة
ليعوق زحف المشركين... ذكرنا ذلك في كتبنا السابقة.
ومن جهة أخرى أرسل صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ وسعد بن
عبادة إلى (كعب بن أسد) زعيم يهود بنى قريظة، ليتبينا
موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وآله
وبين يهود بنى قريظة عهود ومواثيق.
فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بنى قريظة فوجئا
88

به يقول لهم: ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد!!
عز على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتعرض أهل المدينة لهذا
الغزو المدمر، والحصار المنهك، ففكر أن يعزل غطفان عن
قريش، فينقص الجيش المهاجم نصف عدده، ونصف
قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا
أيديهم من هذه الحرب. ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة،
ورضى قادة غطفان، ولم يبق إلا أن يسجل الاتفاق في
وثيقة موقعة.
وعند هذا الحد من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وآله
إذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا إليه أصحابه
ليشاورهم، واهتم صلى الله عليه وآله اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ،
وسعد بن عبادة، فهما زعيما المدينة من الأوس
والخزرج، وهما بذلك أصحاب الحق في هذا الأمر،
والقرار بعد النبي صلى الله عليه وآله.
قص رسول الله صلى الله عليه وآله عليهما حديث التفاوض الذي
جرى بينه وبين زعماء غطفان، وأنبأ هما أنه إنما لجأ لهذه
المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها شبح
89

هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب.
وتقدم السعدان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا السؤال:
يا رسول الله، أهذا رأى تختاره، أم وحى أمرك الله
به؟
قال صلى الله عليه وآله: بل أمر أختاره لكم... " والله ما أصنع ذلك
إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة،
و كالبوكم من جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم
إلى أمر ما ".
وأحس (سعد بن معاذ) خاصة أنهم كرجال
وكمؤمنين يواجهون امتحانا عصيبا، وأي امتحان وهذا
قدرهم، عند ذلك قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا
نحن وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا
نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة إلا قرا
- أي كرما وضيافة منا - أو بيعا.
" أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا به، وأعزنا
بك، نعطيهم أموالنا؟ "، والله ما لنا بهذا من حاجة.
ووالله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا
90

وبينهم.
وعلى الفور عدل الرسول صلى الله عليه وآله عن رأيه، وأنبأ
زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع التفاوض، وأنه
أقر رأيهم والتزم به.
وبعد أيام شهدت المدينة المنورة حصارا رهيبا.
وفي الحقيقة أن الحصار هو الذي اختاره المسلمون
لأنفسهم، أكثر مما كان مفروضا عليهم، وذلك بسبب حفر
الخندق حول المدينة ليكون جنة ووقاية.
واستعد المسلمون ولبسوا للحرب لباسها.
وخرج من بينهم (سعد بن معاذ) متقلدا سيفه حاملا
رمحه، وهو يرتجز ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا جمل
ما أجمل الموت إذا حان الأجل!
وفي إحدى جولاته أصحاب ذراع (سعد) سهم
خاطف، قذفه به أحد المشركين، وانفجر الدم من وريده،
وأسعف سريعا إسعافا مؤقتا ليرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وآله
أن يحمل إلى المسجد، وأن ينصب له به خيمة حتى يكون
91

على قرب منه ليعوده أثناء تمريضه ويشرف عليه بنفسه
صلى الله عليه وآله، وبعد أن خذل الله المشركين وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله
والمسلمون إلى المدينة واستقر سعد في مكانه بالمسجد
رفع بصره إلى السماء وقال: اللهم إن كنت أبقيت من
حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن
أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه. وإن
كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني
اليوم طريقا للشهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بنى
قريظة.
ولقد استجاب الله دعاءه، فكانت إصابته هذه
طريقه إلى الشهادة، إذ لقى ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه،
لكنه لم يمت حتى شفى الله صدره من بنى قريظة.
ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة
المنورة وطال الزمن ودب الخلاف فيما بينهم بالإضافة
إلى فذلكة وخطة نعيم بن مسعود الأشجعي وخلق بذور
الشك بين المشركين وبين بنى قريظة. وقد داهمتهم في
تلك الليلة عاصفة هو جاء وبرد شديد مصحوبة بالزوابع
92

