صحيح شرح العقيدة الطحاوية

حسن بن علی سقاف

نسخه متنی
نمايش فراداده
الكتاب: صحيح شرح العقيدة الطحاوية
المؤلف: حسن بن علي السقاف
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند السنيين
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1416 - 1995 م
المطبعة:
الناشر: دار الإمام النووي - عمان - الأردن
ردمك:
ملاحظات:
صحيح
شرح العقيدة الطحاوية
من فكر آل البيت
صحيح
شرح العقيدة الطحاوية
أو
المنهج الصحيح
في
فهم عقيدة أهل السنة والجماعة مع التنقيح
تأليف
حسن بن علي السقاف
القرشي الهاشمي الحسيني
عفا الله تعالى عنه
دار الإمام النووي

1
جميع حقوق الطبع محفوظة
للمؤلف
الطبعة الأولى
1416 ه‍ - 1995 م
دار الإمام النووي
الأردن / عمان ص. ب (925393).
هاتف (672011) فاكس (891584)

2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك العظيم، العليم الحليم، ذي الطول الكريم، والمن
الجسيم، والعز المديد، والمحال الشديد، ولي الحق ونصيره، وماحق
الباطل ومبيره، المتكفل بالنصر والتمكين، والتأييد والتحصين، لأوليائه
المتقين، وللعلماء العاملين، الذابين عن دينه، والقائمين بإبراز
قوانينه، من كتابه الكريم، وسنة رسوله الرؤوف الرحيم، الدالين على
توحيده، الشارحين لمناهج عقائد تمجيده، فقد وعد سبحانه بإعلاء
كلمتهم، وإفلاج حجتهم، وتأييد محجتهم، كما وعد بإنزال قوارع بأسه
على من عصاه وحاده، وصد عنه فناده، وقضى بعواقب الحسنى لمن
أسلم وجهه إليه، وتوكل في بث الحق وإعلاء منار الدين عليه، فضلا
منه وعدلا، قضاء فصلا، وهو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس شيئا
ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
أحمده حيث منح فأجمل، وأعطى فأجزل، من نعمه السابغة،
وآلائه المتتابعة، حمدا يوجب منه المزيد، ويستدعي المنن والتجديد،
ويؤيد الإسلام بباهر الإعجاز، ويقصم معاديه بوشيك الانجاز، حيث
أخمد كل دين وأعلاه، ورفض كل شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع،
وظله الماتع، وابتعث به السراج المنير، والبشير النذير، فأوضح
مناهجه، وبين مدارجه، وأنار أعلامه، وفضل أحكامه، وسن حلاله
وحرامه، وبعثه من أكرم عنصر ونبعه، وأظهر ملته وشرعه، وأنزل عليه
كتابا في وحيه حكيما غير ذي عوج قيما بديع النظام، داخلا في الأفهام،
خارجا عن جميع الكلام، ليس كسجع الكهان، ولا كتحبير ذوي اللسن
والبيان، وقد تفرقت بالأمم أهواؤهم، وتوزعت آراؤهم، فضلت

3
قال العلامة مؤمن بن حسن الشبلنجي رحمه الله تعالى:
إذا استعرت كتابي وانتفعت به * فاحذر وقيت الردى من أن تغيره
واردده لي سالما إني شغفت به * لولا مخافة كتم العلم لم تره

4
وقال الإمام أبو بكر بن شهاب السقاف الباعلوي رحمه الله تعالى:
صحت في صحبي بمجلسهم * بين مثريهم ومفلسهم
جئت بالحق الصريح لهم * واضحا يتلى بمدرسهم
جئت من آي الكتاب ومن * خبر الهادي بمخرسهم
فأبوا إلا مكابرة * وتمادوا في تغطرسهم
عظموا أعداء خالقهم * وتناسوا خبث مغرسهم
أولوا نص الدليل بما * جاء في فتيا مدلسهم
هل كتاب الله تنسخه * نفثات من موسوسهم
أو حديث المصطفى تبع * لهواهم في تهوسهم
آفة التقليد مهلكة * تخنق الأسرى بمحبسهم
بيد أن الأكثرين وقد * عرفوا تلويث ملبسهم
سكتوا جبنا وبعضهم * حسدا من عند أنفسهم

5
بسم الله الرحمن الرحيم
(نسب المؤلف)
حسن بن علي بن هاشم بن أحمد بن علوي (مفتي الشافعية، وشيخ السادة
بمكة المحمية المتوفى سنة 1335 ه‍ مصنف ترشيح المستفيدين) ابن أحمد بن
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن حسين بن عيدروس بن أحمد بن (أبي بكر
بن عقيل) ابن عبد الرحمن بن عمر بن عبد الرحمن بن عقيل بن عبد الرحمن السقاف
ابن محمد بن علي بن علوي بن الفقيه المقدم محمد بن علي بن محمد بن علي بن
علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر ابن عيسى بن محمد
النقيب ابن علي العريضي ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين
العابدين ابن سيدنا الحسين السبط ابن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب وابن
السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي) (*).



* رواه الحاكم (3 / 142) عن سيدنا عمر، ورواه الطبراني عنه وعن سيدنا ابن عباس،
قال الهيثمي في (المجمع) (9 / 173): (رجاله ثقات). وانظر (سير أعلام النبلاء)
(3 / 500) وهو صحيح.
7
أحلامهم، وعميت أفهامهم، واستحوذ عليهم الشيطان، فشبهوا وعبدوا
الأصنام والأوثان، جهلا بعبادته وتنزيه الرحمن، فدعاهم إلى الإقرار
بخالقهم وإلههم، وعبادته وترك ما عكفوا عليه من أوثانهم وأصنامهم،
وهو جاد في الاجتهاد، هاجر للدعة والمهاد، صابرا على تكذيبهم،
رادا على تفنيدهم، ينصح لهم فيستكبرون، ويهديهم فيضلون،
ويحذرهم فيستهزئون، حتى أظهر الحق والدين، وطمس الكفر وأقاويل
المشركين، فظهرت في الخلق بركته، وفضلت على الأمم أمته، وعلت
على الملل ملته، صلى الله عليه أفضل صلاة المصلين، وسلم وزاده
شرفا في العالمين، وكذا على آله الأطهار الطيبين، ورضوان الله تعالى
على صحابته الشم المتقين، وعلى من تبع الحق بإحسان وتمسك
بالثقلين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا شرح لطيف على متن عقيدة الإمام أبي جعفر أحمد بن
محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي المصري المتوفى سنة (321 ه‍) بينت فيه
معاني عباراته، وفحوى إشاراته، وناقشته في بعض كلماتها، وأيدته
ودللت على كلامه في غالب فقراتها، ولم أختصر اختصارا مخلا، كما
لم أسهب إسهابا مملا، حرصا على أن يكون هذا الكتاب منهجا
لتدريس العقيدة متميزا حديثا، في كل جامعة ومعهد يصبو فيه أربابه
إلى الأسلوب الواضح السهل المشحون بالأدلة من القرآن والحديث، وقد
طلب مني كثيرون، وراسلني عديدون، يسألون عن شرح لعقيدة
الطحاوي يوافق المعتقد الحق كما يطالبون بشرح جديد عليها يستوعب
منها الأركان والمباني، ويتعرض للمهم من تلك المعاني، فلم أجد بدا
عن الإجابة، فشرعت في كتابة هذا الشرح متوكلا على المولى سبحانه،
مبينا فيه كل ما اعتقده حقا، ومزيفا فيه كل ما أراه زيفا، وأسأله سبحانه

8
أن ينفع به، وينفعني بثواب ما كتبت فيه، إنه سميع مجيب الدعاء (1).
ولا بد قبل الشروع في المقصود أن أبين قضايا وأمورا تتعلق
بالموضوع فأقول مستعينا بالرحمن، الخالق الديان:



(1) مع ملاحظة أننا لسنا مقلدين في هذا الشرح لأحد كما سيرى القارئ الكريم إن شاء
الله تعالى، وإنما أخذنا كما سيتبين لكل منصف من كتاب ربنا سبحانه وسنة نبينا الحبيب
صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة الثابتة عنه (غير المعارضة)، وقد نص أهل العلم
على عدم جواز التقليد في مثل هذه الأبواب ومن ذلك قول العلامة اللقاني في جوهرته:
إذ كل من قلد في التوحيد إيمانه لم يخل من ترديد
وقد صار الأمر في الأعصار الأخيرة إلى أنه إذا أراد أحد أن يصنف في علم من العلوم
كالتوحيد مثلا فإنه يرجع إلى شروح المتن الذي تصدى لشرحه، فيخرج من تلك الشروح
وينتقي منها ما يراه مناسبا، ثم ينظر في باقي كتب التوحيد فينقل الأقوال والنصوص فيها
دون أن يعمل عقله وفكره في البحث عن أدلتها التي أخذت منها!! فلا يعرج على التأمل
في مستند تلك الأقوال من الكتاب والسنة!! وإنما هو التقليد فقط!! فكان من واجبنا
لما رأينا ذلك أن نخرج كتابا يعتمد على الدليل ويقارع الحجة بالحجة ويذكر البرهان
تلو البرهان، نناقش فيه كثيرا من المسائل المطروحة في الساحة اليوم والتي لم تذكرها أو
لم تركز عليها الكتب السابقة، خدمة لعقيدة الإسلام الحقة، وبيانا لمذهب أهل السنة
والجماعة، وشفاء لما في صدور كثير من طلبة العلم في مشارق الأرض ومغاربها، لا سيما
وأن المصنفين السابقين رحمهم الله تعالى كانوا قد صنفوا بأساليب تناسب أزمانهم وبينوا
المسائل وشرحوها بطرق كانت منتشرة في أيامهم، وما كان لنا أن نتابعهم في خطأ مشى
عليه المتأخرون منهم بعد وضوح الدليل بخلافه!!
وإننا مع ذلك ندعو لأولئك المصنفين السابقين متقدميهم ومتأخريهم ونقول: رحمهم الله
تعالى وجزاهم الله خير الجزاء عما قاموا به من جهد جهيد في البيان والتصنيف والتأليف
والايضاح، آمين آمين يا رب العالمين.
9
تمهيد ومقدمة

11
فصل
وجوب اتصاف حامل عقيدة الإسلام
بالأخلاق الفاضلة الحسنة
يجب على المسلم الذي عرف دينه وتمسك به وفهم عقيدته أن يتحلى بكريم
الأخلاق والصفات، فيقتدي بنبيه الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم الذي
قال له خالقه سبحانه * (وإنك لعلى خلق عظيم) * القلم: 4، وقال الله تعالى لنا
في كتابه الكريم: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) * الأحزاب: 21.
ومن قرأ القرآن والسنة وتدبر فيهما وجد أنه يجب عليه أن يترك كل خلق ذميم
كالغش والخداع والمكر والخبث والحقد والحسد وأكل أموال الناس بالباطل والتعدي
عليهم بالقتل والسرقة والسلب والنهب والضرب بغير حق، وكذا الفحش والسب
والشتم والنطق بالكلمات النابية والسخرية والاستهزاء والكذب والنميمة والغيبة
والغضب لغير الله تعالى والطمع والبخل والظن السئ بلا دليل والظلم وحب الجاه
والسمعة والمدح والرياء والكبر والعجب والغرور...
وبالمقابل يرى أنه يجب عليه أن يتحلى بكل خلق سام سني كالصدق والأمانة
وطيب الكلام والتبسم والحلم والإعراض عن الجهلة والاصلاح بين الناس
والتواضع والكرم والسخاء والشجاعة والاذعان للحق والرجوع عن الخطأ
والاعتراف بالذنب واحترام الآباء والأمهات ومن هو أكبر منه سنا وتوقير العلماء
والصالحين والرحمة بالصغار والرفق بالحيوان وغيرهما مما هو مبسوط في محله، وقد
تولى الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه (الإحياء) شرح كثير منها وبيان تفاصيلها
فليرجع إليه طالب الآخرة.

12
ومن الأخلاق التي يجب على المسلم الموحد التحلي والالتزام بها ويجدر التنبيه
عليها ههنا:
ترك فضول الكلام والخوض في الباطل والمراء والجدل بالباطل: قال الله تعالى
* (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس
ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله) * أي ناويا التقرب لله تعالى بأفعاله * (فسوف
نؤتيه أجرا عظيما) * النساء: 114.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وأعلى درجته:
[فضول الكلام مذموم وهو يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على
قدر الحاجة، فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه
ويقرره ويكرره، ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين فالثانية فضول
أي فضل عن الحاجة وهو أيضا مذموم لما سبق وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر....
وأما الخوض في الباطل وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس
الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الطغاة ومراسمهم المذمومة وأحوالهم
المكروهة فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام... وأكثر الناس
يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض
في الباطل، وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها
إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا.
وحد المراء: هو كل إعراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما باللفظ
وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم، وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض. فكل
كلام سمعته فإن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا
بأمور الدين فاسكت عنه (2).



(2) مثال ما ينبغي السكوت عنه وعدم المراء فيه الكلام الفارغ الذي يتداوله كثير من الناس
ويجادلون فيه مما ليس فيه منفعة ولا فائدة تعود منه في الدنيا ولا في الدين.
ولاحظ هنا أن الإمام الغزالي استشنى أمر الدين، ومنه يتبين أنه لا يجوز السكوت على
المبتدع أو الذي يفتي ويتكلم في أمور الدين بما هو باطل ومردود لقوله تعالى * (وجادلهم
بالتي هي أحسن) * وقوله تعالى * (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * وقوله تعالى
* (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (شرح صحيح مسلم) (6 / 154): (فمن الواجب
نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك). والقائم بهذا يحتاج لدفع
كلام الخصم وبيان بطلانه من جوانب عديدة. لكن ينبغي بل يتحتم عل القائم بذلك
أن لا يستعمل فحش الكلام ولا البذاءة ولا السب والشتم للمردود عليه وكذلك لا يجوز
التنابز بالألقاب والأسماء لقوله تعالى * (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد
الإيمان) *، ويجوز أن يبين جهل المبتدع أو المردود عليه أو تناقضه بعبارة واضحة لأن هذا
لا يعتبر من السب والشتم في مقام الردود العلمية.
13
وأما المجادلة فعبارة عن: قصد إفحام الغير تعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه
ونسبته إلى القصور والجهل فيه، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى
مكروها عند المجادل، فيحب أن يكون هو المظهر له خطأه ليبين به فضل نفسه
ونقص صاحبه، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت
عنه.
وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير
بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها: إما إظهار الفضل: فهو
من قبيل تزكية النفس، وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو
والكبرياء وهي من صفات الربوبية. وإما تنقيص الآخر فهو من مقتضى طبع
السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه، وهاتان صفتان
مذمومتان مهلكتان، وإنما قوتهما المراء والجدال، فالمواظب على المراء والجدال
مقو لهذه الصفات المهلكة.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا
يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة
الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا: يا رسول الله: قد علمنا الثرثارين
والمتشدقين فما المتفيقهون؟! قال: (المتكبرون). رواه الترمذي (4 / 370 برقم 2018)

14
وقال: حسن غريب.
والخصومة مذمومة وهي وراء الجدال والمراء، فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار
خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير، والخصومة لجاج في الكلام
ليستوفي به مال أو حق مقصود] انتهى من الإحياء مختصرا بتصرف يسير.
هذا ما أردنا التنبيه عليه بإيجاز من ضرورة التزام حامل عقيدة الإسلام
بالخلق الفاضل السني، وإذا وصل الكلام بنا إلى هنا وتم القصد، ناسب أن
ننتقل إلى التعريف بصاحب هذه العقيدة فنقول:
الإمام الطحاوي
ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى مختصرة:
قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (15 / 27):
(الإمام العلامة الحافظ الكبير، محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر
أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري
الطحاوي الحنفي، صاحب التصانيف من أهل قرية طحا من أعمال مصر،
ومولده في سنة تسع وثلاتين ومائتين.
وسمع من: عبد الغني بن رفاعة، وهارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن
عبد الأعلى، وبحر بن نصرة الخولاني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم،
وعيسى بن مثرود، وإبراهيم بن منقذ، والربيع بن سليمان المرادي، وخاله أبي
إبراهيم المزني، وبكار بن قتيبة،... وطبقاتهم.
وبرز في علم الحديث وفي الفقه، وتفقه بالقاضي أحمد بن عمران الحنفي،
وجمع وصنف،
حدث عنه: يوسف بن القاسم الميانجي، وأبو القاسم الطبراني، ومحمد بن
بكر بن مطروح، وأحمد بن القاسم الخشاب، وأبو بكر بن المقرئ، وأحمد بن
عبد الوارث الزجاج، وعبد العزيز بن محمد الجوهري قاضي الصعيد، وأبو الحسن
محمد بن أحمد الأخميمي، ومحمد بن الحسن بن عمر التنوخي، ومحمد بن المظفر

15
الحافظ، وخلق سواهم من الدماشقة والمصريين والرحالين في الحديث.
وارتحل إلى الشام في سنة ثمان وستين ومائتين، فلقي القاضي أبا خازم،
وتفقه أيضا عليه.
ذكره أبو سعيد بن يونس فقال: عداده في حجر الأزد، وكان ثقة ثبتا فقيها
عاقلا، لم يخلف مثله (3) انتهى.
عقيدة الطحاوي
إن الناظر المتفحص في متن عقيدة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى يلاحظ
من خلالها الأمور التالية:
أولا: أثبت الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى ني عقيدته هذه بأنه يعتقد عقيدة
أهل الحق في الجملة، وهي العقيدة المبنية على ننزيه الله تعالى وصفاته عن التشبيه
والتجسيم وعن مشابهة الحوادث والخلق، لا سيما وهو يقول مثلا فيها: (تعالى
عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست



(3) وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) (1 / 274 هندية) الإمام الحافظ الطحاوي رحمه
الله تعالى!! ومقام الإمام الطحاوي أجل وأعلى من أن يذكر في كتاب قد وضع في ضعفاء
الرجال وفيمن تكلم فيه منهم!! وكم في كتب الجرح والتعديل والضعفاء من رجال
مظلومين تكلم فيهم وهم أئمة ثقات لا يقدح فيهم كلام من تكلم فيهم!!
والإمام البيهقي رحمه الله تعالى تعرض للإمام الطحاوي في معرفة السنن والآثار (2 / 60
- 61 و 71 و 92 و 97 و 98....) ودقق في الرد والتنقيد عليه مع أن البيهقي يخالف غير
الطحاوي من الفقهاء والعلماء والحفاظ فلم يدقق معهم كما فعل مع الطحاوي!!
وفي (معرفة السنن) (2 / 60) وقعت عبارة موهمة، يتوهم منها القارئ أن الإمام أحمد بن
حنبل رد على الطحاوي والعبارة هي: (قال الإمام أحمد رحمه الله زعم الطحاوي أنه تتبع
الآثار...) والمراد بذلك: الإمام أحمد البيهقي وليس الإمام أحمد بن حنبل، لأن أحمد بن
حنبل لما توفي كان عمر الطحاوي ثلاث عشرة سنة على أبعد الأقوال بين وفاة هذا وولادة
ذاك فكيف يصح أن يقال إنه رد عليه؟!!
16
كسائر المبتدعات) وقوله فيها أيضا (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد
كفر).
ثانيا: ذكر الإمام الطحاوي في هذه العقيدة أهم القضايا العقائدية ولم
يتعرض لذكر بعض الأمور، وذكر فيها مسائل فقهية أيضا ليست من مسائل
العقيدة كالمسح على الخفين ونحوه، وركز على قضايا يظهر لنا أنها كانت مهمة
في نظره يومئذ كمسألة القضاء والقدر، فكان كلما تكلم عليها وتركها ليتكلم في
غيرها رجع إليها وأعاد الكلام فيها كرات ومرات.
وهذا مما حدانا وألجأنا إلى:
1 - أن نرتب متن هذا العقيدة ترتيبا جديدا حيث ضممنا العبارات في الموضوع
الواحد وجمعناها في موضع واحد.
وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر هذا الشرح متن الطحاوية كما صنفه ورتبه
الإمام الطحاوي ثم نذكر مقابل كل جملة أو فقرة منها رقم الصفحة التي أثبتت
فيه في هذا الشرح والله الموفق.
2 - أن نستكمل ذكر ما لم يذكره من أمور العقيدة والتوحيد في الشرح مع بيان
واستيفاء الكلام عليه بما يناسب المقام.
3 - أن نرتب مواضيع الكتاب وأبحاثه على حسب ترتيب كتب العقائد المعروفة
لتسهل مراجعة المواضيع فيها، وليكون كتابا يمثل نموذجا مثاليا في تدريس العقيدة
الإسلامية وفق منهج تعليمي جديد سهل مشحون بالأدلة مع مناقشة المخالف
وبيان حججه ودحضها في المسائل المطروقة.

17
الإسناد إلى الإمام الطحاوي وعقيدته
حدثني بها سيدي الإمام المحدث المفيد أبو الفضل عبد الله بن محمد بن
الصديق الغماري (4) الطنجي بثغر طنجة، عن الشيخ المعمر محمد دويدار
التلاوي، عن الشيخ إبراهيم الباجوري، عن الأمير الكبير، عن البدر الحفني،
عن العلامة البديري، عن إبراهيم الكردي، عن صفي الدين القشاشي، عن
الشمس الرملي، عن الإمام العلامة الشيخ زكريا الأنصاري، عن الحافظ أبو نعيم
المستملي، عن الشرف أبو طاهر بن الكويك، عن إبراهيم بن بركات البعلي
المعروف بابن الفريشة، عن الحافظ اليونيني، عن الحافظ أبو موسى محمد بن أبي
بكر المديني، عن أبي الفتح إسماعيل بن الفضل بن أحمد السراج بن الأخشيد،
عن أبي الفتح منصور بن الحسين التالي، عن الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم بن
علي المقري، عن الإمام الحافظ أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى به.
وبهذا الإسناد المتقدم إلى الإمام العلامة الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله
تعالى، قال: ثنا الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن أبي هريرة ابن الحافظ
الذهبي، عن الحافظ الذهبي قال: كتب إلينا عبد الرحمن بن محمد الفقيه، أخبرنا
عمر بن طبرزد، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، حدثنا أبو محمد الجوهري إملاء،
حدثنا محمد بن المظفر، قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى به.



(4) ولد رحمه الله تعالى وأعلى درجته في غرة رجب سنة 1328 ه‍ بثغر طنجة وتوفي يوم الخميس
20 / شعبان / 1413 ه‍ الموافق 11 / 2 / 1993 م الساعة الثانية والنصف ظهرا بعد الزوال رحمه
الله تعالى وجعله مع الذين أنعام الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
ونفعنا بعلمه وبركته آمين.
18
فصل
قال الإمام الحافظ السبكي في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) ص (62):
(وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد واحدة
كلهم على رأي أهل ألسنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة أبي
الحسن الأشعري رحمة الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية
لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعريا عقيدة، وبالجملة
عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء
المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة).
قلت: تشبث بكلامه هذا رحمه الله تعالى بعض المجسمة والمشبهة في هذا
العصر فذكروا كلامه هذا ولم يذكروا فيه ثناءه على الأشعري بل حذفوه منه،
ووضعوه على غلاف شرح ابن أبي العز على الطحاوية ترويجا لذلك الشرح الذي
فيه مخالفات صريحة للقرآن والسنة والعقيدة الحقة (5).
أما قول الإمام السبكي بأن الحنفية يدينون بطريق الأشعري فليس صوابا
على إطلاقه، وإنما الصواب أنهم يدينون الله تعالى بطريق أبي منصور الماتريدي
المستقي من الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة والرضوان، وعلي هذا جمهورهم، وإن
قصد الإمام بأنهم يتفقون مع الأشعري في التنزيه ونبذ التشبيه والتجسيم فهذا
صواب وحق.



(5) وقد ذكرت بعض تلك الأمور التي خالف فيها الشارح ابن أبي العز القرآن والسنة وإجماع
الأمة في بعض كتبي ككتاب (التنديد بمن عدد التوحيد) وذكرت هناك أن منها قوله:
بإثبات الحد لرب العالمين، وقوله: بأن الحوادث تقوم به سبحانه عما يقول، وأن العالم
قديم بالنوع، وأن الله تعالى يتكلم بحروف وأصوات إلى غير ذلك من مستشنعات،
تعالى المولى سبحانه وتعالى عما يقول هذا الشارح وأضرابه.
19
وقوله (وبرأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعريا عقيدة) إن عنى الشيخ
به أنه لم ير في حياته من الأحياء الذين لقيهم من علماء السادة المالكية إلا أشعري
العقيدة فالظاهر أنه مصيب لكن السياق والكلام لا يدل على أنه أراد هذا المعنى،
وإن أراد أن المالكية ليس فيهم مجسمة ومشبهة خلافا لبقية المذاهب فليس هذا
بصواب قطعا، وذلك لأن الطلمنكي المالكي مشبه مجسم أثبت عضو الجنب
لله تعالى كما نقل ذلك عنه الحافظ الذهبي في ترجمته في (سير أعلام النبلاء)
(17 / 569)، ومثله ابن أبي زمنين وابن رشد الحفيد الفيلسوف وغيرهم لكنهم قليل
في المذهب.
وقوله (بأن علماء المذاهب تلقوا عقيدة أبي جعفر الطحاوي بالقبول ورضوها
عقيدة) لا ينفي أن يكون فيها خطأ أو ما هو مناف للصواب أو ما لا يقبل
النقاش، لأنها ليست قرآنا ولا كلاما لنبي معصوم والمجسمة والمشبهة في هذا
العصر تشبثوا بهذا الكلام فزعموا بأن شرح هذه العقيدة لابن أبي العز هو عقيدة
السلف!! مع أنهم خالفوا الإمام الطحاوي صاحب المتن في بعض ما قال، وذلك
حيث خالفوه في مثل قوله: (تعالى - الله - عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء
والأدوات، لا تحويه الجهات ألست كسائر المبتدعات) فأثبتوا الجهة والحد لله
عز وجل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!!
ونحن نقول: إن كلام الإمام السبكي هذا يوهم أن عقيدة الطحاوي هذه
مجمع عليها وبالتالي حصل الاتفاق والإجماع على كل حرف أو عبارة منها، والواقع
ليس كذلك حقا بل إن فيها عبارات أما أن يقال فيها مختلف في قضاياها ويجب
أن نأخذ بالصحيح الراجح، وأما أن يقال أخطأ فيما ذهب إليه في تلك العبارات،
ولنا أن نقول: إن عقيدة الطحاوي تمثل عقيدة واحد من السلف (وهو الطحاوي
لا غير) وتخبرنا بأن السلف ليس لهم مذهب موحد لا في الفقه ولا في العقيدة
ولا في الجرح والتعديل ولا في غير ذلك كما سنبين ذلك مختصرا إن شاء الله تعالى
في الكلام على الأدلة الموهومة الباطلة التي يستدل بها بعض الناس في العقيدة والتي

20
منها فهم السلف، وهي نقطة مهمة جدا ينبغي للمتصدي والمشتغل في العقائد
بل ينبغي للأمة كلها أن تعرفها معرفة جيدة وهي أنه ليس للسلف في جميع القضايا
الشرعية مذهب يصح أن يقال فيه هذا مذهب السلف، اللهم إلا ما وقع الإجماع
عليه وتحققنا من وقوعه لأنه قذ ادعي أناس الإجماع في أمور عقائدية عديدة ثم
تبين لنا أنها من الخلافيات أو أن الإجماع منعقد بخلافها!! كمن ادعى بأن هناك
إجماعا على إثبات الحد أو أن كلام الحق سبحانه حروف وأصوات ثم تبين أن
الإجماع منعقد بضد ما ادعي وزعم!!
ولذلك نقول لا يصح لأحد أن يتبنى عقيدة ثم يقول إن هذه العقيدة مذهب
السلف لأن السلف ليس لهم مذهب موحد بل إن المعنيين من السلف هم الأئمة
المجتهدون ولكل منهم رأيه ومذهبه في بعض مسائل الاعتقاد كما سنبين في فصل
أدلة العقائد الموهومة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وكذا لكل منهم اجتهاده
في الفقه والتشريع كما تجد ذلك بمئات الأمثلة في مثل مصنفي الحافظين عبد الرزاق
وابن أبي شيبة، وكتب المذاهب الأربعة أكبر شاهد على ذلك حيث أن أئمتها من
علماء السلف بلا شك ولا ريب، وكذلك أهل الحديث من السلف والخلف أيضا
ليس لهم مذهب موحد حتى في صناعتهم في التعديل والتجريح بل هم مختلفون
في ذلك فهذا يوثق زيدا وذاك يضعفه ويجرحه وذلك يمشيه ويعتبره وسطا وهكذا
وكتب الجرح والتعديل طافحة بالأمثلة المبرهنة على هذا.

21
ملاحظات مهمة
وأحب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات المهمة في هذا
الكتاب وهي:
أولا: عند ذكر آية من القرآن الكريم في هذا الكتاب فإننا نعزوها غالبا إلى
السورة التي هي فيها ونذكر رقم الآية ني السورة، لكن عند ذكر عدة آيات متتالية
فإننا نضع غالبا بعد اسم السورة رقم آخر آية في النص، فانتبه لذلك.
ثانيا: لقد أثبتنا في آخر الكتاب قائمة بأسماء المراجع التي نقلنا منها في هذا
الكتاب والغرض من ذلك هو بيان الطبعات التي اعتمدناها، وذلك لئلا يستغرب
أو يشك القارئ عند مراجعة النص الذي نقلناه بأنه غير موجود مثلا في تلك
الصفحة التي ذكرنا رقمها، فليعلم القارئ الكريم أن بعض الكتب لها عدة
طبعات كل طبعة تختلف فيها أرقام الصفحات وربما أرقام المجلدات أيضا، مع
أن النص المنقول يكون موجودا في جميعها فمن أراد إخراجه والاطلاع عليه في
المرجع الأصلي الذي نقلنا عنه فليرجع إلى الطبعة التي ذكرناها في آخر الكتاب
في ثبت (أي قائمة) المراجع.
ثالثا: كل حديث عزوناه لصحيح البخاري فالمراد بذكر رقم المجلد
والصفحة بعده هو رقم المجلد والصفحة في فتح الباري طبعة دار المعرفة المرقمة،
فانتبه لذلك.

22
فصل
في
مميزات شخصية المسلم والمؤمن
نظرة الإسلام إلى الكون والانسان والحياة
(كلام للطحاوي يناسب أن يكون في المقدمة قبل شرح العقيدة)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام
علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص
التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان،
والتصديق والتكذيب، والاقرار والانكار، موسوسا تائها، شاكا، لا مؤمنا
مصدقا ولا جاحدا مكذبا).
الشرح:
خوت هذه الفقرة عدة مسائل وقضايا لا بد من التنبيه عليها:
القضية الأولى: وجوب تعلم العقيدة الإسلامية على كل فرد مسلم في
المجتمع ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، ليتبنى الفرد عقيدة الإسلام في حياته
ويطبقها على أفعاله وأقواله في جميع أحواله، وليكون تفكيره بالأمور وتقييمه وفهمه
لكل شئ ومناقشته للمواضيع منطلقا من عقيدته التي درسها وفهمها وأمعن النظر
فيها وتشربها قلبه.
وإن لم يفعل ذلك فإنه سيكون ضائعا حائرا متذبذبا شاكا غير مكترث ولا
مبال ومضيع لدينه، وهذا هو سبب هذا المرض الذي نراه اليوم عاما وفاتكا بأكثر

23
أفراد المجتمع الذي نعيش فيه، لذلك نراهم يهتمون بكرة القدم وبالرياضة
وبالموسيقى والفنانين والمغنين وباللعب والتسلية وما إلى ذلك دون الأهم، معرضين
عن الأمر الذي يصيرهم سادة قادة، كما نجدهم لا ينكرون منكرا ولا يرون معروفا
فضلا عن الأمر به، فضلا عن العمل به، ولذلك سقط المجتمع وهوت الأمة
فصارت ذيلا لأمم أخرى بدل أن تكون رأسا وأنموذجا صالحا لبقية الأمم
والشعوب.
ثم رأينا من يتزعم الأمور الدينية ليجعلها مراسم وحركات ومناصب وأقوال
وقوالب عارية عن الروح التي تكون بها حية متحركة مثمرة، ورأينا من يعظم
الألقاب ويتطلع للمناصب وهو ليس أهلا لها بوجه من الوجوه، ولسان الحال
يقول:
مات أهل العلم لم يبق سوى مقرف أو من على الأصل اتكل
ويصح لنا أن ننصح فنقول:
أي بني اسمع وصايا جمعت * حكما خصت بها خير الملل
أطلب العلم وحصله فما * أبعد العلم على أهل الكسل
لا تقل قد ذهبت أربابه * كل من سار على الدرب وصل
واحتفل للفقه في الدين ولا * تشتغل عنه بمال وخول
واهجر النوم وحصله فمن * يعرف المطلوب يحقر ما بذل
فأين العلماء المخلصون وأين الطلبة الصادقون؟! والواقع يشهد بأن أمور
الدين لن ترجع إلى نصابها إلا إذا وجد العلماء المخلصون الصادقون العابدون
القانتون السائرون في ظاهرهم وباطنهم على قدم النبوة، ولا يتم الأمر إلا إذا
قيم العالم على حقيقة ما عنده من علم وتقوى فقدم واحترم، وانتبه أهل المجتمع
واستيقظوا لمن يحمل شهادات تمثل دراسة أمور جزئية مبنية على أنظمة أجنبية
وأصحابها أبعد الناس من العلم والتقوى والورع والخوف من الله تعالى، فضلا
عن بعدهم من البحث والدراسة للمستجدات، والحرقة من انتهاك المحرمات،

24
والسهر على مصالح المسلمين، والتخطيط لتنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومحاربة المبتدعة والملاحدة والمرتدين.
ونستطيع أن نقول: بأن الله تعالى ذكر لنا في أوائل سورة الحج نظرة الإسلام
إلى الإنسان والكون والحياة حيث ذكر الله تعالى أن هذا الكون خلقه الله تعالى
وسخره للانسان ليعمره بطاعة الله تعالى وأن الإنسان لم بوجد عبثا ولن يترك سدى
وأنه يجب عليه أن يعتقد عقيدة الإسلام الحقة وأن يعمر الأرض ولا يجوز له أن
يعبد الله عل حرف فيغير عقيدته للمصالح أو للعوامل التي تمر عليه بل يجب عليه
أن يصبر لأنه يعلم بأن هذه الحياة الدنيا فانية وأن الله تعالى توعده بالثواب والحياة
الباقية إن أحسن وبالعقاب والنار إن هو أساء قال الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ
عظيم (1) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما
أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد
(2) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل
شيطان مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله
ويهديه إلى عذاب السعير (4) يا أيها الناس إن كنتم في
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم
من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم

25
ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم
طفلا ثم لتبلغوا أشهدكم ومنكم من يتوفى
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من
بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها
الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير
(6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في
القبور (7) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى
ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في
الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (9) ذلك
بما قدمت يداك وأن الله ليس بظالم للعبيد (10) ومن الناس
من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته
فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو
الخسران المبين (11) يدعوا من دون الله ما لا يضره
وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد (12) يدعوا لمن
ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13)
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات

26
تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد (14) من كان
يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى
السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15)
قال السيد الزمزمي في كتابه (الطوائف): (أما الحكم بالقرآن والسنة والشريعة
الإسلامية فقد أضاعه المسلمون وحكموا بالقانون يحلون ما أحله القانون وإن حرمه
الله ورسوله وكان فاعله عند الله من الملعونين، ويحرمون ما حرمه القانون وإن أمر
الله به ورسوله وجعله من فرائض الدين، فأحلوا بذلك ما حرم الله، وضيعوا
حقوق عباد الله (6)، وأحلوا بأنفسهم عذاب الله وهم يضحكون.
استباحوا بالقانون الربا والزنا والخمر والخنزير والتجاهر بالفواحش والمنكرات،
واستباحوا بالقانون الطعن في الإسلام والتجاهر في انتقاده في الجرائد والإذاعات
والحفلات!! فتمكن من يحارب الإسلام من أعدائه من التجاهر بتكذيب القرآن
والطعن في الإسلام بين أظهر المسلمين وعلي رؤوس أشهادهم!! وهم آمنون
مطمئنون!! فبما ذكرناه يكون السواد الأعظم من المسلمين أول طائفة من الطوائف
المخالفة للسنة (7) في هذا الوقت) ا ه‍.
ومن ذلك أنه لا يؤد الزكاة منهم إلا القليل، ويتهاونون بالمعاصي المحرمات



(6) ومن دلائل هذا أنك تجد الفقير الذي لا واسطة له، مظلوم مقهور مغلوب على أمره!!
ولا تجد الحنان والعطف والمواساة بالمال والكلمة الطيبة بين أغلب أفراد المجتمع الواحد،
بل تدخل إلى كثير من بلدان الإسلام فتجد أهلها قد خلعوا ثوب الإسلام والعروبة ولم
يبق من ذلك إلا كلمات تتردد على ألسنة بعضهم، ثم هم لا يقصدون معناها، وإنما
هو كلام ببغاء!! بل يستهزؤون بالله تعالى ورسوله * (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض
ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون؟! * لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم) *!!
(7) بل للإسلام نفسه ولا ينكر هذا عاقل!!
27
فيشربون الخمر ويلعبون القمار، وانتشار الزنا بينهم لا حصر له، ولا يعظمون
حرمات الله تعالى ومن ذلك أنهم يستعملون ورق الجرائد والمجلات المذكور فيها
أسماء الله تعالى وأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كمحمد وموسى وعيسى
وداود وغير ذلك فيما يمتهن ويلقونه في القمامة والقاذورات ويدوسون عليه، وكذا
سبهم للدين والرب سبحانه عند تشاجرهم!! ولا يرون ذلك ذنبا فضلا عن كونه
كفرا وارتدادا عن الملة الحنيفية!!
ومن قبائحهم أيضا مقابلة المرأة وتسليمها مصافحة لأقاربها الأجانب وأقارب
زوجها الذين ليسوا من محارمها، كابن خالها وابن خالتها وابن عمها وابن عمتها
وأخو زوجها وعمه وخاله...، وكذلك سفر المرأة وحدها المسافة الطويلة شرعا،
وذهابها إلى الحفلات والنوادي واختلاطها بالرجال الأجانب.
بل وجدنا من يحل لها باسم الدين السفر وحدها، كما وجدنا أولئك المتطفلون
على موائد الشريعة قد أحلوا للعامة آلات اللهو وادعوا ضعف الأحاديث فيها،
وهم أبعد الناس عن معرفة صحيح الحديث من ضعيفه، فضلا عن فهمهم
لمقاصد الشريعة وغاياتها.
ومن ذلك فساد معاملاتهم في المعاشرة وفي البيع والشراء والإجارة وظلمهم
لبعضهم، وفشو النفاق والكذب والخيانة والغش والإذاية والغيبة والنميمة والمداهنة
وأكلهم الربا، وعدم السؤال عن الطريق التي يأتيهم منها المال وعن الطريق التي
يكتسب بها، وقد اتفق على هذه الخصال عالمهم وجاهلهم، ودخل في ذلك أيضا
المصلون منهم الذين يملأون المساجد ويحجون كل عام ويصومون رمضان بمكة
في كثير من الأحيان، لأن الحج والعمرة أصبحا نزهة وتجارة لديهم!! وتجد هؤلاء
المصلين منهم من يتجر بالمحرمات، دون التفات إلى ما يجوز بيعه شرعا مما لا
يجوز.
فنجدهم يتاجرون أيضا في الأشياء الممنوعة التي يترتب عليها الافساد في الدين
والأضرار بالمسلمين.

28
ومن ذلك أنهم لا يرجعون للعلماء في حل مشاكلهم رمصائبهم وقضاياهم إنما
يلجأون للعرافين والمشعوذين والكهان والسحرة،، ويتعلقون بالخرافات الواهية
المنافية للعقل والدين، فذلك دينهم الذي يموتون عليه ولا يسمعون فيه نصيحة
ولا يخافون لومة لائم.
ومن ذلك تشبههم بالكفار والغربيين، ومن تشبه بقوم فهو منهم، حتى نجد
من لا يفهم الإنجليزية مثلا يستمع للأغاني الغربية تقليدا لا بصرا وتحقيقا، ونرى
الشباب اليوم أيضا وقد ركضوا وراء الغربيين حتى في حلاقتهم لشعورهم فنرى
أحدهم قد حلق حول رأسه وترك أعلى رأسه دون حلق، وهذا هو القزع الذي
نهى عنه النبي (ص) حيث قال: (احلقوه كله أو اتركوه كله).
وكل ذلك سبب لهم الوقاحة وقلة الحياء لذا أصبح صغيرهم لا يوقر كبيرهم،
وجاهلهم لا يحترم عالمهم، وفاسقهم لا يستحي من صالحهم، وأولادهم لا
يمتثلون أوامر الآباء ولا يقيمون لهم وزنا للاشتراك في الفسق، وفقد المربين
والمعلمين المتقين المخلصين، ولذلك نرى الجاهل يدخن أمام العالم في المواقف
المحترمة، والعامي البليد يقول لصاحبه لا تقل للعالم ولمن هو أكبر منك سنا (يا
سيدي)، بل (سيدي وسيدك الله) وكأنه يعرف الله تعالى أو يمتثل أمره سبحانه
أو يعظمه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
فغياب العقيدة وعدم تطبيقها في الساحة عند العامة ونوم العلماء المربين هو
السبب الذي آل بالناس إلى ما ذكرنا، ونحن نرجو الله تعالى أن نكون هداة
مهديين لا ضالين ولا مضلين دعاة للخير مصلحين، آمين آمين يا رب العالمين.
القضية الثانية: عدم جواز خوض الإنسان المسلم وتجرئه في الحكم على الأمور
دون علم بها، أي عدم جواز إعطائه الحكم وإفتائه في أمر يجهل حكمه ولم يدرسه
ويستوعبه ويحيط به من جميع أطرافه وقد نصت الشريعة عل تحريم الافتاء بغير
علم... وقد وردت نصوص مشهورة ومعلومة في القرآن والسنة منها قوله تعالى

29
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) * الإسراء: 36. وقال تعالى: * (وتقولون بأفواهكم
ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) * النور: 15.
القضية الثالثة: ينبغي أن يستعمل الإنسان عقله وأن لا يكون إمعة تفكر
بعقل غيره، بل ينبغي لمن أراد أن يخرج من دائرة الحيرة والشك والضياع أن
يستخدم عقله وينبذ التقليد، فالتقليد لا يأتي بخير، ونعني بالتقليد هنا أن يبقى
الشخص مقنعا نفسه بأنه لن يصل إلى مقام العلماء، أو الصالحين الأتقياء، أو
أنه قاصر عن الوصول للفهم المراد، أو استيعاب الأمور على ما يراد، وليس له
إلا الهرب، وهنا يكمن السقوط والعطب.
القضية الرابعة: ترك التميع في العقيدة والفقه الإسلامي، فلا يجوز لانسان
أن يقول: هذه مسألة اختلف الناس فيها فلي أن أعمل بما شئت من الأقوال الواردة
فيها، ولي أن أتخير من المذاهب ما وافق مرامي ومرادي، بل يحرم عليه ذلك،
فإن كان المسلم مقلدا لمذهب من المذاهب الأربعة لا يستطيع النظر والاجتهاد
فيجب عليه أن يقلد إمامه الذي ينتسب إليه، وإن كان قادرا على النظر
والاستدلال والاجتهاد فيجب عليه أن يأخذ بالصحيح الراجح من حيث الدليل
وإلا فهو آثم الإجماع ودلائل الكتاب والسنة كما سيأتي الآن إن شاء الله تعالى.
كما لا يحل ولا يجوز له أن يتهرب ويتفلت من القضية محتجا بأنهم اختلفوا
في المسألة والأولى الابتعاد، فإن تهرب كان آثما لقوله تعالى * (وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
حتى تفيئ إلى أمر الله) * الحجرات: 9. أنظر كيف أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين
أن يبحثوا عن الطائفة التي على الحق وينصروها، لأن نصر الحق واجب ولا يجوز
لهم أن يعتزلوا الطوائف لأجل الخلاف بل يجب عليهم البحث عن الحق والقول
به ونصرته والاصلاح.
وقد ذكرت في كتابي (صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

30
ص (17 - 22) الأدلة الشرعية ونصوص العلماء الدالة على وجوب الأخذ بالحق
وبالصحيح من الأقوال وترك غيرها وعدم التلفيق واتباع الرخص والتأويلات
الفاسدة، وانني أرى أن أنقل ذلك الفصل هنا لشدة أهميته في دفع التميع
والتسيب الذي وصفه الإمام الطحاوي بقوله (فيتذبذب بين الكفر والإيمان،
والتصديق والتكذيب، والاقرار والانكار، موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا
ولا جاحدا مكذبا). فأقول وبالله تعالى التوفيق:
فصل
في
تحريم تتبع رخص العلماء وإفتاء الناس بالأسهل والأهون
إعلم يرحمك الله تعالى أنه يحرم على الإنسان المسلم أن يلفق بين الأقوال
ويتتبع رخص العلماء، ويبحث عن الأسهل والأهون الذي يلبي له شهواته
وأغراضه حيث يختار لنفسه الأسهل والأهون من غير دليل معتبر شرعا!! يرجح
أو يصحح تلك المسألة وإنما هو هوى النفس المجرد الذي يغطيه ويستره بحجة
أن في (المسألة قولان)!! واختلفوا فيها!!
والانسان الذي يتظاهر باتباع أقوال العلماء فينتقل من مذهب إلى مذهب
ويقفز من قول إلى قول لتلبية شهوات نفسه وإن تغطي وتستر أمام الناس بالشريعة
والاقتداء بالعلماء، فإنه في الحقيقة عند الله تعالى متبع لهواه يركض وراء شهوات
نفسه، قال تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم
تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) *
الفرقان: 44، وقال تعالى: * (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم
استكبرتم) *؟! البقرة: 87 وقال تعالى: * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم

31
فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) * المائدة: 70، وقال تعالى: * (فلا تتبعوا الهوي وإن
تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * النساء: 135، وقال تعالى: * (ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * سورة ص: 26، وذم الله رجلا في كتابه العزيز
كان عالما في قومه فقال * (أخلد إلى الأرض واتبع هواه) * الأعراف: 176، وقال تعالى:
* (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) * الكهف: 28،
وقال تعالى * (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه) * القصص:
50، وقال تعالى * (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
لا يعلمون) * الجاثية: 18، وقال تعالى * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل
وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) * المائدة: 77.
فمن هذه الآيات الكريمة نعلم علما مؤكدا بأن من أصول الدين عدم اتباع
الهوى، وتتبع رخص العلماء نوع من أنواع اتباع الهوى فهو محظور لذلك ومحرم
كما سيتبين لك من كلام العلماء الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.
وعن سيدنا أنس رضي الله عنه قال رسول الله ص:
(حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) رواه مسلم (4 / 2174). ومتتبع
رخص العلماء وأقوال الناس راكض وراء شهواته، وقد أجمع العلماء الذين يعتد
بهم على تحريم التساهل في الفتوى والحيد عن القول الصحيح الراجح، فيجب
على من كان مجتهدا أن يتبع الدليل وعلي من كان مقلدا أن يتبع الصحيح الراجح
المعتمد في مذهب إمامه، وإليك نصوص العلماء في هذا المعنى:
1 - قال الحافظ ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) (2 / 112) بعد أن روى
قول سليمان التيمي (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) ما نصه:
(هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا).
2 - وقال الإمام النووي رحمة الله تعالى في (شرح المهذب) (1 / 55):

32
(لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا
هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى الانحلال
من ربقة التكليف) انتهى.
وقد نص على ذلك أيضا الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى في كتابه (أدب
المفتي والمستفتي) (1 / 46).
3 - وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى أيضا في (شرح المهذب) (1 / 46):
(يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه) انتهى.
4 - وقال العلامة الشاطبي في (الموافقات) (4 / 134):
(.. فإنه يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي،
وقد حكى ابن حزم الإجماع على إن ذلك فسق لا يحل) انتهى.
وقوله (من غير استناد إلى دليل شرعي) أي معتبر، وإلا فتارك الصلاة قد
يحتج بقوله تعالى * (فويل للمصلين) *!!
5 - وقال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (8 / 90):
[ومن تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه، كما قال
الأوزاعي وغيره: (من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين
في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر) وكذا من أخذ في البيوع
الربوية بمن يتحيل عليها، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسع فيه، وشبه
ذلك فقد تعرض للإنحلال، فنسأل الله العافية والتوفيق] انتهى بنصه.
6 - وقال الإمام الحافظ تقي الدين السبكي في (فتاواه) (1 / 147) فيمن يتتبع
رخص المذاهب: (يمتنع لأنه حينئذ متبع لهواه لا للدين).
ويدخل في ذلك من ينتقي الأقوال ويتتبعها في المذهب الواحد حسب مزاجه.
[تنبيه]: استدل بعض الناس اليوم على جواز تتبع الرخص والأخذ

33
بالأسهل بقول السيدة عائشة رضي الله عنها (ما خير رسول الله ص بين أمرين
إلا اختار أيسرهما) وهذا الاستدلال خطأ محض!! قال الحافظ ابن حجر في
(الفتح) (6 / 575 /) في شرحه:
[(بين أمرين): أي من أمور الدنيا، يدل عليه قوله (ما لم يكن إثما)
لأن أمور الدين لا إثم فيها..] انتهى فتدبر!!
وذلك لأن النبي ص لم تكن أمامه مذاهب وأقوال فينتقي منها، إنما كان ينزل
عليه ص الوحي فيقول له: إن الله يأمرك بكذا، وينهاك عن كذا ولم يقل له قط
في هذه المسألة قولان أو ثلاثة أقوال!! أو أختلف فيها أهل العلم فخذ بالأسهل
والأهون!! فتدبر!!
وإنما كان ص إن نزل مثلا على رجل ضيفا فقال له: هل آتيك يا رسول الله
بخل أو لحم فكان يقول له ص إيتني بالأيسر عليك. وبذلك يتبين أن المحتج
بقول السيدة عائشة (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) لا يعرف الاستدلال
أو يريد أن يوهم العامة - تلبيسا - أن ما جاء به يصلح أن يكون دليلا لما يريد!!
والله المستعان.
ومن هذا الباب أيضا استدلال بعض المعاصرين بسماحة الشريعة الإسلامية!!
ونحن نقول: لا ينكر عاقل سماحة الشريعة، إنما ننكر كما ينكر الأئمة من أهل
العلم التوصل بمثل هذه العبارات إلى استحلال ما هو محرم أو تتبع الرخص
والتأويلات الباطلة!! ومعنى سماحة الشريعة الإسلامية مثلا أن الله تعالى خفف
على المريض فأجاز له أن يصلي قاعدا ونائما ومضطجعا، ورخص لمن لم يجد الماء
للوضوء أو للغسل أو خاف من استعماله ضررا أن يتيمم، وهكذا، وليس معنى
ذلك أن يلفق ويتبع رخص العلماء والأقوال الضعيفة أو الباطلة!!
نقل الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (13 / 465) عن الإمام الحافظ
إسماعيل القاضي رحمه الله تعالى أنه حدث بأنه دخل على الخليفة المعتضد يوما
حيث قال:

34
(ودخلت مرة، فدفع إلي كتابا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له فيه الرخص
من زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه
الأحاديث؟!، قلت: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة
لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه،
فأمر بالكتاب فأحرق) ا ه‍ ولنا رسالة خاصة في المنع من تتبع رخص العلماء وأخذ
الأقوال بالتشهي، فلتنظر!! والله الهادي.
[فائدة] وأما حديث (اختلاف أمتي رحمة) (8) فحديث موضوع،
وحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (9) فلا دلالة
فيه على تتبع رخص العلماء وإنما فيه إن صح ولا أراه كذلك!! الأخذ بالرخصة
التي رخصها الله تعالى في كتابة لعبادة، كالتيمم عند فقد الماء، والافطار للمسافر
والمريض في رمضان ونحو ذلك مما هو معلوم ومشهور، وفرق بين هذه الأمور وبين
من يركض وراء التلفيق واتباع رخص العلماء وأقوالهم التي يصيبون في بعضها
ويخطئون في بعضها، فافهم هداك الله تعالى.
[تنبيه مهم]: وينبغي أن ننبه هنا إلى أنه بعدما تقرر بأن تتبع رخص
العلماء والتأويلات الباطلة وتلفيق الأقوال وكذلك الافتاء بالأسهل والأهون فسق
الإجماع وهو منهي عنه في القرآن وألسنة، فلا يلتفت إلى تول الذاهب إليه ولا
يقام له وزن.
نقول مع ذلك إننا نحترم كل قول أو مذهب بعيد عن الهوى والعصبية المجردة
ولو خالفنا طالما أن صاحبه يبتغي به وجه الله تعالى فيما يظهر لنا، ويبذل وسعة



(8) أورده الحافظ المحدث السيد أحمد ابن الصديق الغماري في كتابه (المغير عل الأحاديث
الموضوعة في الجامع الصغير) ص (16 - 17). ونص على وضعه.
(9) رواه أحمد (2 / 108) وابن حبان في صحيحه (6 / 451) والبيهقي (3 / 140) وغيرهم من حديث
ابن عمر وابن عباس وابن مسعود، والصحيح عندنا أنه موقوف، وقد أخطأ من صححه
مرفوعا، ورواه عبد الرزاق في (المصنف) (11 / 291) من قول الشعبي.
35
في الاجتهاد للوصول إلى الحق وقد توفرت فيه أهلية النظر وآلة الاجتهاد، ما دام
بعيدا عن الشذوذ وعن مخالفة إجماع الأمة.
أما من اجتهد في غير مواضع الاجتهاد كمن اجتهد في مورد النص بعد ثبوته
المطلوب في مثل بابه، أو خالف إجماع المسلمين ونصوص الكتاب والسنة زاعما
أنه مجتهد وأن له أجرا إن أخطأ وأجرين أن أصاب!! محاولا أن يظهر بمظهر فحول
العلماء وهو يحكي بانتفاخه صولة الأسد! ويدعي أنه مجدد ومبتكر صاحب فكر
ناضج!! مع كونه مفلسا في الحقيقة فهذا مما لا يقام له وزن مع كونه آثما فيما
أقدم عليه مضللا لغيره فيما هو فيه!! فلا يلتفت إلى كلامه بل يرمي في كل حزن
ووعر ولله الأمر من قبل ومن بعد.

36
قواعد وأصول
في العقيدة والتوحيد

37
علم التوحيد
تعريفه وأهميته وموضوعه
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: الإيمان هو الإقرار باللسان
والتصديق بالجنان. وأن جميع ما أنزل الله في القرآن وجميع ما صح عن
رسول الله ص من الشرع والبيان: كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله
سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى.
والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر،
والقدر خيره وشره، وحلوه ومره، من الله تعالى ونحن مؤمنون بذلك
كله).
الشرح:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: * (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم
دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير
الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة
وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * الأنعام: (161 -
164). فهذه الآيات فيها حث من الله سبحانه على الدخول في الإسلام واتباع
شريعة سيدنا محمد ص والاقتداء به، وهو الذي على ملة أبيه سيدنا إبراهيم عليه
السلام وفيها حض على الثبات على ذلك والاخلاص لله في الأعمال الشرعية وأن
أعمال الإنسان من خير أو شر سيحاسب عليها. وقال تعالى: * (ومن أحسن دينا
ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) *

39
النساء: 125، وقال تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان
من المشركين) * النحل: 123.
وقال تعالى: * (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين * إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات
بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين * قل يا أهل الكتاب لم تكفرون
بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل
الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون * يا أبها الذين
آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف
تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي
إلى صراط مستقيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ
كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من
النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) *
آل عمران: (95 - 104).
وقال جل جلاله: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك، ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق،
إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، إنك
أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم،
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت
على كل شئ شهيد) * المائدة: (116 - 117).
وقال تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله
إلا أنا فاعبدون) * الأنبياء: 25. فهذه الآية فيها وجوب الإيمان بالله تعالى وأن هذا

40
الأمر قد بعث به جميع الأنبياء.
وقال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم
جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم
إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك
فأولئك هم الفاسقون * أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعا وكرها وإليه يرجعون) * آل عمران: (81 - 83). وهذه الآيات فيها وجوب الإيمان
بسيدنا محمد ص وأن الله أخذ العهد والميثاق بالإيمان به على جميع الأنبياء وأن يأمروا
أممهم بذلك.
وقال تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * آل عمران: 19.
وقال تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما
وما كان من المشركين) * آل عمران: 67.
وقال تعالى: * (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق
بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو
في الآخرة من الخاسرين * كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن
الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن
عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب
ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم *
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم
الضالون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض
ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) * آل عمران: (84 - 91).
وهذه الآيات فيها الإيمان برسالة جميع الأنبياء وضلال من كفر بواحد منهم
وأنهم جميعا يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفيها بيان حال المرتدين وحكم
من مات على الردة والعياذ بالله تعالى ومن تاب.

41
وهذه الآيات المتقدمة بمجملها فيها أصول التوحيد وقواعده وهناك آيات كثيرة
أخرى في ذلك أيضا يمر بعضها إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب عند التعرض
للمسائل المتعلقة بها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار
حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). رواه البخاري (فتح 6 / 44) ومسلم
(1 / 57 برقم 46).
ومعنى قوله في الحديث (وكلمته ألقاها إلى مريم) أي بشارته أرسلها بواسطة
الملك إلى السيدة مريم قبل أن تحمل به، قال الله تعالى: * (إذ قالت الملائكة يا
مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا
والآخرة ومن المقربين) * آل عمران: 45، والمعنى الشمولي لذلك أن سيدنا عيسى
خلقه الله تعالى بقدرته من غير أب لأنه سبحانه * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون) * آل عمران: 47، وهو قوله تعالى أيضا: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل
آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * آل عمران: 59.
ومعنى قوله فيه (وروح منه) أي أن المسيح عليه السلام روح من الله خلقا
وتكوينا، لا جزءا، وهذا مثل قوله تعالى * (وسخر لكم ما في السماوات وما في
الأرض جميعا منه) * الجاثية: 13، فقوله هنا في الآية الكريمة (منه) كما هو ظاهر
أي: منه خلقا وتكوينا لا جزءا، والله تعالى ليس روحا لأن الروح مخلوقة والله
سبحانه * (ليس كمثله شئ) * الشورى: 11.
ومثل هذا قوله تعالى * (ونفخت فيه من روحي) * الحجر: 29 أي ونفحت فيه
من الروح التي خلقتها وأضفتها إلي لأشرفها وهذا مثل إضافته سبحانه البيت
العتيق إليه في قوله * (أن طهرا بيتي) * وقوله في الناقة * (فقال لهم رسول الله ناقة
الله وسقياها) * الشمس: 13.

42
فمن اعتقد بعد هذا بأن الله سبحانه وتعالى روح وأنه اجتزأ من تلك الروح
قطعة فكانت سيدنا آدم أو سيدنا عيسى أو غير ذلك فقد كفر وارتد، فهذا معنى
الحديث وهو من الأحاديث المهمة في هذا الباب. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني
في (فتح الباري شرح صحيح البخاري) (6 / 475):
(قال النووي (10): هذا حديث عظيم الموقع وهو من أجمع الأحاديث المشتملة
على العقائد، فإنه جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم
وتباعدها، وقال غيره: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع
قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله (عبده)... تعريض باليهود في إنكارهم
رسالته وقذفه بما هو منزه عنه وكذا أمه) انتهى.
فصل
تبين من الآيات والحديث المتقدم أن علم أصل الدين هو علم التوحيد،
وهو أجل العلوم وأشرفها وأعظمها على الإطلاق وتعلمه وتعليمه من أهم الواجبات
لقوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) *، ولقوله تعالى: * (ومن لم يؤمن بالله
ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا) *.
وكيف يمكن علم لا إله إلا الله، والإيمان بالله عز وجل ورسوله دون تعلم
هذا العلم الذي يتميز به المؤمن المسلم عن غيره؟! * (قل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون) * وهل يتصور أن يعرف العبد ما يجب لله عز وجل
وما يجوز وما يستحيل دون العكوف على دراسة القواعد التوحيدية الموجودة في
الكتاب الكريم والسنة المطهرة وتفهمها جيدا؟!
ومن ابتعد عن معرفة هذه المعارف والعلوم التي أمرنا الله عز وجل بمعرفتها
وطلب علمها استحق أن يقال له يوم القيامة توبيخا وتقريعا، كما قال تعالى:



(10) أي: في (شرح صحيح مسلم) (1 / 227).
43
* (أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم إذا كنتم تعملون) * وتلخيصا لفضل علم
التوحيد قال أحد العلماء:
أيها المغتدي لتطلب علما * كل علم دون علم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكما * ثم أغفلت منزل الأحكام
معنى البيتين:
أي أيها الطالب الغادي أي الذاهب لطلب العلم، اعلم أن جميع العلوم
في الأهمية دون علم التوحيد وأنه هو أعظمها، وإنني أسألك كيف تطلب تصحيح
الأحكام الشرعية وأنت لم تعرف بعد ولم تتعرف بحق على الأمر بتنفيذها وهو الله
سبحانه وتعالي الذي أنزلها، ولذلك قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (لا تصح
العبادة إلا بعد معرفة المعبود).
وقال الإمام المقري في الإضاءة:
وعلم أصل الدين مشهور الشرف * وفضلة المنثور ما له طرف
وكيف لا وهو المفيد للورى * علما بمن أنشاهم وصورا
فعلمه على البرايا انحتما * وبالنجاة فاز من له انتمى
لأنه بنوره ينقذ من * ظلمة تقليد فنفعه ضمن
فلنشرع في تعريف هذا العلم ورسم حدود هذا الفن قبل أن نبدأ بالاسترسال
في شرح مسائله وقضاياه وإيضاحها وبيانها لنتصوره تصور العاقل العالم المدرك قبل
الدخول فيه، وقد جمع بعض العلماء ما ينبغي أن يعرف عن كل علم قبل الدخول
فيه في أبيات ثلاثة فقال:
إن مبادي كل فن عشره * الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبة والواضع * والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى * ومن درى الجميع حاز الشرفا

44
معنى الأبيات:
إعلم أن مبادئ أي أصول أو أطراف كل فن عشرة ينبغي لطالب ذلك الفن
أن يعرفها قبل الدخول فيه:
(أولها): الحد: أي التعريف، وتعريف علم التوحيد هو: علم يستطيع من
تعلمه أن يثبت به العقائد الدينية بالأدلة اليقينية القطعية من الكتاب والسنة
والإجماع والعقل (11)، وأن يلزمها لغيره، أي يقنع بما غيره بدفع الشبه التي يوردها
أي إنسان، وإيراد الحجج والبراهين والأدلة عليه.
(ثانيها): الموضوع: موضوع علم التوحيد هو ذات الله تعالى من حيث ما
يجب في حقه سبحانه وما يجوز وما يستحيل، وذات الرسل عليهم الصلاة والسلام
من حيث ما يجب في حقهم وعليهم وما يجوز وما يستحيل، وكذلك من موضوعه
الأمور السمعية وهي الغيبيات كالملائكة والجن والحشر والجنة والنار ونعيم القبر
الذي هو في البرزخ حقيقة وكنفي كون الملائكة عليهم السلام ذكورا أو إناثا
وغير ذلك مما سيمر إن شاء الله تعالى.
(ثالثها): الثمرة: وثمرة علم التوحيد هو معرفة الله تعالى بالأدلة القطعية



(11) يظن بعض المعاصرين أن العقل لا يصح أن يكون من الأدلة الشرعية وخصوصا في
التوحيد، وأن اعتباره من الأدلة نوع من الاعتزال، وهذا خطأ فادح وكلام لا قيمة
له، لأن العقل مناط التكليف، وقد أرشد الله عز وجل في كتابه الكريم في آيات كثيرة
إلى تعين الاستدلال به منها قوله تعالى: في سورة الأنفال 22: * (إن شر الدواب عند
الله الصم البكم الذين لا يعقلون) *.
وبالجملة فإن القرآن يحض على تشغيل العقل واستعماله وعدم إهماله في أمر من الأمور،
حتى أن الإيمان بالغيب الذي لا يستطيع العقل أن يدركه لا يتم إلا باستعمال العقل،
وأيضا مثل قوله تعالى: * (ليس كمثله شئ) * مسألة توحيدية وهي مفوضة للعقل في
تنزيه الله عز وجل عن كل شئ يمكن أن يدركه العقل وسيأتي ذلك موسعا موضحا
في فصل خاص مع الأدلة إن شاء الله تعالى والله الموفق.
45
والفوز بالسعادة الأبدية.
(رابعها): فضله: فضل علم التوحيد أنه أشرف العلوم وأفضلها كما تقدم
لتعلقه بذات المولى سبحانه وتعالى، وكذا ذات الرسل عليهم الصلاة والسلام
الذين هم أفضل الخلق.
(خامسها): نسبته: نسبة هذا العلم لباقي العلوم أنه أصل العلوم جميعها
فباقي العلوم تعتبر فروعه وممن أوضح ذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في مقدمة
كتابه المستصفى من علم الأصول.
(سادسها): الواضع: واضع علم التوحيد حقيقة هو الله عز وجل لأنه أرسل
الرسل والأنبياء به من لدن سيدنا آدم حتى سيدنا محمد ص، وقد حاججت
الأنبياء بهذا العلم الشريف وجادلت به الطغاة والكفرة حتى أفحمتهم، كسيدنا
إبراهيم في مناظرته للنمروذ وسيدنا موسى في مناظرته لفرعون، ومن ذلك قول
الله تعالى لسيدنا رسول الله محمد ص * (وجادلهم بالتي مي أحسن) *. وقوله له * (قل
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
وأما واضع مسائله أي الذي رتبها ووضعها في مصنفات خاصة لهذا العلم
فهو الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه، وبعده الإمام ابن كلاب وعلى
مذهبه كان البخاري كما نص على ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (1 / 243) ثم
جاء الإمام البخاري فصنف فيه كتاب (خلق أفعال العباد) ثم صنف فيه جماعة
من أئمة المعتزلة ثم جاء الإمام أبو الحسن الأشعري فألف فيه وصنف المصنفات
في الرد على المشبهة والمجسمة والجهمية وكذا رد على المعتزلة وأورد شبه خصومه
ورد عليها، إلا أنه أخطأ في مسائل رد فيها على المعتزلة لأن الصواب فيها قولهم
لا قوله. فقال جماعة من أهل العلم حينئذ أبو الحسن واضع هذا العلم.
(سابعها): الاسم: أي أن معرفة اسم العلم الذي نريد الخوض فيه ودراسته
من المهمات، تماما مثل معرفة اسم مؤلف كل كتاب نريد قراءته وكذا معرفة مذهبه

46
وما يتصل بذلك من المهمات.
فاسم هذا العلم كما هو معلوم (علم التوحيد) أي علم شهادة (لا إله إلا
الله محمد رسول الله) المعبر عنها بكلمة التوحيد أو جملة التوحيد.
إذن علم التوحيد هو معنى جملة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
وما يتصل بها من أبحاث، ولذلك سمي علم التوحيد.
وأما ما قاله بعضهم من أن هذا العلم سمي بعلم التوحيد لأن مبحث
الوحدانية من أهم مباحثه فضعفه ظاهر وفيه نظر.
وسمي بعلم الكلام لأن الذي يريد أن يتكلم في مسائله يحتاج لكلام كثير
حتى يثبت الحق ويبطل الباطل عند ظهور المبتدعة وأشباههم.
(ثامنها): الاستمداد: استمداد هذا العلم ومصادر أدلته من الكتاب والسنة
والإجماع والعقل كما سيأتي دليل ذلك إن شاء الله تعالى.
(تاسعها): حكم الشارع فيه: الوجوب، وهو فرض عيني على كل مسلم
بحسب الطاقة. بدليل قوله تعالى: * (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا
للكافرين سعير) * وبدليل أن الله تعالى بعث جميع الأنبياء بتقرير التوحيد ودعوة
الناس إليه ونبذ التشبيه وتنزيه الله سبحانه عما لا يليق به، يوضح ذلك قوله تعالى:
* (ليس كمثله شئ) * وقوله * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) *.
(عاشرها): قول ناظم الأبيات (مسائل) أي مسائل هذا العلم هي القضايا
التي تبحث فيما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى وكذلك في
حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، والسمعيات أي الأمور الغيبية وما يحدث في
المستقبل من حيث تصديقها. (والبعض) من العلماء اكتفى (ب‍) معرفة
(البعض) من هذه المسائل العشر، (و) لكن (من درى الجميع) بتمامها (حاز
الشرفا) أي كمال العلم المطلوب، والله الموفق.

47
تكملة
في كلام العلماء فيما يتعلق
بمعنى التوحيد وتعريفه
إعلم أن من معاني الدين: التوحيد والعقيدة وهو صريح في حديث البخاري:
(6 / 478) (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد) ورواه مسلم أيضا
(4 / 1837).
ويأتي الدين بمعان أخرى منها: الطاعة والعبادة، والجزاء والحساب كما يطلق
أيضا: على ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه ص من أحكام. والدين ما ينقاد
الإنسان له سواء كان حقا أو باطلا فيقال: أديان باطلة ومحرفة ودين صحيح هذا
تعريفه اللغوي.
وأما التعريف الشرعي للدين: فهو وضع إلهي يسوق أهل العقول السليمة
بعد إرشادهم دون إكراه بل باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم في الدنيا
والآخرة.
واعلم أن علامات الدين في الإنسان أي العلامات الدالة على تدينه بالدين
الصحيح المقبول عند الله تعالى وهو الإسلام أربعة: كما قال الإمام النووي:
الأولى: صدق قصده وعلامته أداء العبادة بالنية والاخلاص. والثانية: وفاء العهد
وعلامته الإتيان بالفرائض. والثالثة: ترك المناهي، وعلامته اجتناب المحرمات.
والرابعة: صحة العقد: وعلامته الجزم بعقائد أهل الحق والإنكار على أهل
البدعة.
[مسألة]: قد ذكرنا معنى الدين فيما تقدم، وذكرنا أن من معانيه التوحيد
فلنتكلم على معنى التوحيد على حسب ما يناسب المقام فنقول:

48
التوحيد: هو علم تعرف به ما يجب في حق الله تعالى وما يجوز وما يستحيل،
وكذلك ما يجب في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام وما يجوز وما يستحيل،
وبه يتم معرفة السمعيات والإيمان بها على الوجه المطلوب شرعا بعد معرفة وجود
الله جل جلاله والاذعان والخضوع له والامتثال لرسوله، والسمعيات هي كوجود
الجنة والنار وعالم البرزخ الذي ينتقل إليه الإنسان بعد موته ويبقى فيه إلى يوم
القيامة وكعذاب أهل البرزخ في البرزخ وهو المسمى بعذاب القبر مجازا وكنعيم أهل
البرزخ وكالحوض ونحو هذه الأمور مما ستمر مفصلة إن شاء الله تعالى في موضعها
من هذا الكتاب.
وأما تعريف التوحيد عند أهل السنة: فقد قال الإمام الحافظ ابن حجر
العسقلاني في فتح الباري (13 / 344):
[وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد
فيما حكاه أبو القاسم القشيري: (التوحيد إفراد القديم من المحدث) وقال
أبو القاسم التميمي في كتاب (الحجة): التوحيد مصدر وحد يوحد، ومعنى
وحدت الله:. اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل وحدته:
علمته واحدا، وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له،
وفي صفاته لا شبيه له، وفي إلهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا
خالق غيره، وقال ابن بطال: تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم لأن الجسم
مركب من أشياء مؤلفة] ا ه‍ المقصود منه.
والتشبيه مضاد للتوحيد وقد ورد في الكتاب والسنة وفي كلام السلف الصالح
ذم التشبيه كما سيأتي في فصل خاص إن شاء الله تعالى، ومن ذلك ما روى
الترمذي (5 / 452) والحاكم في مستدركه (2 / 540) بسند صحيح عن أبي بن كعب
رضي الله عنه أن المشركين قالوا: (يا محمد أنسب لنا ربك، فأنزل الله عز
وجل: * (قل هو الله أحد الله الصمد) * قال: الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد، لأنه ليس شئ يولد إلا سيموت، وإن الله لا يموت ولا يورث

49
ولم يكن له كفوا أحد، قال: (لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شئ).
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي هناك وهو كذلك،
واستدل بالحديث الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13 / 356): ثم قال بعده مباشرة:
قال البيهقي: معنى قوله * (ليس كمثله شئ) * ليس كمثله شئ. ا ه‍ من الفتح.
وقال الإمام القشيري في أوائل الرسالة:
[سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الطوسي السراج يحكي
عن يوسف بن الحسين قال: قام رجل بين يدي ذي النون المصري فقال: أخبرني
عن التوحيد ما هو؟ فقال:
(هو أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء
بلا علاج، وعلة كل شئ صنعه ولا علة لصنعه، وليس في السماوات العلى ولا
في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف
ذلك] 1 ه‍.
وروى القشيري بإسناده عن أبي بكر الشبلي أنه قال: (الواحد المعروف قبل
الحدود وقبل الحروف). ثم قال: وهذا صريح من الشبلي أن القديم سبحانه لا
حد لذاته، ولا حروف لكلامه.
وروى القشيري عن رويم وقد سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على
خلقه ما هو؟ فقال: المعرفة، لقوله جل ذكره * (وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون) * قال ابن عباس: إلا ليعرفون.
قلت: وذلك لا يتم إلا بمعرفة علم التوحيد.
وحكى القشيري أيضا عن الجنيد رحمه الله تعالى وقد سئل عن التوحيد فقال:
هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد
بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس

50
كمثله شئ وهو السميع البصير.
وقال أبو الحسين النوري: التوحيد كل خاطر يشير إلى الله تعالى بعد أن لا
تزاحمه خواطر التشبيه.
وروى القشيري بإسناده أن أبا على الروذباري سئل عن التوحيد فقال:
(التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في
كلمة واحدة: كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه، لقوله تعالى:
* (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) *).
قلت: فتحصل من ذلك أن التوحيد: إثبات وجود الله تعالى والخضوع
والتذلل له ووصفه بكل كمال في حقه وتنزيهه عن كل نقص في حقه مع مجانبة
التعطيل والتشبيه، والتصديق برسوله والاذعان والخضوع والتسليم له والعزم على
الثبات على ذلك مدى الدهر.
ويجمع ذلك كله أن تقول وأنت معتقد الحق الذي جاء في القرآن والسنة
الصحيحة ومخلصا لله تعالى صادقا محبا لرسول الله ص: (لا إله إلا الله محمد
رسول الله) فإن الله عز وجل جعل فيها سرا خفيا هو أس التوحيد.

51
فصل
في بيان معنى علم الكلام
وحكم تعلمه وتعليمه
يروج المجسمة والمشبهة أن علم الكلام علم مذموم وأن السلف حكموا على
من يشتغل به بالبدعة والزندقة وغير ذلك من عبارات الذم، والحق ليس كذلك،
والهدف من هذا الترويج أمران أو ثلاثة:
أما الأول: فليحكموا على من لا يوافقهم في آرائهم بالبدعة والزندقة دون
أن يستطيع أحد أن يعارضهم ويتسنى لهم ساعتئذ الخوض فيما يريدون من مسائل
فلسفية كلامية.
والثاني: ليدخلوا في قلوب العامة وأشباههم من حملة الشهادات الخوف من
الخوض في تعلم هذا العلم وتعليمه حسب الأصول من قواعده ومبادئه المعروفة
التي أسسها العلماء الجهابذة استنباطا من نصوص الكتاب والسنة.
والثالث: رمي العلماء الذين يخالفونهم في آرائهم الفاسدة والأئمة الكبار
بالجهمية احتجاجا بكلام بعض أئمة السلف الذين تنقل عنهم عبارات في ذم
الكلام حيث يضعونها في غير موضعها.
إيضاح مسألة ذم بعض علماء السلف لعلم الكلام وبيان أنه محمود
لما ظهرت المبتدعة في أواخر القرن الثاني والقرن الثالث ونشأت فرق مختلفة
من طوائف المبتدعة وأظهروا أقوالا شاذة رديئة وخصوصا في العقائد كقول داود

52
الجواربي في دعواه أن معبوده لحم ودم على صورة الآدمي (12) ودعوى الكرامية (13)
أن معبودهم ذو نهاية من الجهة التي يلاقي منها العرش (14) إلى غير ذلك من مقالات
فاسدة وأقوال باطلة تجد نماذج منها في كتاب (أصول الدين) للإمام الأستاذ
عبد القاهر البغدادي (15) ص 335 - 338، فسمي علماء الإسلام هؤلاء المبتدعة
أصحاب الكلام، أي الذين تكلموا في أمور باطلة فاسدة زعموا أنها هي علم
التوحيد الحق، فقام الأئمة بالرد عليهم إما بالكلام الشفهي في المناظرات التي
عقدوها بينهم وبين أولئك المبتدعة أو بالتصنيف والتأليف.
قال الإمام الغزالي رحمة الله تعالى في (الإحياء) (1 / 96):
(وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق: علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، إذ بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج فكلمهم فقال: ما
تنقمون على إمامكم؟! قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، فقال: ذلك في قتال
الكفار، أرأيتم لو سبيت عائشة رضي الله عنها في سهم أحدكم أكنتم تستحلون
منها ما تستحلون من ملككم وهي أمكم في نص الكتاب؟! فقالوا: لا، فرجع
منهم إلى الطاعة بمجادلته ألفان، وروي أن الحسن ناظر قدريا فرجع عن
القدر...) ا ه‍.
بيان أن علم الكلام ليس مذموما:
لقد أرشد القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض
وما فيهن للاستدلال بذلك النظر على وجود خالقهن الله سبحانه وتعالى وهذا هو



(12) كما نقل ذلك الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (10 / 544) وداود الجواربي هذا
مبتدع ضال من السلف الطالح ترجمته في (لسان الميزان) (2 / 523 دار الفكر).
(13) الكرامية هم فرقة من المجسمة كانوا في القرن الثالث الهجري أتباع محمد بن كرام
السجستاني المتوفى (255 ه‍).
(14) كما نقل ذلك أيضا الشيخ الأستاذ عبد القاهر البغدادي في كتابه السابق ص (332).
(15) هذا الإمام الكبير توفي سنة (429) ه‍.
53
من مبادئ علم الكلام - التوحيد - الذي نقول به ونحض الناس على تعلمه
وتعليمه، ومن ذلك قول الله تعالى في كتابه العزيز:
* (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال
كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت...) * وقال سبحانه مثنيا على عبادة
المؤمنين: * (الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض) * وقال سبحانه مبينا أحد
مسائل علم التوحيد المهمة * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * وقال تعالى مبينا
لنا مناظرة سيدنا إبراهيم للنمروذ في علم الكلام وإفحامه إياه * (ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم في ربه) * إلى قوله - * (فبهت الذي كفر) *، وقال تعالى في معرض
الثناء على سيدنا إبراهيم عليه السلام في مجادلته وإفحامه لخصمه: * (وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه) * وقال سبحانه موضحا لنا حال سيدنا نوح عليه السلام
* (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * وقال تعالى في قصة فرعون ومناظرة
سيدنا موسى له: * (وما رب العالمين) * إلى قول سيدنا موسى * (أولو جئتك بشئ
مبين) *، وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجة مع الكفار، فعمدة أدلة
المتكلمين في التوحيد قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) *، وفي
النبوات عمدتهم قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة
من مثله) * وفي السمعيات والبعث قوله تعالى: * (قل يحييها الذي أنشأها أول
مرة) * إلى غير ذلك من الآيات والأدلة.
وأما السلف الصالح فقد ناظر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حفصا الفرد
في علم الكلام وأثبت له كلامه المذموم بالكلام المحمود وحكم بكفره (16). وقال
الشافعي رحمه الله تعالى أيضا مبينا ضابط علم الكلام المحمود وعلم الكلام المذموم
كما في (سير أعلام النبلاء) (10 / 25):
(كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد وما سواه فهو هذيان) ا ه‍.



(16) كما يقال وهو مذكور في عدة مصادر منها (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي (10 / 28
- 29).
54
أي أن كل من تكلم في علم الكلام فأخذ من الكتاب والسنة معلوماته ولم
يخالف النصوص الشرعية فهو على الحق وما سوى ذلك كمن انخرط في سلك
التجسيم والتشبيه وأعرض عن قواعد تنزيه الله تعالى فهو الهاذي المخطئ. وكذلك
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى رد على كثير من المبتدعة حتى قال كما في (سير أعلام
النبلاء) (7 / 202):
(أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه). ا ه‍
وقد صنف الإمام أبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب الوصية وغيرهما في
علم الكلام على ما يقال.
وكذلك صنف الإمام مالك في علم الكلام، ففي (ترتيب المدارك) (1 / 204)
للقاضي عياض، وفي (سير أعلام النبلاء) (8 / 88) للحافظ الذهبي، أن الإمام
مالكا ألف رسالة في القدر كتبها إلى ابن وهب، قال الذهبي: (وإسنادها
صحيح).
وكذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى صنف في علم الكلام كتابه المشهور
(خلق أفعال العباد) وهو متداول مطبوع.
والإمام أحمد الذي ينقل عنه أنه قال: علماء الكلام زنادقة، صنف كتاب
(الرد على الجهمية) كما تزعم المشبهة، وموضوعه مسائل كلامية، كما أنه ناظر
خصومه في علم الكلام وقال: (القرآن كلام الله غير مخلوق) وهذه العبارة غير
موجودة في القرآن الكريم ولا نطقت بها ألسنة المطهرة، وهي من علم الكلام.
وكذلك الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى وهو من أئمة السلف (ت 321 ه‍) صنف
العقيدة الطحاوية المشهورة ونص فيها على تنزيه الله عن الحد والجهة والأعضاء
فقال:

55
(وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات
ألست كسائر المبتدعات) ا ه‍.
وذكر في مقدمتها أن هذه عقيدة الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى
فهذه العبارة من علم الكلام المحمود بلا شك.
وهنا نسأل فنقول: إذا كان علماء الكلام زنادقة كما ينقل عن الإمام أحمد،
فلماذا يخوض هو في علم الكلام فيقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؟! ولماذا
يصنف كتاب (الرد على الجهمية) كما تزعم المجسمة الذي موضوعه علم
الكلام؟!
الجواب: أن كلامه في ذم علم الكلام خاص بالمبتدعة الذين أتوا بأقوال منافية
لنصوص الكتاب والسنة ومعارضة لها.
والإمام الشافعي رحمه الله تعالى لولا أنه من علماء الكلام ومتقن لهذا العلم،
لما استطاع أن يناظر حفصا الفرد ويفحمه ويحكم بكفره وارتداده وهكذا.
ومن الناس من يذم تعلم علم العقيدة والتوحيد جملة في هذا العصر ويقول
هذه أمور خلافية والأولى الابتعاد!! ويقول: نحن على عقيدة الصحابة وعلى
الفطرة ولا نريد الخوض في هذه المسائل!!
والواقع يشهد بأن هؤلاء يتهربون من العلم والتعليم الذي حض على تعلمه
وأمر بمعرفته ربنا سبحانه وتعالي في كتابه الكريم، وكذا نبيه صلى الله عليه وآله
وسلم في سنته فيردونه بهذه الحجج الفاسدة الهزيلة.
وهؤلاء الذين يقولون بهذا القول البعيد عن هدي النبوة يخالفون في الواقع
مبادئ الإسلام العامة والصحابة الذين مكث فيهم صلى الله عليه وآله وسلم
ثلاث عشرة سنة في مكة يعلمهم العقيدة والتوحيد حتى يعلموا الأمة من بعده.
وهؤلاء المنكرون الذين يتهربون من تعلم العقيدة بل يحاربون تعلم العقيدة

56
والرد على شبه الملاحدة والمبتدعة لا يعرفون عقيدة الصحابة ولا أهل الفضل
المشهود لهم لو اختبرناهم أو امتحناهم!! وإنما هم يرددون هذه العبارات دون
استيعاب لها، وأما الفطرة التي يتشبثون، ويتشدقون بها فسيأتي بيان أنها حجة
داحضة وسراب بقيعة، وأن الله تعالى قد هدم لهم هذا التشبث بقوله سبحانه
* (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * كما سنذكر ذلك إن شاء
الله تعالى في الفصل الخاص الذي فيه ذكر الأدلة الموهومة الباطلة في العقيدة،
والله الموفق.
[فائدة]: إعلم يرحمك الله تعالى أن المشبهة والمجسمة وضعوا على الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى كتابين في العقيدة ليقنعوا من لم يعرف حقيقة هذا التزوير أن الإمام
الشافعي وهو إمام كبير من أئمة السنة ومن السلف الصالح يقول بقولهم ويعتقد ما
يعتقدون!! واسم الكتابين: الأول: عقيدة الشافعي، والثاني: وصية الشافعي،
وقد طبعت وصية الشافعي حديثا (زهير الشاويش / المكتب الإسلامي / تلميذ الشيخ
المتناقض!!) سعيا من هؤلاء في إذاعة عقائد المشبهة الفاسدة ونشر الأمور المكذوبة
الملفقة على أئمة السلف رحمهم الله تعالى!! في سبيل نصر بدعتهم ولو بالطرق
العرجاء العوجاء الملتوية المردية لأصحابها في النهاية!!
أما الكتاب الأول: فراويه ابن كادش والعشاري وهما كذابان حنبليان مشهوران،
وأما الكتاب الثاني: فراويه أبو الحسن الهكاري الملقب عند المجسمة بشيخ الإسلام!!
وهو أحد الكذابين الوضاعين كما هو مدون في كنب الجرح والتعديل كما بينت ذلك
مفصلا في مقدمة كتاب (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه) في الصحيفة الثانية
والسبعين وما بعدها معزوا موثقا وبالله تعالى التوفيق.

