الرجعه
مناظره السيد الحميري مع سوار القاضي
قال الحرث بن عبيد الله الربعي : كنت جالساً في مجلس المنصور وهو بالجسر الاَكبر ، وسوار ـ بن عبد الله القاضي ـ عنده ، والسيد ينشده:
إنّ الاِلــه الذي لا شيء يشبهه آتاكـم المُلــك للدنيــا وللــدين
آتاكــم الله ملــكاً لا زوال له حتى يقاد إليكم صــاحب الصيــن
وصاحب الهنــد مأخوذ برمّته وصاحب الترك محبوس على هون(3)
حتى أتى على القصيده والمنصور مسرور، فقال سوار : هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، والله إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنّه لينطوي في عداوتكم. فقال السيد : والله إنّه لكاذب ، وإنني في مديحك لصادق ، ولكنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي ومودّتي لكم أهل البيت لمعرق لي فيها عن أبوي ، وإن هذا وقومه لاَعداؤكم في الجاهليه والاِسلام، وقد أنزل الله عزّ وجلّ على نبيه ـ عليه وآله السلام ـ في أهل بيت هذا : ( إنَّ الذينَ يُنادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُراتِ أكثَرُهُم لا يَعقِلونَ )(4).(5) فقال المنصور: صدقت .
فقال سوار : يا أمير المؤمنين إنّه يقول بالرجعه، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعه فيهما. فقال السيّد : أما قوله بأنّي أقول بالرجعه فإنَّ قولي في ذلك على ما قال الله تعالى : ( وَيَومَ نَحشُرُ مِن كلِّ أُمّهٍ فَوجاً ممّن يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهم يُوزعُون )(6) ، وقد قال في موضع آخر : ( وَحَشَرناهُم فَلم نُغادِر مِنهُم أحَداً )(7)، فعلمت أن هاهنا حشرين(8) أحدهما عام والآخر خاص، وقال سبحانه : ( رَبَّنا أَمَتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فَاعترفنا بذُنوبِنا فَهل إلى خروج من سَبيلٍ )(9)(10) وقال الله تعالى : ( فَأمَاتَهُ الله ُ مائهَ عام ثمَّ بعثهُ )(11)وقال الله تعالى : ( ألم تَرَ إلى الذينَ خَرجوا مِن دِيارِهِم وَهُم أُلوفٌ حَذَرَ الموتِ فَقَالَ لَهُم الله ُ مُوتوا ثُمَّ أحياهُم )(12). فهذا كتاب الله عزّ وجلّ ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله « يُحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامه »(13)، وقال صلى الله عليه وآله : « لم يجر في بني إسرائيل شيء إلاّ ويكون في أُمّتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف »(14)، وقال حذيفه : « و الله ما أبعد أن يمسخ الله كثيراً من هذه الاَُمّه قرده وخنازير »(15). فالرجعه التي نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنّه، وإنّني لاَعتقد أن الله تعالى يرد هذا ـ يعني سواراً ـ إلى الدنيا كلباً ، أو قرداً أو خنزيراً، أو ذره ، فإنّه والله متجبّر متكبّر كافر. قال : فضحك المنصور وأنشد السيّد يقول :
جاثيت سـوّاراً أبــا شملــه عند الاِمام الحاكم العــادل
فقال قــولاً خطــلاً كلّــه عند الورى الحافي والنـاعل
ما ذبَّ عمّا قلــت من وصمه في أهله بل لـجّ في الباطل
وبان للمنصــور صـدقي كما قد بان كذب الاَنوك الجاهل
يبغض ذا العرش ومن يصطفي من رسله بـالنيّر الفـاضل
ويشنأ الحبر الجــواد الــذي فُضِّل بالفضل على الفاضل
ويعتدي بالحكم فــي معشــر أدّوا حقوق الرسـل للراسل
فــبيّــن الله تــزاويقــه فصار مثل الهائم الهائل(16)
قال : فقال المنصور : كفّ عنه .
فقال السيد : يا أمير المؤمنين ، البادي أظلم ، يكفّ عنّي حتى أكفّ عنه. فقال المنصور لسوار : تكلّم بكلام فيه نصفه، كفّ عنه حتى لا يهجوك(17). ____________
(1) هو : إسماعيل بن محمد الحميري، الشاعر الطائر الصيت المولود سنه 105 والمتوفى سنه 173 أو سنه 179 في بغداد، صاحب القصيده المشهوره :
لاَُمّ عمرو باللوى مربع * طامسه أعلامها بلقع
ولقبه السيّد ولم يكن علويّاً ولا هاشميّاً وإنّما السيّد لقب له ، من أصحاب الاِمام الصادق عليه السلام ومن شعراء أهل البيت عليهم السلام المجاهرين، حاله في الجلاله ظاهر، ومجده باهر، قال العلاّمه في حقّه : ثقه جليل القدر عظيم الشأن والمنزله، وكان في بدء الاَمر كيسانيّاً ثمّ إمامياً، وقيل له : كيف تشيّعت وأنت شامي حميري؟ فقال : صبّت عليَّ الرحمه صبّاً فكنت كمؤمن آل فرعون، وروي أن الاِمام الصادق عليه السلام لقاه، فقال : سمّتك أُمّك سيّداً ووفقتْ في ذلك ، أنت سيّد الشعراء، وقيل : إن له في أهل البيت عليهم السلام نحو ألفين وثلاثمائه قصيده . انظر ترجمته في : تنقيح المقال للمامقاني : ج1 ص142 ـ 144 ترجمه رقم : 878، سفينه البحار : ج1 ص335 ـ 337 ، ديوان السيّد الحميري : ص 5 ـ 39 ، الاَعلام للزركلي: ج 1 ص 320 ـ 321 ، فوات الوفيات : ج 1 ص 188 ، الاَغاني لاَبي الفرج الاَصفهاني : ج 7 ص 229 . (2) هو سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامه ، من بني العنبر ، من تميم ، أبو عبد الله العنبري ، من أهل البصره ، نزل بغداد ووليَّ بها قضاء الرصافه ، له علم بالفقه والحديث، وكفّ بصره في أواخر أعوامه ، توفي ببغداد سنه 245 . انظر ترجمته في : تاريخ بغداد : ج9ص 210 ، الاَعلام للزركلي : ج 3 ص 213. (3) ديوان السيّد الحميري : ص 444 ، قصيده رقم : 187 ، الغدير للاَميني: ج2 ص233. (4) سوره الحجرات : الآيه 4 . (5) جاء في أسباب النزول للواحدي : 219 ـ 220 إنَّ هذه الآيه الشريفه نزلت في جُفاه بني تميم ، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وآله فدخلوا المسجد ، فنادوا النبي صلى الله عليه وآله من وراء حجرته أن أخرج إلينا يا محمد... فأنزل الله تعالى : ( أن الّذين ينادونكَ من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) . (6)سوره النمل : الآيه 83.
(7) سوره الكهف : الآيه 47 . (8) ويدلّ على ذلك ما روي عن ابن أبي عمير عن حمّاد ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ما يقول الناس في هذه الآيه : ( وَيومَ نحشرُ من كلِّ أُمّهٍ فوجاً ) ؟ قلت : يقولون : إنها في القيامه ، قال : ليس كما يقولون ، إنّ ذلك في الرجعه أيحشر الله في القيامه من كلّ أُمّهٍ فوجاً ، ويدع الباقين ؟ ! إنما أيه يوم القيامه قوله :(