والأمطار، فقلعت خيامهم وأكفأت قدورهم، وأصابهم
الخوف من هجوم المسلمين عليهم، غادروا المكان
مخذولين إلى مكة حاملين معهم ما خف وغلا، ورجعوا
بخفي حنين مدحورين، وقد ذكرنا ذلك مفصلا في المجلد
الثاني من " موسوعة على في الكتاب والسنة والأدب "،
والمجلد الأول من " موسوعة المصطفى والعترة "،
فراجع.
ولما رجع الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه من غزوة
الأحزاب ودخل المدينة واللواء لا يزال معقودا، وأراد أن
يغتسل من الغبار، ناداه جبرائيل عليه السلام:
عذيرك من محارب، والله ما وضعت الملائكة
لامتها، فكيف تضع لامتك؟ إن الله يأمرك أن لا تصلى
العصر إلا في بنى قريظة، فإني متقدمك ومزلزل بهم
حصنهم.
فبادروا إلى بنى قريظة وحاصروهم، ولما أيقنوا
أن رسول الله صلى الله عليه وآله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم
القتال، فبعثوا إلى حليفهم أبو لبابة بن عبد المنذر
93

يستشيرونه في قصة مفصلة ذكرناها (1).
فأرسل بنو قريظة إلى حلفائهم الأوس، يطلبون
التوسط إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله للأوس: ألا ترضون أن
أجعل بيني وبين حلفائكم رجلا منكم، قالوا: بلى يا
رسول الله. قال: فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من
شاؤوا. فاختار اليهود (سعد بن معاذ) ونسوا موقفهم معه،
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم استقبله وأنزلوه عن دابته.
فلما جلس قالوا: يا أبا عمرو، إن بنى قريظة قد
حكموك ورضى رسول الله صلى الله عليه وآله بحكمك فيهم.
وجاء في رواية ابن إسحاق: أن (سعدا) التفت إلى
القوم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم سيكون ما
حكمت عليكم. قالوا: نعم. ثم التفت إلى الناحية التي فيها
النبي صلى الله عليه وآله وقال مثل مقالته. فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله، وقال:
نعم.
موسوعة المصطفى والعترة، المجلد الأول (محمد رسول الله
صلى الله عليه وآله): 257 - 262.
94

فقال سعد: إني أحكم فيهم بقتل الرجال وسبى
النساء والذراري وتقسيم أموالهم على المسلمين. فقال
صلى الله عليه وآله: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة، وأنزل
الله آية في محكم كتابه المجيد قوله تعالى: (وأنزل الذين
ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم
الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم
وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شئ
قديرا) (1).
وهكذا لم يمت (سعد) إلا وشفى صدره من غدر
بنى قريظة.
كان جرح (سعد) يزداد خطرا كل يوم، بل كل
ساعة، وذهب رسول الله صلى الله عليه وآله يعوده فألفاه يعيش لحظات
الوداع، فأخذ رأسه ووضعه في حجره، وابتهل إلى الله
تعالى قائلا:
اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك
الأحزاب: 26 و 27.
95

وقضى الذي عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلت به روحا.
فحاول سعد جاهدا، وفتح عينيه راجيا أن يكون
وجه رسول الله صلى الله عليه وآله آخر ما يقع عليه بصره في الحياة،
قائلا: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول
الله. وكانت وفاته بعد الخندق بشهر من السنة الخامسة
للهجرة عن عمر ناهز السابعة والثلاثين سنة.
قال الترمذي: عن أنس، لما حملت جنازة (سعد
بن معاذ) قال المنافقون: ما أخف جنازته. وذلك لحكمه
في بنى قريظة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال: إن الملائكة
كانت تحمله.
وقال سعد بن أبى وقاص، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
لقد نزل من الملائكة في جنازة (سعد بن معاذ) سبعون
ألفا، ما وطئوا الأرض قبل، وبحق أعطاه الله تعالى ذلك.
يقول أبو سعيد الخدري: كنت ممن حفروا لسعد
قبره، وكنا كلما حفرنا طبقة تراب، شممنا ريح المسك.
حتى انتهينا إلى اللحد.
ولما دفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وانصرف من جنازته،
96

جعلت دموعه تحادر على لحيته.
وندبته أمه فقالت:
ويل أم سعد سعدا
براعة ونجدا
ويل أم سعد سعدا
صرامة وجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل نادبة كاذبة، إلا نادبة
سعد.
وكان مصاب المسلمين في (سعد بن معاذ) عظيما،
ولكن عزاء هم كان جليلا حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول:
لقد اهتز عرش الرحمن لموت (سعد بن معاذ).
فسلام عليه يوم ولد، ويوم أسلم وجاهد، ويوم
استشهد، ويوم يبعث حيا.
97