57
فصل
في مناقشة دعوى رجوع بعض الأئمة عن علم الكلام
إعلم يرحمك الله تعالى أن مذهب المجسمة والمشبهة مبني على إذاعة الشائعات
المغرضة ونشر الترهات والأقاصيص المكذوبة مع نكولهم عن مناهضة الدليل
بالدليل ومقارعة الحجة بالحجة!! وهذه الطريقة العرجاء هي شر الطرق المردية
لأصحابها، التي تكشف ضعف حججهم وعدم إخلاصهم في اعتقاداتهم لأن غاية
أمرهم مذاهب وأهواء شخصية يتعصبون إليها، وليس دينا قيما حنيفا ينافحون
عنه، إذ لو كان الأمر قد بني على الإخلاص والتقوى والورع والخوف من الله
تعالى والحرص على التمسك بالحق والاذعان له لما سلكوا تلك المسالك الملتوية!!
ولما آل أمرهم إلى الانكشاف السئ الذي نراه اليوم!!
فإذا عرفت هنا فأقول لك: زعمت المجسمة والمشبهة أن إمام الحرمين والرازي والسمعاني
وأمثالهم من أئمة الأشاعرة رجعوا آخر حياتهم عما كانوا عليه من الاعتقاد!! وزعموا
أن هؤلاء قالوا: (نموت على ما عليه العجائز) (17)!! وزعموا أيضا أنهم أوصوا
الناس بذلك!! ونحن هنا نبين إن شاء الله تعالى عدم صحة هذه الدعاوى التي
انغر بها علماء كثيرون فضلا عن طلاب العلم والمبتدئين!! وينبغي أن يعرف
القاصي والداني أنه لو رجع خمسة من العلماء أو عشرة أو اثنان عن مذهبهم فإن
ذلك لا يعني بطلان مذهبهم القديم، كما أن رجوع بعض من صحب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لا يدل على فساد العقيدة التي كان يحملها صلى الله عليه وآله
وسلم ويدعو لها، فقد نقل العلماء كالحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه (الإصابة



(17) أنظر ما قررناه وبيناه في الحجج الموهومة التي احتج بها بعض المبتدعة في العقائد والتي
منها دين الصبيان والعجائز ص (210) من هذا الكتاب وقد ذكرنا هناك الكلام عن
الإمام السمعاني وأن ذلك لا يثبت عنه.
58
في تمييز الصحابة) (1 / 8) أن ممن ارتد من الصحابة ومات عل ردته وكفره: عبيد
الله بن جحش، وعبد الله بن خطل، وربيعة بن أمية بن خلف، وكذلك ارتد
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع كثير فقاتلهم سيدنا أبو بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه والصحابة الثابتون على الحق الذين بايعوا عليه رسول الله
ص في حروب طويلة تسمى حروب الردة.
فرجوع بعض الأفراد عن مذهب ما لا يدل على فساد ذلك المذهب، وإنما
يجب علينا إذا أردنا أن نعرف فساد ذلك المذهب أو صحته أن نعرض أفكاره ومبادئه
على نصوص الكتاب والسنة فإذا وجدناها موافقة للنصوص أو لها أدلة معتبرة فيتبين
ساعتئذ أنه من مذاهب أهل ألحق أو هو مذهب أهل الحق والعكس بالعكس،
وقد يكون فيه بعض الأفكار المردودة وكثير من الأفكار الصحيحة المقبولة وحينئذ
نأخذ بالمقبول الصحيح ونترك المردود القبيح، فلا تغفل عن هذا، وإذا فهمت
هذه القاعدة فلن يستطيع المبتدعة والمجسمة أن يتلاعبوا بأفكارك وعقلك!!
واعلم أن أولئك الأئمة الذين ذكرنا أسماءهم من أهل العلم (إمام الحرمين،
والفخر الرازي، والإمام السمعاني، وغيرهم) أشاعرة في الاعتقاد، ولما كان
أهل التشبيه والتجسيم يناصبون الأشاعرة العداء لأنهم يخالفونهم في تنزيه الباري
سبحانه وقد عجزوا عن مواجهتهم ومناظرتهم بالدليل والحجة والبرهان عمدوا إلى
التشويش عليهم وزعموا أنهم ارتدوا عن مذهبهم الأشعري في آخر حياتهم ورجعوا
عنه!! وهذا الأمر وإن كان لا يضيرنا نحن أهل ألحق ولن يؤثر علينا لو كان
صحيحا وخبرا صادقا!! لكننا سنبين أن إثارة هذه الشائعة عن هؤلاء الأئمة ما
هي إلا كذب وافتراء بحت!! و * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات
الله وأولئك هم الكاذبون) * النحل: 105 * (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) *
الأحقاف: 28.

59
ذكر من روى عنهم الرجوع عن مذهبهم:
1) إمام الحرمين عبد الملك الجويني رحمه الله تعالى:
زعم بعض الناس أن إمام الحرمين رجع في آخر عمره عن الاشتغال بعلم
الكلام!! قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (18 / 474) والإمام السبكي في
(طبقات الشافعية الكبرى) (5 / 186):
(قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب - وكان
يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام - فقال: سمعت أبا المعالي اليوم
يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ
ما اشتغلت به).
قلت: هذه حكاية مكذوبة على إمام الحرمين!! وقد نص على ذلك الإمام
السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) (5 / 186) حيث قال:
(يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة، وابن طاهر عنده تحامل على إمام
الحرمين، والقيرواني المشار إليه رجل مجهول، ثم هذا الإمام العظيم الذي ملأت
تلامذته الأرض لا ينقل هذه الحكاية عنه إلا رجل مجهول، ولا تعرف من غير
طريق ابن طاهر!! إن هذا لعجيب!! وأغلب ظني أنها كذبة، افتعلها من لا
يستحي، وما الذي بلغ به رضي الله تعالى عنه علم الكلام؟ أليس قد أعز
الله به الحق، وأظهر به السنة، وأمات البدعة؟!) انتهى.
ومن الكذب المبين ما أورده الذهبي أيضا في (السير) (18 / 474 - 475) والإمام
السبكي في (الطبقات) (5 / 190) أن أبا جعفر الهمذاني - الملقب غلطا بالحافظ -
قال:
(سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله تعالى * (الرحمن على العرش
استوى) * فقال: كان ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام.

60
فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عند الضروريات من حيلة؟
فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟
قلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد
لا يلتفت يمنة ولا يسرة (يقصد الفوقية)، فهل لهذا القصد الضروري عندك
من حيلة فبينها نتخلص من الفوق والتحت).
وفي رواية الذهبي قال الهمذاني:
(فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال: يا حبيبي ما ثم
إلا الحيرة، ولطم على رأسه، ونزل، وبقي وقت عجيب، وقال فيما بعد:
حيرني الهمذاني).
أقول: هذه حكاية مكذوبة موضوعة: وإن صحت فمعنى الكلام:
حيرني هذا الجاهل الذي لا يفهم ولا هو مستعد لأن يفهم!! والقضية بسيطة
جدا إذ لا نعجز نحن عن الإجابة عليها فضلا عن إمام الحرمين!! فأما قوله فيها
(ما قال عارف قط: يا رباه إلا وقام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة،
يقصد الفوقية) فغير صحيح، لأن هذا يتضمن أنه اطلع على بواطن العارفين
وهذا كذب ظاهر!! وإنما قاس هذا الرجل بواطن العارفين على باطنه الذي تشرب
العقيدة الفاسدة!! فهل هذا الرجل * (اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن
عهدا) *؟!
والأصل في هذا الباطن الذي تام عند هذا الرجل وأمثاله هو قياسهم الخالق
المنزه عن الجهات على المخلوق المتصف بها!! ولذلك فكل من لم يتمكن من فهم
العقيدة الإسلامية الصحيحة تخطر له هذه الخواطر في باطنه!! وأحيانا يرد على
قلوب بعض البشر أشياء باطلة (يلقيها الشيطان في القلب) يجب أن يعتقد
الإنسان حين ورودها على قلبه أنها باطلة كما يجب عليه أن يكرهها ويستعيذ بالله
تعالى منها، ومن هذا الباب قول النبي ص للصحابة فيما رواه البخاري (6 / 336)

61
ومسلم (1 / 120): قال البخاري: (باب صفة إبليس وجنوده) ثم روى من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى
يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته).
وقال الحافظ ابن حجر هناك في الفتح في شرح الباب (6 / 342): وفيه (أن
الله جعل للشيطان قوة على التوصل لباطن الإنسان)!!
وقال الحافظ أيضا هناك ص (340):
(قوله (من خلق ربك فإذا بلغة فليستعذ بالله ولينته) أي عن الاسترسال
معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه
الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها...).
قلت: فما قاله ذلك الرجل الهمذاني لإمام الحرمين على فرض صحته مما
زعم أنه يوجد في باطنه فهو إلقاء شيطاني بنص هذه الأحاديث وهو مخالف لما هو
مقرر في الكتاب والسنة من تنزيه الله تعالى عن الزمان والمكان فافهم هذا ولا تغفل
عنه!!
وقد ظن المشبهة والمجسمة أن ما يلقيه الشيطان في قلوب الناس من أن الله
في جهة العلو (الحسي) وأن جواب بعض الناس من العامة والأطفال عندما
يسألون أين الله؟ فيقولون في السماء. أن جوابهم بذلك هو الشرع الواجب اتباعه
دون آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة والنصوص الشرعية العديدة التي تقرر
تنزيه الله تعالى عن الزمان والمكان!! فهل يتصور عاقل أن نترك نصوص الكتاب
والسنة لما يتخيله الأطفال (18) والعامة البلهاء في ذات الله تعالى؟!! أو من يدعي



(18) ومما يجب أن يعلمه القاصي والداني أن كثيرا من الأطفال الذين يجيبون بأن الله في السماء
عندما يسألون: أين الله. إنما يقولون ذلك لأنهم سمعوه من المجتمع الذي يعيشون
فيه أو تصورته أذهانهم وأفكارهم لذات الله تعالى، لا أن هذه المعلومات ولدت
معهم!! أو أنها شرع يجب اتباعه!! أو يحتج به!! وذلك لأن الإنسان عندما يولد
لا تولد معه معلومات البتة وليس هناك معلومات فطرية كما يزعم البعض لصريح قوله
تعالى * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *!! فاعرف ذلك!! وقد
رددنا عما يسمى بالفطرة في باب الأدلة الموهومة في العقائد من هذا الكتاب فارجع إليها
للتوسع!!
62
الاطلاع عل بواطن العارفين؟! هذا هو منطق المجسمة والمشبهة المضللين!!!!
فليفهمه وليحذره أهل العلم والطلاب!!!
ومن الأحاديث الصحيحة التي تؤكد ما قررناه أيضا ما جاء في صحيح مسلم
(1 / 119) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي ص
فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. فقال لهم: (وقد
وجدتموه؟!) قالوا: نعم. قال: (ذاك صريح الإيمان).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (شرح صحيح مسلم) (2 / 154):
(معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة
الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا
محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك).
فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يخطر في قلوبهم بعض الأمور المخالفة
للعقيدة إما وسوسة أو خطورا، وقد شكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فما بالك بمن سواهم وخاصة من العامة والرعاع الذين لم ينهلوا من مشكاة
النبوة؟!!
فتأمل جيدا!!
وبذلك ينكسر استدلال أهل التشبيه والتجسيم في هذا الباب وينهدم هدما
تاما والله الهادي.
وقال الإمام الحافظ السبكي في رد هذه الحكاية المكذوبة عن إمام الحرمين

63
في (الطبقات) (5 / 190) ما نصه:
(قلت: لقد تكلف لهذه الحكاية وأسندها بإجازة على إجازة، مع ما في
إسنادها ممن لا يخفى محاطه على الأشعري، وعدم معرفته بعلم الكلام.
ثم أقول: يا لله ويا للمسلمين!! أيقال عن الإمام إنه يتخبط عند سؤال سأله
إياه هذا المحدث (19)، وهو أستاذ المناظرين وعلم المتكلمين؟! أو كان الإمام
عاجزا عن أن يقول له كذبت يا ملعون، فإن العارف لا يحدث نفسه بفوقية
الجسمية، ولا يحدد ذلك إلا جاهل يعتقد الجهة!!
بل نقول: لا يقول عارف: يا رباه، إلا وقد غابت عنه الجهات، ولو كانت
جهة فوق مطلوبة لما منع المصلي من النظر إليها، وشدد عليه في الوعيد عليها.
وأما قوله (صاح بالحيرة) وكان يقول: (حيرني الهمذاني) فكذب ممن لا
يستحي، وليت شعري! أي شبهة أوردها، وأي دليل اعترضه حتى يقول:
حيرني الهمذاني.
ثم أقول: إن كان الإمام متحيرا لا يدري ما يعتقد، فواها على أئمة
المسلمين من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة إلى اليوم فإن الأرض لم تخرج من لدن
عهده أعرف منه بالله، ولا أعرف منه: فيا لله ماذا يكون حال الذهبي وأمثاله إذا
كان مثل الإمام متحيرا؟! إن هذا لخزي عظيم. ثم ليت شعري! من أبو جعفر
الهمذاني في أئمة النظر والكلام؟ ومن هومن ذوي التحقيق من علماء المسلمين!
ثم أعاد الذهبي الحكاية عن محمد بن طاهر، عن أبي جعفر!! وكلاهما لا
يقبل نقله، وزاد فيها أن الإمام صار يقول (يا حبيبي ما ثم إلا الحيرة) فإنا لله
وإنا إليه راجعون، لقد ابتلي المسلمون من هؤلاء الجهلة بمصيبة لا عزاء بها.



(19) الصواب أن هذا الهمذاني ليس محدثا وإنما هو من المسندين خلافا لما زعمه الذهبي فقد
نقل الذهبي نفسه في ترجمته في (السير) (20 / 102) عن الإمام السمعاني أنه قال فيه
(كان خطه رديئا، وما كان له كبير معرفة بالحديث على ما سمعت).
64
ثم ذكر أن أبا عبد الله الحسن بن العباس الرستمي (20) قال: حكى لنا
أبو الفتح الطبري الفقيه، قال: دخلنا على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا
على أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وإني أموت على ما يموت
عليه عجائز نيسابور.
وهذه الحكاية ليس فيها شئ مستنكر إلا ما يوهم أنه كان على خلاف
السلف. ونقل في العبارة زيادة على عبارة الإمام (21)). انتهى كلام الإمام السبكي
من الطبقات.



(20) الرستمي هذا عدو للأشاعرة فلا غرابة في أن يروي هذه الحكايات المكذوبة عن مثل
إمام الحرمين، ذكر الذهبي في ترجمته في (السير) (20 / 435) عن أبي موسى المديني أنه
قال: (وكان من الشداد في السنة) أي في التشبيه.
ونقل الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان في تعليقه على ذيول الحفاظ ص
(263) أن هذا الرستمي قال بكل وقاحة:
الأشعرية ضلال زنادقة * إخوان من عبد العزى مع اللات
بربهم كفروا جهرا وقولهم * إذا تدبرته من أسوى المقالات
ينفون ما أثبتوا عودا لبدئهم * عقائد القوم من أوهى المحالات
ثم قال الإمام الكوثري هناك: (وهذا الرستمي كأنه هو الذي يقول فيه الشاعر:
كفرا بعلمك يا ابن رستم كله * وبما حفظت سوى الكتاب المنزل
لو كنت يونس في رواية نحوه * أو كنت قطرب في الغريب المشكل
وحويت فقه أبي حنيفة كله * ثم انتميت لرستم لم تنبل).
فتكون نقول هذا الرستمي عن الأشاعرة غير مقبولة جزما فتنبه!!
(21) مما هو معروف ومعلوم عند أهل العلم وكذلك المشتغلين بالتحقيق اليوم أن الذهبي كان
يتصرف في عبارات الأئمة عند نقلها وكلام الإمام السبكي هنا أكبر شاهد على ذلك،
وسيمر معنا إن شاء الله تعالى بعد قليل أن الذهبي حذف من فقرة نقلها، من العقيدة
النظامية لأمام الحرمين عبارة لا توافقه!! وقد قال السبكي في الطبقات (5 / 188) إن
الذهبي كان (يسمع خرافات من طلبة الحنابلة فيعتقدها حقا ويودعها تصانيفه)!!
وقد شهد على ذلك أيضا محققا الجزء الحادي والعشرين من (سير أعلام النبلاء)
ص (68) حيث قالا هناك في الحاشية ما نصه:
[تصرف الذهبي تصرفا كبيرا بعبارات ابن الأبار وهذه عادته رحمه الله...] فتأملوا!!
65
ومن المسالك الملتوية أيضا التي سلكها المجسمة في نشر الإشاعات المكذوبة
المرجفة لنصر مذهبهم ومحاولة تمكينه عند العامة والدهماء ولو بالأكاذيب وباطل
القول!! أنهم حذفوا كلمات من عبارات نقلوها من كتاب (الرسالة النظامية)
لإمام الحرمين رحمه الله تعالى لا توافق مبادءهم ليوهموا من يثق بكلامهم ونقولاتهم
أنه رجع في آخر حياته إلى مذهبهم وأعلن أنه على مذهب السلف الذي يعنونه
هم ويقصدونه والذي هو في الحقيقة مخالف تماما لما عليه سلف الأمة، وكل ذلك
مما لا ينطلي على الصيرفي النقاد بإذن الله تعالى!! قال الذهبي في (سير أعلام
النبلاء) (18 / 473):
[قال أبو المعالي في كتاب (الرسالة النظامية): اختلفت مسالك العلماء في
الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها، فرأى
بعضهم تأويلها والتزم ذلك في القرآن وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف
إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب
تعالى، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى
الاتباع...] ا ه‍.
أقول: (أولا): حذف هنا من وسط هذه العبارات جملة مهمة فيها
تغيير معنى العبارة!! أذكرها من الأصل وهو (الرسالة النظامية) ص (23) وأجعلها
باللون الأسود العريض الواضح للبيان والتنبيه عليها، فإليكم هذا النص الذي
نقله الذهبي عن إمام الحرمين من النظامية غير محذوف منه:
[فصل: قد اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب
والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب

66
اللسان منها (22)، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في آي الكتاب وفيما صح
من سنن النبي ص، وذهبت أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء
الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه، والذي نرتضيه رأيا
وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع...] انتهى.
فتأملوا!!
(ثانيا): وهذا الكلام من إمام الحرمين فيه ميل إلى أحد مذهبي الأشاعرة
في مسائل الصفات وهو مذهب التفويض الذي يعده ابن تيمية الحراني من شر
أقوال أهل البدع والالحاد!! لأن مذهب الأشاعرة في هذه المسائل إما التفويض
المطلق وهو تفويض المعنى والكيف وأما التأويل كما قال صاحب الجوهرة الإمام
اللقاني الأشعري:
وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها
وقد صرح إمام الحرمين هنا بتفويض المعنى حيث قال في النص السابق
(وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه) وهذا يعارض تماما رأي الشيخ الحراني وسلفه
وأتباعه القائلين بعدم جواز تفويض المعنى!! فلا دلالة بعد هذا البيان للمجسمة
بأن إمام الحرمين رحمه الله تعالى رجع إلى مذهبهم في آخر حياته!!
فتنبهوا!!



(22) ودليل كلامه هذا رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما نزل كتاب الله
عز وجل يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما
جهلتم فكلوه إلى عالمه). رواه الإمام عبد الرزاق في (المصنف) (11 / 216) وأحمد في
(المسند) (2 / 195) وابن ماجة (1 / 33) والبغوي في شرح السنة (1 / 260) وهو حديث
صحيح.
وقوله فيه (فما علمتم منه فقولوه) دليل على بيان معناه وهو التأويل، ثم قوله فيه (وما
جهلتم فكلوه إلى عالمه) دليل على التفويض فيما لا يعلم معناه، فيكون كلام إمام
الحرمين رحمه الله تعالى هنا وما بعده تطبيق حرفي لنص هذا الحديث وهذا ما ندعو له
ونبينه في هذا الكتاب.
67
(ثالثا): ولا أريد الإسهاب في بيان أمور أخرى في هذا النص إلا أنني الآن
اقتصر على التنبيه السريع على أن إمام الحرمين رأى هنا تفويض بعض الألفاظ
الواردة في مسائل الصفات التي تعذر فهمها بموجب اللسان العربي أي ني اللغة
فهذه التي رأى تفويضها لا سيما وقد ثبت أن السلف من الصحابة فمن بعدهم
أولوا كثيرا من آيات وأحاديث الصفات كما نجد ذلك في تفسير الحافظ السلفي
ابن جرير الطبري وفيما نقلته في مقدمة كتاب (دفع شبه التشبيه) وفي هذا الكتاب
من تأويل السلف للصفات!! فاعلم ذلك ولا تغفل عنه!!
فإذا علمت هذا وفهمته عرفت وتحققت أن ما يشيعه المجسمة والمشبهة في
كل عصر ومصر من رجوع إمام الحرمين عن علم الكلام وقوله بدين العجائز ما
هو إلا خرافة وكذب لا أساس له من الصحة، وقد انغر بهذه الشائعة المتهافتة
بعض أهل العلم وطلابه فنقلوها على أنها من الأمور المسلمات ولم يدركوا أنها
الشائعات المغرضات المضلات!! وزعمهم أن إمام الحرمين رجع عن علم الكلام
في الرسالة النظامية ما هو إلا هراء لا ينطق به إلا من حرم التبصر والتفكير في
أن نفس الرسالة النظامية هي أحد مصنفات إمام الحرمين في علم الكلام!! والله
الهادي إلى سواء السبيل.
ثاني من زعموا أنه رجع عن علم الكلام وعن مذهبه:
2) الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى:
ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (21 / 501) في ترجمة الإمام الرازي ما
نصه:
(وقد اعترف في آخر عمره (23) حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية
والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق



(23) أنظر كيف عمى الذهبي الكلام هنا فلم يذكر عماذا اعترف الرازي في آخر عمره!!
حيث اقتصر على قوله (وقد اعترف في آخر عمره)!! فنقول له بماذا اعترف وعماذا
اعترف؟!
68
طريقة القرآن، إقرأ في الأثبات * (الرحمن على العرش استوى) *، * (إليه يصعد
الكلم الطيب) * واقرأ في النفي * (ليس كمثله شئ) * ومن جرب مثل تجربتي
عرف مثل معرفتي) انتهى.
أقول: للأسف الشديد لم يقل الرازي هذا الكلام في وصيته وهذا من
الكذب البحت عليه وإليكم ما قاله في وصيته التي نقلها بتمامها الإمام الحافظ
السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) (8 / 91):
[..... اعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت أكتب من كل شئ
شيئا لأقف على كميته وكيفيته سواء كان حقا أو باطلا، إلا أن الذي نطق به في
الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبره المنزه عن مماثلة المتحيزات
موصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج
الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن (24) لأنه يسعى



(24) وهذا تصريح منه رحمه الله تعالى بأنه عرف الفلسفة ولم يأخذ بها واشتغل طيلة حياته
بتفسير القرآن العظيم الذي سماه (التفسير الكبير ومفاتيح الغيب) الواقع في ستة عشر
مجلدا!! وحمل الذهبي عليه مما لا يجوز التعويل عليه وقد بين الإمام السبكي أن
الذهبي تعصب في كتبه كثيرا على أهل الحق!! ورد مثل الشيخ شعيب الأرنأووط
والشيخ عبد الفتاح أبو غده في تعاليقهما أحيانا على الإمام السبكي ودفاعهما عن الذهبي
وتسويغ تعصبه وزعمهم أن السبكي جار واشتط و.... الخ على شيخه الذهبي مما
لا ينبغي أن يقيم له طالب الحق وزنا لأنهما مكرهان على ذلك كما يعرف ذلك القاصي
والداني وللمكره أحكام، كما يعلم القريب والبعيد أنهما لا يعتقدان كثيرا مما يقولانه
ويدونانه في تعاليقهما على الكتب، وهل يجوز لعاقل أو طالب أو باحث أو منصف أن
يعول على كلامهما في هذا الأمر خاصة بعد ثبوت تعصب الذهبي في أرض الواقع على
أهل التنزيه وكل كتبه ناطقة بذلك مع شهادة كبار الحفاظ في عصره وبعده عليه
بذلك؟! فقد وصفه بالتعصب السبكي في الطبقات (8 / 88) وغيرها، والحافظ ابن حجر
[في لسان الميزان (5 / 114 هندية)] في عدة مواضع منها: في ترجمة ابن حبان حيث
وصفه بالتعصب الزائد على المؤولين، وكذا وصفه بالتعصب الحافظ العلائي كما في
(الطبقات) (2 / 13) والسخاوي [كما في (الاعلان بالتوبيخ) ص (135) حيث قال:
(مع أني لا أنزه الذهبي عن بعض ما نسبه إليه) أي من التعصب] والحافظ السيوطي
[كما في مقاماته (2 / 917)].
وسأتكلم في إثبات تعصب الذهبي على أهل الحق وقدحه فيهم بغير حق بإبراز الأدلة
الواقعية المحسوسة من كتبه التي لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها حق يتبين من ذلك
ما قررناه من إحقاق الحق وبيانه وتزييف الباطل وكشف هوانه!! وبيان خطأ من تطاول
على الإمام السبكي ورد عليه في ذلك ووصفه بأنه [أسرف في حق شيخه وبالغ حتى
أفرط!! ومال حتى قسط!! ووقع في الشطط والغلط!!] وسأبين بإذن الله تعالى في
كتاب خاص في هذا الموضوع أن من وصف السبكي بذلك قد أخطأ والله الهادي.
69
في تسليم العظمة والجلال لله ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات
وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة والمناهج
الخفية، فلهذا أقول:
كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء
كما في القدم والأزلية والتدبير والفعالية فذلك هو الذي أقول به وألقى الله به،
وأما ما ينتهي الأمر فيه إلى الدقة والغموض وكل ما ورد في القرآن والصحاح المتعين
للمعنى الواحد فهو كما قال، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين إني أرى
الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين فكل ما مده قلمي أو خطر
ببالي فأستشهد وأقول إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل أو إبطال حق
فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقديس اعتقدت
أنه الحق وتصورت أنه الصدق فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك
جهد المقل (25)...].
فأين ما زعمه الذهبي؟!!
ومن الكذب المبين على الإمام الرازي ما نقله ابن تيمية في (منهاج سنته)
(3 / 69) أن الإمام الرازي أنشد هذه الأبيات:



(25) هذه العبارات من الإمام الرازي في وصيته تثبت كذب من قال إنه رجع عن عقيدته.
70
(نهاية إقدام العقول عقال * وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا * سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا)
وقد وقع ذلك في (منهاج سنة ابن تيمية) المحقق في المجلد الخامس ص
(271) وقد أنصف المعلق عليه هناك حيث قال:
(وكذا جاء النص في درء... 1 / 160. وذكرت هناك أنني لم أجد هذا الكلام
والكلام التالي فيما بين يدي من كتب الرازي المطبوعة أو المخطوطة، وأن ابن تيمية
يذكر أن الرازي كان يتمثل بهذا الكلام في كتابه أقسام اللذات، وهذا الكتاب
مخطوط بالهند ولم يذكره بروكلمان ضمن مؤلفات الرازي، وذكرت في تعليقي على
درء.. أن ابن تيمية يذكر هذا النص كثيرا في كتبه، مثل مجموع فتاوى الرياض
(4 / 71) الفرقان بين الحق والباطل ص (97) من مجموعة الرسائل الكبرى ط صبيح.
معارج الأصول ص (185) من المجموعة السابقة) انتهى.
وهذا مما يؤكد لنا أن هذا كله مكذوب على الإمام الرازي ولا شك في ذلك
عندنا، وقد أخذه مجسمة العصر من كتب ابن تيمية وأذاعوه في المشرق والمغرب،
فلتعلموا أنه كذب بحت على الإمام الرازي!!
والله المستعان!!
وأقول: إن هذه الأبيات هي من نظم ابن تيمية وكأنه يصف بها نفسه.
ثالث من زعموا أنه رجع عن علم الكلام:
3) الإمام الآمدي رحمه الله تعالى:
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (22 / 366):
(قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف حتى أنه أورد
على نفسه سؤالا في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا وبنى إثبات الصانع

71
على ذلك فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا
النبوات ولا شيئا من الأصول الكبار) (26)!!
قلت: قد كفانا مؤنة الرد على ابن تيمية في هذه الدعوى تلميذه الذهبي
حيث قال عقب ذلك مباشرة:
(قلت: هذا يدل على كمال ذهنه، إذ تقرير ذلك بالنظر لا ينهض وإنما
ينهض بالكتاب والسنة، وبكل قد كان السيف غاية، ومعرفته في المعقول نهاية،
وكان الفضلاء يزدحمون في حلقته) أنتهي.
فتأملوا!!
وبذلك نخرج بقاعدة مهمة جدا وهي أن كل ما يحكيه ابن تيمية عن هؤلاء
الأئمة الفحول ليس صحيحا!! فتنبهوا لذلك ولا تغفلوا عنه!!
ومن الغريب العجيب ما قاله الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (22 / 29) في
ترجمة الفيلسوف غلام ابن المني الأزجي الحنبلي أنه قرأ المنطق والفلسفة على ابن
مرقش النصراني فكان يتردد إلى البيعة (أي الكنيسة)!! ثم قال الذهبي ص (30)
هناك:
(قلت: أخذ عنه الشيخ مجد الدين ابن تيمية).
وبذلك ظهر جليا من أين أخذت عائلة ابن تيمية الفلسفة التي خاض فيها
ابن تيمية. وانظر لزاما كتابنا (تهنئة الصديق المحبوب) ص (61 - 66)!!
(فائدة): ومما يتعلق بهذا الموضوع من كذب المجسمة والمشبهة في إذاعة
الإشاعات المكذوبة قولهم بأن خالد القسري الأمير ضحى بالجعد بن درهم!! وإن
هذا لشئ عجاب!!! وهذه فرية بلا مرية!!!



(26) وكل ذلك الذي حكاه عن الآمدي ليس صحيحا ولا وجود له إلا في ذهن الشيخ الحراني
لا غير!!
72
قال الإمام الكوثري عليه الرحمة والرضوان في كتابه (تأنيب الخطيب). [ص
(62) من الطبعة القديمة وص (123) من الطبعة الجديدة] ما نصه:
[والقسري هذا هو الذي بنى كنيسة لأمه تتعبد فيها، وهو الذي يقال عنه:
إنه ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أضحية عنه. والخبر على انتشاره وذيوعه
غير ثابت، لانفراد القاسم بن محمد بن حميد المعمري بروايته، ويقول عنه ابن
معين: (كذاب خبيث) كما في ميزان الذهبي.
وما كان العلماء ليسكتوا في ذلك العهد أمام استخفافه لشعيرة من شعائر الدين
لو فرض وقوع مثل هذا من خالد. وسفك دم من وجب قتله شئ، وذبحه على
أن يكون أضحية شئ آخر، وكانت سيرة خالد وصمة عار في تاريخ الإسلام.
وذكر ابن كثير قتل الجعد في أنباء سنة 124، وكان القسري عزل عن ولاية العراق
قبل ذلك بأربع سنين].
فتأملوا!!
وليعلم أهل العلم وطلابه أن الأمير خالد القسري الفاسق الناصبي
الخبيث (27) لم يكن فيه من الدين والإيمان ما يجعله من الذين يغارون على حرمات
الله تعالى حتى يعاقب من يستحل حرمات الله ويقول في دين الله تعالى ما لم
ينزل الله به من سلطان، بل هو وأمثاله من المشجعين لانتهاك حرمات الله تعالى



(27) خالد بن عبد الله بن يزيد القسري الدمشقي أمير العراقين لهشام، وولى قبل ذلك مكة
للوليد بن عبد الملك، ثم لسليمان. قال ابن معين: (خالد بن عبد الله القسري رجل
سوء يقع في علي، وقال فضل بن الزبير: سمعت القسري يقول في علي ما لا يحل
ذكره). وقال الأصمعي: خبرت أن القسري ذم زمزم، وقال: يقال: إن زمزم
لا تنزح ولا تذم، بلى والله إنها تنزح وتذم، ولكن هذا أمير المؤمنين قد ساق لكم قناة
بمكة.
أنظر ترجمته في (سير أعلام النبلاء) (5 / 429). وما ساقه ابن كثير في البداية (10 / 20)
و 21 من قوله بأنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع وقتل الجعد الملحد!! فهراء لا
قيمة له وهو مجانب للحقيقة والواقع والعلم!! فتنبه!!
73
والتمرد على أوامر رب العزة سبحانه!!
وأما الجعد بن درهم فما نسبوه إليه هو كذب بحت كما نسب إلى الحسين بن
منصور الحلاج، إذ أن كل منهما قتل وصلب لأسباب سياسية في ذلك العهد لا
لكونها قد خالفا عقيدة أو قالا في دين الله تعالى بالباطل والزندقة خلافا لما قد ذيع
عنهما، فتنبه (28)!!
[فائدة]: وأما ادعاء المشبهة والمجسمة المتمسلفين أن الأشعري رجع عن مذهبه
الذي عليه الأشاعرة من بعده وأن له ثلاثة مذاهب الاعتزال ثم التأويل والتفويض ثم
مذهب السلف الذي يريدونه وهو التجسيم ففرية بلا مرية وهو أمر لا أساس له من
الصحة ولا دليل عليه لا سيما والإبانة مليئة بالنصوص القاطعة لشغب هؤلاء، وهب
حدلا أنه رجع كما. يزعمون زورا فما لنا وله؟! والحق أحق أن يتبع!! لا ما رجع إليه
فلان وفلان!!



(28) قال المعلق على (سير أعلام النبلاء) (5 / 433):
(قال ابن كثير في (البداية) 10 / 19: (كان الجعد بن درهم من أهل الشام وهو مؤدب
مروان الحمار، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن
صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث
عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن
الأعصم، عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي). قلت: ولم يذكر ابن كثير سنده في
هذا الخبر حتى ننظر فيه، ويغلب على الظن أنه افتعله أعداء الجعد ولم يحكموه
لأن أفكاره التي طرحها في العقيدة مناقضة كل المناقضة لما عليه اليهود، فهو ينكر بعض
الصفات القديمة القائمة بذات الله ويؤولها لينزه الله تعالى عن سمات الحدوث، ويقول
بخلق القرآن وإن الله لم يكلم موسى بكلام قديم بل بكلام حادث، بينما اليهود
المعروف عنهم الإغراق في التجسيم والتشبيه، ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن قتل
الجعد كان لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة، ويعلل ذلك بأن خلفاء بني أمية وولاتهم
كانوا أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل تمت إلى العقيدة). انتهى.
74
فصل
في المكلف والتكليف
وما يتعلق بهما
قال الله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *.
المعروف المشهور أن المكلف هو: العاقل البالغ سليم الحواس الذي بلغته
الدعوة. فلا بد لنا أن نفهم أصل التكليف الذي انبثقت منه هذه الأمور الأربعة،
وهو الفهم فنقول:
قال الله تعالى * (ففهمناها سليمان) * الأنبياء: 79، واتفق العقلاء على أن شرط
المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب
من لا عقل له ولا فهم محال، كالجماد والبهيمة، ومن وجد منه أصل الفهم لأصل
الخطاب، دون تفاصيله من كونه أمرا ونهيا، ومقتضيا للثواب والعقاب، ومن
كون الأمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا
وكذا، كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد
والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضا لأن التكليف كما
يتوقف على فهم الخطاب يتوقف أيضا على فهم تفاصيله.
فالصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز، غير أنه أيضا غير فاهم
على الكمال ما يفهمه كامل العقل ويعرفه من وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه
سبحانه وتعالى قد أمر عباده وكلفهم بأوامر ونهاهم عن أشياء، وكذلك هو غير
فاهم لوجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى، وغير ذلك مما يتوقف عليه
مقصود التكليف.

75
فنسبة الصبي المميز إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق به
من فوات ثرط التكليف.
وإذا كان الصبي المميز مقاربا لحالة البلوغ بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ
سوى لحظة واحدة، فإنه وإن كان فهمه كفهم البالغ الموجب لتكليفه بعد لحظة،
ولكون العقل والفهم فيه خفيا ولكون الفهم يظهر شيئا فشيئا فيه على التدريج،
ولم يكن له ضابط يعرف به، جعل له الشرع علامة وضابطا يعرف به وهو البلوغ،
وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليه فقال ص الذي لا ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى:
(رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ
وعن المجنون حتى يفيق) وفي بعض الروايات (وعن المجنون حتى يعقل) وفي
بعضها (وعن المعتوه حتى يعقل) (29).
والذي يجمع هذا كله العقل الذي يمكنه به فهم خطاب الشارع واستيعاب
أمره ونهيه.
ألا ترى إلى من توفرت فيه شروط التكليف الأربعة التي ذكرناها وهي كونه:
عاقلا بالغا سليم الحواس وقد بلغته الدعوة إلا أنه لم يفهم ما سيقوم به فإنه غير
مكلف به إلا بعد البيان والايضاح.
ومنه نفهم أن الفهم هو أساس التكليف وقد قيده الشرع بالفهم المطلق



(29) رواه أحمد (6 / 100) والبخاري في صحيحه معلقا (9 / 388) و (12 / 120) من حديث سيدنا
علي رضي الله عنه وهو حديث صحيح، روي مرفوعا من حديث سيدنا علي والسيدة
عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وأخرجه النسائي (6 / 156) وأبو داود (4 / 140)
والترمذي (4 / 32) وابن خزيمة (2 / 102) وابن حبان (1 / 178) وسعيد بن منصور في سننه
(2 / 68) والدارمي (2 / 171) والبزار (2 / 212 كشف الأستار) والدارقطني (3 / 139) وابن الجارود
في المنتقى (برقم 148 و 808) وابن ماجة (1 / 658) والحاكم في المستدرك (2 / 59) وصححه،
والبيهقي (1 / 56) وغيرهم.
76
المتعالي عن فهم البهيمة للأكل والشرب والجماع لأن هذه غرائز لا تجعل صاحبها
يفكر ويعلو عن هذه الرتبة محلقا في رتبة استيعاب الأمور على الوجه المطلوب،
لذلك ضبط الشرع ذلك الفهم بكونه واقعا من بالغ بلغته دعوة الإسلام.
ولم نقل من فاهم عاقل لأنه لا يوجد الفهم المقصود والمطلوب إلا من عاقل،
ولا يمكن فهم نصوص الكتاب والسنة إلا بالعقل الذي هو مناط (30) التكليف
وأسه.
كما لم نقل: من سليم الحواس لأن فاقد الحواس المعنية هنا وهي فقدان
حاسة البصر وحاسة السمع معا غير مكلف لأنه لا يمكن إيصال الفهم والمعلومات
من أوامر ونواه إليه فهو غير مكلف لذلك.
قال الإمام الراغب الأصفهاني في (المفردات) في مادة (فهم):
(الفهم هيئة للانسان بها يتحقق معاني ما يحسن، يقال فهمت كذا، وقوله
تعالى * (ففهمناها سليمان) * وذلك إما بأن جعل الله له من فضل قوة الفهم ما
أدرك به ذلك. وإما بأن ألقى ذلك في روعه أو بأن أوحى إليه وخصه به. وأفهمته
إذا قلت له حتى تصوره، والاستفهام أن يطلب من غيره أن يفهمه) انتهى.
فإن قال قائل: إذا كان الصبي والمجنون غير مكلف فكيف وجبت عليهما
الزكاة والنفقات والضمانات وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة؟
قلنا: هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي أو المجنون إذ ليس
واحد منهما محلا للخطاب أي لا يخاطب واحد منهما ولا يوجه إليه أمر، إنما
تعلق الوجوب بماله أو بذمته، فإنهما أهل ليتعلق المال بذمتهما بإنسانية كل منهما
المتهيئة لقبول فهم الخطاب عند البلوغ بالنسبة للصبي وعند البرء والعافية بالنسبة
للمجنون، بخلاف البهيمة، والذي يتولى أداء الزكاة عنهما وكذا النفقات



(30) مناط أي: متعلق التكليف، أي أن التكليف متعلق بوجود العقل، فمتى وجد وجد
التكليف ومتى انعدم انعدم التكليف: وبقال منوط به: أي متعلق به.
77
والضمانات هو الولي، أو هما بعد البلوغ والإفاقة، وليس ذلك من باب التكليف
لهما قبل البلوغ والإفاقة. وأما أمر الصبي المميز بالصلاة فليس من جهة الله تعالى
مباشرة وإنما هو من جهة الولي، بدليل قوله ص:
(مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع...) (31) وذلك لأنه يعرف الولي ويفهم
خطابه ويدركه بخلاف خطاب الشارع فإنه لا يدركه حسب المطلوب.
فإذا أدركنا أن أصل التكليف ينبني على الفهم فلا بد أن نعرف بأن الشرع
قيد ذلك بقيود ذكر أصولها في حديثين:
(الأول): حديث سيدنا علي عليه السلام قال رسول الله ص: (رفع القلم
عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى
يستيقظ) (32).
قلت: رفع عن هؤلاء قلم التكليف لفقدان العقل الذي يترتب عليه الفهم
الذي هو سر التكليف وكذلك رفع عنهم قلم المؤاخذة.
وأما قلم الثواب فغير مرفوع عنهم لعدة أدلة:
أما الصبي: ففي (صحيح مسلم) (2 / 974) عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: رفعت امرأة صبيا لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: (نعم ولك
أجر).
قال الإمام النووي في (شرح مسلم) (9 / 99): (فيه... أن حج الصبي منعقد
صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام).
وأما النائم: ففي (النسائي) (3 / 257) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قال



(31) رواه أحمد (2 / 187) وأبو داود (1 / 133) وغيرهما وهو حديث صحيح.
(32) رواه البخاري في (صحيحه) (9 / 388) بهذا اللفظ معلقا موقوفا عن سيدنا علي رضي
الله عنه، وهو حديث صحيح مرفوع رواه أحمد (6 / 100) وغيره وتقدم تخريجه موسعا.
78
رسول الله ص:
(ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر
صلاته وكان نومه صدقة عليه) وهو صحيح.
وأما المجنون: فلحديث سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتت امرأة
سوداء النبي ص فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت
صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر. فقالت:
إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها) (33).
(الحديث الثاني): حديث سيدنا ابن عباس وثوبان وأبي ذر وأبي بكرة رضي
الله عنهم قال رسول الله ص:
(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (34).
قال (سيدي) الإمام المحدث عبد الله بن الصديق الغماري رفع الله تعالى
درجته في كتابه (الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج) ص (130):
[تنبيه: نقل عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه أنكر الحديث جدا ونقل الخلال
عنه أنه قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة. ا ه‍
قلت: هذا غريب من أحمد فإن الحديث صحيح باعتبار طرقه وقد صححه
ابن حبان والحاكم، وحسنه النووي في الروضة والأربعين، وليس فيه ما يخالف
كتابا ولا سنة، إذ المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع المؤاخذة بهما كما قال علماء



(33) رواه البخاري (10 / 114) وغيره.
(34) رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) (3 / 95) وابن حبان في صحيحه (16 / 202)
والدارقطني (4 / 170) والحاكم (2 / 198) والطبراني في (الكبير) (2 / 97) وفي (الصغير) (2 / 52
الروض الداني)، وغيرهم وهو صحيح.
79
الأصول، لا رفع حكمهما كما توهمه!! والكمال لله تعالى].
قلت: والأصل فيما قرره سيدي عبد الله بن الصديق وحكاه عن أهل
الأصول في رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ قوله تعالى * (ربنا لا تؤاخذنا أن
نسينا أو أخطأنا) * وقوله تعالى * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما
تعمدت قلوبكم) * الأحزاب: 5، وما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة التي
منها:
في الخطأ: قول الرجل الذي لقي راحلته في الصحراء بعدما ضلت عنه ولم
يجدها وعليها طعامه وشرابه فقال من شدة الفرح: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
أخطأ من شدة الفرح) (35).
وفي النسيان: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نسي صلاة أو نام عنها،
فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) (36).
وفي لفظ آخر: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا
ذلك) (37).
وفي النوم: حديث أي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله ص:
(ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيئ وقت
الصلاة الأخرى) (38).
والأصل في عدم المؤاخذة والإثم عند الاستكراه قوله تعالى: * (إلا من أكره.
وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا) * النحل: 106، وقال تعالى * (لا



(35) رواه البخاري (11 / 102) ومسلم (4 / 2105 برقم 2747) واللفظ له.
(36) رواه مسلم (1 / 477) من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.
(37) رواه البخاري (2 / 70) ومسلم (1 / 477) من حديت سيدنا أنس رضي الله عنه.
(38) رواه البخاري (1 / 447) من حديث عمران بن حصين، ورواه مسلم (1 / 473) بهذا اللفظ
من طريق أخرى.
80
إكراه في الدين) * البقرة: 256.
وعن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه
حتى سب النبي ص وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى النبي ص قال: (ما
وراءك) قال: شر يا رسول الله!! ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير،
قال: (كيف تجد قلبك)؟ قال: مطمئنا بالإيمان قال: (إن عادوا فعد (39).



(39) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (8 / 14 / 182) والحاكم (2 / 357) وصححه على شرطهما،
والبيهقي (8 / 208) في باب المكره على الردة، وهو صحيح.
81
حكم أهل الفترة
نجاتهم وعدم تكليفهم
أهل الفترة هم الذين لم يبعث فيهم نبي قبل مبعث سيدنا محمد صل الله
عليه وآله وسلم وأهل الحجاز - أي مكة والمدينة وما حولها - خاصة من أهل الفترة.
قال الإمام الراغب الأصفهاني في (المفردات) ص (371) في مادة فتر:
(الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال تعالى:
* (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل) * أي سكون
حال عن مجئ رسول الله ص، وقوله (لا يفترون) أي: لا يسكنون عن نشاطهم
في العبادة).
وقال المجد في (القاموس المحيط):
(الفترة ما بين كل نبيين). وروى البخاري (7 / 277) عن سيدنا سلمان الفارسي
رضي الله عنه قال: (فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ستمائة سنة).
وأهل الفترة ناجون لأنهم غير مكلفين بشريعة نبي لقوله تعالى * (وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا) * الإسراء: 15، ولقوله تعالى * (ذلك أن لم يكن ربك
مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) * الإنعام: 131.
يؤخذ من هذه الآيات أن كل من لم تصله دعوة نبي فهو ناج في الجنة وليس
عليه عذاب في الآخرة، وهذه قاعدة عظيمة ثابتة غير قابلة للنقاش، فإن ورد
ما يخالفها من الآحاد أو من ظني الدلالات رددنا ما أفاده ولم نقبله لأن معناها
قطعي مأخوذ من القرآن الكريم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن القوم العرب الذين بعث فيهم صلى الله عليه وآله

82
وسلم لم يأتهم رسول قبله صلى الله عليه وآله وسلم لصريح قوله تعالى * (لتنذر
قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) * وقوله تعالى * (وما أرسلنا إليهم
قبلك من نذير) * (40) سبأ: 44، وسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يبعث
إليهم إنما بعث إلى أهل العراق، وقدم مكة أياما يسيرة لبناء الكعبة وزيارة ولده
إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وسيدنا إسماعيل ابنه عليه السلام بعث
للجرهميين الذين خرجوا من مكة وأفناهم الله تعالى ولم يبعث في القرشيين ولا



(40) الأصل في كل أمة خلت قبل مبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون
قد أتاهم نذير لقوله تعالى * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * أي نبي أو رسول، إلا
من استثناهم الله تعالى وهم: قوم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين استثناهم
القرآن في الآيات المذكورة آنفا والتي منها قوله تعالى * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) *
وقوله تعالى * (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) * الزخرف: 21، فاعلم
ذلك!!
وأما فضية وصول دعوة رسول إليهم، فلا دخل لها في قوله تعالى * (وإن من أمة إلا
خلا فيها نذير) * فإنه اشترط في هذه الآية أن يكون هذا النذير قد [خلا فيهم] وواقع
أهل مكة وما حولها ممن بعث فيهم صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم من نذير قبله،
أضف إلى ذلك أنه يشترط في دعوة الرسول التي تصل إليهم أن تصل صحيحة غير
محرفة ولا مبدلة إن قلنا بها وهم ليسوا كذلك بدليلين، الأول: من القرآن كمثل
قوله تعالى * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *، والثاني: أن سيدنا عمر
رضي الله عنه وأهل العلم اعتبروا نصارى العرب في زمن سيدنا عمر ممن لا يجوز أكل
ذبائحهم ولا نكاح نسائهم كما هو مدون في كتب السنن والفقه لأنهم ممن دخلوا في
النصرانية بعد التبديل والتحريف، فافهم!!
ثم إن دعوة كل نبي كانت خاصة بقومه، فغير قومه غير مكلفين بها وأما دعوته صلى
الله عليه وآله وسلم فللناس كافة لقوله تعالى * (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا
ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * سبأ: 28. ولقوله ص كما في البخاري (1 / 533) ومسلم
(1 / 370): (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي:... وكان النبي يبعث
إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة).
83
إليهم!! كما صرح بذلك القرآن وعلينا أن نؤمن بذلك (41)!!
[تنبيه مهم جدا]: إذا علمت ذلك عرفت أن والديه صلى الله
عليه وآله وسلم وأجداده ناجون لأنهم من أهل الفترة وهذا مقطوع به، وما ورد
من أحاديث الآحاد مما يخالف ذلك فلا يجوز الأخذ بها إطلاقا، لأن العاقل لا
يمكن أن يترك نصا مقطوعا به في القرآن الكريم ويأخذ بحديث آحاد خالفه كما
قرر ذلك العلماء في علم الأصول ومصطلح الحديث وقواعده وغير ذلك!! ومن



(41) ومنه نعلم خطأ من قال في (صحيحته)!! (1 / 247):
(إن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام معذبون بشركهم
وكفرهم، وذلك يدل على أنهم ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة نبي، خلافا
لما يظنه بعض المتأخرين، إذ لو كانوا كذلك لم يستحقوا العذاب، لقوله تعالى * (وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وقد قال النووي في شرح مسلم: أن رجلا قال يا
رسول الله أين أبي؟ قال في النار... الحديث، قال النووي 1 / 114 طبع الهند: فيه
أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات على
الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة
قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات
الله تعالى وسلامه عليهم).
وكذا نعلم أيضا خطأ كلامه في (صحيحته!!) (1 / 443) حيث قال:
(وفيه دليل أيضا على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل
الفترة الذين لم تبلغهم دعوة رسول، إذ لو كانوا كذلك لم يستحق ابن جدعان العذاب
ولما حبط عمله الصالح، وفي هذا أحاديث أخرى كثيرة سبق أن ذكرنا بعضها).
أقول: هي أحاديث آحاد متكلم في أسانيدها ومتونها وهي معارضة للقرآن، والآيات
الكريمات مثل قوله تعالى * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) *
وقوله تعالى * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) * مع قوله تعالى * (أم آتيناهم كتابا من
قبله فهم به مستمسكون) * قاطعة للشغب في هذه القضية، والنووي رحمه الله تعالى
أخطأ هنا وأعجب كيف قلده هذا القائل فلم يتأمل في القرآن وهو يدعي الاجتهاد ونبذ
التقليد!! ولله في خلقه شؤون!!
84
أبي ذلك فهو مكابر معاند يخشى على إيمانه وإسلامه إن عاند!! ويعذر من
جهل أو لم يعلم!!
فصل
في ذكر الأحاديث الشاذة التي وردت في هذا الموضوع
أولا: ذكر أخبار شاذة مردودة خالفت القرآن فيها أن والديه ص في النار:
ومن منكرات المشبهة والمجسمة النواصب وبدعهم قولهم بأن والدي الحبيب
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في النار!! كبرت كلمة تخرج من أفواههم!!
وقد استندوا في ذلك على روايتين شاذتين:
(أولاهما): ما جاء في (صحيح مسلم) (2 / 671) عن أبي هريرة مرفوعا:
(استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)
وفي الحديث أنه بكى وأبكى من حوله!! ولا دلالة في هذا لأمور:
1 - لأنه معارض للقرآن وهو قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *
وهم من أهل الفترة وأهل الفترة ناجون كما تقدم.
2 - أن بكاءه ص على والدته لا يدل على أنها من أهل النار بدليل أنه صلى الله
عليه وآله وسلم بكى على ابنه إبراهيم عليه السلام وقال: (إن العين تدمع،
والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)
رواه البخاري (3 / 173) ومسلم (4 / 1808).
3 - لما أذن الله تعالى له بزيارة قبرها دل على أنها ليست كافرة ولا من أهل النار،
لأن الله تعالى نهاه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم على قبور الكفار والمنافقين
بقوله تعالى * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا

85
بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) *.
4 - وفي سند هذا الحديث من طريقيه عند مسلم: يزيد بن كيسان وهو
ضعيف، قال يحيى القطان: (ليس هو ممن يعتمد عليه، هو صالح وسط) وقال
ابن أبي حاتم عن أبيه: (يكتب حديثه، محله الصدق، صالح الحديث. قلت
له: يحتج بحديثه؟ قال: لا، هو بابة فضيل بن غزوان وذويه، بعض ما يأتي
به صحيح وبعض لا، وكان البخاري قد أدخله في كتاب الضعفاء فقال أبي يحول
منه).
فهذا الراوي صدوق في نفسه لا يتعمد الكذب إلا أنه ضعيف الحفظ لا يحتج
بحديثه لأنه يخطئ ويخالف كما قال ابن حبان. [أنظر (تهذيب الكمال)
(32 / 232)] وقال الحافظ في التقريب: (صدوق يخطئ) فإذا كان من هو فوقه
في الحفظ والضبط والتوثيق لا يقوى خبره على معارضة القرآن فكيف بهذا؟!!
وبهذه الأمور وغيرها تم الحكم على هذا الحديث بالشذوذ والضعف والنكارة!!
(ثانيتهما): الحديث الذي فيه أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟
قال: (في النار) فلما قضى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار) رواه مسلم
(1 / 191).
قال الإمام الحافظ السيوطي كما في (الحاوي) (2 / 226) في رسالته (مسالك
الحنفا في والدي المصطفى) ما نصه في الجواب على الاستدلال بهذا الحديث:
[الجواب: أن هذه اللفظة وهي قوله: (إن أبي وأباك في النار) لم يتفق
على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وهي الطريق
التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر عن ثابت فلم يذكر (إن أبي وأباك
في النار) ولكن قال له: (إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار): وهذا اللفظ لا
دلالة فيه على والده ص بأمر البتة، وهو أثبت من حيث الرواية، فإن معمرا أثبت
من حماد، فإن حمادا تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير، ذكروا أن ربيبه

86
دسها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها، ومن ثم لم يخرج له
البخاري شيئا.... وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شئ من
حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت، ثم وجدنا الحديث
ورد من طريق سعد بن أبي وقاص بمثل لفظ رواية معمر عن ثابت عن أنس،
فأخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن
عامر بن سعد عن أبيه أن أعرابيا قال لرسول الله ص: أين أبي؟ قال: (في
النار). قال: فأين أبوك؟ قال: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) (42)،
وهذا إسناد على شرط الشيخين فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على
غيره...] انتهى ما أردنا نقله من كلام الإمام السيوطي (43).
قلت: ومنه يتبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل (أبي وأباك
في النار) ولا دلالة في هذه اللفظة الشاذة على ما أرادت المشبهة والمجسمة النواصب
فعلينا أن نستمسك بما هو مقطوع في القرآن وهو الذي قررناه، وقد بينت هذه
المسألة أيضا ببعض توسع في آخر كتابي (إلقام الحجر)، وقد ذكر هذين الحديثين
سيدي الإمام المحدث عبد الله ابن الصديق الغماري في كتابه الفذ (الفوائد المقصودة
في بيان الأحاديث الشاذة المردودة) ص (92 - 97)، والله الموفق والهادي.
ثانيا: ذكر أخبار شاذة مردودة في مسألة الفترة:
عن الأسود بن سريع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
(أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم،



(42) وقد روى هذا الحديث بهذا اللفظ ابن ماجة أيضا في (السنن) (1 / 501) من حديث
ابن عمر بسند صحيح.
(43) وإنني أقترح على القارئ الكريم إذا وصل إلى هذا الموضع أن يقرأ رسالة الحافظ
السيوطي هذه - مسالك الحنفا في والدي المصطفى - المطبوعة في كتاب (الحاوي
للفتاوى) (2 / 202) فإن فيها تحريرا وإجابة عن كثير من الاستفسارات الدائرة حول هذه
القضية.
87
ورجل مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع
شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما
الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة فيقول:
رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن
ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما) (44).
ورواه الإمام ابن جرير الطبري من طريقين في (تفسيره) (9 / 15 / 54) عن معمر
عن همام موقوفا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
(إذا كان يوم القيامة، جمع الله نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصم
والأبكم والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا ثم أرسل رسولا أن ادخلوا النار،
فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما،
ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل).
قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *.
قلت: أورد هذه الأحاديث ابن كثير في (تفسيره) (3 / 31 / 34) من طرقها
العديدة ثم قال عند الكلام على امتحان الأطفال يوم القيامة:
(ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات فمن أطاع
دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرا
وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة، وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها وقد
صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو



(44) هذا حديث صحيح الإسناد شاذ المتن مردود كما سنبين بعد قليل إن شاء الله تعالى.
رواه أحمد (4 / 24) وابن حبان في (صحيحه) (16 / 356) والبزار (3 / 33 كشف الأستار)
والطبراني في (المعجم الكبير) (1 / 287) والبيهقي في الاعتقاد ص (111). وقد رواه
البزار والبيهقي وغيرهما عن أبي هريرة بسند صحيح أيضا، قال الحافظ الهيثمي في
(مجمع الزوائد) (7 / 216): (رجال أحمد في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال
الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما).
88
الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة
وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي
العلماء والحفاظ والنقاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان
ثم قال:
وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها
لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلفون دخول النار
وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكف نفسا إلا وسعها.
والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص
على ذلك كثير من أئمة العلماء ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى
بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا
النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها (45).
وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف
في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار (46) كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن مذهب



(45) قلت: الصواب هنا إن الأمر ليس كذلك!! فلا يستفيد الناظر منها حجة لوجود
المعارض القطعي الثابت في القرآن!! وكان يمكن قبولها في أمر فرعي لو لم يعارضها
شئ قطعي فافهم!!
(46) بل ينافي التكليف بعد خروج الروح من الجسد قولنا إن في عرصات القيامة تكليف
لبعض الناس دون بعض، لأن الأحاديث الصحيحة الأخرى الموافقة للآيات الناصة
على عدم عذاب من لم تصله دعوة الرسل تعارض تلك الآحاد التي تقول بالامتحان
في عرصات القيامة، ومنها ما رواه البخاري (12 / 439) وأحمد (5 / 9) وغيرهما في حديث
الرؤيا الطويل وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة
فإنه إبراهيم ص، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) قال: فقال
بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله ص (وأولاد
المشركين).
89
أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال (47)، وقد قال الله تعالى يوم يكشف
عن ساق ويدعون إلى السجود الآية (48)، وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين
يسجدون لله يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة
الواحدة طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه (49)، وفي الصحيحين في الرجل



(47) ليس ما نقله أبو الحسن الأشعري مذهب أهل السنة والجماعة!! بمعنى أنهم لم
يجمعوا على هذا الرأي حتى يصح أن يقال فيه هذا مذهب أهل السنة والجماعة!!
بل الواقع أن هذه المسألة بالذات وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة قديما وحديثا
وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الفتح) (3 / 246) على ذلك حيث قال:
(واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال) وسيأتي إن شاء الله تعالى
أيضا نقل ذلك الخلاف أيضا عن الحافظ ابن عبد البر!! فيكون من قال بوقوع السؤال
والامتحان لهؤلاء في الآخرة غالطا!! ويكون ابن كثير قد هول الأمر فصور أن القول
الذي يريد نصرته هو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة نقلا عن الأشعري تصويرا
مخطئا!! ونحن نقول بأن ما ذهب إليه هو ومن يوافقه في هذه المسألة قد أخطأ!!
(48) قوله تعالى * (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) * لا يفيد
أنهم مكلفون أو أن هذا تكليف يقع على العباد أو على بعضهم يوم القيامة، لأن هذا
توبيخا وتقريعا وكشفا لهم يوم القيامة، وهو جزء من جزائهم وعذابهم الذي سيلقونه
في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا النار!!
ثم إن لذلك قرائن ولا يقال إنها تكليف ولا امتحان بل يقال هي توبيخ وتقريع للمنافقين
والكفار وذلك مثل قوله تعالى * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمنيه
فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) * فكما أن لفظة (ندعو) هنا لا تدل على
تكليف المؤمنين وغيرهم بشئ فكذلك لفظة * (يوم يدعون إلى السجود) * لا تدل على
التكليف أيضا!! كما أن مثل حديث (من أرى عينيه ما لم تريا كلف أن يعقد بين
شعيرتين وما هو بعاقد) لا يسمى هذا تكليفا وإنما هو خزي وتوبيخ وتقريع!!
وبذلك يتبين أن ما ذكره لا دليل فيه على ما يريد البتة!! كقوله تعالى * (ذق إنك أنت
العزيز الكريم) * تقريع وليس تكليفا.
(49) ولا دلالة في هذا أيضا على ما يريد الاستدلال عليه وما يقال فيما قبله يقال هنا في
جوابه!!
90
الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير
ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك، ثم
يأذن له في دخول الجنة (50).
وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم فليس هذا
بمانع من صحة الحديث (51) فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط،
وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة (52) ويمر المؤمنون عليه
بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم
الماشي ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد
في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم (53)، وأيضا فقد ثبتت السنة بأن



(50) لا دلالة في هذا الحديث على ما يريد البتة!! وهذا حديث آحاد لو كان فيه دلالة على
ما يريد فإنه لا يقوى على معارضة أو نقض الثابت القطعي في كتاب الله تعالى!! هذا
مع التنبه إلى أن هذا الحديث هو جزء من حديث الصورة الشاذ الذي تكلمنا على جزء
منه في (دفع الشبه) ص (157) في الكلام على الحديث الخامس هناك.
(51) بل هو مانع منه لقوله سبحانه * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ولقوله تعالى * (وما
ربك بظلام للعبيد) * وقوله تعالى * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * إلى
غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يفهم المقصود منها من معناها!!
(52) قضية أن الله تعالى يأمرهم بأن يمشوا على جسر أدق من الشعرة وأحد من السيف قضية
باطلة كما سيتبين ذلك عند الكلام على الصراط في هذا الشرح!! ولم يثبت في القرآن
ولا في حديث صحيح أن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف كما تجد ذلك عند
استعراض روايات (أدق من الشعرة وأحد من السيف) حيث أوردها الحافظ ابن حجر
في (الفتح) (11 / 454) ولذا قال الدردير في (شرح الخريدة) ص (54): (وأنكر القرافي
تبعا لشيخه العز كونه - أي الصراط - أدق من الشعرة وأحد من السيف). وكذا أنكر
ذلك الزركشي.
ومن هذا يتبين أن استدلاله هنا غير صحيح زيادة على كون الدليل ضعيف جدا بل
باطل!!
(53) كيف يكون المرور من فوق النار أطم وأعظم من الدخول فيها؟! ثم إن ما ذكره هنا
هو من حشو الكلام الذي لا فائدة منه بعد معرفة أن دليل ما ذهب إليه من كون وجود
صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف غير صحيح!!
91
الدجال يكون معه جنة ونار وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب
أحدهم من الذي يري أنه نار فإنه يكون عليه بردا وسلاما، فهذا نظير ذاك (54)،
وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا حتى
قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا (55)...) هذا كلام ابن كثير.
وقد لخص الحافظ ابن حجر في (الفتح) (3 / 246) كلام ابن كثير هذا عند
الكلام على أولاد المشركين (الذين ماتوا قبل البلوغ هل هم في الجنة أم في
النار؟) (56) فقال ما نصه:
[واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال:.... سابعها:
أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردا



(54) كيف يكون هذا نظير ذاك وهذا في الدنيا وذاك في الآخرة وأنت تقول في كتبك بأن
أمور الآخرة لا يقاس عليها أمور الدنيا؟! ثم هذا إن ثبت هذا الدليل الذي أوردته
وجماعة من العلماء ينازعونك في ثبوته!!
(55) لا فائدة من هذا الكلام وما بعده طالما أنه أمر تكليفي على قوم في الدنيا!! وقضية
النزاع واقعة في الآخرة والمسألة بعينها هي قضية النزاع فكيف يستدل بها عليها؟!!
(56) نحن نقطع بأنهم في الجنة ولا شك عندنا في ذلك للأدلة القاطعة في هذه المسألة، والتي
منها قوله تعالى * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * ولقوله تعالى * (إن السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * الإسراء: 36، فبين الله تعالى أن أدوات الفهم
هي السمع والبصر والعقل الذي عبر عنه بالفؤاد، والصبي لا يعقل بمستوى يؤهله
للتكليف، وقد بينا ذلك قي الكلام على المكلف فلا نعود إليه، وكذا من لم يأته نبي
(وهم أهل الفترة) والأصم الأبكم والمجنون وغيرهم مما لا يقع التكليف عليهم في الدنيا
كلهم في مقام من لم تصلهم دعوة نبي وقد قطع القرآن بأن من كانت هذه صفته فليس
بمعذب!!
ونحن نعرض هذه الأقوال لنجمع حجج القائلين بها حتى نفند أدلتهم ونبين عدم
صحتها للاستدلال في هذه القضية، والله الموفق.
92
وسلاما، ومن أبي عذب، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه
الطبراني من حديث معاذ بن جبل. وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون
ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد أنه
المذهب الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا
ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار (57)، وأما في
عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال الله تعالى * (يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) * وفي الصحيحين (إن الناس يؤمرون
بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقا فلا يستطيع أن يسجد)].
وعلى فرض صحة أحاديث الابتلاء والامتحان هذه يوم القيامة فقد قال الحافظ
ابن حجر كما نقل عنه الحافظ السيوطي في رسالته (مسالك الحنفا في والدي
المصطفى) المطبوعة في كتاب الحاوي (2 / 207):
(الظن بآبائه ص كلهم يطيعون عند الامتحان لتقر بهم عينه ص).
وبعد أن فندنا في حواشي هذه الورقات رأي من قال بالامتحان يوم القيامة
نقول:
لقد نص جماعة من المحققين أيضا على أن حديث الامتحان مخالف لقواعد
الدين منهم الإمام الحليمي شيخ الإمام البيهقي فقد نقل عنه الإمام القرطبي في
(التذكرة) (2 / 611) أنه قال:
(قال الحليمي: وهذا الحديث ليس بثابت وهو مخالف لأصول المسلمين،
لأن الآخرة ليست بدار امتحان فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة ولا محنة
مع الضرورة، ولأن الأطفال هناك لا يخلوا من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء،
فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة، وإن كانوا غير عقلاء
فهم من المحنة أبعد).



(57) وهذا تلخيص منه لكلام ابن كثير وقد تقدم رد هذا وما بعده من الحجج.
93
وأيد ذلك القرطبي في التذكرة وفي (تفسيره) (10 / 232) أيضا.
ونفل القرطبي في (التذكرة) (2 / 612): أيضا عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال
عن أحاديث الامتحان:
(هذه الأحاديث من أحاديث الشيوخ وفيها علل وليست من أحاديث الأئمة
الفقهاء، وهو أصل عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم
والنظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى منها..).
وقد ذكر أنها مردودة أيضا شيخنا الإمام المحدث سيدي عبد الله بن الصديق
في (الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة) ص (97). [وانظر التمهيد لابن
عبد البر (18 / 130)].
وقد تبين لي أمر آخر أيضا في تعليل أحاديث الامتحان وهو أن أحاديث
الامتحان نصت على أن هؤلاء الممتحنين الذين عصوا الله تعالى بعدم دخولهم
النار يكونون بعد ذلك من أهلها فيدخلون فيها!! وهو ظاهر في تخليدهم فيها
مع أهلها الخالدين فيها!! وهذا مخالف لما هو مقرر في الشريعة من أنه لا يخلد
في النار أحد بمعصية وإنما يخلد بالكفر بالله تعالى، وهؤلاء لم يقع منهم كفر
حينئذ، فإن قيل: وقع منهم الكفر في الدنيا!! قلنا: وأولئك الذين يدخلون
النار عند أمرهم ولا تحرقهم وقع منهم الكفر في الدنيا أيضا كما زعمتم فكيف
يدخلون الجنة ساعتئذ بكفر في الدنيا مقرون بطاعة من الطاعات؟!
وبذلك تبطل أحاديث الامتحان من حيث معناها والله الموفق.
وبذلك يتلخص هذا البحث في أن أهل الفترة ناجون وأنهم في الجنة وأن
منهم والديه صلى الله عليه وآله وسلم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ومن بديع ما قاله بعض أهل العلم في هذا المعنى نظما، ما قاله العلامة
عبد الله العلوي الشنقيطي في نظم النوازل (58):



(58) أنظر كتاب (مرجع المشكلات في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والجنايات) وهو
شرح نظم النوازل للشيخ أبي القاسم بن محمد التواتي الليبي ص (169).
94
من قال في دعاه رب * يحرق أم النبي كافر يحرق
ومن يقل في النار والد النبي * فهو لعين قاله ابن العربي
وسب نجله من استخفا * بحقه زندقة لا تخفى
والله الهادي.

95
فصل
في زيادة الإيمان ونقصانه
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (والإيمان واحد، وأهله في أصله
سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى).
الشرح:
قال الإمام البخاري في صحيحه (1 / 45):
[كتاب الإيمان: وهو قول وفعل، ويزيد وينقص. قال الله تعالى * (ليزدادوا
إيمانا مع إيمانهم) * * (وزدناهم هدى) * * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) *
* (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) * * (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) *
وقوله * (أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزداتهم إيمانا) * وقوله جل ذكره
* (فاخشوهم فزادهم إيمانا) * وقوله تعالى * (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) *.
والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى
عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها
استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم
حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وقال (سيدنا) إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) * (ولكن ليطمئن قلبي) *.
وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة...]. انتهى وما بين القوسين () من زياداتي أدبا.
أقول: وروينا بإسنادنا المتصل إلى سنن ابن ماجة (1 / 25 برقم 65) حيث روى
من طريق أبي الصلت الهروي رحمه الله تعالى أنه قال: حدثنا علي بن موسى
الرضا، عن أبيه (موسى الكاظم)، عن جعفر (الصادق) بن محمد (الباقر)
عن أبيه (الباقر)، عن علي بن الحسين (زين العابدين) عن أبيه (سيدنا
الحسين بن علي السبط) عن (سيدنا ومولانا) علي بن أبي طالب قال رسول الله

96
صلى الله عليه وآله وسلم:
(الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان) قال أبو الصلت
(وكان خادما لعلي بن موسى): لو قرء هذا الإسناد على مجنون لبرأ.
قلت: لأنه مسلسل بأئمة فضلاء من صلب آل البيت عليهم السلام.
وهذا حديث صحيح في غاية الصحة، وقد أجمع أهل الحق على معناه وأبو الصلت
إمام ثقة.
ومن أوضح ما رأيته في هذه المسألة من البيان هو ما قاله الشيخ عبد السلام
اللقاني في شرح منظومة أبيه (الجوهرة) حيث قال هناك:
[(ورجحت زيادة الإيمان) أي ورجح جماعة من العلماء القول بقبول
الإيمان الزيادة ووقوعها فيه (بما تزيد طاعة) أي بسبب زيادة طاعة (الإنسان)
وهي: فعل المأمور به واجتناب المنهي عنه (ونقصه) أي الإيمان من حيث هو،
لا بقيد محل مخصوص، فلا يرد الأنبياء والملائكة، إذ لا يجوز على إيمانهم أن ينقص
(بنقصها) يعني الطاعة إجماعا، هذا مذهب جمهور الأشاعرة، قال البخاري:
لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن
الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، محتجين على ذلك بالعقل والنقل:
أما العقل فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة - بل
المنهمكين على الفسق والمعاصي - مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة
والسلام، واللازم باطل، فكذا الملزوم.
وأما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى، كقوله تعالى * (وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم إيمانا) * وقوله عليه الصلاة والسلام لابن عمر رضي الله عنهما
- حين سأله الإيمان يزيد وينقص؟ - قال: (نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه
الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار) (59) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو



(59) لا وجود لهذا الحديث بهذه الصورة ومن حديث عبد الله بن عمر فهو موضوع جزما وانظر
إلى بقية ألفاظ الحديث التالفة في (تنزيه الشريعة المرفوعة) (1 / 150).
97
وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به) (60) وكل ما يقبل الزيادة يقبل
النقص، فيتم الدليل.
(وقيل) أي: وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه
وكثير من المتكلمين: الإيمان (لا) يزيد ولا ينقص، لأنه اسم للتصديق البالغ حد
الجزم والاذعان، وهذا لا يتصور فيه ما ذكر، فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه طاعة
أو ارتكب معصية فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما
للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.
وأجابوا عما تمسك به الأولون بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به،
والصحابة رضي الله عنهم كانوا آمنوا في الجملة، وكانت الشريعة لم تتم، وكانت
الأحكام تنزل شيئا فشيئا، فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها.
ويحتمل أن يكون المصنف رحمة الله تعالى أراد أن الإيمان يزيد ولا ينقص كما
ذهب إليه الخطابي حيث قال: الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص، وعمل وهو
يزيد وينقص، واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص، فإذا نقص ذهب.
(وقيل) أي: وقال جماعة منهم الفخر الرازي: إنه (لا خلف) أي: ليس
الخلف بين الفريقين حقيقيا، وإنما هو لفظي (61)، لأن ما يدل على أن الإيمان لا



(60) الصواب (بهم) بدل (به) وهذا ليس بحديث وإنما هو قول لسيدنا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وأرضاه، رواه البيهقي في (الشعب) (1 / 69) بسند صحيح كما قال الحافظ
السخاوي في (المقاصد الحسنة) ص (349) وابن عساكر في تاريخه في ترجمة أبي بكر.
واعلم أنه ممن لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم أيضا: مثل السيدة خديجة والسيدة
فاطمة وسيدنا علي وسيدنا أبي عبيدة ومصعب وعمار وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم.
(61) قال الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد في تعليقه على هذا النص: لو كان كل القائلين
بقبول الإيمان الزيادة يفسرونه بما يشمل العمل، وكل القائلين بعدم قبوله الزيادة
يفسرونه بالتصديق وحده لكان الخلاف لفظيا، لكنك قد علمت أن من القائلين بقبوله
الزيادة من يفسره بالتصديق وحده، وهم الأشاعرة، فلا يمكن أن يكون الخلاف
لفظيا. ا ه‍.
98
يتفاوت مصروف إلى أصله، أعني التصديق، وما يدل على أنه يتفاوت مصروف
إلى ما به كماله، وهو الأعمال، فالخلاف في هذه المسألة فرع تفسير الإيمان، فإن
قلنا (هو التصديق فقط) فلا تفاوت، وإن قلنا (هو الأعمال مع التصديق)
فمتفاوت.
وأشار بقوله (كذا قد نقلا) إلى التبري من عهدة صحة هذا القيل، لأن
الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك،
ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده
أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون بعض الأحيان أعظم يقينا
وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين
وكثرتها، على أن هذا القيل خلاف المعروف بين القوم أن الخلاف حقيقي].
وأقول بعد هذا: هذه مسألة وقع الخلاف فيها بين السلف، وليست هي
من أصول الاعتقاد ولو لم يعلمها الإنسان ولم يعرفها لا شئ عليه.

99
لقب الإسلام
خاص بأمة سيدنا محمد ص والأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ودين الله في الأرض والسماء
واحد، وهو دين الإسلام، قال الله تعالى * (إن الدين عند الله الإسلام) *،
وقال تعالى: * (ورضيت لكم الإسلام دينا) *).
الشرح:
إعلم أن لقب الإسلام خاص بهذه الملة الشريفة، ووصف المسلمين خاص
بهذه الأمة المحمدية، ولم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط،
فشرفت هذه الأمة بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء تشريفا لها
وتكريما.
هذا هو الصحيح الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة الصريحة خلافا
لبعض أهل عصرنا حيث شذ، فقال: يصح أن يقال: مسلم موسوي، ومسلم
عيسوي، وإليك الأدلة التي وردت في ذلك (62):
(الدليل الأول): قول الله تعالى: * (وجاهدوا في الله حق جهاده هو
اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم
المسلمين من قبل) * الحج: 78.
قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (10 / 17 / 208): حدثني يونس قال



(62) كما أوردها الحافظ السيوطي وأخذناها منه في رسالته (إتمام النعمة في اختصاص الإسلام
بهذه الأمة) انظر الحاوي للفتاوي (2 / 115).
100
أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد * (هو سماكم المسلمين) * قال: ألا ترى قول
سيدنا إبراهيم * (واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * قال: هذا قول
إبراهيم * (هو سماكم المسلمين) * ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة.
(الدليل الثاني): قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة
والسلام: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * دعا بذلك
لنفسه ولولده وهما نبيان، ثم دعا به لأمته من ذريته وهي هذه الأمة ولهذا عقب
ذلك بقوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * وهو سيدنا محمد ص الإجماع،
فأجاب الله تعالى دعاءه بالأمرين، ببعث سيدنا محمد ص فيهم وتسميتهم
مسلمين.
(الدليل الثالث): قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * المائدة: 4. ظاهر في اختصاص أمة سيدنا محمد
ص بهذا الوصف.
(الدليل الرابع): قوله تعالى: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم
بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * وبهذه الآية استدل العلماء على أن الإسلام
كان وصف الأنبياء دون أممهم، لأنه سبحانه وتعالى لم يقل عن اتباعهم * (للذين
أسلموا) * بل قال للذين * (هادوا) * فتأمل.
(الدليل الخامس): قوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل
بل ملة إبراهيم حنيفا مسلما) * وهذه الآية صريحة في أن اليهود والنصارى لم يدعوا
قط اسم الإسلام.
(الدليل السادس): قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن
كان حنيفا مسلما) * فهذه الآية دالة بصراحة ووضوح على أن شريعة سيدنا موسى
تسمى اليهودية، وشريعة سيدنا عيسى تسمى النصرانية، وثريعة سيدنا إبراهيم
تسمى الحنيفية وبها بعث سيدنا محمد ص، وهي صريحة في أن اليهود والنصارى

101
لم يدعوا قط أن شريعتهم تسمى الإسلام ولا أن أحدا منهم يسمى مسلما.
(الدليل السابع): قوله تعالى: * (قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم
فإن أسلموا فقد اهتدوا) * هذه الآية دالة على أن الإسلام خاص بهذا الدين وإلا
لكان أهل الكتاب يقولون إذا قيل لهم أأسلمتم يقولون: نحن مسلمون وديننا
الإسلام.
(الدليل الثامن): رواه البخاري ومسلم في حديث بدء الوحي من قول
الراوي في حق ورقة بن نوفل: (وكان امرءا تنصر في الجاهلية)، فلو كان
الدين الحق من ملة سيدنا عيسى يسمى إسلاما وصاحبه مسلم لقال: (وكان
امرءا أسلم في الجاهلية).
وأما قول الله تعالى: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير
بيت من المسلمين) * فالمراد بيت سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام ولم يكن فيه مسلم
إلا هو وبناته وهو نبي فصح إطلاقه عليه بالأصالة وإطلاقه على بناته إما على سبيل
التغليب وإما على سبيل التبعية، إذ لا مانع من أن يختص أولاد الأنبياء بخصائص
لا تشاركهم فيها بقية الأمة، كخصائص آل البيت بتحريم الصدقة عليهم.
وحيثما جاءت لفظة المسلمين لغير هذه الأمة فالمراد بها المعنى اللغوي وهو
انقياد واستسلام هؤلاء القوم لنبيهم، أو أن في القوم نبي فإنه وإن كان في جماعة
كبيرة فإن وصفه يغلب لشرفه على الجميع، ومن هذا الباب قول الله تعالى:
* (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * وكان
في القوم أخوه سيدنا هارون عليه السلام.
وكذلك قول الله تعالى حكاية عن أولاد سيدنا يعقوب عليه السلام: * (قالوا
نعبد إلهك) * إلى قوله: * (ونحن له مسلمون) * فإن فيهم سيدنا يوسف عليه
الصلاة والسلام وهو نبي مسلم غلب وصفه عليهم، أو على سبيل التبعية كما
قدمنا فإن أولاد الأنبياء تبع لآبائهم في كثير من الأوصاف أو الخصوصيات والمراد

102
بأبنائهم من آمن بآبائهم منهم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي
قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) * فإن الحواريين منهم أنبياء والدليل على ذلك من
نفس الآية الكريمة وهو قوله تعالى: * (أوحيت للحواريين) * والإيحاء بالمعنى
الشرعي لا يكون إلا للأنبياء.
ففي أولئك الحواريين الثلاثة المذكورون في قوله تعالى: * (إذ جاءها المرسلون
إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون) *.
وهم كما في تفسير الحافظ ابن جرير (12 / 22 / 155) من حواري سيدنا عيسى
عليه الصلاة والسلام.
وكذلك قول الله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * الآية
ليس فيها دلالة على أن الإسلام يشمل قومه، فإن المراد من الآية الكريمة استواء
الشرائع كلها في أصل التوحيد، وليس الإسلام اسما للتوحيد فقط بل لمجموع
الشريعة بفروعها وأعمالها، فالمستدل بهذه الآية إما أن يزعم أن الإسلام لا يطلق
على الأعمال أو يزعم استواء الشرائع في الفروع وكلاهما خطأ من قائله. بدليل
أن النبي ص قال لسيدنا جبريل عليه السلام وقد سأله ما الإسلام؟ فقال:
(الإسلام م ن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة المكتوبة
وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت) رواه مسلم (1 / 37 - 40) وفي
بعض الروايات (وتغتسل من الجنابة) (63).
أما قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى
عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) * فمعناه: إنا كنا
من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء، لما كنا نجده في كتبنا من نعته
ووصفه، وذلك كقوله تعالى * (إنك ميت وإنهم ميتون) * أي ستموت وسيموتون.



(63) رواه أحمد في مسنده (1 / 52 - 53).
103
وهذا الذي ذكرناه من عدم إطلاق المسلمين إلا على هذه الأمة وعلى الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام هو المتعين الراجح الصحيح جمعا بين الأدلة كما هو مقرر
في علم الأصول. والله الموفق.
تنبيه مهم
لا يجوز أن يقال (الأديان السماوية) وهذه العبارة خطأ محض، بل الصحيح
أن يقال (الشرائع السماوية) وذلك لأن الدين هو العقيدة وهي لا تتغير من شريعة
نبي إلى شريعة نبي آخر، بل الذي يتغير ويتبدل الفروع الفقهية (الأحكام
الشرعية) فتنسخ من شريعة إلى شريعة وأما التوحيد فمحكم لا يدخله النسخ
بتاتا (64)، وقول الله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * وقوله * (وجعلنا لكل
منكم شرعة ومنهاجا) * صريح فيما نقول، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد) رواه البخاري ومسلم وغيرهما،
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في (فتح الباري) (6 / 489):
(ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع
الشرائع). ا ه‍
ومعنى أخوة لعلات: أي أخوة من ضرائر وهذه كناية عن اتحاد الدين الذي
هو العقيدة واختلاف الشرائع وهي الأحكام التشريعية الفرعية، فعلى هذا يجوز
أن يقال: الشرائع السماوية ولا يجوز أن يقال أديان سماوية البتة بل يحرم ذلك لأن
في ذلك مصادمة نصوص الكتاب والسنة وما عليه العلماء الراسخون الذين يرجع
إليهم ويعول على كلامهم. والله الموفق.



(64) كثير من الكتب التي تبحث في الشرائع السماوية اليوم يطلق عليها مؤلفوها اسم (مقارنة
أديان) والصحيح أن يقال: (مقارنة الشرائع) فافهم!!
104
فصل
مسألة تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية
وعرضها على أدلة الكتاب والسنة
لقد أرسل الله تعالى سيدنا محمدا ص بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد
رسول الله) وحث عليها ووعد قائلها ومعتقدها الجنة، وقد وردت بذلك الآيات
والأخبار الصحيحة، منها قول الله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * محمد: 19،
ومنها قوله: * (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا) الفتح: 13،
وعن عبادة رضي الله عنه قال النبي ص: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته (65)
ألقاها إلى مريم وروح منه (66)، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما
كان من عمل) رواه البخاري (6 / 474 فتح) ومسلم (1 / 57 برقم 46).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ص: (أمرت أن أقاتل الناس حتى
يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
إلا بحقها، وحسابهم على الله) رواه البخاري (1 / 75 فتح) ومسلم (1 / 53 برقم 36).
فمن هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتضح وضوحا جليا أن الله
سبحانه بين لنا أن التوحيد هو (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولم يذكر الله
تعالى في كتابه، ولا النبي ص في سنته أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام توحيد
ربوبية وتوحيد ألوهية وتوحيد أسماء وصفات، بل لم ينطق بهذا التقسيم أحد من
الصحابة، بل ولا أحد من التابعين، بل ولا أحد من السلف الصالح رضي



(65) معنى (وكلمته ألقاها إلى مريم) أي: بشارته أرسلها بواسطة الملك إلى السيدة مريم.
(66) معنى (وروح منه) أي: منه خلقا وتكوينا، لا جزءا كما تعتقد النصارى.
105
الله عن الجميع (67).
وقد تبين لنا مما تقدم أن التوحيد الذي جاء به ص هو شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمد رسول الله وتكفي هذه الكلمة لمن نطق بها صادقا من قلبه أن يدخل
الجنة وبذلك وردت الأخبار والنصوص والآثار، روى الإمام مسلم في صحيحه
(1 / 61 برقم 53) عن سيدنا أنس بن مالك مرفوعا: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار) وفي البخاري (فتح 1 / 103)
من حديث سيدنا أنس أيضا مرفوعا: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي
قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن
برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير).
فإذا علم هذا فيتضح أن هذا هو التوحيد الذي جاء به سيدنا محمد ص وكم
ثبت من حديث في تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، أي ومحمد
رسول الله. انظر صحيح مسلم (1 / 95) وغيره.
وبذلك يبطل قول من زعم أن النبي ص جاء بتوحيدين أو ثلاثة: توحيد
الربوبية وتوحيد الألوهية وبعضهم يزيد توحيدا ثالثا وهو توحيد الأسماء والصفات،
والذي ادعى تعدد التوحيد وانقسامه إلى ربوبية وألوهية يقول: إن توحيد الربوبية
هو كونهم مؤمنين بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت كان حاصلا عند
الكفار، وإنما جاء النبي ص ليقرر لهم توحيد الألوهية وهو توحيد عبادة الله فقط!!
وقد انغر بهذا الكلام المتهافت المنقوض الذي ترده أدلة الكتاب والسنة وكذا
الواقع أناس كثيرون في هذه الأزمان انخداعا منهم بشرح ابن أبي العز على



(67) وقد اعترض علينا بعض المبتدعة في ذلك فزعم أن السلف قالوا بذلك!! والحق أنه لم
يستطع أن يثبت ذلك عن أحد منهم رغم عرضه لبعض نصوصهم التي استنبط منها
هذه البدعة التقسيمية!! ولم يستطع أن يثبت هذا التقسيم عن أحد قبل المبتدع المشهور
ابن بطة الحنبلي وهو من الخلف وقد ولد سنة 304 ه‍ وتوفي سنة 387 ه‍ وهو سلف
ابن تيمية في هذا التقسيم المبتدع المحدث!!
106
الطحاوية، وقد صنفت رسالة أبطلت فيها هذا التقسيم بالأدلة الواضحة،
والاستدلالات الباهرة وسميت تلك الرسالة ب‍ (التنديد بمن عدد التوحيد)
فليراجعها من شاء، وإنني أنقل الآن إن شاء الله تعالى جملا مختصرة منها في تفنيد
تقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية فأقول:
أصل احتجاج من قسم التوحيد إلى قسمين أنه زعم أن الكفار وخصوصا
الذين بعث فيهم سيدنا رسول الله ص كانوا يؤمنون بوجود الله وأنه المحيي المميت
لكنهم ما كانوا يعبدون الله تعالى أو لم يفردوه بالعبادة ولهم بشكل عام دليلان:
الأول: قول الله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
الله) * قالوا: فدل ذلك على إقرارهم بوجود الله تعالى وأنه هو الخالق.
والثاني: قولهم كما حكى الله تعالى عنهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
زلفى) * فدل ذلك منهم على اعترافهم بوجود الله وأنه هو الإله الحقيقي.
والجواب على ذلك من أوجه:
الأول: هذه الأقوال التي نطق بها المشركون وأوهمت أنهم كانوا يقرون بوجود
الله عز وجل، هي كذب منهم حقيقة ولا يعتقدونها، وإنما قالوها للنبي ص
عند مناظرته ومجادلته لهم وإفحامه لهم في ذلك الجدال بإثبات وجود الله تعالى الذي
أمره بجدالهم في قوله سبحانه: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * فكانوا لا يدرون
بم يجيبون، ويصرون على عدم ترك آلهتهم وأوثانهم التي يعتقدون أنها تنفعهم
وتضرهم وتمطرهم، فكانوا يرضونه عند اضطرارهم ليتخلصوا من الاحراج في
موقف الافحام في المناظرة، والدليل على ما قلناه أن الله عز وجل بين في آخر
تلك الآيات أنهم كاذبون وكافرون فقال عز وجل: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون،
إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) * الزمر: 3.
فأثبت الله عز وجل كذبهم ومبالغتهم في الكفر فقال: كفار مبالغة في وصفهم

107
بالكفر: كما تقول ضارب وضراب، فكذلك كافر وكفار.
وقال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس
والقمر ليقولن الله، فأنى يؤفكون) * العنكبوت: 61، والإفك: أشد الكذب، قال
القرطبي في تفسيره (13 / 361): (أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن
عبادتي!) ا ه‍ أي بعد اعترافهم أن الله خالق السماوات والأرض!! وهذا دليل على
أنهم قالوها غير معتقدين بها بل هم مضطرون لها عند الافحام.
الثاني: لا يجوز شرعا ولا عرفا ولا للتعليم أن يوصف أولئك الكفار المشركون
بالتوحيد أو أنهم كانوا يوحدون توحيد ربوبية والله تعالى حكم عليهم بالكفر
فقال: * (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) *. البتة.
الثالث: وهناك نصوص أخرى وأدلة صريحة تثبت أن أولئك الكفار كانوا لا
يقرون بوجود الله ولا بوحدانيته ولا أنه هو المحيي المميت الخالق فيسقط بهذه الأدلة
الاستدلال بالآيتين الشريفتين السابقتين على أن أولئك كانوا يوحدون ما يسمى
بالربوبية، ومن تلك النصوص الصريحة قول الله تعالى:
* (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم؟! قل يحييها
الذي أنشأها أول مرة) * سورة يس: 78.
فهذا السائل يجهل بأن هناك خالق يحيي العظام وهي رميم، بل يستهزئ
بالنبي ص الذي يصدع بذلك! وقد رد الله عليه في كتابه الكريم، فهل يقال
عن مثل هذا إنه يوحد توحيد ربوبية؟!
وخصوصا أن الله أخبر عن حالهم فقال في كتابه العزيز: * (وقالوا ما هي إلا
حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم
إلا يظنون) * الجاثية: 24.
ولو كان أولئك يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله هو الخالق لما قال الله لهم:
* (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال

108
كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر) * وكذلك
لما أو رد الله عز وجل لهم آيات كثيرة فيها أدلة وفيرة على إثبات وجوده والتأمل في
هذه المخلوقات والحض على التفكر في خلق السماوات والأرض، ومنها قوله
تعالى:
* (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري
في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد
موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء
والأرض لآيات لقوم يعقلون) * أي يعقلون وجود الله تعالى ويعقلون أن هذه
المذكورات من خلقه.
وأكد عليهم أن يتدبروا ذلك فقال لهم: * (إن في خلق السماوات والأرض
واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * ووصف أولي الألباب بكونهم
* (يتفكرون في خلق السماوات والأرض) * ولو كان أولئك يقرون بالربوبية لله تعالى
لما قال الله عنهم: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما
تأمرنا وزادهم نفورا) * فإذا كان الله إله آلهتهم كما يزعمون وهم يقولون حقا إنهم
يعبدونها لتقربهم منه فلماذا يرفضون السجود له سبحانه؟!
الجواب: لأنهم لا يقرون بأن الله سبحانه موجود وأنه خالق محي مميت. وقد
قدمنا من الأدلة ما يقنع كل لبيب، وجمعنا بين الأدلة، والجمع بينها واجب
باتفاق. ومنه يتبين أن كل من قسم التوحيد إلى نوعين أو ثلاثة مخالف لأدلة هذه
الشريعة بعيد عن تفهم الكتاب والسنة، وأنه مخطئ في قوله كائنا من كان.
الرابع: أن واقع أولئك المشركين يكذب أنهم كانوا يقرون بربوبية الله تعالى
وقد انتشر في شعرهم وفي كلامهم الإلحاد بوجود الله، فقد كانوا يقولون:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
واشتهر أنهم كانوا يقولون: (ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما

109
يهلكنا إلا الدهر) وبعد هذا: فهل يقول عاقل بأن الرسل ما جاءت إلا لتقرير
توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة وإن توحيد الربوبية كان معروفا حتى عند
الفراعنة؟! مع أن فرعون كان يقول تارة: * (ما علمت لكم من إله غيري) *
وتارة * (أنا ربكم الأعلى) * وكان اللازم على زعم من قال إنه كان يوحد ربوبية
لو كان ذلك حقا أن يقول: (أنا الهكم الأعلى) وكذلك لما قال سيدنا يوسف
عليه الصلاة والسلام: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * ولما قال
الله تعالى: * (واتخذوا من دونه آلهة لعلهم ينصرون) *.
ولو كان الناس يقرون بتوحيد الربوبية دون الألوهية كما يزعم هؤلاء لما كان
سؤال الملكين في القبر (أي في البرزخ) لهم كما جاء في الحديث الصحيح: (من
ربك؟) بل كان ينبغي أن يكون على الزعم المخطئ (من إلهك؟) فلماذا اكتفى
الملكان بتوحيد الربوبية ولم يسألا عن توحيد الألوهية؟!
ونصوص الكتاب والسنة طافحة بإثبات هدم تقسيم التوحيد إلى ألوهية
وربوبية وإلى إزهاق الآراء الفاسدة التي قدمنا الكلام عليها والبراهين على ذلك
كثيرة وقد اكتفينا بالقليل عن الكثير في هذا المقام، فليتنبه إلى ذلك أولوا الألباب.
الخامس: التوحيد هو أهم الأشياء التي بينها الله تعالى ورسوله ص لنا ولو
كان هناك توحيدان حقا أو ثلاثة لما سكت عنه رسول الله ص لا سيما وقد علم
أصحابه حتى الشرك الأصغر ودخول الخلاء، فلما لم يذكر ذلك ولا جاء على
ألسنة الصحابة والتابعين وأئمة السلف ذكر شئ من ذلك التقسيم، علمنا أن
هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وممن وقع
في ذلك شارح الطحاوية وهو من الخلف من أهل القرن الثامن الهجري وأئمته
ومشايخه الذين ينقل عنهم كذلك من الخلف، والشريعة بريئة من هذا التقسيم
المخترع الذي جاؤوا به كما قدمنا.
السادس: وهناك ثمة ملاحظة هامة جدا يجب أن يدركها كل مسلم وهي:
أن من كان يعرف أن الله تعالى موجود خالق رازق محي مميت، ولكنه لا يريد

110
أن يذعن له ولا أن يعبده، أو كان أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة كالمرتد
فإن ذلك الإنسان لا يسمى في الشرع وفي العرف موحدا بأي نوع من التوحيد
إنما يطلق عليه كافر، والدليل على ذلك أن الله تعالى أطلق عليه الكفر في قوله
سبحانه: * (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) * فسماه الله كافرا بعد
إسلامه ومعرفته بوجود الله سبحانه وأنه هو المحيي المميت الرازق، والشريعة لا
تعرف إلا مسلما أو كافرا والمسلم درجات، والكافر دركات، ولا منزلة بين المنزلتين
عند من يقول بهذا التقسيم.
وأما تشتيت عقول عوام المسلمين وطلاب العلم بهذا التقسيم فنكول عن
الجادة الحقة والصراط المستقيم وبالله تعالى التوفيق.
بيان أن من اعترف بوجود الله ولم يوحده
فهو كافر إجماعا ولا يسمى موحدا توحيد ربوبية
بنص القرآن الكريم
وتنزلا مع بعض الناس وعلى سبيل الجدل المنصوص على جوازه في القرآن
الكريم بقوله تعالى: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * أقول:
هب أن هناك قسما من الجاهليين أو من أي طائفة من طوائف الكفار فيها
أشخاص يقرون ويعترفون في غير مجال المضايقة في المناظرة، بأن الله هو الخالق
المحيي المميت، فإن هذا الإقرار منهم أو هذه المعرفة لا تجعل صاحبها يسمى أو
يطلق عليه مؤمنا أو موحدا لا شرعا ولا لغة ولا عرفا البتة، أما شرعا فلأدلة منها
قوله تعالى: * (ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي
من هو كاذب كفار) * الزمر: 3، فقد صرع هذا النص لنا بأن المرء من أولئك مع

111
قوله: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وتسليمنا جدلا بأنه مقر بقلبه بأنه
معترف بوجود الله!! وهو ما يسميه الآخرون (توحيد الربوبية) ومع ذلك كله أطلق
عليه الله تعالى في كتابه كما ترون بأنه * (كاذب كفار) *.
وأما اللغة والعرف فلم يرد عن سيدنا رسول الله ص في سنته الواسعة أنه
سماهم موحدين للربوبية، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه قال في حقهم أو
عنهم (إيمان دون إيمان) مثل ما نقل عن بعضهم كابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وغيره أنه قال في بعض الأمور (كفر دون كفر) وهذا مما يؤكد لنا ويدل بأن
اللغة التي كان ص وأصحابه ينطقون بها والعرف الذي كان سائدا بينهم يمنعان
إطلاق موحد أو توحيد ربوبية على ذلك الإنسان.
ثم إن الإيمان والتوحيد والعقيدة هو (ما وقر في القلب ونطق به اللسان وصدقه
العمل) وتعريف الإيمان والتوحيد واضح من حديث سيدنا جبريل في السؤال عنه
الذي رواه مسلم، وظاهر في كتب التوحيد التي نصت على أن الإيمان أو الدخول
في التوحيد هو (الإتيان بالشهادتين لسانا مع الإقرار القلبي بكل ما جاء عن الله
تعالى ورسوله مع الإذعان) فأين ذلك من هذا، وبذلك اتضح جليا بطلان هذا
التقسيم والله الموفق.

112
فصل
في إبطال القسم الثالث
من التقسيم المزعوم وهو توحيد الأسماء والصفات
توحيد الأسماء والصفات عند من أثبته من المشبهة والمجسمة هو الأخذ بظواهر
النصوص وفهمها بغير الأسلوب واللسان العربي في سبيل إثبات أعضاء وجوارح
لله سبحانه وتعالى من ظواهر نصوص لم يرد الشرع منها إثبات جوارح ولا أعضاء
وإنما أراد معاني مجازية معروفة في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فمثلا قوله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم * (واخفض جناحك للمؤمنين) * لا يراد منه ظاهر
هذا اللفظ وهو إثبات جناح لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنما المراد
الحض على الرأفة والرحمة بهم، وكذلك قوله تعالى * (يا حسرتي على ما فرطت
في جنب الله) *، لا يراد ظاهره، وهو إثبات جنب لله تعالى وإنما المراد يا حسرتي
على ما فرطت في حق الله بتضييع أوامر الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى * (بل يداه مبسوطتان) * لا يدل على إثبات جارحة اليد،
ولا قوله تعالى * (ولتصنع على عيني) * وقوله * (فإنك بأعيننا) * إثبات عين وأعين
لله سبحانه وتعالى، كما سيتبين عند الكلام عن الصفات والقواعد المتعلقة بها.
وقد ذهب المجسمة والمشبهة الذين اخترعوا وابتدعوا هذا القسم من التوحيد
وهو القسم الثالث عندهم إلى هذا التقسيم ليرموا من يخالفهم في إثبات ما أثبتوه
من صفات - يتنزه الباري سبحانه وتعالى عن أن يوصف بها - إلى أنه مشرك أو
غير كامل التوحيد وأن في إيمانه نقصا، وكذا ليرهبوا كل من خالفهم في هذا الأمر
مهددين بأن مخالفهم ناقص الإيمان حتى يخشى مخالفتهم ويقول بقولهم فيقع في
مصيدتهم، وكل هذا التقسيم في الأصل برمته باطل ومخالف للشريعة.

113
واعلم يرحمك الله تعالى أن أهل الحق من المسلمين يثبتون لله من الصفات ما
أثبت لنفسه، وما يشوشه المجسمة عليهم من أنهم معطلة وجهمية تشويش فارغ
لا قيمة له بعد التمحيص العلمي والتدقيق (68).
فأهل السنة (الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل الحق المنزهين) يثبتون لله
تعالى العلم والقدرة والإرادة والمشيئة والرحمة والحياة والسمع والبصر والكلام وغير
ذلك من الصفات، وينزهون الله سبحانه عما لا يليق به، ولا يطلقون بعض
الألفاظ والإضافات الواردة في الكتاب والسنة والتي لا يراد منها حقيقتها صفات
لله تعالى، لأن نفس القواعد التي أسستها آيات القرآن المحكمة وأحاديث النبي
ص الصحيحة ترفض ذلك، فمثلا لا يثبتون صفة النسيان مع أن لفظ النسيان
ورد مضافا لله تعالى في القرآن، قال تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * التوبة: 67، فلم
يصفوا الله بذلك - أعني النسيان - لأن الله تعالى يقول أيضا: * (وما كان ربك
نسيا) * مريم: 64، وكذلك لفظ الهرولة والضحك والمرض والجوع وردت في أحاديث
لا يجوز لأي عاقل أن يطلقها صفات على الله سبحانه، فالحديث الصحيح الذي
فيه: (ومن أتاني ماشيا أتيته هرولة) لا نثبت به صفة الهرولة لله سبحانه التي
معناها الحقيقي في اللغة المشي السريع، بل يعرف جميع العقلاء ويدركون بأن المراد
بذلك هو المعنى المجازي في اللغة وهو: (من أطاعني وتقرب إلي تقربت إليه
بإكرامه والإنعام عليه أكثر وأسرع).
وكذلك ما جاء في الحديث القدسي الصحيح: (عبدي مرضت فلم
تعدني..) الحديث رواه مسلم (4 / 0 199 برقم 2569)، لا نقول أن الله أثبت لنفسه
مرضا وأضافه إليه فنحن نثبت له صفة المرض، بل لا يقول بهذا عاقل، وقد أرشد
الحديث إلى أن الصفة للعبد، وإنما صرفنا تلك الصفة من أن نعدها من صفات



(68) والمؤمن لا ينغر بالشعارات ولا بالإشاعات، وإنما يتثبت من كل أمر يسمعه ويمحص
ويبحث بنفسه، وأسأل الله أن لا ينطبق علينا نحن الأمة الإسلامية قول أحد أعدائنا
فينا: هذه أمة تسمع ولا تقرأ!
114
الله لقواعد التنزيه المأخوذة من الكتاب والسنة الناصة على أنه سبحانه * (ليس
كمثله شئ) *.
والضحك كذلك لا يليق أن يطلق حقيقة على الله، وإنما يطلق على سبيل
المجاز، وتأويله عند أهل العلم الرضا أو الرحمة، فإذا ورد في حديث أن الله
يضحك إلى فلان فالمراد به أنه يرضى عنه ويرحمه وهكذا، فهناك قواعد وأصول
لا بد أن نرجع إليها ضبطها أهل العلم من الأئمة الراسخين الربانيين وقد عرضناها
وبيناها في التعليق على (دفع شبه التشبيه).
ذكر الإمام البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) (ص 298) (69) أن الإمام
البخاري رحمه الله تعالى أول الضحك بالرحمة، وهذا هو نهج السلف والمحدثين
والبخاري بلا شك من أئمة المحدثين ومن أهل القرون الثلاث، قرون السلف
المشهود لها بالخيرية.
وسيأتي الكلام على هذا القسم مفصلا موضحا عند الكلام على صفات الله
سبحانه وتعالى وسيتبين معنى هذا القسم هناك إن شاء الله.
ومن العجيب الغريب أن بعض المجسمة المعاصرين أحدث قسما رابعا



(69) بتحقيق الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان، طبعة دار إحياء التراث.
(تنبيه): لقد طبع كتاب (الأسماء والصفات) للحافظ البيهقي الذي قدم له وعلق عليه
الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى طبعتين جديدتين، إحداهما: قد حذف منها
كتاب (فرقان القرآن) للشيخ العزامي رحمه الله تعالى كما حذف منها مقدمة العلامة
الكوثري، والثانية: طبعة بصف جديد لم يكتب عليها أن التعليقات التي عليها هي
للعلامة الكوثري، ثم رأيت طبعة ثالثة: بصف وتنضيد جديد أيضا حذفت منها
تعليقات المحدث الكوثري، ثم رأيت من يحيك هذا التلاعب ممن يأمر تجار الكتب
قد طبعوا كتابا آخر سموه (الأسماء والصفات) بشكل وبحجم كتاب (الأسماء والصفات)
للحافظ البيهقي، ولكنه باسم ابن تيمية الحراني، ليضللوا القارئ عن كتاب الحافظ
البيهقي بشكل عام!! وليبعدوه عن تعليقات ومقدمة العلامة المحدث محمد زاهد
الكوثري بشكل خاص!! فلتكونوا جميعا على علم تام بهذا التلاعب المشين!!
115
للتوحيد وهو توحيد الاتباع بزعمه وآخر أحدث قسما خامسا وهو توحيد الحاكمية
بزعمه!! ولهم في كل يوم تقسيم جديد!! ولعل لهم في ذلك مزيدا!! ولله في خلقه
شؤون!!

116
فصل
في
أدلة التوحيد
لا بد أن نتعرض في هذا الكتاب إلى أدلة التوحيد التي تنبني عليها مسائل
هذا الفن وأن نبين بعد ذلك على الترتيب في فصول خاصة بعض الأدلة الوهمية
التي يظنها بعض الناس أدلة تصلح أن يستدلوا بها على ما يريدون من مسائل
التوحيد.
الدليل الأول القرآن الكريم
لا شك أن القرآن الكريم هو الأصل الأصيل في الأحكام الشرعية ومنه تستمد
كل فنون وعلوم الشريعة الإسلامية * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل
إليهم ولعلهم يتفكرون) * النحل: 44.
وقد تقدم معنا في أول هذا الكتاب آيات عديدة فيها ذكر الأمور الأساسية
التي ينبني عليها التوحيد وعلم العقيدة الإسلامية، فالله سبحانه وتعالى ذكر الإيمان
به فقال: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * وذكر وجوب التفكر والنظر في هذا الكون
وهذه المخلوقات لنستدل منها على وجود صانعها سبحانه فقال: * (أفلا ينظرون
إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت *
وإلى الأرض كيف سطحت) * الغاشية: 17 - 20.
وذكر في القرآن الكريم أيضا المعاد والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب
وصفات الله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والجن وغير ذلك من
أصول التوحيد.

117
فعلى هذا يعتبر القرآن الكريم هو الدليل الأهم والمصدر الأول في تلقي علم
التوحيد منه وبناء المسائل العقائدية عليه، ومن المعلوم أن لذلك ضوابط وقواعد
مقررة ومبثوثة في نصوص القرآن نفسه وفي حديث سيدنا رسول الله ص، فمثلا:
النسيان: ورد ذكره مضافا إلى المولى سبحانه وتعالى في آيات مثل قوله تعالى
عن المنافقين * (نسوا الله فنسيهم) * التوبة: 67 وقوله تعالى عن الكافرين * (فاليوم
ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) * الأعراف: 51 ومع ذلك فليس النسيان من صفات
الله تعالى وإن ورد في القرآن وذلك لأن النسيان يدل على النقص لا الكمال لا
سيما وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم * (وما كان ربك نسيا) * مريم: 64 فنفى
سبحانه وتعالى عن نفسه النسيان في هذه الآية مع أنه أضافه لنفسه في آيات فيتضح
لنا إذن أنه ليس كل لفظ ورد في القرآن الكريم يصح إطلاقه على الله تعالى والمثال
الذي أوردناه شاهد واضح ودليل ساطع على ما قلناه، ولنتنبه هنا إلى أن أقواما
من المجسمة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه استغلوا المقولة المشهورة (لا نصف
الله تعالى إلا بما وصف به نفسه) فذهبوا يصفون الله تعالى بما لا يصح أن يكون
وصفا له بل يتنزه عنه.
فمثلا وصف أحدهم الله تعالى بأنه له جنب مستدلا بالآية الكريمة * (يا
حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * مع أن جميع العرب الذين نزل هذا القرآن
الكريم بلغتهم لا يفهمون من هذه الآية الكريمة إثبات الجنب لله تعالى وإنما
يفهمون من هذه الآية أن معناه: يا حسرتي على ما فرطت في حق الله أو في أمر
الله، كما تجد ذلك مبسوطا واضحا مرويا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين
رحمهم الله تعالى في تفسير الحافظ ابن جرير الطبري (مجلد 5 / جزء 8 / صحيفة 202)
بالأسانيد الصحيحة المتصلة وهو من أهل القرن الثالث (توفي 310 ه‍).
وممن قال بإثبات الجنب لله تعالى أبو عمر الطلمنكي قال الذهبي في (سير أعلام
النبلاء) (17 / 569):

118
(رأيت له كتابا في السنة في مجلدين عامته جيد، وفي بعض تبويبه ما لا
يوافق عليه أبدا مثل: باب الجنب لله وذكر فيه: * (يا حسرتي على ما فرطت
في جنب الله) * فهذه زلة عالم) انتهى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أمورا في القرآن الكريم لا يمكن أن تؤخذ على
ظواهرها بل الذي يراد منها معان مجازية وراء تلك الألفاظ فمثلا قوله تعالى عن
القرآن الكريم * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * لا يستدل منه
أن للقرآن يدين ثنتين البتة!! ومن أثبت مثلا من هذه الآية الكريمة يدين للقرآن
ضحك منه جميع العرب الذين نزل القرآن بلغتهم!!
والضابط في ذلك أن كل لفظ أشعر بإثبات عضو أو صورة أو شكل وهيئة
أو نقص فالله تعالى منزه عن أن يوصف بذلك وإن ورد في القرآن لأن المقصود
في لغة العرب ليس ظاهر ذلك اللفظ بل ما وراءه من المعنى المجازي، وسيمر
ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في الكلام على صفات الله تعالى.
فتلخص من ذلك أن القرآن هو أول مصادر الأدلة في علم التوحيد وهو أهمها
وينبغي أن يفهم بفهم ومراد أولئك العرب الأقحاح الذين نزل هذا القرآن بلغتهم
لا غير قال تعالى * (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك
لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) * الشعراء: 192 - 195 وقال تعالى * (إنا
أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) * يوسف: 2. وأصول العقائد جميعها مذكورة في
القرآن.
وآيات القرآن الكريم قطعية الثبوت ويكفر من خالف في ذلك لكن بعضها
قطعي الدلالة وبعضها ظني الدلالة، فالقرء مثلا في قوله تعالى * (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * البقرة: 228 له معنيان متضادان في لغة العرب وهما:
الحيض والطهر فمن استدل من القرآن الكريم على أن عدة المطلقة ثلاث حيضات
لم يكن قاطعا بذلك ومن استدل من الآية على أن عدتها ثلاثة أطهار أصاب ولكن

119
لم يقطع بذلك وإنما هو نظر واجتهاد يفيد الظن ولا يفيد العلم والقطع.
والعقيدة مبنية على القطع لا على الظن وهي منصوص عليها لا يجوز في
أصولها الاجتهاد البتة.
قاعدة
في كيفية التمييز بين لم أصول العقائد وفروع العقائد
الصواب في معرفة هذا الأمر، أن أصول العقائد هي الأمور الثابتة بقطعي
الدلالة وقطعي الثبوت، وهي التي وردت في القرآن وأجمعت فرق الإسلام المعتد
بها عليها، وفرق الإسلام الموجودة والمعتد بها هي: الزيدية والمعتزلة والأباضية
والشيعة وأهل السنة، ويخرج منهم أي من أهل ألسنة كل من انتسب إليهم وكان
في الحقيقة مشبها أو مجسما بمعنى أنه كرامي المشرب، ويخرج من كل فرقة أيضا
الشذاذ المشهورون كابن الوزير والشوكاني عند الزيدية والنظام عند المعتزلة ونحوهم
عند غيرهم أيضا (70).



(70) وممن نقل اتفاقات ومسائل لا اختلاف فيها عند أهل الإسلام ابن حزم في كتابه مراتب
الإجماع ص (167) وأما الإمام عبد القاهر البغدادي رحمه الله فلا يسلم له في كل ما
نقله من إجماعات كقوله الإجماع على عدم حركة الأرض ودورانها وأنها ساكنة، وهذا
مما يعلم بطلانه بديهيا، وغيرها من الاجماعات التي لم يراعي فيها القاعدة التي ذكرناها،
ثم إن حمله على المعتزلة في بعض أقوالهم حمل ظالم أخطأ فيه ولا معنى له.
120
الدليل الثاني من أدلة العقيدة:
الحديث النبوي الشريف
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونتبع السنة).
الشرح:
الحديث النبوي هو ثاني الأدلة والمصادر العامة في علم التوحيد وهو ينقسم
إلى حديث متواتر وإلى آحاد، فالحديث المتواتر يفيد العلم أي القطع أي ما نسبته
100 % كالقرآن من حيث الثبوت وهو إما قطعي الدلالة أو ظني الدلالة كالقرآن.
ولا يسلم لدعوى التواتر في حديث إلا بعد الفحص والنظر والتتبع (71).
وحديث الآحاد يفيد الظن ولا يفيد العلم على الصحيح كما سيأتي إن شاء
الله تعالى في فصل خاص مفصلا.
والظن هو النسبة التي تتراوح من 51 % - 99 % فإذا صارت النسبة 50 % صار
شكا وأقل من ذلك يقال له وهم كما هو مقرر في علم الأصول.
وإذا عرفنا بأن القرآن الكريم يجب فهمه بمقتضى لسان العرب الذين نزل
القرآن بلغتهم وبضوابط قواعد التوحيد المبثوثة في نصوص الكتاب والسنة فينبغي
أن نعرف أن فهم نصوص الحديث النبوي يخضع أيضا لتلك الضوابط، وقد نص
عليها أهل العلم وبينوها، قال شيخنا الإمام المحدث سيدي عبد الله ابن الصديق
الغماري أعلى الله درجته في كتابه (فتح المعين) ص (12):



(71) وكتاب العلامة الكتاني (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) لا يسلم له بتواتر جميع ما
هو مذكور فيه، بل إن فيه ما هو ضعيف وآحاد، وكذا مثله من كتب المتواتر فتنبه لذلك.
121
([أولا]: الفروع الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات مبنية على الظن،
واليقين فيها قليل ولذلك حصل فيها الخلاف بين الصحابة والتابعين وأئمة
المذاهب، وكان فيهم المخطئ والمصيب، ولم يضلل أحد منهم مخالفه إذا أخطأ
بل يعتقدون أنهم جميعا على هدى وسنة وأن المخطئ مأجور على اجتهاده.
أما التوحيد فالأمر فيه يختلف لأن اليقين في مسائله مطلوب حتما خصوصا
ما يتعلق بصفات الله تعالى، فلا يجوز أن نثبت له صفة إلا بشروط:
أحدها: أن يثبت التصريح بها في آية أو حديث مقطوع به.
ثانيها: ألا يدخلها احتمال المجاز أو التأويل.
ثالثها: ألا يكون من تصرف الراوي إذا جاءت في حديث). انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (13 / 354):
(ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال).
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (1 / 225) أيضا:
[قوله (حدثوا الناس بما يعرفون)... وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي
أن يذكر عند العامة (72)، ومثله قول ابن مسعود:
(ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه) رواه
مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج
على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات (73)، وأبو يوسف في الغرائب، ومن



(72) وقد نقل هذه الفقرة الطويلة متناقض عصرنا!! في صحيحته (3 / 299) ولم يذكر في أولها
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ لأنه يصادم رأيه وهواه!! فالله المستعان!!
(73) فالمجسمة يكونون بذلك قد خالفوا منهج السلف فحدثوا العامة بالأحاديث التي يسمونها
بأحاديث الصفات فشوشوا بذلك قلوب العامة!! فوجب علينا الايضاح والبيان لإخراج
العامة من الحيرة واللبس!!
122
قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه
عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها
وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط
ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد (74)،
فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم).
ولنبين بعض ما يتعلق بموضوع الاحتجاج بالسنة في العقائد من الأمور
المهمات التي يكثر الكلام فيها في هذا الباب فنقول:



(74) قوله (وظاهره في الأصل غير مراد) فيه دليل واضح على وجوب التأويل وبيان المعاني
التي لا يفهمها من ينظر إلى ظواهر الألفاظ!! فافهم.
123
فصل
أثبات أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم
عند السلف وأئمة المحدثين
وأنه لا يبنى عليه أصول الاعتقاد
إعلم يرحمك الله تعالى أن العلماء الحفاظ المتقنين نصوا على أن حديث الآحاد
يفيد الظن وأن الحديث المتواتر يفيد العلم، وعلى ذلك فلو عارض حديث الآحاد
نص القرآن أو حديث متواتر أو إجماع أو الدليل العقلي المبني على قواعد الكتاب
والسنة أسقط الاحتجاج بخبر الآحاد لمعارضته لما يفيد القطع والعلم وإنني أفتتح
بذكر كلام شيخ المحدثين في وقته وهو الحافظ الخطيب البغدادي لأنه استوعب
ما ذكرته هنا، ثم أردف ذلك بدليل من السنة الصحيحة على هذه المسألة ثم
أذكر أن ما قلته هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف
وأئمة المحدثين، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) (1 / 132):
(باب القول فيما يرد به خبر الواحد:
.... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد
بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا.
والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو
منسوخ.
والثالث: يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له...
والرابع: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق علمه فيدل ذلك

124
على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق
العظيم.
الخامس: أن ينفرد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه
لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية) ا ه‍ كلام الحافظ البغدادي.
وينبغي أن يعرف القاصي والداني أن خبر الآحاد مقبول عندنا، معمول به
في جميع الأبواب إلا في باب أصول العقائد فإننا بالاستقراء التام لها وجدناها قد
ثبتت بالقطعي من الكتاب والسنة ولأن المطلوب في هذا الباب عقد القلب على
الثابت الذي لا يطرأ عليه خطأ ولا وهم كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى
مفصلا، فإياك أن تمزج بين هاتين القضيتين:
(الأولى): حديث الآحاد مقبول غير مردود يفيد العمل في جميع الأبواب
الفقهية وفي فروع الاعتقاد إذا لم يعارض معناه القرآن أو ما هو مقطوع به.
(الثاني): أن دلالة حديث الآحاد ظنية وليست قطعية، وبذلك يفارق
القرآن والحديث المتواتر والإجماع.
ومن نظر في قضايا الاعتقاد الأصلية كوجود الله تعالى، وقدمه، وعدم
مشابهته لخلقه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وإثبات اليوم الآخر والحساب
والعذاب والثواب والمعاد والجنة والنار وأشباه هذه الأشياء وجدها قد ثبتت في القرآن
بأدلة قطعية الدلالة والثبوت، وهي أصول الاعتقاد وليست محتاجة لأحاديث آحاد
وهذه هي أصل الدعوة التي كانت تصل إلى البلدان والنواحي بطريق الاستفاضة
والتواتر، وكان رسول الله ص إذا بعث رسله إلى النواحي والأقطار بعثهم ليشرحوا
لهم أحكام الإسلام التي وصلت إليهم بطريق التواتر والاستفاضة مجملة، على
أننا لا نسلم البتة بأن النبي ص كان يرسل إلى النواحي رجلا واحدا فتصل إلى
أهل تلك النواحي الأحكام والعقائد بطريق هذا الواحد، وبذلك لا يصح لهذا
القائل الاستدلال على أن العقائد يؤخذ بها بخبر الواحد.

125
ونوضح فنقول: إعلم أن أحكام الإسلام كانت تصل إليهم بطريق التواتر
وإليك بعض ذلك:
أول ما بعث ص واستفاض أمره استفاض أيضا أصل ما يدعو إليه، وذلك
أن رسول الله ص كان يلتقي في الموسم عند حج العرب إلى مكة بأفراد كل قبيلة
تحج فيدعوهم إلى ما أمره الله تعالى به من أصول التوحيد الذي بعث به، وبقي
ص يبلغهم مدة إقامته في مكة وهي الثلاث عشرة سنة قبل أن يهاجر، وهذا مما
يجعل أصول دعوته في التوحيد تنتشر عنه إلى النواحي وقبائل العرب بعدد التواتر
لا محالة، لأن كل قبيلة من قبائل العرب لا يتصور أن يفد ويحج منها أقل من
عشرة أنفس.
ثم لما هاجر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم استفاض الأمر أكثر وانتشر
بين القبائل وفي البلدان وذاع أصل ما يدعو إليه أكثر وأكثر، وأوسع وأبلغ وأشهر،
وكانت الوفود من قبائل العرب ترد عليه وفيهم أهل التواتر بلا مثنوية وإليك أمثلة
على بعض ذلك معزوة موثقة:
1 - قوم مسيلمة الكذاب قدموا على النبي ص وكانوا وفدا كبيرا واجتمعوا به ص
ونقلوا ما أخذوه عنه ص إلى قومهم نقل أهل التواتر، روى البخاري في صحيحه
(فتح 8 / 89) وغيره من حديث سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله ص فجعل يقول: إن جعل لي
محمد الأمر من بعده تبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه (75)، فأقبل إليه رسول
الله ص ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله ص قطعة جريد،
حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها
ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه



(75) تدبر قوله فيه (وقدمها في بشر كثير من قومه) وأنه بالتقاء هؤلاء البشر بالنبي ص يحصل
نقل أصل التوحيد إلى أهل اليمامة بواسطتهم بالتواتر.
126
ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف عنه ص) هذا لفظ البخاري في
صحيحه.
فهذا مثال على من كان يرد من الوفود على رسول الله ص.
2 - وأما مثال من كان يرسلهم رسول الله ص إلى القبائل والبلدان ليعلموهم فأمام
أعيننا قصة قراء بئر معونة رضي الله عنهم الذين غدر بهم وكانوا سبعين رجلا
أرسلهم ص ليعلموا إحدى القبائل وهم يزيدون على عدد التواتر بكثير وقصتهم
في البخاري (16 / 19 فتح) و (7 / 385 فتح).
دحض استدلال من زعم أن خبر الواحد يفيد العلم
بقصة إرسال سيدنا معاذ لأهل اليمن
وهذا سيدنا معاذ الذي بعثه ص إلى اليمن لم يبعثه ص على جمل وحده كما
يتخيل بعضهم، بل ذهب في جماعة من الصحابة كما هو المعروف والمألوف وكان
هو على رأسهم، ففي تاريخ الحافظ ابن جرير الطبري (2 / 247):
(عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري السلمي وكان فيمن بعث النبي
ص مع عمال اليمن في سنة عشر بعدما حج حجة التمام: وقد مات باذام، لذلك
فرق عملها بين شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني (76)، وعبد الله بن قيس
أبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد بن العاص، والطاهر بن أبي هالة،
ويعلى بن أمية، وعمرو بن حزم، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياض
وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي.. ومعاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلما
لأهل البلدين: اليمن وحضرموت) ا ه‍. وانظر تخريج الحافظ ابن حجر للكشاف
(4 / 55).



(76) الهمداني: بفتح الهاء وإسكان الميم وفتح الدال المهملة قبيلة باليمن وهو المراد هنا.
وأما الأسماء الأخرى التي فيها الهمذاني بفتح الهاء والميم والذال المعجمة بلدة بناها
همذان بن الفولج بن سام بن نوح في بلاد فارس.
127
قلت: فهؤلاء بعض من كان مع سيدنا معاذ حين بعثه ص إلى اليمن من
المسؤولين ما عدا الآخرين الذين كانوا أيضا بصحبته، والمترددين من أهل اليمن
بين بلادهم والمدينة ممن نقل أصل الدعوة وأصول التوحيد والعقيدة إلى تلك
البلاد كالأشعريين الذين منهم أبو موسى الأشعري وأصحابه، فأين هذا عن عقل
من يتخيل أن سيدنا معاذا ركب جملا وحده وذهب مبعوثا فريدا إلى اليمن من
علمه بنهي النبي ص عن سفر الرجل وحده؟!
روى البخاري في (الصحيح) (6 / 138): من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده).
وأزيد مؤكدا على أن النبي ص لم يبعث إلى ناحية من النواحي رجلا واحدا
وإنما كان يبعث بعثا - عددا من الصحابة - وإنما كان يسمى الرجل الواحد منهم
لأنه أمير ذلك البعث بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده (5 / 356) أثناء قصة عن
بريدة قال:
(بعث رسول الله ص بعثين إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب...)
وإسناده حسن، وفيه تأكيد أيضا على أن سيدنا معاذا كان في بعث - أي جماعة - لما
ذهب ولم يكن وحده، فبطل استدلال من يستدل بقصته في خبر الآحاد والحمد لله.
وهل بعد هذا البيان والايضاح يصح لعاقل أن يستدل على أن خبر الواحد يفيد
العلم أو نحو هذه المغالطات بقصة سيدنا معاذ رضي الله عنه؟!

128
دحض استدلال من زعم أن خبر الواحد يفيد العلم
بقصة إرسال سيدنا مصعب لأهل المدينة قبل الهجرة
وقال قوم: إن في إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيدنا مصعب بن
عمير إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها صلى الله عليه وآله وسلم ليعلم أهلها الدين
دليل واضح على قبول خبر الواحد في العقائد وجعله أصلا تبنى عليه!!
ونقول: إن هذا من أعجب العجب!! وهذه مغالطة واضحة!! أولم يتذكر
هؤلاء أن أهل المدينة (الأوس والخزرج) قد اجتمعوا به ثلاث مرات وقد عرض
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرات الثلاث عليهم الإسلام، ففي أول
مرة اجتمع بستة أو ثمانية منهم (روايتان) ثم عادوا في العام التالي فبايعوه بما يسمى
(بيعة العقبة الأولى) وكانوا اثنى عشر رجلا، وقد ذكر الحافظ ابن جرير في
(تاريخه) (1 / 558) أسماءهم وهذا يحصل التواتر قطعا وليس في ذلك ما يصح أن يقال
فيه أنه خبر آحاد، ومما جاء من النصوص في ذلك:
قال البخاري في صحيحه (7 / 219): [باب وفود الأنصار إلى النبي ص بمكة
وبيعة العقبة] ثم روى فيه عن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال:
(إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله ص وقال: وقد بايعناه على أن لا نشرك
بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني....).
وقال الحافظ في الشرح هناك (7 / 220):
(قال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه
(قالوا) (77): لما رآهم النبي ص قال: من أنتم؟ قالوا من الخزرج. قال: أفلا



(77) في الفتح (قال) وفي (تاريخ ابن جرير) (1 / 558) (قالوا) وهو الأصح الذي أثبتناه
هنا. وعاصم بن عمر هذا خزرجي وهو من رجال الصحيحين إمام ثقة عالم بالمغازي.
وروايته هنا متصلة لأن الأشياخ الذين حدثوا بالقصة قد اجتمعوا بالنبي ص فهم صحابة
ثقات ولا يضر تصحيح حديثهم هنا إبهامهم فافهم!!
129
تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا
عليهم القرآن..... فآمنوا وصدقوا وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم فلما
أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله ص، حتى إذا كان الموسم
وافاه منهم اثنا عشر رجلا) وهو حديث صحيح.
ثم عادوا في العام التالي مع مشركي قومهم وكانوا ثلاثة وسبعين أو سبعين
رجلا [كما تجد ذلك في (صحيح ابن حبان) (15 / 471)، و (دلائل النبوة) (2 / 442) للإمام البيهقي، و (الفتح)
(7 / 221)].
وفي البخاري أيضا (7 / 219) عن كعب بن مالك رضي الله عنه [وهو من
الأنصار ومن السبعين الذين شهدوا العقبة كما في ترجمته في (تهذيب الكمال)
(24 / 194)] قال (ولقد شهدت مع النبي ص ليلة العقبة حين تواثقنا على
الإسلام).
وفي البخاري (7 / 260) عن البراء بن عازب رضي الله عنه (وهو أنصاري
أوسي) قال: (أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ثم قدم علينا
عمار بن ياسر وبلال رضي الله عنهم).
وقال الحافظ في (الفتح) (7 / 261): [وقد تقدم في أول الهجرة (إن أول من
قدم المدينة من المهاجرين عامر بن ربيعة ومعه امرأته أم عبد الله بن حثمة،
وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة،
وشماس بن عثمان بن الشريد، وعبد الله بن جحش) فيجمع بينه وبين حديث
البراء.....] ا ه‍.
وبذلك يتبين لنا أن أصول دعوة الإسلام وما يطلب فيه التواتر من
الضروريات التي هي أصل الإسلام ولبه كانت قد حصلت ووصلت لأهل المدينة
قبل الهجرة بالتواتر، ثم ما نقله مصعب من المعلومات لأهل المدينة شهد له النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بأنها علم مأخوذ عنه ص بحضور عدد التواتر.

130
وقد جاء في روايات منها عند البيهقي في (دلائل النبوة) (2 / 438): (عن
عبد الله بن المغيرة بن معيقيب قال: بعث رسول الله ص مصعب بن عمير....
إلى المدينة يفقه أهلها ويقرئهم القرآن....).
ثم إن أصول ما كان يدعو إليه ص كان قد انتشر بواسطة حديث أهل مكة
في تجاراتهم وفي لقاء اتهم وفي اتصال العرب بهم ورواحهم وقدومهم وترددهم
لحاجاتهم إلى مكة إلى غير ذلك مما أدى إلى انتشار ومعرفة أصول الدين الذي كان
يدعو إليه ص ومبادئه.
وإذا وصلنا إلى مثل هذا المقام وانتسفت أدلة من يجعل خبر الواحد دليلا في
أصول الاعتقاد ويزعم أنه يفيد العلم فلا بد أن نذكر أدلتنا في ذلك فنقول وبالله
تعالى التوفيق.
نص النبي ص على أن حديث الآحاد لا يفيد العلم:
1 - ثبت في صحيح البخاري (فتح 1 / 566) ومسلم (1 / 403 برقم 573) أن ذا اليدين
قال لرسول الله ص لما صلى الظهر أو العصر ركعتين:
(يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟! فقال له: لم أنس ولم تقصر
ثم قال للناس: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك ثم
سلم....) ا ه‍.
قلت: لما قال ذو اليدين لرسول الله ص (أنسيت أم قصرت الصلاة)
أفاد ذلك عند رسول الله ص الظن لاحتمال الوهم والخطأ على ذي اليدين مع كونه
راويا عدلا ضابطا ثقة وهو صحابي، فسأل رسول الله ص الناس وفيهم أبو بكر
وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما صدقوا خبر ذي اليدين وهم عدد التواتر تحقق
عند رسول الله ص الخبر وأفاد العلم.
فاستفدنا من ذلك أن خبر الواحد وهو ذو اليدين لم يفد عند رسول الله ص

131
إلا الظن لا أنه لا يعمل به، بدليل أن أحاديث أخرى من أخبار الآحاد عمل
بها الصحابة بإقرار النبي ص لهم.
أما حديث انحراف أهل قباء أثناء صلاة الجماعة لما أتاهم آت فشهد أن النبي
ص توجه نحو القبلة كما في البخاري (فتح 1 / 502) فقد ذكر الحافظ أن هناك رواية
في صحيح البخاري بدل (رجل): (رجال) وهي رواية المستملي والحموي
لصحيح البخاري انظر الفتح (1 / 503) وهذا مما يعكر الاستدلال بهذا الحديث
بخبر الواحد جزما.
والبخاري رحمه الله تعالى أورد في صحيحه حديث ذي اليدين في كتاب أخبار
الآحاد مما يدل على رفض خبر الواحد إذا ارتيب فيه وكذا أورد غيره مما يؤكد أن
خبر الواحد الذي لم يعارض حجة في العمليات دون الاعتقاديات، وهذا يدلنا
دلالة أكيدة على أن البخاري يرى أن من أخبار الآحاد الصحيح ما هو مقبول
ومنه ما هو غير ذلك، ويشهد لهذا ويعضده أن السلف من أئمة الحفاظ
والمجتهدين والمحدثين ردوا أخبارا أسانيدها صحيحة في الظاهر ولم يقبلوها ومنها
ما هو في الصحيح كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى عن الإمام أحمد بن حنبل
وغيره، ولم يعهد عن أحد منهم أنه رد آية في كتاب الله تعالى مما يدل ويؤكد أن
القرآن يفيد العلم ولا يجوز رده بحال وأن الحديث الصحيح يفيد الظن فيجوز
رده بما هو أقوى منه إن عارضه ولم يمكن الجمع وسيأتي في ذلك أمثلة عديدة لا
تجعل في ما قررناه أدنى شك وبالله تعالى التوفيق.
رد الصحابة بعض أحاديث الآحاد الثابتة واستيثاقهم منها أحيانا أخرى
2 - روى الإمام مسلم في (الصحيح) (2 / 1118) أن فاطمة بنت قيس جاءت إلى
سيدنا عمر تروي أن زوجها كان قد طلقها على عهد رسول الله ص فبت طلاقها،
فلم يجعل لها رسول الله ص نفقة ولا سكنى، وقال لها (اعتدي في بيت ابن أم
مكتوم فإنه رجل أعمى) فلم يقبل سيدنا عمر ذلك منها وقال: (لا نترك كتاب

132
ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت) قال الله عز وجل:
* (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *.
قلت: وثبت في مسلم (2 / 1116) أيضا إنكار السيدة عائشة لذلك، مثل
سيدنا عمر رضوان الله تعالى عليهما.
فانظر هنا كيف لم يقبل سيدنا عمر خبر فاطمة بنت قيس مع كونها صحابية
موثوقة لمعارضة خبرها للآية، ومنه يتبين أن خبر الواحد يحتمل الخطأ ويرد إذا
عارض ما هو ثابت ومقطوع به، وإذا كان سيدنا عمر رضي الله عنه قد رد خبر
الواحد في مسألة فقهية فما بالك في مسألة عقائدية تحتاج لنص مقطوع به لا يجوز
أن يدخله الخطأ والغلط؟!!
3 - ردت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها على سيدنا عمر رضوان الله عليه
في حديث (تعذيب الميت ببكاء أهله عليه).
روى البخاري (فتح 3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 638 - 642) أن سيدنا عمر وابنه سيدنا
عبد الله رويا عن رسول الله ص أنه قال: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)
فردت ذلك السيدة عائشة وقالت كما في صحيح مسلم (برقم 27 في الجنائز) عن عمرة
أنها سمعت السيدة عائشة وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب
ببكاء الحي. فقالت السيدة عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب،
ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مر رسول الله ص على يهودية يبكى عليها فقال: (إنهم
ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها).
قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في (شرح صحيح مسلم) (6 / 228):
(وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما،
وأنكرت عائشة، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن بكون النبي
ص قال ذلك واحتجت بقوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * قالت: وإنما
قال النبي ص في يهودية إنها تعذب وهم يبكون عليها يعني تعذب بكفرها في حال

133
بكاء أهلها لا بسبب البكاء) ا ه‍.
قلت: وجاء في عدة أحاديث أن النبي ص بكى على الميت وسكت عمن
بكى على الميت أيضا.
فمن تأمل هذا الحديث (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) الثابت في
الصحيحين وهو من أخبار الآحاد ورد السيدة عائشة له بالنص القطعي في القرآن
* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * عرف أن حديث الآحاد ولو رواه عن النبي ص
اثنان فإنه لا يفيد إلا الظن، وما لا يفيد إلا الظن أي يحتمل فيه الخطأ كيف
تبنى عليه العقائد؟!!!
وهل يجوز أن يعتقد المسلم في ذات الله تعالى بأشياء يحتمل أن يظهر له بعد
ذلك أنها خطأ؟!!
ولماذا سميت عقيدة إذن إذا لم تكن مبنية على الثوابت التي لا يمكن أن يطرأ
عليها ما يزيلها؟!!
4 - ردت السيدة عائشة على من قال أو روى أن سيدنا محمد ص رأى ربه وهو
ابن عباس رضي الله عنه وغيره، ففي صحيح مسلم (1 / 158 برقم 284 و 285) عن
عطاء عن ابن عباس قال: (رآه بقلبه) وقال: (رآه بفؤاده مرتين).
قلت: وقد قال الحافظ في (الفتح) (8 / 608) أن النبي ص قال (رأيت
ربي)، وذكر قبل ذلك بتسعة أسطر أن ابن خزيمة روى بإسناد قوي عن سيدنا
أنس أنه قال: (رأى محمد ربه).
قلت: ردت السيدة عائشة رضي الله عنها جميع ذلك كما في البخاري (فتح
8 / 606) ومسلم (1 / 159 برقم 287) عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها:
يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: (لقد قف شعري مما قلت، أين أنت
من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب،

134
ثم قرأت * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * * (وما
كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) *...).
قلت: فانظر كيف ردت السيدة عائشة التي تفقهت على رسول الله ص
الظني بالقطعي.
فهذا فكر مدرسة سيدنا رسول الله ص.
5 - وردت السيدة عائشة رضي الله عنها على من قال: (بال رسول الله ص
قائما) لأنها لم تره ص يبول إلا قاعدا أو أنه أخبرها بذلك فكأن ذلك من اليقينيات
عندها، ومن حدث أنه بال قائما مظنون عندها. فرؤياها له أو تحديثه لها يقيني
عندها ورواية من قال: (بال قائما) ظني عندها فردته.
روى البيهقي (1 / 101) عن السيدة عائشة قالت:
(ما بال رسول الله قائما مذ أنزل عليه القرآن) (78) وعند النسائي (1 / 26)
والترمذي (1 / 17) وابن ماجة (1 / 112 برقم 307) بلفظ: (من حدثكم أن النبي ص
كان يبول قائما فلا تصدقوه).
6 - وأنكرت السيدة عائشة على أبي هريرة في حديث آخر أيضا:
روى أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 199) بسند صحيح على شرط مسلم عن
علقمة قال كنا عند عائشة فدخل عليها أبو هريرة فقالت يا أبا هريرة أنت الذي
تحدث أن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقها فقال أبو هريرة سمعته
من النبي ص، فقالت عائشة:
أتدري ما كانت المرأة؟! قال: لا، قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت
كافرة، إن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول
الله ص فانظر كيف تحدث.



(78) رواه أيضا الحاكم في المستدرك (1 / 181) وصححه ووافقه الذهبي وهو على شرط مسلم.
135
وفي هذا الإنكار بيان مريح بأن خبر الواحد يحتمل الخطأ فكيف يبنى عليه
أصل الدين؟!
7 - وأنكرت السيدة عائشة أيضا على أبي هريرة رضي الله عنه في حديث آخر:
روى أبو داود الطيالسي (ص 215) عن مكحول قيل لعائشة إن أبا هريرة يقول
قال رسول الله ص: (الشؤم في ثلاثة في الدار والمرأة والفرس) فقالت عائشة:
لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله ص يقول قاتل الله اليهود يقولون إن الشؤم
في ثلاثة في الدار والمرأة والفرس سمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
قلت: مكحول لم يسمع من السيدة عائشة كما في (الفتح) (6 / 61) إلا أن
لهذا الأثر أو الحديث متابع قال الحافظ هناك:
روي أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: أن رجلين
من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله ص قال:
(الطيرة في الفرس والمرأة والدار) فغضبت غضبا شديدا وقالت: ما قاله! وإنما
قال: (إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك).
قلت: والأصل لا طيرة في الإسلام من شئ وإنما المشؤوم العمل السئ
الطالح الذي يجر صاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: * (قالوا
إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم
معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) * يس: 18 و 19، وجاء في الحديث أن النبي
ص قال: (الطيرة شرك) قال الحافظ المنذري في الترغيب (4 / 64): (رواه أبو داود
والترمذي وقال: حسن صحيح) لذلك ردت السيدة عائشة رضي الله عنها
ذلك، وظهر لنا بردها أن الراوي لخبر الآحاد ولو كان في أعلى مراتب التوثيق كأبي
هريرة الصحابي رضي الله عنه فإن خبره يفيد الظن ولا يفيد العلم ولذلك جاز
ردة خلافا للآية والخبر المتواتر.

136
8 - خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم عند سيدنا أبي بكر الصديق رضي
الله تعالى عنه:
قال الحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1 / 2):
(وكان - أبو بكر - أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن
قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد
لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله ص ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس
فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله ص يعطيها السدس، فقال له: هل معك
أحد؟! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه) (79) ا ه‍.
9 - خبر الواحد يفيد الظن دون العلم عند سيدنا عمر رضي الله عنه أيضا:
قال الحافظ الذهبي في ترجمة سيدنا عمر رضي الله عنه في تذكرة الحفاظ
(1 / 6) ما نصه:
(وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد
إذا ارتاب (80)، فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم
على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال:
لم رجعت؟! قال: سمعت رسول الله ص يقول: (إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم
يجب فليرجع).



(79) رواه أحمد في المسند (4 / 225) وابن الجارود في المنتقى (959) وعبد الرزاق في المصنف
(10 / 274) والبيهقي في سننه (6 / 234) والحاكم (4 / 338) وصححه وأقره الذهبي، وابن
حبان في صحيحه (موارد 1224) ومالك في الموطأ (2 / 513) وأبو داود (3 / 121) والترمذي
(4 / 419) وهو صحيح.
(80) ونحن وكل عاقل إن ارتبنا في حديث من أحاديث الصفات لم نقبله لاختلاف ألفاظه
في كل موضع ولمعارضته للقطعي عندنا كما يتبين تفصيل ذلك في التعليق على أحاديث
(دفع شبه التشبيه).
137
قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه
ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟
فقلنا: نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره (81).
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر، ففي هذا
دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد،
وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن
إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك
على ثقتين لم يخالفهما أحد) ا ه‍ كلام الحافظ الذهبي.
فالحافظ الذهبي أيضا ممن يقول إن خبر الواحد يفيد الظن وأن الخبر كلما
ازداد رواته ارتقى إلى درجة العلم أكثر وقرب منها.
10 - خبر الواحد ينبغي التثبت منه ولو كان راويه صحابيا ويفيد الظن عند
الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه:
روى الإمام أحمد في المسند (1 / 10) بإسناد صحيح عن أسماء بن الحكم
الفزاري قال: سمعت عليا قال: كنت إذا سمعت من رسول الله ص حديثا
نفعني الله به بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيري عنه استحلفته، فإذا
حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: قال رسول الله ص: (ما
من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله
تعالى إلا غفر الله له) ثم تلا: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم
ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا
وهم يعلمون) * الآيات آل عمران: 136.
أقول: لو كان خبر الواحد يفيد العلم ولا يفيد الظن لاكتفى سيدنا علي عليه
السلام ورضي الله عنه بسماع خبر الواحد ولما استحلفه لأنه باستحلافه يؤكد



(81) رواه البخاري (فتح 11 / 27) ومسلم وغيرهما.
138
خبره، أو يصرح الراوي بأنه غير متأكد من الخبر، هذا وليس في السند بالنسبة
لسيدنا علي كرم الله وجهه إلا رجل واحد وهو صحابي، فكيف بسند فيه خمسة
رجال مثلا، ليس جميعهم صحابة؟! ألا يفيد ذلك الظن؟!
خبر الواحد يفيد العمل والظن دون العلم
عند أئمة السلف أيضا
11 - قال الحافظ ابن عبد البر في (التمهيد) (1 / 7):
(واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل
جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب
العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر ولا يوجب العلم
عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال قوم من أهل الأثر وبعض أهل النظر إنه يوجب العلم الظاهر (82) والعمل



(82) أي علم الفروع دون الأصول - أي العقيدة -.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في المستصفى (1 / 145):
[القسم الثاني من هذا الأصل: في أخبار الآحاد. وفيه أبواب:
الباب الأول: في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم. وفيه أربع مسائل:
مسألة: إعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر.
المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد، وأما قول الرسول
عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد. وإذا عرفت هذا فنقول: خبر
الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا
وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أن ذلك
يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا
قال بعضهم: يورث العلم الظاهر. والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو
الظن] ا ه‍.
أقول: والصواب في قوله (وما حكي عن المحدثين) أن يقال بدله: عن بعض
المحدثين، لأن جمهور أهل الحديث يقولون بأن حديث الواحد وخبر الآحاد يفيد الظن
ولا يفيد العلم.
وقد اعترض علينا معترضون في هذا النقل عن الحافظ ابن عبد البر وزعموا بأننا لم ننقل
تمام كلامه، وليس هذا بشئ!! بل إن كلامه الذي زعموا أننا لم نذكره لن يفيدهم
شيئا لأن ظاهره يوهم أنه يناقض ما جزم به ابن عبد البر هنا وفي مواضع متعددة من
كتبه منها قوله في التمهيد (7 / 17) بعد ذلك:
(فالله أعلم بما أراد رسول الله ص بقوله (في السماء) إن كان قاله، فإن أخبار الآحاد
لا يقطع عليها)، ومنها قوله أيضا في التمهيد (9 / 285): (لأن أخبار الآحاد لا يقطع
على عينها وإنما توجب العمل فقط).
فتأمل جيدا!!
139
جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خوازمنداد أن هذا القول يخرج
على مذهب مالك (83)، قال أبو عمر - ابن عبد البر -:
(الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة
سواء وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر) انتهى كلامه.
12 - والإمام الشافعي يصرح بذلك أيضا:



(83) هذا قول شاذ لا يثبت عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وذاكره ابن خويزمنداد مشهور
بنقل الأقوال الشاذة عن الإمام مالك كما بين ذلك الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان)
(5 / 291 هندية) حيث قال:
(عنده شواذ عن مالك، واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب كقوله
إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار وأن خبر الواحد مفيد العلم... وقد تكلم
فيه أبو الوليد الباجي، ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه، وكان يزعم أن مذهب
مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم ولا يجوز شهادتهم ولا أماناتهم، وطعن ابن عبد البر
فيه أيضا) انتهى.
فتأمل!!
140
قال سيدنا الإمام الشافعي رحمة الله عليه ورضوانه:
(الأصل القرآن والسنة وقياس عليهما، والإجماع أكبر من الحديث
المنفرد) ا ه‍ رواة عنه: أبو نعيم في (الحلية) (9 / 105) وأبو حاتم في (آداب
الشافعي) (231 و 233) والحافظ البيهقي في (مناقب الشافعي) (2 / 30).
قلت: إنما قال الإمام الشافعي (الإجماع أكبر من الحديث المنفرد) لأن
الإجماع يفيد العلم والقطع والحديث المنفرد الذي هو الآحاد يفيد الظن فقط،
فتأمل وتدبر.
13 - وعلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى أيضا:
قال الإمام الحافظ البخاري رحمه الله تعالى في كتاب أخبار الآحاد من صحيحه
(فتح 13 / 231) ما نصه:
(باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم
والفرائض والأحكام) ا ه‍.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه عليه:
(وقوله والفرائض بعد قوله: في الأذان والصلاة والصوم من عطف العام على
الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للاهتمام بها، قال الكرماني: ليعلم إنما هو في
العمليات لا في الاعتقاديات) ا ه‍ من الفتح.
14 - الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لا يفيد خبر الواحد عنده إلا الظن
ومتى عارضه شئ من القطعي أو ما هو أقوى منه ضرب عليه، ولو كان يفيد
العلم لما ضرب عليه، وهذا مذهبه الذي كان عليه في مرضه الأخير الذي توفي
فيه.
روى البخاري (فتح 6 / 612) ومسلم (2917) وأحمد في المسند (2 / 301) حديث:
(يهلك أمتي هذا الحي من قريش قالوا ما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو

141
أن الناس اعتزلوهم).
قال عبد الله ابن الإمام أحمد هناك في المسند عقب هذا الحديث مباشرة:
[قال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث فإنه خلاف
الأحاديث عن النبي ص يعني قوله (اسمعوا وأطيعوا واصبروا)].
قلت: الأحاديث التي فيها (اسمعوا وأطيعوا واصبروا) أفادت عند الإمام
أحمد القطع أو ما قارب العلم، وحديث (لو أن الناس اعتزلوهم) ظني عارض
الثابت عنده فأسقطه الإمام أحمد، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الخبر الذي
صح إسناده يفيد الظن عنده ولا يفيد العلم، ولو أفاد العلم أو غلب على ظنه
أنه صح لأوله كما أول حديث مسلم: (تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان)
فقال: (إنما هو الثواب) ولم يأمر بالضرب عليه! فنستطيع أن نقول: أحاديث
الصحيحين لا تفيد إلا الظن عند أحمد ويمكن الضرب على بعضها إذا تبين فيها
خلل كما فعل هو في مسنده.
الأئمة وكبار الحفاظ والمحدثين على ذلك أيضا
15 - قال شيخ المحدثين في وقته الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه: (الكفاية
في علم الرواية) ص (432):
(باب ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
خبر الواحد لا يقبل في شئ من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم
بها والقطع عليها، والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله ص
كان أبعد من العلم بمضمونه فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا
العلم بأن النبي ص قررها وأخبر عن الله عز وجل بها فإن خبر الواحد فيها مقبول
والعمل واجب).
وقال مثله ص (25) في الكفاية وعقد بابا سماه:

142
(ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها).
16 - الإمام الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى يقول ذلك أيضا:
قال الحافظ البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات). ص (357):
(ولهذا الوجه من الاحتمال، ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار
الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع
واشتغلوا بتأويله) ا ه‍.
17 - الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى يصرح بذلك أيضا:
قال الإمام الحافظ النووي في (شرح مسلم) (1 / 131):
(وأما خبر الواحد، فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له
واحدا أو أكثر، واختلف في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة
والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن خبر الواحد
الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد
العلم....) ا ه‍.
18 - الحافظ ابن حجر العسقلاني يرى أيضا أن حديث الآحاد يفيد الظن ولا
يفيد العلم وكذلك الشيخ علي القاري في شرح النخبة:
قال الحافظ ابن حجر الشافعي في شرح نخبة الفكر والشيخ علي القاري
الحنفي في شرحه عليها ص (37) ما نصه وما بين الأقواس وبالأسود الواضح كلام
الحافظ ابن حجر:
[(وفيها أي في الآحاد) أي في جملتها خاصة... (المقبول وهو ما يوجب
العمل به عند الجمهور) احتراز عن المعتزلة فإنهم أنكروا وجوب العمل بالآحاد
بدليل ما نفل عنهم من استدلال بخبر الواحد (وفيها) أي أحاديث الآحاد
(المردود وهو الذي لم يرجح صدق المخبر به لتوقف الاستدلال بها على البحث

143
عن أحوال رواتها دون الأول) أي القسم الأول وهو المتواتر (فكله) ضميره راجع
إلى المتواتر (مقبول) أي قبولا قطعيا لا ظنيا (لإفادته) أي الخبر المتواتر (القطع
بصدق مخبرة بخلاف غيره من أخبار الآحاد)] ا ه‍ من شرح القاري على شرح
النخبة لابن حجر، [وانظر نزهة النظر شرح النخبة للحافظ أيضا ص (25 - 26) طبع دار الكتب العلمية
بيروت 1401 ه‍].
19 - الإمام الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي (84) المتوفى (429 ه‍) يرى ذلك
أيضا:
قال الأستاذ البغدادي في كتابه (أصول الدين) ص (12) ما نصه:
(وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت
موجبة للعمل بها دون العلم) ا ه‍.
20 - اعتراف ابن تيمية الحراني في (منهاج سنته) بأن خبر الآحاد لا يبنى عليه
أصل الاعتقاد:
لقد اعترف ابن تيمية في (منهاج سنته) (2 / 133) بذلك فقال:
(الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح
الإيمان إلا به؟!) ا ه‍.
قلت: وأستطيع أن أقول بعد هذا البيان المفصل أن حديث الآحاد لا
يفيد إلا الظن ولا يجوز أن نبني عليه أصول الاعتقاد وخصوصا إذا كان في رواته
من هو متكلم فيه، أو كان معارضا بما هو أقوى منه، ومن شاء الزيادة في ذلك
فليقرأ وليتدبر ما كتبناه من تعليقات على كتاب (دفع شبه التشبيه) فإنه سيخرج
بنتيجة قطعية في هذه المسألة والله الموفق (85).



(84) وقد وصفه بالأستاذ الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) (13 / 345).
(85) وأما ما يستدل به بعض الطلبة المبتدئين الذين لا غور لهم في فهم أدلة الشرع على
حجية خبر الواحد في العقائد بقوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون) * فلا علاقة لها بموضوعنا هذا. وذلك لأن هذه الطائفة مؤمنة بنص الآية وقد
حصل لديها وللفرقة التي نفرت منها الإيمان بأصول الدين والعقائد قبل ذلك. والمطلوب
منها هو التفقه في دقائق الشرع ليعرفوا فرقتهم بالأحكام التفصيلية التي لا يشترط فيها
التواتر بل يكفي فيها خبر الواحد، فإذا علم ذلك فلا ضير في اعتبار الطائفة واحدا
أو أكثر، على أننا لا نسلم البتة بأن الطائفة هي واحد، وقوله في الآية * (لينذروا) *
دليل واضح على أنهم جماعة مع كون هذا النفر يتعلق في غير أصول الدين التي يتناقلها
المسلمون جيلا عن جيل.
قال الإمام القرطبي في تفسيره (8 / 294):
[الثالثة - قوله تعالى: * (فلولا نفر) * قال الأخفش أي فهلا نفر. * (من كل فرقة
منهم طائفة) * الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ
الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة. وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى: * (إن
نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) * رجل واحد ولا شك أن المراد هنا جماعة
لوجهين، أحدهما عقلا، والآخر لغة. أما العقل فلان العلم لا يتحصل بواحد في
الغالب، وأما اللغة فقوله: * (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم) * فجاء
بضمير الجماعة، قال ابن العربي: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن
الطائفة هاهنا واحد، ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو
صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص
الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر].
ونحن نعتقد أن أخبار الآحاد في العقيدة مقبولة لأنها تؤيد ما ثبت بالقطعي لكننا نقول
إن خبر الواحد المعارض بقواعد الشرع الثابتة مرفوض وغير مقبول حتى في الطهارة فما
بالك قي أصول الدين؟!
144
[تنبيه]: واعلم يرحمكم الله تعالى أن حديث الآحاد يفيد الظن دون
العلم حتى عند القائلين بأنه يفيد العلم والذين يصنفون في ذلك ويشنعون على
من يقول بأنه يفيد الظن فقط ولا يفيد العلم!!
وذلك لأن إنكارهم لذلك نظري لا غير على التحقيق، أما عند التطبيق فلا،
فواقعهم عند اشتغالهم بالتصحيح والتضعيف والمحاورة يدل على ذلك، والدليل

145
عليه أنهم حكموا بشذوذ كثير من الأحاديث بعد اعترافهم بصحة سندها!! وأمامنا
أمثلة لا نكاد نحصرها في ذلك منها: أن متناقض عصرنا!! مثلا - الذي يزعم
بأن خبر الواحد يفيد العلم - حكم بشذوذ حديث مسلم (1 / 2148 برقم 2788) الذي
فيه (ثم يطوي الأرض بشماله) في تخريج المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي
ص (132) (86).
ومنها حكمه بالشذوذ على حديث النسائي (2 / 157) الذي فيه عن أم هشام
بنت الحارث (ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من وراء رسول الله ص كان يصلي
بها في الصبح)!! وذلك في (ضعيف النسائي) ص (32) وغير ذلك كثير وكثير
لا يمكننا الآن حصره.
والقول بالشذوذ لا يتم إلا بعد الاعتراف بصحة السند، فيكون خبر الواحد
الشاذ غير مفيد للعلم بل يفيد الخطأ هنا عند هؤلاء، ومنه يتبين أن خبر الواحد
لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن ولذلك رده هؤلاء وهذا خلافا لتعاملهم مع المتواتر
والقرآن حيث لم يستطيعوا رده في أي حال وإنما يقومون بتأويله، مثل تأويلهم المعية
في القرآن بالعلم أو نحوه!!
فتدبروا!!



(86) وقد تكلمنا على ذلك في رسالتنا (تنبيه أهل الشريعة) فليرجع إليها من شاء.
146
قاعدة تتعلق بالاستدلال بنصوص القرآن والسنة
في العقائد وهي التأويل والتفويض فيهما عند السلف
فصل
إثبات التأويل عند السلف
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك
التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين).
الشرح:
إعلم يرحمك الله تعالى أن الله تعالى ذكر التأويل في كتابه العزيز على معنى
البيان والتفسير في آيات كثيرة لا بد أن نذكر بعضها:
قال الله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف أنه قال * (وقال يا أبت هذا تأويل
رؤياي من قبل) * يوسف: 100، أي هذا تفسير وبيان رؤياي التي رأيتها من قبل.
وقال تعالى * (قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه
صبرا) * الكهف: 78، أي سأخبرك ببيان وتفسير هذه الأمور التي لم تستطع الصبر
عليها.
وقال تعالى * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته
عليك) * يوسف: 6، أي يعلمك معاني وبيان وتفسير الأحاديث.
وقال تعالى * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * يوسف: 21، * (وعلمتني من
تأويل الأحاديث) * يوسف: 101، * (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) * يوسف: 44،
* (ذلك خير وأحسن تأويلا) * النساء: 59. والآيات في هذا كثيرة.

147
قال الإمام النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) (القسم الثاني ص 15):
(أما التأويل: فقال العلماء هو صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله،
أوجبه برهان قطعي في القطعيات، وظني في الظنيات، وقيل: هر التصرف في
اللفظ بما يكشف عن مقصوده، وأما التفسير فهو بيان معنى اللفظة القريبة أو
الخفية).
وقال الإمام الراغب في (المفردات) (31):
(التأويل:... وذلك هو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا،
ففي العلم نحو قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) *
وفي الفعل كقول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل، وقوله تعالى * (هل
ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) * أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه، وقوله
تعالى * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * قيل أحسن معنى وترجمة، وقيل أحسن ثوابا
في الآخرة) انتهى.
وقد بين أهل الحديث الذين يعتمد على كلامهم ويرجع إليهم أن الأخذ
بظاهر الألفاظ لا يجوز في بعض النصوص لأنه يؤدي إلى التجسيم والتشبيه،
فصرف اللفظ عن ظاهره متعين ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر في (الفتح)
(13 / 432):
(فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح
له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما
أن يؤولها...).
وقال أيضا في (الفتح) (1 / 225):
(وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة... وضابط ذلك
أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك
عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم).

148
فتلخص أن معنى التأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر
مقصود في لغة العرب التي نزل بها القرآن (87).
واعلم يرحمك الله تعالى أنه قد راج على بعض الناس في هذا العصر أن التأويل
وهو المجاز أو ما يقاربه في المعنى ضلال وانحراف في العقيدة، وأنه من شعار
الجهمية والمعطلة!! وتعدى ذلك إلى نسبة لا بأس بها من طلبة العلم الذين لم
تتضح لهم الحقائق بعد!! فخدعتهم تلك الكتب التي تبحث في موضوع
العقائد والتوحيد، والتي نص مؤلفوها وهم من الخلف على الأخذ بظواهر النصوص
المتعلقة في التوحيد والصفات مما هي في الحقيقة إضافات لا يراد منها إثبات صفات
كما سيمر في صلب كتابنا هذا، كما نصوا على عدم القول بالتأويل وأنه من شعار
الجهمية والمعطلة بزعمهم، فظنوا أن ما يقوله بعض المشبهة من أن التأويل
ضلال وبدعة وتعطيل وتجهم وأنه لم يكن عند السلف حقا، وليس الأمر كذلك
على الحقيقة، بل من قرأ ودرس وفتش وبحث وطالع ونقب فإنه سيجد لا محالة
أن العدول من الأئمة الثقات في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية المسماة عند
بعض العلماء بقرون السلف قد أولوا كثيرا من النصوص المتعلقة بموضوع الصفات
والتوحيد وبينوا أن الظاهر منها غير مراد، وحسبي في مثل هذا المقام أن أسرد
بعض تأويلاتهم وأن أبين قبل ذلك أنهم تعلموا التأويل من كتاب الله تعالى وسنة
سيدنا محمد ص الصحيحة وإليك ذلك:
1 - لقد علمنا الله تعالى (التأويل.) في كتابه العزيز، أي عدم إرادة ظاهر النص
الوارد (88) في قوله تعالى:



(87) وكيفما اختلفت عبارات أهل العلم في تعريف التأويل فمعناها راجع إلى ما قررناه،
ومحاولة بعض المجسمة والمشبهة في التشويش على هذا التعريف والمراوغة فيه محاولة فاشلة
بعد ثبوت الأدلة والبراهين في المسألة، وتحقق هذا الأمر عند السلف الصالح!!
(88) ولا نطالب من اعتقد أن التأويل ضلال مبين أن يسمي ما سنذكره له من الأدلة الواردة
في الكتاب والسنة والأقوال المنقولة عن السلف تأويلا، إذ لا مشاحة في التسمية، وإنما
نريد بيان روح المعني المراد من ذلك وهو عدم إرادة ظاهر تلك النصوص وإنما المراد
من ذلك معنى آخر بلاغي في لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو ما يسمى بالمجاز
أو بأي شئ آخر فتأمل.
149
* (نسوا الله فنسيهم) * التوبة: 67 وقوله تعالى: * (إنا نسيناكم) * السجدة: 14
فبهذه الآيات لا نثبت لله تعالى صفة النسيان وإن ورد لفظ النسيان في القرآن
الكريم، ولا يجوز لنا أن نقول: إن لله نسيانا ولكنه ليس كنسياننا، وذلك لأن
الله عز وجل قال: * (وما كان ربك نسيا) * مريم: 64.
ولا يحل لرجل عاقل بعد هذا أن يقول: (ينسى لا كنسياننا، ويجلس لا
كجلوسنا، وهو في السماء ليس كمثله شئ، كما نقول: هو سميع ليس
كسمعنا، وهو بصير ليس كبصرنا...).
فإن غالط مغالط وقال: لماذا لا نقول: يضحك لا كضحكنا وينسى لا
كنسياننا ويمل لا كمللنا؟!!
قلنا له: قولك لا كضحكنا ولا كنسياننا ولا كمللنا لن يفيدك البتة ولن
ينفي عنك التشبيه!! لأن هذا دال على النقص أولا!! وقولك (بلا كيف) أو
(يليق بجلاله) عقب ذلك وبعده غير مفهوم بالعربية إلا بالتأويل وأنت تقول
ب‍ (أن الله تعالى لا يخاطبنا بما لا نفهم) ونحن لا نفهم الضحك الذي تطلقه
حقيقة على الله تعالى إلا بالقهقهة أو الانفعال والتبسم والعرب لا تفهم إلا ذلك!!
إلا إذا أولت ذلك بالرحمة كما أولها الإمام البخاري (89) اتباعا للسان العربي!!
فقول المشبه والمجسم يضحك لا كضحكنا كما نقول سميع لا كسمعنا وبصير
لا كبصرنا تمويه لن يجديه شيئا!! لأن المراد بقولنا يسمع سبحانه لا كسمعنا:
أن نثبت لله تعالى السمع ثم ننزهه عن آلة السمع وهي الأذن وعن الأعضاء
والصورة والجوارح وغير ذلك، فيتصور وجود صفة السمع بلا آلة ثم يفوض علم
ذلك إلى الله تعالى بعد الإيمان بأن له سبحانه سمعا لأن صفة الخالق لا يمكن
للمخلوق أن يدركها لأنها قد اتحدت في الاسم دون المسمى، لكن الجلوس



(89) أنظر (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي ص (298 و 470) و (فتح الباري) (6 / 40).
150
والحركة والملل ونحو هذه الألفاظ التي تطلقها المجسمة دون ترو ولا بصيرة على
الله تعالى لا يتصور فيها وجود شئ يمكن إثباته بعد نفي عنصر التشبيه منها
وتفويض معناه لله جل جلاله!!
فالحركة مثلا التي يصف الله تعالى بها بعض المشبهة والمجسمة لا يفهم منها
إلا الانتقال من محل إلى آخر ولا تعقل إلا بذلك، فإذا نفيت بعد إثباتها الانتقال
لم تعد حركة فيبطل ما أثبته أولئك المشبهة حينئذ من أساسه ويتبين أن كلامهم
متناقض في ذلك لأنه لم يبق شئ يمكن إثباته خلافا للسمع والبصر فتأمل جيدا!!
فالمرض مثلا والنسيان الواردان في الكتاب والسنة والمضافان إليه سبحانه وتعالى
لا يمكن اعتبارهما صفة له سبحانه للقاعدة التي قررناها، وبذلك يتبين بطلان
كلام من يقول: (نقول يمل لا كمللنا وله يد ليست كأيدينا مثلما نقول يسمع
لا كسمعنا ويبصر لا كبصرنا)، لأن هذا كلام إنشائي مجمل بعيد عن التحقيق
العلمي المستند لنصوص الكتاب والسنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام
على المكر والاستهزاء والخديعة وغيرها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ويتضح هذا أكثر في المثال الثاني:
2 - ثبت في صحيح مسلم (4 / 1990 برقم 2569) عن سيدنا رسول الله ص أن الله
تعالى يقول:
(يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب
العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك
لو عدته لوجدتني عنده...) الحديث.
فهل يا قوم يجوز لنا أن نقول: نثبت بهذا الحديث لله تعالى صفة المرض ولكن
ليس كمرضنا؟!! وهل يجوز أن نعتقد أن العبد إذا مرض مرض الله تعالى أيضا
وكان عند المريض على ظاهره وحقيقته؟!!
كلا، ثم كلا، بل نقول إن من وصف الله تعالى بأنه يمرض أو قال إن

151
له صفة المرض كفر بلا مثنوية، مع كون تاء مرضت مضمومة وهي تدل عربية
على أن المرض يتعلق بالمتكلم، لأنه مع كل هذا نقول: الظاهر غير مراد وهو
مصروف ومؤول عند جميع المسلمين العقلاء، فيكون هذا دليلا واضحا كالشمس
من السنة في تعليمنا التأويل.
ومعنى الحديث كما قال الإمام الحافظ النووي في (شرح صحيح مسلم)
(16 / 126):
(قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد، تشريفا
للعبد وتقريبا له، قالوا: ومعنى: وجدتني عنده أي: وجدت ثوابي
وكرامتي.....) ا ه‍ فتأمل.
وأما دليل التأويل من السنة النبوية الصحيحة فقوله صلى الله عليه وآله
وسلم:
(إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل
كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم
منه فقولوه، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه).
رواه عبد الرزاق (11 / 216) وأحمد (2 / 195) وابن ماجة (1 / 33) والبغوي في (شرح
السنة) (1 / 260) وهو صحيح (90).
فقوله ص في الحديث: (فما علمتم منه فقولوه) دليل على مذهب التأويل.
وقوله (وما جهلتم فكلوه إلى عالمه) دليل على مذهب التفويض.