المصادر
1 - أسد الغابة، لابن الأثير 2: 373، ت 2045
2 - الإصابة، العسقلاني 2: 84، ت 3206
3 - معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 8: 90
4 - الأعلام، للزركلي 3: 88
5 - الاستيعاب على هامش متن الإصابة، لابن عبد البر
القرطبي 2: 27
6 - صفوة الصفوة 1: 180
7 - الفتوح، لأبى نعيم الإصفهاني 4: 270
8 - رجال حول الرسول: 499
98

بسم الله الرحمن الرحيم
(ان الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) (1)
خالد بن سعيد بن العاص الأموي
الحواريون
خريجو مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
النحل: 128.
99

خالد بن سعيد بن العاص الأموي
ولد خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد
شمس، في هذا البيت العريق بالعداء لبنى هاشم.
يوم بدأت خيوط النور تشع في أنحاء مكة معلنة
بالنبأ العظيم صلى الله عليه وآله الذي اهتزت له تهامة وجبالها، بأن
(محمد الأمين) يتحدث عن وحى جاءه في غار حراء،
وعن رسالة تلقاها من السماء، من الله سبحانه وتعالى
ليبلغها إلى عباده.
كان قلب خالد وجميع جوارحه يستقبل ذلك
الإشعاع الباهر، الذي همس في وجدانه، إنه من الحق،
وأخذ يتابع خيوط ذلك النور في سيره ومسراه.
101

وكلما سمع قومه يتحدثون في ناديهم عن الدين
الجديد جلس إليهم وأصغى في حذر مكتوم، وبين الحين
والحين يرى نفسه مدفوعا في طريق الذيوع والتأثير
والإيحاء.
وكان الفتى النبيه يطوى على نفسه الخبر، ويكتم
سره، فإن أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه
الحفاوة بدعوة (محمد الأمين) لأزهق روحه قربانا لآلهة
قريش، وهو الذي أمعن أيما إمعان في تعذيب المؤمنين
الذين آمنوا بمحمد واتبعوا دينه.
ذات ليلة يرى خالد في نومه، يعالج رؤيا شديدة
الوطأة على نفسه.
رأى خالد بن سعيد في منامه أنه واقف على شفير
نار عظيمة، وأبوه وراءه يدفعه نحوها بكلتا يديه، ويريد
أن يطرحه فيها، ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل عليه،
ويجذبه بيمينه المباركة من إزاره فيأخذه بعيدا عن النار
واللهب، ففزع من منامه هذا وقال: أحلف بالله أن هذه
الرؤيا لحق.
102

ويصبح خالد بخطة جديدة وعزم أكيد، وينطلق
باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يهتدى إلى مكانه فيلقاه،
ويسأل النبي صلى الله عليه وآله عن دعوته، فيجيبه صلى الله عليه وآله:
" تؤمن بالله وحده، لا تشرك به شيئا، وتؤمن
بمحمد عبده ورسوله، وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع
ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تدرى من عبدها وما لا
يعبدها ".
ويبسط خالد يمينه، فتتلقاها يمين الرحمة، يمين
رسول الله صلى الله عليه وآله في حفاوة، يشهد خالد بالشهادتين، قوله:
" إني أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله ".
وينطلق هذا الوجود كله إلى عالم الرحمة وصفاء
الروح.
ويوم أسلم خالد بن سعيد، لم يكن قد أسلم سوى
أربعة أشخاص، وهو الخامس، فهو إذن من الخمسة
الأوائل المبكرين الذين آمنوا بالله الواحد الأحد وبرسوله
الكريم صلى الله عليه وآله.
وحين يبادر واحد من ولد سعيد بن العاص
103

بالإسلام، فإن ذلك في رأى سعيد عمل خطير يعرضه
للسخرية والهوان بين قريش وفي محافلها، وهو سيدهم،
وتهتز الأرض تحت زعامته، ومن أجل ذلك دعا إليه
خالدا فلم يجده، فأرسل في طلبه من بقي من أولاده
ومعهم رافع مولاه، فوجدوه في شعابها فأتوا به إلى أبيه
- أبى أحيحة - فأنبه وبكته وقال له: أصحيح أنك صبأت
واتبعت دين محمد وأنت تسمعه يعيب آلهتنا؟؟
قال خالد بثبات وتصميم: إنه والله لصادق، (ولقد
آمنت به واتبعته).
فجن جنون الأدب، ولم يتمالك نفسه، فانهال عليه
بالضرب والشتم، وضربه بعصا كانت في يده حتى كسرها
على رأسه، وقال له: اتبعت محمدا وأنت ترى خلاف
قومه، وما جاء به من عيب لآلهتنا، ثم زج به في غرفة
مظلمة من داره، حيث صار حبيسا، ثم راح يضنيه
ويرهقه جوعا وظمأ. وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب
المغلق عليه:
" والله إنه لصادق، وإني به لمؤمن ".
104