(90) وصححه الشيخ المتناقض!! في تعليقه على (شرح الطحاوية) ص (201 و 517)،
وكذلك الشيخ شعيب حسنه في تعليقه على (شرح السنة) (1 / 260) وأحمد شاكر في
تعليقه على المسند (11 / 73) بلفظ قريب منه.
وإنما ذكرت تصحيح هؤلاء لأن المتمسلفين في هذا العصر يعولون على تصحيحات هؤلاء
وخاصة الشيخ المتناقض!! منهم، ولا يستطيعون تضعيف الحديث بعد تصحيح هؤلاء
له.
152
وعلى هذه القاعدة الواضحة للتأويل المبنية على نصوص الكتاب والسنة سار
الصحابة والتابعون وأتباعهم وأئمة الاجتهاد والحفاظ المحدثون ولننقل لكم بعض
تأويلاتهم حتى يزداد القلب طمأنينة وانشراحا فنقول:
3 - لقد أول الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كثيرا من الآيات فصرفوا
المعنى عن الظاهر إلى معان أخرى مجازية في لغة العرب، فهذا سيدنا ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما ابن عم رسول الله ص الذي دعا له رسول الله ص بقوله:
(اللهم علمه الكتاب) (91) قد نقلت عنه تأويلات كثيرة فيما يتعلق بمسألة
الصفات بأسانيد صحيحة نذكر بعضها:
أ - أول ابن عباس قوله تعالى: * (يوم يكشف عن ساق) * القلم: 42، فقال:
(يكشف عن شدة) فأول الساق بالشدة. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح
الباري) (13 / 428) والحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (28 / 38) حيث قال في صدر
كلامه على هذه الآية:
(قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر
شديد (92)) ا ه‍.



(91) رواه البخاري (الفتح 1 / 169).
(92) ولقد اعترف ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما بثبوت هذا التأويل عن الصحابة والسلف،
ومن ذلك قول ابن القيم في (الصواعق المرسلة) (1 / 252): (والصحابة متنازعون في
تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب يكشف عن ساقه؟!
ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا غير هذا
الموضع). وانظر الفتاوى لابن تيمية (6 / 394) فإنه ذكر ذلك أيضا هناك.
ونقول: أولا: هذا اعتراف منهم بأن السلف قد اختلفوا في مسائل العقيدة وهذه
المسألة نموذجا على ذلك الاختلاف، فلا يصح أن يقال: (هذا مذهب السلف) لأنهم
مختلفون كما ترى باعترافهم.
ثانيا: إن ادعاء ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بأنه لا يحفظ عن السلف اختلاف أو تنازع
في أمور الصفات إلا في هذا الموضوع ليس صحيحا البتة، بل ما نقلناه من تأويلات
واختلافات عنهم في مواضع عديدة يهدم هذا القول منهما يجعله قولا باطلا لا يجوز
الالتفات إليه!!
وثالثا: حاول بعض سلفية العصر بعد أن اتضح ثبوت تأويل السلف (كشف الساق)
بالشدة واعتراف أئمتهم (ابن تيمية وتلميذه ابن القيم) بذلك: أن يضللوا أتباعهم
ويصرفوهم عن هذا التأويل فادعوا زورا بأن هذا التأويل لم يثبت عن سيدنا ابن
عباس!! ومن تلك المحاولات أن بعضهم (ممن ثبت عليه سرقة مؤلفات العلماء ونسبتها
إليه) ألف كتابا خاصا لإثبات أن تأويل الساق بالشدة لم يثبت عن سيدنا ابن عباس
وقد أخفق في ذلك ولم تنجح محاولته!! كما بينا ذلك واضحا في كتابنا (التناقضات
الواضحات) (2 / 312 وما بعدها) ونبين هنا مثالا واحدا من إخفاقه وفشله في تلك المحاولة
وهي قوله في كتابه المسمى بالمنهل الرقراق ص (24 - 25) ما نصه:
[خامسا: أخرج البيهقي في (الأسماء والصفات) (ص 437): أخبرنا أبو سعيد بن أبي
عمر: نا أبو العباس الأصم: نا محمد بن الجهم: نا يحيى بن زياد الفراء: حدثنا
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: (يوم يكشف عن ساق)
يريد يوم القيامة والساعة لشدتها: قال الفراء: أنشدني بعض العرب لجد طرفة:
كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر صراح] ا ه‍
ثم قال بعد ذلك مضعفا سند هذا الأثر ما نصه:
[قلت: محمد بن الجهم: هو ابن هارون السمري، له ترجمة في (لسان الميزان)
(5 / 111) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وروي عنه جماعة، فهو مجهول الحال] ا ه‍.
قلت: لقد وقع المسكين فيما لا قبل له به وانهدم كتابه الذي عنونه بذلك!! وذلك
لأن محمد بن الجهم السمري ثقة قال عنه الدارقطني: (ثقة صدوق) وقال عنه
عبد الله بن الإمام أحمد: (صدوق ما أعلم إلا خيرا) كما تجد ذلك في (تاريخ بغداد)
(2 / 161). وقال في حقه الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) (5 / 125 طبعة دار الفكر) و
(5 / 110 من الطبعة الهندية): (ما علمت فيه جرحا) ولم يقل الحافظ ابن حجر هناك كما
أوهم هذا الكاتب (ولا تعديلا) وقد أورد الحافظ ابن حبان هذا السمري في ثقاته
(9 / 149)، واعترف الكاتب المسكين ص (32 - 33) من كتابه أن الحافظ ابن حجر صحح
هذا الأثر!! فيكون بعد هذا محمد بن الجهم السمري ثقة رغم أنف كل مدلس ومعاند
حسب قواعد هذا الفن.
وألفت النظر هنا إلى أنه لا علاقة لمحمد بن الجهم السمري هذا الثقة بالمبتدع المشهور
الجهم بن صفوان فإياك أن تخلط في ذلك!!
فإذا اتضح هذا فقد تبين بكل وضوح انهدام كتاب ذلك الكاتب الذي حاول أن يوهم
عدم ثبوت التأويل عن السلف بعد ثبوت هذا الأثر، أضف إلى ذلك أن هذا الإسناد
الصحيح الثابت يشهد لباقي الأسانيد الضعيفة لهذا الأثر مما يجعلها صحيحة ويصير
هذا الأمر مما تواتر ثبوته عن سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما!!
ونقول الآن بعد هذا البيان المقتضب: بماذا تفسرون (أيها المتمسلفون) هذا الذي
اقترفه هذا الكاتب المتمسلف؟! وما قولكم في قوله إن محمد بن الجهم السمري
(مجهول) مع كونه ثقة لا يعرف أهل الحديث فيه جرحا؟!
أهو الجهل والقصور وتصدي من ليس أهلا للتأليف؟! أم هو التدليس والكذب وفقدان
الأمانة العلمية والتعصب ضد المذهب الحق؟!! ويليق أن نختم هذا التعليق بقول
القائل:
لقد هزلت حق بدا من هزالها * كلاها وحتى سامها كل مفلس
153
قلت: ومنه يتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا
الصالح.
وقد نقل ذلك الحافظ ابن جرير أيضا عن: مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة
وغيرهم من السلف.
ب - وأول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه أيضا قوله تعالى: * (والسماء بنيناها
بأيد وإنا لموسعون) * الذاريات: 47، (قال: بقوة) كما في تفسير الحافظ ابن جرير
الطبري (7 / 27)، ولفظة (أيد) هي جمع يد وهي الكف كما في (القاموس المحيط)
في مادة (يدي) حيث جاء فيه:
(اليد: الكف، أو من أطراف الأصابع إلى الكتف، أصلها يدي جمعها:
أيد ويدي) وانظر (تاج العروس شرح القاموس) (10 / 417 - 418). ومنه قوله تعالى:

155
* (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها) * الأعراف: 7. وتستعمل لفظة
(أيد) مجازا وتؤول في عدة معان منها: (القوة) كقوله تعالى: * (والسماء بنيناها
بأيد) * أي بقوة، ومنها: (الإنعام والتفضل) ومنه قوله تعالى: * (واذكر عبدنا
داود ذا الأيد إنه أواب) * ص: 17. فتأمل.
وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره (27 / 7) تأويل لفظة (أيد) الواردة في
قوله تعالى: * (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) * بالقوة أيضا عن جماعة من أئمة
السلف منهم: مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان.
ج‍ - وأول أيضا سيدنا ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى: * (فاليوم ننساهم
كما نسوا لقاء يومهم هذا) * بالترك، كما في تفسير الحافظ الطبري (مجلد 5 / جزء 8 /
ص 201) حيث قال ابن جرير: (أي ففي هذا اليوم، وذلك يوم القيامة ننساهم،
يقول نتركهم في العذاب...) ا ه‍.
فقد أول الحافظ ابن جرير النسيان بالترك، وهو صرف لهذا اللفظ عن ظاهره
لمعنى جديد مجازي، ونقل الحافظ ابن جرير هذا التأويل الصارف عن الظاهر
ورواه بأسانيده عن ابن عباس ومجاهد... وغيرهم.
وابن عباس صحابي، ومجاهد تابعي، وابن جرير من أئمة السلف
المحدثين، إذن ثبت التأويل في ما يتعلق بالصفات عن السلف بلا شك ولا
ريب، وعلى ذلك سار الأشاعرة وغيرهم ممن استعمل التأويل فهم مصيبون، وقد
أخطأ خطأ فادحا وغلط غلطا لائحا من تطاول على الأشاعرة وضللهم لأنهم
يؤولون!! والحق أنهم على هدي الكتاب والسنة سائرون، والحمد لله رب
العالمين.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا ولا يجوز إغفاله أن هؤلاء القوم الذين يحاربون
التأويل ويزعمون أنه ضلال وبدعة وتحريف للقرآن والسنة هم أنفسهم يؤولون ما
لا يوافق آراءهم من نصوص الكتاب والسنة في مسائل الصفات!! فنراهم يؤولون

156
مثل قوله تعالى: * (وهو معكم) * وقوله تعالى * (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا
تبصرون) * وقوله تعالى * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * وقوله تعالى
* (إنني معكما أسمع وأرى) * وقوله تعالى * (وهو معكم) * إلى غير ذلك من
نصوص واضحة!!
فإذا كان هذا قرآن وذاك قرآن فما الذي أوجب اعتقاد ظاهر هذا دون ظاهر
ذاك وكله قرآن؟!!
ولماذا جوزوا تأويل ظاهر هذا دون ذاك؟!
4 - الإمام أحمد بن حنبل يؤول أيضا:
روى الحافظ البيهقي في كتابه (مناقب الإمام أحمد) وهو كتاب مخطوط ومنه
نقل الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) (10 / 327) فقال: (روى البيهقي عن
الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى:
* (وجاء ربك) * أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه).
انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن كثير أيضا في (البداية) (10 / 327).
(وكلامه - أحمد - في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك بما ورد
في الكتاب والسنة عن النبي ص وعن أصحابه) (93) ا ه‍.
5 - تأويل آخر للإمام أحمد:
قال الحافظ ابن كثير أيضا في (البداية والنهاية) (10 / 327):
(ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين
احتجوا عليه بقوله تعالى: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم



(93) حاول بعض الناس أن ينفي هذا التأويل عن الإمام أحمد واحتج بما قاله ابن تيمية بأن
هذه رواية شاذة لأن حنبل تفرد بها!! وهذا كلام باطل غير صحيح بينا بطلانه في رسالتنا
(نغمات الطنبور) وحنبل ثقة حجة لم يثبت ما يقدح في عدالته أو روايته.
157
يلعبون) * قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو
المحدث. وعن حنبل عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير
القرآن) ا ه‍.
قلت: وهذا تأويل محض، ظاهر واضح، وهو صرف اللفظ عن ظاهره
وعدم إرادة حقيقة ظاهره.
6 - تأويل آخر عن الإمام أحمد أيضا:
قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (10 / 578):
[قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبد الله - أحمد بن حنبل -:
ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص عن
عبد الله - بن مسعود - قال: (ما خلق الله شيئا أعظم من آية الكرسي...) وذكر
الحديث، فقال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل -: ما كان ينبغي أن يحدث بهذا في
هذه الأيام - يريد زمن المحنة - والمتن: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم
من آية الكرسي) وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق
واقع ههنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن] ا ه‍.
7 - تأويل آخر عن الإمام أحمد يتعلق بمسألة الصفات أيضا:
روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد بن حنبل (94) أنه سمعه
يقول:
[احتجوا على يوم المناظرة، فقالوا: (تجئ يوم القيامة سورة البقرة...)
الحديث، قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب] ا ه‍. فتأمل في هذا التأويل
الصريح.



(94) أي أن حنبل سمع الإمام أحمد يقول، وقد نقل لنا هذا عن الخلال المحدث الإمام
محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على (دفع شبه التشبيه) ص (28).
158
8 - تأويل الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله تعالى: نقل الحافظ البيهقي
في (الأسماء والصفات) ص (470) عن البخاري أنه قال: (معنى الضحك:
الرحمة) ا ه‍. وقال الحافظ البيهقي ص (298):
(روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى أنه قال:
معنى الضحك فيه - أي الحديث - الرحمة) ا ه‍ فتأمل.
وقد نقل هذا التأويل أيضا الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (6 / 40).
9 - تأويل النضر بن شميل وهو الإمام الحافظ اللغوي من رجال الستة ولد سنة
(122) ه‍:
ذكر الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات) ص (352) والحافظ ابن الجوزي
في كتاب (دفع شبه التشبيه) أن النضر بن شميل الحافظ السلفي قال: إن معنى
حديث: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.
وكذا قال ذلك الإمام أبو منصور الأزهري كما نقله الحافظ ابن الجوزي في (دفع
شبه التشبيه) عنه.
وقال الحافظ ابن الجوزي أيضا:
(وقد حكى أبو عبيد الهروي - صاحب كتاب غريب القرآن والحديث - عن
الحسن البصري أنه قال: القدم: هم الذين قدمهم الله تعالى من شرار خلقه
وأثبتهم لها).
فيكون هذا تأويلا للحسن البصري أيضا.
10 - تأويل الإمام هشام بن عبيد الله:
قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (10 / 446) في ترجمته: (هو
الرازي السني الفقيه، أحد أئمة السنة) توفي سنة (221 ه‍).
ثم قال الذهبي:

159
(قال محمد بن خلف الخراز: سمعت هشاما بن عبيد الله الرازي يقول:
القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال له رجل: أليس الله يقول: * (ما يأتيهم
من ذكر من ربهم محدث) * فقال: محدث إلينا، وليس عند الله بمحدث.
قلت: لأنه من علم الله، وعلم الله لا يوصف بالحدوث) انتهى كلام
الحافظ الذهبي.
والذهبي في عبارته هذه مقلد للمعتزلة لأنهم يقولون بأن الكلام هو العلم
فتدبر!!
11 - تأويل سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ ابن الجوزي أثناء كلامه على الحديث الحادي والثلاثين في (دفع
شبه التشبيه) في تأويل حديث: (آخر وطأة وطئها الرحمن بوج) أي: آخر غزاة
غزاها رسول الله ص بالطائف. (ووج اسم واد بالطائف). والحديث رواه الطبراني
(24 / 241) بسند ضعيف وهو منكر، فانظره هناك.
12 - تأويل من جملة تأويلات الحافظ ابن جرير الطبري السلفي ت (310 ه‍):
ذكر الحافظ ابن جرير في (تفسيره) (1 / 192) عند تأويل قوله تعالى: * (ثم
استوى إلى السماء) * ما نصه:
(والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:
* (ثم استوى إلى السماء) * الذي هو بمعنى: العلو والارتفاع. هربا عند نفسه
من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد
أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه،
فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: (استوى): أقبل، أفكان مدبرا عن السماء
فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له:
فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال) ا ه‍.

160
فاتضح بهذا أن السلف كانوا يفسرون الاستواء بالملك والقهر والسلطان
والجلال والرفعة والكبرياء والعظمة، لا بالعلو الحسي، كما صرح بذلك الإمام
الحافظ ابن جرير عنهم، وهذا هو الموافق للشرع والعقل، وهو الذي قاله أهل
الحديث من بعدهم. كالحافظ ابن حبان والحافظ البيهقي وبعدهما مثل الحافظ
النووي والحافظ ابن حجر الذي يقول في (فتح الباري) (6 / 136) موضحا هذه
المسألة:
(ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو
لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس) ا ه‍.
قلت: وهذا تأويل صريح للعلو من الحافظ ابن حجر بأنه علو معنوي
لا حسي كما تتوهم المجسمة والمشبهة، ولا يحصى كم للإمام الحافظ ابن حجر
وللإمام الحافظ النووي من تأويل في شرحهما على الصحيحين البخاري ومسلم.
13 - ابن حبان المتوفى سنة (354) ه‍ يؤول أيضا في صحيحه:
أول الحافظ ابن حبان في صحيحه (1 / 502) حديث: (حتى يضع الرب قدمه
فيها - أي جهنم -) فقال:
(هذا الخبر من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم القيامة
يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي يعصى الله عليها، فلا تزال تستزيد حتى
يضع الرب جل وعلا موضعا من الكفار والأمكنة في النار فتمتلئ، فتقول: قط
قط، تريد: حسبي حسبي، لأن العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع.
قال الله جل وعلا: * (لهم قدم صدق عند ربهم) * يريد: موضع صدق، لا
أن الله جل وعلا يضع قدمه في النار، جل ربنا وتعالى عن مثل هذا
وأشباهه) ا ه‍.

161
14 - تأويل الإمام مالك رحمه الله تعالى:
روى الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (7 / 143) وذكر الحافظ الذهبي في (سير
أعلام النبلاء) (8 / 105) أن الإمام مالكا رحمة الله تعالى أول النزول الوارد في الحديث
بنزول أمره سبحانه وهذا نص الكلام من (السير):
(قال ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب
حدثنا حبيب بن أبي حبيب حدثني مالك قال:
(يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره، فأما هو فدائم لا يزول).
قال صالح: فذكرت ذلك ليحيى بن بكير، فقال حسن والله، ولم أسمعه
من مالك).
قلت: ورواية ابن عبد البر من طريق أخرى فتنبه.
وهذا التأويل مشهور عن الإمام مالك غنى عن الإسناد فيه ولذلك نقله
الإمام النووي في (شرح مسلم) (6 / 37) عنه.
15 - تأويل الحافظ الترمذي رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ الترمذي في سننه (4 / 692) بعد حديث الرؤية الطويل الذي فيه
لفظة (فيعرفهم نفسه) فقال:
(ومعنى قوله في الحديث: فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم) ا ه‍.
وله تأويل آخر في سننه (5 / 160)
16 - تأويل الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (7 / 274) في ترجمة سيد الحفاظ في
زمانه الإمام الثوري أن معدان سأل الإمام الثوري عن قوله تعالى: * (وهو معكم
أينما كنتم) * فقال: بعلمه.

162
قلت: وهذا تأويل ظاهر وصرف للفظ عن ظاهره، لا سيما وأن لفظة
(هو) الواردة في قوله تعالى: * (وهو معكم أينما كنتم) * تعود على الذات لا على
الصفات أصلا، ومع ذلك لما كان ظاهرها مستحيلا صرفت إلى المجاز فأولت،
والله الموفق.
17 - الإمام أبو الحسن الأشعري يؤول في كتابه (الإبانة) وفي كتابه (رسالة أهل
الثغر) اللذين تتظاهر المجسمة الاحتجاج بما فيهما:
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) المحقق على أربع نسخ
خطية (دار الأنصار تحقيق الدكتورة فوقية) ص (21) ما نصه:
(وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي
أراده، استواء منزها من المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا
يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته،
وهو فوق العرش وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش
والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو
مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل
شئ شهيد) ا ه‍.
وتنبهوا: إلى أن هذه القطعة من (الإبانة) محذوفة من أكثر نسخ الإبانة التي
طبعها سلفية العصر والموجودة في الأسواق وبأيدي الناس، وابحثوا عن النسخة
المشار إليها وهي متوفرة ومطبوعة.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في (رسالة أهل الثغر) وهي من آخر
مؤلفاته!! كما يقال ص (73):
(وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته
لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه
إرادته لعذابهم) ا ه‍.

163
فالأشعري هنا يؤول الرضا والغضب بصراحة؟!!
18 - الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى مؤول أيضا:
كتابه (دفع شبه التشبيه) بثبت عنه ذلك بلا شك، والله الموفق.
فهذه ثماني عشرة نقطة فيها أكثر من عشرين تأويلا عن الصحابة وأهل القرون
الثلاثة من أئمة العلماء والمحدثين كلها تثبت مع الأدلة التي سقناها في صدر الكلام
أن التأويل حق وأنه من قواعد الشريعة وأنه من نهج السلف الصالح والله الموفق.
فصل
التأويل هو المجاز في القرآن والسنة
إذا انتهينا إلى أن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر مقصود
تريده العرب في لغتها التي نزل بها القرآن، فإننا بالتأمل في معنى وتعريف المجاز
نجد أن هذا هو تعريف المجاز أيضا، فالمجاز هو التأويل، ولذلك حاول أن ينكره
المشبهة والمجسمة كإنكارهم التأويل للنصوص فيما لا يريدون.
فالمجاز كما هو معرف في كتب الأصول هو: تعدي معنى الكلام عما وضع
له أصلا إلى معنى آخر تعديا صحيحا (أي عربية) لعلاقة بينهما.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شيخ الحنابلة ومحقق مذهبهم في كتابه (روضة
الناظر) في أصول الفقه ص (62) ما نصه:
(والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه
الأصلي على وجه يصح، كقوله * (وأخفض لهما جناح الذل) *، * (وأسأل
القرية) *، * (جدارا يريد أن ينقض) *، * (أو جاء أحد منكم من الغائط) *،
* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *، * (إن الذين يؤذون الله) * أي: أولياء الله وذلك
كله مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه، ومن منع فقد كابر، ومن سلم وقال
لا أسميه مجاز فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه).

164
وتقدم قول الإمام النووي رحمه الله تعالى في (تهذيب الأسماء واللغات) في
مادة (أول) حيث قال: (أما التأويل فقال العلماء: هو صرف الكلام عن ظاهره
إلى وجه يحتمله أوجبه برهان قطعي في القطعيات وظني في الظنيات وقيل هو:
التصرف في اللفظ بما يكشف عن مقصوده. وأما التفسير: فهو بيان معنى اللفظة
القريبة أو الخفية) ا ه‍.
والتأويل والتفسير عندنا مترادفان أي معناهما واحد كما تقدم، والمجاز ضرب
من التأويل على التحقيق وهو واضح عند كل من تأمل معنى المجاز والتأويل.
ثم اعلم بأن من نهج السلف الصالح إثبات المجاز في اللغة ولا أظن أن عاقلا
يشك في ذلك، فهذا الإمام أحمد يثبت المجاز ويقول في بعض الأمور: (هذا
من مجاز اللغة) كما اعترف بذلك ابن تيمية (95) في كتابه (الإيمان) ص (85)، وذكره
الحافظ الزركشي في (البحر المحيط في علم الأصول) (2 / 182) عن الإمام أحمد.



(95) ومحاولة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما إنكار المجاز محاولة فاشلة جدا!! وقد ناقضوا
أنفسهم فيها!! فابن القيم الذي يعتبر المجاز في كتابه (الصواعق المرسلة) طاغوتا!!
يتناقض مع نفسه حيث يثبت المجاز ويدلل عليه بأوجه كثيرة في كتابه (الفوائد المشوقة)،
كما أن الشيخ المتناقض!! يخالف ابن تيمية في هذه المسألة فيثبت المجاز في مقدمة (مختصر
العلو) ص (23) في الحاشية!! وقد بينا هذا التناقض الواقع بين آرائهم العقائدية وغيرها
في رسالتنا (البشارة والإتحاف) ص (31) فارجع إليها!!
وصاحب تفسير (أضواء البيان) المعاصر المنكر للمجاز في الظاهر إنما أنكره تحت وطأة
الضغط والاكراه الذي أجير عليه في البلد التي كان يعيش فيه آخر حياته، والمكره
له أحكام!! وعلى كل الأحوال فإنكاره لذلك ليس حجة يصح أن يتشبث بها طالب
العلم ومبتغي معرفة الرجال بالحق، المبتعد عن نحلة من يعرف الحق بالرجال، وخاصة
بعد وضوح الأدلة والبراهين في هذا الأمر والله الهادي!!
ومن العجيب الغريب أن يقول ابن تيمية في كتابه (الإيمان) ص (85): (وأما سائر
الأئمة فلم يقل أحد منهم، ولا من قدماء أصحاب أحمد: إن في القرآن مجازا، لا
مالك، ولا الشافعي ولا أبو حنيفة، فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في
المائة الرابعة، وظهرت أوائله في المائة الثالثة، وما علمته موجودا في المائة الثانية، اللهم
إلا أن يكون في أواخرها)!!
ونقول له ولمن ينغر بقوله: لماذا هذا التخبط في تحديد التاريخ (في ثلاثة قرون)؟!
وماذا وراءه إلا تضليل القارئ؟! بل قد ذكر الأئمة المجاز، ومنهم الشافعي في
الرسالة ولو سماه بغير هذه التسمية، وقد صنف أهل القرن الثاني في المجاز ومنهم
معمر بن المثنى المولود سنة (106) هجرية في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني واسم كتابه
(مجاز القرآن) [أنظر (سير أعلام النبلاء) (9 / 446)] ونود أن نعلم ابن تيمية ومن يقلده
بأنه ليس من شرط ذلك أن يقول النبي ص والصحابة: (هذا مجاز) كما لا يشترط
أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كذلك عندما ينطقون بالكلام العربي
هذا مرفوع بالضمة وهذا منصوب بالألف أو الياء وهذا نحو وذاك صرف بعد ملاحظة
أنهم كانوا نحويين وصرفيين سليقة، وأما الاصطلاحات التي حدثت بعد ذلك فلا ضير
منها بعد ثبوت المعاني المرادة!!
وعلى هذا فيجوز لأي إنسان أن يقول: لم يكن النبي ص يرفع الفاعل ولا ينصب المفعول
ولم يكن يدرس النحو لأنه لم يذكر لنا أحد أن النبي ص كان يدرس أو يدرس النحو
ولم ينطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هناك علما يسمى النحو!!
وقائل هذا ساقط عن مرتبة الخطاب!! أو هو مغالط مضلل!! ولله في خلقه شؤون * (لا
يسأل عما يفعل وهم يسألون) *!! وابن تيمية قد ادعى في أمور أنه لم يرد فيها شئ
من الكتاب أو السنة أو عند السلف ثم بعد النظر والتمحيص تبين خلاف مدعاه
وخطأه!! ومن ذلك دعواه بأن التشبيه ليس مذموما في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله
ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين!! وفد رددنا عليه في ذلك في عدة مؤلفات!!
أنظر كتابنا (التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد).
165
فصل
التفويض أيضا كان مذهب السلف الصالح
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول ص فهو كما
قال، ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا
فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ص ورد علم ما اشتبه
عليه إلى عالمه، ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه).
الشرح:
دليل مذهب التفويض قوله تعالى في كتابه العزيز * (وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) *
آل عمران: 7.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح:
(وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه
ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه).
رواه عبد الرزاق في المصنف (11 / 216) وأحمد في المسند (2 / 195) وابن ماجة (1 / 33)
والبغوي في شرح السنة (1 / 260) وهو حديث صحيح (96).



(96) روى الحافظ ابن الجوزي في (مناقب الإمام أحمد) (ص 391) بإسناده إلى أبي بكر
المروذي قال:
[قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: إن علي بن المديني يحدث عن الوليد بن مسلم عن
الأوزاعي عن الزهري عن أنس عن عمر (كلوه إلى خالقه) فقال أبو عبد الله: كذب.
حدثنا الوليد بن مسلم ما هو هكذا، إنما هو: (كلوه إلى عالمه) وقال أحمد: قد علم
علي بن المديني أن الوليد أخطأ فيه، فلم أراد أن يحدثهم به يعطيهم الخطأ! فكذبه
أبو عبد الله] فالإمام أحمد يقول بصحة هذا الحديث أيضا.
167
وقد بينا فيما تقدم بما لا يدع مجالا للشك أن التأويل ثابت في الكتاب والسنة،
وهو من نهج السلف الصالح، ونقلنا في ذلك ما يبرهن إثبات هذا الأمر بوضوح
تام، وبقيت مسألة التفويض، ولا شك أن السلف كانوا يفوضون الكيف والمعنى
وهو المراد بالتفويض عند إطلاقه بلا شك.
ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عندما سئل عن أحاديث الصفات:
(نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى) رواه عنه الخلال بسند صحيح.
ونصوص أئمة السلف في قولهم أمروها كما جاءت مع عدم الخوض في بيان معناها
أكثر من أن تحصر، من ذلك ما قاله الإمام الحافظ الترمذي في سننه (4 / 692):
(والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن
أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم
قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف. وهذا الذي اختاره أهل
الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها، ولا تفسر ولا تتوهم، ولا
يقال كيف، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه) ا ه‍.
قلت: وقوله (ولا تفسر) هي نفس قول بعض أئمة السلف (قراءتها
تفسيرها)، وقوله (ولا تتوهم) معناه: يصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله
لخلقه مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى، وأما الكيف فلا نحتاج لتفويضه لأن
الكيف محال على الله تعالى، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (ولا يقال
كيف، وكيف عنه مرفوع) انظر الفتح (13 / 407) أي أنه لا كيف لله تعالى وهذا
الذي قررناه هنا ونقلناه عن السلف من تقرير مذهب التأويل ومذهب التفويض
هو عين قول صاحب الجوهرة اللقاني رحمه الله تعالى:
وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها
لمن تدبر ذلك.

168
وقد نقل الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (8 / 105) عن الإمام مالك
أنه قال في أحاديث الصفات:
(أمرها كما جاءت بلا تفسير) وهذا هو التفويض.
وقال الحافظ الذهبي هناك قبل ذلك بأسطر:
(فقولنا في ذلك وبابه: الإقرار، والإمرار، وتفويض معناه إلى قائله الصادق
المعصوم) ا ه‍.
قلت: وقد أجاد الحافظ الذهبي هنا عندما قرر أن الواجب هنا هو تفويض
المعنى، وهذا يوافق ما قاله الإمام أحمد (ولا كيف ولا معنى). وهو يثبت بلا
شك أن مذهب السلف والإمام أحمد والحفاظ أهل الحديث كالذهبي وغيره أن
تفويض المعنى هو العقيدة التي كان عليها أحد مذاهب خيار هذه الأمة من السلف
والخلف وأنها هي الموافقة لقول الله عز وجل:
* (وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من
عند ربنا) * آل عمران: 7.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (13 / 390) في مسألة الصفات إن فيها
ثلاثة مذاهب نقلا عن ابن المنير وذكر المذهب الثالث فقال:
(والثالث: إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله تعالى....).
ثم قال بعد ذلك مباشرة:
(قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 383) أيضا مائلا للتفويض:
(والصواب الامساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها
والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه...) ا ه‍.
وقال الحافظ قبل ذلك بأسطر في الفتح (13 / 383) ناقلا عن الحافظ ابن دقيق

169
العيد رحمه الله تعالى في تقرير التأويل والتفويض:
(وقال ابن دقيق العيد في العقيدة: نقول في الصفات المشكلة إنها حق
وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على
مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق
مع التنزيه) ا ه‍.
قلت: وهو كلام في غاية الدقة والروعة والحمد لله رب العالمين، وقد تبين
مما سبق أن التأويل والتفويض كانا عند السلف ولهما أدلة في الكتاب والسنة
الصحيحة بلا شك ولا ريب، وقد أخطأ من قال: (التفويض مذهب السلف
والتأويل مذهب الخلف)، وقد تبين بالبحث والتمحيص أن السلف كانوا يؤولون
أحيانا ويفوضون أحيانا فإذا فهمت وعلمت وتأملت ما ذكرناه في إثبات التأويل
والتفويض عن السلف فاعلم الآن هذه المسألة المهمة:
[مسألة مهمة جدا]:
قال ابن تيمية في كتابه (الموافقة) (1 / 118) بهامش (منهاج سنته) إن التفويض
من شر أقوال أهل البدع والالحاد فقال هناك ما نصه:
(فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف
من شر أقوال أهل البدع والالحاد) (97)!! ا ه‍.
فماذا نقول في أئمة السلف الذين نقلنا أقوالهم في التفويض من (سنن
الترمذي) وغير ذلك، وماذا نقول في الحافظ الذهبي الذي يقول بالتفويض
أيضا؟! فهل يكونون كفارا ملحدين بذلك؟!! كلا وبلا!!
وجاء أيضا في التعليق على كتاب السنة لابن أبي عاصم ص (212 من الطبعة



(97) وما ذكره بعد ذلك من كلام ليدلل على ما يريد من أن الصحابة فسروا القرآن كله لا
يصلح أن يكون دليلا له، لأنا نقول: إنهم فسروا القرآن وأما حقائق صفات الله فقد
فوضوها إلى الله سبحانه وتعالى أو أولوها وهذا هو المطلوب.
170
الثانية) معلقا على قول سيدنا ابن عباس:
(ما بال هؤلاء يحيدون عن محكمه ويهلكون عند متشابهه) ما نصه:
(أي يجتهدون ويهتمون لفهم المعنى المراد من القرآن، عند محكمه، ويهلكون
عند متشابهه لأنهم لا يهتمون لفهم معناه الحقيقي مع التنزيه * (ليس كمثله شئ
وهو السميع البصير) * يصرفهم عن ذلك التأويل أو التفويض) ا ه‍.
ونقول إن هذا الكلام غلط محض يشتمل على تضليل السلف والخلف فلا
يلتفت لقائله ولا يعول على كلامه!!
[فائدة]: ومن العجيب الغريب الذي لا يكاد الإنسان يصدقه!! أن
ترى المجسمة والمشبهة يطعنون في الإمام الترمذي!! لأنه ينقل عن السلف الصالح
أنهم كانوا يفوضون، ولأنه أيضا يؤول ما استحال الأخذ بظاهره من نصوص
السنة!!
فهذا ابن القيم يقول في كتابه الصواعق المرسلة [انظر مختصر الصواعق
(2 / 275)]:
(وأما تأويل الترمذي وغيرة له بالعلم فقال شيخنا (98): هو ظاهر الفساد من
جنس تأويلات الجهمية....).
وهذا الخلال يقول في (سنته) (ص 232) - ناقلا -:
(لا أعلم أحدا من أهل العلم ممن تقدم ولا في عصرنا هذا إلا وهو منكر
لما أحدث الترمذي (99) من رد حديث محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله



(98) يعني بشيخه: ابن تيمية كما لا ينتطح في ذلك كبشان.
(99) مع أن التأويل والتفويض لم يحدثه ولم يخترعه الترمذي رحمه الله تعالى. ومن الغريب
العجيب أيضا أن محقق سنة الخلال عطيه الزهراني - حاول أن ينفي أن كون الترمذي
المراد هنا هو الإمام المعروف صاحب السنن فقال ص (224) في الهامش تعليق رقم (4)
هو (جهم بن صفوان) ثم تراجع عن ذلك ص (232) فقال في الهامش التعليق رقم (8):
(كنت أظنه جهم، ولكن اتضح من الروايات أنه يقصد رجلا آخر لم أتوصل إلى
معرفته).
فيا للعجب!!
171
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال يقعده على العرش (100)، فهو عندنا
جهمي يهجر ونحذر عنه....).



(100) وهذا القعود الذي يتحدثون عنه هو قعود سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجنب
الله تعالى على العرش!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!! والدليل عليه قول الخلال
هناك ص (244):
(حدثنا أبو معمر، ثنا أبو الهذيل، عن محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد:
قال: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * قال: يجلسه معه على العرش، قال
عبد الله: سمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحدا من المحدثين ينكره، وكان
عندنا في وقت ما سمعناه من المشائخ أن هذا الحديث إنما تنكره الجهمية..).
أقول: ومن العجيب الغريب إن الألباني ينكر هذا ويقول بعدم صحته وأنه لم يثبت
كما سيأتي وكذلك محقق الكتاب وهو متمسلف معاصر ينكر ذلك أيضا ويحكم على
هذا الأثر بالضعف حيث يقول في هامش تلك الصحيفة تعليق رقم (19): (إسناده
ضعيف)!! فهل هؤلاء جهمية؟! وما هذا الخلاف الواقع بين هؤلاء في أصول
اعتقادهم؟!!
ومن الغريب العجيب أيضا أنهم اعتبروا من نفي قعود سيدنا محمد صلى الله عليه
وآله وسلم بجنب الله نافيا ودافعا لفضيلة من فضائل النبي ص، والدليل على ما
قلناه قول الخلال هناك ص (237):
(وقال أبو علي إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي (وهو مجهول بنظر المحقق): إن هذا
المعروف بالترمذي عندنا مبتدع جهمي ومن رد حديث مجاهد فقد دفع فضل رسول
الله ص، ومن رد فضيلة الرسول ص فهو عندنا كافر مرتد عن الإسلام)!!
وقال ص (234) - ناقلا -:
(وأنا أشهد على هذا الترمذي أنه جهمي خبيث)!!
أقول؟ قد ذكرت في كتابي (البشارة والإتحاف) ص (26) أن الألباني أنكر ثبوت
قضية الاقعاد عن مجاهد حيث قال في مقدمة (مختصر العلو) ص (20):
(قلت: وقد عرفت أن ذلك لم يثبت عن مجاهد، بل صح عنه ما يخالفه كما
تقدم..)!!
وقد ذكر ابن القيم عقيدة الاقعاد - التي ردها الألباني - في كتابه (بدائع الفوائد)
(4 / 39) فارجعوا إليها!!
172
فصل
في وجوب عرض الحديث على القرآن
(وهو أحد الضوابط التي يعرف بها الحديث الشاذ متنا وأهمها)
إن مما يجب التنبه إليه عند تصحيح الحديث أو تضعيفه أو عند قبوله أو رده
عرض ما جاء فيه من الأفكار على كتاب الله تعالى، وهذه نقطة مهمة جدا غفل
عنها كثير من المشتغلين في علوم الحديث النبوي الشريف وبالتالي كثير ممن
يصححون ويضعفون الأحاديث.
والقاعدة في هذا أن حديث الآحاد مقبول إذا خلا معناه عما يعارض القرآن،
ولا يشترط في قبوله أن يشهد له القرآن بأن يكون معناه فيه (101)، بل يكفي أن
لا يكون فيه ما يعارض القرآن القطعي.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة وكذا تصرفات الصحابة والسلف والأئمة
والمحدثين وأهل العلم تؤيد هذا وتشهد له، ولا أظن أن عاقلا يخالف في هذا
بعد إدراكه.



(101) وبهذا القيد لا يستطيع إنسان أن يقول بأننا إذا أوجبنا عرض الحديث على القرآن نكون
قد عارضنا قوله تعالى * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * ولأنه إذا
كان معارضا فإننا نعتقد أنه مما لم نؤتاه عن سيدنا رسول الله ص، ولأننا أيضا نأخذ
بالحديث الثابت في أبواب الفقه وغيرها وكذا في فروع الاعتقاد، وكذلك أيضا ليس
لأحد أن يقول إنكم إذا قلتم بوجوب عرض الحديث على القرآن ينطبق عل لي عليكم ما
قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يوشك الرجل متكيا على أريكته يحدث
بحديث من حديثي (وفي رواية يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه) فيقول: بيننا
وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام
حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ص مثل ما حرم الله) لما أسلفناه. وهذا الحديث
رواه بهذا اللفظ ابن ماجة (1 / 6)، والحديث رواه أيضا الدارمي (1 / 144) وأحمد
(4 / 131 و 132) والترمذي (5 / 37) وابن حبان (1 / 189) والطبراني (20 / 275 و 283)
والحاكم (1 / 109) والبيهقي في (السنن الكبرى) (7 / 76 و 9 / 331) وفي (دلائل النبوة)
(6 / 549) وغيرهم.
173
[أولا]: الدليل على هذه القضية من القرآن الكريم:
والدليل على ذلك من القرآن الكريم أن علم سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم من عند الله تعالى لقوله تعالى * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * النساء: 113
ولقوله تعالى * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) * يوسف: 6
وقوله تعالى * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان) * الشورى: 52، وقال تعالى * (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه
بيمينك إذا لارتاب المبطلون) * العنكبوت: 48.
فإذا كان علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله تعالى فلا يمكن
أن يخالف ما جاء في كتاب الله سبحانه، فإذا جاءنا حديث آحاد يخالف القرآن
الكريم تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله وأننا ننزهه عن أن
يكون قد نطق به (102) ولذلك رددنا ما عارض القرآن من الآحاد ولم نقبله.



(102) ويتبين لنا ساعتئذ أن الخطأ في عزو هذا الحديث ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم جاء من بعض الرواة الثقات الذين رووا هذا الحديث المعارض وقد صرح بذلك
كبار أهل العلم فهذا الإمام النووي رحمة الله تعالى يقول في (شرح صحيح مسلم)
(1 / 131): (وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح
مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد، وقد قدمنا هذا القول وإبطاله في
الفصول..). ثم قال بعد ذلك بأسطر: (وأما قن قال يوجب العلم - خبر الواحد
- فهو مكابر للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك
متطرق إليه؟!! والله أعلم) فتأمل!!
174
وإذا تقرر أن ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما يخبر به وما يعلمه لأمته
هو من عند الله تعالى فلا يجوز إذن أن يكون مخالفا لما في كتابه سبحانه لقوله تعالى
* (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * النساء:
82.
وقد جاءت نصوص قرآنية أيضا تبين أن السنة النبوية من عند الله تعالى وأن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأتي بشئ من عنده، قال تعالى: * (وما ينطق
عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * النجم: 4. وقال تعالى: * (ولو تقول علينا
بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد
عنه حاجزين) * الحاقة: 47.
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (30 / 119) معناه:
(أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك، إما بواسطة إقامة الحجة
فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه، وحينئذ بظهر للناس كذبه فيه، فيكون ذلك
إبطالا لدعواه وهدما لكلامه، وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك
القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشبه الصادق بالكاذب).
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره (29 / 66):
[يقول تعالى ذكره:... (ولو تقول علينا) محمد (بعض الأقاويل)
الباطلة، وتكذب علينا (لأخذنا منه باليمين) يقول: لأخذنا منه بالقوة منا
والقدرة، ثم لقطعنا منه نياط القلب (103)، وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله
بالعقوبة، ولا يؤخره بها].
فتبين من هذه النصوص القرآنية أن السنة لا تكون مخالفة لكلام الله تعالى
ولا معارضة ولا مضادة له بوجه من الوجوه، وإنما هي مفسرة ومبينة لكلام الله
تعالى أو مخصصة أو نحو هذه الأمور، وأما التضاد فلا، ولما كان حديث الآحاد



(103) أي عرق القلب وهو المراد بقوله تعالى (الوتين).
175
يفيد الظن ولا يفيد العلم (104) كان لا بد لنا أن نعرضه على القرآن الكريم فإن
وجدنا فيه ما يخالف القرآن رددناه ولم نقبله، وإن لم نجد فيه ذلك وصح السند
فالأصل قبوله حينئذ، لكننا لا نبني عليه أصولا مقطوعا بها. وبذلك يكون
عرض الحديث على القرآن إحدى الضوابط التي يتعرف بها على ضعف الحديث
ورده، وقد نص شيخ المحدثين في وقته الحافظ الخطيب البغدادي على هذا حيث
قال في كتابة (الفقيه والمتفقه) ص (132) ما نصه:
(باب القول فيما يرد به خبر الواحد:..... وإذا روى الثقة المأمون خبرا
متصل الإسناد رد بأمور: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا
أصل له أو منسوخ).
فتأمل!!
[ثانيا]: الدليل على هذه القضية من السنة النبوية:
1 - ثبت عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما عن سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قال:
(إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم،
وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم،
وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه) وهو حديث
صحيح (105).



(104) وقد تقدم البرهان على هذا في فصل خاص وفي مقدمتنا على كتاب (دفع شبه التشبيه
بأكف التنزيه) للحافظ ابن الجوزي ص (27 - 45).
(105) ومن العجيب الغريب أن هذا الحديث صححه متناقض عصرنا!! في صحيحته
(2 / 369 برقم 732) وأحمد شاكر في تعليقه على الجزء الذي نشره من (صحيح ابن حبان)
كما تجد ذلك أيضا في التعليق على (صحيح ابن حبان) (1 / 264) طبعة مؤسسة الرسالة
و (سير أعلام النبلاء) (7 / 438)، وصححه أيضا الشيخ شعيب في تعليقه على (مشكل
الآثار) (15 / 344)، والحديث رواه الإمام ابن سعد في (الطبقات) (1 / 387)، والإمام
أحمد (3 / 497 و 5 / 425)، وابن حبان في (صحيحه) (1 / 264)، والبزار (كشف الأستار
1 / 105) وغيرهم ورجاله رجال البخاري ومسلم إلا عبد الملك بن سعيد فإنه من رجال
مسلم وهو ثقة. وقال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) (1 / 150): (رواه أحمد
والبزار ورجاله رجال الصحيح).
176
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم:
(إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني
أقول ما تعرفونه ولا تنكرونه، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا
به فإني لا أقول ما تنكرونه، وأقول ما تعرفونه).
رواه الطحاوي في (مشكل الآثار) (14 / 347) وهو حسن.
2 - وعن أبي أيوب الأنصاري وعوف بن مالك الأشجعي وعبد الله بن عمرو أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أطيعوني ما كنت بين أظهركم،
وعليكم بكتاب الله عز وجل، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه). رواه الطبراني في
الكبير (18 / 38) وفي مسند الشاميين (2 / 192) وقال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد)
(1 / 170): (رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون)، وحديث عوف بن مالك
رواه تمام في فوائده، وحديث عبد الله بن عمرو رواه أحمد في المسند (2 / 172 و 212).
[ومن الغريب العجيب أن الشيخ المتناقض!! صححه في صحيحته
3 / 458!!].
ووجه الاستدلال منه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتمسك بكتاب
الله تعالى بعد وفاته، لأن الحديث المروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم يمكن
أن يتلاعب به بعض الناس أو يدسوا فيه ما يوافق أهواءهم خلافا لكتاب الله تعالى
الذي تكفل الله تعالى بحفظه!! وفي حياته ص يمكن للانسان أن يستوثق منه
ص فيقول له: هل قلت يا رسول الله كذا أم لم تقله؟!
وهذا كما هو ظاهر دليل واضح على وجوب عرض الحديث على القرآن وعلى

177
أن القرآن هو الحاكم على الحديث لا العكس!!
والله الموفق. والذي يؤكد هذا:
3 - قوله ص:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي.. كتاب الله حبل ممدود
من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على
الحوض....).
رواه مسلم في (الصحيح) (4 / 1783) والترمذي (5 / 663) واللفظ له.
وأما حديث (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله
وسنتي) فحديث موضوع كما بينته في كتابي (صحيح صفة صلاة النبي) ص
(289) وذكرت جميع طرقه وهو من وضع النواصب أعداء آل البيت النبوي،
ليصرفوا الأمة عن اتباع آل البيت واقتفاء آثارهم!! وليضعوا لهم ما شاءوا من
الأحاديث المكذوبة ليقودوهم كيفما شاءوا!!
فانتبهوا لذلك!!
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن النبي ص أمر بالتمسك بكتاب الله
تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبفهم وحب علماء آل البيت
النبوي الأتقياء المخلصين عليهم السلام!! والتمسك بكفتهم ومعاداة أعدائهم
وموالاة أنصارهم!! نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم ومن محبيهم آمين.
4 - ومن الأحاديث التي تركز على القرآن وتبين أنه الأصل في الرجوع إليه أيضا
حديث أبي الدرداء قال رسول الله ص: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال،
وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته * (وما كان
ربك نسيا) *). رواه البزار (1 / 78) والدارقطني (1 / 137) والحاكم (2 / 375) والبيهقي
(10 / 12) وغيرهم وهو صحيح.
5 - وفي (صحيح مسلم) (3 / 1468) عن أم الحصين قال رسول الله ص:

178
(إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له
وأطيعوا).
الدليل منه ظاهر حيث بين أن حكم هذا الأمير خاضع لكتاب الله تعالى ولم
يربط الأمر بالسنة.
فتأمل (106)!!
6 - وروى الإمام الحاكم في (المستدرك) (3 / 391) عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه
قال:
(دوروا مع كتاب الله حيث ما دار وانظروا الفئة التي فيها ابن سمية (عمار بن
ياسر) فاتبعوها فإنه يدور مع كتاب الله حيث ما دار).
قلت: وكان سيدنا عمار مع إمام آل البيت بعد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وهو سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه فهذا الحديث فيه دلالة على وجوب
عرض الحديث على القرآن وترجيح ما فيه على ما ورد في السنة عند التعارض
والتمسك بطريقة علماء أهل البيت وأتباعهم السائرين على منهجهم والحمد لله
تعالى.



(106) أما مثل حديث (إن أناسا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم).
فمعناه: أنهم يقرأونه ويحفظونه للبركة والدعاء ولا يطبقون أحكامه ولا يفهمونه كما لا
يعرضون الحديث عليه!! وإنما غاية أمرهم قراءته وتلاوته وعدم إعمال أحكامه والابتعاد
عن الاشتغال بفهمه وتطبيقه!! وهم مشتغلون بأخذ أفكارهم ومبادئهم من الحديث
فقط دون عرض ما جاء فيه على القرآن وغاية أمرهم (صح السند ولم يصح السند)
مع إهمالهم الاستنباط من الكتاب الكريم!! قال تعالى * (أفلا يتدبرون القرآن أم
على قلوب أقفالها) * وقال تعالى * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقال تعالى * (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا) *!!
ومن المستشنع قول بعض من ألحد لا ينفع القرآن بغير سنة!! فاللهم هداك!!
179
عمل الصحابة رضي الله عنهم بذلك (أي عرضهم الحديث على القرآن):
1 - تقدم معنا في فصل إثبات أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم أن سيدنا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد حديث فاطمة بنت قيس في قضية النفقة
والسكنى للمطلقة ثلاثا وقال لها: (لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا
ندري حفظت أم نسيت) وهو في مسلم (2 / 1118) ويمكن أن يقال بأن هذا إجماع.
2 - وتقدم رد السيدة عائشة على سيدنا عمر وابنه عبد الله في مسألة تعذيب الميت
ببكاء أهله عليه لأنه معارض لقوله تعالى * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * وهو
في صحيح البخاري (3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 638 - 642).
3 - وتقدم أيضا ردها على من قال بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه،
فرأت السيدة عائشة أن هذا معارض لقول الله تعالى * (لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار) * ولقوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب...) * كما في صحيح البخاري (8 / 606) ومسلم (1 / 159 برقم 287).
تقرير أئمة السلف والمحدثين والعلماء لذلك أيضا:
اقتصر هنا على مثالين اثنين في هذا خشية الإطالة فأقول:
1 - رد الإمام أحمد - وهو من السلف ومن المحدثين - حديث (رفع عن أمتي
النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه) فقال كما نقل الحافظ ابن حجر في (تلخيص
الحبير) (1 / 282):
(ونقل الخلال عن أحمد قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف
كتاب الله وسنة رسول الله ص، فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة)
انتهى.
قلت: الحديث صحيح عندنا وقد فهم الإمام أحمد منه أنه مخالف للقرآن
فرده، وقد تقدم الكلام على هذا في المكلف والتكليف فلا تغفل عنه.

180
ومن ذلك أيضا رد أهل العلم كابن المديني والبخاري وابن كثير لحديث مسلم
(4 / 2149) (خلق الله التربة يوم السبت...) وذكر الخلق في سبعة أيام!! وهذا
يعارض القرآن الذي فيه أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، قال ابن كثير
في (تفسيره) (2 / 230) عند تفسير قوله تعالى * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات
والأرض في ستة أيام) * الأعراف: 54 ما نصه:
[فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده..... (خلق الله التربة
يوم السبت....) فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير
وجه... وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام ولهذا تكلم
البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن
كعب الأحبار وليس مرفوعا] انتهى.
أقول: وكلام كعب الأحبار هو من الإسرائيليات فانظر كيف دخلت
الإسرائيليات في الصحيح باعتراف الحفاظ!! [أنظر مقدمة كتاب دفع شبه التشبيه ص (50 -
51)].
نصوص أئمة أهل العلم المثبتة لهذه القاعدة:
قال الإمام الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث) ص (112) في النوع السابع
والعشرين:
(وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث
المجروح ساقط واه، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث
له علة فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا، والحجة عندنا الحفظ والفهم
والمعرفة لا غير....) ا ه‍.
وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص (143):
(إعلم أن للأحاديث دقائق وعلل وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة

181
في نظمها وتارة في كشف معناها...) ا ه‍.
وقال الحافظ ابن الجوزي أيضا في كتابه (الموضوعات) (1 / 99):
(وقد يكون الإسناد كله ثقات ويكون الحديث موضوعا أو مقلوبا أو قد جرى
فيه تدليس، وهذا أصعب الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النقاد....) ا ه‍.
ثم روى بإسناده (1 / 103) عن الربيع بن خثيم أنه قال: (إن للحديث ضوءا
كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره).
ورأيت في (لسان الميزان) (2 / 10 هندية) للحافظ ابن حجر ما نصه:
(برية بن محمد * عن إسماعيل الصفار، كذاب مدبر واضع حديث يا رسول
الله هل رجل له حسنات بعدد النجوم، قال: نعم عمر وهو حسنة من حسنات
أبيك يا عائشة، فذكره بإسناد الصحيحين عن إسماعيل الصفار، ثم قال الخطيب
وفي كتابه بهذا الإسناد عدة أحاديث منكرة المتون جدا).
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (المجموع) (4 / 342): (ومتى خالف
خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره).
وبذلك نكون قد أتممنا هذا البحث وبينا أن من الواجب على العلماء أن يتأملوا
في متن الحديث ومعناه عند تصحيحه فينظروا هل في كتاب الله تعالى ما يخالف
معناه، وقد ذكرنا أن الإمام الحافظ الخطيب البغدادي ضبط ذلك أيضا بخمسة
ضوابط فارجع إليها ص () وبالله تعالى التوفيق.

182
الدليل الثالث من أدلة التوحيد:
الإجماع
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا نخالف جماعة المسلمين، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ
والخلاف والفرقة).
الشرح:
الإجماع أحد أدلة الشرع العظيمة التي تدور عليها الأحكام وتستنبط منها،
وهو اتفاق المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصر من
العصور على حكم شرعي ما، وهو حجة قطعية لا ظنية فيقدم على حديث الآحاد
وينقطع عنده الشغب ولا يخص هذا هنا بمجتهدي أهل السنة والجماعة بل
يدخل فيه مجتهدو غيرهم أيضا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر هذا الفصل.
وقد نقل أهل العلم أمورا في العقائد أجمع أهل الحق واتفقوا عليها، لا يحل
لأي مسلم أن يخالف فيها البتة، فعلى ذلك ينبغي أن نعرف أن الإجماع أصل
ودليل في علم التوحيد، ويلزمنا أن نبين أدلته من الكتاب والسنة وننقل بعض
المسائل المجمع عليها التي نقلها العلماء في مصنفاتهم.
أدلة الإجماع ونصوص علماء الأمة المعتد بهم فيه:
1 - قال الله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * النساء: 115.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره (5 / 386):
(قال العلماء في قوله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول) * دليل على صحة القول
الإجماع). ا ه‍.

183
وقال ابن قدامة شيخ مذهب الحنابلة صاحب المغني في الفقه في كتابه روضة
الناظر في أصول الفقه ص (117) ما نصه:
(ولنا دليلان - أي على الإجماع - أحدهما قول الله تعالى: * (ومن يشاقق
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) * الآية، وهذا يوجب
اتباع سبيل المؤمنين ويحرم مخالفتهم...) ا ه‍.
وقال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه القيم (الفقيه والمتفقه)
صحيفة (154) ما نصه:
(إجماع أهل الاجتهاد في كل عصر حجة من حجج الشرع ودليل من أدلة
الأحكام مقطوع على مغيبه، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ وذهب إبراهيم بن
سيار النظام إلى أنه يجوز إجماع الأمة على الخطأ (107)... وحجتنا فيما ذهبنا إليه
قوله تعالى:
* (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * ووجه الدليل من هذه الآية أن الله
تعالى توعد اتباع غير سبيل المؤمنين فدل على أن اتباع سبيلهم واجب ومخالفتهم
حرام.... إلخ) انتهى كلام الحافظ البغدادي.
2 - الدليل الثاني: ما تواتر من قوله ص: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
هذا الحديث روي بألفاظ متعددة ومجموعها يفيد الصحة بل يفيد التواتر
المعنوي كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، منهم الإمام الحافظ البغدادي في



(107) وتدبر نقطة مهمة هنا، وهي: أن الحافظ البغدادي لم ينقل عن رجل واحد من أهل
السنة أنه خالف في حجية الإجماع أو عدم إمكان وقوعه، فتكون حجية الإجماع لا
خلاف فيها بين أهل الحق، ولذلك لم يذكر العلماء خلافا معتبرا في المسألة إلا عن
رجل ليس من أهل السنة والجماعة أصلا وأمثاله.
184
(الفقيه والمتفقه) ص (167) حيث قال:
(وجواب آخر وهو أنها أحاديث تواتر من طريق المعنى لأن الألفاظ الكثيرة
إذا وردت من طرق مختلفة ورواة شتى ومعناها واحد لم يجز أن يكون جميعها كذبا،
ولم يكن بد من أن يكون بعضها صحيحا) ا ه‍ قلت: ولا معارض لها.
وقد استوعب أكثر طرقه الإمام المفيد المحدث سيدي عبد الله بن الصديق في
كتابه (الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج) ص (180 - 190) وإليك بعض ما ورد
من ألفاظ هذا الحديث:
أ - روى الإمام الحاكم في المستدرك (1 / 116) الحديث عن ابن عباس فقال:
حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بالويه (108) ثنا موسى بن هارون (109) ثنا
العباس بن عبد العظيم (110) ثنا عبد الرزاق (111) ثنا إبراهيم بن ميمون
العدني (112)... حدثني ابن طاوس (113) عن أبيه (114) قال: سمعت ابن عباس
يقول: قال رسول الله ص: (لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا ويد الله على
الجماعة).
قال الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم في المستدرك (1 / 120) بعد أن سرد تسعة
أحاديث في حجية الإجماع.



(108) ترجمه الذهبي في السير (15 / 419) بالإمام المفيد الرئيس، من كبراء بلده.
(109) مشهور ترجمة أيضا في السير (12 / 116) بالإمام الحافظ الكبير الحجة.
(110) من رجال الأربعة، قال الذهبي في السير (12 / 303) الحافظ الحجة الإمام، قال
النسائي: ثقة مأمون. ا ه‍. باختصار.
(111) هو الإمام الحافظ الكبير صاحب المصنف، أشهر من أن يعرف.
(112) ثقة، وثقه ابن معين وعبد الرزاق، وفي الكاشف للذهبي (1 / 95 / 213) قال:
وثق.
(113) ثقة من رجال الستة.
(114) ثقة من رجال الستة أيضا.
185
(فقد ذكرنا تسعة أحاديث بأسانيد صحيحة يستدل بها على الحجة الإجماع
واستقصيت فيه تحريا لمذاهب الأئمة المتقدمين رضي الله عنهم) ا ه‍.
وقال الحافظ الذهبي معلقا على كلام الحاكم مقرا له - في نفس الصحيفة -:
(فهذه الأحاديث التسعة تدل على أن الإجماع حجة) ا ه‍.
ب - قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص (3 / 141):
(قال ابن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن
يسير بن عمرو قال: شيعنا أبا مسعود (البدري الصحابي عقبة بن عامر رضي الله
عنه) حين خرج... فقال لنا: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح
من فاجر وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة).
قال الحافظ ابن حجر: (إسناده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي).
انتهى من التلخيص.
3 - الدليل الثالث: في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي (1 / 178) في باب الإجماع:
[وعن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: قلت يا رسول الله، إن نزل بنا أمر
ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرني؟ قال:
(شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة) رواه الطبراني في
الأوسط ورجاله موثقون من أهل الصحيح].
4 - الدليل الرابع على الإجماع: جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه
قال:
(ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند
الله سئ، وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه).
رواه الحاكم في المستدرك (3 / 79) وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه) ا ه‍.

186
وأقره الحافظ الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 177 - 178): (رواه
أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون) ا ه‍.
وقال الإمام الغزالي في المستصفى (1 / 278) - عن هذا الأثر -:
(إن المراد به ما رآه جميع المسلمين لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو
آحادهم، فإن أراد به جميع المسلمين فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن
شئ إلا عن دليل، والإجماع حجة وهو مراد الخبر، وإن أراد الآحاد لزم استحسان
العوام فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر، قلنا: إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي
فائدة لأهلية النظر) ا ه‍.
5 - الدليل الخامس على الإجماع: روى الإمام الحافظ الترمذي في سننه (3 / 315
- 4 / 225) عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس: إني قمت
فيكم كمقام رسول الله ص فينا فقال:
(أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم... من أراد بحبوحة الجنة فليلزم
الجماعة..) قال الترمذي حديث حسن صحيح. والحاكم وصححه ووافقه الذهبي
ورواه الطيالسي وغيرهم، والجابية بلدة قرب دمشق.
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الرسالة (403):
(وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين
لازم) ا ه‍.
وقال الشافعي رضي الله عنه أيضا في الرسالة (475):
(ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول
به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في
الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس
إن شاء الله تعالى) ا ه‍.

187
فهذه بعض أدلة الإجماع التي صيرته حجة قاطعة من حجج الشرع وفي رسالتنا
(احتجاج الخائب بعبارة من ادعى الإجماع فهو كاذب) بيان واضح عما يدور من
المسائل حول قضية الإجماع.
(فرع): الإجماع يقدم على الحديث الصحيح الآحاد:
لما كان الإجماع يفيد العلم والقطع وخبر الآحاد يفيد الظن ولا يفيد العلم
قدم الأئمة من علماء السلف والخلف الإجماع على حديث الآحاد عند التعارض
وإليك بعض نصوصهم في ذلك:
1 - قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (وهو من السلف):
(الأصل القرآن والسنة وقياس عليهما والإجماع أكبر من الحديث المنفرد) رواه
عنه الحافظ البيهقي في (مناقب الشافعي) (2 / 30) وأبو حاتم في (آداب الشافعي)
ص (231 و 233) وأبو نعيم في (الحلية) (9 / 105).
2 - وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (شرح المهذب) (4 / 342):
(ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره).
3 - قال الحافظ الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) (1 / 132):
(باب القول فيما يرد به خبر الواحد:
.... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:
والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له...)
انتهى
كلام الحافظ البغدادي.
[تنبيه مهم جدا هنا]:
أقول: ولا يلزم في انعقاد الإجماع اجتماع المجتهدين وأهل العلم بأبدانهم

188
بل المطلوب اجتماع كلمتهم فإن اجتمعت أيضا أبدانهم في مجلس واحد فبها
ونعمت، وفي هذا يقول الإمام الشافعي في الرسالة صحيفة (475):
(إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان
قوم متفرقين وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء
والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان
لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من
التحليل والتحريم والطاعة فيهما). ا ه‍.
(فرع): في نقل بعض المسائل المجمع عليها في التوحيد والعقيدة:
لا بد أن نذكر الآن بعض المسائل العقائدية المجمع عليها من مرجعين
معتمدين في ذلك حتى يتم ترسيخ هذه القضية بالأمثلة ويمكن فهمها بكل
وضوح:
قال ابن حزم (توفي سنة 457 ه‍) في كتابه (مراتب الإجماع) ص (167):
[باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع:
اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له خالق كل شئ غيره، وأنه تعالى
لم يزل وحده ولا شئ غير معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء، وأن النفس
مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق، وأن النبوة حق، وأنه كان أنبياء
كثير منهم من سمي الله تعالى في القرآن ومنهم من لم يسم لنا، وأن محمد بن عبد الله
القرشي الهاشمي المبعوث بمكة المهاجر إلى المدينة رسول الله ص إلى جميع الجن
والإنس إلى يوم القيامة.
وأن دين الإسلام هو الدين الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ
لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبدا، وأن من خالفه ممن بلغه كافر
مخلد في النار أبدا.

189
وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبدا لا تفنى ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها
أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين وأتباعهم على حقيقة كما أتوا به قبل أن ينسخ
الله تعالى أديانهم بدين الإسلام.
وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبدا لا تفنى ولا يفنى أهلها أبدا بلا
نهاية (115)، وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام، ولمن خالف الأنبياء
السالفين قبل مبعث رسول الله ص وعليهم الصلاة والتسليم وبلوغ خبره إليه.
وأن القرآن المتلو الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها
من أول (الحمد لله رب العالمين) إلى آخر (قل أعوذ برب الناس) هو كلام الله
عز وجل ووحيه أنزله على نبيه محمد ص مختارا له من بين الناس.
وأنه لا نبي مع محمد ص ولا بعده أبدا. إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه
السلام أيأتي قبل يوم القيامة أم لا، وهو عيسى ابن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل
قبل مبعث محمد عليه السلام.
واتفقوا أن كل نبي ذكر في القرآن حق كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح
وشعيب ويونس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهارون وداود
وسليمان والياس واليسع ولوط وزكريا ويحيى وعيسى وأيوب وذي الكفل] انتهى.
وقال الأستاذ الإمام عبد القاهر البغدادي التميمي في خاتمة كتابه (الفرق بين
الفرق) ص (323):



(115) وفي هذا رد بليغ على ابن تيمية الذي يقول بفناء النار هو وتلميذه ابن القيم كما تجد
ذلك في كتاب ابن القيم (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ص (309) وما بعدها،
وما ادعاه بعضهم من أن ابن تيمية أنكر ذلك في بعض كتبه فهو كذب بحت!! يرويه
كذاب مبين!! وقد أثبت هذا القول على ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ورد عليهما
الألباني في مقدمته لكتاب الصنعاني (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار)
وارجع إلى كتابنا (البشارة والإتحاف بما بين ابن تيمية والألباني في العقيدة من
الاختلاف) ص (13).
190
[بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة: قد اتفق جمهور أهل السنة
والجماعة على أصول من أركان الدين، كل ركن منها يجب على كل عاقل بالغ
معرفة حقيقته، ولكل ركن منها شعب، وفي شعبها مسائل اتفق أهل السنة فيها
على قول واحد، وضللوا من خالفهم فيها] ا ه‍.
وذكر منها صفحة (332):
[وقالوا: إن الحوادث قبل حدوثها لم تكن أشياء ولا أعيانا، ولا جواهر ولا
أعراضا، على خلاف قول القدرية في دعواها أن المعدومات في حال عدمها
أشياء، وقد زعم البصريون منهم أن الجواهر والأعراض كانت قبل حدوثها
جواهر وأعراضا، وقول هؤلاء يؤدي إلى القول بقدم العالم، والقول الذي
يؤدي إلى الكفر كفر في نفسه.
وقالوا: إن صانع العالم قديم لم يزل موجودا، على خلاف قول المجوس
في قولهم بصانعين: أحدهما شيطان محدث، وخلاف قول الغلاة من الروافض
الذين قالوا في علي: إنه جوهر مخلوق محدث، لكنه صار إلها صانعا بحلول
روح الإله فيه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وقالوا بنفي النهاية والحد عن صانع العالم، على خلاف قول هشام بن الحكم
الرافضي في دعواه أن معبوده سبعة أشبار بشبر نفسه، وخلاف قول من زعم من
الكرامية أنه ذو نهاية من الجهة التي يلاقي منها العرش، ولا نهاية له من خمس
جهات سواها.
وأجمعوا على إحالة وصفه بالصورة والأعضاء] ا ه‍.
وذكر منها أيضا ص (333):
[وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان، على خلاف قول
من زعم من الهشامية والكرامية أنه مماس لعرشه، وقد قال أمير المؤمنين علي
رضي الله عنه: إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته، وقال

191
أيضا: قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان.
وأجمعوا على نفي الآفات والغموم والآلام واللذات عنه، وعلى نفي الحركة
والسكون عنه، عل خلاف قول الهشامية من الرافضة في قوفا بجواز الحركة
عليه، وفي دعواهم أن مكانه حدت من حركته، ا ه‍.
[فائدة]: واعلم أنه لا يسلم لكل ما يدعيه الإمام عبد القاهر البغدادي
من الاجماعات حتى يتحقق الباحث والعالم من ذلك، فإنه نقل الإجماع على أن
الأرض لا تتحرك وهو خطأ منه، وهذا خلاف ما ذكره ابن حزم من الاجماعات
فإنني لم أجد للآن ما أخطأ فيه فيما نقله من الإجماع في الاعتقاد فتنبه لذلك ولا
تغفل عنه.
فهذه نماذج وأمثلة عن بعض الأمور العقائدية التي أجمع عليها أهل العلم
من أهل الحق واتفقوا عليها.
تنبيه مهم جدا على قاعدة مهمة
في الإجماع
وأود هنا أن أنبه على قاعدة مهمة (116) وهي: أن دعوى الإجماع في أصول
الدين وأسس العقيدة دون بيان دليل المسألة (أي دون أن يكون لها دليل واضح
قطعي الدلالة والثبوت في الكتاب والسنة) غير مقبول، وذلك لأن مسائل أصول
الدين والتوحيد، جاءت بها الدلائل الواضحة وبينها الله تعالى لعباده في الكتاب
والسنة ليعرفها جميع الناس ويؤمنوا بها فمن المحال أن يكلفهم في إيمانهم بشئ
لا يكون دليله واضحا ظاهرا مقطوعا به. أما في العمليات فيمكن قبوله متى تحققنا
الإجماع ولو لم نعرف دليله، فهذه نقطة مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.



(116) وهذا التنبيه وما فيه من القواعد هو لدفع ما قد يدعيه بعضهم من الإجماع في مسائل
لم يجمع عليها حقيقة كمسألة الصراط، فتدبر!!
192
وأعلم أيضا أنه لا بد في مسائل أصول الدين أن يكون الأمر مجمعا عليه
بين الأمة جميعها بكافة فرقها المعتد بهم ولا يكفي في هذا الأمر إجماع فرقة من
فرق الأمة فحسب، فلا يكفي إجماع أهل السنة والجماعة!! وذلك لأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح الذي هو مستند الإجماع الصريح:
(لا تجتمع أمتي على ضلالة) (117) ولم يقل ص لا يجتمع أهل السنة والجماعة على
ضلالة، فلا بد من النظر في مثل هذا الأمر في قول الزيدية والمعتزلة والأباضية
والشيعة وهؤلاء ربما لم يجمعوا مع أهل السنة في القضية التي يدعى الإجماع عليها،
فصار أن الأمر غير مجمع عليه الآن على التحقيق بدليل وجود الخلاف بين فرق
الأمة (118).
قال الإمام الغزالي في (المستصفى من علم الأصول) (1 / 183):
(مسألة: المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر، بل هو
كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر، فإن قيل: لعله يكذب في



(117) رواه الحاكم في (المستدرك) (1 / 116) وغيره وهو صحيح.
(118) مما يجدر التنبيه عليه هنا أن أئمة أهل السنة والجماعة جوزوا الصلاة خلف المعتزلة،
قال الخطيب الشربيني في (مغني المحتاج) (4 / 135): (قاله البيهقي وغيره من
المحققين لإجماع السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم).
والذين لا يعتد بهم في الاتفاق والاختلاف من الفرق هم الكرامية الذين أكفرهم سائر
فرق الإسلام.
وقد عابوا على الزيدية أنهم جعلوا إجماع العترة إجماعا معتبرا ومعتدا به، وعللوا إبطالهم
لذلك بأن هذا إجماع طائفة من الأمة!! ولم يعيبوا على أنفسهم أنهم جعلوا إجماعهم
دون سائر فرق الإسلام حجة لا يجوز مخالفتها ولا العدول عنها فانظروا إلى هذا
التخابط وإلى هذا العدول عن قوله ص (لا تجتمع أمتي على ضلالة)!! مع أن ما
قاله الزيدية أقرب للحق مما قاله أصحابنا بلا دليل، لأن الزيدية احتجوا بدليل واضح
وهو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة جمعاء بالتمسك بالحبلين كتاب الله تعالى
وعترته ص وهو في (صحيح مسلم) (4 / 1873 برقم 2408) وغيره.
193
إظهار الخلاف وهو لا يعتقده، قلنا: لعله يصدق، ولا بد من موافقته ولو لم
نتحقق موافقته، كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته
واستدلالاته، والمبتدع، ثقة يقبل قوله (119)، فإنه ليس يدري أنه فاسق، أما
إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه
مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين (120) وهو كافر
وإن كان لا يدري أنه كافر..).
[قاعدة مهمة]: الإجماع المقبول بعد زمن الصحابة هو الإجماع في
حكم حادثة لم تكن قد وقعت يومئذ في زمنهم رضي الله عنهم، ويشترط أيضا
فيه أن لا يكون في المسألة دليل مقطوع به يخالف ما أجمعوا عليه، أما مسائل
أصول الدين وما يجب على كل المسلمين أن يعتقدوه فلا يقبل فيه إجماع بعد عصر



(119) ومن أكبر الدلائل على ذلك أن صاحبي الصحيحين رويا للمبتدع. الداعي لبدعته ولغير
الداعي، والتحقيق في هذا أن المبتدع عند قوم من أهل السنة هو صاحب سنة واتباع
عند آخرين منهم، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتب الجرح والتعديل وانظر الأمثلة
عليهم في (تدريب الراوي) (1 / 328).
(120) قوله رحمه الله تعالى (لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين)
من أبدع ما قيل في تعريف الأمة من التحقيق الدقيق الجازم البعيد عن المؤثرات التي
ليس من وراء ذكرها طائل!! ومن تلك المؤثرات التي لا يدرك مغزاها الجامدون على
ظواهر الكلمات والنصوص قوله صلى الله عليه وآله وسلم (من صلى صلاتنا واستقبل
قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته)
رواه البخاري (1 / 496) وغيره عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الحافظ
ابن حجر في شرحه (1 / 497): (فيه أن أمور الناس (أي المسلمين) محمولة على
الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف
ذلك) وما بين القوسين () من كلامي لتوضيح المراد. وقال الحافظ أيضا في
(الفتح) (10 / 21): (قوله (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا) المراد من كان على
دين الإسلام). ا ه‍ فتأمل!!
194
الصحابة، وليس ذلك لأننا نقول بأنه لا يعتد الإجماع بعد زمن الصحابة كما ذهب
إليه ابن حزم وغيره، وإنما لأن العقيدة لا يجوز أن تكون مسألة خلافية بين الصحابة
ثم يجمع عليها بعدهم، لأنه يتبين حينئذ أن الأمر لم يكن عقيدة واجبة على
كافة المسلمين في زمن من الأزمان وهذا يخالف مفهوم العقائد فافهم.
الدليل الرابع من أدلة التوحيد:
العقل
إعلم يرحمك الله تعالى أن العقل أصل التكليف فمتى فقد العقل فقد
التكليف، وهو أصل من الأصول التي ينضبط بها فهم الكتاب والسنة ومعرفة
الإجماع وما يتعلق بذلك من القضايا المهمات، فإذا كان بهذه الأهمية فلا بد أن
نبين ما يتعلق به من تعريفه وإيضاح المراد من كونه أحد الأدلة في علم التوحيد
والنصوص الدالة في الكتاب والسنة على اعتباره وما هو معنى قول العلماء أن الدليل
العقلي مقدم على الدليل النقلي عند التعارض فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أولا: تعريف العقل:
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات) في مادة (عقل):
(العقل: يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان
بتلك القوة: عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين - سيدنا علي (121) - رضي الله عنه:
رأيت العقل عقلين * فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع إذا * لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع
.... وهذا العقل هو المعني بقوله * (وما يعقلها إلا العالمون) * وكل موضع
ذم الله فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول نحو: * (ومثل الذين



(121) لفظة سيدنا علي هي من زياداتي للإيضاح.
195
كفروا كمثل الذي ينعق) * إلى قوله: * (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * ونحو
ذلك من الآيات، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى
الأول. وأصل العقل الامساك والاستمساك كعقل البعير بالعاقل وعقل الدواء
البطن، وعقلت المرأة شعرها وعقل لسانه كفه، ومنه قيل للحصن معقل
وجمعه معاقل) انتهى.
فقول سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه العقل عقلان مطبوع ومسموع
يقتضي بيان أن العقل يراد به شيئان:
الأول: القوة المتهيئة في الإنسان لقبول العلم، فإن كانت قوية سمي
صاحبها ذكيا وكان لديه استعداد للتطور السريع أو البطئ على حسب تلك
القوة، وإن كانت ضعيفة سمي صاحبها غبيا مع كونه عاقلا، وهو إما ليس
مستعدا للتطور العقلي وللوصول لدرجة بعد درجة، وأما أن يمكن تطوره لكن
ببطء شديد، وهذه إرادة المولى سبحانه وتعالى وحكمته في خلقه، * (لا يسأل
عما يفعل وهم يسألون) * ولله تعالى في خلقه شؤون.
المعنى الثاني: المراد بلفظ العقل هو: العلم والفهم الناتج عن القوة المتهيئة
في الإنسان لقبول العلم بالأشياء وفهمها.
فالمعنى الأول للعقل يسمى (العقل المطبوع) وهو القوة التي خلقها الله تعالى
في كل إنسان، أي الذي خلق وكان طبعا للانسان، والمعنى الثاني الذي شرحناه
يسمى (العقل المسموع) أي الذي ينتج من سماع المعلومات وتلقيها وليس هو
الغريزة التي خلقها الله تعالى في الجسم.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في هذا المعنى (الإحياء 1 / 88):
[... ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل،
ومن ظن أن عقل النبي ص مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس
في نفسه من آحاد السوادية! وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما أختلف الناس

196
في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من
المعلم، وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق
الأمور بدون التعليم؟ كما قال تعالى * (يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار نور على
نور) * وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة
من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام. وعن مثله عبر النبي ص حيث
قال (إن روح القدس نفث في روعي: أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما
شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به). وهذا النمط من تعريف
الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن
ومشاهدة الملك بحاسة البصر ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في
الروع...) ا ه‍.
ولا نريد هنا أن نسهب أو نطيل بأكثر من هذا إذ قد فهم معنى العقل.
ثانيا: النصوص الشرعية الدالة على اعتبار العقل وأنه هو مناط التكليف:
لقد ذكر الله تعالى العقل في نحو (49) موضعا في كتابه العزيز وإليك بعض
ذلك:
قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك
التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض
بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء
والأرض لآيات لقوم يعقلون) *.
وذكرت أيضا عبارة (لآيات لقوم يعقلون) في القرآن الكريم بعد الحث على
التفكر والنظر في المصنوعات والمخلوقات لمعرفة الصانع والخالق سبحانه وتعالى في
أكثر من آية منها في: (سورة الرعد: 4، وسورة النحل: 12، وسورة الروم:
24).
. وذم الله تعالى الكفار لأنهم لم يستعملوا عقولهم فقال عنهم:

197
* (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * البقرة: 171.
. وذم تقليدهم لآبائهم وعدم استعمالهم لعقولهم فقال سبحانه:
* (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) * البقرة: 170.
. وقال سبحانه:
* (ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون) * البقرة: 75.
. وذمهم سبحانه أيضا على عدم استعمالهم لعقولهم فقال:
* (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) * العنكبوت: 63 وفي مواضع أخرى قال
سبحانه أيضا: * (وأكثرهم لا يعقلون) *.
. وقال سبحانه فيمن لا يستعمل العقل:
* (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * الأنفال: 22.
. وقال تعالى:
* (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * يونس: 100.
. وقال تعالى:
* (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون
بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * الحج: 46.
. وقال عز وجل:
* (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل
سبيلا) * الفرقان: 44.
. وقال تعالى:
* (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) * الحشر: 14.
. وقال سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة في كتابه العزيز:

198
* (أفلا تعقلون) *.
(منها في البقرة: 44 و 76، وآل عمران: 65، والأنعام: 32،
والأعراف: 169، وغيرها).
. وقال تعالى مبينا حال أصحاب النار:
* (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * الملك: 10.
ففي هذه الآيات دليل واضح على اعتبار العقل في الشرع وبيان قيمته الكبيرة
لأنه لا يمكن تحقيق فهم نصوص الشريعة واستنباط الأحكام من أدلتها وادارك
قواعدها وموازينها إلا بالعقل الذي هو مناط التكليف وأساسه.
وأعجب من قوم تشبثوا بتفسير الاستواء المذكور في القرآن في سبعة مواضع
بما يروق لأهوائهم بمعان تسوق إلى التشبيه والتجسيم، وهم مع ذلك يهملون
إعمال العقل واعتباره في النصوص بل ويحضون على إهماله والأعراض عما يحكم
به مع أنه مذكور في القرآن 7 + 7 = 49 مرة تقريبا أو أكثر بقليل!!!
ولله في خلقه شؤون!!
وقد جاء بيان فضل العقل أيضا في السنة الصحيحة عن سيدنا رسول الله
ص، ففي البخاري (1 / 405) ومسلم (1 / 87) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما قال رسول الله ص للنساء:
(ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) فقالت امرأة:
يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ فقال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين
تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل...) الحديث.
وذلك لأن الله تعالى خص المرأة بوظيفة عظيمة في الإنسانية وهي تربية الأجيال
وإنشاء الرجال، ولما كانت هذه الوظيفة تقتضي العطف والحنان وذلك من حكمة
الله تعالى العظيمة جعل الله تعالى جانب العاطفة عند المرأة غالبا على جانب العقل

199
وهذا من كمال وظيفتها العظيمة الخاصة بها التي خلقت من أجلها حتى تكون سكنا
وأمنا، ولذلك وجدنا أن الإسلام يكرمها ويعظمها ويحارب إهانتها، وكل من
الرجل والمرأة مكلف بأحكام الشريعة ويمكنه استيعابها وفهمها إلا أن فهم الرجل
لأنه أكثر عقلا أقوى، والله الموفق.
وفي (صحيح مسلم) (3 / 1323) عن بريدة: أن ماعز بن ما لك الأسلمي أتى
رسول الله ص فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وأني أريد أن
تطهرني، فرده فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زينت فرده الثانية
فأرسل رسول الله ص إلى قومه فقال:
(أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا) فقالوا: ما نعلمه إلا وفي
العقل، من صالحينا فيما نري، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا فأرسل عنه
فأخبروه: أنه لا بأس به ولا بعقله...) الحديث.
وجه الدلالة منه ظاهر وهو أنه إن كان ناقص العقل بحيث أنه يسقط عنه
التكليف أو يفقد عقله في وقت دون وقت فلا يكلف فيما فعله فإنه لا يقام عليه
الحد، كما تقرر في القواعد الفقهية بمقتضى حديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن
الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق) وفي بعض
الروايات (وعن المجنون حتى يعقل) وفي بعضها (وعن المعتوه حتى يعقل) (122).