وبدا لسعيد بن العاص، أن ما انزل بولده من ضر لا
يكفى ولا يردعه، فخرج به إلى رمضاء مكة، حيث وضعه
بين رمالها الملتهبة وأحجارها الثقيلة ثلاثة أيام لا يوارى
فيها ظل ولا يبلل شفتيه قطرة ماء، لم يرتدع خالد وبقي
ثابتا على دينه.
ويئس سعيد من ولده خالد، فعاد به إلى داره،
وراح يغريه ويمنيه مرة، ويرهبه أخرى، يعده ويتوعده،
وخالد صامد كالطود، يقول لأبيه: " لن أدع دين محمد
لشئ، وسأحيا به، وأموات عليه ".
عند ذلك صاح سعيد بابنه:
" إذن فاذهب عنى يا لكع، فواللات لأمنعنك
القوت ".
وأجابه خالد: " والله خير الرازقين ".
وغادر خالد دار أبيه التي كانت تعج بالرغد، من
مطعم وملبس وراحة ورخاء، إلى دار الخاصة
والحرمان والتشرد.
ولكنه ما شعر بأي غضاضة أو بأس، طالما هو
105

محتفظ بإيمانه.
ألم يحتفظ بسلامه دينه، وحسن عقيدته، وسيادة
ضميره، وحق مصيره. فليكن ما يكون، وليذهب أبوه إلى
مصيره المحتوم.
وأما الجوع والحرمان والعذاب فعند خالد ظل
زائل، لا يساوى لحظة من سعادة الإيمان.
فقد وجد نفسه كإنسان في ظل الرسول العظيم صلى الله عليه وآله
الذي جاء برسالة السماء، التي هي أثمن شئ عنده في
الوجود.
وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية،
ويتفوق على الحرمان بالإيمان.
وتغيب خالد عن أبيه في نواحي مكة وشعابها،
وحينما مرض سعيد بن العاص بن أمية، قال: لئن رفعني
الله من مرضى هذا لا يعبد إله ابن أبى كبشة ببطن مكة.
فقال ابنه خالد بن سعيد: اللهم لا ترفعه (من مرضه).
فتوفى في مرضه ذلك.
وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه المؤمنين
106

بالهجرة الثانية إلى الحبشة بإمرة ابن عمه جعفر بن أبى
طالب، كان خالد بن سعيد ممن شدوا رحالهم إليها،
ويمكث خالد في الحبشة ما شاء الله أن يمكث، ثم يعود
إلى المدينة مع إخوانه المؤمنين وفي مقدمتهم جعفر بن
أبى طالب، وذلك سنة سبع من الهجرة، فيجدون المسلمين
قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بقدومهم وقال قولته المشهورة: والله ما أدرى بأيهما أشد
فرحا، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر (وأصحابه).
وقد هاجر خالد إلى الحبشة ومعه امرأته أميمة بنت
خالد الخزاعية، وولدت له بها ابنه سعيد بن خالد، وابنته
التي سماها (أم خالد) باسم أمه، وهاجر بعده إلى أرض
الحبشة أخوه عمر وبن سعيد والتحق به، وقدما إلى
المدينة معا بقيادة جعفر بن أبى طالب في السفينتين.
وكلم رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين، فأسهموا لهم، وشهد
خالد عمرة القضاء، وفتح مكة، ومعركة حنين، والطائف،
وتبوك، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن واليا، وقيل: على
صدقات مذحج وعلى صنعاء، فتوفى النبي صلى الله عليه وآله وهو عليها.
107

وفي رواية: لما بويع لأبى بكر بالخلافة عزل
خالد بن سعيد وطلبه إلى المدينة.
وفي خبر: لم يزل خالد وأخواه عمرو وأبان على
أعمالهم التي استعملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله حتى توفى
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما توفى، رجعوا عن أعمالهم، فقال
لهم أبو بكر: ما لكم رجعتم؟ ما أحد أحق بكم بالعمل من
عمال رسول الله صلى الله عليه وآله، ارجعوا إلى أعمالكم. فقالوا: نحن
بنو أبى أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا،
وكان خالد حينها على اليمن كما ذكرنا، وأبان على
البحرين، وعمرو على تيماء وخيبر وقرى عربية.
وتأخر خالد وأخوه أبان عن بيعة أبى بكر، فقالا
لبنى هاشم: أنتم لطوال الشجر، طيبوا الثمر، ونحن تبع لكم.
في طبقات ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال:
حدثني... عن إبراهيم بن عقبة، قال: سمعت أم خالد بنت
خالد بن سعيد بن العاص تقول:
قدم أبى من اليمن إلى المدينة بعد أن بويع لأبى
بكر، فقال لعلى وعثمان: أرضيتم بنى عبد مناف أن يلي
هذا الأمر علكيم غيركم؟؟ فنقلها عمر إلى أبى بكر فلم
108