(122) رواه أحمد (6 / 100) والبخاري في صحيحه معلقا (9 / 388) و (12 / 120) من حديث
سيدنا علي رضي الله عنه وهو حديث صحيح، روي مرفوعا من حديث سيدنا علي
والسيدة عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وأخرجه النسائي (6 / 156) وأبو داود
(4 / 140) والترمذي (4 / 32) وابن خزيمة (2 / 102) وابن حبان (1 / 178) وسعيد بن منصور
في سننه (2 / 68) والدارمي (2 / 171) والبزار (2 / 212 كشف الأستار) والدارقطني
(3 / 139) وابن الجارود في المنتقى (برقم 148 و 808) وابن ماجة (1 / 658) والحاكم في
المستدرك (2 / 59) وصححه، والبيهقي (1 / 56) وغيرهم.
200
[ثالثا] مسألة تعارض العقل والنقل:
فإذا تأملت في الكلام المتقدم جيدا آن أن نبين لك ما هو المراد بقولهم: إن
العقل مقدم على النقل عند التعارض فنقول:
المراد من كون الدليل العقلي مقدم على الدليل الشرعي عند التعارض هو:
أن العقل يدرك من نصوص الشرع المتواردة في قضية معينة أن هناك نصا من
نصوص الآحاد التي هي غير قطعية الدلالة أو غير قطعية الثبوت أن ظاهره الذي
قد يتبادر إلى الذهن من أول وهلة غير مراد، فإن ظاهر قول الله سبحانه وتعالى
في الحديث القدسي (كنت رجله التي يمشي بها) (البخاري 11 / 341) غير مراد، لأن
العقل أدرك بأن ظاهر هذا النص غير مقصود، ذلك لأن القاعدة الشرعية القطعية
المستفادة من نصوص كثيرة محكمة في الكتاب والسنة تفيد تنزيه الله عن مشابهة
المخلوقات وعن الحلول فيها، والعقل أساس التكليف لأنه هو الذي يدرك معاني
النصوص الشرعية وما هو المراد منها وبفقده يفقد التكليف، والله تعالى مدح العقل
وبين لنا فضله وأنه هو آلة الاستنباط في نصوص كثيرة جدا في القرآن الكريم تقدم
بعضها ومنها قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه
الذين يستنبطونه منهم) * ولولا العقل لكان الناس كالبهائم، قال الله تعالى:
* (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * وكم آية قال تعالى
فيها للناس * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * وذم سبحانه أناسا فقال فيهم:
* (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * وهم مع ذلك كانوا يسمعون ويرون، وقال
عن آخرين وهم في غاية الخبث والتمرد * (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) * وقال
سبحانه * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) * والآيات في
ذلك كثيرة جدا كما تقدم.
فتبين بذلك أن حديث الآحاد الذي يفيد الظن - وهو غير قطعي - إذا عارضه
العقل، أي ما يوجبه العقل ويدركه من تقرير أدلة الكتاب والسنة المتظافرة على
معنى يخالف هذا الحديث الفرد فإنه يطرح ولا يؤخذ به البتة، أو لشئ آخر يدل

201
عليه العقل كتخصيص أو استثناء أو غير ذلك، فينبغي أن يعرف طالب العلم
بأن العلماء اختصروا هذا المعنى فقالوا:
إذا عارض الدليل النقلي الدليل العقلي وجب تقديم العقلي، ومرادهم بالنقلي
هو الآحاد أو نص غير قطعي الدلالة، ومرادهم بالعقلي إدراك العقل تظافر أدلة
كثيرة على معنى ما.
ونذكر ههنا مثالين لهذا الأمر لتتضح هذه المسألة:
(أولا): ردت السيدة عائشة كما تقدم على من قال أو روى أن سيدنا رسول
الله ص رأى ربه وهو سيدنا ابن عباس، ففي صحيح مسلم (1 / 158) عن عطاء
عن ابن عباس قال (رآه بقلبه) وذكر الحافظ في الفتح (8 / 608) أن ابن خزيمة
روى بإسناد قوي عن سيدنا أنس أنه قال (رأى محمد ربه).
قلت: ردت السيدة عائشة رضي الله عنها جميع ذلك كما في البخاري
(8 / 606) ومسلم (1 / 159) فعن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا
أمتاه: هل رأى محمد ربه فقالت: (قد قف شعري مما قلت!! أين أنت من
ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم
قرأت * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * * (وما كان
لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) *).
فانظر يرحمك الله تعالى كيف ردت السيدة عائشة النص الظني بالعقل، أي
بما فهمه العقل وحكم به اعتمادا على القواعد الأصلية المبنية على نصوص القرآن
القطعية، وهذا هو المراد عند من قال: (إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل)
ولا يعني ذلك أن ترد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمجرد رفض العقل لها
هكذا!! لا!! ولم يقل بهذا عاقل موحد فافهم هداك الله تعالى.
[ثانيا]: روى مسلم في (الصحيح) (4 / 2149 برقم 2789) عن أبي هريرة مرفوعا:
(خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق

202
الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث
فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في
آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل).
ففي هذا الحديث إثبات أن الله خلق السماوات والأرض في سبعة أيام، وهذا
مخالف للقرآن وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام،
قال الله تعالى: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) *
الأعراف: 53.
فإن قال قائل: هذا الحديث لا يعارض الآية السابقة، وإنما يفصل كيفية
تطور الأرض وما خلق فيها وحدها، وأن ذلك كان في سبعة أيام وهي غير الأيام
الستة المذكورة في الآية أو نحو هذا الكلام كما صرح به متناقض!! عصرنا.
قلنا في جوابه: لا، ليس كذلك وكلامك باطل من وجوه عديدة أذكر لك
ثلاثة منها:
الأول: أن سيدنا آدم المذكور في الحديث لم يخلق على الأرض إنما خلقه الله
في الجنة ثم أهبط بعد مدة إلى الأرض، فهذا الحديث لا يتكلم إذن بما حصل
على الأرض خاصة، ثم قوله فيه: (وخلق النور يوم الأربعاء) ليس خاصا أيضا
بالأرض لأن النور الموجود على الأرض بشكل عام مصدره من الشمس التي هي
في السماء والنور موجود أيضا في الجنة، فهذا الحديث فيه ذكر ما في الأرض وما
في السماء.
وكذلك قوله المكروه في الحديث لا يفهم معناه!! والمكروه يعم أشياء كثيرة،
والمعروف أن المكروه أو الشر يخلقه الله عز وجل في وقته الذي يحصل فيه، وهذا
الحديث فيه هذه الجمل الركيكة التي تدل على أن سيدنا رسول الله ص ما نطق به.
الثاني: أن القرآن يرد ذلك أيضا بصراحة قال تعالى: * (قل أئنكم لتكفرون
بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها

203
رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) *
فصلت: 9 - 10.
فهذا صريح في أنه سبحانه خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة
أيام ومجموع ذلك ستة أيام، فأين الأيام السبعة من ذلك؟!
الثالث: ولهذه الأدلة العقلية المأخوذة بالتأمل والتدبر من القرآن الكريم رد
أئمة المحدثين الذين أدركوا هذا الشذوذ في متن الحديث هذا الحديث وطعنوا فيه.
قال ابن كثير في تفسيره (1 / 99 طبعة الشعب):
(هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه ابن المديني
والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة
إنما سمعة من كلام كعب الأحبار، وقد اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا).
قلت: وقد أنكره البخاري في كتابه (التاريخ الكبير) (1 / 413 - 414)
وغيره، حتى أن الشيخ ابن تيمية!! نقل طعن الحفاظ فيه في (فتاواه) (17 / 236)
وهذا هو تطبيق القاعدة التي تقدمت والتي نص عليها إمام المحدثين في عصره
الخطيب البغدادي حيث قال في كتابه (الفقيه والمتفقه) (1 / 132):
(باب القول فيما يرد به خبر الواحد:
.... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد
بمجوزات العقول وأما بخلاف العقل فلا....).
فتدبر ذلك جيدا والله الموفق!!

204
الفصل الثاني في الأدلة
بيان الأدلة الموهومة الباطلة
التي لا يجوز الاستدلال بها في العقيدة
مما تقدم تبين لنا ما هي الأدلة الشرعية المعتبرة في العقيدة وعلم التوحيد لكن
بعض الناس يستدلون أحيانا كثيرة بأشياء لا تعتبر أدلة شرعية في هذا الباب إنما
هي شبه فاسدة وأدلة باطلة، يضعونها في مقالاتهم ومحاضراتهم وخطبهم ويذكرونها
في مصنفاتهم فيوهمون بها العامة ليظنوا أنها أدلة شرعية معتبرة مثل استدلالهم بما
يسمونه: الفطرة ودين العجائز وكذلك الكتب السماوية المحرفة كالتوراة والإنجيل
وفهم السلف والقياس، وها نحن ذا نتعرض لهذه الأمور واحدا واحدا لنبين فساد
الاستدلال بها شرعا بموازين الكتاب والسنة لأنها من الأمور الباطلة الخطيرة
لتعلقها بالتوحيد والعقيدة ولئلا يبقى الداعية المسلم والواعظ والمدرس حاملا لها
ومتحدثا بها غالطا دون أن يجد من ينبهه عليها:
الدليل الموهوم الأول
الفطرة
يستدل بعض الناس اليوم وفي الزمن السابق بما يسمونه (الفطرة) فيقول
أحدهم مثلا: لا أرغب أن أتعلم علم التوحيد وهذه المسائل التي تعرضونها في
كتب العقيدة وعلم الكلام إنما أحب أن أبقى على الفطرة!!
ويستدل من يقول بالفطرة بالحديث الصحيح:
(كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) رواه
البخاري (3 / 246) ومسلم (4 / 2047).
فيقولون: هذا الحديث يدل على أن المولود يولد على الإسلام لأنه لم يذكر

205
الإسلام فيه فهو الأصل وإنما ذكر تأثير الأبوين أنهما قد يحرفاه إلى اليهودية أو
النصرانية أو المجوسية قالوا: فيكون معنى الفطرة هنا: الإسلام.
ونقول لهم: أخطأتم في الاستدلال!! لأن هذا الحديث ورد في رواية
أخرى صحيحة في صحيح مسلم (4 / 2049) أن النبي ص قال فيه (فإن كانا
مسلمين فمسلم)!!
فاتضح بهذه الرواية فساد احتجاج من احتج بحديث الفطرة وقال ما قال
فيه!! وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن نوضح ما هو المراد بقوله صلى الله عليه
وآله وسلم (يولد على الفطرة) فنقول:
معنى الفطرة هنا أي الخلقة الأصلية التي لم يشبها شئ بعد، لأن المولود يولد
ويخرج من بطن أمه لا علم عنده وخاليا من المعلومات بدليل قوله تعالى: * (والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار
والأفئدة) * النحل: 78، أي لتكسبوا المعلومات وتعقلوا الحقائق بهذه الحواس، فهذه
الآية الكريمة قاطعة للشغب في هذه المسألة قطعا تاما والحمد لله.
فمعنى الحديث أن المولود يولد على الخلقة الأصلية السليمة وهي المراد
بالفطرة، إذ لا يعتبر هذا المولود مشبعا بأي فكر من الأفكار وخاصة أفكار الكفر
والالحاد أو الشرك، فتؤثر فيه بعد ذلك عادات وأحوال واعتقادات المجتمع الذي
يعيش فيه فتجعله ينقاد إليها، فإذا بقي كذلك لم يتنبه إلى عقيدة الإسلام
الصحيحة الحقة إلا بمن ينبهه عليها، ولذلك بعث الله تعالى الرسل والأنبياء
مبشرين ومنذرين وأمر العلماء والدعاة بل جميع المسلمين بالتبليغ!!
وبعض الناس يقولون كما تقدم: لم يقل النبي ص وأبواه يجعلانه مسلما.
ونقول لهم: بل قال النبي ص (فإن كانا مسلمين فمسلم) فقوله صلى الله عليه
وآله وسلم (كل مولود يولد على الفطرة) لا يعني أن المولود عندما يولد تولد معه
معلومات دينية في مختلف النواحي من العقيدة والفقه والحديث والتفسير وغيرها،

206
كما لا يعني ذلك ما يقولونه: من إن معرفة الله تعالى أمر مركوز في الفطر، لقوله
تعالى كما تقدم * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *!!
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولدوا ولم تكن معهم معلومات إلا من
أنطقهم الله تعالى في المهد على سبيل المعجزة والعبرة للخلق، ومن ذلك قول الله
تعالى * (ووجدك ضالا فهدى) * أي: ووجدك لا تعرف ما أنت عليه الآن من
الشريعة فهداك إليها، وقال تعالى: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) *
* (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *!!
وبعضهم يورد مع الحديث الذي تكلمنا عليه وبينا معناه قوله تعالى * (فطرة
الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * وليس معناه ما يتوهمون ويوهمون!!
فلو كان الناس قد خلقوا وفطروا وطبعوا على الإيمان (والتوحيد ومعلومات
العلو!!) التي قال الله عنها * (لا تبديل لخلق الله) * لم يستطع أحد أن يكفر ويخرج
من الإسلام لأنه لا طاقة لمخلوق أن يغير ما قال الله عنه: لا تبديل له، ونحن
نرى الأمر في الواقع بخلاف ذلك فنرى من الناس من يكفر ويرتد عن دينه!!
فصار إذا أن لها معنى آخر غير ما خطر ببال المجسمة والمشبهة وأذاعوه!!
وهو ما قاله الحذاق من أن الفطرة هنا هي القابلية التي خلقها الله تعالى في الإنسان
للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه،
لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك كتهويد أبويه له وتنصيرهما وإغوائهما
له وإغواء شياطين الإنس والجن * (لا تبديل لخلق الله) * أي (لا تبديل لهذه
القابلية) من جهة الخالق. أفاده الحافظ أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط 8 / 389
وعقول المجسمة لا تصل لفهم كتاب الله الكريم ولا لسنة النبي الرؤوف
الرحيم!! فتنبهوا!!
ومن ذهب إلى غير ما قلناه وقررناه هنا لزمه القول بتناقض الآيات وحاشاها
من ذلك!!

207
بل إن الاستدلال بالفطرة التي يزعمونها يستلزم هدم كثير من الآيات
والأحاديث!! فالآيات الحادثة على التفكر في خلق السماوات والأرض والآيات التي
فيها الأمر بالنظر في المخلوقات لا قيمة لها ولا معنى من إيرادها ساعتئذ ما دام
أن معرفة الله تعالى والإيمان بوجوده أمر مركوز في الفطر كما يزعمون، ولماذا
أرسل الله تعالى الرسل يثبتون للكفار وجود الله تعالى حتى يؤمنوا به ما دام أن
الأمر مركوز في النفوس؟! ومنه قول الله تعالى * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم
في ربه) * إلى قوله * (فبهت الذي كفر) * وقوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه
السلام أن فرعون قال له: * (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى
كل شئ خلقه ثم هدى) * طه. 49 - 50؟!!
فقول من قال: (أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف
لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم (123)
من حيث الأصل فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم فليس من حق
أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة) ا ه‍!!!
هو قول متهافت!! وهو خطأ مجانب لنصوص الكتاب والسنة!! بل هو
مجانب للواقع تماما! فإن الله تعالى أرسل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعلموا
الناس التوحيد والشرائع ولم يأت في نص واحد أن الله تعالى قال: إذا أردتم
أن تعرفوا عقيدة السلف الحقة فعليكم أن تسألوا الأطفال الصغار لأنهم ولدوا عليها
بفطرتهم، كما لم يأت عن النبي ص نص واحد يقول ذلك!!
وما فائدة إرسال الرسل حينئذ إذا كان الناس يولدون على عقيدة السلف التي
يدعيها هؤلاء؟!! ولماذا إذن بقي النبي ص ثلاث عشرة سنة في مكة يعلم الناس
العقيدة الصحيحة التي أرسله الله تعالى بها ويزرعها ويغرسها في قلوب أصحابه



(123) وما فائدة إرسال الأنبياء والمرسلين إذن إذا كان الناس ينشأون على عقيدة السلف
المباركة!! بلا تلقين ولا تعليم؟!! ما هذا إلا هراء يلتقي مع قول من قال إن العقل
وحده كاف قي معرفة الإنسان لربه وعلمه به وبالشرائع دون مرشد!!
208
الكرام رضي الله عنهم؟!!!
زد على ذلك أن هناك أقواما كثرا كانوا في الجاهلية الجهلاء قبل إرسال الرسل
إليهم وآخرين عاشوا في وسط الأدغال ولم يخرجوا على عقيدة السلف ولا على عقيدة
الإسلام، وإنما كانوا على عقيدة عبادة العجل أو النار أو الأصنام أو الكواكب
أو غير ذلك مع أن أهل البدعة لم يلقنوهم ذلك!! وإنما تركوا بلا تلقين ولا تعليم!!
فلعل عقيدة أصحاب الأدغال تلك هي عقيدة المجسمة والمشبهة الذين يحتجون
بالفطرة!! وينشرون الاستدلال بها اليوم في المشرق والمغرب!! مستغلين الضحالة
العلمية الملموسة عند غالب أهل هذا العصر!!
والله يتولى هدانا إلى الصراط المستقيم!!
وبذلك تبين لنا بكل وضوح أن ما يسمونه دليل الفطرة ليس دليلا شرعيا معتبرا
ولا يصح لأي إنسان أن يستدل به لأنه إذا استدل به خالف نصوص الكتاب
والسنة كما قدمنا.

209
الدليل الثاني الموهوم:: عليكم بدين العجائز:
ومن الأدلة الفاسدة التي لا عبرة بها قول بعضهم (عليكم بدين العجائز)
أو أهل البادية وما شابه ذلك، وهذا دليل باطل لا يصح أن يستدل به في مسائل
العقيدة ولا في غيرها، وقد نص أهل الحديث كالحافظ السخاوي في كتابه
(المقاصد الحسنة) ص (260 حديث رقم 714) على أن هذه العبارة لا أصل لها بهذا
اللفظ.
قلت: ولا بغير هذا اللفظ على التحقيق.
والعجائز كسائر البشر منهم العالم المتفقه في دينه ومنهم الجاهل المفرط في أمره
ومنهم التقي ومنهم العاصي إلى غير ذلك، ولم يكن في يوم من الأيام لهم اتفاق
وإجماع أو عقيدة خاصة مشهورة معروفة متداولة حتى يقال هذه دين العجائز،
ثم في هذا انصراف عن دين الإسلام!! فإما اتباع دين سيدنا محمد صلى الله عليه
وآله وسلم وإما دين العجائز، وبعضهم ينقل هذا الكلام أو نحوه عن سيدنا عمر
وبعضهم عن عبد الله ابن المبارك وكله باطل لا يصح عنهم. ولو صح لم يكن
فيه حجة مع أنه لم يصح والله الهادي.
وقد روى ابن ماجة (4049) والحاكم (4 / 473) عن سيدنا حذيفة مرفوعا (يدرس
الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا
صدقة، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون أدركنا
آبائنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها) وإسناده صحيح ولا دلالة فيه
إلا على كلمة التوحيد التي جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بها وبينوا معناها
للخلق وأوضحوا شرحها لهم وما حوت من العقائد.
ومن الأحاديث الموضوعة المكذوبة في هذا الموضوع أيضا: ما رواه ابن حبان
في كتاب (المجروحين) (2 / 264) عن ابن عمر مرفوعا:
(إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنساء).

210
قال الصغاني (موضوع) [انظر (فيض القدير) (1 / 424) و (المقاصد
الحسنة) للحافظ السخاوي ص (290)].
قلت: وأورده شيخنا المحدث عبد العزيز بن الصديق في كتابه (التهاني
في التعقب على موضوعات الصغاني) ص (55) وقال: (وهو واه أيضا).
وقد ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (19 / 119) في ترجمة أبي المظفر
السمعاني ما نصه:
(وقال أبو سعد: سمعت أبا الأسعد ابن القشيري يقول: سئل جدك
بحضور والدي عن أحاديث الصفات فقال: عليكم بدين العجائز).
قلت: مرادة إن صح هذا أنه أمر عاميا أن يكون في عقيدته كإيمان العجائز
من حيث عدم تزلزل يقينه بتنزيه الله تعالى بأحاديث آحاد يوهم ظاهرها عند من
يحاول فهمها بغير لغة العرب التشبيه والتجسيم لا من حيث أن للعجائز دين خاص
بهم!!
وقد أعجبني ما قاله المعلق على هذه العبارة في (السير) حيث قال هناك:
[ويستبعد صدور مثل هذا عن مثل هذا الإمام الذي ألف التآليف المتعددة
في العقائد والعبادات والمعاملات، وكلها مقرونة بالأدلة والحجج والبينات، اللهم
إلا إذا قالها في حالة ضعف وذهول، وفي مثل هذه الحالة لا يعتد بما يقوله صاحبها
المتلبس بها، وكيف ينصح مسائليه بأن يلزموا دين العجائز، والله سبحانه يحثنا
في غير ما آية من كتابه على النظر والاستدلال، والأئمة المجتهدون اتفقوا على
وجوب الاهتداء بالقرآن، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وعلى المنع من التقليد
الذي يصد عنهما، ويقتضي هجرانهما، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين يطاعون،
وإنما كانوا أدلاء للناس لعلهم يهتدون، والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر
الأول من المسلمين، هو أن أهل القرنين الأول والثاني لم يكونوا يقلدون أحدا،
أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة

211
من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء
الصدر الأول يلقنون الناس الإسلام ببيان كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ص،
وكان الجاهل بالشئ يسأل عن حكم الله فيه، فيجاب بأن الله تعالى قال كذا،
أو أن النبي ص قال كذا، أو فعل كذا، أو أقر على كذا، فإن لم يكن عند
المسؤول فيه هدي من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون، وما يراه أشبه
بما جاء في هذا الهدي، أو أحال على غيره ممن هو أعلم منه، وأقرب الناس إلى
معرفة الحق في المطالب العالية هو الباحث المستقل الذي يسترشد بالطريقة التي
وردت في القرآن، وجاءت على لسان نبيه ص].

212
الدليل الثالث الموهوم: فهم السلف:
يدعي بعض الناص بأنه يجب فهم الكتاب والسنة بفهم السلف وهم بذلك
يعتبرون فهم السلف من الأدلة الشرعية الواجب أتباعها وقولهم هذا يتضمن
مغالطتين:
الأولى: أن السلف غير متفقين في فهم المسائل فليس لهم مذهب موحد
معروف حتى يصح أن يقال مذهب السلف أو فهم السلف أو يجب فهم الأمور
بفهم السلف، وستمر بعد قليل إن شاء الله تعالى أمثلة اختلاف السلف في مسائل
عقائدية وغير عقائدية في فصل خاص وبالله تعالى التوفيق.
وهؤلاء الذين يدعون الناس إلى فهم السلف نراهم ينافرون فهم الأئمة
الأربعة للمسائل الشرعية ويحثون إما على تقليدهم في فهمهم للأمور أو على
فهم أناس بعد القرون الثلاثة المسماة بقرون السلف!!
والمغالطة الثانية: أنه ليس في الكتاب والسنة دليل يفيد أنه يجب تعطيل
العقول التي وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها وفهم الكتاب والسنة بفهم غيرنا ما
دام أن المرء وصل إلى درجة الفهم والاجتهاد!!
بل نقول لهؤلاء: إن النصوص الشرعية تخاطبنا مباشرة لنفهم أوامر الله
تعالى ونواهيه دون تحريف أو لي لها، فقول الله تعالى في آيات كثيرة مثلا * (يا
أيها الذين آمنوا) * عام يشمل السلف والخلف والمتقدم والمتأخر إلى قيام الساعة.
بل يقطع الشغب في هذه المسألة قوله تعالى * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى
أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * هو صريح بأن علم أو فهم أهل
الاستنباط وهم المجتهدون في كل عصر ومصر معتبر، ولم يخص ذلك بالسلف،
حيث لم يقل بأن أهل الاستنباط من السلف هم الذين يعلمون الأحكام
ويفهمونها دون غيرهم من الخلف، وفي هذا دليل واضح على هدم الاستدلال
بفهم السلف وجعله أحد الأدلة الشرعية، بل الصواب أن يقال: إن فهم

213
المجتهدين سواء كانوا من الخلف أو من السلف معتبر شرعا بالنسبة للعامي الذي
لم يتأهل لفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وإجماع هؤلاء المجتهدين في
أي عصر من العصور سواء في زمن السلف أم الخلف هو المعتبر شرعا وهو من
الأدلة الشرعية، وما سوى ذلك هذيان!!
ثم إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى
الله والرسول) * النساء: 59 ولم يقل ردوه إلى فهم السلف لهما!!
ويؤيد هذا ما جاء في صحيح البخاري (1 / 204) وغيره عن أبي جحيفة قال:
قلت لعلي (رضوان الله عليه) هل عندكم كتاب؟ قال: (لا إلا كتاب الله أو
فهم أعطيه رجل مسلم..).
قلت: ولم يقيد ذلك بالسلف فلم يقل إلا فهم السلف للكتاب والسنة!!
بل قال: (فهم أعطيه رجل مسلم) وهذا يعم المسلمين في كل عصر ومصر
ولا يختص بالسلف!! فمن تأهل للفهم كان له ذلك وليس لأحد أن يلزمه بفهم
السلف!! ونعتقد أن القائلين بوجوب اتباع فهم السلف متخابطون متناقضون في
هذه المسألة!!
وجاء في الحديث الصحيح (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم
آخره) (124) فهذا كما ترى فيه تصريح بأن للخلف فضل أيضا كما للسلف!!
وقال الحافظ ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص (111): (وقد سئل
الإمام أحمد عن مسألة فأفتى فيها فقيل له: هذا لا يقول به ابن المبارك، فقال:
ابن المبارك لم ينزل من السماء)!!



(124) رواه أحمد (3 / 130) والترمذي (5 / 152 برقم 2869) وقال: (حسن غريب من هذا
الوجه) قال السيد الحافظ أحمد الغماري في (فتح الوهاب) (2 / 335): (وقال الحافظ
في الفتح: هذا حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة) أنظر الفتح (7 / 6)
وهناك الجمع مع باقي الأحاديث في هذا الموضوع.
214
قلت: أي أن فهم السلف ليس بحجة يلزمنا العمل بها بنظره (125)!!
فصل
في
بيان أنه ليس هناك مذهب يسمى مذهب السلف
لقد ذكرنا في بعض كتبنا بتوسع بأن بعض الناس في هذا العصر يدعون بأن
الذي يقولونه من آراء وأقوال هو مذهب السلف تمويها على العامة والبسطاء ليروجوا
عليهم ما يريدون من أقوال وآراء مخطئة!! وقد ادعى هؤلاء وخاصة المجسمة
والمشبهة منهم بأن ما يقولونه هو مذهب السلف!! وادعى هؤلاء المشبهة والمجسمة
أن فهمهم للمسائل هو مذهب السلف وهو المرجع الشرعي الذي لا يجوز العدول
عنه!! وهم في الواقع قد عدلوا عن الصراط المستقيم، والطريق السوي القويم،
لأنهم تركوا الكتاب والسنة وفهم العرب لهما وراءهم ظهريا، مع اعتمادهم على
سراب بقيعة اخترعوه للتمويه، واعتمدوه للخداع والتشويه، لا وجود له في الواقع
البتة بل هو خيال قائم في أذهانهم ويموهون به على البسطاء من غيرهم (وهو



(125) ومن الغريب العجيب أن نجد هؤلاء الذين يتظاهرون بالدعوة إلى مذهب السلف
وإلى فهم السلف يتخابطون ويتناقضون في هذه القضية جدا!! ومن ذلك أننا نقرأ
على أغلفة كتب كثير منهم وخاصة الشيخ المتناقض!! أن من أسس دعوتهم (فهم
الكتاب والسنة بفهم السلف) وبعضهم يقول (على النهج الذي كان عليه السلف)
ثم نجد أحدهم وهو من مريدي!! وتلاميذ!! الشيخ المتناقض!! يناقض ذلك
فيقول في رسالة له أسماها (الإنصاف في أحكام الاعتكاف) ص (35 طبع المكتبة الإسلامية
عمان - الأردن الطبعة الأولى سنة 1407 ه‍): ما نصه: (زد على ذلك أننا لسنا متعبدين بفهم
أحد كائنا من كان سواء أكان ابن مسعود (الصحابي) أم غيره إنما نحن تعبدنا بنص
رسول الله ص الثابت عنه)!!
فيا للعجب!! ويا للتناقض!!
215
قولهم: هذا مذهب السلف)!!
فهذا الإمام أحمد يقول وقد سئل عن مسألة فأفتى فيها، فقيل له: هذا لا
يقول به ابن المبارك. فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء (126). مع أن ابن المبارك
سلف للإمام أحمد. وهذا الإمام أبو حنيفة قبل أحمد يقول: ما جاء عن رسول
الله ص فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير
ذلك فهم رجال ونحن رجال. وسنضرب الآن إن شاء الله تعالى أمثلة نبين فيها
اختلاف السلف في مسائل عقائدية، وأمور مذكورة في الكتب التوحيدية، تدل
دلالة واضحة على نسف برهان المجسمة الذي اعتمدوه، ودك دليلهم الذي
انتحلوه، مع أن السلف نصوا على بطلانه.
والعجب العجاب أن هؤلاء المجسمة - مع ادعائهم بأن الذي يقولونه هو
مذهب السلف وأنه متفق ومجمع عليه بين الأمة - نجدهم هم أنفسهم قد
اختلفوا في أصول الدين!! وتباينوا في أسس التوحيد المبين!! فكيف يدعون اتفاق
السلف في المسائل التوحيدية؟! وهم مختلفون فيها بآرائهم التناقضية!! وأقوالهم
التعاكسية!! كما بينت بعض نماذج من ذلك في كتابي المسمى ب‍ (البشارة
والإتحاف)، بما بينهم من الخلاف، ويكفي هذا على إثبات أنه ليس هناك وجود
لما زعموه من مذهب السلف، الذي ادعاه هؤلاء المشبهة من الخلف، وها نحن
ذا نذكر نماذج من اختلاف السلف في مسائل عقائدية فنقول:
المثال الأول في اختلاف السلف في العقائد: اختلاف السلف في مسألة خلق
القرآن:
قال الحافظ ابن عبد البر في كتابه (الانتقاء) ص (106) عن الإمام الحافظ
الكرابيسي ما نصه بعدما أثنى عليه: (وكانت بينه وبين أحمد بن حنبل صداقة
وكيدة، فلما خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة، فكان كل منهما يطعن



(126) ذكرها الإمام الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في (دفع شبه التشبيه) ص (111).
216
على صاحبه، وذلك أن أحمد بن حنبل كان يقول: من قال القرآن مخلوق فهو
جهمي، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي،
ومن قال لفظي في القرآن مخلوق فهو مبتدع (127).
وكان الكرابيسي، وعبد الله بن كلاب، وأبو ثور، وداود بن علي،
والبخاري، والحارث بن أسد المحاسبي، ومحمد بن نصر المروزي، وطبقاتهم
يقولون: إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته، لا يجوز عليه الخلق،
وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق، وإنه حكاية عن
كلام الله، وليس هو القرآن الذي تكلم الله به، وشبهوه بالحمد والشكر لله،
وهو غير الله، فكما يؤجر في الحمد والشكر والتهليل والتكبير فكذلك يؤجر في
التلاوة).
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الكرابيسي في (السير) (12 / 80): (وهو أول
من فتق اللفظ) وقال في آخر الترجمة:
(ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق هو
حق).
قلت: وعلى ذلك الحق مشى البخاري ومسلم والأئمة كما تقدم، أما
البخاري فقد تقدم ذكره في كلام الأئمة ومنهم الحافظ ابن عبد البر، وأما الإمام
مسلم فقد قال الذهبي قي ترجمته في (السير) (12 / 572):
(كان مسلم بن الحجاج يظهر القول باللفظ ولا يكتمه).
فمن تأمل في هذه المسألة المشهورة المتداولة المعروفة عرف أن هؤلاء الأئمة
الأعلام الذين خالفوا أحمد والذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم وهم: البخاري ومسلم
والكرابيسي وابن كلاب وأبو ثور وداود بن علي والحارث بن أسد المحاسبي ومحمد بن



(127) وفي بعض الروايات كفر أحمد بن حنبل من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، كما تجد ذلك
في كثير من المراجع.
217
نصر المروزي وطبقاتهم كانوا مختلفين في مسألة من مسائل العقيدة تتعلق بكلام
رب العالمين سبحانه وهم من السلف وقد اختلفت أفهام السلف في هذه المسألة
وفهموها أفهاما متضاربة متعاكسة، فبأي فهم من هذه الفهوم نأخذ؟! وبأي رأي
من هذه الآراء نتمسك؟!
الجواب: لا بد أن نترك هذه الأفهام ونرجع إلى الكتاب والسنة واللغة
العربية ونستعمل عقولنا لنفهم ونتدبر الأمر فسيتضح لنا ساعتئذ الصواب، فنعرف
آنذاك من أصاب ومن أخطأ فالرجوع حقيقة لفهمنا لا لفهم السلف، هذا هو
التحقيق بالنسبة لأهل العلم ولطلاب العلم المجدين، أما العامة فليس كلامنا
ههنا يتعلق بهم لأنهم ليسوا أهلا للنظر.
المثال الثاني في اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في رؤية سيدنا محمد
ص لله تعالى ليلة الإسراء وقد وقع الخلاف فيها بين السيدة عائشة وابن عباس
رضي الله عنهما وغيرهما كما سيأتي مبينا في بابه من هذا الشرح.
المثال الثالث في اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في مسألة رؤية الله يوم
القيامة:
ذهب جمهور أهل السنة إلى إثبات الرؤية يوم القيامة وخالفهم في ذلك جماعة
من أهل السنة والجماعة كالسيدة عائشة ومجاهد وأبو صالح السمان وعكرمة والإمام
بشر بن السري الأفوه وغيرهم وكذا المعتزلة واحتجوا بقول الله تعالى: * (لا تدركه
الأبصار وهو يدرك الأبصار) *.
أما السيدة عائشة فقد روى البخاري (8 / 606) ومسلم (1 / 159) أنها ردت على
من قال إن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بعموم قوله تعالى * (لا
تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * وعموم قوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه
الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) * وما قيده بعض الناس من قولهم إنما أرادت
نفي الرؤية في الدنيا لا في الآخرة فلا دليل عليه.

218
وأما مجاهد وأبو صالح السمان تلميذ سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقد
روى ذلك عنهما الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (14 / 20 / 192 - 193) بأسانيد
صحيحة، وصححه الحافظ في (الفتح) (13 / 425)، وقال هناك: (وقد أخرج
عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية).
وأما الإمام بشر بن السري وهو من رجال الستة فتجد ذلك في ترجمته في
(التهذيب) (1 / 394)، وأما المعتزلة فهم إحدى فرق المسلمين منذ عهد السلف
وهم يقولون بذلك أيضا ولا يحتاج ذلك لبرهان. وكذا قال بمنع الرؤية السادة
الإباضية.
المثال الرابع على اختلاف السلف في العقائد: مسألة الميزان يوم القيامة:
قال الحافظ أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) (5 / 14):
(اختلفوا هل ثم وزن وميزان حقيقة؟! أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام
والقضاء السوي والحساب المحرر؟ فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدمهم إلى
هذا مجاهد والضحاك والأعمش وغيرهم، وعبر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة
عن قلتها).
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (13 / 538):
(وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء).
فتأمل جيدا في هذا الاختلاف العقائدي عند السلف!!!
المثال الخامس على اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في مسألة التأويل
والتفويض:
وقع خلاف بين السلف في نصوص الصفات فبعضهم أولها كسيدنا ابن عباس
ومجاهد وغيرهما وبعضهم فوضها وأمرها كما جاءت من غير تعرض لمعناها مع اعتقاد
التنزيه كما مر في الكلام على التأويل والتفويض في موضعهما من هذا الشرح.

219
المثال السادس على اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في الإرجاء:
قال الحافظ الذهبي في ترجمة عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد في (سير
أعلام النبلاء) (9 / 434):
(العالم القدوة الحافظ الصادق شيخ الحرم) وهو من مشايخ أحمد بن حنبل
وغيره، قال الذهبي: (وكان من المرجئة ومع هذا فوثقه أحمد وابن معين، قال
أحمد: كان فيه غلو في الإرجاء، يقول: هؤلاء الشكاك، يريد قول العلماء: أنا
مؤمن إن شاء الله).
قال الذهبي: (وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة، فهلا عد
مذهبا) أي من مذاهب السلف في العقائد.
وهذا واضح لا يحتاج لبيان أكثر من هذا إلا إذا استدعى المقام.
المثال السابع في اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في مسألة الخروج
على الأئمة:
ذكر الإمام الطحاوي وهو من السلف في عقيدته أنه لا يرى الخروج حيث
قال: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا).
ورد ذلك ابن حزم في (الفصل) (4 / 175) وقال صحيفة (171) في باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر:
(وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى
أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع
المنكر إلا بذلك، قالوا: فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييأسون
من الظفر ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم
بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي
الله عنه وكل من معه من الصحابة، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

220
وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة...................،
وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسين بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين
والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين، وقول كل من قام
على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن
مالك وكل ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير
وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن
دينار............) وذكر أسماء كثير من التابعين وأتباعهم ثم قال:
(وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك
ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق
بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكرا) انتهى كلام
ابن حزم من (الفصل) (4 / 172).
وقال ابن حزم قبل ذلك بصحيفة أن المخالفين لهذا المذهب هم:
(بعض أهل السنة من قدماء الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو
قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر
ومحمد بن مسلمة وغيرهم، - قالوا -: إن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط
ولا بد، وباللسان إن قدر على ذلك، ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع
السلاح أصلا).
وممن خرج من الأئمة داود بن حصين من رجال الستة كما في (السير)
(6 / 106)، وقال ابن حبان: (كان يرى الخروج)، وكذلك جاء في (السير)
(9 / 318) أن محمد بن عجلان خرج مع محمد بن عبد الله النفس الزكية، وكذا الإمام
المحدث عمران القطان كما في (السير) (7 / 280) وكذلك المحدث محمد بن راشد
كما في (السير) (344 / 7) وغيرهم كثير وكثير.
فتأمل في هذا الخلاف السلفي لتتخذ لك منه رأيا وموقفا ومذهبا كي لا تظل
حائرا لا تدري بم تقول!!

221
المثال الثامن في اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في من هو أفضل
الصحابة:
ذهب جماعة من السلف إلى أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه
هو أفضل الصحابة وهذا مشهور لا يحتاج لدليل، وذهب جماعة من الصحابة ومن
بعدهم إلى أن سيدنا عليا رضي الله عنه أفضل الصحابة، قال الإمام ابن عبد البر
في (الإستيعاب) (3 / 52): (واختلف السلف أيضا في تفضيل علي وأبي بكر).
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر في ترجمة سيدنا علي في (الإستيعاب) (3 / 27) بعض
أسماء من كان يقدم سيدنا عليا على غيره من الصحابة رضي الله عنهم حيث
قال:
(وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري
وزيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم وفضله هؤلاء
على غيره).
وذكر في تراجم بعض الصحابة من غير هؤلاء أيضا أنه كان يفضل سيدنا
عليا على سيدنا أبي بكر، ففي ترجمة أبي الطفيل من (الإستيعاب) (3 / 15): (كان
محبا لعلي رضي الله عنه وكان من أصحابه في مشاهده وكان ثقة مأمونا يعترف
بفضل الشيخين إلا أنه كان يقدم عليا) وكذا قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة)
(4 / 113) في ترجمة أبي الطفيل رضي الله عنه في الكنى.
وقد جمع أسماءهم شيخنا المحدث العلامة عبد العزيز بن الصديق في رسالته
الفذة (الباحث عن علل الطعن في الحارث) ص (14) حيث قال:
(الذين ذهبوا إلى تفضيل علي عليه السلام على جميع الصحابة أبي بكر فمن
بعده، منهم: سلمان الفارسي، وأبو ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وزيد بن
الأرقم، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وعمار بن ياسر، وأبي بن كعب، وحذيفة،
وبريدة، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف،

222
وأبو الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وقيس بن سعد، والعباس بن
عبد المطلب، وبنو هاشم كافة، وبنو المطلب كافة، وآخرون لا يحصون كثرة).
قلت: ويمر ذكر كثير منهم أيضا في كتب التراجم والرجال والجرح والتعديل
وليس هذا محل سردهم جميعا، وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق
القاضي: (لم يرو في فضل أحد من الصحابة ما روى في فضائل علي بن أبي
طالب) وكذلك قال الإمام النسائي، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد البر في
(الإستيعاب) (3 / 51)، والحاكم في المستدرك (3 / 107) عن الإمام أحمد.
وذهب جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم إلى أن أفضل الصحابة جعفر
الطيار أخو علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهما ومنهم أبو هريرة، فقد روى
النسائي في (السنن الكبرى) (5 / 47) بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال:
(ما احتذى النعال ولا ركب الكور ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد
رسول الله ص أفضل من جعفر ابن أبي طالب).
قال الإمام الدميري في (حياة الحيوان) (1 / 191):
(قال ابن خلكان: كان يحيى بن يعمر تابعيا عالما بالقرآن والنحو، وكان
شيعيا من الشيعة الأول، يتشيع تشيعا حسنا، يقول بتفضيل أهل البيت من غير
تنقيص لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم).
ومن الصحابة من ذهب إلى أن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم السيدة فاطمة ابنته ومنهم سيدنا عمر رضي الله عنه، فقد
روى الحاكم في المستدرك (3 / 155) بسند صحيح أن سيدنا عمر قال للسيدة فاطمة
علبها السلام (128): (يا فاطمة والله ما رأيت أحدا أحب إلى رسول الله ص منك،



(128) لفظة (عليها السلام) بعد ذكر السيدة فاطمة ولفظة (عليه السلام) بعد ذكر سيدنا
علي أو سيدنا الحسن أو سيدنا الحسين رضي الله عنهم وأرضاهم من خصوصياتهم
وخصوصيات آل البيت أي من المستحبات في حقهم، ولذلك أدلة كثيرة جدا منها صيغ
الصلاة (الصلاة الإبراهيمية وغيرها) المنقولة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، ويكفي أن أقول: إياك أخي القارئ أن تجبن عن النطق بهذه اللفظة هؤلاء
السادة وتهاب من أن يتهموك بالتشيع، فقد استعمل هذه اللفظة في حقهم رضي
الله عنهم أعلام أهل السنة وأئمة الحديث كالبخاري في صحيحه (7 / 71 و 77 و 105
وغير ذلك) والإمام أحمد في فضائل الصحابة (2 / 563 و 652 و 662 وغير ذلك) والحافظ ابن
حجر في حق سيدنا علي (أنظر مقدمة الفتح ص (432) وفي حق السيدة فاطمة (6 / 552
الفتح) والدارقطني في سننه (3 / 65 و 66) وغيرهم كثير وكثير، فتأمل!!
223
والله ما كان أحد من الناس بعد أبيك ص أحب إلي منك) (129).
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى مفضلا السيدة فاطمة رضي الله عنها على
غيرها من الصحابة الكرام:
(لا أفضل على بضعة من النبي ص أحدا). [انظر الحاوي للإمام السيوطي 2 / 294].
وفي (سير أعلام النبلاء) (7 / 241) أن سفيان الثوري كان يثلث بعلي رضي
الله عنه.
هذا، واعلم أن هناك عدة مسائل اختلف فيها السلف ومنهم من رجال
الصحيحين في مسائل أخرى في الاعتقاد كمسألة القدر (130)، ومسألة بغض معاوية
وذويه وبني أمية وغيرها من المسائل، وقد تباينت آراؤهم وأفهامهم فيها!!
والمقصود أن نبين بأن السلف وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضوان الله تعالى
عليهم أجمعين اختلفوا في مسألة التفضيل هذه فلا يصح أن يقال ساعتئذ مذهب
السلف في هذه المسألة كذا، وقد أوردها كثير من العلماء - أعني مسألة التفضيل
هذه - في كتب العقائد وفي ذلك دليل واضح على أنهم يعتبرونها من جملة العقائد



(129) وقد بينت في كتابي (تناقضات الألباني الواضحات) (2 / 243 - 256) محاولات الشيخ
المتناقض!! في تضعيف هذا الأثر الصحيح الثابت وأبطلتها، فالحمد لله الذي بنعمته
تتم الصالحات.
(130) ومن ذلك ما جاء في (سير أعلام النبلاء) (6 / 414) كان سعيد بن أبي عروبة وقتادة
يقولان بالقدر ويكتمان.
224
وإن لم نعتبرها نحن من مسائل العقيدة لا سيما وقد ادعى بعضهم الإجماع على
أن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين،
وقد رأيت أن الواقع هو اختلافهم في هذه القضية، فأين مذهب السلف الآن
من هذا الاختلاف (131)؟!!



(131) [فائدة]: زعم الشيخ المتناقض!! أن من أصول دعوته التي دونها على ظهر
مغلفات كثير من كتبه هو: (فهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح) أو (على
النهج الذي كان عليه السلف الصالح)، وقد تبين لنا بطلان هذا الزعم ولسنا الآن
بحاجة لتفنيده بعد ما بيناه من الأدلة التي تفيد فساده!! وإنما الذي يعنينا هنا أن نبين
بأن هؤلاء المتمسلفين تناقضوا مع أنفسهم فيما ادعوه!! حيث صرحوا في مواضع أخرى
بأنهم غير ملزمين بفهم السلف ولا بفهم الصحابة وخاصة عندما يعارض فهم السلف
أفهامهم، فهذا هو أشد مقلدي الشيخ المتناقض!! المتعصبين له!! يتخابط فيقول
في كتابه (الإنصاف في أحكام الاعتكاف) ص (35) [طبع المكتبة الإسلامية عمان -
الأردن / الطبعة الأولى سنة 1407 ه‍]: (زد على ذلك أننا لسنا متعبدين بفهم أحد
كائنا من كان، سواء كان ابن مسعود أم غيره، إنما نحن تعبدنا بنص رسول الله
ص الثابت عنه).
ولاحظ أنهم يذكرون دائما نص حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي
يمكنهم أن يتلاعبوا فيه بالتصحيح والتضعيف، ولا يذكرون القرآن الكريم الذي لا
يمكنهم التلاعب فيه البتة!!
فيقال له الآن: وهل تعبدك بنص رسول الله ص دون نصوص القرآن أم ماذا؟!!
225
الدليل الرابع الموهوم: القياس
لا يجوز استعمال القياس في العقيدة أي قياس الخالق على المخلوق لأن الله
سبحانه وتعالى يقول: * (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) *.
حتى أن سمع الله تعالى مثلا ليس كسمعنا قطعا لأن سمعنا بآلة وهي الأذن
ومن خلال أمواج صوتية إلى غير ذلك وسمع الله وبصره سبحانه اتفق في الاسم
واللفظ مع سمعنا واختلف في المعنى لأننا لا نستطيع أن ندرك ذات الله تعالى ولا
صفاته بوجه من الوجوه فقياس الخالق على المخلوق باطل من جميع الوجوه حتى
في صفة الوجود فقد اتفقت في الاسم واختلفت في المعنى لأننا نؤمن أن الله تعالى
ليس جسما ولا عرضا (أي صفة) وهو غير مرتبط بزمان أو مكان بوجه من الوجوه
كما سيأتي إن شاء الله تعالى موضحا.
فالقياس بالمعنى الذي أوضحناه فيما يتعلق بذات الله تعالى أو صفاته باطل
وفاسد فلا يعتبر دليلا من أدلة العقيدة بل استعماله في مثل هذه الأمور محرم بل
يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
والقياس من الأمور الظنية والاجتهادية ومسائل العقيدة أعني أصولها وخاصة
ما يتعلق بذات الله سبحانه لا ظن ولا اجتهاد فيها، لأن المطلوب في العقائد
القطع، والاجتهاد لا يفيد القطع وإنما يفيد الظن لاحتمال خطأ المجتهد، ولأن
الشرع دل على أن المجتهد أما مصيب له أجران وأما مخطئ له أجر واحد والعقيدة
لا مجال للظن والخطأ فيها، فتنبه.
وهذا لا ينافي قول من قال: كما أن ذات الله تعالى لا كيف لها فكذلك صفاته
لا كيف لها لأن هذا في الحقيقة ليس قياسا ولا هو تشبيه مخلوق بمخلوق وإنما
ورد النص بذلك، في مثل قوله تعالى * (ليس كمثله شئ) * وقوله تعالى * (ولم
يكن له كفوا أحد) * وهذا يشمل تنزيه الذات والصفات عند جميع الأمة وكافة
العقلاء وهو أمر مجمع عليه عند من يعتد به من العلماء.

226
وسيمر معنا إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب أثناء الكلام في موضوع صفات
الله تعالى بعض المسائل المتعلقة بموضوع القياس في العقيدة وبيان من قال بذلك
مع بيان بطلان كلامه.
ولا يفوتنا في هذا الموضع إلا أن نضرب ولو مثلا واحدا على استعمال بعض
من ينسب نفسه للعلم القياس الفاسد في العقيدة في موضوع يتعلق بذات الله
تعالى فنقول:
قال صاحب كتاب (الصواعق المرسلة) ابن قيم الجوزية فيه (1 / 250) بعدما
ذكر آية * (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) * ما نصه:
[السابع: أن يقال هب أن القرآن دل ظاهره على إثبات جنب هو صفة فمن
أين يدل ظاهره أو باطنه على أنه جنب واحد وشق واحد ومعلوم أن إطلاق مثل
هذا لا يدل على أنه شق واحد كما قال النبي ص لعمران بن حصين: (صلى
قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب). وهذا لا يدل على أنه
ليس لعمران ابن حصين إلا جنب واحد. فإن قيل: المراد على جنب من جنبيك،
قلنا: فقد علم أن ذكر الجنب مفردا لا ينفي أن يكون معه غيره ولا يدل ظاهر
اللفظ على ذلك بوجه.
ونظير هذا اللفظ القدم إذا ذكر مفردا لم يدل على أنه ليس لمن نسب إليه
إلا قدم واحد كما في الحديث الصحيح: (حتى يضع عليها رب العزة قدمه).
وفي الحديث: (أنا العاقب الذي يحشر الناس على قدمي)] انتهى.
فانظر يرحمك الله تعالى كيف قاس رب العالمين في مسألة الجنب بعمران بن
حصين!! فجعل ما ينطبق على عمران ينطبق على الله تعالى، ثم انظر كيف أثبت
بذلك وبطريق ملتو أن لله جنبين، وكذلك قاس المولى سبحانه وتعالى في مسألة
القدم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم!! فهذا مثل للقياس الفاسد في أبواب
العقيدة المصادم لنصوص الكتاب والسنة، لأن المراد في الواقع بقوله تعالى * (يا

227
حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * أي: في حق الله وأوامره، وليس المراد
من هذه الآية إثبات الجنب البتة بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن،
وكذلك القدم ليس المراد من ذكرها إثبات الجارحة بل هي مؤولة كما ذكر الأئمة
والمراد بها أن صح من يقدمهم الله سبحانه للنار من الكفار والملحدين وهذا مثل
قوله تعالى * (لهم قدم صدق عند ربهم) * فلا يراد بذلك إثبات الجارحة ولا الكلام
عليها ولا إرادتها والله الموفق.
ثم إن ممن استعمل القياس في هذا الباب وقاس الخالق على المخلوق عثمان
ابن سعيد الدارمي المجسم المشهور (المتوفى سنة 280 ه‍) (وليس هذا صاحب السنن)
الذي يلقبه بعض العلماء ممن لا يعرف حاله بالإمام الحافظ، وذلك أنه قال في
كتابه الذي رد به على بشر المريسي ص (20) ما نصه:
(لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء وينزل ويرتفع إذا شاء،
ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك.
كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة) انتهى!!!!
وأقول: انظروا كيف قاس الخالق على المخلوق فلما كان كل حي عنده
في المخلوقات التي يراها متحركا والميت غير متحرك، وصف الله تعالى لأنه حي
بأنه متحرك!!!
وفات هذا الرجل أيضا أن بعض الأشياء الغير حية تتحرك كالكواكب
والألكترونات في الذرة والماء الذي يتحرك في السيول والأنهار والسحاب وغير
ذلك، لكن ذهن هذا الرجل قاصر جدا!! ولذلك استعمل القياس في العقيدة
وبخاصة في ذات الله تعالى فأخطأ خطأ فاحشا!! وتعالى الله عما يقول فإنه سبحانه
لا يوصف بحركة ولا بسكون إذ * (ليس كمثله شئ) * و * (سبحان ربك رب
العزة عما يصفون) *!!
وبذلك اتضح لنا فساد مذهب هن أخذ يستعمل القياس في العقائد، والحمد
لله رب العالمين.

228
الدليل الخامس الموهوم: الاستدلال بالكتب السماوية المحرفة:
لا يجوز بوجه من الوجوه الاستدلال بالكتب السماوية السابقة كالتوراة
والإنجيل لأنه قد دخلها التحريف والتبديل، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز
* (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * وقال الله تعالى في وصف أهل
الكتاب * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم
يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون) * البقرة: 75 وقال تعالى: * (قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون
كثيرا) * الأنعام: 91.
وروى أحمد في مسنده (3 / 387) وغيره عن سيدنا جابر بن عبد الله: أن عمر بن
الخطاب أتى النبي ص بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب (فرآه) (132) النبي
ص فغضب فقال: (أمتهوكون (133) فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد
جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل
فتصدقوا به. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن
يتبعني) (134).
وروى البخاري (5 / 291) عن سيدنا عبد الله بن عباس أنه قال:
(يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه
ص أحدث الأخبار بالله تقرأونه لم يشب؟! وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا



(132) في الأصل (فقرأه) وهي مصحفة والصواب (فرآه) كما أثبته. وقوله قبله (أهل
الكتاب) وقعت في المسند (أهل الكتب) والصواب ما أثبتناه والله تعالى أعلم.
(133) المتهوك: الأحمق أو الحائر.
(134) الظاهر أن هذا الحديث حسن قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (13 / 525):
(وفي سنده مجالد بن سعيد وهو لين) وقال الحافظ الهيثمي في (المجمع) (1 / 182)
عن هذه القصة بلفظ قريب مما ذكرناه: (رواه أبو يعلى وفيه عبد الرحمن بن إسحاق
الواسطي ضعفه أحمد وجماعة) وهذا المعنى له شواهد.
229
ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا * (هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا
قليلا) * أفلا ينهاكم بما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم
رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم).
فلهذه الأدلة الواضحة لا يجوز الاحتجاج بالكتب السابقة (التوراة والإنجيل
ولا بغيرهما) ولا بالإسرائيليات في مسائل الاعتقاد خاصة وفي غيرها عامة.
ومن أمثال من احتج بذلك المشبه صاحب كتاب (عقيدة أهل الإيمان
في خلق آدم على صورة الرحمن) الذي حاول فيه أن يثبت الصورة لله تعالى ويغالط
في ذلك حيث قال ص (76):
(وأيضا فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء
كالتوراة، فإن في السفر الأول منها: (سنخلق بشرا على صورتنا يشبهها)...)
انتهى!!!

230
مباحث الإلهيات

231
مباحث الإلهيات

233
فصل
الإيمان بالله عز وجل
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(إن الله واحد لا شريك له، ولا إله غيره).
الشرح:
إعلم يرحمك الله تعالى أن الإيمان بالله تعالى هو أساس علم التوحيد، وهو
يشمل الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والإيمان بصفاته، ومعرفة ما يجوز في حقه
وما يجب وما يستحيل، كقولنا مثلا يجب في حق الباري سبحانه وتعالى القدم،
ويجوز في حقه خلق هذا العالم بما فيه، ويستحيل في حقه الزوجة والولد والشريك.
فلا بد لنا إذن إذا أردنا أن نتكلم في هذا المبحث المهم أن نتكلم أولا على
النقطة الأولى في موضوع الإيمان بالله تعالى وهي الإيمان بوجوده ونجلب لذلك دليلا
عقليا حتى نبرهن عليه، ونستطيع بذلك إثبات وجوده سبحانه للملحد والكافر
الذي لا يؤمن بالله العظيم، ثم نذكر صفاته سبحانه المجمع عليها وهي القدم
والبقاء والمخالفة للحوادث في الذات وفي الصفات والأفعال والقيام بالنفس
والوحدانية والقدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام وغيرها.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
وجوب النظر والتفكر
وهما من أسباب الإيمان وزيادته
لقد أمر الله تعالى بالنظر والتفكر في هذا الكون وهذه المخلوقات على اختلاف
أجناسها وأصنافها وأفرادها في آيات كثيرة في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى
* (فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب
والترائب * إنه على رجعه لقادر) * الطارق: 8، وسنورد دليلا عقليا على وجوده

235
سبحانه وتعالى في معنى هذه الآيات الكريمة التي تأمر الإنسان بالتفكر: كيف
خلق، ومم أوجد، وكيف تكون وصار بشرا سويا إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى: * (قتل الإنسان ما أكفره * من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه
فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض
ما أمره * فلينظر الإنسان، إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض
شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة
وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم) * عبس: 32.
وقال تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف
رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت) * الغاشية: 20.
وقال تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها
من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج *
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) * سورة ق: 8.
والآيات في ذلك كثيرة جدا وهذا غيض من فيض، وكان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم (135) قبل أن يبعث بقليل يذهب إلى غار حراء يجلس متفكرا متحنثا
ناظرا متأملا في ملكوت السماوات والأرض حتى جاءه الوحي وأكرمه الله بالنبوة
والرسالة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد حبب إليه الخلاء، أي الخلوة، والسر
في ذلك أن الخلوة فيها ابتعاد عن الناس والمشاغل الدنيوية، وخاصة لمن فارق
أهله وبلده وذلك من أقوى أسباب تفرغ القلب للتفكر في هذا الكون وأن له
صانعا وخالقا قادرا وحكيما، وهو ما يقال له عند أهل الله: الأنس بالله تعالى.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى (136):



(135) كما جاء في صحيح البخاري (1 / 22) وغيره.
(136) نقله عنه الحافظ ابن حجر، أنظر: (فتح الباري) (1 / 46) و (شرح مسلم) للإمام
النووي (1 / 148).
236
(والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة)
انتهى.
فالإيمان الناتج عن نظر وتفكر وتأمل وعلم وحجة وبرهان وقناعة هو الإيمان
القوي، وأما إيمان المقلد الذي ترك كل هذه الأمور التي أمر الشرع بها فإيمان
ضعيف مهلهل، ولذلك نجد الداخل في دين الإسلام في هذا العصر من
الأوروبيين وغيرهم من الأعاجم أقوى إيمانا وأكثر التزاما بشرائع الإسلام من كثير
من أبناء المسلمين المفرطين الذين انحصر همهم في المأكل والمشرب والوظيفة
والمرتب!! كما هو مشاهد وملموس! ولا يستطيع أحد أن ينكره أو يجحده!!
فينبغي للانسان المسلم الذكي المتفتح، الحريص على دينه وإيمانه، أن لا
يكون همه منحصرا في المأكل والمشرب والمنكح والمبيت، إذ أن هذه الأشياء يشارك
الإنسان فيها البهائم، فلا بد لصاحب العقل والبصيرة، أن يتفكر في آيات الله
تعالى التي خلقها في السماوات والأرض ليستدل بها على خالقها وموجدها، فبذلك
يكون إيمانه قويا لا تزحزحه العواصف والرياح، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى
التفكر في تلك الآيات، كما قال الله تعالى:
* (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي
الألباب) * آل عمران: 189، وغيرها كثير في كتاب الله تعالى، وكما قال أحد العلماء:
فإن نظرت في السماوات العلى * وما حوت من الشيات والحلى
وسقفها المرفوع من غير عمد * والنيرات المشعرات بالأمد
وما حوته الأرض والبحار * أبصرت ما فيه النهى تحار
هذا وما قد غاب عنا أكثر * من البدائع التي لا تحصر
فهل يكون الصنع دون فاعل * أو وضعه من غير جعل جاعل
كلا لقد أفصحت الأكوان * عن فعل رب ما له أعوان
من أذعنت لقهره الأملاك * وانتظمت في أمره الأسلاك
وأشرقت بنوره الأحلاك * وسبحت بحمده الأفلاك

237
الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه
وفيه مقامان:
(1) المقام الأول: وهو الأعلى (137):
الفكر في ذاته وصفاته ومعاني أسمائه، وهذا مما منع منه حيث قيل: (تفكروا
في خلق الله تعالى ولا تفكروا في ذات الله) (138)، وذلك لأن العقول تتحير فيه
فلا يطيق مد البصر إليه أحد من الخلق حقيقة، فلا يعرف الله على الحقيقة إلا
الله تعالى وحده.
فالنظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل، فالصواب
إذن أن لا يتعرض لمجاري الفكر في حقيقة ذات الله سبحانه وصفاته، فإن أكثر
العقول لا تحتمله، بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء هو: أن الله
مقدس عن المكان، ومنزه عن الأقطار، والجهات، وأنه ليس داخل العالم ولا
خارجه، ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه، قد حير عقول أقوام حتى
أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته. بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا
إذ قيل لهم: إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو،
وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم. فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في
عظمة الله وجلاله، حتى قال بعض الحمقى من العوام: إن هذا وصف بطيخ
هندي لا وصف الإله! لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء. وهذا
لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه، فكل ما لا يساويه في صفاته



(137) هذه القضية وما بعدها منقولة من كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء).
(138) رواه البيهقي في (الأسماء والصفات) ص (283) عن ابن عباس موقوفا، وقال الحافظ
ابن حجر في (الفتح) (13 / 283): (موقوف وسنده جيد) وأخطأ المتناقض الذي
صححه مرفوعا!!
238
فلا يفهم العظمة فيه: نعم غايته أن يقدر الإنسان نفسه جميل الصورة جالسا
على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره، فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق
الله - تعالى وتقدس - حتى يفهم العظمة.
بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا
له طيران لأنكر ذلك، وقال: كيف يكون خالقي أنقص مني؟ أفيكون مقصوص
الجناح أو يكون زمنا (139) لا يقدر على الطيران؟ أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون
له مثلها وهو خالقي ومصوري؟ وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل، وإن
الإنسان لجهول ظلوم كفار، ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تخبر
عبادي بصفاتي فينكرونى ولكن أخبرهم عني بما يفهمون.
ولما كان النظر في ذات الله تعالى وصفاته خطرا من هذا الوجه اقتضى أدب
الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه، لكنا نعدل إلى:
(2) (المقام الثاني) وهو:
صفة الوجود
وهو النظر في أفعاله ومجاري قدره وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه فإنها
تدل عليه وعلى جلاله وكبريائه وتقدسه وتعاليه، وتدل على كمال علمه وحكمته
وعلى نفاذ مشيئته وقدرته، فينظر إلى صفاته من آثار (صفاته.
واعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه، وهو
دال على وجوده، كما قال أحدهم:
فواعجبا كيف يعصى * الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه الواحد



(139) أي ضعيفا: والزمن المريض الضعيف ا ه‍.
239
فوجود الله تعالى أشهر من أن ندل عليه كما قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شئ إذا أحتاج النهار إلى دليل
فكل ذرة من ذرات هذا الوجود، ناطقة بوجود الله تعالى، بما فيها من
العجائب والغرائب التي تظهر حكمة الله تعالى وقدرته.
الأدلة العقلية على وجود الله
أقرب آيات الله إليك الدالة على وجوده تعالى (نفسك):
(فمن آياته تعالى) الإنسان المخلوق من النطفة - وأقرب شئ إليك نفسك
- وفيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على
عشر معشاره وأنت غافل عنه. فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع
في معرفة غيرك؟ وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال:
* (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * الذاريات: 21، وذكر أنك مخلوق من نطفة فقال:
* (قتل الإنسان ما أكفره من أي شئ خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل
يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره) * عبس: 17، وقال تعالى * (ومن آياته
أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) * الروم: 20، وقال تعالى * (ألم يك
نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى) * القيامة: 37، وقال تعالى * (ألم
نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم) * المرسلات: 20، وقال
* (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * يس: 77، وقال * (إنا
خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * الإنسان: 2، ثم ذكر كيف يجعل النطفة علقة،
والعلقة مضغة، والمضغة عظاما، فقال تعالى * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة
من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة
مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله
أحسن الخالقين) * المؤمنون: 12.
فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليسمع لفظه ويترك التفكر في

240
معناه، فانظر الآن إلى النطفة - وهي قطرة من الماء لو تركت ساعة ليضربها الهواء
لفسدت وأنتنت - كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب وكيف جمع
بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة
والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف
استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم؟
ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر،
وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة،
ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق
والأوتار واللحم؟ ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق: الأعضاء
الظاهرة، فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ، ثم مد
اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل؟ ثم كيف ركب
الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة
والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص! ثم
كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع
طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت
صفة من صفاتها تعطلت العين عن الأبصار، فلو ذهبنا إلى نصف ما في آحاد
هذه الأعضاء من العجائب والآيات، لانقضت فيه الأعمار.
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة
رقيقة، ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة
فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق. ولما كان
الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه، مفتقرا للتردد في حاجاته،
لم يجعل عظمه عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة،
وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة منها، ثم وصل مفاصلها وربط
بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط
له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر غائصة فيه موافقة

241
لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إن أراد تحريك جزء من
بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك.
ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها، وقد ركبها من خمسة
وخمسين عظما مختلفة الأشكال والصور، فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى
به كرة الرأس - كما تراه - فمنها ستة تخص القحف، وأربعة عشر للحي الأعلى،
واثنان للحي الأسفل، والبقية هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن
وبعضها حادة تصلح للقطع وهي الأنياب والأضراس والثنايا: ثم جعل الرقبة
مركبا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات، فيها تحريفات وزيادات
ونقصانات لينطبق بعضها على بعض - ويطول ذكر وجه الحكمة فيها.
ثم ركب الرقبة على الظهر، وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم
العجز من أربع وعشرين خرزة، وركب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة،
فيتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضا مؤلف من ثلاثة أجزاء.
ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام
العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين، فلا نطول بذكر
عدد ذلك. ومجموع عدد العظام في بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون
عظما، سوى العظام الصغيرة التي حشى بها خلل المفاصل. فانظر كيف خلق
جميع ذلك من نطفة سخيفة رقيقة.
وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها، فإن هذا علم قريب
يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر منها في مدبرها وخالقها أنه كيف
قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها، وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه
لو زاد عليها واحد لكان وبالا على الإنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقص منها واحدا
لكان نقصانا يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها
وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها ومصورها، فشتان
بين النظرين.

242
ثم انظر كيف خلق الله تعالى آلات لتحريك العظام وهي العضلات فخلق
في بدن الإنسان خمسمائة عضلة وتسعا وعشرين عضلة - والعضلة مركبة من لحم
وعصب ورباط وأغشية - وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها
وقدر حاجاتها. فأربع وعشرون عضلة منها هي لتحريك حدقة العين وأجفانها
لو نقصت واحدة من جملتها اختل أمر العين. وهكذا لكل. عضو عضلات بعدد
مخصوص وقدر مخصوص. وأمر الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين وعددها
ومنابتها وانشعاباتها أعجب من هذا كله - وشرحه يطول - فللفكر مجال في آحاد
هذه الأجزاء، ثم في جملة البدن، فكل ذلك نظر إلى عجائب أجسام البدن
وعجائب المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم، فانظر الآن إلى ظاهر
الإنسان وباطنه وإلى بدنه وصفاته فترى به من العجائب والصنعة ما يقضي به
العجب، وكل ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة
ماء فما صنعه في ملكوت السماوات وكواكبها وما حكمته في أوضاعها وأشكالها
ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت
مشارقها ومغاربها؟ فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماوات تنفك عن حكمة وحكم
بل هي أحكم خلقا وأتقن صنعا وأجمع للعجائب من بدن الإنسان. بل لا نسبة
لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات ولذلك قال تعالى * (أأنتم أشد خلقا
أم السماء بناها رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) *.
فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا، وتأمل في أنه
لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو
علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون
على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته وكيفية خلقته بعد أن خلق الله تعالى
ذلك لعجزوا عنه، فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط
تأنق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها:
كأنه إنسان! عظم تعجبك من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم
في قلبك محله، مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد

243
وبالقدرة وبالعلم وبالإرادة. وشئ من ذلك ليس من فعل النقاش ولا خلقه بل
هو من خلق غيره، وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب
مخصوص، فيكثر تعجبك منه وتستعظمه.
وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب
والترائب، ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها وقدرها فأحسن تقديرها
وتصويرها، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها
وحسن أشكال أعضائها وزين ظاهرها وباطنها ورتب عروقها وأعصابها وجعلها
مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها، وجعلها سميعة عالمة ناطقة. وخلق لها
الظهر أساسا لبدنها والبطن حاويا لآلات غذائها والرأس جامعا لحواسها، ففتح
العينين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها، ثم حماها بالأجفان لتسترها
وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة
السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها فهو ينظر إليها. ثم شق أذنيه وأودعهما
ماء مرا ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وحوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت
فترده إلى صماخها ولتحس بدبيب الهوام إليها، وجعل فيها تحريفات واعوجاجات
لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصدها دابة
في حال النوم.
ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله، وفتح منخريه وأودع فيه حاسة
الشم ليستدل باستنشاق الروايح على مطاعمه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخرين
روح الهواء غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه. وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقا وترجمانا
ومعربا عما في القلب. وزين الفم بالأسنان لتكون آلة الطحن والكسر والقطع
فأحكم أصولها وحدد رؤوسها وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس
متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم. وخلق الشفتين وحسن لونها وشكلها لتنطبق
على الفم فتسد منفذه وليتم بها حروف الكلام. وخلق الحنجرة وهيأها لخروج
الصوت وخلق للسان قدرة الحركات والتقطيعات ليقطع الصوت في مخارج مختلفة

244
تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها. ثم خلق الحناجر مختلفة
الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول
والقصر، حتى اختلفت بسببها الأصوات، فلا يتشابه صوتان، بل يظهر بين
كل صوتين فرقا حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في
الظلمة، ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ، وزين الوجه باللحية والحاجبين،
وزين الحاجب برقة الشعر واستقواس الشكل، وزين العينين بالأهداب.
ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخر كل واحد لفعل مخصوص. فسخر المعدة
لنضج الغذاء، والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم، والطحال والمرارة والكلية لخدمة
الكبد. فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها. والمرارة تخدمها بجذب الصفراء
عنها. والكلية تخدمها بجذب المائية عنها. والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها،
ثم تخرجه في طريق الإحليل: والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر
أطراف البدن. ثم خلق اليدين وطولهما لتمتد إلى المقاصد، وعرض الكف،
وقسم الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، ووضع الأربعة في جانب
لتدور الإبهام على الجميع، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق
الفكر وجها آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع
وتفاوت الأربع في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا عليه، إذ بهذا الترتيب
صلحت اليد للقبض والاعطاء، فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد
وإن جمعها كانت له آلة للضرب، وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له، وإن
بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له. ثم خلق الأظفار على رؤوسها زينة للأنامل
وعمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها
الأنامل، وليحك بها بدنه عند الحاجة، فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمه
الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم، ولم يقم أحد مقامه في حك
بدنه. ثم هدى اليد إلى الحك حتى تمتد إليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة
إلى طلب، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل. ثم
خلق هذا كله من النطفة وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث، ولو كشف

245
الغطاء والغشاء وامتد إليه البصر لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا
فشيئا ولا يرى المصور ولا آلته! فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا يمس آلته ومصنوعه
ولا يلاقيه وهو يتصرف فيه؟ فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه (140).
(وسئل) الشافعي رضي الله عنه: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال:
شجرة التوت طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ فقالوا: نعم. قال:
فتأكلها دودة القز، فيخرج منه الإبريسم - الحرير - ويأكل منها النحل، فيخرج
منها العسل، وتأكل منها الشاة، فيخرج منها البعر واللبن، ويأكلها الظباء فيخرج
منها المسك!! فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك، مع أن الطبع واحد؟
فاستحسن الناس منه ذلك.
(وتمسك) الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه - بالدلالة على وجود الله
تعالى - بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها، ظاهرها كالفضة المذابة، وباطنها
كالذهب الابريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير!!
فلا بد من الفاعل عنى بالقلعة: البيضة، وبالحيوان: الفرخ.
(وسئل) أحدهم عن وجود الله تعالى فقال:
تأمل في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات * بأحداق كما الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات * بأن الله ليس له شريك



(140) إلى هنا ينتهي كلام الإمام الغزالي من الإحياء كتاب التفكر المجلد (4).
246
تنزيه وجود الله تعالى
عن الزمان والمكان
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
الشرح:
ذكرنا فيما تقدم أن أول صفة واجبة في حق المولى سبحانه وتعالى هي صفة
الوجود، وأن الشرع أرشد إلى وجوب النظر في ملكوت السماوات والأرض ليتعرف
الإنسان من هذه المخلوقات على وجود الخالق سبحانه وتعالى، ومن هذه
المصنوعات على وجود الصانع جل وعز، وقد تقدم الدليل العقلي على وجوده
سبحانه وتعالى في خلق الإنسان من نطفة إلى أن صار بشرا سويا.
ومما يجدر بيانه هنا عند الكلام على صفة الوجود للمولى سبحانه وتعالى أن
وجوده ليس كوجود الخلق، وذلك يتضمن أمورا وهي: أنه سبحانه ليس جسما
ولا صفة، فليس له حد ومقدار، أي غاية ونهاية كالموجودات التي نراها، أي
حدودا وأبعادا ينتهي إليها، لأن هذا كله من صفات الأجسام، ولا يعني هذا
أنه جسم كبير جدا بحيث لا يوجد له أبعاد ولا حد ينتهي إليه، كلا وبلا، بل
يجب أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى لا يستطيع مخلوق أن يدركه أو يتصوره وكل
ما خطر في بالنا وفي أذهاننا فالله تعالى بخلاف ذلك، وهذا هو أس الإيمان وأساسه
بعد الإيمان بوجوده تعالى، وهذا كله تحقيق وامتثال لقول الله عز وجل: * (ليس
كمثله شئ) * وقوله تعالى: * (ولم يكن له كفوا أحد) * وقوله تعالى * (هل تعلم
له سميا) * أي مشابها ومماثلا، وتحقيقا لقوله تعالى * (سبحان ربك رب العزة عما
يصفون) *.
فهذا ما يجب أن يعرفه المسلمون جميعا، ويجب أن ندرك هنا أن صفة الوجود

247
لله تعالى اشتركت مع المخلوقات في اللفظ واختلفت في المعنى، فوجود المخلوق
هو أخذه للحيز في الفراغ إن كان جسما وقيامه بالجسم إن كان عرضا وصفة،
ووجود الله تعالى لا يجوز عليه الجسمية ولا الحد والمقدار ولا أخذ الحيز في الفراغ
ولا الخضوع لقانون الزمان والمكان فعلينا أن نؤمن بذلك ولن نستطيع إدراكه.
ومن المعلوم المقرر عند أهل العلم أن الزمان والمكان مخلوقان لله تعالى لأنهما
غير الله وكل ما سوى الله تعالى مخلوق حادث كان بعد أن لم يكن لقوله تعالى
* (الله خالق كل شئ) *.
ونعني بقولنا أن الله تعالى منزه عن الزمان أن الله تعالى ليست له بداية في
وجوده وليست له نهاية لأن الذي له بداية ونهاية هو الذي كان داخلا في قانون
الزمان والمكان، والعقل البشري وغيره لا يستطيع أن يدرك شيئا لا بداية له،
فما عليه إلا أن يصدق ويؤمن بصفات الله تعالى دون قياس ومعاكسة ومناقشة
عقيمة، وهذا هو الإيمان بالغيب المذكور في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من
ربهم وأولئك هم المفلحون) * البقرة 3 - 5.
وقد أشار الشرع إلى قصور عقول الخلق عن إدراك المولى سبحانه وتعالى في
عدة نصوص منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى
يقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله، فمن وجد من ذلك شيئا فليقل:
آمنت بالله) رواه مسلم (1 / 119 برقم 212).
قلت: هذا حديث مهم جدا فيه بيان أن العقل البشري بل عقول سائر
الخلق قد يخطر لها بعض القياسات من تشبيه الله تعالى بالخلق بأحد وجوه التشبيه
وأن هذا الأمر يقع أحيانا في القلب، فعلى من وقع له ذلك أن ينزه الله تعالى،
ويجب أن يكره ويدفع قلبه هذا الوارد والخاطر كما جاء في حديث آخر، ويسن

248
أن يقول: آمنت بالله ورسوله، فإنه ساعتئذ يشعر في قلبه بحلاوة الإيمان.
والحديث الآخر هو: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم
أحدنا أن يتكلم به. قال: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح
الإيمان) رواه مسلم (1 / 119 برقم 209).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وقد وجدتموه؟) أي هل وجدتم استعظام
ذلك في قلوبكم وكراهية قلوبكم لهذا الأمر؟ بدليل قولهم في الحديث (إنا نجد
في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به)، أي إن كراهية قلوبهم لهذا الوارد
اللا إرادي هو صريح الإيمان، لا أن خطوره في القلب هو صريح الإيمان. فعلى
هذا يثاب من دفع هذا الخاطر وكرهه وقال: آمنت بالله ورسوله. ويكفر من أثبته
وعقد قلبه عليه، والله الموفق.
قال الإمام النووي في (شرح مسلم) (2 / 154):
[أما معاني الأحاديث - المذكورة - وفقهها فقوله ص (ذلك صريح الإيمان)
ومحض الإيمان: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام
هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل
الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك].
ولنعد إلى قضية تنزيه الله عن المكان فنقول:
قال الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) ص (333) أن
أهل السنة والجماعة:
(أجمعوا على أنه لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان).
وأما المكان: فيجب تنزيه الله تعالى عن المكان فأما بعض النصوص الواردة

249
في الكتاب والسنة والتي يتوهم منها بعض الناس (141) إثبات المكان لله تعالى أو
جري الزمن عليه، فلا يراد منها ذلك، وما يتصوره بعض الناس من أن الله تعالى
في كل مكان مثلا أو أنه في السماء دون الأرض أو أنه في العلو أو في السماء فهو
باطل، لأن هذه جميعها أمكنة والله تعالى منزه عن المكان.
ومن لاحظ ودقق في القرآن والسنة الصحيحة جيدا فإنه سيجد لا محالة بأن
كل نص يتوهم منه بعض الناس أن الله تعالى في العلو أو في السماء مثلا يقابله
أيضا نص آخر يفيد ظاهره عند بعض الناس الآخرين عكس ذلك وهو أنه في
الأرض مثلا أو أنه سبحانه في كل مكان!! وكل ذلك غير مراد قطعا لتنزه الله
سبحانه عن الزمان والمكان.
فمثلا استدلال من استدل بقوله تعالى * (إني متوفيك ورافعك إلي) * وبقوله
تعالى * (تعرج الملائكة والروح إليه) * على أن الله في السماء باطل بما يقابله من
قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * مع أن سيدنا
إبراهيم لم يترك قومه ولم يذهب إلى السماء التي يزعم المجسمة أن معبودهم فيها،
وإنما ذلك مجاز. ومقابل ذلك أيضا بمثل قوله تعالى في الظل * (ثم قبضناه إلينا
قبضا يسيرا) * فقوله في الآية * (إلينا) * لا يعني أن الظل يذهب في الليل إلى الله
بلا شك ولا ريب.
وقوله تعالى * (أأمنتم من في السماء) * يقابله قوله تعالى * (وهو الله في
السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) * وقوله تعالى
* (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) * وقوله تعالى * (ما يكون من نجوى
ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا
هو معهم أين ما كانوا) * المجادلة: 7، وقوله تعالى * (فلما أتاها نودي من شاطئ
الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين *



(141) الذين لا يريدون فهم القرآن والسنة بمقتضى اللسان العربي الفصيح الذي به نزل
هذا الكتاب المبين.
250
وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا
تخف إنك من الآمنين) * القصص: 30 - 31.
فبماذا يجيب المجسمة - الذين يزعمون بأن الله في السماء ويثبتون له المكان -
عن نداء سيدنا موسى من شاطئ الوادي؟!! ومن الشجرة؟!! والمنادى سبحانه
يقول: * (أنا الله رب العالمين) * أم أنهم سينفون أن الله تعالى كلم سيدنا موسى
كما تقول الجهمية على زعمهم!! وهو يقول لسيدنا موسى أقبل ولا تخف؟!!
ألا يدل ظاهر قوله * (أقبل ولا تخف) * بعد قوله * (إني أنا الله رب العالمين) *
على أن الله سبحانه كان في الأرض في تلك الناحية وفي الشجرة كما جاء في
الآية؟!! وبماذا يمكن أن يعدل عن ظاهر هذه الألفاظ؟!!
مع أن ظاهر ذلك كله غير مراد عندنا!! لأن الله تعالى يتنزه أن يكون في
الأرض أو في السماء!! كما قدمناه لأن وجوده سبحانه وتعالى بلا مكان كما تقدم!!
وأما الحديث الذي يردده بعضهم والذي فيه أن النبي ص سأل الجارية فقال
لها (أين الله) فقلت: في السماء. رواه مسلم.
فالجواب عليه أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وإنما هي رواية الحديث بالمعنى وذلك لأن هذا الحديث نفسه قد رواه الإمام
عبد الرزاق في المصنف بلفظ آخر وهو أن النهي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها:
(أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) وهو الأصح سندا ومتنا، كما بينته
بتفصيل دقيق جدا في رسالة خاصة أسميتها (تنقيح الفهوم العالية بما ثبت وما
لم يثبت في حديث الجارية) فليراجعها من شاء التبصر في هذا الموضوع.
والدليل على تنزيه الله تعالى عن المكان من السنة ما رواه الإمام مسلم في
(صحيحه) (4 / 2084 برقم 61) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص كان
يقول في دعائه:

251
(اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت
الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين واغننا
من الفقر).
قال الإمام الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات) ص (400):
(استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا
لم يكن فوقه شئ ولا دونه شئ لم يكن في مكان) ا ه‍.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في فصل خاص ذكر أدلة أخرى في هذا الموضوع
والله الموفق.

252
صفة القدم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(قديم بلا ابتداء، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه. له معنى الربوبية
ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق).
الشرح:
إعلم أن من صفات الله تعالى القدم ومعنى القدم عدم الافتتاح للوجود،
أي تنزيه الله تعالى عن الزمان ومعنى ذلك الإيمان بوجود الخالق الخارج عن قوانين
الزمان حيث لا يمكن أن يجوز في حقه سبحانه البداية في وجوده، فهو سبحانه
المبدي المعيد.
وهذه الصفة بهذا المعنى لا تجوز أن تطلق إلا على الله تعالى وحده، فلا يجوز
اعتقاد قدم شئ غير الله تعالى وحده، وذهب قوم من الفلاسفة والملاحدة إلى أن
هذا العالم بعينه قديم، وذهب آخرون منهم إلى أن هذا العالم قديم بنوعه ليس
بعينه وأفراده، يعنون بذلك أن هناك عالما آخر كان قبل هذا العالم الموجود الآن،
وأن قبل ذلك أيضا عالم آخر، وهكذا إلى غير بداية وهذه الأقوال كلها كفر وإلحاد
في نظر الشريعة الإسلامية، لقوله تعالى * (هو الأول) * ولقوله تعالى * (الله خالق
كل شئ) * فعم ذلك الفرد والنوع أي الجنس. وقال الإمام الغزالي رحمه الله
تعالى:
بثلاثة كفر الفلاسفة العدا * في نفيها وهي حقيقا مثبته
علم بجزئى حدوث عوالم * حشر لأجساد وكانت ميته
ووصف الله تعالى بالقدم مجمع عليه، قال المحدث الزبيدي في (شرح
الإحياء) (2 / 21): (أجمعت الأمة على وصفه تعالى به) ا ه‍ ومعناه: الأزلي الأول
الذي لا بداية له. وقد ورد اسم القديم في رواية أسماء الله الحسنى عند ابن

253
ماجة في السنن (2 / 1270) بإسناد ضعيف إلا أنه يصح بانعقاد الإجماع على هذا
الاسم وشهادة القرآن له في آيات كثيرة.
قال الإمام الغزالي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) ص (21):
(ندعي أن السبب الذي أثبتناه لوجود العالم قديم فإنه لو كان حادثا لافتقر
إلى سبب آخر، وكذلك السبب الآخر ويتسلسل إما إلى غير نهاية وهو محال وإما
أن ينتهي إلى قديم لا محالة يقف عنده وهو الذي نطلبه ونسميه صانع العالم،
ولا بد من الاعتراف به بالضرورة.
ولا نعني بقولنا قديم إلا أن وجود غير مسبوق بعدم، فليس تحت لفظ القديم
إلا إثبات موجود ونفي عدم سابق) انتهى.
وأما قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى ولا خالق ولا مخلوق).
فمعناه:
أن مما يجب اعتقاده ويتعلق بهذا الموضوع، أن الله تعالى كان وحده ولم يكن
معه شئ من خلقه، لقوله تعالى * (الله خالق كل شئ) * ولقول النبي ص:
(كان الله ولم يكن شئ غيره) رواه البخاري (الفتح 6 / 286) وقد انعقد إجماع الأمة
على ذلك كما نقله ابن حزم في مراتب الإجماع (ص 167) (وهو ممن لا ينقل إلا إجماع
الصحابة) ويكفر من خالف في هذه المسألة كالفلاسفة والدهرية.
وأما الحديث الذي رواه البخاري (فتح 10 / 564) ومسلم (4 / 1762) عن سيدنا أبي
هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسب بنو آدم الدهر، وأنا
الدهر، بيدي الليل والنهار).
فمعناه: أنا صاحب الدهر ومقلبة، قال الحافظ في الفتح:
(ومعنى النهي عن سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه

254
أخطأ، فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى
الله... ومحصل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها أن المراد بقوله: إن الله
هو الدهر أي المدبر للأمور، ثانيها: أنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر،
ثالثها: التقدير مقلب الدهر، ولذلك عقبه بقوله (بيدي الليل والنهار) ووقع في
رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: (بيدي الليل والنهار
أجدده وأبليه وأذهب بالملوك) أخرجه أحمد، وقال المحققون: من نسب شيئا من
الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك
فليس بكافر، لكن يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق.
... وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله،
وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا) انتهى.
ولنا رسالة في موضوع قدم العالم فردا وجنسا ونوعا أسميناها (التنبيه والرد
على معتقد قدم العالم والحد) فليراجعها من أراد التوسع في هذا الموضوع.
صفة البقاء
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(دائم بلا انتهاء، لا يفني ولا يبيد، وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا
يزال عليها أبديا).
الشرح:
صفة البقاء من الصفات الواجبة في حق المولى سبحانه وتعالى، ومعناها عدم
انتهاء الوجود أي تعود إلى معنى القدم الكلي وهو عدم الدخول في الزمان.
ودليله مع الإجماع قوله تعالى * (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) * قال
الحافظ ابن الجوزي (المتوفى 597 ه‍) في (دفع شبه التشبيه) ص (113): (قال
المفسرون معناه: يبقى ربك).

255
قال الإمام الحافظ البيهقي (توفي 458 ه‍) في (الأسماء والصفات) ص (11 -
12):
(قال الحليمي: وهذا أيضا - أي اسمه الباقي - من لوازم قوله قديم،
لأنه إذا كان موجودا لا عن أول ولا بسبب لم يجز عليه الانقضاء والعدم، فإن
كل منقض بعد وجوده فإنما يكون انقضاؤه لانقطاع سبب وجوده، فلما لم
يكن لوجود القديم سبب يتوهم أن ذلك السبب إن ارتفع عدم علمنا أنه لا انقضاء
له.
قال البيهقي: وفي معنى الباقي: الدائم،... قال أبو سليمان الخطابي فيما
أخبرت عنه الدائم: الموجود - الذي - لم يزل الموصوف بالبقاء الذي لا يستولي
عليه الفناء.
قال: وليست صفة بقائه ودوامه كبقاء الجنة والنار ودوامهما وذلك أن بقاءه
أبدي أزلي وبقاء الجنة والنار أبدي غير أزلي) انتهى كلام الإمام البيهقي.
ومعنى ذلك أن الجنة والنار دائمتان ومن فيهما باقيتان بإبقاء الله تعالى لهما،
فدوامهما لشئ أوجب لهما ذلك، فهو جائز عقلا، وهذا خلاف معنى بقاء الله
تعالى فإنه ذاتي أي لا لشئ أوجب له ذلك تعالى ربنا وتقدس عن مشابهة خلقه.
ويجب اعتقاد بقاء الجنة والنار وعدم فنائهما، لأخبار الشرع لنا بذلك، في
مثل قوله تعالى * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها
أبدا) * الجن: 23، ومثل قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك
هم خير البرية جزاؤهم هند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالد بن فيها
أبدا) * البينة: 7 - 8.

256
صفة القيوم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(قيوم لا ينام).
الشرح:
معنى القيوم هو الدائم الذي لا يزول، وقد سمى الله تعالى نفسه بهذا الاسم
في آية الكرسي وغيرها، ومن ذلك قوله تعالى * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) *.
قال الإمام الغزالي في المقصد الأسنى: (القيوم الذي قوامه بذاته وقيام كل
شئ به، وليس ذلك إلا لله).
وقال المحدث الزبيدي في (شرح الإحياء) (2 / 23):
(ومعنى قول بعضهم إن المخلوقات قائمة بالله تعالى هو على معنى أنه الموجد
لها لا على معنى حلولها فيه) ا ه‍.
قلت: ونقل الأئمة تكفير من يعتقد الحلول في ذات الله تعالى ممن ينسب
نفسه للإسلام، وما يقوله بعض المتصوفة (أدعياء التصوف) من عبارات غامضة
تدل على معنى الحلول أو الاتحاد أوليس لها على حسب قواعد اللغة إلا معنى
فاسد شرعا فإنه يجب علينا إنكارها، واعتقاد ضلال قائلها وزيغه، إذ لسنا بحاجة
إلى كلمات فلسفية غامضة، وترهات بعيدة عن منبع الإسلام الأصلي: الكتاب
الكريم والسنة المطهرة الشريفة، لأن لنا فيهما أكبر غناء بأوضح عبارة وأسهل
أسلوب ونحن بحاجة ماسة إلى تعليم الناس عقائدهم الصحيحة الواضحة المبنية
على القرآن والسنة لا على الترهات والكلمات والجمل الفلسفية المبنية على
الغموض، والتأويل البعيد الذي ترفضه قواعد اللغة، والله تعالى المستعان.
وينبغي أن ننبه هنا أيضا على أن هناك كلاما لابن تيمية نقلة عنه الألباني في
حاشية كتابه (صحيح الترغيب والترهيب) ص (116) وأقره عليه لازمه الذي لا

257
يمكن أن ينفك عنه دال على قولهم بحلول العالم والخلق بالله تعالى، تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا، وقد شرحنا ذلك وبينا صورته ورسمه في تقرير مسألة (أن
الله تعالى لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله) من هذا الكتاب ص (324)
فليرجع إليها من شاء البيان والايضاح.
صفة الغنى
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وكل شئ إليه فقير،
لا يحتاج إلى شئ، ويملك كل شئ، ولا يملكه شئ، ولا غنى عن الله
تعالى طرفة عين).
الشرح:
ومما يجب اعتقاده أيضا في حق الباري سبحانه وتعالى من الصفات أنه غني
ومن غناه: غناه: عن الموجد وغناه عن الزمان والمكان وبالمقابل افتقار كل
الكائنات إليه في وجودها وافتقارها إليه وخضوعها للزمان والمكان الذي حدده
سبحانه لها.
ومن الآيات الواردة في هذا المعنى قوله تعالى * (إن الله لغني عن العالمين) *
العنكبوت: 6، وقال تعالى * (والله الغني وأنتم الفقراء) *.
قال الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات) ص (36):
(قال الحليمي في معنى الغني: إنه الكامل بما له وعنده فلا يحتاج معه إلى
غيره، وربنا جل ثناؤه بهذه الصفة لأن الحاجة نقص، والمحتاج عاجز عما يحتاج
إليه إلى أن يبلغه ويدركه، وللمحتاج إليه فضل بوجود ما ليس عند المحتاج،
فالنقص منفي عن القديم بكل حال، والعجز غير جائز عليه ولا يمكن أن يكون
لأحد عليه فضل إذ كل شئ سواه خلق له، وبدع أبدعه لا يملك من أمره شيئا،

258
وإنما يكون كما يريد الله عز وجل، ويدبره عليه، فلا يتوهم أن يكون له مع هذا
اتساع لفضل عليه) انتهى.
صفة المخالفة للخلق
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا شئ مثله، لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام
* (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) * وهو متعال عن الأضداد
والأنداد).
الشرح:
هذه الصفة يجب أن يعتقدها الإنسان المسلم لله تعالى وإلا دخل عليه التشبيه
وقد تقدم ذكرها في المواضيع المختلفة السابقة وهي كما تقدم مأخوذة من قوله تعالى
* (ليس كمثله شئ) * وقوله تعالى * (ولم يكن له كفوا أحد) * وقوله تعالى: * (هل
تعلم له سميا) * أي مشابها ومماثلا؟! وهذه هي الآيات المحكمات في موضوع
الصفات في علم التوحيد فلا تغفل عنها.
وقال بعض العلماء:
(ألزم الله الخلق الحدث (142)، لأن القدم له سبحانه، فالذي
بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه، والذي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه،
والذي يؤلفه وقت يفرقه وقت، والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه،
والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه، ومن آواه محل أدركه أين،
ومن كان له جنس طالبه مكيف، أنه سبحانه لا يظله فوق، ولا
يقله (143) تحت، ولا يقابله حد، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف،
ولا يحده أمام، ولم يظهره قبل، ولم ينفه بعد، ولم يجمعه كل، ولم



(142) أي أن قدم الله تعالى يقتضي أن يكون كل ما سواه مخلوق حادث.
(143) يقله: أي يحمله.
259
يوجده كان، ولم يفقده ليس، وصفه لا صفة له، وفعله لا علة له،
وكونه لا أمد له، تنزه عن أحوال خلقه، ليس له من خلقه مزاج، ولا في
فعله علاج، باينهم (144) بقدمه كما باينوه بحدوثهم، إن قلت متى؟ فقد سبق
الوقت كونه. وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه، وأن قلت أين؟ فقد تقدم
المكان وجوده، فالحروف آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه
من خلقه، ما تصور في الأوهام فهو بخلافه، كيف يحل به ما منه بدا،
أو يعود إليه ما هو أنشأه، لا تماقله (145) العيون، ولا تقابله الظنون، قربه
كرامته، وبعده إهانته، علوه من غير توقل (146)، ومجيئه من غير تنقل،
هو الأول والآخر والظاهر والباطن القريب البعيد الذي ليس كمثله شئ وهو
السميع البصير) انتهى.



(144) باينهم أي: خالفهم.
(145) لا تماقله أي: لا تراه بالمقل وهي العيون.
(146) توقل أي: صعود.
260
صفة الخالقية
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(خالق بلا حاجة، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا
بإحداث البرية استفاد اسم الباري، وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا استحق
هذا الاسم قبل أحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم).
الشرح:
الخلق بمعنى الإبراز من العدم صفة لله سبحانه وتعالى ودليلها من القرآن
قوله تعالى * (الله خالق كل شئ) * وقوله تعالى * (هل من خالق غير الله) *؟!
وقال تعالى * (ألا له الخلق والأمر) * وآيات كثيرة أخرى.
فمعنى الخالق أي أنه الذي أبدع وكون جميع المخلوقات والحادثات، فكل
ما سوي الله تعالى حدث بخلقه وتكوينه وإبداعه، فالخلق هو الإبراز من العدم،
فلا خالق بهذا المعني إلا الله سبحانه وتعالى.
وأما قوله تعالى * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فمعناه: أحسن المقدرين،
لا أن هناك خالقين أي مبرزين من العدم غير الله تعالى لكنه هو أحسنهم خلقا،
لا ليس كذلك.
فالمراد هنا: أن الله تعالى أحسن المقدرين، لأن تقديره سبحانه لا يخطئ،
وتقدير غيره يجوز عليه الخطأ والتغير، والعرب تستعمل الخلق بمعنى التقدير وقد
جاء ذلك في أشعارهم وأرجازهم، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى يمدح
رجلا:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري
معناه كما في لسان العرب: أنت تقدر وتنفذ، وبعض الناس يقدر ولا

261
يستطيع التنفيذ. ا ه‍ فيصير معناه: أن لك المزية في ذلك فيجوز بهذا المعنى وهو
التقدير إطلاق الخلق على غير الله تعالى.
ومن ذلك يتضح أنه لا يجوز شرعا أن نقول ما يقوله بعض الناس اليوم:
(أخلق لي كذا كما خلقك الله) كما لا يجوز أن يقال مثلا (سأخلق حالة من
السرور) مثلا أو (هذه الأسباب خلقت نهضة علمية) أو (الانتفاضة أو الحرب
خلقت جو من التكاثف) أو غير ذلك مما يستعمله بعض الكتاب والصحفيين
اليوم، لأن هذا لا يفيد إلا الإبراز من العدم كما لا يخفى، وهذا لا يجوز إطلاقه
على غير الله تعالى.
فيقال بدل ذلك مثلا: (الانتفاضة أو الحرب كانت سببا في وجود جو من
التكاثف) و (سأجعلك تسر بي) أو (سأدخل على قلب أصدقائي السرور إن
شاء الله تعالى).... الخ، وقد فشا هذا التعبير الخطأ وهو إطلاق الخلق لغير
الله - في الصحافة ولدى الإذاعات وعند كثير من المحاضرين والمتكلمين اليوم
(الذين لم يتعلموا العقيدة والتوحيد!!) في العديد من المواضيع ونبهنا على عدم
جواز ذلك وكتبنا في الجرائد العامة والله المستعان ويجب على جميع من علم ذلك
التنبيه والتحذير منه والله الموفق.
ويأتي الخلق في اللغة أيضا بمعنى التصوير، كما قال تعالى في شأن سيدنا
عيسى: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) *.
ويأتي الخلق أيضا بمعنى افتراء الكذب، قال تعالى * (وتخلقون إفكا) *
أي تفترون الكذب.
ويأتي الخلق بمعنى الابلاء أيضا قال العلامة الإمام السيد أبو بكر بن
شهاب:
وما كل خطب يخلق الدهر حزنه وينسخه كر الجديدين مذ عرا
وهو مقتبس من الثوب الخلق أي: البالي.

262
ويصح أن يقال في (يخلق) في هذا البيت لغتين (يخلق) كما أثبتناها وكذا
(يخلق)، أي: يبلي.
ومما يجب اعتقاده أن الله تعالى كان متصفا بصفة الخلق أي أنه خالق قبل
خلق الخلق، فلم يكتسب هذا الاسم وهذه الصفة بعد خلق الخلق، كما أنه
سريع الحساب الآن وفي الأزل مع أنه لا يتجلى بهذه الصفة إلا يوم القيامة وذلك
لأن صفات الله تعالى قديمة وليست حادثة لقوله تعالى * (ليس كمثله شئ) *.
ولذلك قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من
صفته، وكما كان بصفاته أزليا، كذلك لا يزال عليها أبديا، ليس بعد خلق الخلق
استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري، له معنى الربوبية
ولا مربوب، ومعنى الخالقية ولا مخلوق، وكما أنه محي الموتى بعدما أحيا استحق
هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم).
ويكفر من اعتقد أن الله تعالى لم يكن خالقا ثم صار خالقا، أي اكتسب
صفة الخلق، فلا تغفل عن هذا.

263
صفة الرزق
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(رازق بلا مؤنة، وقدر لهم [أي الخلق] أقدارا وضرب لهم
آجالا).
الشرح:
من صفات المولى سبحانه وتعالى أيضا أنه رزاق، وقد وصف الله سبحانه
وتعالى نفسه بذلك في كتابه العزيز، من ذلك قوله تعالى * (الله الذي خلقكم ثم
رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم، هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ،
سبحانه وتعالى عما يشركون) * الروم: 40، وقوله تعالى * (يا أيها الناس اذكروا نعمت
الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو
فأنى تؤفكون) * فاطر: 3، ولاحظ هنا في هاتين الآيتين الكريمتين أن الله تعالى ذكر
صفة التخليق أولا ثم أعقبها بذكر صفة الترزيق ثانيا إشارة منه سبحانه وتعالى
إلى أن الله تعالى تكفل برزق كل مخلوق من مخلوقاته وقد جاء ذلك صريحا في
القرآن، قال تعالى: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها
ومستودعها كل في كتاب مبين) * هود: 6، وقال تعالى * (وكأين من دابة لا تحمل
رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم) * العنكبوت: 60، وروى مسلم في
صحيحه (4 / 2051) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ص قال لأم
حبيبة رضي الله عنها:
(قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة. لا
يعجل شيئا منها قبل حله، ولا يؤخر منها شيئا بعد حله،...).
قال بعض العلماء: (الرزق رزقان، ظاهر أي مادي، كالأقوات للأبدان،

264
وباطن أي معنوي، كالعلوم والمعارف للقلوب).
وقال ابن عطاء الله السكندري في حكمه:
(كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله
وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة
غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟).
(فائدة):
إعلم أن الله تعالى موصوف بأنه رازق قبل أن يرزق المرزوقين، وموصوف
بأنه خالق قبل أن يخلق المخلوقين، أي: أن للقدرة تعلقين كما قال العلماء:
تعلق صلوحي وتعلق تنجيزي.
ومعنى ذلك أن القدرة صالحة في الأزل لخلق أي مخلوق يريده المولى تبارك
وتعالى أي أن الله قادر في الأزل على خلق ما يشاء ورزق هذا المخلوق، وأما
معنى التعلق التنجيزي فمعناه أن الله تعالى إذا شاء خلق أي مخلوق أي حسب
المشيئة الأزلية فإن صفة القدرة تنجز ذلك وتوجده بحسب الإرادة التي خصصته
في زمن معين ومكان وصفات محددة.
والمراد من هذا كله إبطال قول من قال إن الله تعالى لم يزل خالقا في الأزل
بمعنى أن نوع الحوادث دائم أزلي كما يقوله الفلاسفة ومن تبعهم ولا شك أن
من اعتقد قدم نوع المخلوقات أو فرد منها فإنه كافر مرتد إجماعا، لأنه يرد بذلك
نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هو يضلل أهل الحق فيما اعتقدوه وبالله
تعالى التوفيق.

265
صفة القدرة وصفة الإرادة والمشيئة
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا شئ يعجزه، ولا يكون إلا ما يريد، مميت بلا مخافة، باعث
بلا مشقة، ذلك بأنه على شئ قدير، وكل أمر عليه يسير، وأمرهم بطاعته
ونهاهم عن معصيته وكل شئ يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا
مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي
من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا،
وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله، لا راد لقضائه، ولا معقب
لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده، وكل
ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله،
والشقي من شقي بقضاء الله، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع
على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة
الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك
نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم
عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: * (لا يسئل عما يفعل وهم
يسئلون) *. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم
الكتاب كان من الكافرين، فلو اجتمع الخلق كلهم على شئ كتبه الله تعالى
فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على
شئ لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه، جف القلم بما
هو كائن إلى يوم القيامة.
وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلى العبد

266
أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا
محكما مبرما، ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص
ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان، وأصول
المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه:
* (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) *، وقال تعالى: * (وكان أمر الله قدرا
مقدورا) *، فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه
قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما، وعاد بما قال فيه
أفاكا أثيما، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر
مقدران على العباد، والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق
الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من
جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها
يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *،
وأفعال العباد هي بخلق الله، وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا
ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: (لا حول ولا قوة
إلا بالله) لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا
بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله،
وكل شئ يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته
المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم
أبدا، ودين الله.... بين الجبر والقدر وبين الأمن والإياس).
الشرح:
اعلموا يرحمكم الله تعالى أن المولى سبحانه موصوف بأنه قادر قدير ومريد.
ومعنى القدرة في اللغة: القوة والاستطاعة، ومعنى القدرة اصطلاحا هنا:
صفة أزلية أبدية يؤثر الله تعالى بها في الممكنات أي في كل ما يجوز في العقل وجوده

267
وعدمه، بها يوجد سبحانه وبها يعدم، وبمعناه القادر إلا أن القدير أبلغ.
ومعنى الإرادة أو كونه تعالى مريدا: أنه قادر على تكوين ما سبقت به إرادته،
لا يعجزه عن ذلك شئ، ولا يمانعه أحد، ولا يحتاج إلى استعانة بغيره، ما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وقال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات) ص (394):
[القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شئ ما،
وإذا وصف الله تعالى بها فهي نفي العجز عنه ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة
المطلقة معنى وإن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال قادر على كذا، ومتى قيل
هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه
إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه، والله تعالى هو الذي ينتفى عنه العجز
من كل وجه. والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا
عليه ولا ناقصا عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: * (إنه
على ما يشاء قدير) * والمقتدر يقاربه نحو * (عند مليك مقتدر) * لكن قد يوصف
به البشر وإذا استعمل في الله تعالى فمعناه معنى القدير، وإذا استعمل في البشر
فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة] انتهى.
ودليل القدرة قوله تعالى: * (والله على كل شئ قدير) * ودليل المشيئة والإرادة
قوله تعالى * (إن الله يفعل ما يشاء) * وقوله تعالى * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول
له كن فيكون) * ومعنى هذه الآية: أن الله تعالى إذا أراد أن يوجد شيئا فلا بد
أن يوجده ولا يستطيع شئ أن يمانعه، لا أنه يقول للعدم لفظة كن وإنما هذا
من مجاز اللغة كما هو معروف عند العرب.
[تنبيه مهم]: إعلم بأن مشيئة الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل، لأن
صفات الله تعالى قديمة أزلية أبدية والتغير دليل الحدوث، والحدوث محال في حق
الله سبحانه، فالله تعالى يغير المخلوقات ويتصرف فيها بما شاء على حسب إرادته

268
ومشيئته الأزلية، وهذا مما أجمع عليه أهل الحق لقوله تعالى * (لا تبديل لكلمات
الله) * ولقوله * (لا تبديل لخلق الله) * الروم: 30 ولقوله تعالى * (ما يبدل القول لدي
وما أنا بظلام للعبيد) * ق: 29، وقال تعالى * (سنة الله في الذين خلوا من قبل
ولن تجد لسنة الله تبديلا) * الأحزاب: 63.
وجاء في الحديث الصحيح أن النبي ص قال لسيدنا ابن عباس رضي الله
عنهما: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي (4 / 667) وغيره، وفي رواية
عند أحمد (1 / 307) (وقد جف القلم بما هو كائن) وفي رواية عند الحاكم (3 / 541):
(قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك
لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا
عليه).
وفي (صحيح مسلم) (4 / 2216) عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت
ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة - أي المجاعة - فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي
بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) وفي رواية أخرى
في صحيح مسلم: (وإن ربي قال: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد).
فيتبين بذلك بكل وضوح أن تقدير الله تعالى وقضاءه لا يتغير لا لدعوة نبي
ولا لدعوة ولي ولا بشئ من الأشياء البتة وحديث (لا يرد القدر إلا بالدعاء)
ضعيف في سنده عبد الله بن أبي الجعد، لم يوثقه إلا ابن حبان ونقل الحافظ ابن
حجر في (تهذيب التهذيب) (5 / 149) عن ابن القطان أنه قال: مجهول الحال،
وحديثه هذا منكر المتن لأنه معارض للقرآن وللأحاديث الصحاح، ولو لم يكن
معارضا للكتاب والسنة لحسنا حديثه.
وقد أوله الحافظ ابن حبان في صحيحه (3 / 154) - على فرض كونه صحيحا
- فقال:

269
(ودوام المرء على الدعاء يطيب له ورود القضاء، فكأنه رده لقلة حسه بألمه)
وهذا تأويل حسن جدا.
وحديث (الدعاء يرد القضاء) رواه الحاكم (3 / 481) كما قال المناوي، وقال
الذهبي هناك: (قلت: ابن قرين كذاب وسعيد واه وشيخه ضعفه ابن معين).
قلت: فالحديث موضوع.
وحديث (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، وإن
البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيتعالجان إلى يوم القيامة) حديث واه أي ضعيف جدا.
قال الذهبي زكريا - الذي في سنده - مجمع على ضعفه. قلت: بل قال أبو زرعة
فيه: واهي الحديث منكر الحديث. أنظر (تهذيب التهذيب) (3 / 288) وقال
الذهبي في (الميزان) (2 / 75): (قال الدارقطني: متروك) وأورد الحديث الحافظ
ابن حجر في (التلخيص) (4 / 121) ونص على أن زكريا متروك فالصواب أن هذا
موضوع.
وحديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) رواه الترمذي (4 / 448) وفي سنده أبو مودود
اسمه فضه وهو ضعيف كما قال أبو حاتم الرازي (أنظر الجرح والتعديل 7 / 93).
وأما معنى قوله تعالى * (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * فمعناه
أن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت في صحف الملائكة وعنده اللوح المحفوظ حيث
دون فيه ما سيحصل فلا محو ولا إثبات فيه، والمراد بقولنا هنا (عنده اللوح
المحفوظ) أي: لا يطلع عليه أحد البتة. كما جاء قي الحديث الصحيح الآخر
(إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).
ويجوز أن نقول أيضا إن المحو والإثبات يكونان في اللوح المحفوظ أما في علم
الله تعالى وقدرته وإرادته أي صفاته فلا يجوز التغير فيها والتبديل بحال من الأحوال
بل هو من الأمور المستحيلة بلا شك، وهذا هو المراد والمقصود من المسألة.
فالمحو والإثبات راجع على بعض خلق الله تعالى لا على صفات الله تعالى

270
التي لا يجوز فيها التبديل ولا التغير، والأصح أن المراد بقوله تعالى * (يمحو الله
ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * هو القول الأول الذي قدمناه وهو أن المحو
والإثبات عائد على صحف الملائكة التي بأيديهم والتي يكتب فيها مثلا: إن وصل
فلان رحمه عاش خمسين سنة وإن لم يصل رحمه عاش أربعين، فمتى حصل الذي
سيقع في علم الله تعالى أثبت الكائن الحاصل ومحي الذي لم يقع وهكذا، وهذا
الذي ذهبنا إليه واعتمدناه من أن المحو والإثبات عائد على صحف الملائكة لا
على اللوح المحفوظ هو الموافق لظواهر الآيات والأحاديث الصحيحة التي منها (أول
ما خلق الله القلم، فقال له اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر.
قال: وكتب ما هو كائن) رواه الحاكم (2 / 454) وابن أبي عاصم (1 / 48) وغيرهما
وهو صحيح.
وروى ابن أبي عاصم (1 / 51) والبخاري (11 / 491) معلقا عن سيدنا أبي هريرة
رضي الله عنه قال:
(قال لي النبي ص جف القلم بما أنت لاق). قال الحافظ ابن حجر في
شرحه: (قوله (جف القلم) أي فرغت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح
المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال
كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة
والقلم).
وجاء في صحيح مسلم (4 / 2044) عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض
بخمسين ألف سنة...) قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (11 / 489): (هو
محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه
وتعالى) ا ه‍.
وأما ما رواه البخاري (10 / 415) وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا: (من

271
سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له أثره فليصل رحمه) فمعنى الزيادة في العمر
هنا البركة فيه لا زيادة عدد السنين والأيام. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح)
(10 / 416):
[قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى * (فإذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * والجمع بينهما من وجهين: (أحدهما) أن هذه
الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه
في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي ص
تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر.
وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى
بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم
الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح. وسيأتي مزيد
لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. (ثانيهما) أن الزيادة على حقيقتها،
وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية
فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة مثلا
إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع،
فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن
فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى * (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده
أم الكتاب) * فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو
الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة. ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول
القضاء المعلق. والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع
الشئ، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور] ا ه‍.
وقال الحافظ أيضا في (الفتح) (9 / 119):
(قوله (جف القلم بما أنت لاق) أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ
فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه بفراغ ما كتب به. قال - القاضي

272
- عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه
إليه).
ومن هذا يتبين خطأ بعض الناس الذين يدعون بأنهم يطلعون على اللوح
المحفوظ!! ويظنهم عوام الناس أنهم أولياء مقربون!!
كما يتبين مما تقدم أن العبد مخير وليس مسيرا، ولذلك كلفه الله تعالى
بالأحكام الشرعية واختبره بفعلها والجزاء عليها، وأرسل الرسل وأنزل الكتب
لذلك، فليس لانسان أن يحتج بالقدر إلا بعد وقوعه، أي فلا يجوز لانسان مثلا
إذا قيل له: اتق الله ولا تعصه وقم بما أمرك الله تعالى به، أو أقم الصلاة التي
فرضها الله عليك. أن يقول: لم يقدر الله علي الهداية أو نحو هذا الكلام، لأنه
لم يطلع على تقدير الله تعالى ولا يعرف في الحقيقة هل هو مكتوب من أهل السعادة
أم من أهل الشقاوة، فلذلك يجب عليه أن يعمل ولا يتكل.
وأكبر برهان على أن هذا الإنسان غير صادق في تحججه بالقدر أنه إذا جاع
وأراد أن يأكل أو يشرب أو يفعل ما يمليه عليه هواه أو شهواته فإنه لا يجلس هكذا
حتى يموت جوعا وهو يقول إن الله تعالى لم يقدر لي أن آكل وقد قدر علي أن
أبقى جائعا، وإنما نراه يقوم ويأخذ بالأسباب في الطبخ والنفخ، ولا نراه يأخذ
بأسباب الهداية!!
ولكن إذا وقع الأمر جاز الاحتجاج بالقدر كما وقع في قصة سيدنا آدم وسيدنا
موسى، فمثلا إذا أصابته مصيبة فإنه يصبر ويحمد الله ويؤمن بأن هذا الأمر من
تقدير المولى سبحانه، وفي ذلك يقول النبي ص: (عجبا لأمر المؤمن. إن أمره
كله خير. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا
له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم (4 / 2295) من حديث سيدنا
صهيب.
فتبين لنا بذلك أن القضاء والقدر لا يعني أن الإنسان مجبور ومقهور ومسير

273
فيما يحصل له، إنما المراد بالقضاء والقدر أن هذا الأمر سبق في علم الله الأزلي
أنه سيكون كذا ولا يكون كذا، وعلى ضوء أو وفق علم الله تعالى الأزلي كتب
في اللوح المحفوظ بأنه سيحدث كذا وسيقع كذا، وهذا مما لم نطلع عليه ولم
نعرفه (147)، والانسان أيضا غير مجبر عليه البتة، ولذلك يشعر وهو الواقع والحقيقة
كل إنسان منا بأنه مختار في أفعاله وأنه يستطيع أن يفعل ما شاء من المعصية أو
الطاعة أو غيرهما من المتضادات، ولا يشك في ذلك عاقل!! ولذلك قال الله تعالى
* (وهديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا) * ولو كان مجبرا على أعماله
ومسيرا فيها لم يصح مثل هذا الإخبار من الله تعالى وهو محال!!
ومثل هذا قوله تعالى * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) *
فصلت: 17، ومن ذلك تعلم المعنى الحقيقي المراد من قوله تعالى * (قل إن الله يضل
من يشاء ويهدي إليه من أناب) * الرعد: 27، أي أنه وقعت مشيئة الله تعالى وإرادته
أن يضل من شاء الضلال ويهدي من رجع إليه وشاء الهداية وأرادها.
[تكملة]: أما خلق الأفعال فنحن نعتقد بأن الفاعل الحقيقي لكل شئ
هو الله تعالى، فهو الذي يحرق وليس النار ولا من أشعل النار، وهو الذي يقطع
وليس السكين ولا من حمل السكين وهو الذي يغرق.



(147) ولا يرد علينا هنا قول من قال: إن بعض الأولياء يطلعون على اللوح المحفوظ، فهذا
لا يصح ونحن نعتقد أنه كذب وباطل!! فافهم!! وذلك لأن النبي ص لم يطلع على
اللوح وهو سيد الأولياء والأنبياء والمرسلين ولو اطلع على اللوح لما تحير ص في مثل حادثة
الإفك ولما نزل عليه الوحي يحذره من أشياء!! فلا تغفل عن هذا!!!
274
مسألة الكسب
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وأفعال العباد هي بخلق الله، وكسب من العباد).
الشرح:
مسألة الكسب وردت في القرآن الكريم بلفظ الكسب (بعينه) في آيات كثيرة،
قال تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *
البقرة: 286. وقال تعالى: * (كل امرئ بما كسب رهين) * الطور: 21. وقال تعالى:
* (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *
البقرة: 281. وقال تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * البقرة: 225.
وقد جاء في القرآن إضافة الكسب للأعمال الصالحة والسيئة، فذكر سبحانه
الكسب للحسنات والطيبات فقال: * (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل
أو كسبت في إيمانها خيرا) * الأنعام: 158، كما ذكر سبحانه الكسب مضافا للسيئات
والكفران فقال * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) * يونس:
27. وقال تعالى * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون) * البقرة: 82.
وبالجملة فقد ذكر الكسب في القرآن الكريم في نحو ستة وستين موضعا وهذا
مما يؤكد ويقرر أن الكسب هو المذهب الصحيح في أن أعمال الخلق مع كونها مخلوقة
لله تعالى فهي كسب للعباد باختيارهم المحض وحريتهم الكاملة بلا جبر ولا قهر
ولذلك يحاسبهم الله تعالى عليها فيثيبهم ويعاقبهم.
ولا يستطيع العقل المخلوق سواء كان من الملائكة أو من الجن أو الإنس وعلى
رأسهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أن يدركوا كيف أن عمل المخلوق

275
وكسبه المنسوب إليه هو أيضا مخلوق لله تعالى، وذلك لان هذا الامر هو عبارة
عن تعلق القدرة وصفة الخالقية بالمخلوق وهذا مما لا يمكن لمخلوق أن يدركه لأنه
إدارك لصفة الله تعالى، والله سبحانه وصفاته خارج عن طور الادراك وإمكانيته
وإنما يدرك من ذلك الأثر لا المؤثر الحقيقي سبحانه وتعالى.
الآيات الدالة على أن أعمالنا مخلوقة لله تعالى مع كوننا مخيرين فيها:
قال الله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) * الصافات: 96، وقال تعالى
* (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * الأنفال: 17.
وقال تعالى: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة
يقولون هذه من عندك، قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون
حديثا) * النساء: 78. ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الحسنة والسيئة والنعمة
والمصيبة من عنده على التحقيق، لأنه هو خالق الخير والشر، وهو سبحانه النافع
والضار * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * ثم بين سبحانه بعد هذه الآية أنه
ينبغي للعبد أن يتأدب مع الله تعالى فينسب الخير إلى الله والشر لنفسه، فقال
سبحانه: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) *
النساء: 79. وفي قصة الخضر أكبر بيان في تعليم التأدب في نسب الشر إلى الانسان
والخير إلى الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى قول سيدنا الخضر عليه السلام عن خلع
لوح السفينة * (فأردت أن أعيبها) * فنسب الإرادة في هذا الامر اليه لان ظاهر الامر
شر محض، وقال في قتل الغلام * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) * فنسب
جهة قتله له لان ظاهرها شر محض ونسب جهة نفع أبويه إلى الله لأنها جانب
الخير فقال * (فأردنا) *، وقال في بناء الجدار لأنه خير محض * (فأراد ربك أن يبلغا
أشدهما ويستخرجا كنزهما) * فتأمل جيدا!!
وقال تعالى * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليه
القول فدمرناها تدميرا) * الاسراء: 16.

276
وقال تعالى * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) * التوبة: 51.
الآيات الدالة على أن المكلف (الإنسان وغيره) مختار في أفعاله غير مجبور ولا
مقهور:
قال الله تعالى * (وهديناه النجدين) * البلد: 10، وقال تعالى * (وهديناه السبيل
إما شاكرا وإما كفورا) * الإنسان: 3، وقال تعالى * (وقل الحق من ربكم فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر) * الكهف: 29، وقال تعالى * (وأما ثمود فهديناهم
فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة الهون بما كانوا يكسبون) * فصلت:
17.
فتلخص من هذا كله أن الله تعالى نص في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه على أن أفعالنا وأعمالنا مخلوقة لله تعالى في حال كونها
من كسبنا وعملنا وصنعنا ونحن مختارون فيها، وكونها كذلك يجب الإيمان به ولا
يمكن إدراكه، أما كونها أعمالا لنا فهذا معقول لنا ومدرك، وأما كونها أيضا مخلوقة
لله تعالى فهذا غير معقول لنا لأنه من صفات الله تعالى كما تقدم (أي يتعلق بصفة
القدرة والتخليق لله) وصفات الله تعالى لا يمكن أن نعقلها ولا أن ندركها وإنما
آمنا بذلك واعتقدناه لوروده صريحا في كتاب الله تعالى، وإذا وصلنا إلى هذه النقطة
وهي البحث عن كيفية كون أعمالنا مخلوقة لله تعالى وكيفية أو ماهية ذلك وهذا
غير معقول بذاته فعلينا أن نمسك (148).
وقد صنف في هذه المسألة الإمام العلامة المحدث الكوثري عليه الرحمة
والرضوان رسالة أجاد فيها وأفادنا من درر علومه في هذا الباب أسماها (الاستبصار
في التحدث عن الجبر والاختيار) فليرجع إليها من شاء الاستفادة والله الموفق.



(148) وبذلك ينهدم اعتراض المتمسلفين على السادة الأشاعرة في مسألة الكسب ويتبين وهاء
ما احتجوا به.
277
وأما قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات).
فشرحه:
أنه إذا قال قائل: فما هي فائدة الدعاء حينئذ إذا كان كل شئ مقدرا؟!!
قلنا له:
[أولا]: هو تنفيذ لأمر الله تعالى الأمر بالدعاء، في مثل قوله تعالى * (أدعوني
أستجب لكم) *.
[وثانيا]: هو الشعور بالاتصال بالله في كل وقت والالتجاء إليه.
[وثالثا]: أن الله تعالى يكون قد قدر في الأزل أن يدعوه فلان فيجيب دعائه
وطلبه، أو أن يدعوه فلا يتحقق الأمر في الدنيا ويدخر له ثواب دعائه في الآخرة
وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، فمنها عن سيدنا أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال رسول ألد صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يدعو
بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل
له دعوته، وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)
رواه البزار (4 / 40) وغيره وهو صحيح.
[تنبيه]: وهناك دعاء يقرأه بعض الناس في ليلة النصف من شعبان وفيه
(اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا أو مطرودا أو محروما فامح
شقاوتي.. واكتبني في ديوان السعداء...) إلى آخره، وهذا دعاء يزعم بعضهم
أنه يروى عن سيدنا عمر وليس كذلك!! والواقع أنه يروى عن سيدنا ابن مسعود
بإسناد ضعيف (149)، واعلم أنه لا يجوز قراءة هذا الدعاء لما فيه من ألفاظ تدل
على أن مشيئة الله تعالى وتقديره للأشياء يتغير، وارجع إلى رسالة شيخنا الإمام
المحدث سيدي عبد الله بن الصديق الغماري أعلى الله درجته التي سماها (حسن
البيان في ليلة النصف من شعبان).



(149) (أنظر مصنف ابن أبي شيبة 7 / 85 طبعة دار الفكر).
278
صفة العلم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(خلق الخلق بعلمه، ولم يخف عليه شئ قبل أن يخلقهم، وعلم ما
هم عاملون قبل أن يخلقهم، وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل
الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد، ولا
ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه).
الشرح:
إعلم أن العلم من صفات الله تعالى الواجبة في حقه وقد وصف الله عز وجل
نفسه بالعلم في كتابه العزيز وكذلك وصفه النبي ص، قال الله تعالى * (إن الله
كان بكل شئ عليما) * النساء: 32، وقال تعالى * (وما تكون في شأن وما تتلو منه
من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه، وما يعزب
عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر
إلا في كتاب مبين) * يونس: 61.
وقال تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر
والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا
يابس إلا في كتاب مبين) * الأنعام: 59.
وقال تعالى حكاية عن سيدنا عيسى إنه يقول لله تعالى * (تعلم ما في نفسي
ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) * المائدة: 116.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه علم أصحابه دعاء الاستخارة
وفيه (اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) رواه
البخاري (3 / 48) وغيره.

279
فمعنى العالم: هو الموصوف بالعلم الأزلي الأبدي الذي لا يتغير ولا يعزب
عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (علم الحق ما كان وما يكون وما لا يكون
أن لو كان كيف كان يكون).
قلت: وهو كلام محقق راسخ في فهم الكتاب والسنة، ودليل الجملة الثالثة
وهي قوله (وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون) قوله تعالى * (ولو ردوا لعادوا
لما نهوا عنه) * الأنعام: 28.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء) (1 / 90):
[وأنه عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى
السماوات، وأنه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء،
بل يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويدرك
حركة الذر في جو الهواء، ويعلم السر وأخفى، ويطلع على هواجس الضمائر،
وحركات الخواطر، وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل
الآزال، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال] انتهى.
ومعنى (أن الله تعالى يعلم السر وأخفى) أي أنه سبحانه يعلم السر وهو
ما في القلب من الخواطر والهواجس، وأما الأخفى فهو الخاطر القلبي قبل وروده
على القلب لأنه سبحانه سيخلقه في قلب صاحبه فكيف يخلق شيئا لا يعلمه!؟
(فائدة): قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (9 / 84):
(واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتبه الملكان أم لا يكتبان إلا
المستحب الذي فيه أجر، والمذموم الذي فيه تبعه؟ والصحيح كتابة الجميع لعموم
النص في قوله تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * ثم ليس إلى
الملكين اطلاع على النيات والاخلاص بل يكتبان النطق، وأما السرائر الباعثة
للنطق فالله يتولاها).

280
[تنبيه مهم]: يجب أن نعتقد بأن الملائكة والأنبياء لا يعلمون الغيب، وإنما
الذي يعلم الغيب هو الله وحده، وقد يطلع الله تبارك وتعالى الأنبياء والملائكة
على بعض الغيب، أي قد يطلعهم على بعض الأمور التي حصلت في الماضي
ولم يشهدوها أو تحصل أو ستحصل في المستقبل، كما أطلع سيدنا محمدا ص على
أخبار آخر الزمان وأمارات الساعة التي فيها مثلا (تطاول الحفاة الرعاة رعاء الشاة
في البنيان) والفتن وغير ذلك، قال الله تعالى * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه
أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) *
الجن: 26، وقال تعالى * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) *
النمل: 65، وقال تعالى: * (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما
لبثوا في العذاب المهين) * سبأ: 14.
ومنه نعلم خطأ من يزعم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم
الغيب، وأيضا كفر من يزعم بأنه كان يعلم القرآن قبل نزوله عليه، لأنه في قوله
هذا يكذب قول الله تعالى * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * الشورى:
52، وقوله تعالى * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيا) * النساء:
113، وقوله تعالى * (ووجدك ضالا فهدى) * الضحى: 7 أي لا تعرف هذه الشريعة
فهداك إليها وعلمك إياها.

281
صفة السمع وصفة البصر
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(* (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) *).
الشرح:
ومن صفاته تعالى أنه سميع وبصير قال تعالى * (ذلك بأن الله يولج الليل في
النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير) * الحج: 61 وقال تعالى:
* (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي
باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) * الإسراء: 1.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء) (1 / 91):
(الله تعالى سميع بصير يسمع ويرى، ولا يعزب عن سمعه مسموع وإن
خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق ولا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع
رؤيته ظلام، يرى من غير حدقة وأجفان، ويسمع من غير أصمخة وآذان،
كما يعلم بغير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، إذ لا تشبه صفاته
صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق).
صفة الحياة
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(حي لا يموت).
الشرح:
ومن صفات الله تعالى الحياة وأنه هو الحي القيوم، وقد ورد ذكرها في الكتاب
والسنة، قال الله تعالى * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * آل عمران: 1.
ومعنى الحي في حقه تعالى أنه الموصوف بالحياة الأزلية الأبدية التي ليست بروح
ولحم ودم، بل حياته صفة قديمة قائمة بذاته سبحانه تقتضي صحة الاتصاف
بالعلم والقدرة والإرادة.

282
صفة الرحمة
ومن صفاته سبحانه وتعالى الرحمة، وقد وردت هذه الصفة في القرآن والسنة
من ذلك قوله تعالى * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وقوله تعالى * (إنه من سليمان
وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * النمل: 30، وقوله تعالى * (ورحمتي وسعت كل
شئ) * الأعراف: 156.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لله أرحم بعباده من هذه
بولدها) رواه البخاري (10 / 427) ومسلم (4 / 2109) من حديث سيدنا عمر رضي
الله عنه مرفوعا.
وقال العلامة الشرواني في حاشيته على التحفة لابن حجر (1 / 11): (عبارة
المغني والنهاية - الرحمة - رقة في القلب تقتضي التفضل والاحسان، فالتفضل
غايتها وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات دون
المبادئ التي تكون انفعالات، فرحمة الله تعالى إرادة إيصال الفضل والاحسان
أو نفس إيصال ذلك).
وقال الحافظ أبو حيان في (البحر المحيط) (1 / 31): (ووصف الله تعالى بالرحمة
مجاز عن إنعامه على عباده... وقال قوم: هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به
ذلك).
والرحمن هو المنعم بجلائل النعم، والرحيم هو المنعم بدقائقها، وقال
آخرون: الرحمن اسم شامل لرحمته سبحانه في الدنيا والآخرة، والرحيم خاص
بالمؤمنين في الآخرة.
ولا يجوز إطلاق الرحمن على غير الله تعالى، قال العلماء: وأما وصف أهل
اليمامة مسيلمة الكذاب بالرحمن فتعنت منهم في الكفر.
وأما الرحيم فيجوز إطلاقه على الله وعلى غيره، قال الله تعالى * (لقد جاءكم

283
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) *
التوبة: 128.
صفة الحكمة
ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه حكيم، وقد ورد هذا الوصف في نصوص
الشريعة واضحا صريحا، قال الله تعالى * (إن ربك عليم حكيم) يوسف: 6.
ومعنى الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء والمصيب في أفعاله كما قاله
الإمام الحافظ البيهقي في (الاعتقاد) ص (35).
وقال في (الأسماء والصفات) ص (22):
(قال الحليمي في معنى الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب،
وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل
المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي
عالم قدير، قال أبو سليمان - الخطابي -: الحكيم هو المحكم لخلق
الأشياء،... ومعنى الأحكام لخلق الأشياء إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها
وحسن التقدير لها).
قال الله تعالى * (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) * طه: 50، وقال تعالى
* (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) * السجدة: 7.

284
صفة الكلام
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وأن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله
وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة،
ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر،
وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: * (سأصليه سقر) *، فلما
أوعد الله بسقر لمن قال: * (إن هذا إلا قول البشر) *، علمنا وأيقنا أنه قول
خالق البشر، ولا يشبه قول البشر، ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام
رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين، وهو كلام الله
تعالى، لا يساويه شئ من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه).
الشرح:
الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى متكلم لقوله سبحانه
* (وكلم الله موسى تكليما) * وأن كلامه ليس بحرف ولا صوت ولا لغة - يعنون
الصفة الذاتية - لأن ذلك علامة الحدوث، وصفة الحادث لا القديم، وأن هذا
بالنسبة للصفة القائمة بذات المولى وبنفسه تبارك وتعالى، وأنه سبحانه (لما) أراد
أن يفهم عباده ما يريده منهم ويعلمهم بأمره ونهيه وما حدث أو سيحدث،
وشاء سبحانه أن لا يكون خطابه مواجهة لعباده في الدنيا ومباشرا لهم، (خلق)
في اللوح المحفوظ عبارات وكلاما بالعربية يعبر لهم بها عما يريده منهم فسماه
سبحانه قرآنا، كما خلق عبارات باللغة العبرية تعبر عما يريده من بني إسرائيل
سماها توراة، وهكذا الإنجيل والزبور وسائر كتبه المنزلة.
وهذا النظم العربي الذي خلقه سبحانه في اللوح المحفوظ أخذه سيدنا جبريل
بأمره تعالى إما كتابة وإما حفظا من اللوح المحفوظ ونزل به منجما على سيدنا محمد

285
صلى الله عليه وآله وسلم، مع ملاحظة أن هذا النظم القرآني لفظا ومعنى ليس
من تصنيف سيدنا جبريل ولا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو
ليس من تصنيف مخلوق، وإنما هو عبارات عربية خلقها الله سبحانه وتعالى في
اللوح المحفوظ وأخذها سيدنا جبريل كما وجدها في اللوح ونزل بها على قلب سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الكلام هو معنى قوله تعالى * (إنا
جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * الزخرف:
4، وكذا أيضا معنى قوله تعالى * (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) * البروج: 22.
والدليل على جميع ذلك أن الله تعالى سمى هذا القرآن ذكرا إذ قال سبحانه
* (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) * الأنبياء: 50، ثم بين أن هذا الذكر
محدث (مخلوق) فقال سبحانه * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا
استمعوه وهم يلعبون) * الأنبياء: 2، وقال سبحانه * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن
محدث إلا كانوا عنه معرضين) * الشعراء: 5.
ومعنى محدث أي غير قديم فيكون مخلوقا!! ولذلك لا يشك عاقل بأن
لفظنا بالقرآن وكتابتنا للقرآن شئ مخلوق وكذا المصحف الذي بأيدينا، ولذلك
لم يستطع أحمد بن حنبل عندما أتوه بحديث (ما خلق الله شيئا أعظم من آية
الكرسي...) أن يرد هذا الحديث المتفق في معناه مع الآية!! وإنما قام
بتأويله!! [أنظر (سير أعلام النبلاء) (10 / 578)].
فرب العالمين سبحانه قرر أن هذا الذكر محدث وليس قديما (ودعني من أقوال المؤولين
للآية وافهم القرآن بعقلك لا بعقل غيرك ولا تقليدا) وبالتالي هو مخلوق!! وبذلك قال الإمام
أبو حنيفة كما ينقل عنه والبخاري ومسلم وأبو ثور والكرابيسي والحارث المحاسبي
وداود بن علي ومحمد بن نصر المروزي وطبقاتهم كما هو ثابت عنهم!! [أنظر (الانتقاء)
للحافظ ابن عبد البر ص 106 وحاشية رقم - 1 - في (سير أعلام النبلاء) (12 / 80)] وتأمل!!
واعلم بعد هذا أن مرادهم بأن القرآن هو الكتابة واللفظ أي ما حمله سيدنا

286
جبريل من الكتابة الكائنة في اللوح المحفوظ (واللوح مخلوق حادث بلا ريب)
ونزل به إلى السماء الدنيا ومن ثم منجما على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، أما الصفة القديمة، أعني صفة الكلام القائمة بالله تعالى فهي قديمة
وهذه يكفر من قال بأنها مخلوقة محدثة والخلاف لم يقع بينهم فيها إنما وقع فيما قدمته
وهو اللفظ والكتابة فافهم!!
فكلام الله تعالى القديم الذي هو صفة من صفات ذاته القديم يعبر عنها
الإنجيل باللغة السريانية، والتوراة باللغة العبرانية، والقرآن باللغة العربية، وكذا
باقي الكتب التي أنزلها (150) فقال سبحانه:
* (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل وأنزل الفرقان) *، * (إنا أنزلناه قرآنا
عربيا) * ولو كانت هذه العبارات والجمل والحروف والأصوات هي الصفة القديمة
لما وصفت بالإنزال، كما أن صفة القدرة لا توصف بالإنزال، وكذا العلم بمعنى
الصفة لا يوصف بالإنزال وإنما تعبر عنه الحروف والكلمات والأصوات، والصفات
لا تقوم بنفسها فلا تفارق الموصوفات، قال جمهور الأشاعرة: (وإذا شاء سبحانه
أن يسمع عباده كلامه رفع عنهم حجاب السمع فسمعوا كلامه الذي لا كيف
له المنزه عن اللغة وعن الحرف والصوت فعقلوه وفهموه، كما أنه إذا أراد أن يريهم
نفسه (في قول من يقول بإثبات الرؤية) رفع عنهم حجاب البصر فرأوا ذاته العلي
من دون أن يكون جسما له طول وعرض وعمق أو في جهة)، فسبحان من لا
كيف له.
وهذه العبارات والجمل العربية المعبر عنها بالقرآن الكريم، والجمل
السريانية المعبر عنها بالإنجيل، والعبرانية المعبر عنها بالتوراة، خلقها وأحدثها
وجعلها تعبر عن صفة كلامه الأزلي الأبدي الذي متى شاء أسمعنا إياه بدليل قوله



(150) وقد نص على ذلك أهل العلم من المحدثين والحفاظ من أهل السنة، قال الحافظ
ابن حجر في (الفتح) (13 / 455):
(والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ، بل هو معنى واحد إن عبر
عنه بالعربية فهو قرآن، أو العبرانية فهو توراة مثلا...) ا ه‍.
287
تعالى * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) * الأنبياء: 2،
وقوله تعالى: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) *
الفرقان: 5، وقد أخبر المولى تبارك وتعالى الخلق أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه
العبارات المخلوقة المعبرة عن كلامه الأزلي الأبدي الذي ليس بحرف ولا
صوت ولا لغة، كما أخبر أنهم عاجزون أن يخلقوا إنسانا بل بعوضة وهي التي
تعبر عن قدرته تبارك وتعالى، والدليل على أنه مخلوق أيضا هو أن القرآن معجزة
وكل معجزة مخلوقة.
وإن هذه الألفاظ المخلوقة باللغة العربية المنزلة على سيدنا رسول الله ص بقوله
تعالى: * (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * لها حرمة وقداسة
فلا يجوز لغير المتطهر المتوضئ أن يمسها * (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا
يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) * ولو كانت قديمة لما كانت في كتاب
حادث مخلوق ولما تصور مسها ولا كتابتها في اللوح المحفوظ الذي خلقه الله تعالى
وأحدثه وأجرى القلم عليه بأشياء كثيرة..
فكما أن العبارات الموجودة في اللوح المحفوظ حادثة تعبر عن العلم القديم
الأزلي الأبدي فكذلك المصحف الذي بأيدينا والجمل والعبارات والحروف
والأصوات، لأن نفس اللوح حادث أوجده الله تعالى بعد أن كان عدما.
وأما معنى قوله تعالى * (فأجره حتى يسمع كلام الله) * أي أتل عليه هذه
الألفاظ التي خلقتها وعلمتك إياها والتي تعبر عن كلامي الأزلي والتي لم يصنفها
أحد والتي تقرأها بفمك الحادث، وتقرير ذلك في كتاب (خلق أفعال العباد)
للإمام البخاري رحمه الله تعالى.
فتبين من هذا البيان أن كلام الله تعالى يطلق على شيئين، الأول الصفة
النفسية الذاتية التي ليست حرفا ولا صوتا ولا هي مخلوقة، والثاني: على هذه
الألفاظ التي إن كانت عربية قيل القرآن، وإن كانت سريانية قيل الإنجيل، وإن

288
كانت عبرانية قيل التوراة، وكلها لها حرمة فيكفر من انتهك حرمتها وقد حفظ
الله تعالى القرآن منها من التبديل والتحريف، ولو كانت هذه العبارات والجمل
والحروف والأصوات كلام الله بمعنى الصفة النفسية لما استطاع أحد أن يحرفها
لأن التحريف لا يدخل على الله تعالى وصفاته وإنما يدخل على الحادث وهي هذه
العبارات، والدليل عليه قوله تعالى * (يحرفون الكلم من مواضعه) * ويقول عز
شأنه: * (تجعلونه قراطيس) * ومعلوم بالضرورة أن الصفة القديمة لا تصير
قراطيس حادثة!!
فمن قال أن تلاوة القارئ هي كلام الله الحقيقي وهي الصفة القديمة الأزلية
لله تعالى فقد كابر وخالف الواقع، واعتقد أن صفات الله تعالى تقوم وتحل في
المخلوقات والمحدثات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقد ذهب بعض المبتدعة إلى أن كلام الله حروف وأصوات واستدلوا بثلاثة
أحاديث: (الأول): حديث عبد الله بن أنيس مرفوعا: (يحشر الله العباد
فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب...) الحديث. (والثاني):
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا (يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي
بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار) رواه البخاري (13 / 453
فتح. (والثالث): ما علقه البخاري في صحيحه (13 / 452 - 453) موقوفا على ابن
مسعود قال (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم
وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق).
والجواب على ذلك:
أما الحديث الأول فضعيف. رواه البخاري في كتاب (خلق أفعال العباد)
وهذا الكتاب غير كتابه الصحيح، وفيه الضعيف والصحيح، وفي سند الحديث:
عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف، كما تعرف ذلك من ترجمته في (تهذيب
التهذيب) (6 / 13) وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (6 / 205): (قلت: لا يرتقي
خبره إلى درجة الصحة والاحتجاج) ا ه‍.

289
وفي سند هذا الحديث أيضا القاسم بن عبد الواحد، قال أبو حاتم ما معناه:
لا يحتج به، أنظر كتاب (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم الرازي (7 / 114).
وبذلك ثبت ضعف الحديث فلا حجة فيه وخاصة في أبواب العقائد التي لا
يحتج فيها بالآحاد (وخاصة المعارض الذي ليس له شاهد من القطعيات) كما
تقدم.
وأما الحديث الثاني فصحيح لكن لا حجة فيه، لأن قوله فيه (فينادي
بصوت) أي بنادي أحد الملائكة بصوت، لأنه جاء في هذا الحديث (إن الله
يأمرك) فهذا يدل على أنه لو كان المنادي هو الله تعالى لم يقل (إن الله يأمرك)
بل يقول مباشرة (آمرك)، والدليل متى طرأه الاحتمال سقط به الاستدلال كما
هو مقرر في علم الأصول، وقد نص على هذا الإمام الحافظ ابن حجر حيث
قال في (الفتح) (13 / 460):
(وقع فينادي مضبوطا للأكثر (يعني من رواة البخاري) بكسر الدال، وفي
رواية أبي ذر (أحد رواة البخاري وليس الصحابي) بفتحها على البناء للمجهول
(أي فينادى)، ولا محذور في رواية الجمهور فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل
ظاهرا على أن المنادي ملك يأمره الله أن ينادي بذلك) ا ه‍ وما بين الأقواس من
توضيحاتي.
وبذلك ثبت أنه لا دلالة في هذا الحديث على إثبات الصوت لله تعالى لأن
الصوت هنا لأحد الملائكة.
وأما الحديث الثالث فلا دلالة فيه أيضا على إثبات الصوت لله تعالى، وذلك
لأن قوله فيه (فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت) الصوت هنا للسماء لا لله
تعالى، والدليل على ذلك أن باقي الروايات بينت ذلك، ففي سنن أبي داود
(4 / 235 / حديث رقم 4738) وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله ابن مسعود أن النبي ص
قال:

290
(إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على
الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل
فزع عن قلوبهم. فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول الحق. فيقولون:
الحق الحق).
أقول: فتبين أن الصوت للسماء لا لله تعالى فلا دلالة في الحديث على إثبات
الصوت لله كما توهم الآخرون.
والأحاديث الثلاثة من الآحاد أيضا ولا تثبت بها عقيدة والحمد لله رب
العالمين.
عودا على بدء:
إعلم يرحمك الله تعالى أن كلام الله تعالى الذي هو صفة ذاته قديم أزلي لا
ابتداء له، وما كان كذلك فلا يكون حرفا ولا صوتا، والقرآن والإنجيل والتوراة
والزبور وسائر كتب الله تعالى إذا قصد به اللفظ المنزل الذي بعضه بلغة العرب
وبعضه بالعبرانية وبعضه بالسريانية فهو حادث مخلوق لله تعالى، لكنها ليست
من تصنيف ملك ولا بشر ولا مخلوق، فهي عبارات تعبر عن الكلام الذاتي كما
صرح بذلك أئمة أهل السنة والجماعة، كأبي حنيفة والبخاري والكرابيسي رحمهم
الله تعالى وغيرهم. وهذا الكلام الذاتي لا يوصف بأنه عربي ولا بأنه سرياني ولا
عبراني وإنما يوصف بذلك اللفظ المنزل الحادث وكلا يطلق عليه كلام الله.
أي أن صفة الكلام القائمة بذات الله سبحانه يقال لها كلام الله واللفظ المنزل
الذي يعبر عن هذه الصفة يقال له أيضا كلام الله، فتبين من هذا أن القرآن
له إطلاقان يطلق على الكلام الذاتي الذي ليس هو بحرف ولا صوت ولا لغة،
ويطلق أيضا على هذا اللفظ المنزل الذي يقرؤه المؤمنون.
وتقريب ذلك: أن لفظ الجلالة (الله) عبارة أي يعبر عن الذات الأزلي
الأبدي القديم، فإذا قلنا نعبد الله فذلك الذات الأزلي الأبدي هو المقصود لا

291
بمعنى أن هذه الحروف هي الذات الأزلي الذي نعبده.
فصفة الكلام أزلية أبدية لا يجوز أن تكون حروفا ولا أصواتا لأن الحرف
والصوت مخلوقان بالمشاهدة، فكما أن صفاته من العلم والقدرة والإرادة وغيرها أزلية
قديمة كذلك كلامه الذاتي أزلي قديم ليس حرفا ولا صوتا، وذلك لأنه سبحانه
مباين أي غير مشابه لجميع الخلق كما أن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين وأفعاله
لا تشبه أفعال الخلق، لأن فعل الله سبحانه وتعالى أزلي قديم أبدي والمفعول
حادث كما أن القدرة أزلية أبدية والمقدور حادث فنحن العوالم والحوادث كلنا مقدور
لله تعالى أوجدنا بقدرته الأزلية الأبدية، قال الإمام أبو حنيفة والبخاري رحمهما الله
تعالى: (فعله سبحانه صفة له في الأزل والمفعول حادث).
قال العلامة علي القاري الحنفي في (شرح الفقه الأكبر) ص (29):
(- المبتدعة - قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم وبالغ بعضهم
جهلا حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلا عن الصحف، وهذا قول باطل
بالضرورة ومكابرة للحس، للاحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه)
انتهى.
فاتضح من هذا كله جليا مسألة خلق القرآن وهي أن القرآن إذا أردنا وقصدنا
به صفة الله تعالى القديمة فهذا غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق كفر، وإن قصدنا
به المصحف الذي بأيدينا الذي نزل به سيدنا جبريل وكذا ألفاظنا وقراءتنا
فمخلوق بلا شك ولا ريب لقوله تعالى * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا
استمعوه وهم يلعبون) * ولأن المصحف من ورق وحبر وهما مخلوقان، ولأن سيدنا
جبريل عليه السلام لا يتصور أن يحمل قديما فينقله من مكان إلى مكان، ولأن
قراءة القارئ وصوته حادثان مثله لاستحالة قيام القديم بالحادث، وهذا مما لا
جدال فيه.
قلت: وقد وقع الخلاف في هذه المسألة بين جماعة من الأئمة كما بيناه في
فصل اختلاف السلف. والصحيح في المسألة ما بيناه هنا.

292
[فائدة]: وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى * (وكلم الله موسى
تكليما) * لا يدل على جواز سماع الكلام الذاتي النفسي الذي ليس هو حرفا ولا
صوتا والذي هو من صفاته تعالى، كما لم يدل على ذلك أيضا قوله تعالى * (ولا
يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) * (151) البقرة: 174، وذلك لأن قوله تعالى
* (وكلم الله موسى تكليما) * معناه أن الله تعالى خلق صوتا في الشجرة خاطب به
سيدنا موسى عليه السلام، وقد تعين القول بهذا لاستحالة أن يكون الله تعالى
في الشجرة التي كانت في البقعة المباركة لتنزه الله تعالى عن الحلول في الأرض وفي
المكان، فقول الله تعالى * (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة
المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) * القصص: 30. لا يدل
على أنه سبحانه كان في الشجرة ولا نستطيع أن نفسر الآية إلا بما قررناه وهو أن
الله تعالى خلق صوتا في الشجرة فخاطبه به.
ولذلك أخطأ قوم من أهل العلم فقالوا: إنه على هذا يكون الكلام هو



(151) كما تجد ذلك في تفسير الإمام الرازي (3 / 29 - 30)، وبذلك نشأ الخلاف بين فرق
الأمة في مسألة الكلام، فصار فيها ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب المعتزلة والماتريدية: وهو أن الله متكلم، ومعناه أن تلك الصفة يمتنع
كونها مسموعة وأن المسموع حروف وأصوات مخلوقة. ويمكن أن نفرق بين مذهب
المعتزلة والماتريدية بأن الماتريدية أثبتت صفة نفسية والمعتزلة لم تثبت ذلك فقالت هي
صفة فعل لا صفة ذات.
الثاني: مذهب الأشاعرة وهو: أن الله متكلم، ومعناه: أن الصفة النفسية المنزهة
عن الحرف والصوت يمكن أن يسمعها الله تعالى من شاء من خلقه.
والثالث: مذهب الكرامية وجمهور الحنابلة القائلون بأن الله متكلم ومعناه أن هذه
الحروف والأصوات هي الكلام القديم النفسي القائم بذات الله تعالى وهو قديم النوع
حادث الأفراد، وأن هذه الحروف والأصوات غير مخلوقة. تعالى الله عن قولهم علوا
كبيرا.
فأما القول الأول والثاني فيمكن الأخذ بواحد منهما حسبما يترجح ويتبين لكل عالم من
حيث الأدلة بعد إثبات صفة الكلام في الجملة، والله الموفق والهادي.
293
العلم، قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (10 / 447): (قلت: لأنه - أي القرآن
- علم الله، وعلم الله لا يوصف بالحدث).
وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره (14 / 188):
[(المسألة الرابعة) أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم، ومن سوى
الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات
المؤلفة، وأما الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر
عنها بهذه الحروف والأصوات.
(أما الفريق الأول) وهم الذين قالوا كلام الله تعالى هو هذه الحروف
والكلمات فهم فريقان (أحدهما) الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف وهؤلاء
أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء، واتفق أني قلت يوما لبعضهم لو تكلم الله
بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي والأول باطل
لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذا
التعاقب والتوالي، فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية
كلام الله تعالى، والثاني باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت
محدثة، ولما سمع ذلك الرجل هذا الكلام قال الواجب علينا أن نقر
ونمر (152)، يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما
سمعناه!! فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل، وأما العقلاء من الناس فقد
أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن حاصلة بعد أن كانت
معدومة، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة، أو لا يقال ذلك، بل
يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى، واختلفوا أيضا في أن هذه الحروف
هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر، فالأول هو قول الكرامية،



(152) وهذا أسلوبهم وجوابهم في كل عصر ومصر عندما يعجزون أمام العلماء يوهمون أنهم
يقولون بالتفويض وهم مشبهة!! لا سيما وشيخهم الحراني يقول إن التفويض من شر
أقوال أهل البدع والالحاد!! فيا للعجب!!
294
والثاني قول المعتزلة، وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل
عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله * (أو من وراء حجاب) *
هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزه عن الحرف والصوت من وراء
حجاب (153)، قالوا وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا
في حيز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفا ولا صوتا؟!
وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها
مسموعة، وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة وهذا القول
قريب من قول المعتزلة والله أعلم]. انتهى كلام الإمام الرازي رحمه الله تعالى.
الغضب والرضا
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى).
الشرح:
قال تعالى: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم
بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) * التوبة: 100.
وقال تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم
ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) * الفتح: 18.
وقال تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله
وغضب عليه) * المائدة: 60. وقال تعالى: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا
فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) * طه: 81.



(153) وأما غيرهم ففسروا قوله تعالى * (أو من وراء حجاب) * هو خلق هذه الأحرف في اللوح
المحفوظ، أو خلق الصوت في الشجرة وغيرها.
295
لقد ورد ذكر الغضب والرضى مضافا لله تعالى في القرآن الكريم وفي السنة
النبوية الصحيحة، والقواعد لا تمنع إطلاق هذين اللفظين صفة على الله تعالى
بشرط تنزيه الله سبحانه وتعالى عن قيام الحوادث والتغيرات به، فهو بعلمه الأزلي
يعلم ما سيعمل كل عبد من عبيده ولذلك رضي عن الطائعين وغضب على
الفجار والمشركين العاصين، دون أن تتغير صفاته سبحانه، ومن أثبت له التغير
وحدوث الصفات قي ذاته العلي شيئا فشيئا حكمنا بكفره، لأن في هذا نسبة النقص
إليه سبحانه من وجوه عديدة، ووصفه بما لم يصف به نفسه، وقد أول جماعة
من السلف رضاه سبحانه وغضبه، قال الإمام أبو الحسن الأشعري في (رسالة أهل
الثغر) ص (74) - وهي من آخر مؤلفاته حقيقة (154) -:
(وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته
لنعيمهم وأنه يحب التوابين، ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم وأن غضبه
إرادته لعذابهم).



(154) قلت: وقد ذكر الإمام الأشعري في رسالة أهل الثغر عدة إجماعات عن السلف،
لا يسلم له في كثير منها دعوى الإجماع كنقله الإجماع في المجيئ واليد والرؤية يوم
القيامة، وزيادة الإيمان ونقصه، والصراط، وعلى عدم الخروج على الفاجر الجائر
وغير ذلك، وبعض ما ادعى فيه الإجماع من غير هذه الأمور صحيح ولا ريب فيه،
فاعلم ذلك ولا تغفل عنه.
296
فصل
في ألفاظ لا يصح لم إطلاقها صفات لله تعالى
قاعدة مهمة جدا
الضحك والعجب والغيرة والملل والاستهزاء والمكر والسخرية والكيد
والخديعة والتردد والصبر والنسيان والمرض والجوع والهرولة وأشباهها فليست صفات
يصح إطلاقها على الله تعالى إلا في سياق ضرب المثل والتشبيه والتقريب المجازي
المستعمل في لغة العرب.
فأما الضحك والعجب والغيرة والملل والتردد والصبر والمرض والجوع والهرولة
فلم ترد في القرآن وهي واردة في أحاديث آحاد لا تثبت بمثلها العقائد، ثم قد
دخلها تصرف الرواة كما يجد ذلك من تتبعها ونظر في ألفاظ الحديث الواحد منها.
وأما الاستهزاء والمكر والكيد والخديعة والنسيان فقد ذكرت ووردت في القرآن
الكريم ولكنها ليست صفات لله تعالى وإنما هي إضافات فيجوز إطلاق هذه
الألفاظ واستعمالها في التعبير في حق المولى سبحانه، ومعناها الذي يراد منها: هو
أن الله تعالى مجاز ومعاقب أصحاب هذه الصفات عليها ومبطلها لهم، فهو
سبحانه مبطل مكرهم وخديعتهم واستهزائهم وكيدهم وغير ذلك، وهذا واضح
من لغة العرب ومن قواعد الكتاب والسنة المقررة تنزيه الله تعالى عن كل نقص
وتشبيه وتغير، وقد بين ذلك العلماء وقرروه منهم الإمام الحافظ البيهقي في الأسماء
والصفات، والإمام الحافظ المحدث السلفي ابن جرير الطبري في (تفسيره)
(1 / 132) وإليكم بعض ما قاله هناك ونقله عن أهل العلم من السلف مدللا لهذه
القاعدة وموضحا: قال:
(القول في تأويل قوله تعالى * (الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم
يعمهون) * أختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله..).

297
قلت: من كلامه هذا يتبين أن السلف اختلفوا في تأويل هذه الآية، وهذا
يثبت لنا أمرين اثنين:
الأول: إثبات التأويل عند السلف. والثاني: اختلاف السلف في مسائل
عقائدية تتعلق بصفات الله تعالى.
دليل هذه القاعدة:
وقال ابن جرير هناك أيضا ضمن عرضه لمذاهب السلف في هذه القضية:
[وقال آخرون: قوله * (إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم) * وقوله
* (يخادعون الله وهو خادعهم) * وقوله * (فيسخرون منهم سخر الله منهم) * و
* (نسوا الله فنسيهم) * وما أشبه ذلك أخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء
ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن
فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال
جل ثناؤه: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة،
إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأما الأخرى فعدل (155) لأنها من الله جزاء
للعاصي على المعصية فهما وإن اتفق لفظاهما (لكنهما) (156) مختلفا
المعنى، وكذلك قوله * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * فالعدوان الأول ظلم
والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه
لفظ الأول، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر
ذلك مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم، وما أشبه ذلك] انتهى كلام
الإمام ابن جرير الطبري المراد نقله.
[قاعدة أخرى]: زعم بعض المشبهة أن إطلاق صفة على شئ
ما، يدل على أن هذه الصفة هي أصلا من صفات ذلك الشئ، وإلا لما جاز



(155) وقعت هذه العبارة في الأصل (وأن الأخرى عدل) فأصلحتها ليتضح المعنى أكثر.
(156) لفظة (لكنهما) من زياداتي لإيضاح المعنى وإبرازه أكثر.
298
إطلاقها عليه، ومثلوا لذلك بقوله تعالى * (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) *
فقالوا: نحن هنا وإن قلنا بأن معنى الآية: يبقى ذات الله تعالى: لكن هذا
لا ينفي أن يكون له وجه، لأنه لولا أن الوجه صفة له أصلا لم يجز إطلاق الوجه
عليه تعالى، ولذلك لا يطلق الوجه على من ليس له وجه أصلا، فلا يقال مثلا
وجه الريح لأن الريح لا وجه لها!! وزعم هذا القائل المشبه أن هذا الأمر إنما
ظهر له بعد دراسة عميقة للغة العرب ولنصوص الكتاب والسنة!!
فاستعجبنا من قوله هذا جدا لأنه قول منقوض مهدوم بصريح الكتاب والسنة
ولغة العرب وإليكم بيان ذلك من ثلاثة أمثلة من القرآن الكريم تثبت أنه يجوز
أن يطلق وصف على شئ ما وليس هذا الوصف أصلا من صفات هذا الشئ
ولا يستطيع أحد أن يجادل أو يماري فيها وهي كافية قاطعة لشغب أي مشاغب
في هذا الباب فأقول وبالله تعالى التوفيق:
المثال الأول: قال الله تعالى في كتابه الكريم: * (واخفض لهما جناح الذل
من الرحمة) * الإسراء: 24، والانسان لا جناح له أصلا وإنما استعير ذلك من الطير
الذي قال الله تعالى عنه * (ولا طائر يطير بجناحيه) * الأنعام: 38!! وقال تعالى أيضا
للنبي ص * (واخفض جناحك للمؤمنين) * الحجر: 88 والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ليس له جناح!!
المثال الثاني: قال الله تعالى * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي
أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) * آل عمران: 72،
فأطلق هنا الوجه على النهار، والنهار لا وجه له ولا رأس ولا أعضاء، وهذا
المثل يهدم ما أورده ذلك المشبه من الكلام ويهدم قوله (فلا يقال وجه الريح)
وقد تبين أن الصواب جواز قول: وجه الريح ووجه النهار وإطلاق الوجه على ما
لا وجه له أصلا.
المثال الثالث: قال الله تعالى عن القرآن * (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه

299
الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * فصلت: 42، والمصحف باتفاق العقلاء ليس
له يدان ولا أعضاء إنما هذا من مجاز اللغة وهو مؤول بأن ذلك كناية عن أن القرآن
محفوظ من التبديل والتحريف ولا مجال للباطل إليه!!
والله الهادي إلى سواء السبيل!!

300
القواعد التي يجب مراعاتها
عند إطلاق صفة على الله تعالى
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا
اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر،
تقدس عن كل سوء وحين [أي هلاك]، وتنزه عن كل عيب وشين، * (لا
يسئل عما يفعل وهم يسئلون) *، وهو [أي دين الإسلام] بين الغلو
والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل).
الشرح:
حوي هذا الكلام من المصنف رحمه الله تعالى تقرير قاعدة تنزيه الله تعالى
عن مشابهة الخلق في ذاته وصفاته ومجاري أفعاله ونحن نبين هذا ونكمله بعون
الله تعالى فنقول:
إعلم يرحمك الله تعالى أنه قد اتضح لنا مما تقدم ذكره - في باب التأويل
والتفويض وخبر الواحد وأنه لا يفيد العلم، وكذا ما سبق قبل قليل في فصل
الألفاظ التي لا يصح إطلاقها صفات لله تعالى أسس القواعد التي ينبني عليها
تحديد الصفات التي يجوز إطلاقها على الله تعالى.
ويمكن تلخيص هذه الأسس المنهجية وهي:
[الأساس الأول]: أن يكون النص الذي يراد إثبات الصفة منه لله تعالى
محكما وليس متشابها، ولا بد لنا هنا أن نبين معنى المحكم والمتشابه.
قال الله تعالى * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون

301
آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) * آل عمران: 7.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في المستصفى (1 / 106):
(مسألة: في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى * (منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات) *... الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنين:
أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه: ما
تعارض فيه الاحتمال. الثاني: أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا، إما على
ظاهر أو تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله
المثبج (157) والفاسد دون المتشابه.
وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء، وكقوله تعالى
* (الذي بيده عقدة النكاح) * فإنه متردد بين الزوج والولي، وكاللمس المتردد بين
المس والوطء، وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه
ويحتاج إلى تأويله) انتهى كلام الإمام الغزالي.
فالآيات المحكمات هي الآيات الواضحات من حيث المعنى حيث لا يحتمل
ظاهرها إلا معنى واحد وكذلك الحديث المحكم، والمتشابه عكس ذلك حيث
يحتمل نصه وظاهره عدة معان قد يحمل على أحدها.
[الأساس الثاني في الصفات]: أن لا يدخل المجاز والتأويل في النص المراد
الاستدلال به على إثبات الصفة.
إعلم أولا يرحمك الله تعالى أن الكلام عند العرب ينقسم إلى حقيقة ومجاز،
فقول القائل: علي أسد، لا يعنون أن عليا ذلك الحيوان المعروف بل إن هذا
عندهم مجاز عن الشجاعة المشتركة بين الأسد الحيوان وعلى الإنسان.
وأيضا قول الله تعالى مثلا * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى



(157) هو اضطراب الكلام وعدم انتظامه.
302
وأضل سبيلا) * ليس معناه ظاهره، وهو أن كل أعمى وضرير في الدنيا مآله
الدخول في الآخرة إلى النار قطعا، وإنما هذا مجاز عند العرب عن الإنسان العاصي
الغارق في الشهوات المحجوب عن معرفة ربه وطاعته وتقواه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في قوله تعالى * (إنني معكما أسمع وأرى) * هذا
من مجاز اللغة. (أنظر البحر المحيط في علم الأصول للحافظ الزركشي 2 / 182).
وقوله تعالى أيضا حكاية عن حال الكافر * (يا حسرتي على ما فرطت ني جنب
الله) * أي في حق الله تعالى، فالجنب الذي وضع في اللغة اسم لعضو مخصوص
غير مراد هنا قطعا وإنما المراد هنا المعنى المجازي.
والتأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره الذي لا يراد إلى معنى آخر مجازي،
كما تقدم في الجنب والنسيان والمرض الذي ورد إضافته لله تعالى في بعض
النصوص.
ولو تركنا التأويل وتشبثنا بظواهر النصوص وتعصبنا لذلك ضللنا وأضللنا
وأفسدنا العقيدة الصحيحة وتنكبنا طريقة العرب في فهم كلام الله الذي نزل
بلغتهم إلى طريقة الأعاجم في فهم الكلام العربي وهذا خطأ كبير وفساد عظيم،
ولا نظن أن عاقلا عالما فاهما مترويا بصيرا يخالف في هذا!!
وقد تقدم نقل نماذج من نصوص السلف في تأويل الصفات وحملها على المجاز
في فصل التأويل فليرجع إليه من شاء الاستزادة.
[الأساس الثالث في الصفات]: أن لا يكون لتصرف الرواة مجالا أو احتمالا
في النص:
إعلم أن الحديث النبوي لم ينقل لنا بالنص الذي نطق به النبي ص خلافا
للقرآن الذي نقل لنا بحروفه ونصه بالتواتر، فأكثر الأحاديث نقلت لنا بالمعنى
كما هو معروف عند المحدثين والحفاظ ولذلك تصرف الرواة بالألفاظ فكل منهم
رواها بالمعنى، فاحتمل أن يكون اللفظ الذي يراد إثباته صفة لله تعالى ليس من

303
كلام النبي ص بل من كلام أحد الرواة، وكلام الرواة ليس حجة في الشرع،
لأن الحجة في نص الكتاب والسنة، ونعني بالسنة هنا اللفظ الذي تأكدنا أن النبي
ص نطق به، وكذا المعنى الذي أراده، ولا بد لنا هنا أن نضرب مثالا على تصرف
الرواة ليتضح هذا الأمر المهم:
حديث (لا شخص أغير من الله) رواه البخاري (13 / 399) ومسلم (2 / 1136)
برقم 17) فاستدل من هذا النص بعض المجسمة على أنه يطلق على الله لفظ
(شخص) وأن هذا من صفاته سبحانه!! والحق أن الأمر ليس كذلك فقد روي
الحديث أيضا في البخاري (8 / 296) بلفظ: (لا أحد أغير من الله... ولا شئ
أحب إليه المدح من الله..)
فتبين لنا أن الرواة تصرفوا في المتن لأن النبي ص حكاه بلفظ واحد فبعضهم
رواه بلفظ (لا شخص أغير من الله) وبعضهم (لا أحد أغير من الله)،
والشخص في اللغة: سواد الإنسان والحيوان، يرى من بعد، فلا يطلق إلا على
جسم، والله تعالى منزه عن ذلك، وقد صرح بذلك أئمة أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (13 / 40): (قال ابن بطال: اختلفت ألفاظ
هذا الحديث فلم يختلف في حديث ابن مسعود أنه بلفظ (لا أحد)، فظهر أن
لفظ شخص جاء موضع أحد فكأنه من تصرف الراوي).
ثم قال الحافظ هناك:
(قلت: وهو المعتمد، وقد قرره ابن فورك ومنه أخذه ابن بطال).
ثم نقل الحافظ ابن حجر هناك عن الخطابي أنه قال:
(إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز، لأن الشخص لا يكون
إلا جسما مؤلفا، فخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفا
من الراوي، ودليل ذلك أن أبا عوانة روى هذا الخبر عن عبد الملك فلم يذكرها،
ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي بكر بلفظ (شئ) والشئ والشخص

304
في الوزن سواء، فمن لم يمعن في الاستماع لم يأمن الوهم، وليس كل من الرواة
يراعي لفظ الحديث حتى لا يتعداه، بل كثير منهم يحدث بالمعنى وليس كلهم
فهما، بل في كلام بعضهم جفاء وتعجرف، فلعل لفظ شخص جرى على هذا
السبيل إن لم يكن غلطا من قبيل التصحيف).
فتأمل هذا الكلام جيدا من مثل هذا الإمام الحافظ!!
ويمكننا أن نعرف ونطلع على كثير من أمثلة تصرف الرواة في (صحيح الإمام
مسلم) فهو مرجع في هذا الباب، حيث نجده يذكر الأحاديث برواياتها المختلفة
عن نفس الصحابي وعن غيره بألفاظ مختلفة مما يبرهن بما لا يدع شكا على تصرف
الرواة بألفاظ الحديث وروايتهم له بالمعنى.
ولا أدل على ذلك أيضا من صحيح البخاري وباقي الكتب فإنها بعد تدوينها
وتصنيف مؤلفيها لها نقلت لنا بطرق وأسانيد اختلف الرواة في رواية كثير من
ألفاظها ومتونها، فنرى الحافظ ابن حجر يقول مثلا في شرح البخاري: وقع في
رواية الكشميهني كذا وفي رواية أبي ذر كذا وفي رواية كريمة والأصيلي كذا،
وهكذا يتكرر ذلك، وما ذلك إلا لاختلاف رواة الصحيح في رواية الكتاب.
[الأساس الرابع في الصفات]: أن لا يكون من أخبار الآحاد في أصول
الاعتقاد.
وذلك لأن خبر الواحد قابل للخطأ والسهو والغلط ومحتمل فلا يفيد العلم
وإنما يفيد الظن، والعقيدة وما يطلق على الله تعالى لا يجوز أن يكون للخطأ فيها
مجال أو مدخل أو احتمال لخطأ.
قال الحافظ ابن عبد البر في (التمهيد) (9 / 285):
(لأن أخبار الآحاد لا يقطع على عينها وإنما توجب العمل فقط).
وقال أيضا في (التمهيد) (7 / 17).
(فإن أخبار الآحاد لا يقطع عليها) ا ه‍.