يحملها أبو بكر على خالد وحملها عليه عمر. وأقام خالد
بالمدينة ولم يبايع أبا بكر (حتى بايع بنو هاشم) وكان
رأى أبى بكر فيه حسنا، وكان معظما له.
فلما بعث أبو بكر الجنود على الشام عقد له - أي
لخالد - على المسلمين وأمره عليهم، وجاء خالد باللواء
إلى بيته، فكلم عمر أبا بكر وقال: تولى خالدا وهو القائل
ما قال؟ فلم يزل به حتى أرسل أبا أروى الدوسي، فقال:
إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لك: أردد إلينا لواءنا.
فأخرجه فدفعه إليه وقال: والله ما سرتنا ولايتكم ولا
ساءنا عزلكم، وإن المليم لغيرك (1).
قالت: فما شعرت إلا بأبى بكر داخل على أبى
يعتذر إليه، ويعزم عليه ألا يذكر عمر بحرف.
نفس المصدر: عن عبد الرحمن بن عوف، قال:
لما عزل أبو بكر خالدا ولى يزيد بن أبى سفيان - أخو
معاوية الأكبر - جنده، ودفع اللواء إلى يزيد بن أبى سفيان
يقصد المليم عمر الذي حرضه على عزله، لأن هواه كان
للإمام على عليه السلام.
109

(ومن تلك اللحظة تم تأسيس دولة بنى أمية بالشام).
فلما بايع بنو هاشم أبا بكر، عند ذلك بادر خالد
وأخوه أبان لمبايعته، وكان يرى أن أحق الناس بالخلافة
على بن أبى طالب، ووقف إلى جانب قناعته، فلم يبايع أبا
بكر.
ثم استعمل أبو بكر خالد بن سعيد على جيش من
جيوش المسلمين حين بعثهم إلى الشام، فقتل بمرج
الصفر، وهو موقع بالشام، في خلافة أبى بكر، وقيل:
كانت وقعة مرج الصفر أوائل سنة أربعة عشر في صدر
خلافة عمر، وقتل أخوه عمرو بن سعيد في معركة
أجنادين في أواخر سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
وفي طبقات ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال:
... لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد عن إمارة العسكر
أوصى به شر حبيل بن حسنة، وكان أحدا امراء الجيش
الذي التحق به خالد، فقال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له
من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق
عليه لو خرج واليا عليك.
وقد عرفت مكانه في الإسلام، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله
110

توفى وهو له وال، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله، وعسى
أن يكون ذلك خيرا له في دينه، وإني ما أغبط أحدا
بالإمارة، وقد خيرته في امراء الأجناد فاختارك على
غيرك، على ابن عمه - عمرو بن العاص - فإذا نزل بك أمر
تحتاج فيه إلى رأى التقى الناصح، فليكن أول من تبدأ به
أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وليك خالد بن سعيد
ثالثا. فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا. وإياك واستبداد
الرأي عنهم أو تطوى عنهم بعض الخبر.
فقتل خالد بمرج الصفر، في أوائل سنة أربع عشرة
من الهجرة، وفي صدر خلافه عمر.
أما أخوه عمرو بن سعيد:
محمد بن عمر، قال:... أسلم عمرو بن سعيد بعد
خالد بن سعيد بيسير، وكان من مهاجري الحبشة في
الهجرة الثانية، ومعه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية.
عن أم خالد بنت خالد بن سعيد، قالت: قدم علينا
عمى عمرو بن سعيد أرض الحبشة بعد مقدم أبى بسنتين،
فلم يزل هناك حتى حمل في سفينتين مع أصحاب رسول
111