305
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (شرح مسلم) (1 / 131):
(وأما من قال يوجب العلم - خبر الواحد - فهو مكابر للحس، وكيف يحصل
العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرق إليه؟! والله أعلم) ا ه‍.
وقد تقدم الكلام على خبر الواحد على أنه يفيد الظن ولا يفيد العلم مطولا
موضحا بما أغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.

306
فصل
في تطبيق هذه الأسس
على بعض الآيات والأحاديث
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت
الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية، تعالى عن الحدود والغايات
والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات،
وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شئ وبما فوقه، وقد أعجز
عن الإحاطة خلقه).
الشرح:
ذكر المصنف هنا تنزيه الله تعالى عن الأعضاء والأدوات والحد والجهة وهو
العلو الحسي الذي تثبته المجسمة والمشبهة، فلا بد لنا الآن أن نستوعب هذه
الأمور ونعرضها على الأسس والقواعد التي قدمنا ذكرها المبنية على نصوص الكتاب
والسنة، ويجدر بنا أيضا أن نذكر بعض الآيات والأحاديث التي تشبث المجسمة
بظواهرها في إثبات صفات لله تعالى مع أنها لا تفيد ذلك، وقد مر بنا فيما تقدم
أن النسيان المذكور في قوله تعالى * (نسوا الله فنسيهم) * لا يجوز إطلاقه صفة لله
تعالى وأنه مؤول عند السلف بالترك، وكذلك الجنب الوارد في قوله * (يا حسرتي
على ما فرطت في جنب الله) * مؤول عند السلف بحق الله، وكذلك المرض الذي
ورد في حديث (عبدي مرضت فلم تعدني) عائد على العبد لأن المرض نقص
ولا يجوز اعتقاد أنه من صفات الله، ومن ذلك أيضا الساق في قوله تعالى * (يوم
يكشف عن ساق) * فإنها مجاز عن اشتداد الأمر، ولذلك أولها سيدنا ابن عباس
بالشدة كما مر في باب نقل تأويلات السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

307
ومن تلك النصوص:
المثال الأول هنا:
اليد أو اليدان
تمسك بعض المشبهة والمجسمة بقوله تعالى * (ما منعك أن تسجد لما خلقت
بيدي) * على إثبات يدين لله سبحانه وتعالى، وهذا استدلال خطأ وإليك بيان
ذلك:
قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه (دفع شبه التشبيه) ص (114):
[اليد في اللغة: بمعنى النعمة والاحسان. قال الشاعر:
متى تناخي عند باب بني هاشم * تريحي فتلقي من فواضله يدا
ومعنى قول اليهود * (يد الله مغلولة) * المائدة: 64، أي: محبوسة عن النفقة،
واليد: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد، وقوله تعالى: * (بل يداه
مبسوطتان) * المائدة: 64، أي نعمته وقدرته.
وقوله * (لما خلقت بيدي) * أي: بقدرتي ونعمتي، وقال الحسن في قوله تعالى:
* (يد الله فوق أيديهم) * الفتح: 10، أي: منته وإحسانه.
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): (اليدان صفتان ذاتيتان تسميان
باليدين).
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه. وقال ابن عقيل: معنى الآية
لما خلقت أنا، فهو كقوله: * (ذلك بما قدمت يداك) * الحج: 10 أي بما قدمت
أنت.
وقد قال بعض البله: لو لم يكن لآدم عليه السلام مزية على سائر الحيوانات

308
بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال * (بيدي) * ولو كان القدرة
لما كانت له مزية، فإن قالوا القدرة لا تثنى (158). وقد قال * (بيدي) *.
قلنا: بلى، قالت العرب: ليس لي بهذا الأمر يدان. أي ليس لي به قدرة.
وقال عروة بن حزام في شعرة:
فقالا شفاك الله والله ما لنا * بما ضمنت منك الضلوع يدان
وقولهم: ميزه بذلك عن الحيوان، نفاه قوله عز وجل: * (خلقنا لهم مما
عملت أيدينا أنعاما) * يس: 71، ولم يدل هذا على تمييز الأنعام على بقية
الحيوان (159). قال الله تعالى * (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) * الذاريات: 47 أي
بقوة (160).



(158) قلنا مجيبين: بل تثنى: ويراد بها الذات، ومنه قوله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب) *
والمراد بذلك ذاته بلا شك.
(159) أي إذا قلتم بأن سيدنا آدم عليه السلام مخصوص بأنه مخلوق بيد الله عز وجل بدليل
قوله تعالى لإبليس: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * قلنا: ليس الأمر كما
تتوهمون، وإنما المراد ما منعك أن تسجد لما خلقت أنا ولم يخلقه غيري وأنا ربك وربه،
بدليل أن الأنعام من خيل وإبل وحمير وبقر وغيرها مخلوقة بيد الله تعالى أيضا بنص
القرآن وذلك في قوله تعالى: * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا
أنعاما فهم لها مالكون) * يس: 71.
(160) مع أن لفظة (أيد) في اللغة هي جمع يد وهي الكف المعروفة. كما تجد ذلك في
مادة (يدي) من القاموس ثم أطلقت مجازا على القوة لأن اليد آلة للقوة في العادة
كما تجد ذلك المعنى المجازي في مادة (أيد) في القاموس وأصلها في مادة (يدي)
فتدبر. وقال بعض المبتدعة: (أيد) لا تعرف في اللغة إلا بمعنى القوة وهذا غلط
محض وخطأ فاحش يظهر عند مطالعة مادة (يدي) في القاموس المحيط وغيره. ومنه
قوله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين
يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) * الأنعام: 195.
309
ثم قد أخبر أنه نفخ فيه من روحه (161)، ولم يرد إلا الوضع بالفعل والتكوين،
والمعنى: نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة، إذ لا يليق بالخالق جل جلاله
سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، إذ ليس له أعضاء وجوارح يفعل بها،
لأنه الغني بذاته، فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم آدم مع الغفلة عما يستحقه
الباري سبحانه من التعظيم (والتنزيه) بنفي الابعاض والآلات في الأفعال، لأن
هذه الأشياء صفة الأجسام، وقد ظن بعض البله أن الله يمس، حتى توهموا أنه
مس طينة آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أنه من جملة مخلوقاته جسما يقابل
جسما فيتحد به ويفعل فيه، ومن السحر من يعقد عقدا فيتغير به الشئ حالا
وصفة!! أفتراه سبحانه جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى الأجسام
البعيدة، ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين. وقد رد قول من قال هذا بقوله
تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون) * آل عمران: 58]. انتهى كلام الإمام الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
أقول: وقولهم (إن قول الله سبحانه * (ما منعك أن تسجد لما خلقت
بيدي) * فيه إثبات يدين والقدرة لا تثنى!!) كلام فاسد وقول باطل لغة وشرعا،
أما لغة: فتقدم كلام الإمام ابن الجوزي فيه وأما شرعا فقد جاء في صحيح مسلم
(4 / 2253) قوله ص في يأجوج ومأجوج: (لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة
ولا طاقة، كما قاله العلماء وأهل اللغة كما في شرح مسلم للإمام النووي، فعلى
هذا نقول ثبت استعمال التثنية لليد في اللغة وفي الشرع والمراد بها القدرة وبطل
ما يقوله المجسمة، والله الموفق والهادي والحمد لله رب العالمين.



(161) معنى من روحه: أي الروح التي خلقها وأضافها إلى نفسه ليشرفها كما أضاف الكعبة
إليه ليشرفها فقال: * (أن طهرا بيتي للطائفين) * وكل الناس يعرفون أنه لا يسكنه
وأنه تعالى عن ذلك فقولنا: بيت فلان يخالف تماما قولنا: بيت الله وهكذا فتأمل.
310
المثال الثاني:
الاستواء
احتجت المجسمة بقوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * على أن الله
تعالى جالس على العرش وأنه عال عليه علوا حسيا، وبعضهم يعتقد ذلك ولا
يصرح بلفظ الجلوس ولا بالعلو الحسي إنما يقول: الله في العلو ويشير إليه إلى
جهة السماء، وهذا خطأ محض بلا شك لأن الله تعالى منزه عن المكان، والعرب
تقول عمن أرادت تعظيمه على وجه المجاز فلان في السماء، أي عظيم القدر،
وإليكم تفصيل الكلام على هذه الآية وما شابهها من كلام الإمام الحافظ ابن
الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص (121) مع تعليقاتنا عليه في الحاشية:
قال رحمه الله تعالى:
[ومنها قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * الأعراف: 54.
قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، فكل سرير ملك يسمى عرشا،
والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال الله تعالى: * (ورفع أبويه
على العرش) * يوسف: 100 وقال تعالى: * (أيكم يأتيني بعرشها) * النحل: 38.
واعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه منها: الاعتدال. قال بعض بني تميم
فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم. أي اعتدلا، والاستواء: تمام الشئ قال الله
تعالى: * (ولما بلغ أشده واستوى) * القصص: 14، أي تم.
والاستواء: القصد إلى الشئ قال تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * البقرة:
29. أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشئ قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق (162)



(162) وبعض المبتدعة يقولون: هذا البيت هو للأخطل وكان نصرانيا فهل تبنون عقائدكم
على قول نصراني؟!
ونجيبهم فنقول: نحن نستدل أيضا في فهم لغة العرب من أقوال عبدة الأصنام
الجاهليين فضلا عن الأخطل النصراني، وذلك لأن الله تعالى أنزل هذا القرآن الكريم
بلغة العرب الأقحاح الذين كانوا يعبدون الأوثان والأصنام فنحن إذا أتينا بأشعارهم
وأرجازهم فإنما نأتي بها لنفهم المعنى المراد من الآية الكريمة التي نزلت بلغة أولئك،
وقدوتنا في ذلك سيدنا رسول الله ص الذي كان يستنشد بعض الصحابة أبياتا لبعض
الجاهليين ويقول كلما فرغ (هيه) حق يأتي بالذي بعده، وتد ثبت ذلك عنه ص.
رواه أبو داود الطيالسي ص (179).
والصحابة الأجلاء رضي الله تعالى عنهم قدوتنا في ذلك أيضا وهذا سيدنا ابن عباس
رضي الله عنهما يقول فيما روى عنه البيهقي في (الأسماء) والصفات):
(إذا خفي عليكم شئ من القرآن فاتبعوه من الشعر..)
والإمام البخاري أيضا معنا في ذلك فهو يستدل ويستشهد في صحيحه (13 / 47) بقول
امرئ القيس المشرك الكافر، وكتب التفاسير مليئة بأشعار المشركين فضلا عن نصارى
العرب!! فتأمل!! وإذا كانت المبتدعة قد سئمت قول الأخطل هذا فقد أورد لهم
ابن الجوزي بيتا آخر بعده وأزيدهم بيتا ثالثا لبعض العرب فأقول:
إذا ما علونا واستوينا عليهم * جعلناهم مرعى لنسر وطائر
311
وقال الآخر:
إذا ما غزى قوما أباح حريمهم * وأضحى على ما ملكوه قد استوى
وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء.
قلت: وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا
تأويل (163).



(163) ذكر الحافظ أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره (النهر الماد) (1 / 254) المطبوع في ثلاثة
مجلدات مستقلة عند تفسير قوله تعالى: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * أن ابن
تيمية قال في رسالة له قرأها الحافظ أبو حيان وهي بخط ابن تيمية معاصره: (إن الله
يجلس على العرش وقد أخلى مكانا يقعد فيه معه رسول الله ص) عياذا بالله تعالى!!
وهذا الكلام محذوف من الطبعة التي بهامش (البحر المحيط) لأن مصححه بدار
السعادة حذفها لاستشناعها وطلب من الإمام المحدث الكوثري والإمام المحدث
سيدي عبد الله بن الصديق الغماري أن يسجلا ذلك عليه عندما راجعاه وقد نبها على
ذلك في بعض كتبهما. وكلام ابن تيمية هذا ثابت في كتاب تلميذه ابن القيم (بدائع
الفوائد) (4 / 39) ونقله عن بعض السلف وهو مردود على قائله لو ثبت عنه، كما نقله
عن الدارقطني في أبيات ذكرها هناك ولا تصح نسبتها للدارقطني لأن في سندها إليه
كذابان مجسمان وهما ابن كادش والعشاري.
وأعود فأقول: لقد ثبت تأويل الاستواء عن السلف، ففي تفسير الحافظ ابن جرير
السلفي (1 / 192) تأويل الاستواء بعلو الملك والسلطان وهو تأويل مقبول، وفي
البخاري تأويل أبي العالية الاستواء بالارتفاع فإن كان يريد ارتفاع الربوبية على رتبة
العبودية بعلو الملك والسلطان والقهر والعظمة كما يقول الحافظ ابن جرير السلفي
فتأويل مقبول لا ترفضه قواعد الشريعة ولا لغة العرب، وأما إن كان مراده ارتفاع
الذات المتخيلة فهو تأويل مردود، وما أظن أن أبا العالية أراد ذلك ولا قصده. ونحن
نقول: معنى * (الرحمن على العرش استوى) * أي: الرحمن صاحب الملك والإرادة
والقهر في هذا العالم من عرشه إلى فرشه، وذكر العرش هنا دون غيره لأنه أعظم
المخلوقات وأكبرها فإذا كان مستو عليه بالقهر والربوبية اقتضى أنه مستو على كافة
خلقه بهذا المعنى من باب أولى، فالاستواء عندنا هنا هو الاستيلاء والقهر أو تفويض
معناه إلى الله وتنزيهه عن كل ما يخطر في الذهن وعن ما تزعمه المجسمة وهذا الذي
تقتضيه لغة العرب مع نصوص الكتاب والسنة، أما لغة العرب: ففي (مفردات)
الراغب في مادة (سوا) ص (251): (- الاستواء - متى عدي بعلى اقتضى معنى
الاستيلاء كقوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) *)، وأما في الكتاب الكريم:
فقوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده) * فبين أن فوقيته واستواءه بالقهر لا بالمكان،
وأما السنة: فثبت في صحيح مسلم (4 / 61) وغيره: (اللهم أنت الظاهر فليس فوقك
شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ) قال الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات)
(400):
(استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا لم يكن
فوقه شئ ولا دونه - أي تحته - شئ لم يكن في مكان) ا ه‍ وما بين الشرطتين من
توضيحي، وكل هذه النصوص تنفي وتبطل لفظة (بذاته) التي يوردها بعض
المجسمة في قولهم: (الله على عرشه مستو بذاته)!! وتثبت معنى الاستيلاء والقهر
والعلو المعنوي كما قدمنا، وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6 / 136) أيضا:
(ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه
بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس) ا ه‍ وقد ذكر الحافظ
في الفتح (1 / 508) عند شرح حديث: (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه
أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته...) الحديث قال ابن حجر:
(وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته).
فإن قال قائل:
(إن قولكم: معنى استوى قهر واستولى وملك يقتضي المغالبة، أي أنه لم يكن قاهرا
للعرش ثم غلب على الأمر فقهر واستولى أليس كذلك؟!!).
قلنا: لا وإنما هذا خيال باطل بصريح العقل والنقل ونحن نبين لك الدليل على بطلانه
حتى تتحقق من ذلك فنقول لك: ألم تعلم أن الله تعالى يخبرنا عن يوم القيامة فيقول
لنا في كتابه العزيز: * (لمن الملك اليوم؟!) * فنقول لك: هل كان الملك قبل ذلك
اليوم لغير الله تعالى؟!! الجواب: لا قطعا. وكذلك قوله تعالى * (والله غالب على
أمره) * لا يقتضي المغالبة.
فإذن لم يلزم من قول الله تعالى * (لمن الملك اليوم) * أن الملك قبل ذلك اليوم كان
لغيره سبحانه، وكذلك قولنا: استوى معناه: قهر واستولى، ولا يلزم منه أنه لم يكن
مستوليا أو قاهرا قبل ذلك والله الموفق والهادي للصواب.
وانتبه هنا إلى أمر مهم جدا وهو: أنه من الخطأ قول بعض الناس: إن الله تعالى
موجود في كل مكان.
فهذا خطأ أيضا!! لأن الله تعالى موجود بلا مكان، وهو خالق المكان.
312
قال عبد الله بن وهب: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا
عبد الله * (الرحمن على العرش استوى) * كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته
الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا
يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة فأخرجوه فأخرج.
وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: (استوى
على العرش بذاته)، وهي زيادة لم تنقل (164)، وإنما فهموها من إحساسهم، وهو



(164) الغريب أن المبتدعة يقولون: لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ثم يقولون:
استوى على العرش بذاته، فمن أين جاءوا بلفظة (بذاته) هذه؟! وأين وردت في
الكتاب والسنة؟! وهي لفظة تفيد التجسيم صراحة وتؤيد قول أئمتهم (بجلوس
معبودهم على العرش حتى يفضل منه مقدار أربع أصابع)!!
وقد وقع بذلك الخلال فنقل في كتابه (السنة) عن مجاهد بسند ضعيف أكثر من خمسين
مرة تفسير المقام المحمود الوارد في قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *
بجلوس الرب تعالى عما يقولون على العرش وإجلاسه سيدنا محمدا ص بجنبه في الفراغ
المقدر عندهم بأربع أصابع!!
وقد أنكر الحافظ الذهبي - الذي تعدل مزاجه فيما بعد شبابه ورجع عما أسلف - في
كتابه (سير أعلام النبلاء) على من زاد لفظة (بذاته) بعد العلو أو الاستواء ونحوهما
فقال هنالك (19 / 607) ما نصه:
(قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس...) ا ه‍
314
أن المستوي على الشئ إنما تستوي عليه ذاته، قال أبو حامد (المجسم): الاستواء
مماسته وصفة لذاته، والمراد به القعود، قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى
أن الله سبحانه وتعالى على عرشه قد ملأه، وأنه يقعد، ويقعد نبيه ص معه على
العرش (165) يوم القيامة.
قال أبو حامد: والنزول هو انتقال.
قلت: وعلى ما حكى تكون ذاته أصغر من العرش (166) فالعجب من قول
هذا: ما نحن مجسمة..؟؟!!
وقيل لابن الزاغوني (المجسم): هل تجددت له صفة لم تكن له بعد خلق
العرش..؟ قال: لا إنما خلق العالم بصفة التحت، فصار العالم بالإضافة إليه
أسفل فإذا ثبت لإحدى الذاتين صفة التحت تثبت للأخرى صفة استحقاق الفوق
قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته، ولا ذاته فيها، فثبت انفصاله عنها،



(165) فإذا لم يكفر من يقول بهذا ومثله فمن يكفر إذن؟!!
(166) وهؤلاء كان اللازم في حقهم أن يقولوا: (العرش أكبر)!! بدل قولهم: (الله أكبر)
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
315
ولا بد من شئ يحصل به الفصل، فلما قال: * (ثم استوى) * علمنا اختصاصه
بتلك الجهة.
قال ابن الزاغوني (المجسم): ولا بد أن تكون لذاته نهاية وغاية يعلمها.
قلت: وهذا رجل لا يدري ما يقول لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق
والمخلوق فقد حدده، وأقر بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر،
لأن الجوهر ما تحيز ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه.
قلت: وهذا كلام جهل من قائله، وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ
ما يجب للخالق، وما يستحيل عليه. فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر
والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل، ويحاذي،
ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذي أو أصغر أو مثله، وإن هذا ومثله
إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه
مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر
قبولها للمباينة والمماسة. فإذا أجازوا هذا عليه، قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا
جواز هذا عليه، لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيا
عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز، ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين،
كان ذلك محالا.
فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات، وقد ثبت أن الاجتماع
والافتراق من لوازم المتحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه إن
كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه، أو متحركا عنه، ولا يجوز أن
يوصف بحركة ولا سكون، ولا اجتماع ولا افتراق، وما جاور أو باين فقد تناهى
ذاتا، والمتناهي إذا خص بمقدار، استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال،
ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم
المتحيزات وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام.
وأما قولهم: خلق الأماكن لا في ذاته، فثبت انفصاله عنها.

316
قلنا: ذاته تعالى لا تقبل أن يخلق فيها شئ، ولا أن يحل فيها شئ،
والفصل من حيث الحس يوجب عليه ما يوجب على الجواهر، ومعنى الحيز أن
الذي يختص به يمنع مثله أن يوجد فيه، وكلام هؤلاء كله مبني على الحس،
وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على
العرش لأنه أقرب الموجودات إليه!!
وهذا جهل أيضا. لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في حق الجسم. وقال
بعضهم: جهة العرش تحاذي ما يقابله من الذات ولا تحاذي جميع الذات، وهذا
صريح في التجسيم والتبعيض، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى
مذهبنا؟)] انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي. وما بين القوسين وهي لفظة المجسم
من توضيحاتي وزياداتي.

317
[المثال الثالث]:
موضوع العلو
ومن النصوص التي يستدل بظاهرها المجسمة على العلو الحسي قوله تعالى
* (إليه يصعد الكلم الطيب) * وهذا استدلال مخطئ أيضا. قال الحافظ ابن
الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص (131):
[واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه) * فاطر: 10. وبقوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * الأنعام:
18 وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر
وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال (فوق
عباده) قال: (وهو معكم).
فمن حملها على العلم، حمل خصمه الاستواء على القهر. أخبرنا علي بن
محمد بن عمر الدباس، قال أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي قال: كان
أحمد بن حنبل يقول: الاستواء صفة مسلمة وليست بمعنى القصد ولا
الاستعلاء. قال: وكان أحمد لا يقول بالجهة للباري لأن الجهات تخلى عما سواها.
وقال ابن حامد (المجسم): الحق يختص بمكان دون مكان، ومكانه الذي هو
فيه وجود ذاته على عرشه. وقال: وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه:
قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش والكرسي موضع قدميه.
قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم
بقية..؟!!] انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي.
فتأمل!!

318
المثال الرابع:
بعض الآيات الأخرى
في العلو أيضا
والصحيح في معنى قوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه) هو ما قاله الحافظ المتقن أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) (7 / 303) حيث
قال:
(وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه لأنه تعالى ليس
في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود يكون من
الأجرام، وإنما ذلك - أي معنى الآية: - كناية عن القبول، ووصفه بالكمال،
كما يقال: علا كعبه وارتفع شأنه، ومنه: ترافعوا إلى الحاكم ورفع الأمر إليه وليس
هناك علو في الجهة) ا ه‍ وما بين الشرطتين من إيضاحي.
وقد توهم المجسمة من ظاهر هذه الآية أنها دليل على أن معبودهم في السماء
أو فوق السماء على العرش وأن الأعمال تصعد إليه!! ولم ينظروا إلى أساليب
العربية، ولا إلى كلام العرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، ولم يلحظوا أن
هؤلاء العرب كانوا يستعملون الاستعارات والمجاز والتفنن في التعبير حتى أنهم
تميزوا بهذه الفصاحة عن سائر الأمم.
ونحن في مثل هذا المقام لا بد لنا أن نذكر بعض الآيات التي أخذت المجسمة
بظواهرها لتستدل بها على العلو الحسي الذي تعتقده، ثم نردف ذلك بذكر بعض
الآيات والأحاديث التي تبطل لهم استدلالهم والتي يوهم ظاهرها أنه سبحانه موجود
في كل مكان، وهذه أيضا عقيدة باطلة، ليدرك أهل العلم أن أولئك المجسمة
يؤولون الآيات التي لا تدل على عقيدتهم الفاسدة التي تنص على أنه سبحانه في
السماء أو على العرش حقيقة، ولا يؤولون الآيات الأخرى التي يؤخذ من ظاهرها

319
أنه سبحانه عما يقولون حال في السماء أو فوق العرش، والحق في الجميع أي في
هذين القسمين أن الظاهر غير مراد وأن الله سبحانه موجود بلا مكان لأنه خالق
المكان ولا يجوز أن يحل فيه، وأنه منزه عن أن يكون في كل مكان أو على العرش
أو في السماء، وإن جاز أن تطلق هذه الظواهر مجازا ويراد منها غير ظاهرها وذلك
حسب سياق النصوص التي وردت فيها، فهي إطلاقات عربية صحيحة غير مراد
ظاهرها عند من تذوق هذه اللغة الفصيحة.
ومن تلك الآيات التي يستدل بها المجسمة أيضا قوله تعالى: * (تعرج الملائكة
والروح إليه) * أي: تعرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء،
لأن السماء محل بره وكرامته، وهذا تماما كقول الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم
عليه السلام * (إني ذاهب إلى ربي) * أي إلى الموضع الذي أمرني به، أو إلى
مفارقتكم للتفرغ لعبادة ربي وطاعته، وبمثل الذي قلناه قال القرطبي في تفسيره
(18 / 281)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 416):
(قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول،
وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء..).
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: * (إني متوفيك ورافعك إلي) * ومعناها
ورافعك إلى السماء الثانية، كما جاء في الصحيحين في حديث الإسراء أن رسول
الله ص وجد سيدنا عيسى في السماء الثانية. فيكون معنى الآية إني رافعك إلى
مكان لا يستطيعون أن يصلوا إليك فيه، ولا يعني أن سيدنا عيسى عليه السلام
رفع إلى مكان فيه رب العالمين عند جميع العقلاء، كما لا يعني أنه الآن عند الله
حقيقة أو جالس مثلا بجنبه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا تماما كقوله تعالى
في الظل في سورة الفرقان: * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * فقوله * (إلينا) * لا
يعني أن الظل في الليل يذهب عند الله وأن الله في مكان فليتيقظ أولوا الألباب
ومثله كما تقدم قول سيدنا إبراهيم عليه السلام * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) *
لا يعني أنه ذهب إلى بقعة في الأرض كان فيها رب العالمين، فلنبتعد عمن يفهم

320
القرآن بالعجمية والظواهر، ولنفهمه بالعربية الفصحى وبأساليبها في المجازات
الاستعمارية، والدقائق البلاغية.
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: * (أأمنتم من في السماء) * ومعناها أأمنتم
من شأنه عظيم، لأن العرب إذا أرادت أن تعظم شيئا وصفته بالعلو فتقول: فلان
اليوم في السماء، وفي المقارنة تقول: أين الثرى من الثريا، والثريا نجم عال في
السماء.
فيكون معنى الآية أأمنتم من العظيم الجليل صاحب الرفعة والربوبية والبطش
أن يخسف بكم الأرض، أو يكون المراد بقوله تعالى: * (من في السماء) * سيدنا
جبريل أو أي ملك يرسله الله ليخسف أي قرية أو أي موضع من الأرض، كما
أرسل الملك الذي خسف الأرض بقوم سيدنا لوط عليه السلام، والملائكة مسكنها
السماء. بصريح أدلة كثيرة منها ما رواه البخاري (فتح 2 / 33) ومسلم (برقم 632)
مرفوعا: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة
الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم -:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)،
هذا مع قول الله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة،
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * فالعربي يفهم من هذا أن مسكن
الملائكة الأصلي في السماء وليس في الأرض.
وأما الآيات التي فيها ذكر النزول كقوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين) *
الشعراء: 192 وقوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * فلا دلالة فيها لما تريده
المجسمة البتة، وإنما فيها أن الملائكة تنزل من السماء إلى الأرض، وأن القرآن
نقله سيدنا جبريل عليه السلام من السماء أو من اللوح المحفوظ الذي هو فوق
السماء السابعة إلى الأرض بأمر الله تعالى.
وكل ما أنعم الله به علينا من نعم ورزق أمدنا به يقال: أتانا من الله أو
أنزله الله تعالى إلينا، ومنه قوله تعالى * (وأنزلنا الحديد) * مع أن الحديد يستخرج

321
من باطن الأرض، ويقال: نزل الأمر بهم، ومنه قوله تعالى: * (فإذا نزل
بساحتهم فساء صباح المنذرين) * ومنه قوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية
أزواج) * الزمر: 6، وهذه الأنعام لم تمطر السماء بها قط، ومعنى أنزل هنا جعل كما
في تفسير الحافظ السلفي ابن جرير (23 / 194).
ثم لنعلم جميعا أن هناك نصوصا كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة يوهم
ظاهرها أن الله في الأرض أو في كل مكان، منها:
قوله تعالى: * (والله معكم) * سورة سيدنا محمد: 35، وقوله * (وهو معكم أين ما
كنتم) * الحديد: 4 والضمائر مثل (هو) تعود على الذوات لا على الصفات أصلا كما
هو مقرر في العربية والآية التي قبلها * (والله معكم) * تثبت ذلك قطعيا، وقوله
تعالى: * (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ما يكون من نجوى
ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا
هو معهم أين ما كانوا) * المجادلة: 7.
فلقائل ء أن يقول: تفسير قوله تعالى * (إلا هو رابعهم) * بالعلم، باطل،
وهو تأويل ركيك، لأن قوله تعالى بعد ذلك: * (إلا هو معهم أين ما كانوا) *
ينسف هذا التأويل بالعلم نسفا، وله أن يقول: إن الصفات لا تفارق
الموصوفات.
فإن قال قائل: إن قلتم إنه في كل مكان لزم منه أن يكون في الأماكن النجسة
والمستقذرة!! قال له خصمه: كلا بل هو متجاف عنها كما أن أحدنا يمكن أن
يكون في أي مكان أو كل مكان إلا أنه لا يكون ما دام عالما مختارا قادرا في القذر
أو النجس. وهذا افتراض لجدل باطل وتعالى الله عن ذلك.
وقوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) * أي لو كشف
الحجاب لأبصرتم، فهذا ينفيه التأويل للآية السابقة بالعلم، وكذلك ينفيه قوله
تعالى: * (إنني معكما أسمع وأرى) * والأصل في العربية في لفظة * (إنني) * أنها
تعود على الذات الموصوفة بالسمع والرؤية.

322
ويؤكد ذلك كله من القرآن قوله تعالى في شأن سيدنا موسى: * (فلما أتاها
نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا
الله رب العالمين، وأن ألق عصاك، فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم
يعقب، يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) * القصص 30 - 31.
فماذا تقول المجسمة في (نداء سيدنا موسى من شاطئ الوادي)؟! (ومن
الشجرة)؟!! والمنادي سبحانه يقول * (إني أنا الله رب العالمين) * ويقول لسيدنا
موسى: * (أقبل ولا تخف) *؟!!
ألا يدل ظاهر قوله: * (أقبل ولا تخف) * بعد قوله * (إني أنا الله رب العالمين) *
على أن الله سبحانه كان في الأرض في تلك الناحية؟!!
وبماذا يمكن أن يعدل عن ظاهر هذه الألفاظ؟!!
ثم إن هناك أحاديث صحيحة تؤيد ظواهر مثل هذه الآية منها: حديث
البخاري (الفتح 21 / 509) عن عبد الله بن عمر مرفوعا:
(إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى).
وفي رواية أخرى للبخاري من حديث سيدنا أنس مرفوعا:
(إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة
فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته..) (الفتح 1 / 508) قال الحافظ ابن حجر هناك: (فيه
الرد على من أثبت أنه على العرش بذاته).
وفي صحيح مسلم (1 / 350) قال ص (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو
ساجد) فتأمل.
ونحن لا نقول بهذه الظواهر الصريحة كما لا نقول بتلك الظواهر الصريحة لأن
الله سبحانه موجود بلا مكان و * (ليس كمثله شئ) * فليعلم أهل الحق أن لكل
من طرفي الضلال والبدعة أشباه أدلة، ولن يغنيهم التشبث بظواهر النصوص،
والحق سبحانه وتعالى منزه عن ذلك فهو موجود بلا مكان لأنه خالق المكان ومجري

323
الزمان فكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك * (سبحان ربك رب العزة
عما يصفون) * والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فصل
في بيان أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه
وتنزيهه عن أن يوصف بذلك
يزعم المجسمة والمشبهة على اختلاف مشاربهم بأن الذي ينفي أن يكون الله
تعالى داخل العالم وخارجه يكون منكرا لوجوده سبحانه!! وهذه مغالطة واضحة
لا قيمة لها!! وذلك لأنهم يقيسون الله تعالى على الأجسام ويتوهمون أن الله سبحانه
شئ كالأشياء يأخذ حيزا في الفراغ كبقية الأجسام!! ويعضهم يتخيله سبحانه
وتعالى جسما كثيفا كالانسان، ويعضهم يتخيل بأنه من قبيل الأشياء اللطيفة
كالهواء والنور والغاز ونحو ذلك!! وجميعهم متفقون مهما حاولوا الإنكار على أنه
جسم يتخيله ويتصوره العقل بإزاء العالم خارجا عنه!!
ونحن بدورنا يجب علينا أن نجلي المسألة ونكشف عما كان غامضا منها ونبين
ما هو القول الصحيح في ذلك من نصوص الكتاب والسنة حتى يتبين مذهب أهل
الحق فيها.
إعلم أن معنى قول أهل العلم إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه أي
أن الله سبحانه لا يوصف بأنه متصل بالعالم وكذلك لا يوصف بأنه منفصل عنه،
وذلك لأن الاتصال والانفصال من أوصاف الأجسام، فالجسم إما أن يكون متصلا
بالآخر أو منفصلا متنائيا عنه، والله تعالى * (ليس كمثله شئ) * كما وصف نفسه.
وإن المنطقة التي يتخيلها المجسمة والمشبهة فوق العرش والتي يتصورون أن
المولى سبحانه وتعالى حال فيها هي مكان بلا شك ولا ريب ولولا أنها مكان لما

324
أمكن تخيلها ولما صح وصفه بأنه فيها وأنه في جهة ما فوق العرش، ولما صحت
أيضا إشارتهم إليه، فهم بناء على ذلك يتخيلون أن الله تعالى ذات من الذوات
الجسمانية فيقيسونه سبحانه على الأجسام التي وصفناها قريبا وأنه خلق العالم
والعرش تحته فصار هو فوقه!! فهم إذا يتصورون ويتخيلون بأن الله تعالى قبل
خلق هذا العالم وإيجاده من العدم كان له تحت!! وإذا كان له تحت فله فوق وأمام
وخلف ويمين ويسار!!
فالعقدة الموجودة في عقول هؤلاء المجسمة والمشبهة هي أنهم لم يسلموا للشرع
فلم يقولوا بأن الله تعالى لا يمكن إدراكه وتصوره وأنه خارج عن كل ما يجول في
الأوهام ويحوم في الخواطر والنفوس، ولو أنهم سلموا بوجوده سبحانه مع إقرارهم
بأنه لا يمكن تصوره لنجوا وكانوا على عقيدة الإسلام الحقة عقيدة التنزيه!!
وعلى كل حال فنحن نقول لهم: لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه
فأين قال الله تعالى في كتابه أو النبي ص في سنته بأن الله سبحانه خارج العالم
أو داخل العالم وما هو دليلكم على ذلك؟! فإن أتيتم بالنصوص التي تسمونها
نصوص العلو أتيناكم بالنصوص الأخرى التي تقابلها في القرآن والسنة والتي يوهم
ظاهرها أيضا بأنه سبحانه حال في الكون، ونقول لكم ساعتئذ ما الذي أوجب
اعتقاد ظاهر تلك النصوص دون ظاهر هذه إلا الهوى المجرد والتعصب الذي لا
معنى له سوى التقليد دون التنقيد، والله المستعان!!
وقد جاءت نصوص عديدة في القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة تبطل
المكان لله تعالى وبالتالي تبطل أن يتصور وجوده داخل العالم متصل به أو خارج
العالم منفصل عنه وقد صرح بذلك أئمة أهل العلم، فمن تلك النصوص:
1 - ما ثبت عن سيدنا حذيفة رضي الله تعالى عنه (كان - صلى الله عليه وآله
وسلم - إذا مر بآية فيها تنزيه الله سبح).

325
رواه مسلم (1 / 537) وأحمد (5 / 384) وابن ماجة (1 / 429) واللفظ لهما، ولفظ
مسلم: (إذا مر بآية فيها تسبيح سبح) والمعنى واحد لأن التسبيح في اللغة هو
التنزيه، قال الإمام الراغب في (المفردات): (والتسبيح: تنزيه الله تعالى) وقال
الإمام النووي في (تهذيب الأسماء واللغات): (التسبيح في اللغة: التنزيه،
ومعنى سبحان الله: تنزيها له من النقائص مطلقا ومن صفات المحدثات كلها).
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى أيضا في (المجموع شرح المهذب)
(3 / 415):
(التسبيح في اللغة معناه: التنزيه، قال الواحدي: أجمع المفسرون وأهل
المعاني على أن معنى تسبيح الله تعالى تنزيهه، وتبرأته من السوء).
قلت: ومن أولويات التنزيه تنزيهه سبحانه عن المكان والزمان بلا شك
ولا ريب. وقد أمر المصلي أن ينزه الله تعالى ويتذكر مخالفته تعالى للمخلوقات
وتعاليه عن مشابهتها في صلواته كل يوم في كل ركوع وسجود ثلاثا وهو أدنى
المستحبات.
2 - ما رواه مسلم في الصحيح (4 / 61) أن النبي ص كان يقول (اللهم أنت الأول
فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ
وأنت الباطن فليس دونك شئ...).
قال الإمام الحافظ البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) ص (400): (استدل
بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا لم يكن فوقه
شئ ولا دونه شئ لم يكن في مكان) ا ه‍.
وقال الإمام عبد القاهر البغدادي في (الفرق بين الفرق) (ص 333): (وأجمعوا
على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان). والله تعالى يقول * (قل الله خالق
كل شئ وهو الواحد القهار) * الرعد: 16، والمكان شئ غير الله تعالى لأن الله تعالى
ليس هو المكان، فيكون المكان مخلوقا لله تعالى، والله سبحانه يتنزه عن أن يحل

326
في خلقه فهو ليس في مكان، وهذا أمر جاء به نص القرآن والحديث وهو من
المحكم الذي يجب أن نؤمن به، ولن نستطيع أن نفهمه لأننا لا ندرك إلا ما
شاهدناه وعرفناه مربوطا بالمكان والله تعالى لا يمكننا أن ندركه، والمخلوق لا يدرك
الخالق سبحانه، ومن خالف في هذا الموضوع فإنه يخالف عقيدة الإسلام الحقة
الواضحة.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (6 / 136): (ولا يلزم من كون جهتي
العلو والسفل محال على الله تعالى أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه بالعلو من جهة
المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس) ا ه‍.
وقول النبي ص في حديث الصحيحين: إن الله كتب كتابا لما قضى الخلق
أن رحمته سبحانه سبقت غضبه فهو عنده فوق العرش. (أنظر البخاري 13 / 522 ومسلم
4 / 2107).
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (13 / 526) في شرح الحديث:
(والغرض منه الإشارة إلى أن اللوح المحفوظ فوق العرش).
قلت: لو كان الله سبحانه كما يزعمون في المكان العدمي الذي يزعمونه
فوق العرش لكان كاللوح المحفوظ الذي يشاركه أيضا في كونه فوق العرش والدليل
القطعي وهو قوله تعالى * (ليس كمثله شئ) * ينفي هذا الأمر نفيا واضحا قاطعا
وكذا قوله تعالى * (ولم يكن له كفوا أحد) * كذلك ينفيه!! فلو كان الله يوصف
بأنه منفصل عن العالم لكان له مشابه ومكافئ، وذلك أن كثيرا من الأجسام أيضا
منفصلة عن أجسام أخرى كالشمس مثلا فإنها منفصلة عن الأرض ليست داخلها
وبينهما مسافة محدودة، أي لها حد ومقدار، فكذلك لو تخيل المجسم أن الله تعالى
منفصل عن العالم بائن عنه كما يقولون (167) لكان بينه وبين العالم مسافة فإذا انتهت
هذه المسافة ابتدأ الجسم الآخر وهو جسم معبود المجسمة الذي يتخيلونه!! فلو



(167) معنى (بائن من خلقه) عند أهل الحق أي: غير مشابه لهم، وعند المجسمة معناه
منفصل عنهم.
327
غالط أحدهم ليهرب من هذه الورطة الباقعة قائلا هذه أمور لا يجوز لنا أن نخوض
فيها ويجب أن نؤمن أنه خارج العالم منفصل عنه بلا كيف ولا تصور!!
قلنا له: هذه مغالطة واضحة!! وأنت بهذا القول تقول أتصوره بلا كيف
ولا أتصوره!! وهذا تناقض فاضح!! فإما أن تتصوره وإما أن لا تتصوره!! ونراك
تغالط في هذه المسائل فتارة تطالب بأن تكون المسألة المتعلقة بذات الله تعالى يمكن
أن تعقل وتتصور فأنت تقول في هذه المسألة لمن يقول لك بأن الله تعالى لا يوصف
بأنه داخل العالم ولا خارجه أن ذلك مستحيل ولا يمكن أن يتصور ذلك، وأن
هذا يفيد بأنه عدم، وتارة أخرى متى ضعفت حجتك تطالب بأن لا نخوض
فيها وتقول يجب أن نؤمن بها ولا يمكننا أن ندرك الأمر ونتصوره ونعقله!! وتدعي
أيضا بأن المسألة غيرة معقولة!! مع أن كل ما يتعلق بتصور المولى سبحانه فهو
متعال عن ذلك ومنزه عنه، إذ لا يمكن للعقول أن تدركه، وما يخطر ويتصور
في العقل ويتخيله منه يجب تنزيه الله تعالى عنه، فافهم هداك الله تعالى!!
ولا بأس من أن نسرد بعض الأمثلة التي يصح بها نفي الضدين عن المولى
سبحانه وتعالى بل عن بعض خلقه لنقرب لك الأمر فتستطيع أن تتحقق بأنه
سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه بنفي الضدين عنه فنقول:
الذكورة والأنوثة: لا يجوز وصف الله سبحانه وتعالى بالذكورة ولا بالأنوثة،
بل إن الملائكة الكرام لا يوصفون بذلك، بل لا يجوز الوصف أيضا بما يسمى
خنثى، فمن أطلق شيئا من ذلك على المولى سبحانه كفر بلا مثنوية!! إذ * (ليس
كمثله شئ) *، والعقل لا يتصور إلا ذكرا أو أنثى أو خنثى!! والله تعالى منزه
عن ذلك كله!!
متزوج أو أعزب: هاتان الصفتان لا تجوزان إلا على من يقبل الاتصاف بهما
فنفيهما عن الباري أو عن الملائكة لا يقتضي الإخبار عن العدم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (17 / 53):

328
(فلا يقدر في صفته - تعالى - حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا
قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ هو عز وجل وتر * (ليس كمثله
شئ) *).
فالنور والظلمة: مخلوقان لله تعالى لقوله سبحانه * (وجعل الظلمات والنور) *
أي خلقهما، فلا يجوز وصفه سبحانه أنه في ظلمة أو في ضياء، فوجب تنزيه المولى
سبحانه عن هذين الضدين مع أن العقل لا يمكن أن يتصور موجودا في غير ظلمة
ولا ضياء!! فافهم!! لأن عقل الإنسان لا يستطيع أن يدرك إلا الأشياء المادية
التي رآها فلا يتصور إلا أشكالا وهيئات!!
وكذلك نقول الله تعالى لا يوصف بأنه متصل بالعالم داخله ولا منفصل عن
العالم خارجه، بل نؤمن بوجوده سبحانه وتعالى ونكفر كل من أنكر وجود صانع
هذه المخلوقات العجيبة البديعة الصنع مع اتهام عقولنا وتصريحنا بعدم القدرة على
إدراك الخالق جل جلاله * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *
طه: 112.
[تنبيه]: ومن غريب تخابطات المجسمة!! أنهم يقولون ينزل بذاته إلى
السماء الدنيا بلا كيف؟ فإذا قيل لهم هذا محال لأنه الحلول في الخلق بعينه،
أليست السماء مخلوقة له سبحانه فكيف ينزل فيها بذاته وبلا حلول؟!! فيقولون
ينزل بذاته إلى السماء الدنيا بلا كيف!! ويغالطون أنفسهم قائلين بكيفية لا
نعقلها!! والكيف مجهول!!
ثم نراهم هنا يريدون أن يعقلوا الكيف الذي يزعمون أنهم لا يقولون به
فيقولون كيف يكون لا داخل العالم ولا خارجه؟!! لا متصلا به ولا منفصلا
عنه؟!!
مع أنه يلزمهم أن يوضحوا لنا كيف ينزل بذاته إلى السماء الدنيا أو فيها بلا
حلول واتصال وهم الذين يقولون وهم يخاطبون المفوضين: (إن الله لم يخاطبنا

329
بما لا نفهمه بل خاطبنا بما نعقله ونفهمه) يغالطون أنفسهم فيتناقضون!!
ونقول لهم: أفهمونا كيف ينزل بذاته بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال؟!!!
ومن تخابطهم وتناقضهم الفاضح أيضا في مثل هذا الباب قول بعضهم: (لا
نثبت الجهة لله ولا ننفيها!! ولا نثبت الحد ولا ننفيه)!! مع أنه يجب تنزيه الله
سبحانه عن الجهة والحد قطعا!!
فهذا دأبهم في التخابط في كثير من أبواب العقائد فتارة يدعون أن هذه الصفة
أو ما يريدون إثباته لا يعقل وتارة يطالبون خصومهم بأن يبينوا لهم كيفية ما نفوا
أو ما أثبتوا!! وهكذا يتبين تناقضهم في أعرض صوره!!

330
فصل
مناقشة قضية داخل العالم وخارج العالم أي متصل أو منفصل من جهة أخرى
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ورضي عنه (168):
(فإن قيل: فنفي الجهة يؤدي إلى المحال وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات
الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وذلك
محال!!)
قلنا: إذا كان هذا الموجود جسما يأخذ حيزا في الفراغ وله حد أي طول
وعرض وارتفاع بأي شكل كان ثم وصفناه بعد ذلك بأنه لا متصل ولا منفصل
أي لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو في جهة كان ذلك مقتضيا الإخبار عن عدمه،
وقولنا ساعئذ لا هو متصل ولا منفصل محال.
وهو كقول القائل يستحيل أن يوجد موجود لا يكون عاجزا ولا قادرا ولا عالما
ولا جاهلا ولا أعزب ولا متزوج ولا ذكرا ولا أنثى أو خنثى ولا في نور ولا في
ظلمة!!
فإن كان ذلك الشئ قابل للمتضادين فيستحيل خلوه من أحدهما، وأما إذا
كان جمادا مثلا وهو الذي لا يقبل واحدا منهما لأنه فاقد لبعض شروط هذه الصفات
وهي الحياة فلا يستحيل وجوده حينئذ، فكذلك شرط الاتصال والانفصال
والاختصاص بالجهات والتحيز والقيام بالمتحيز من صفات الأجسام والأعراض،
فإذا كانت هذه صفات الجسم الذي نعرفه فالله تعالى ليس كذلك لأننا عاجزون
عن إدراكه ولا يمكننا أن نقيس عليه غيره لأنه سبحانه ليس من جنس الأجسام
ولا له شكل وهيئة، وكل ما خطر في أذهاننا فالله تعالى ليس كذلك لأنه أخبر
بذلك فقال * (ليس كمثله شئ) * و * (لم يكن له كفوا أحد) *.



(168) من كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) (ص 28 طبعة صبيح / مصر / 1390 ه‍) وما
بعده من الكلام اقتبسته منه رحمه الله.
331
فرجع الأمر والنظر هنا إلى أنه هل يستحيل وجود موجود بلا مكان ولا جهة
ولا اتصال ولا انفصال أم لا؟!!
فإن قسناه على أجزاء هذا العالم وما نراه ونعقله كان الجواب يستحيل وجوده.
وإذا تركنا القياس ونظرنا إلى أدلة الشرع المحكمة التي تنص على أنه ليس كمثله
شئ لا في الذات ولا في الصفات كان ذلك هو الحق وهو عقيدة الإسلام المنزهة
لرب العزة عن التشبيه والتمثيل وكان القائل بذلك آخذا بقول الله تعالى * (سبحان
ربك رب العزة عما يصفون) *، لأن الذي ينزه الله عن لوازم الجسمية وخصائصها
هو الذي يقول اتهمت عقلي في إدراك الخالق سبحانه وتعالى وأنا عاجز عن ذلك
كل العجز، فقد صدقت بوجوده وآمنت بصفاته واتهمت عقلي عن إدارك خالقي
سبحانه وتعالى.
وقد ضرب لنا سبحانه وتعالى أمثلة في مخلوقاته فأرانا أشخاصا وكذا عجائب
مخلوقاته في الرؤيا من جبال وأودية وبحار عظيمة وأنهار دون أن تكون أجساما آخذة
حيزا في الفراغ مع أن لها حدا ومقدارا وجهة وشكلا وصورة، وقريب من هذا
الباب قول النبي ص (لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا
الحائط، وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر) رواه البخاري (في مواضع منها
13 / 265) وليس ذلك من الخيال البتة بل هو حقيقة لقوله ص في حديث وقع له
في الصلاة حين عرضت عليه الجنة فقال: (فعرضت على الجنة حتى لو تناولت
منها قطفا (من عنب) (169) أخذته) رواه البخاري (2 / 540) ومسلم (2 / 622 برقم 9)
واللفظ له وفي رواية أخرى في مسلم (برقم 10) (ولقد مددت يدي وأنا أريد أن
أتناول من ثمرها لتنظروا إليه. ثم بدا لي أن لا أفعل) والنبي ص لا يمد يده
إلى خيال ولا يتعلق بغير حقيقة ويدل على ذلك قوله في بعض روايات الحديث
(ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) (رواه البخاري في مواضع منها 2 / 540).
فإذا كانت هذه الأمور حاصلة في المخلوق المحدث فكيف بالخالق جل



(169) زيادة لفظة (من عنب) في مسند أحمد (3 / 353).
332
جلاله الذي ليس كمثله شئ؟!!! فتأمل في ذلك جيدا هداك الله تعالى!!
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
(فإن قال الخصم: إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير
مفهوم!!
فيقال له: ما الذي أردت بقولك غير مفهوم؟!! إذا أردت به أنه غير متخيل
ولا متصور ولا داخل في الوهم فقد صدقت [فإن الله سبحانه وتعالى
كذلك] (170)، فإنه لا يدخل في الوهم والتصور والخيال إلا جسم له لون وقدر
فالمنفك عن اللون والقدر لا يتصوره الخيال، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات
فلا يتوهم الشئ إلا على وفق مراه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه.
وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقول أي ليس بمعلوم بدليل العقل! فهو
محال، إذ قدمنا الدليل على ثبوته ولا معنى للمعقول إلا ما اضطر العقل إلى
الإذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته، وقد تحقق هذا،
فإن قال الخصم: فما لا يتصور في الخيال لا وجود له!! (قلنا): فلنحكم بأن
الخيال لا وجود له في نفسه، فإن الخيال نفسه لا يدخل في الخيال والرؤيا لا تدخل
في الخيال وكذلك العلم والقدرة وكذلك الصوت والرائحة ولو كلف الوهم أن
يتحقق ذاتا للصوت لقدر له لونا ومقدارا وتصوره كذلك) ا ه‍.



(170) ما بين القوسين [] زيادة في للإيضاح.
333
فصل
نصوص أئمة أهل العلم التي يصرحون فيها بتنزيه الله عن الاتصال
والانفصال
(أي أن يكون داخل العالم أو خارجه)
لقد صرح علماء الإسلام من فحول أهل الحديث وحذاق الأئمة الذين يعول
على كلامهم ويعتد بهم في الإجماع والخلاف بتنزيه الله تعالى عن أن يكون داخل
العالم أو خارجه فتارة يعبرون عن ذلك بعبارة (لا داخل العالم ولا خارجه) وتارة
يعبرون بأنه (لا متصل ولا منفصل) وتارة ب‍ (الاجتماع والافتراق) وتارة يقولون
(لا مماس ولا مباين)، والمعنى واحد بلا شك ولا ريب وإليكم نصوصهم في
ذلك:
1 - قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء (4 / 434):
(إن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل
العالم ولا خارجه ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه، قد حير عقول أقوام حتى
أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته).
وكذلك ذكر نحو هذا الكلام في عدة من مؤلفاته.
2 و 3 - الإمام الحافظ النووي والإمام المتولي:
قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في (روضة الطالبين) (10 / 64):
(قال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو
ثابت للقديم الإجماع كالألوان، أو أثبت له الاتصال أو الانفصال كان كافرا).
وأقره عليه فيكون هذا قول إمامين من كبار الأئمة.
4 - وقال نحو هذا الإمام الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات) ص (410 -
411) بتفصيل دقيق. وكذا له نصوص في ذلك في شعب الإيمان.

334
5 - الشيخ العز ابن عبد السلام رحمه الله تعالى:
ذكر في كتابه القواعد ص (201) أن من جملة العقائد التي لا تستطيع العامة
فهمها هو أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا منفصل عن العالم ولا متصل به.
6 - الإمام أبو المظفر الإسفراييني في (التبصير في الدين) ص (97 بتحقيق الإمام الكوثري
مطبعة الأنوار 1359 ه‍) حيث قال:
(وأن تعلم أن الحركة والسكون.... والاتصال والانفصال.... كلها لا
تجوز عليه تعالى لأن جميعها يوجب الحد والنهاية).
7 - الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي: قال رحمه الله تعالى في كتابه (دفع
شبه التشبيه) [ص (130) من طبعة دار الإمام النووي بتحقيقنا]:
(وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول
والخروج من لوازم المتحيزات) ا ه‍.
فهؤلاء جماعة من العلماء صرحوا بأن الله تعالى لا يوصف بأنه خارج العالم
ولا داخله هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقال:

335
فصل
كل ما سوى الله عز وجل عالم مخلوق
فليس هناك شئ يقال له خارج العالم على التحقيق
اتفق أهل الإسلام على أن كل شئ سوى الله تعالى مخلوق محدث، وأن العالم
هو كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس هناك شئ يقال له خارج العالم،
بل هذه العوالم من فضاء وكواكب وسموات وأرض وعرش وزمان ومكان مخلوق
لله تعالى، ولم يرد في الكتاب والسنة الصحيحة أن هناك شئ يسمى خارج العالم،
فقول المجسمة (إن الله خارج العالم) بدعة من القول!! وذلك أنهم يقولون:
إننا لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه. ثم نراهم الآن يقولون: إن الله
خارج العالم!! فأين وردت هذه العبارة في الكتاب والسنة؟!!
وكذلك يقال لمن قال إنه داخل العالم!!
فإن قالوا: استنبطناها من نصوص العلو.
قلنا لهم: نصوص العلو تقابلها نصوص أخرى ذكرناها في هذه الرسالة تبطل
استدلالكم بالعلو الحسي!! وتقرر أيضا بأنكم تأخذون ببعض القرآن وتتركون
بعضا!! وذلك كمن قال الله تعالى فيهم * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون
ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون
إلى أشد العذاب) * البقرة: 85!!
أو أنكم مضطرون لتأويل تلك النصوص المعكرة على استدلالكم للعلو
الحسي وما تزعمونه من قولكم (خارج العالم) فتكونون بذلك قد وقعتم في التأويل
الذي تتظاهرون بالفرار منه وتعيبونه على خصومكم!! فارجعوا إلى الحق
راشدين!! واعترفوا بأن الله تعالى لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لأنه
سبحانه ليس كمثله شئ ولا هو مثل شئ!! فعسى أن يتقبل الله تعالى توبتكم!!

336
بيان منطقة خارج العالم التي يتخيلها المجسمة
والتي يعتقدون بأن معبودهم موجود فيها
والتي يسميها بعضهم: (المكان العدمي)
من غرائب المجسمة وعجائبهم أنهم يتخيلون أن هناك فراغا فوق عرش المولى
سبحانه وتعالى ليس فيه شئ إلا الله تعالى يسمونه بالمكان الغير مخلوق!! فهم
بذلك يقسمون الوجود من حيث المساحة إلى ثلاثة أقسام وهي:
(القسم الأول): الله سبحانه وتعالى حيث يحدونه ويعينون له مكانا يشيرون
إليه ويحددونه أيضا ويسمون المنطقة التي يتخيلونه فيها ب‍ (المكان العدمي!!) فمن
ذلك قول ابن تيمية الحراني (171):
(والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره.... ولمكانه أيضا حد فهذان حدان
اثنان... فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر
بتنزيل الله وجحد آيات الله)!!!
وهو في هذا النص أيضا يثبت المكان لله تعالى رب العالمين الذي خلق المكان
والزمان!!
ولاحظوا وانتبهوا هنا إلى أنهم يثبتون لله تعالى منطقة في الوجود الكلي المكاني.
(القسم الثاني) العالم المخلوق وهي المخلوقات من العرش إلى الفرش (172)
- كما يقال -، فيدخل في ذلك السماوات السبع والأرض وغيرها من المخلوقات
الأخرى، ولها منطقة معينة في الوجود وهي منطقة العرش وما تحته.
(القسم الثالث): منطقة خارج العالم الذي يتخيلونه والذي يتخيلون وجود
الرب سبحانه وتعالى فيه والذي هو ناتج عن قياسهم له بالمكان الذي يشاهدونه



(171) وذلك في موافقة (صريح معقوله لصحيح منقوله) المطبوع على هامش (منهاج سنته)
(2 / 29) ناقلا عن عثمان بن سعيد مقرا له ومكفرا لمن خالف في ذلك.
(172) الفرش هنا مأخوذ من قوله تعالى * (وجعلنا الأرض فراشا) *.
337
وتقع هذه المنطقة في جهة ما فوق العرش ويسمونها بالمكان العدمي ويدعون أنها
غير مخلوقة وهنا تكمن الكارثة لأن في هذا الكلام إثبات شئ قديم غير الله تبارك
وتعالى والمعروف عند جميع المسلمين أنه لا يوجد شئ غير الخالق سبحانه وتعالى
والمخلوق المربوب، وتعريف الشئ عند علماء التوحيد هو الموجود وليس المعدوم
بدليل قوله تعالى * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *، والدليل على أن هذا
المكان الذي يسمونه بالمكان العدمي هو شئ موجود وليس عدم أنهم يقولون بأن
الله تعالى موجود هناك فيه!!! يشيرون إليه أيضا!! فكيف يشيرون إلى العدم؟!!
وإليك بعض نصوصهم التي تثبت قولهم بوجود المنطقة الثالثة هذه التي يدعونها
مع ترجمة كلامهم ونصوصهم بهذه الرسمة:
خارج الإطار
المكان العدمي عنده
* (الذي يزعم بأنه غير مخلوق وأن معبوده هناك) *
تعالى الله عما يتصور ويتخيل المجسمة
الكرة الأرضية
السماوات السبع
الكرسي والعرش
معبوده الذي يتخيله

338
* هذه الصورة هي ترجمة كلام الألباني وإمامه ابن تيمية كما نصا عليها انظر صحيح
الترغيب ص (116) وهذا نصه هناك بحروفه:
[فائدة هامة: اعلم أن قوله في هذا الحديث: (فإن الله قبل وجهه). وفي الحديث الذي
قبلة (فإن الله عز وجل بين أيديكم في صلاتكم) لا ينافي كونه تعالى على عرشه، فوق مخلوقاته كلها
كما تواترت فيه نصوص الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم، ورزقنا
الاقتداء بهم، فإنه تعالى مع ذلك واسع محيط بالعالم كله، وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل
وجه الله عز وجل، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط،
فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه. وإذا كان عالي المخلوقات يستقبل سافلها المحاط بها بوجهه من
جميع الجهات والجوانب، فكيف بشأن من هو بكل شئ محيط، وهو محيط ولا يحاط به؟ وراجع بسط
هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كالحموية والواسطية وشرحها للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض
(ص 203 - 213).] انتهى.
وهذه الصورة فيها بيان الكيف والمعنى وهم يقولون نحن نبين المعنى ونفوض
الكيف وقد تناقضا مع أنفسهما هنا مع أن مذهب السلف هو تفويض الكيف
والمعنى كما بيناه عند مبحث التفويض وذلك صريح كلام أحمد بن حنبل رحمه الله
تعالى.
- ونقل الألباني المتناقض!! في مقدمة مختصر العلوص (71) عن ابن تيمية الحراني!!
من التدمرية مستدلا بقوله (كأنه نص شرعي!!) مقرا مباركا!! له ما نصه:
(أتريد بالجهة أنها شئ موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما
وراء العالم فلا ريب أن الله فوق العالم. وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة. أتريد بذلك أن الله
فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شئ من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت
الثاني فهو باطل).
فاعتبروا يا أهل الأبصار والعقول كيف يقولون بأن هناك وراء العالم منطقة
ليست داخلة في المخلوقات!! فهناك وفي تلك المنطقة يوجد معبود هذه الطائفة!!

339
ومن الأدلة المؤكدة أيضا على أنها منطقة حقيقية عندهم وأنهم يتخيلون أن
الله تعالى فيها وله تحت وفوق وغير ذلك من الجهات أن ابن تيمية الحراني!! يقول
في رده على الإمام الرازي: إن الإمام الرازي لم يستطع أن ينفي أن الله لا يستطيع
أن يخلق جسما فوقه هناك (في المكان الذي يسمونه بالعدمي)!! نسأل الله تعالى
السلامة!! وهذا نصه من كتابه (التأسيس في رد أساس التقديس) (2 / 184) حيث
يقول هناك:
(وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة) ثم يقول ابن تيمية بعد ذلك
بأسطر:
[فلو قال قائل (173): بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لا سيما وأن النقص على
الله لم يعلم امتناعه بالعقل، وإنما علمته الإجماع، لا سيما إن احتج بظاهر قوله تعالى:
* (يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (174) وبقوله (كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء) (175)



(173) القائل هنا هو لا غير!! وهذه أساليبه المعروفة في التلبيس والتعمية واللف والدوران،
وهو مغرق في ذلك في لجة الفلسفة الممجوجة والعبارات المنطقية المحجوجة!! وقد
صدق الذهبي لما قال في حقه: (وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والتهجير
والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل فقد كان قبل أن يدخل هذه الصناعة منورا
مضيئا على محياه سيما السلف ثم صار مظلما مكسوفا).
أنظر رسالة الذهبي (بيان زغل العلم والطلب) باب علم أصول الدين.
(174) هذه الآية نازلة في اليهود المجسمة (بني إسرائيل) فيقول الله موبخا لهم: هل
تتخيلون أن يأتيكم الله في غمامة أو سحابة هو والملائكة حتى تؤمنوا؟! أي على
تصوركم الفاسد أيها المشبهة المجسمة!! وهم الذين يقولون بأن الله تعالى لما فرغ
من خلق السماوات والأرض تعب فأراد أن يستريح فاستلقى على العرش!! فابن تيمية
يريد أن يعتمد عقيدتهم تلك التي وبخهم عليها رب العزة وذمهم باعتقادها!! ويريد
أن يقررها!! وقال سبحانه في آية أخرى أيضا موبخا لهم على ذلك مخبرا عنهم * (فقد
سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * النساء:
153، وقال تعالى أيضا عنهم * (وقال الذين لا يرجون لقائنا لولا أنزل علينا الملائكة
أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) * الفرقان: 21.
فتأملوا بعد ذلك فيما يقوله ابن تيمية!!
340
لا سيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر والتدبير، وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا
بهذا، وهذا المعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئا آخر أو لم يخلقه] (!!!!)
فتأملوا بالله عليكم في هذا التخبط!! فثبت بذلك أنهم يقولون بقسم ثالث
في الوجود وهو غير وجود الحق سبحانه ووجود الخلق وهو ما تقدم ذكره من قولهم
خارج العالم والمكان العدمي!!
[عجيبة]: ثم هم بذلك يقولون: مكان وعدمي!! وهذا منهم تناقض
بين لأنه كيف يكون مكان ويشار إليه وقد عينوا جهته ثم يقولون بعد ذلك
عدمي؟!! فهل يشار إلى العدم؟!!
ثم كيف يقولون بأن هذا المكان الذي يتخيلون وجود معبودهم فيه غير مخلوق
مع أن كل ما سوى الله مخلوق؟!!
ثم تأملوا أيها الناس في تناقض وتخابط عباراتهم حيث يقولون: مكان عدمي
فوق العالم غير مخلوق!!!!
[غريبة]: ثم انظروا كيف يتخيلون معبودهم جسما له حدود ونهاية من
جميع الجهات ومع ذلك ينطقون بما يدل على أن المكان العدمي الذي يقولون به
غير محدود بل صرحوا بأن معبودهم هناك!!
وهذه قمة التناقض والتخابط والخروج عن عقيدة الإسلام والخوض في متاهات
فلسفية هي أبعد ما تكون عن الكتاب الكريم والسنة الصحيحة المطهرة!!
وهل خاض الصحابة والسلف في هذه الترهات الفارغة المخالفة للقرآن والسنة
كما خاض بها هؤلاء!!



(175) هو حديث منكر لا يسوى روايته ولا يحتج بمثله في الطهارة فضلا عن العقائد. رواه
أحمد في مسنده (2 / 370) والترمذي (5 / 404 برقم 3298) وغيرهما.
341
ثم تفكروا أيها الناس كيف ينعت هؤلاء المتمسلفون السادة الأشاعرة بأنهم
يخوضون في المنطق والفلسفة ويعيبونهم بذلك مع أنهم هم الذين يخوضون في الأمور
الفلسفية المستقبحة!! ويتركون نصوص الكتاب والسنة والعقل السليم المضبوط
بها وكان بإمكانهم أن لا يخوضوا في تلك الترهات وأن يردوا على من يخوض فيها
بأدلة القرآن والسنة الصحيحة المطهرة لا بترهات أرسطو طاليس وأمثاله (176)!!
[عجيبة]: ومن الأمور العجيبة الغريبة أيضا أن الشيخ المتناقض!! يزعم
بأنه ليس فوق العرش أي في المكان الذي يسميه ب‍ (العدمي!!) شئ إلا
معبوده!! فيقول في تعليقه على متن الطحاوية ص (37) ناقلا مقرا (وراضيا
مختارا!!) ما نصه:
(وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شئ من المخلوقات).
مع أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري (13 / 522) ومسلم
(4 / 2107) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص أخبر أن الله كتب كتابا
فيه أن رحمتي سبقت غضبي وهو فوق العرش.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (13 / 526):
(والغرض منه الإشارة إلى أن اللوح المحفوظ فوق العرش).
قلت: واللوح المحفوظ مخلوق لأنه ليس هو الله تعالى عند جميع العقلاء!!
فتبين بذلك بأن قوله هذا بأنه ليس فوق العرش شئ مخلوق ليس بشئ
حسب السنة الصحيحة التي يتظاهرون بالدعوة لها!!



(176) أنظر كتابنا (تهنئة الصديق المحبوب / الرد على سفر) ص (58 - 66).
342
[المثال الخامس]:
حديث النزول
عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول ص:
(ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير
يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)
رواه البخاري (3 / 29) ومسلم (1 / 522).
قلت: ظاهر هذا الحديث غير مراد قطعا، إذ يستحيل أن يكون المولى
سبحانه وتعالى جسما حتى يفترض فيه أنه في منطقة السماء السابعة أو فوقها ثم
ينزل إلى السماء الدنيا، وذلك لأن السماء الدنيا من مخلوقاته فكيف ينزل ويحل
فيها؟!!
وبهذا الاعتبار يكون القائل بظاهر هذا الحديث قائل بحلول الله تعالى في
بعض خلقه لأن السماء الدنيا بعض خلقه، وقائل أيضا بالجسمية أو العرضية،
وكذلك بالحركة والانتقال!! وكل ذلك محال في حق المولى سبحانه وتعالى.
وإنما المعنى الصحيح للحديث والتوجيه السديد أن النازل هو ملك من
الملائكة يأمره الله تعالى بأن ينادي في السماء الدنيا في وقت السحر فيما يوازي كل
جزء من الكرة الأرضية طوال الأربع والعشرين ساعة، ويصح في اللغة العربية
أن ينسب الفعل إلى الأمر به، فتقول العرب مثلا: غزا الملك البلدة الفلانية،
أي أمر وأرسل قائد جيشه بذلك مع أنه لم يفارق قصره، ولله المثل الأعلى.
والذي يثبت هذا المعنى وينفي ما تتوهمه المجسمة وتدعو إليه أنه ورد الحديث
أيضا بروايتين صحيحتين في الدلالة على ذلك.
أما الرواية الأولى: فقد روى الإمام النسائي في السنن الكبرى (6 / 124)
بإسناد صحيح وهو في عمل اليوم والليلة له المطبوع ص (340 برقم 482) عن سيدنا

343
أبي سعيد الخدري وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما قالا قال رسول الله ص:
(إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا ينادي
يقول: هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل
يعطى؟)
وأما الرواية الثانية: فعن سيدنا عثمان بن أبي العاص الثقفي قال رسول الله
ص:
(تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد: هل من داع فيستجاب
له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو
بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا) رواه أحمد
(4 / 22 و 217) والبزار (4 / 44 كشف الأستار) والطبراني (9 / 51) وغيرهم بأسانيد صحيحة،
والعشار: صاحب المكس.
فهذه الأحاديث الواضحة تقرر بلا شك ولا ريب بأن النازل إلى السماء الدنيا
هو ملك من الملائكة يأمره الله تعالى أن ينادي بذلك، على أن الحافظ ابن حجر
حكى (في الفتح 3 / 30) في شرح الحديث الأول الذي في الصحيحين أن بعض المشايخ
ضبط الحديث بضم الياء في (ينزل) فيكون اللفظ هكذا: (ينزل الله تعالى كل
ليلة إلى السماء الدنيا) أي: ينزل ملكا كما تقدم.
فإن قال بعض المجسمة بل ينزل الله بذاته بلا كيف إلى السماء الدنيا وقد
قال بذلك السلف.
قلنا الجواب من أوجه:
الأول: أن فهم السلف ليس من حجج الشرع كما تقدم.
ثانيا: لم يتفق السلف ولم يجمعوا على ما ادعى المجسم، لا سيما وأن المشبهة
والمجسمة كلما نقل لهم إجماع في مسألة قالوا (قال أحمد من ادعى الإجماع فهو
كاذب).

344
ثالثا: إن قولهم (بلا كيف) لا معنى له بعد قولهم الواضح الصريح بنزول
الله بذاته إلى السماء الدنيا، لأن تخيل السامع لنزول جسم من أعلى إلى أسفل
لن يزول من ذهنه، وهذا التخيل هو لب التشبيه، فتلك العبارة لم تزل ذلك
المعنى!! فإيراد هذه الكلمة وما أشبهها لا يقدم ولا يؤخر في الحقيقة شيئا، لأنه
غير معقول ولا مفهوم، كما أنه لا ينفي التشبيه والتجسيم.
رابعا: لقد أنكر أهل الحديث المعدودين من أكابر الأئمة لفظة (بذاته)
عندما ذكرها بعض المشبهة أثناء كلامهم في حديث النزول هذا، قال الحافظ
أبو عمر ابن عبد البر في (التمهيد) (7 / 144) ما نصه:
(وقال نعيم - بن حماد - ينزل بذاته وهو على كرسيه، قال أبو عمر: ليس
هذا بشئ عند أهل الفهم من أهل ألسنة، لأن هذا كيفية وهم يفزعون منها
لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عيانا وقد جل الله تعالى عن ذلك، وما غاب عن
العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه
به في كتابه أو على لسان رسوله ص فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل
أو تنظير فإنه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
فتأمل!!
خامسا: ذكر الإمام الحافظ النووي في (شرح صحيح مسلم) (6 / 37) أن
الإمام مالكا رحمه الله تعالى - وهو من أئمة السلف - أول النزول هنا بنزول الرحمة،
فهذا فهم السلف للحديث وهو مناقض لما يدعيه المجسمة من قول السلف فيه.
وبذلك اتضح جليا بأن تأويل حديث النزول بنزول الملك هو المبني على
القواعد الثابتة الواضحة وهو الموافق لبقية الروايات الصحيحة لهذا الحديث، وخير
ما يفسر به الحديث حديث آخر كما قال أهل الحديث في علم المصطلح، ومن
ذلك قول الحافظ العراقي في ألفيته:
وخير ما فسرته بالوارد * كالدخ بالدخان لابن صائد

345
ولقد أطلنا الكلام على هذا الحديث في عدة كتب، منها: التعليق على (دفع
شبه التشبيه) فليرجع إليه من شاء الاستزادة، والله تعالى الموفق.
[المثال السادس]:
حديث الجارية
روى مسلم في الصحيح (5 / 20) وغيره من طريق عطاء بن يسار عن معاوية بن
الحكم السلمي الصحابي قال:
بينا أنا أصلي مع رسول الله ص إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك
الله، فرماني القوم بأبصارهم!! فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى؟!
فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم!! فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت،
فلما صلى رسول الله ص فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما
منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:
(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير
وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله ص، قلت: يا رسول الله إني حديث عهد
بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام وإن رجالا يأتون الكهان، قال:
(فلا تأتهم).
قال ومنا رجال يتطيرون، قال:
(ذلك شئ يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم) قال ابن الصباح: فلا
يصدنكم.
قال: قلت: ومنا رجال يخطون، قال:
(كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك).
قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم
فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون،
لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله ص، فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول

346
الله أفلا أعتقها؟! قال:
(ائتني بها) فأتيته بها، فقال لها: (أين الله؟) قالت: في السماء. قال:
(من أنا) قالت: أنت رسول الله. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة).] انتهى
الحديث.
نقول: في هذا الحديث عدة قضايا يجب التنبيه عليها:
أولا: هذا الحديث من أحاديث الآحاد التي لا يجوز أن يبنى عليه أصل في
العقائد، وقد تقدم معنا في فصل الكلام على أحاديث الآحاد أنها تفيد الظن ولا
تفيد العلم بما لا يدع مجالا للشك وهو أمر وارد في الكتاب والسنة ومقرر عند
الصحابة والسلف وأئمة المحدثين، وما أفاد الظن كيف يبنى عليه أصل الدين
الذي لا يجوز إلا أن يكون مقطوعا به؟!! لا سيما وظاهره معارض بما هو أقوى
منه وهو النصوص المنزهة لله تعالى عن المكان.
ثانيا: نفى بعض أئمة الحديث المتقدمين وجود قصة الجارية وهو القسم
الأخير في الحديث من صحيح مسلم، قال الإمام الحافظ البيهقي عن هذا
الحديث في كتابه (الأسماء والصفات) ص (422) ما نصه:
(وهذا صحيح قد أخرجه مسلم... دون قصة الجارية).
ثالثا: أن هذا الحديث اختلف الرواة في متنه، فرواه بعضهم بهذا اللفظ
(أين الله؟) بإسناد حسن (177)، ورواه بعضهم بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا



(177) والواقع والتحقيق: أن في إسناد هذه الرواية التي حكمنا عليها بالحسن والتي هي في
الصحيح هلال بن أبي ميمونة، وقد قال عنه أبو حاتم الرازي: (شيخ يكتب حديثه)
وهذا تضعيف من أبي حاتم لهذا الراوي!! ففي الجرح والتعديل (6 / 109) ذكر أن
الشيخ هو ضعيف الحديث، وقال الذهبي في السير (6 / 360): (قلت: قد علمت
بالاستقراء التام أن أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل: يكتب حديثه أنه عنده ليس
بحجة). وبذلك يصح أن نقول بأن هذه الرواية ضعيفة، فتأمل!!
347
الله وأني رسول الله؟) بإسناد صحيح قوي جدا، ورواه بعضهم بلفظ (من
ربك؟) بإسناد حسن.
رابعا: هذا الاختلاف في اللفظ الذي حكاه رواة هذا الحديث يسمى
اضطرابا في علم مصطلح الحديث، وهو موجب لضعف الحديث، فإن استطعنا
ترجيح أحد ألفاظه كان هو الصحيح الراجح وكانت الألفاظ الباقية ضعيفة
مطروحة، وقد صرح بعض الأئمة من أهل الحديث باضطرابه، منهم:
1 - الحافظ البيهقي حيث قال في (الأسماء والصفات) ص (422):
(وأظنه (يعني الإمام مسلما) إنما تركها (أي قصة الجارية إذ لم يخرجها في
صحيحه عنده) لاختلاف الرواة في لفظه، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن
مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث) انتهى. وما بين الأقواس
من توضيحاتي. وانظر (السنن الكبرى) (7 / 388).
2 - وكذلك ممن صرح باضطرابه واختلاف رواته فيه الإمام الحافظ ابن حجر حيث
قال في (تلخيص الحبير) (3 / 223): (وفي اللفظ مخالفة كثيرة).
3 - وكذلك الإمام الحافظ البزار حيث قال كما في (كشف الأستار) (1 / 14):
(وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة).
4 - وكذلك الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى حيث قال في تعليقه على
(الأسماء والصفات) ص (422):
(قد فعلت الرواية بالمعنى ما تراه من الاضطراب).
5 - وكذلك الإمام المحدث المفيد سيدي أبو الفضل عبد الله ابن الصديق حيث
قال في تعليقه على كتاب (التمهيد) (7 / 135) للحافظ ابن عبد البر ما نصه:
(رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقد تصرف الرواة في ألفاظه، فروي بهذا
اللفظ كما هنا وبلفظ (من ربك؟) قالت: الله ربي. وبلفظ (أتشهدين أن لا

348
إله إلا الله؟) قالت: نعم. وقد استوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي
في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى
حسب فهم الراوي...).
خامسا: شذوذ لفظ (أين الله؟)، وذلك لأن لفظة (أين) تدل في الحقيقة
على الوجود المكاني، والله تعالى موجود بلا مكان، لأنه خالق المكان كما تقدم،
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني - وهو من أئمة الحديث - في (شرح البخاري)
(1 / 221): (إن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر، فلا يتوجه على حكمه لم
ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث).
فتأمل جيدا!!
هذا وقد روى عطاء بن يسار وهو راوي هذا الحديث عن معاوية بن الحكم
السلمي نفس الحديث في موضع آخر بلفظ: (أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله) بإسناد أصح من إسناد لفظ (أين الله) وذلك في مصنف عبد الرزاق
(9 / 175) وهو أيضا في الموطأ ص (777) بسند صحيح آخر عن غير عطاء.
وبهذا ثبت ثبوتا لا شك فيه عندنا حسب قواعد المصطلح وتصريحات أهل
الحديث في القديم والحديث اضطراب متن حديث الجارية بحيث لا يمكن التعويل
على لفظ من ألفاظه، وأصح أسانيده كما رأيت بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا
الله...)، فإن كان هناك مجال للترجيح بين هذه الروايات فالرواية الراجحة بلا
شك ولا ريب هي رواية (أتشهدين...) لأنها الأصح إسنادا، ولأن المعهود من
حال النبي ص الثابت عنه بالتواتر أنه كان يأمر الناس ويقاتلهم ويختبر إيمانهم
بالشهادتين فتكون رواية (أين الله) شاذة أو منكرة!!
هذا وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث وأسانيده وما يتعلق به وتوسعنا بذلك
في رسالة خاصة أسميناها (تنقيح الفهوم العالية بما ثبت وما لم يثبت في حديث
الجارية) فليراجعها من شاء الاستزادة.

349
[المثال السابع]:
حديث الأوعال
يحتج بعض المجسمة والمشبهة أيضا على العلو الحسي بحديث الأوعال، مع
أن هذا الحديث ضعيف من جهة السند، وباطل من جهة المتن مهما حاولوا
تصحيحه وترقيعه كما سيتبين لنا الآن إن شاء الله تعالى بعد ذكر الحديث،
والحديث هو:
روي عن العباس رضي الله عنه قال كنا جلوسا مع رسول الله ص
بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال رسول الله ص: (أتدرون ما هذا؟) قلنا:
السحاب، قال: (المزن)، قلنا: والمزن، قال: (والعنان)، قال فسكتنا،
فقال: (هل تدرون كم بين السماء والأرض) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم،
قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى السماء مسيرة خمسمائة سنة،
وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه
كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن كما
بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء
والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم
شئ).
قلت: هذا حديث موضوع، رواه أحمد في مسنده (1 / 206) من طريق
عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن شعيب بن خالد عن سماك بن حرب عن
عبد الله بن عميره عن العباس عم النبي ص مرفوعا، ورواه أبو داود (4 / 231 برقم
4723) وابن ماجة (1 / 69 برقم 193) وغيرهما، ويحيى بن العلاء الذي في سند أحمد قال
عنه أحمد: كذاب يضع الحديث، وأما سند أبي داود وابن ماجة فمن طريق سماك
عن ابن عميره عن الأحنف بن قيس عن العباس، قال البخاري في تاريخه الكبير
(5 / 159): (لا يعلم سماع لابن عميرة من الأحنف) ا ه‍.

350
وقد بين أوجه بطلانه من ناحية المتن سيدي الإمام المحدث عبد الله ابن
الصديق الغماري في كتابه (سبيل التوفيق) حيث قال:
(وبينت بطلان حديث الأوعال بأن إسناده ضعيف ومعناه منكر من وجوه:
1 - أن القرآن يفيد أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية لا اليوم.
2 - أن القرآن نعى على الكفار تسميتهم الملائكة إناثا، والحديث يفيد أنهم
أوعال، والإناث أشرف من الوعل.
3 - أن الوعل هو التيس الجبلي، والوصف به يدل على الذم، فقد سمى النبي
ص المحلل تيسا مستعارا، ووصف الذين يتخلفون في نساء المجاهدين
بالفاحشة بأنهم ينبون نبيب التيس.
4 - أن القرآن والسنة يصفان الملائكة بأنهم ذوو أجنحة، وهذا الحديث جعلهم
أوعالا...) اه‍.
فتأمل والله الموفق.