الله صلى الله عليه وآله (بمعية جعفر بن أبى طالب) فقدموا على النبي
صلى الله عليه وآله وهو بخيبر سنة سبع من الهجرة.
وشهد عمرو مع رسول الله صلى الله عليه وآله فتح مكة وحنين،
والطائف وتبوك، فلما خرج المسلمون إلى الشام، فكان
فيمن خرج، فقتل يوم أجنادين شهيدا في آخر خلافة أبى
بكر في جمادى الأول من سنة ثلاثة عشر.
هذا ملخص ما ذكرنا من ترجمة خالد بن سعيد،
وأخيه عمرو بن سعيد، وما عثرنا عليه في المصادر التالية.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم أسلم وآمن وجاهد،
ويوم يبعث حيا.
المصادر
1 - أعيان الشيعة 6: 287
2 - طبقات ابن سعد 4: 94
3 - أسد الغابة 2: 97
4 - الأعلام، للزركلي 2: 296
5 - معجم رجال الحديث 7: 26
6 - الاستيعاب على متن الإصابة 1: 399
7 - رجال حول الرسول: 395
112

بسم الله الرحمن الرحيم
(إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) (1)
أبو أيوب الأنصاري
الحواريون
خريجو مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
النحل: 128.
113

أبو أيوب الأنصاري
خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة - أبو أيوب
الأنصاري - من بنى النجار.
صحابي جليل، شهد العقبة، وبدرا، وأحدا،
والخندق، وسائر المشاهد، وكان شجاعا صابرا تقيا محبا
للغزو والجهاد، عاش إلى أيام بنى أمية، وكان يسكن
المدينة، فرحل إلى الشام.
ولما غزا يزيد القسطنطينية في حكم أبيه معاوية،
صحبه أبو أيوب غازيا، فحضر الوقائع، ومرض فأوصى
أن يوغل به أرض العدو، فلما توفى دفن في أصل حصن
القسطنطينية، وذلك في سنة 52 ه‍ = 672 م.
115

له 155 حديثا (1).
كان رسول الله صلى الله عليه وآله متجها إلى يثرب بعدما مكث في
بنى عامر بقبا ينتظر قدوم ابن عمه على بن أبى طالب
بالفواطم، ودخل صلى الله عليه وآله يثرب مختتما بها هجرته الميمونة،
مستهلا أيامه المباركة بتأسيس دولة الإسلام في دار الهجرة،
التي ادخرها القدر له ما لم يدخر لمثله في التأريخ.
سار صلى الله عليه وآله وسط الجموع التي هرعت لاستقباله،
والتي اضطرمت وتزاحمت صفوفها وأفئدتها حماسة
وشوقا للنظر إلى طلعته البهية، ممتطيا ظهر ناقته التي
تزاحم الناس حول زمامها كل يريد التشرف باستفاضته.
وبلغ الموكب دور بنى سالم بن عوف، فاعترضوا
طريق الناقة قائلين: " يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا
العدد والعدة والمنعة " ويجيبهم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وقد
قبضوا بأيديهم على زمام الناقة: " خلوا سبيلها فإنها
مأمورة ".
الأعلام 2: 295، طبعة بيروت.
116

ويبلغ الموكب دور بنى بياضة، ثم حي بنى ساعدة،
فحي بنى الحارث بن الخزرج، فحي بنى عدى بن النجار،
وكل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، ملحين أن يسعدهم
النبي صلى الله عليه وآله بالنزول في دورهم، والنبي يجيبهم وعلى شفتيه
ابتسامة كبيرة: " خلوا سبيلها، فإنها مأمورة ".
لقد ترك النبي صلى الله عليه وآله للمقادير اختيار مكان نزوله حيث
سيكون لهذا المنزل خطره وجلاله، فعلى أرضه السعيدة
سيؤسس المسجد والمدرسة في الإسلام الذي سينطلق
منه إشعاع يضئ الدنيا بأسرها، من كلمات الله ونوره.
وإلى جواره حجرات يسكنها معلم الأجيال،
ورسول الحياة، وليسعد العالم بمنهجه القويم وأخلاقه
السمحة العظيمة.
نعم، ترك زمام ناقته وأرسلها، فلا يلوى عنقها، ولا
يستوقف خطاها، وتوجه إلى الله بقلبه، وابتهل بلسانه،
قائلا: " اللهم خر لي، واختر لي ".
وأمام دار (مالك بن النجار) ذلك المؤمن المغمور،
بركت الناقة، ثم نهضت وطوفت بالمكان، ثم عادت إلى
117

مكانها الأول، وألقت جرانها، واستقرت في مكانها ونزل
رسول الله صلى الله عليه وآله عنها متفائلا مستبشرا، وتقدم السعيد خالد
ابن زيد حفيد مالك بن النجار - أبو أيوب الأنصاري -
مهرولا مستبشرا بهذا الفخر، ورفع أثقال الرسول صلى الله عليه وآله إلى
داره.
لم يكن هذا أول لقاء لأبى أيوب مع النبي الكريم،
بل سبقه لقاء في العقبة الثانية حينما خرج مع وفد يثرب
البالغ عددهم سبعين رجلا، لمبايعة الرسول الكريم في
مكة (بيعة العقبة الثانية) والذين شدوا أيديهم على يمين
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبايعين له ومناصرين، ومانعين إياه وعن
دينهم ما يمنعون به عن أهليهم.
ولقد شرف رسول الله يثرب وأهلها، باتخاذه
مستقرا له وعاصمة لدين الله، وخص منهم دار أبى أيوب
الأنصاري لتكن أول دار سكنها المهاجر العظيم والرسول
الكريم صلى الله عليه وآله.
ولقد آثر صلى الله عليه وآله أن ينزل في دورها الأول، ولكن ما
كاد أبو أيوب يصعد إلى غرفته في الدور العلوي حتى
118

أخذته الرجفة والرهبة وتصور كيف يسمح لنفسه قائما أو
نائما في مكان يعلو من المكان الذي يسكن فيه رسول
العظمة وينام؟؟
نزل وأخذ يلح ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرجوه
ويقول: يا رسول الله، لا ينبغي أن نكون فوقك، ينبغي أن
ننقل أمتعتك. تنتقل إلى الطابق العلوي ليستريح ضميري،
فاستجاب صلى الله عليه وآله لرغبته ورجائه وأمر أن تنقل أمتعته إلى
الطابق العلوي.
ومكث النبي عنده فترة من الزمن ريثما يتم بناء
المسجد، وبناء حجرة له بجواره.
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينه وبين مصعب بن عمير
يوم المؤاخاة الأولى، كما سمى يثرب، وبدل اسمها
إلى " المدينة المنورة "، أو سماها المسلمون " مدينة
الرسول صلى الله عليه وآله ".
وذكر ابن الأثير في أسد الغابة (1)، قال: أخبرنا أبو
أسد الغابة 2: 95، الحديث 1361.
119

الفرج يحيى بن محمود بإسناده... عن رهم السماعي، أن
أبا أيوب حدثهم أن النبي صل الله عليه وآله نزل في بيته الأسفل، إلى أن
قال: قلت: يا رسول الله، ليس ينبغي أن نكون فوقك،
فانتقل إلى الغرفة - الأعلى - فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بمتاعه
فنقل. فقلت: يا رسول الله، كنت ترسل إلى بالطعام، فانظر
فإذا رأيت أثر أصابعك وضعت فيه يدي، حتى كان هذا
الطعام الذي أرسلت به إلى، فنظرت فلم أر أثر أصابعك.
فقال صلى الله عليه وآله: أجل، إن فيه بصلا، فكرهت أن آكل من أجل
الملك، وأما أنتم فكلوا، وقد روى أن الطعام كان فيه ثوم،
وهو الأكثر.
وذكر ابن الأثير، قال:
روى حبيب بن أبى ثابت، عن... عن ابن عباس:
أن أبا أيوب أتى ابن عباس، فقال له: يا أبا أيوب، إني
أريد أن أخرج لك من مسكني، كما خرجت لرسول الله صلى الله عليه وآله
عن مسكنك، وأمر ابن (عباس) أهله (بالخروج)
فخرجوا، وأعطاه كل شئ وأغلق عليه بابه (فلما كانت
خلافة على قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي عطائي،
120

وثمانية أعبد يعملون في أرضى، وكان عطاؤه أربعة
آلاف، (فضاعف ها) له خمس مرات، فأعطاه عشرين ألفا
وأربعين عبدا (1). وكان أبو أيوب ممن شهد مع على رضى
الله عنهما حروبه كلها، ولزم الجهاد إلا عاما واحدا، فإنه
استعمل عليه رجل شاب (2)، فقعد ذلك العام، فجعل بعد
ذلك يتلهف (ويلوم نفسه) ويقول: ما على من استعمل
على.
ومنذ أن بدأت قريش تتنمر على الإسلام وتشن
غاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل
وتتحالف مع مردة أهل الكتاب، وتجيش الجيوش لتطفئ
نور الله.
ومنذ تلك اللحظة شمر أبو أيوب عن ساعد الجد،
واتخذ الجهاد في سبيل الله وتثبيت دعائم الإسلام شغله
الشاغل، فلم يتخلف عن معركة من معارك رسول الله صلى الله عليه وآله
الظاهر كان ذلك في حكم عمر أو عثمان.
هذا ما ذكره ابن الأثير، والعهدة على الراوي.
121

أو غزوة من غزواته صلى الله عليه وآله في حياته إلا كان في مقدمتها،
فشهد بدرا وأحدا والأحزاب والخندق وغيرها.
وكان شعاره الذي يردده دائما: (انفروا خفافا
وثقالا)، كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الإسلام،
يقاتل الكفار والمنحرفين والباغين.
ولما تمت البيعة العامة بالخلافة للإمام على عليه السلام
بعد مقتل عثمان كان في أول معسكره، وفي مقدمتهم في
معركة الجمل، وصفين، والنهروان، يقاتل الناكثين
والقاسطين والمارقين، إلى جنب الإمام على عليه السلام.
ويروى أن الإمام على عليه السلام لما خرج من المدينة
لقتال الناكثين بالبصرة أصحاب الجمل، خلف أبا أيوب
الأنصاري واليا على المدينة.
لذلك ما استطاع أن يشهد معركة الجمل بالبصرة،
وكذلك ما استطاع أن يشهد معركة صفين وقتال
القاسطين، مع على عليه السلام في الشام.
ولكنه شهد واقعة النهروان مع على عليه السلام في قتال
الخوارج، وكان على اللواء المتقدم في الحرب.
122

وقال الكشي في رجاله (1): روى الحارث بن النظر
الأزدي عن محمد بن سليمان قال: قدم علينا أبو أيوب
الأنصاري فنزل ضيعتنا (مع عسكره) يعلف خيلا له،
فأتيناه فأهدينا له، قال: فقعدنا عنده فقلنا: يا أبا أيوب،
قاتلت المشركين بسيفك هذا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم جئت
تقاتل المسلمين والمارقين والناكثين، فقد قاتل الناكثين في
البصرة، وقاتلت القاسطين في صفين، وإنا نقاتل إن شاء
الله (المارقين) بالمسعفات، بالطرقات، بالنهروان، وما
أدرى أنى هي؟
وذكر صبحي الصالح في نهج البلاغة (2): ثم نادى
على بأعلى صوته في استعداده لاستئناف حربه مع معاوية:
الجهاد الجهاد عباد الله، ألا وإني معسكر في يومى
رجال الكشي: 76.
نهج البلاغة، صبحي الصالح، طبعة قم - انتشارات هجرت.
123

هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج!
قال نوف: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف،
ولقيس بن سعد بن عبادة في عشرة آلاف، ولأبي أيوب،
الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد اخر،
وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى
ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، واستشهد الإمام عليه السلام
فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها
الذئاب من كل مكان، فإنه لله وإنا إليه راجعون.
وبعد شهادة الإمام على عليه السلام وعقد الهدنة مع الإمام
الحسن عليه السلام واستبداد معاوية بالحكم، رجع إلى المدينة
واعتزل الجهاد.
ولكن زهده بالحياة وإقدامه على الجهاد، أخرجه
إلى الشام ليلتحق بالجيش الخارج لمحاربة المشركين في
القسطنطينية، وكان قائد الحملة يزيد بن معاوية - في
حكم أبيه معاوية - فمرض بعد وصوله القسطنطينية،
فمات فيها سنة 52 ه‍ - 672 م، فأوصى أن يدفن في أرض
المعركة، وقبره لا يزال شاخصا باستانبول في تركيا اليوم.
124

وفي رجال الكشي (1): وسئل الفضل بن شاذان عن
أبى أيوب، خالد بن زيد الأنصاري، وقتاله مع معاوية
المشركين، فقال: كان ذلك منه قلة فقه وغفلة، ظن أنه
إنما يعمل عملا لنفسه يقوم به الإسلام، ويوهي به الشرك،
وليس عليه من معاوية شئ كان معه أو لم يكن.
هذا ما عثرنا عليه في المصادر المعتبرة عن ترجمة
هذا العبد الصالح - أبو أيوب الأنصاري رحمة الله - فراجع، والله
ولى التوفيق.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم آمن وجاهد، ويوم
مات، ويوم يبعث حيا.
رجال الكشي: 77.
125

المصادر
1 - الأعلام، للزركلي 2: 295، طبعة بيروت
2 - أسد الغابة: لابن الأثير 2: 94
3 - طبقات ابن سعد 3: 484
4 - الإصابة، لابن حجر العسقلاني 2: 234، ت 2165
5 - معجم رجال الحديث 7: 23
6 - رجال حول الرسول، خالد محمد خالد: 403،
طبعة دار الفكر - بيروت
7 - الاستيعاب على هامش الإصابة، لابن عبد البر
القرطبي 4: 5
8 - حلية الأولياء، لأبى نعيم الأصفهاني 1: 361،
طبعة دار الكتب العلمية - بيروت
9 - صفة الصفوة 1: 186
10 - رجال الكشي 37: 76، و 45: 95
11 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 264
126