351
قاعدة مهمة
الأصل في الإضافات التي يسمونها بالصفات النفي لا الإثبات
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه).
الشرح:
الأصل في الصفات المتعلقة بالله تعالى وفيما يجول ويخطر في أذهاننا وعقولنا
مما لم يرد في الكتاب والسنة الصحيحة ولم ينعقد عليه الإجماع النفي بناء على قوله
تعالى * (ليس كمثله شئ) *.
فقد بين الله سبحانه وتعالى لنا في هذه الآية الكريمة المحكمة أن الأصل
هو مخالفته سبحانه لخلقه من جميع الوجوه فلا يصح أن نقيس شيئا عليه مثلما يفعل
المجسمة كما رأينا!! فما لم يرد في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة لا يجوز إطلاقه
على الله تعالى، فمن قال: إن الله تعالى ليس كالشمس ولا كالقمر ولا كالنجوم
ولا كالأرض ولا جسما ولا عرضا ولا في جهة ولا له حد ولا مقدار ولا يتحرك ولا
يسكن ولا كذا ولا كذا إلى آخر هذه الأوصاف التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة
الصحيحة لا يكون مخالفا للشرع ولا للحق ولا لعقيدة الإسلام، لأن هذا النفي
مبني على نصوص الكتاب والسنة!! وذلك لأن الله تعالى لما قال * (ليس كمثله
شئ وهو السميع البصير) * نفى عن نفسه أشياء كثيرة جدا لا يكاد الإنسان
يحصيها؟ وأثبت لنفسه شيئين السمع والبصر كما ترى، فما نفاه عن نفسه لا يكاد
يعد (عند البشر) وما أثبته لنفسه معدود وقليل بالنسبة لما نفاه، فمن ههنا أخذنا
هذه القاعدة، لأن البشر لا يفهمون ولا يدركون خالقهم فاحتاجوا إلى أن ينفوا
عنه كل ما يعرفونه من الأشياء الموجودة في العالم مما يرونه ويدركونه، ولا يستطيعون

352
أن يثبتوا له سبحانه إلا ما أثبته هو لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله الصادق
الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، وما جاء في القرآن أو السنة أيضا مما قد يتوهم
غير العالم من أنه صفة له سبحانه فهو أيضا لا يجوز قبوله صفة لله تعالى إلا بعد
النظر في قواعد الشريعة من آيات وأحاديث صحيحة حتى يتبين هل يجوز إطلاقه
أم لا؟
فالمرض مثلا الذي ورد في الحديث القدسي الذي فيه (عبدي مرضت فلم
تعدني) لا يطلقه عاقل على المولى سبحانه أبدا ولذلك قلنا: إن الأصل في
الصفات النفي، والإثبات محصور معدود وقد استقينا ذلك وأخذناه من القرآن
الكريم فالله تعالى أخبرنا عن هذه القاعدة إذ قال * (ليس كمثله شئ) * نفى هنا
ب‍ (ليس): وقال * (وما كان ربك نسيا) * نفى هنا ب‍ (ما)، وقال * (لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) * فنفى ب‍ (لم) ثلاث مرات، وقال * (لم يتخذ
ولدا ولم يكن له شريك في الملك) * فنفى ب‍ (لم) مرتين، وقال * (ما كان الله
أن يتخذ من ولد سبحانه) * فنفى ب‍ (ما)، وقال: * (وقل الحمد لله الذي لم
يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) *
فنفى ب‍ (لم) ثلاث مرات هنا أيضا، وهكذا والأمثلة على ذلك كثيرة وكلها تثبت
أن النفي أصل وثيق مبني على قواعد الكتاب والسنة الصحيحة المطهرة، والله
الهادي.
فتلخص من هذا الكلام: أن الألفاظ التي يطلقها بعضهم على الله تعالى على
أنها صفات قسمان:
(القسم الأول): ألفاظ أو صفات لم ترد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة
ولا أجمعت الأمة عليها فهذا القسم لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه لأننا لا نصف
الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ويتظاهر المجسمة بأنهم متفقون معنا في ذلك!!
فيقولون: (لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه)، إلا أنهم في الحقيقة لا يلتزمون
بذلك بل يطلقون عليه سبحانه وتعالى وصف الحد والجهة والحركة والسكون

353
والسكوت والاستقرار والجلوس والجسمية وغيرها مع أن هذه الألفاظ لم ترد في
الكتاب ولا في السنة الصحيحة!!
وهنا نقول لهم: ألا يكفي كتاب الله تعالى وسنة نبيه الصحيحة في وصفه
سبحانه؟! وليس بعد بيان الله تعالى ورسوله بيان أم أنكم ترون بأن بيان الله تعالى
ورسوله ص قاصر؟!! ولذلك لجأتم إلى إحداث ألفاظ وصفات لم ينزل الله بها
من سلطان؟!!!
أليس في الكتاب والسنة ما يكفي في وصفه سبحانه وتعالى أم لا بد من
أن تستدركوا على الكتاب والسنة فتزيدون له تعالى - وهو الذي لا يمكن
أن تدركوه - صفات فتقولون زائدين: إنه خارج العالم وإن له حدا وجهة ومكانا
عدميا غير مخلوق إلى غير ذلك مما نطقتم به وخرجتم به وعارضتم فيه نصوص
الكتاب والسنة بعقولكم القاصرة التي لن تدرك الله تعالى ولا صفاته أبدا؟!!
فكونه خارج العالم أو داخله الأصل فيه النفي إذ لم يرد هذا الذي تقولونه
في الكتاب ولا في السنة، فلم يرد أنه خارج العالم ولم يرد أنه داخل العالم فهذا
من القسم الذي الأصل فيه النفي!! فتنبهوا!!
(القسم الثاني): ما ورد في الكتاب والسنة والأصل فيه التفصيل مع تحكيم
التنزيه المبني على قواعد الكتاب والسنة، فبعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة
لا نثبت بها صفاتي لله تعالى مثل المرض في حديث مسلم (عبدي مرضت) بضم
التاء في مرضت، والنسيان في قوله تعالى * (نسوا الله فنسيهم) *.
والألفاظ الواردة في الكتاب والسنة تفهم بالسياق الذي وردت فيه، فمثلا
قوله تعالى مخبرا عن القرآن الكريم * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) *
ليس المراد منه إثبات يدين للقرآن!! وإنما المراد من ذلك في لغة العرب التي بها
نزل القرآن وبها نطق سيدنا رسول الله ص هو الإخبار عن الحفظ لهذا الكتاب
المبين، فلا يصح لقائل بعد هذا أن يقول: (بما أن اليد ثبتت في القرآن لكتاب

354
الله فليس لأحد أن ينفيها وإنما نثبت للقرآن يدين تليقان به!! ومن نفاهما فهو
معطل جهمي)!! وهذا كلام من يهذي ولا يعقل ما يقول!!
وقوله تعالى أيضا * (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * ليس المراد من
ذلك إثبات جنب لله تعالى حسب هذا السياق في لغة العرب!! إنما المراد إثبات
أن هذا العبد فرط في أوامر الله تعالى ونواهيه في الدنيا فهو يندم ويتحسر عليها
في الآخرة (178)، وهذا مثل قوله تعالى * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم
الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * لا يراد منه ظاهره، فالله تعالى قبل
خلقنا يعلم من الذي سيجاهد في سبيل الله ومن هم الصابرون ابتغاء مرضاته
عز وجل وإنما يخاطبنا الله تعالى على قدر عقولنا وفهمنا والمراد من ذلك حتى تقوم
الحجة علينا!!
ولا يقول عاقل بهذه الظواهر أبدا كما لا يقول بظواهر الآيات التي تسميها
المجسمة بآيات العلو!! وكذلك لا نقول بظاهر مثل قوله تعالى في شأن سيدنا
موسى عليه السلام * (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة
من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) * القصص: 30 فلا يقول عاقل
بظاهر هذا النص ولا يعتقد أن الله تعالى الذي كان يكلم سيدنا موسى عليه
السلام كان في البقعة المباركة في الشجرة!!
إذا ليس كل ما ورد يصح وصف الله تعالى به ويؤخذ على ظاهره!! ومن
ذلك اليد والرجل والقدم والساق والوجه والحقو والصورة وأشباهها من الأعضاء
لا يصح القول بأنها صفات لله تعالى لأن هذه الأعضاء مثل اليد ليست صفة وإنما



(178) وقد ذهب بعض المجسمة إلى إثبات جنب لله تعالى استنباطا من هذه الآية على أنه
صفة له سبحانه وتعالى عما يقولون!! وهو لا يفرق بين الصفة والعضو الذي هو
جزء من كل، ومن أولئك الطلمنكي في كتابه (السنة!!) كما ذكر ذلك الذهبي
في (السير) (17 / 569) منكرا عليه!! وكذا قال بالجنب أيضا ابن القيم في (الصواعق) (1 / 250).
355
هي عضو وهي جزء من كل وهي هيئة وصورة وشكل لا صفة، لأن الصفة هي
التي تقوم بالذات، وأما الذات فهي التي تقوم بها الصفات فيقال يد سوداء ويد
بيضاء ويقال مريضة وسليمة إلى غير ذلك فكيف يجعلون الذات صفة من
الصفات؟!!
وقد غفل كثير من الناس عن هذا الأمر!!
وكذلك الساق والوجه والأصابع والصورة ونحوها يقال فيه ما بقال في اليد
لأن جميعها يفيد التركيب والأعضاء والشكل والهيئة والله تعالى منزه عن هذا كله
لأنه سبحانه وتعالى أخبر بأن المخلوق مركب من صورة فقال سبحانه * (يا أيها
الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما
شاء ركبك) * فدل على أن المخلوق مركب أي من أجزاء وأعضاء، وأخبر أنه
سبحانه * (ليس كمثله شئ) * وأنه * (لم يكن له كفوا أحد) * فصرح بأنه ليس
مركبا من هذه الأعضاء!! وليس بعد هذا البيان بيان!!
ومن هذا نعلم أن المجسمة لا يفرقون بعد بين الذوات والصفات ومن كان
كذلك فإنه ينادي على نفسه بالجهل ولا يجوز له بحال أن يخوض في مسائل العلم
التي لا يفهمها وخاصة في العقائد!!
فإن غالط مغالط وقال: لماذا لا نقول: يضحك لا كضحكنا وينسى لا
كنسياننا ويمل لا كمللنا؟!!!
قلنا له: قولك لا كضحكنا ولا كنسياننا ولا كمللنا لن يفيدك البتة ولن
ينفي عنك التشبيه!! لأن هذا دال على النقص أولا!! وقولك (بلا كيف) أو
(يليق بجلاله) بعده غير مفهوم بالعربية إلا بالتأويل وأنت تقول ب‍ (أن الله تعالى
لا يخاطبنا بما لا نفهم) ونحن لا نفهم الضحك الذي تطلقه حقيقة على الله تعالى
إلا بالقهقهة أو الانفعال والتبسم والعرب لا تفهم إلا ذلك!! إلا إذا أولت ذلك
بالرحمة كما أولها الإمام البخاري (179) اتباعا للسان العربي!! وقد تقدمت القاعدة



(179) أنظر توثيق ذلك عن البخاري في مقدمتنا على كتاب (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه)
ص (14).
356
في ذلك!! ونزيد هنا ما لم نذكره هناك فنقول:
قول المشبه والمجسم يضحك لا كضحكنا كما نقول سميع لا كسمعنا وبصير
لا كبصرنا تمويه لن يجديه شيئا!! لأن المراد بقولنا يسمع سبحانه لا كسمعنا:
أن نثبت لله تعالى السمع ثم ننزهه عن آلة السمع وهي الأذن وعن الأعضاء
والصورة والجوارح وغير ذلك، فيتصور وجود صفة السمع بلا آلة ثم يفوض علم
ذلك إلى الله تعالى بعد الإيمان بأن له سبحانه سمعا لأن صفة الخالق لا يمكن
للمخلوق أن يدركها لأنها قد اتحدت في الاسم دون المسمى، لكن الجلوس
والحركة والملل ونحو هذه الألفاظ التي تطلقها المجسمة دون ترو ولا بصيرة على الله
تعالى لا يتصور فيها وجود شئ يمكن إثباته بعد نفي عنصر التشبيه منها وتفويض
معناه لله جل جلاله!!
فالحركة مثلا التي يصف الله تعالى بها المجسمة لا يفهم منها إلا الانتقال من
محل إلى آخر ولا تعقل إلا بذلك، فإذا نفيت بعد إثباتها الانتقال لم تعد حركة
فيبطل ما أثبته المجسمة حينئذ من أساسه ويتبين أن كلامهم متناقض في ذلك لأنه
لم يبق شئ يمكن إثباته خلافا للسمع والبصر فلا تغفل عن هذا!!
فالمرض مثلا والنسيان الواردان في الكتاب والسنة والمضافان إليه سبحانه وتعالى
لا يمكن اعتبارهما صفة له سبحانه للقاعدة التي قررناها، وبذلك يتبين بطلان
كلام من يقول: (نقول يمل لا كمللنا وله يد ليست كأيدينا مثلما نقول يسمع
لا كسمعنا ويبصر لا كبصرنا)، لأن هذا كلام إنشائي مجمل بعيد عن التحقيق
العلمي المستند لنصوص الكتاب والسنة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
فمما تقدم في الفصول والأبواب السابقة يتبين لنا أن المشبهة والمجسمة أرادوا
أن يطلقوا على الله تعالى بعض الألفاظ التي يسمونها صفات وهي مما لا يستقيم
إطلاقه صفة لله تعالى حسب الموازين الشرعية المأخوذة من الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية التي سقناها في مواضعها وخاصة عند ذكر الأمثلة والنماذج في
موضوع الصفات، وهذه الألفاظ التي أراد المشبهة والمجسمة إثباتها لله تعالى على

357
أنها من صفاته سموها (توحيد الأسماء والصفات) وزعموا أن كل من لم يؤمن بها
لم يكتمل إيمانه بعد أو بعبارة أصرح وأقرب للمقصود لا يزال إيمانه مختلا غير صحيح
بعد.
وإنما قالوا ذلك ليدخلوا على من يخالفهم حالة نفسية من الخوف يرعبونه بها
ويهددونه بأنه إذا لم يوافقهم على ما يزعمون من إطلاق مثل الحركة والحد والجهة
والصورة والرجل واليد والعين وغير ذلك فهو ناقص الإيمان!!
مع ملاحظة أن النبي ص وهو الذي مكث في مكة يعلم الناس العقيدة
ويغرسها في نفوسهم ثلاث عشرة سنة لم يقل بأن هناك توحيدا يقال له توحيد
الأسماء والصفات، ويستحيل أن يسكت النبي ص عن ذلك ولا يبينه لأمته لو
كان هذا الأمر عقيدة يجب التمسك بها.
وإننا نحيل طالب العلم والقارئ الكريم إلى كتاب دفع (شبه التشبيه بأكف
التنزيه) بتحقيقنا فإننا تعرضنا فيه لجميع ما ورد من إضافات وغيرها في موضوع
الصفات تقريبا، فليرجع إليها من شاء الاستزادة والتوسع فيما لم نذكره هنا والله
الموفق.
فصل
قاعدة مهمة
للتعريف بالمجسمة والمشبهة
المجسمة والمشبهة: المجسمة هم المشبهة أنفسهم، وهم الذين يتخيلون بأن
الله تعالى جسم على شكل ما من الأشكال وغالبهم يتصورونه ويتخيلونه على
صورة رجل جالس على كرسي عظيم (وهو كرسي الملك) والذي يدل على ذلك
عباراتهم التي يرددونها في كتبهم التي يتكلمون فيها عن مسائل التوحيد والاعتقاد
وكتاب (السنة) المنسوب لابن الإمام أحمد من أوضح الأدلة والشواهد على

358
ذلك!! وبعضهم يكابر ويجادل بالباطل فيقول: بأنه لا يتصور الله تعالى مثل
ما ذكرنا عنهم!! وهم غير صادقون في تلك المكابرة والمجادلة العقيمة ومؤلفاتهم
وكلماتهم وفلتات ألسنتهم وما يسرونه لكثير من أتباعهم وغير ذلك من الأمور
الظاهرة دلالات ظاهرة تحكم بصدق دعوانا عليهم!!
ومن أوضح الأمثلة على ذلك أيضا أن المجسمة والمشبهة يثبتون لله تعالى
أعضاء يسمونها صفات كاليد والأصابع والوجه والساق والقدم والرجل والعين
والجنب والحقو (*) والجلوس والحركة والحد والجهة وغير ذلك من صفات المحدثات
والأجسام كما تقدم!! وبعضهم يصرح أنه سبحانه وتعالى جسم ويقول بعد ذلك
(لا كالأجسام)!!
وزعم المجسمة والمشبهة في هذا العصر وغيره - تمويها ليخدعوا العامة والدهماء
في سبيل إقناعهم بآرائهم الفاسدة الباطلة ولينفوا عن أنفسهم وصمة التشبيه
والتجسيم - أن المجسم هو فقط: من يقول (بأن الله تعالى جسم كالأجسام!!
أما من يقول بأنه جسم لا كالأجسام فهذا ليس بمجسم)!! وهذا قول باطل
بداهة!!



* الحقو: هو الخصر، وممن أثبت هذا لله تعالى، - تعالى الله عن ذلك - صديق حسن
خان القنوجي البهوبالي في كتابه (قطوف الثمر في عقائد أهل الأثر) وهذا القنوجي كان
أتبع للشوكاني من ظله وقد هيأ الله تعالى من العلماء المخلصين من يرد عليهما ويكشف
عوار مذهبهما!! أما الشوكاني فقد رد عليه معاصره الإمام محمد بن صالح بن حريوه
السماوي في كتاب (الغطمطم الزخار في اكتساح السيل الجرار) وهو في ستة مجلدات
مطبوعة وصل فيه لباب صلاة الخوف كشف فيه طامات الشوكاني وسرقاته العلمية وأخطاءه
وقد سعي الشوكاني في قتل هذا الإمام، وكتابه المذكور موجود لدينا مطبوعا ومخطوطا،
أما صديق حسن خان البهوبالي القنوجي فقد تكفل بالرد عليه الإمام العلامة المحقق
عبد الحي اللكنوي في كتابه (تبصرة النقاد برد تذكرة الراشد) وفي كتابه (إبراز الغي من
شفاء العي) وغيرهما. وانظر كتاب (الإشفاق على أحكام الطلاق) ص (75 - 76) للإمام
الكوثري عليه الرحمة والرضوان للاستزادة.
359
وبعض المجسمة والمشبهة نقلوا عن بعض محدثي السلف أنه قال: التشبيه
والتجسيم أن تقول يد كيدي ورجل كرجلي وقدم كقدمي وساق كساقي. أو نحو
هذه الكلمات (180).
فنقول هذا الكلام خطأ من قائله!! وليس هو وحيا لا يقبل الرد!! وهو باطل
من القول!! مردود عقلا ونقلا!! وقد خالفه فيه الأئمة!! وإليك بعض نصوصهم
في ذلك:
قال الإمام المازري والإمام النووي المقر له في (شرح صحيح مسلم)
(16 / 166):
(هذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون الباري
سبحانه شئ لا كالأشياء...).
وقال الإمام الحافظ البيهقي في (شعب الإيمان) (1 / 137 - 138):
(فإن قال قائل: فإذا كان القديم سبحانه شيئا لا كالأشياء، لم أنكرتم
أن يكون جسما لا كالأجسام؟
قيل له: لو لزم ذلك للزم أن يكسون صورة لا كالصور، وجسدا لا
كالأجساد، وجوهرا لا كالجواهر: فلما لم يلزم ذلك، لم يلزم هذا).
وقال الذهبي في (الميزان) (4 / 21):



(180) وقد استند على هذا الكلام المخطئ بعد مقلدي مذهب التجسيم في هذا العصر فقال
في مقالة متهافتة له (الذي يقول: إن الله جسم كسائر أجسام البشر فهو كافر بلا
مثنوية، وهذا هو مذهب المشبهة، أما من نفى التشبيه وأطلق أن الله جسم على معنى
أنه موجود قائم بنفسه فقد أصاب في القصد، لكنه أتى ببدع في القول)!!
فانظر كيف يصرحون بأن من أطلق على الله تعالى بأنه جسم أصاب في قصده!!
فهل بعد هذا يصح أن يقال بأن هؤلاء ليسوا مجسمة!! [أنظر رسالتنا نغمات الطنبور
النقطة الرابعة فإن فيها بيان ذلك].
360
(من بدع الكرامية قولهم في المعبود تعالى: إنه جسم لا كالأجسام).
وقال الذهبي أيضا في (السير) (13 / 298) في ترجمة ابن قتيبة:
[ونقل صاحب (مرآة الزمان) بلا إسناد عن الدارقطني أنه قال: (كان ابن
قتيبة يميل إلى التشبيه) قلت: هذا لم يصح، وإن صح عنه فسحقا له فما في
الدين محاباة] انتهى كلام الذهبي.
ولقد اعتبر العلماء من يقول بمقالات تدل على ما في قلبه من التجسيم تجسيما
محضا يكفر قائله، ومن طالع كتب أهل العلم ك‍ (الأسماء والصفات) للإمام
البيهقي و (فتح الباري) للحافظ ابن حجر و (أصول الدين) للإمام عبد القاهر
البغدادي و (شرح صحيح مسلم) للإمام النووي وغيرهم من العلماء فإنه
سيجدهم قد وصفوا من قال بظواهر النصوص ومن أثبت لله تعالى خصائص
الأجسام أنه مجسم، ومن ذلك:
1 - قول الحافظ - ناقلا - في (الفتح) (13 / 432) في شرح حديث هناك:
(ومنه قوله تعالى: (جناح الذل) فمخاطبة النبي ص لهم برداء الكبرياء على
وجهه نحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه فمن أجرى الكلام على
ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي
يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وأما أن يؤولها...) ا ه‍.
فانظروا كيف اعتبر من يأخذ بظاهر حديث لا يليق بالله تعالى أنه يفضي
به إلى التجسيم، مع أن هذا الأخذ لم يقل بظاهرها!! وهو أنه تعالى جسم
كالأجسام!!
2 - قول الإمام عبد القاهر البغدادي في (أصول الدين) ص (337):
(وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم بأن الله له حد
ونهاية من جهة السفل ومنها يماس عرشه ولقولهم إن الله محل للحوادث..).

361
أقول: فانظروا كيف صرح الإمام البغدادي بأن القائل بالحد والقائل
بقيام الحوادث بذات المولى سبحانه وتعالى مجسم كافر!!
فصل
بيان قضية لازم المذهب
المقصود بقول العلماء (لازم المذهب) أي ما يقتضيه مذهب فلان من
الناس، فإذا قال عالم قولا وذهب إلى رأي من الآراء وكان مقتضى كلامه ورأيه
- هذا الذي ذهب إليه - أمرا آخر أيضا، فهل نلزمه بأن مقتضى كلامه مذهبا
له؟ وهل نحاسبه عليه أم لا؟
الصحيح في هذا أن لازم المذهب إن كان قريبا فهو مذهب وإن كان بعيدا
فليس مذهبا.
والدليل على ذلك هو أن الله تعالى اعتبر في القرآن الكريم من يقول بأن لله
ولد ممن يعترف به وبوجوده كافرا وألزمه بالكفر حيث قال سبحانه:
* (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم
بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) * التوبة:
30.
وقد اعتبر النبي ص من سب الدهر كأنه سب الله تعالى واعترض عليه لأن
الله سبحانه هو خالق الدهر، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول
الله ص:
(قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار)
رواه البخاري (11 / 564) ومسلم (4 / 1762).

362
وقال الإمام الغزالي في (المستصفى) (2 / 186): (ما يقتبس من الألفاظ لا من
حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها وهي خمسة أضرب: الضرب الأول:
ما يسمى اقتضاء، وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به، ولكن
يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به، أو
من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به، أو من حيث يمتنع ثبوته عقلا إلا
به...).
تمثيل اللازم البعيد واللازم القريب:
مثال اللازم القريب: إذا قلنا لعالم في علم الحديث: هل يحتج بحديث
القاسم بن عبد الواحد؟ فقال لنا: يحتج بحديث سفيان وشعبة. فدل هذا على
أنه لا يحتج بالقاسم بن عبد الواحد لأنه لازم كلامه. [أنظر (تهذيب التهذيب) (8 / 291)
و (الجرح والتعديل) (7 / 114)].
ومثال اللازم البعيد: أنك إذا قلت: زيد عالم فإنه لا يلزم من ذلك أن
غيره ليس بعالم.
وهذا الأمر يسمى في علم الأصول كما قال الإمام الغزالي في المستصفى
(2 / 190):
(فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، كفهم
تحريم الشتم والقتل والضرب من قوله تعالى * (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما) * وفهم
تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى
ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *..... فإن قيل هذا من
قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى!! قلنا: لا حجر في هذه التسمية، لكن يشترط
أن يفهم أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق
له، فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع
الضرب والقتل من منع التأفيف، إذ قد يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل

363
له أف لكن اقتله، وقد يقول - شخص -: والله ما أكلت مال فلان ويكون قد
أحرق ماله فلا يحنث، فإن قيل الضرب حرام قياسا على التأفيف لأن التأفيف
إنما حرم للإيذاء وهذا الايذاء فوقه!! قلنا: إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى
تأمل واستنباط علة فهو خطأ، وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو
صحيح، بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق أو هو معه، وليس
متأخرا عنه (181)، وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة وقد يسمى فحوى اللفظ، ولكل
فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الألفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس)
انتهى.
وقال الإمام الكوثري رحمه الله تعالى في (تبديد الظلام المخيم من نونية ابن
القيم) ص (28) عند قول الإمام السبكي (مقصوده - أي الناظم ابن القيم -
أن الله ما زال يفعل وهذا يستوجب القول بقدم العالم وهو كفر) ما نصه:
(وهذا الاستلزام بين، وما يقال من أن لازم المذهب ليس بمذهب إنما هو
فيما إذا كان اللزوم غير بين، فاللازم البين لمذهب العاقل مذهب له، وأما من
يقول بملزوم مع نفيه للازمه البين فلا يعد هذا اللازم مذهبا له لكن يسقطه
هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام وهذا هو التحقيق في لازم
المذهب...) انتهى ما أردنا نقله (182).
وقد جرى عمل العلماء على أن لازم المذهب إن كان قريبا فهو مذهب، ومن
ذلك مثلا أن الحافظ الدارقطني صنف كتاب (الالزامات والتتبع) ألزم فيه صاحبا



(181) يفيد كلامه هنا أن هذا من شروط اللازم القريب.
(182) ومن الغريب العجيب أن المجسمة والمشبهة الذين يقولون بالحد والجهة ونحو هذه
الأمور في حق المولى سبحانه وتعالى ويحاولون التملص من التشبيه والتجسيم الذي
لبسهم لبوسا لا انفكاك لهم منه!! والذين يذيعون عند مناقشة مثل هذه المواضيع
أن لازم المذهب غير مذهب!! يصرحون في مواضع أخرى بأن لازم المذهب يعتبر
مذهبا كما بينت بعض ذلك في كتابي (التناقضات) (2 / 275). ومع هذا فإن ابن تيمية
ألزم الروافض!! في منهاج سنته بلوازم عديدة!! أنظر مثلا منهاج السنة (1 / 117)!!
364
الصحيحين لوازم حديثية لم يذكرها البخاري ومسلم.
ومن ذلك أيضا قول الحافظ في (الفتح) (13 / 355): (فإن من لازم الإيمان
بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك).
(فائدة): إذا عرفت ذلك فينبغي أن نوضح هنا قضيتين:
الأولى: أن من يقول مثلا: (بأن الله في السماء) مستدلا مثلا بقوله تعالى
* (أأمنتم من في السماء) * لا نعتبره مشبها ومجسما لأن معنى الآية إن قلنا بأن المراد
بها المولى سبحانه فهو على لغة العرب التي نزل القرآن بها هو: بيان علو القدر
والمنزلة والمكانة، لا علو المكان والتحيز والجهة وإثبات الجسمية، فلا نحكم عليه
بالتجسيم والتشبيه لمجرد هذه الكلمة إلا أن قصد من يقول بأن الله في السماء أنه
جسم أو شئ حال في السماء وعلمنا من قرائن أحواله وعباراته أنه يعني المكان
لا المكانة والمنزلة.
أما إن قال: (إن الله في السماء بذاته) أو (حقيقة) فقد زاد لفظة دلت
على معتقده وهي لا تفيد لغة إلا حلول الذات في مكان فنلزمه بها - وهي لازم
قوله بلا شك ولا ريب - ونحكم عليه بأنه مشبه ومجسم وبما يقتضيه هذا الوصف.
الثانية: أن المشبهة والمجسمة يقولون ليتهربوا من وصفهم بالتشبيه
والتجسيم: (إن لازم المذهب ليس مذهبا)!! ثم نراهم لا يطبقون هذه القاعدة
التي يتبنونها في منهجهم وآرائهم فنراهم يرمون خصومهم أهل الحق المنزهين لله
تعالى من الأشاعرة وغيرهم بأنهم جهمية!! ومعطلة!! وملاحدة!! مع أن
خصومهم يتبرؤون من تلك الأوصاف!! التي لا أقول إنها إلزامات بعيدة بل هي
باطل من القول!! وإفك زخرفه لهم فهمهم السقيم وإدراكهم العليل!!

365
فصل
أسماء الله الحسنى
قال الله تعالى * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في
أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) * وقال تعالى * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى) *.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ص:
(لله تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) رواه
البخاري (5 / 354 و 11 / 214 وغيره) ومسلم (4 / 2062).
قال الإمام الحافظ البيهقي في كتاب (الاعتقاد) ص (32):
[وهذه الأسامي مذكورة في كتاب الله عز وجل، وفي سائر الأحاديث عن
نبينا محمد ص مفردة نصا أو دلالة، فذكرناها في كتاب (الأسماء والصفات). وقوله
ص (إن لله تسعة وتسعين اسما) لا ينفي غيرها، وإنما أراد والله أعلم أن من
أحصى من أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين اسما دخل الجنة سواء أحصاها مما
نقلنا في الحديث الأول، أو مما ذكرنا في الحديث الثاني، أو من سائر ما دل عليه
الكتاب أو السنة أو الإجماع وبالله التوفيق] انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (11 / 216):
[وقد قال الغزالي في (شرح الأسماء) له: لا أعرف أحدا من العلماء عني
بطلب أسماء - الله - وجمعها سوى رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم
فإنه قال: صح عندي قريب من ثمانين اسما يشتمل عليها كتاب الله والصحاح
من الأخبار، فلتطلب البقية من الأخبار الصحيحة. قال الغزالي: وأظنه لم يبلغه
الحديث يعني الذي أخرجه الترمذي أو بلغه فاستضعف إسناده، قلت: الثاني هو

366
مراده، فإنه ذكر نحو ذلك في (المحلى) ثم قال: والأحاديث الواردة في سرد
الأسماء ضعيفة لا يصح شئ منها أصلا، وجميع ما تتبعته من القرآن ثمانية وستون
اسما، فإنه اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يؤخذ من الاشتقاق كالباقي
من قوله تعالى * (ويبقى وجه ربك) * ولا ما ورد مضافا كالبديع من قوله تعالى
* (بديع السماوات والأرض) * وسأبين الأسماء التي اقتصر عليها قريبا. وقد
استضعف الحديث أيضا جماعة قال الداوودي: لم يثبت أن النبي ص عين الأسماء
المذكورة، وقال ابن العربي يحتمل أن تكون الأسماء تكملة الحديث المرفوع،
ويحتمل أن تكون من جمع بعض الرواة (183) وهو الأظهر عندي، وقال أبو الحسن
القابسي: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو
الإجماع، ولا يدخل فيها القياس ولم يقع في الكتاب ذكر عدد معين، وثبت في
السنة أنها تسعة وتسعون] انتهى.
قلت: والصحيح أنها تزيد على تسعة وتسعين، لكن من أحصى وحفظ
منها تسعة وتسعين وكانت عقيدته صحيحة مما يقتضي أنه فهم معنى التسعة
والتسعين كانت سببا لدخوله الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى.



(183) انتبه إلى أن هذا هو مثال تصرف الرواة الذي نذكره دائما.
367
شرح أسماء الله سبحانه وتعالى
وبيان معانيها
إعلم أن أسماء الله تعالى كصفاته سبحانه تشاركت معنا في اللفظ واختلفت
في المعنى، فمثلا اسمه تعالى (الكبير) ليس معناه الكبير بالجسم والحجم لأن
الله تعالى ليس جسما له حجم ومقدار كما تقدم وإنما معناه: (الموصوف بالجلال
وكبر الشأن فهو الذي صغر أمام جلاله كل كبير، وقيل: هو الذي كبر عن مشابهة
المخلوقين) كما قاله الإمام الحافظ البيهقي في كتابه (الاعتقاد) ص (35).
ولذلك فلا بد أن نسرد لكم بعض معاني الأسماء الحسنى التي يشكل فهم
معناها على بعض الناس ونعتمد في أغلب ذلك على الإمام الحافظ البيهقي وغيره
من الأئمة المحققين:
1 - الله: معناه من له الإلهية، وهي القدرة على اختراع الأعيان.
2 - القدوس: هو الطاهر من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد.
3 - السلام: هو الذي سلم من كل نقص وعيب. وبرئ من كل آفة. وقيل:
هو الذي سلم المؤمنون من عقوبته.
4 - المؤمن: هو الذي يؤمن عباده المؤمنين من عقوبته.
5 - المهيمن: هو القائم بأمور خلقه.
6 - المتكبر: المتعالي عن صفات الخلق.
7 - الباري: هو الخالق.
8 - الفتاح: هو الحاكم كما جاء * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * ويأتي
بمعنى: الذي يفتح المنغلق على عباده من أمور الدنيا والدين، ويكون أيضا
بمعنى الناصر.
9 - القابض والباسط: هو الذي يوسع الرزق ويقتره، يبسطه بجوده ورحمته،

368
ويقبضه بحكمته، وقيل القابض الذي يقبض الأرواح بالموت الذي كتبه على
العباد، والباسط الذي يبسط الأرواح في الأجساد. والقابض أيضا الذي
يجعل الأرواح منقبضة حزينة، والباسط: الذي يبسطها فيجعلها مستبشرة
فرحة.
10 - الحليم: هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقيها ثم قد يعفو عنهم.
11 - العظيم: الذي تعاظم على خلقه في أن يشبهوه.
12 - الشكور: الذي يشكر أي يجازي على اليسير من الطاعة.
13 - العلي: هو الذي علا وجل أن تشبهه صفات خلقه.
14 - المقيت: هو المقتدر والذي يقيت عباده أقواتهم وأرزاقهم.
15 - الحسيب: هو الكافي.
16 - الجليل: هو من الجلال والعظمة فهو الذي صغر دون جلاله كل جليل
من الخلق، وهو الذي يتضع معه كل رفيع.
17 - الواسع: هو العالم الذي وسع علمه ورحمته كل شئ. وهو الغني الذي
وسع غناه فقر الخلق.
18 - الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء، وكذا المصيب في أفعاله.
19 - الودود: هو الذي يود أي يحب عباده المؤمنين، ويحبه عباده المؤمنون.
20 - المجيد: هو الجليل الرفيع من المجد وهو الشرف والعظمة.
21 - الباعث: هو الذي يبعث عباده بعد الموت.
22 - الشهيد: هو الذي لا يغيب عنه شئ.
23 - الحق: هو الموجود حقا وهو الذي لا يقول إلا الحق * (قوله الحق) * الأنعام: 73.
24 - الوكيل: هو الكافي، تقول حسبي الله ونعم الوكيل. أي: ونعم الكافي.
25 - المتين: هو الشديد القوة، والذي لا يمسه في أفعاله لغوب ولا تعب.
26 - الولي: هو الناصر، والمتولي للأمر القائم به.
27 - الحميد: الذي يستحق الحمد، ومن له صفات المدح والكمال.
28 - المحصي: الذي أحصى كل شئ بعلمه.

369
29 - الواجد: هو الغني الذي لا يفتقر، والوجد الغنى، وقد يكون من الوجود
وهو الذي لا يؤوده طلب، ولا يحول بينه وبين المطلوب هرب.
30 - الماجد: بمعنى المجيد وهو الجليل وهو الرفيع من المجد، وقد تقدم.
31 - الواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده بلا شريك.
32 - الصمد: هو الذي تصمد إليه الحوائج، أي ترفع، وهو المقصود في
النائبات وفي الحوائج، وهو السيد الذي يحتاج إليه الخلق وهو لا يحتاج إلى
أحد.
33 - المقدم والمؤخر: هو منزل الأشياء منازلها يقدم من يشاء وما شاء، ويؤخر
ما شاء ومن شاء.
34 - الأول: هو الذي لا ابتداء لوجوده.
35 - الآخر: هو الذي لا انتهاء لوجوده.
36 - الظاهر: هو الظاهر بحججه الظاهرة، وبراهينه النيرة الدالة على ثبوت
ربوبيته وهو الذي ليس فوقه شئ حسا ومعنى، فله الغلبة والرفعة. وقد
جاء في الحديث الصحيح: (وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت
الباطن فليس دونك شئ) رواه مسلم. ونقل الحافظ البيهقي في (الأسماء
والصفات) ص (400) أن بعض العلماء استدل بهذا الحديث على تنزيه الله
عن المكان، لأنه إذا لم يكن فوقه شئ ولا دونه شئ لم يكن في مكان،
وهو استدلال حسن جدا.
37 - الباطن: الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية، والباطن هو المطلع على ما
بطن من الغيوب.
38 - الوالي: هو المالك للأشياء والمتولي لها، وقد يكون بمعنى المنعم.
39 - المتعالي: هو المنزه عن صفات الخلق، والعالي فوق خلقه بالقهر لا بالمكان.
40 - البر: المحسن إلى خلقه.
41 - التواب: هو الذي يتوب على من يشاء من عباده ويقبل التوبة.
42 - المنتقم: هو المهلك لمن تمرد على عباده وطاعته، والمهلك لمن ظلم الناس

370
بغير حق.
43 - الرؤوف: هو الرحيم، والرأفة شدة الرحمة.
44 - المقسط: هو العادل في حكمه.
45 - الجامع: هو الذي يجمع الخلائق يوم القيامة.
46 - النور: هو الهادي، أي هادي عباده لنور الإيمان، أو منور السماوات
والأرض، ويجب اعتقاد أن الله تعالى ليس نورا بمعنى الضوء لأن الضوء
مخلوق، والله تعالى * (ليس كمثله شئ) *.
47 - البديع: هو الذي فطر الخلق مبدعا له لا على مثال سابق.
48 - الرشيد: المرشد.
49 - الصبور: هو الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة.
50 - الرب: ومعناه السيد المالك.
51 - الحنان: ذو الرحمة.
52 - المنان: كثير العطاء.
53 - البادئ: هو المبدي للأشياء.
54 - الأحد: الذي لا شبيه له ولا نظير.
55 - الواحد: الذي لا شريك له ولا عديل.
56 - المولى: هو الناصر المعين.
57 - المبين: الظاهر الذي لا يخفى ولا ينكتم.
58 - المحيط: هو الذي أحاطت قدرته جميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع
المعلومات، وليست الإحاطة الجسمية كإحاطة الغلاف الجوي للأرض لأنه
تعالى ليس جسما ويكفر من اعتقد ذلك.
59 - الوتر: الفرد الذي لا ثاني ولا شبيه ولا نظير له سبحانه.
60 - الفاطر: الخالق.
61 - العلام: أي صيغة مبالغة من عليم.
62 - الجميل: المجمل المحسن.

371
63 - الرفيع: الذي لا أحد أرفع منه.
وقد ذكرنا هنا بعض الأسماء الحسنى ومعانيها لا على سبيل الاستقصاء وتركنا
ذكر ما كان معناه واضحا لا يحتاج إلى شرح وبيان ك‍ (الرحمن) و (الرحيم)
و (الباقي) وأمثالها.
(فائدة): وبعض الناس يزعم أنه لا يجوز إطلاق اسم (الستار) على
الله تعالى، وإنما ينبغي أن يقول (ستير) وهذا التفريق لا معنى له، والله
أعلم (184).
(فائدة أخرى): يجوز إطلاق اسم (الصانع) على المولى سبحانه وتعالى،
فقد روى الإمام مسلم في (صحيحه) (4 / 2063) عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال رسول الله ص:
(لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت. اللهم ارحمني إن شئت. ليعزم
في الدعاء. فإن الله صانع ما شاء، لا مكره له).
وأما حديث (إن الله صانع كل صانع وصنعته) فلم يثبت بهذا اللفظ، إنما
ورد بلفظ (إن الله خالق كل صانع وصنعته). رواه الحاكم (1 / 31) وغيره.
واعلم أن اسم العارف ليس من أسمائه سبحانه فلا ينبغي إطلاقه على المولى
تعالى وإنما يقال عالم أو عليم أو علام، فتنبه.



(184) ومن الغريب العجيب أن بعض المبتدعة من المتمسلفين المتنطعين يمنعون إطلاق اسم
الستار على الله تعالى مع أن لفظ الستر ورد في أحاديث كثيرة مضافة إلى الله تعالى،
ومع ذلك نراهم يجيزون إطلاق الجسم والحد والجهة على الله تعالى وهي باطلة لفظا
ومعنى كما أنهم يغضون النظر عن قول إمامهم الحراني يجوز أن يكون العالم قديما بالنوع
حيث يجعل مع الله تعالى شريكا في قدمه سبحانه!!
فتأملوا يا أصحاب القلوب والأبصار!!
372
مباحث
النبويات والسمعيات

373
مباحث
النبويات والسمعيات

375
الإيمان بالملائكة
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن بالملائكة، ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا
حافظين، ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين).
الشرح:
يجب الإيمان بالملائكة لقوله تعالى * (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * التحريم: 6.
وقال تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله
عدو للكافرين) * البقرة 98.
وقال تعالى: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي
أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير) *
فاطر: 1.
قال الإمام الحافظ البيهقي في (شعب الإيمان) (1 / 163):
[والإيمان بالملائكة ينتظم في معاني:
أحدها: التصديق بوجودهم.
والآخر: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه كالإنس والجن
مأمورون مكلفون لا يقدرون إلا على ما يقدرهم الله تعالى عليه، والموت جائز
عليهم، ولكن الله تعالى جعل لهم أمدا بعيدا، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا
يوصفون بشئ يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله تعالى جده، ولا يدعون آلهة
كما ادعتهم الأوائل.
والثالث: الاعتراف بأن منهم رسل الله يرسلهم إلى ما يشاء من البشر.

377
وقد يجوز أن يرسل بعضهم إلى بعض، ويتبع ذلك الاعتراف بأن منهم حملة
العرش، ومنهم الصافون، ومنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة
الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، وقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره.
قال الله تعالى في الإيمان بهم خاصة:
* (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله) * البقرة: 285.
وروينا عن عمر رضي الله عنهما عن النبي ص حين سئل عن الإيمان فقال:
(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)].
قلت: والحديث رواه مسلم (1 / 37).
ومن الأدلة على قول الحافظ البيهقي (وقد يجوز أن يرسل بعضهم إلى
بعض) حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله
إذا أحب عبدا دعى جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل،
ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال:
ثم يوضع له القبول في الأرض...) الحديث رواه البخاري (10 / 461) ومسلم
(4 / 2030) واللفظ له.
فتكليف الله تعالى سيدنا جبريل بإبلاغ الملائكة محبة الله تعالى لأحد عباده
هو من إرسال بعضهم إلى بعض.
الملائكة مخلوقون من نور:
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه (4 / 2294) عن السيدة
عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما
وصف لكم).

378
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (6 / 306):
[قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة أعطيت قدرة
على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السماوات، وأبطلوا من قال إنها الكواكب
أو أنها الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد
في الأدلة السمعية شئ منها. وقد جاء في صفة الملائكة وكثرتهم أحاديث: منها
ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا (خلقت الملائكة من نور) الحديث، ومنها
ما أخرجه الترمذي وابن ماجة والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا (أطت السماء وحق
لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد) (185) الحديث،
ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعا (ما في السماء السبع موضع قدم
ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد) وللطبراني نحوه من حديث
عائشة. وذكر في (ربيع الأبرار) عن سعيد بن المسيب قال الملائكة ليسوا ذكورا
ولا إناثا ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون... وقدم المصنف -
أي البخاري - ذكر الملائكة على الأنبياء لا لكونهم أفضل عنده بل لتقدمهم في
الخلق ولسبق ذكرهم في القرآن في عدة آيات كقوله تعالى * (كل آمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله) *، * (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله) *، * (ولكن البر من
آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين) * وقد وقع في حديث جابر
الطويل عند مسلم في صفة الحج (ابدؤا بما بدأ الله به) ورواه النسائي بصيغة
الأمر (ابدأ بما بدأ الله به)، ولأنهم وسائط بين الله وبين الرسل في تبليغ الوحي
والشرائع فناسب أن يقدم الكلام فيهم على الأنبياء، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا
أفضل من الأنبياء، ومن أدلة كثرتهم ما يأتي في حديث الإسراء (إن البيت المعمور
يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون)] انتهى كلام الحافظ.
وروى البخاري (6 / 303) وغيره من حديث مالك بن صعصعة أن النبي ص
قال في حديث الإسراء:



(185) رواه الترمذي (4 / 556 برقم 2312) وابن ماجة (2 / 1402) وغيرهما وهو حديث حسن.
379
(فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي
فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه..).
وفي البخاري أيضا (6 / 304) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ص أنها
سمعت رسول الله ص يقول: (إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب -
فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى
الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم).
وفي البخاري أيضا في الموطن السابق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال النبي ص: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة
يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون
الذكر).
وفيه أيضا: عن البراء رضي الله عنه قال النبي ص لحسان: (اهجهم -
أو هاجهم - وجبريل معك).
وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها: إن الحارث بن هشام سأل النبي
ص: كيف يأتيك الوحي؟ قال: (كل ذلك. يأتني الملك أحيانا في مثل صلصلة
الجرس، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وهو أشده علي، ويتمثل لي الملك أحيانا
رجلا فيكلمني، فأعي ما يقول).
وفيه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله ص لجبريل: (ألا
تزورنا أكثر مما تزورنا) قال: فنزلت * (وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا
وما خلفنا) * الآية.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (6 / 308):
[وقد اشتملت أحاديث الباب على ذكر بعض من اشتهر من الملائكة
كجبريل، ووقع ذكره في أكثر أحاديثه، وميكائيل وهو في حديث سمرة وحده،
والملك الموكل بتصوير ابن آدم، ومالك خازن النار، وملك الجبال، والملائكة

380
الذين في كل سماء، والملائكة الذين ينزلون في السحاب، والملائكة الذين
يدخلون البيت المعمور، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة
الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون. ووقع ذكر الملائكة على العموم في كونهم لا
يدخلون بيتا فيه تصاوير، وأنهم يؤمنون على قراءة المصلي ويقولون: ربنا ولك
الحمد، ويدعون لمنتظر الصلاة، ويلعنون من هجرت فراش زوجها، وما بعد
الأول محتمل أن يكون المراد خاصا منهم، فأما جبريل فقد وصفه الله تعالى بأنه
روح القدس وبأنه الروح الأمين وبأنه رسول كريم ذو قوة مكين مطاع أمين...
وروى الطبري عن أبي العالية قال: جبريل من الكروبيين وهم سادة الملائكة،
وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال رسول الله ص لجبريل (على أي شئ
أنت؟ قال على الريح والجنود، قال وعلى أي شئ ميكائيل؟ قال على النبات
والقطر، قال: وعلى أي شئ ملك الموت؟ قال على قبض الأرواح) الحديث
وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعف لسوء حفظه ولم يترك.
وروى الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا وزيد أي من أهل السماء جبريل
وميكائيل الحديث. وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في كيفية خلق آدم ما يدل
على أن خلق جبريل كان قبل خلق آدم، وهو مقتضى عموم قوله تعالى * (وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * وفي التفسير أيضا أنه يموت قبل موت ملك الموت
بعد فناء العالم، والله أعلم، وأما ميكائيل فروى الطبراني عن أنس (أن النبي
ص قال لجبريل ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار)
وأما ملك التصوير فلم أقف على اسمه. وأما مالك خازن النار فيأتي ذكره في تفسير
سورة الزخرف إن شاء الله تعالى، وأما ملك الجبال فلم أقف على اسمه أيضا،
ومن مشاهير الملائكة إسرافيل، ولم يقع له ذكر في أحاديث الباب، وقد روى
النقاش أنه أول من سجد من الملائكة فجوزي بولاية اللوح المحفوظ، وروى
الطبراني من حديث ابن عباس أنه الذي نزل على النبي ص فخيره بين أن يكون
نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فاختار أن يكون نبيا عبدا،
وروى أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ص (كيف أنعم

381
وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له) الحديث، وقد
اشتمل (كتاب العظمة لأبي الشيخ) من ذكر الملائكة على أحاديث وآثار كثيرة
فليطلبها منه من أراد الوقوف على ذلك، وفيه عن علي أنه ذكر الملائكة فقال (منهم
الأمناء على وحيه، والحفظة لعباده، والسدنة لجنانه، والثابتة في الأرض السفلى
أقدامهم، المارقة من السماء العليا أعناقهم، الخارجة عن الأقطار
أكنافهم، الماسة لقوائم العرش أكتافهم)] ا ه‍.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ص:
(أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، والعرش
على منكبه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون). رواه أبو يعلى (11 / 496
برقم 6619) بسند صحيح.
ومن أراد التوسع في معرفة الأحاديث والآثار الواردة في الملائكة فعليه بكتاب
الحافظ السيوطي المسمى ب‍ (الحبائك في أخبار الملائك) بتحقيق الإمام المحدث
سيدي عبد الله بن الصديق (186).
قلت: وقد ذكر في القرآن الكريم بعض الملائكة أيضا. كالكرام الكاتبين
في قوله تعالى * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) *
الانفطار: 12. وقال تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم
ترجعون) * السجدة: 11.



(186) وقد سرق أحد من يدعي التحقيق في هذه الأيام وهو المسمي نفسه بخادم السنة
المطهرة (!!!) (أبو هاجر محمد سعيد بسيوني زغلول) تعليقات سيدي عبد الله ابن
الصديق بل ومقدمته على ذلك الكتاب فطبعها باسمه على أنها من تحقيقه!!
وتقديمه!! فاسمع واعجب من هؤلاء الظالمين!!
382
قصة هاروت وماروت
وما يتعلق بها
لقد وردت قصة هاروت وماروت في القرآن الكريم في قوله تعالى:
* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن
الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين بابل هاروت
وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون
منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله،
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) * البقرة: 102.
لقد تضاربت أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم في تفسير هذه الآية
واختلفوا فيها اختلافا بينا، والذي يهمنا هنا أن نستخلص القول الصحيح المعتمد
من أقوالهم الذي يوافق قواعد الشريعة الناصة على عصمة الملائكة وأنهم لا يعصون
الله تعالى ونثبته، وننبه على قصة الزهرة التي نعتقد بطلانها وعدم صحتها بذكر
الأدلة وبالله تعالى التوفيق.
التفسير الصحيح للآية الكريمة:
* (واتبعوا) * أي اليهود لأن سياق الآيات قبلها وبعدها يتحدث عن اليهود
بشكل عام * (ما تتلوا الشياطين) * أي ما تعلمه الشيطان للناس المشتغلين بالسحر
* (على ملك سليمان) * أي على عهد سيدنا سليمان وزمنه عندما كان ملكا، حيث
فشا وانتشر عمل السحر بين اليهود في زمنه وكانوا يأخذون ذلك من الجن
والشياطين، (وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع (187)، ويضمون إلى ما



(187) والدليل عليه قوله تعالى * (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا *
وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع..) * وما رواه البخاري (6 / 304) وغيرها عن السيدة
عائشة مرفوعا: (إن الملائكة تنزل في السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء،
فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من
عند أنفسهم).
383
سمعوا أكاذيب يلفقونها ثم يلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها
ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سيدنا سليمان عليه السلام، حتى قالوا:
إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون هذا - السحر الذي يتعلمونه هو - علم
سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، فاتبعوا كتب السحر ورفضوا كتب
الأنبياء) (188) فرد الله عليهم قولهم هذا فقال * (وما كفر سليمان) * لأنه لم يكن
يعلم السحر فبرأه الله تعالى مما رموه به * (ولكن الشياطين) * هم الذين * (كفروا) *
حيث يعلمون الناس السحر ليعملوا به. ويقصدون بذلك إضلال الناس وإغوائهم
* (و) * من السحر الذي يعلمه الشياطين للناس * (ما) * أي السحر الذي
* (أنزل إلى الملكين) * أي أرسلا ليعرفا الناس بحقيقته ويجعلان الناس يميزون
بينه وبين السحر في بلدة * (بابل) * التي بالعراق، لأن هذه البلدة هي ومصر كان
أهلهما من أكثر الناس استعمالا للسحر وأكثرهم عملا به وترويجا له، فبعث الله
تعالى سيدنا موسى عليه السلام إلى مصر فأبطل سحرهم بعصاه، وبعث في قرية
بابل * (هاروت وماروت) * ليعلموا ويعرفوا الناس بحقيقة السحر والفرق بينه وبين
معجزات الأنبياء * (وما) * كانا * (يعلمان من أحد) * في ذلك الزمان * (حتى) *
ينصحاه قبل تعليمهما له و * (يقولا له إنما نحن فتنة) * أي أرسلنا الله تعالى ابتلاء
واختبارا وامتحانا للعباد فإياك أن تعمل بذلك السحر الذي نعرفك حقيقته بعد
أن تعلمه * (فلا تكفر) * لأن السحر مبني أكثره على الكفر ولا يتم إلا به، * (و) *
كان الناس إذ ذاك في بابل * (يتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) *
لأن الله تعالى أراد أن يجعل للعباد اختبارا وامتحانا كما أنه جعل هذه الدنيا بأسرها



(188) ما بين القوسين نقلته من كلام سيدي عبد الله بن الصديق من كتابه (بدع التفاسير)
ص (17). وقد أخذت بعض الكلام في تفسير هذه الآية منه مستفيدا ومعترفا له بفضله
على جزاه الله عنا خير الجزاء وأعلى درجته.
384
دار امتحان وبلاء للثقلين الإنس والجن وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون، فالملكان لم يأتهما أحد فيقول لهما أريد أن أفرق بين الزوجين الفلانين،
وإنما كان من يتعلم السحر منهما يستعمله بعد أن يذهب من عندهما في هذه الأمور
المحرمة المنكرة مثل التفريق بين الزوجين، وقد بين الله تعالى أن هذا السحر لا
يؤثر بنفسه وإنما يؤثر بخلق الله تعالى عند فعله وأحيانا لا يؤثر هذا العمل ولا يحصل
منه أي تأثير لقوله تعالى * (وما هم) * (189) أي اليهود والسحرة لا الملكان لأنهما ليسا
بساحرين إنما هما يحذران من العمل بالسحر * (بضارين به من أحد إلا بإذن الله) *
أي إلا بمشيئة الله وإرادته، * (و) * إن هؤلاء اليهود والسحرة * (يتعلمون) *
السحر ليعملوا به فيضرون الناس ويكفرون بالله تعالى وهذا * (ما يضرهم ولا
ينفعهم) * لو كانوا يعلمون ويصحون من رقدتهم * (ولقد علموا) * هؤلاء اليهود
والسحرة * (لمن) * أي أن الذي * (اشتراه) * أي السحر واختاره واستبدله بكتب
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام * (ما له في الآخرة) * عند الله * (من خلاق) * أي
نصيب وحظ، فهم يومئذ كفار من أهل النار * (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو
كانوا يعلمون) * حقيقة ما سيصيرون إليه من العذاب لأجل السحر، والله تعالى
أعلم.
وهناك قول ثان في تفسير هذه الآية ذكره الإمام القرطبي في تفسيره (2 / 50)
واعتمده وهو قوله هناك:
[الخامسة عشرة: قوله تعالى * (وما أنزل على الملكين) * (ما) نفي، والواو
للعطف على قوله (وما كفر سليمان) وذلك أن اليهود قالوا إن الله أنزل جبريل
وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر
سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله * (ولكن



(189) انتبه لقوله تعالى (هم) ولم يقل (هما) أي اليهود السحرة لا الملكان، ولا تغفل عن
ذلك.
385
الشياطين كفروا) *. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل
فيها ولا يلتفت إلى سواه] انتهى كلامه وهو جيد حسن ومقدم على ما ذكرناه من
التفسير.
نص بعض الأحاديث الواردة في قصة هاروت وماروت:
1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله ص يقول:
(إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربنا
* (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
قال إني أعلم ما لا تعلمون) * قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله
تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف
يعملان؟ قالوا: ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة
من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه
الكملة من الاشراك فقالا: لا والله لا نشرك بالله شيئا أبدا، فذهبت عنهما ثم
رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي،
فقال: لا والله لا نقتله أبدا، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها
نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا
الصبي فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين
سكرتما. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا).
رواه أحمد بن حنبل في مسنده (2 / 134) وابن حبان في صحيحه (14 / 64) وغيرهما
وهو ضعيف الإسناد منكر المتن، وهو موضوع عندي لأن الشرك لا يقع من
الملائكة ويلزم ذلك إن صح الحديث أن منهم من يدخل النار فيتعذب!! وكل
ذلك باطل.
2 - وعن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان آخر الليل، قال: انظر هل
طلعت الحمراء؟ قلت: لا مرتين أو ثلاثا، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا

386
مرحبا بها ولا أهلا، قلت: سبحان الله!! نجم ساطع مطيع، قال: ما قلت
إلا ما سمعت من رسول الله، قال رسول الله ص:
(إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب،
قال: إني ابتليتهم وعافيتكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا
ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا فألقى
الله تعالى عليهم الشبق - بفتح الشين والباء - قلت: وما الشبق؟ قال: الشهوة،
فجاءت امرأة يقال لها الزهرة، فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن
صاحبه ما في نفسه، ثم قال أحدهم للآخر: هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟
قال: نعم، فطلباها لأنفسهما، فقالت: لا أمكنكما، حتى تعلماني الاسم الذي
تعرجان به إلى السماء وتهبطان، فأبيا، ثم سألاها أيضا فأبت، ففعلا. فلما
استطيرت طمسها الله كوكبا، وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما، فخيرهما
فقال: إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما وإن شئتما
عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه فقال أحدهما
لصاحبه: إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول، فاختار عذاب الدنيا على عذاب
الآخرة، فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل، فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما
منكوسان بين السماء والأرض معذبان إلى يوم القيامة) قال سيدي عبد الله بن
الصديق: رواه سنيد بن داود في تفسيره، وعنه ابن جرير في تفسيره أيضا ا ه‍.
قلت: وهو موضوع بلا شك.
نقد هذه القصة وبيان بطلانها:
قال سيدي عبد الله بن الصديق في رسالة خاصة ألفها في هذا الموضوع مطبوعة
بذيل كتابه (قصة سيدنا إدريس عليه السلام) ص (27) ما نصه:
[اختلفت أنظار الحفاظ في هذه القصة اختلافا متباينا، فأنكرها البيهقي وابن
العربي المعافري وعياض والمنذري، وذكرها ابن الجوزي في الموضوعات، ومال

387
إلى إثباتها ابن جرير في التفسير وأكثر من تخريج طرقها وأغلبها موقوفات، وجاء
الحافظ ابن حجر فجمع ما رواه ابن جرير وضم إليه بعض الطرق الأخرى
فأوصلها إلى بضعة عشر طريقا جمعها في جزء مفرد، وقال في (القول المسدد):
(وله - يعني حديث ابن عمر الذي حكم بوضعه ابن الجوزي - طرق كثيرة جمعتها
في جزء مفرد يكاد الواقف عليه أن يقطع بوقوع هذه القصة، لكثرة الطرق الواردة
فيها وقوة مخارج أكثرها والله أعلم) ا ه‍. وتتبع الحافظ السيوطي طرقها في التفسير
المسند وفي الدر المنثور فأوصلها إلى نيف وعشرين طريقا أغلبها ضعيف أو واه.
وقد تتبعت طرقها المشار إليها وأعملت فيها فكري، فوجدتها قصة شاذة
منكرة المعنى، تخالف القرآن والسنة وقواعد العلم، هذا إلى تضارب ألفاظها
ورواياتها وليس فيها حديث عن النبي ص صحيح سالم من علة، قال الحافظ
ابن كثير في تفسيره: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين
كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس
ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين،
وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع
صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى،
وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما
ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال ا ه‍] انتهى.
ثم قال سيدي الإمام عبد الله بن الصديق الغماري ص (41):
[بقي بعد هذا كله مخالفتها للقرآن ولقواعد العلم ويتبين ذلك من وجوه:
(الأول): ذكر الحديث الأول أن الملائكة قالوا حين أهبط آدم إلى الأرض
* (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *
والقرآن يفيد أن هذا القول صدر منهم قبل خلق سيدنا آدم.
(الثاني): أفادت معظم طرق القصة أن المرأة حين عرجت إلى السماء

388
مسخت نجما وهي كوكب الزهرة أحد الكواكب السبعة السيارة، وهذا يخالف
المعقول والمنقول، فإن الله خلق السماوات والكواكب والشهب قبل خلق آدم بآلاف
السنين، قال الله تعالى * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * وقال جل شأنه
* (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا
بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) *.
(الثالث): أن الله تعالى ذكر الملائكة في القرآن أكثر من ثمانين مرة، يثني
عليهم في كل مرة بالطاعة والتسبيح وغير ذلك، نحو * (لن يستنكف المسيح أن
يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) *، * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل
عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) *، * (بأيدي سفرة كرام
بررة) *، * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) *، * (عليها ملائكة غلاظ شداد
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * ويلاحظ في هذه الآية ترتيب
طاعتهم على كونهم ملائكة، فيجب تعميم وصفهم بالطاعة لا خصوص خزنة
النار، ولم يجئ في القرآن قط وصف ملك بتقصير أو توجيه عتاب إليه، والسنة
المتواترة على نمط القرآن في الثناء عليهم والتنويه بقدرهم، وحديث هاروت
وماروت يخالف القرآن والسنة في هذه الناحية، فيكون منكرا شاذا يجب رده ولو
صح سنده.
(الرابع): أن الملائكة معصومون لا يجوز في حقهم أن يراجعوا الله فيقولوا:
نحن أطوع لك من بني آدم، لو كنا مكانهم ما عصيناك. ثم ينتقلون من المراجعة
القولية إلى المراجعة الفعلية فيختارون ملكين ينزلان إلى الأرض ولماذا؟!! ليثبتا
لله أنهما أطوع له من بني آدم!! نعم لا يجوز في حقهم هذا، كيف والله يقول
في حقهم * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) *.
(الخامس): أفاد الحديث الثالث أنهما سجدا للصنم، وهذا شرك لا يحصل
من الملائكة، فإن الإجماع منعقد على عصمة الأنبياء والملائكة من الشرك.
(السادس): ذكر الحديث الثاني والثالث أن الله ألقى عليهما الشهوة فوقعا

389
في المعصية، وهذا مبني على ما يفهمه كثير من الناس: أن عدم وقوع المعصية
من الملائكة، لعدم وجود الشهوة عندهم، والواقع أن عدم وقوع المعصية منهم
لعصمتهم منها، والعصمة صفة قائمة بالعبد تمنعه من الوقوع في المعاصي مع بقاء
التكليف والاختيار، فالمعصوم لا تحصل منه معصية سواء أوجدت عنده الشهوة
أم لا، ألا ترى إلى الأنبياء عليهم السلام عندهم شهوة الأكل والشرب والجماع،
وهم مع ذلك معصومون لا يعصون الله أبدا، فالملائكة مثلهم سواء بسواء].
انتهى مختصرا، وليراجع الرسالة من شاء الاستزادة.

390
الإيمان بالأنبياء والرسل
عليهم الصلاة والسلام
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم
كانوا على الحق المبين، لا نفرق بين أحد من رسله ونصدقهم كلهم على
ما جاؤوا به، ونقول أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، إيمانا
وتصديقا وتسليما).
الشرح:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي
النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * البقرة: 136 وقال
تعالى: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * البقرة: 213.
وقال تعالى: * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده،
وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس
وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل
ورسلا لم نقصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) * النساء: 164.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(عرضت على الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر،
والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده...)
الحديث رواه البخاري (11 / 405) وغيره.

391
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء
نبي ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد) رواه مسلم في (الصحيح) (1 / 188).
تعريف النبي والرسول:
قال الإمام البيهقي في (شعب الإيمان) (1 / 150):
(النبوة اسم مشتق من النبأ، وهو الخبر إلا أن المراد به في هذا الموضع خبر
خاص وهو الذي يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإلقائه
إليه، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي، ووعظ وإرشاد) ا ه‍.
فالرسول: هو إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو ناسخ لبعض شريعة من
سبقه وأمر بتبليغ هذا الشرع.
والنبي: هو إنسان أوحي إليه لا بشرع جديد وإنما بشرع أحد الرسل، وأمر
بتبليغه.
وكل منهما ينبغي أن يقال أيضا في تعريفه: هو إنسان ذكر حر خال من منفر
طبعا (أي غير مريض بعاهة خلقية أو خلقية تجعل غيره ينفر منه).
فالرسول أعلى رتبة من النبي، وقبل أن يصل إلى مرتبة رسول يمر بمرتبة
نبي، فعلى هذا كل رسول نبي، فسيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي
ورسول، وكذلك سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وسيدنا عيسى وباقي الأنبياء
المذكورين بأسمائهم في القرآن منهم النبي ومنهم الرسول النبي.
وذهب بعض الناس إلى أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه،
وبعضهم قال: سواء أمر بتبليغه أم لا، وبعضهم قال: لم يؤمر بالتبليغ ولكن
يعلم الناس بأنه نبي ليحترم!! وكل ذلك خطأ محض، لأنه مخالف لقوله تعالى
* (وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *
الحج: 52، وقال تعالى: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين

392
ومنذرين) * البقرة: 213 وقوله تعالى * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخدنا أهلها
بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون) * الأعراف: 94.
وذهب قوم أيضا إلى أنه لا فرق بين النبي والرسول وهو قول يلي ما اعتمدناه
في الصحة من ناحية القوة إلا أن التفريق هو الصواب لقوله تعالى * (إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * المائدة: 44
أي لليهود.
فانظر كيف بعث الله تعالى أولئك النبيين وهم (أنبياء بني إسرائيل) بكتاب
سيدنا موسى التوراة، فهم لم يأتوا بشرع جديد وإنما أتوا لتقرير شريعة سيدنا
موسى ودعوا الناس إليها.
وسيدنا هارون كان نبيا تابعا لأخيه سيدنا موسى عليهما السلام لقوله تعالى:
* (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب
الطور الأيمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * مريم: 53،
فنص سبحانه على أن سيدنا موسى كان نبيا ورسولا وأن سيدنا هارون كان نبيا
يساعده في الدعوة، عليهما السلام، فسيدنا هارون لم يكن رسولا بشريعة
مستقلة، والدليل على ذلك أيضا أنه كان خليفة سيدنا موسى في أموره لقوله تعالى
حكاية عن سيدنا موسى أنه قال * (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي *
اشدد به أزري * وأشركه في أمري) * طه: 32 وقال تعالى: * (وقال موسى لأخيه
هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * الأعراف: 142 وقال تعالى
* (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) * الفرقان: 35 وقوله
تعالى أن سيدنا موسى قال: * (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن *
أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول
فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) * طه: 94.
وأما قوله تعالى لسيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام: * (فأتياه فقولا

393
إنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم، قد جئناك بآية من ربك،
والسلام على من اتبع الهدى) * طه: 20، فمعناه أي إن الله تعالى قد أرسلنا إليك
نحن الاثنين، فأحدنا رسول والآخر نبي، وكل منا مأمور بالتبليغ، فالمعنى
مأخوذ من الإرسال لا أن كلا منهما رسول فافهم، والله الموفق.
وقد اتضح من هذا جيدا الفرق بين النبي والرسول وأن كلا منهما مأمور
بالتبليغ عن الله تعالى، وتبين خطأ من قال إنهما شئ واحد، كما تبين خطأ من
قال إن النبي لم يؤمر بالتبليغ!!
فإذا كان العلماء مأمورون بالتبليغ فما بالك بالأنبياء عليهم الصلاة
والسلام؟!!
ثم لا يكون الأنبياء إلا من الرجال لقوله تعالى * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا
نوحي إليهم) * وقد ذكرت هذه العبارة في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم (في سورة
يوسف: 109، وسورة النحل: 43، والأنبياء: 7) تأكيدا في هذا الموضوع على ما قلناه، وما
سوى هذا ضعيف مردود.
وقال صاحب منظومة بدء الأمالي:
وما كانت نبيا قط أنثى * ولا عبد وشخص ذو اختبال
سيدنا آدم ص أول الأنبياء والرسل:
واعلم أن سيدنا آدم عليه السلام أول الرسل والأنبياء ولا شك في ذلك وهو
مقطوع به عندنا لقوله تعالى * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين) * آل عمران: 33، يعني الأنبياء من آل إبراهيم وآل عمران، وقال تعالى
* (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * طه: 122. والاجتباء إذا وصف به إنسان
بمفرده في القرآن دل على نبوته ومنه قوله تعالى في سيدنا يونس عليه السلام:
* (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من
الصالحين) * القلم: 50.

394
ومن دلائل نبوته عليه السلام أيضا قوله تعالى * (وعلم آدم الأسماء كلها) *
البقرة: 31، وقوله تعالى * (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) * البقرة: 33، وقوله تعالى
* (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * طه: 115.
وهذه أدلة من القرآن دالة على نبوته صراحة، ومن الأدلة ما يدل على نبوته
استنباطا ومنها: قال تعالى * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (190) فاطر: 24.
ويقتضي هذا أن الله تعالى لا يترك الناس بلا دال يدلهم على الله وعلى شرعه
وعلى أمره ونهيه فمحال أن يبقى الناس بلا أنبياء من زمن سيدنا آدم إلى زمن سيدنا
نوح بلا رسول، وهذا يدل على أن سيدنا آدم هو أول الأنبياء والمرسلين.
وأما الاستدلال على ذلك من الحديث: فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن
رجلا قال: يا رسول الله: أنبى كان آدم؟ قال: (نعم). رواه ابن حبان في
(صحيحه) (14 / 69)، والطبراني في معجمه الكبير (8 / 139 - 140) بإسناد صحيح (191).



(190) وانتبه هنا إلى أمر مهم جدا وهو: أن الأصل في كل أمة خلت قبل مبعث سيدنا محمد
ص قد أتاهم نذير أي نبي أو وصلت إليهم دعوى نبي إلا من استثناهم الله تعالى
وهم قوم سيدنا محمد ص الذين قال الله فيهم * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من
قبلك لعلهم يتذكرون) * القصص: 46، وقال فيهم أيضا * (بل هو الحق من ربك
لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) * السجدة: 3، وقال سبحانه
فيهم أيضا * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) * سبأ: 44.
فاعرف ذلك ولا تغفل عنه!!
(191) ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن الشيخ المتناقض!! صحح في (تخريج المشكاة) (3 / 1599
برقم 5737) حديث: أن سيدنا آدم عليه السلام أول الأنبياء. حيث قال التبريزي في
تلك الصحيفة عن آخر ثلاثة أحاديث فيها: (روى الأحاديث الثلاثة أحمد) فعلق
على كلامه المتناقض في الحاشية!! قائلا: (وهي صحيحة). ثم إنه في سلسلته
الصحيحة (2 / 280 برقم 1289) صحح حديث (أول نبي أرسل نوح) مع أن في سنده
رجل متروك باعترافه وهو إبراهيم بن الفضل!! ثم صححه بالشاهد وهو حديث
الصحيحين الذي ذكرناه، مع أن المتروك الحديث لا يصحح حديثه بالشواهد لأن
هذا المتناقض يخالف هذا الصنيع في كثير من كتبه، ثم هو لم ينبه على الجمع بين
كون سيدنا آدم أول الرسل وبين ما ورد من سيدنا نوح أول الرسل إلى الأرض!!
395
فإن قال قائل: أيقنا أنه عليه السلام نبي ولكنه ليس برسول!!
قلنا قي جوابه: هذا محال لأنه لا يوجد قبله رسول ولا نبي فهو صاحب شريعة
مستقلة فوجب أن يكون رسولا وهذا ظاهر.
إذا علمت هذا وعرفت أن سيدنا آدم عليه السلام أول الرسل والأنبياء فينبغي
لنا الآن أن نناقش الحديث الذي فيه: أن سيدنا نوح أول الرسل إلى أهل
الأرض. وهو في الصحيحين فنقول:
وقع في بعض روايات حديث الشفاعة في الصحيحين أن الناس يذهبون
لسيدنا نوح ليتوسلوا به إلى الله تعالى فيقولون له: (يا نوح أنت أول الرسل إلى
أهل الأرض) [أنظر البخاري 6 / 371 ومسلم 1 / 185] ووقع أيضا في صحيح مسلم (1 / 180)
(ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله). فكيف نجيب عن التعارض بين هاتين
القضيتين في أن سيدنا آدم أول الرسل وبين الحديث الناص أن سيدنا نوحا عليه
السلام أول الرسل؟!
الجواب: إما: أن يقال إن اللفظ الواقع في الصحيحين هو من زيادات
الرواة وتصرفهم، وبالتالي ليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لثبوت
نبوة سيدنا آدم في الكتاب والسنة. وإما: أن يجمع بين الحديثين فيقال إن سيدنا
نوح عليه السلام أول الرسل إلى أهل الأرض من الكفار، وأما من قبله من الأنبياء
والمرسلين فلم يكن الكفر قد حدث فيهم، وقد رأيت الإمام النووي رحمه الله تعالى
قد تعرض لهذا وذكره في (شرح صحيح مسلم) (3 / 55) أثناء كلام له في شرح حديث
الشفاعة حيث قال هناك: (فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا بل أمر
بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم، بخلاف
رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض..) (192) هذا كلامه.



(192) وهناك تأويل آخر للحديث ذكره الإمام الطحاوي في (شرح مشكل الآثار) (14 / 386)
فارجع إليه إن أردت التوسع، لكنه غير مسوغ عندي والله أعلم.
396
ويستأنس له بما رواه ابن سعد في (الطبقات) (1 / 42) بسند صحيح عن عكرمة
مولى سيدنا ابن عباس قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على
الإسلام).
عدد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام:
ذكر في القرآن الكريم أسماء خمسة وعشرين من النبيين والمرسلين وقد نظم
أسماءهم كثير من العلماء من ذلك ما حدثني به شيخي العالم الفاضل أبو أحمد محمد
هليل (193) شفاها ودونته من فمه قال:
أسماء رسل الله صفوة البشر * آدم إدريس ونوح يستطر
هود وصالح لوط الخليل * ونجله أي ابنه إسماعيل
إسحاق يعقوب ويوسف تلا * له شعيب وهارون انجلا
يليه موسى وداود وابنه * أعني سليمان الذي تقله
ريح السماء غدوة رواحا * ولم يزل في سيرها مرتاحا
أيوب ذو الكفل ويونس تلا * الياس واليسع يا من عقلا
ويحيى ثم زكريا عيسى * محمد خاتم المرسلين ليسا
يجيئ بعده من مرسل يرى * والقول في ذلك كذب وافترى
نظمتهم بحسب الإرسال * مرتبا لهم على التوالي
عليهم الصلاة والسلام * ما عاقبت لياليها الأيام
وكل الأنبياء من ذرية سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إلا ثمانية
نظمهم بعضهم كما سمعته من شيخي المذكور أيضا حيث قال لي:
وعنه حاد آدم شيث الوصي * إدريس نوح هود يونس يصي
لوط وصالح فهم ثمان * حادوا عن الخليل واستبانوا



(193) وقد توفي رحمه الله تعالى مساء الجمعة 24 / ذو الحجة / 1414 ه‍ الموافق 4 / 6 / 1994
عن نحو سبعين سنة وقد دفن يوم السبت في قرية البنيات وهي بلدته الواقعة جنوب
عمان رحمه الله تعالى.
397
وقد ورد في حديث ضعيف أن عدد الرسل (315) والأنبياء (124000) وهذا
بعيد، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله كم الأنبياء؟ فقال (مائة
ألف وأربعة وعشرون ألفا) فقال: كم المرسلون منهم؟ قال: (ثلاثمائة وخمسة
عشر، جما غفيرا). رواه أحمد وغيره وهو ضعيف إن لم يكن موضوعا (194).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبى كان آدم؟
قال: (نعم) قال: كم كان بينه وبين نوح؟ (قال عشرة قرون) قال: كم كان
بين نوح وإبراهيم؟ قال: (عشرة قرون) قال: يا رسول الله كم كانت الرسل؟
قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رواه الطبراني وهو صحيح (195).
فالظاهر أن هذا الحديث هو الصواب في مجموع الأنبياء والمرسلين عليهم
الصلاة والسلام والله تعالى أعلم، وهناك بعض الأحاديث الأخرى في عدد الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام ولكنها ضعيفة.



(194) رواه أحمد في المسند (5 / 265 - 266) والبزار (1 / 93 كشف الأستار) والطبراني في الكبير
(8 / 258 - 259) وابن حبان في صحيحه (2 / 77) والبيهقي في (السنن) (9 / 4) وهو
ضعيف، أنظر (مجمع الزوائد (1 / 159) للحافظ الهيثمي، و (المطالب العالية)
(3 / 269) للحافظ ابن حجر.
(195) رجاله رجال مسلم إلا شيخ الطبراني أحمد بن خليل الحلبي وهو ثقة كما قال الحافظ
الهيثمي في (مجمع الزوائد) (8 / 210) وقال عنه الذهبي في (السير) (13 / 489): (ما
علمت به بأسا). ولذلك قال ابن كثير في (البداية) (1 / 101): (وهذا على شرط
مسلم ولم يخرجه).
398
صفات الرسل والأنبياء وما يجب في حقهم:
إعلم يرحمك الله تعالى أن الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام متصفين
بصفات النبوة التي يستحيل أن يتصفوا بضدها وهي الأمانة والصدق والفطانة
وتبليغ جميع ما أمروا بتبليغه وعصمتهم من مقارفة الذنوب والفسق وأخلاق السفهاء
ونحوهم.
[الصفة الأولى]: صفة العصمة:
للعلماء عدة تعاريف للعصمة وهي متقاربة أو متحدة في المعنى،
وأحسنها: أن العصمة ملكة نفسية يمنع الله تعالى بها نبيه من الفجور، فتكون
معناها على هذا هو: حفظ ظواهرهم وبواطنهم عليهم الصلاة والسلام من التلبس
بالكفر والمعاصي وما نهى الله تعالى عنه.
وعلي التحقيق يقال: هم معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها خسة
ودناءة قبل النبوة وبعدها، ويجوز أن يقعوا في الصغائر التي لا خسة فيها عند بعض
العلماء، والتحقيق أن ذلك لا يقع بعد النبوة، والله تعالى يتولى تنشئتهم على
الأخلاق الفاضلة الحميدة، فسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلا، كان
مشهورا بين قومه عند أهل مكة وغيرها بالصادق الأمين، وكانوا يرضونه محكما
بينهم في تنازعاتهم كما هو معروف ومشهور.
فمما ورد في ثبوت عصمتهم قوله تعالى على وجه العموم * (كبر مقتا عند الله
أن تقولوا ما لا تفعلون) * الصف: 23، وقوله تعالى * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) * البقرة: 44 فهذه الأمور يقبح فعلها من
غير الأنبياء فكيف تقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! وقال سيدنا شعيب
لقومه * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * هود: 88، ووصف الله تعالى
لنا سيدنا إبراهيم وسيدنا إسحاق وسيدنا يعقوب بقوله: * (إنهم كانوا يسارعون
في الخيرات) * الأنبياء: 90، وقال تعالى * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * وقال

399
تعالى حكاية عن إبليس المطرود من رحمة الله * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك
منهم المخلصين) * ص: 83، وغير ذلك من الآيات الدالة على حفظهم وأمانتهم.
ومما ورد في وقوعهم في الصغائر التي لا خسة فيها قول الله تعالى * (ولقد عهدنا
إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * إلى قوله سبحانه * (فوسوس إليه
الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت
لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى) * طه:
121 فالأكل من الشجرة معصية بصريح النص القرآني لكنها ليست كبيرة ولا خسة
فيها وكان ذلك قبل نبوة سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام ولذلك يقول الله تعالى
بعد هذه الآية * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * طه: 122 أي ثم اختاره الله
تعالى فمن عليه بالنبوة وقبل توبته، وقد حصل هذا من سيدنا آدم ومن غيره أحيانا
نادرة ليثبت الله سبحانه وتعالى لنا وقوع الخطأ من البشر ولو كان في أعلى المراتب
وهي الرسالة والنبوة، وللتنبيه على أن عدم احتمال الخطأ وكذا عدم جوازه هو في
حق الله سبحانه وتعالى فقط فينبغي أن نفهم ذلك جيدا.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في شأن سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام * (ولقد
همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) * يوسف: 24 فمعناه لقد همت به ولم
يهم هو بها لعصمته وهو المراد بقوله تعالى * (برهان ربه) *، فقوله * (وهم بها لولا
أن رأى برهان ربه) * كما تقول: (وقعت لولا أدركتني) أي لم أقع لأنك أدركتني،
ولو لم تدركني لوقعت، فالحاصل أني لم أقع، والحاصل بالنسبة لسيدنا يوسف أنه
لم يهم بها لوجود العصمة وهي برهان ربه وكل ذلك أيضا كان قبل النبوة على
الصحيح، وقد أورد المفسرون في هذه القصة أقوالا متضاربة تزيد على العشرين
أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات التالفة لا ينبغي الالتفات إليها ولا التعويل عليها،
فإن ما وصفوا به سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام في بعض حكاياتهم ننزه بعض
الأتقياء والأولياء والعلماء الذين ليسوا بأنبياء أن يقعوا فيه فضلا عن الأنبياء.
وهكذا نعامل بعض ما ورد في هذا الموضوع بالنسبة للأنبياء مما يوهم ظاهره

400
أنه معصية أما بالتأويل وهو إيضاح المعنى المراد والمقصود حقيقة في القرآن، أو
بالاعتراف بأن ذلك معصية كما قدمنا في قصة سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام
لكنها غير كبيرة ولا خسة فيها، مع ملاحظة الحكمة المقصودة والمرادة وهي أن الذي
لا يتصور منه الخطأ أبدا هو المولى سبحانه وتعالى.
وبعض العلماء اعتبر الأمانة هي العصمة.
[تنبيه]: ويدخل في موضوع عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
عصمتهم من تأثير السحر فيهم أو عليهم، فالأنبياء لا يسحرون وليس للساحر
ولا لأعوانه من الشياطين والجن عليهم من سبيل (*)، وحديث البخاري (221 / 10)
ومسلم (4 / 1719) الذي فيه أن يهوديا سحر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم حديث آحاد معارض للقواعد التي منها قوله تعالى (والله يعصمك من
الناس) ومن الناس الساحر وما يفعله، ومنها قوله تعالى لإبليس (إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان) الإسراء: 65، ومنها قوله تعالى (قال رب بما أغويتني
لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين)
الحجر: 40، والمخلصين بفتح اللام هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين
ليس للشيطان عليهم من سبيل، والسحر نوع من سبل الشيطان على ابن آدم.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان لا سبيل له على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم حيث قال: " إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم " بضم ميم فأسلم
وبفتحها، أي إما أنه أسلم فدخل الإسلام أو أسلم من شره وعمله.
ثم كيف يجوز أن يتخيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل الشئ ولم
يفعله أو بالعكس من تأثير السحر عليه كما جاء ذلك في الحديث المعارض وربما
يتخيل على ذلك أنه بلغ شيئا وهو لم يبلغه؟!!!



* قال الإمام الراغب في " المفردات " ص (226): " والسحر يقال على معان: الأول
الخداع وتخييلات لا حقيقة لها.... والثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من
التقرب منه... وعلى ذلك قوله تعالى (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
السحر)... ".
401
وما ذهب إليه بعضهم من قولهم إن ذلك التأثير متعلق بالأمور الدنيوية وليس
فيما يخص الدين والتبليغ قول لا دليل عليه وهو تعليل باطل عندنا، وفد اطلعنا
على ما كتبوا فيه، وفساده لا يساوي ذكره إلا إن أحتاج الأمر والله الهادي.
ولهذه الأمور صرح الإمام أبو عبد الله الحاكم في كتابه " المدخل إلى كتاب
الإكليل " ص (39) حيث قال:
" وحديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
قالت: طب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولا يفعله.
قال الحاكم: هذا الحديث مخرج في الصحيح وهو شاذ بمرة ".
والذي يؤكد ذلك الشذوذ أنه قد وقع في بعض روايات الحديث كما في
" الفتح " (10 / 230) أن سيدنا جبريل نزل عند ذلك بالمعوذتين... وهذا يخالف
ما هو مشهور من أن المعوذتين مكيتان!!
ولو كان الحديث صحيحا لصح الباطل وهو قول كفار مكة يومئذ فيما حكاه
الله تعالى في كتابه عنهم (إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)
الإسراء: 47، وقال تعالى (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)
الفرقان: 8.
ثم إن الحديث فيه اضطراب في اسم الساحر ونعته ففي بعض الروايات أنه
يهودي وفي بعضها أنصاري وفي بعضها منافق كما تجد ذلك في " شرح مشكل
الآثار " (15 / 179 - 181) للإمام الطحاوي والتعليق عليه، وكذا " الفتح " (10 / 226).
وكذا وقع الخلاف والاضطراب في مدة تأثير السحر!!
ومن ذلك كله نقول بأن الحديث شاذ مردود، والله أعلم.

402
[الصفة الثانية]: صفة الصدق:
يقول الله تعالى في سورة الأنبياء (ووهبنا لهم من رحمتنا) والرحمة هنا هي
النبوة (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) الأنبياء: 50، وقال سيدنا إبراهيم (رب
هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين) الشعراء: 84.
فالصدق صفة واجبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيستحيل عليهم
الكذب وخاصة فيما يتعلق بتبليغ الشريعة.
وحديث أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات آحاد معارض
للآية ويمكن تأويله أن ذلك في حالة الاضطرار.
[الصفة الثالثة]: فطانة الرسل وذكاؤهم عليهم الصلاة والسلام:
لقد بعث الله سبحانه وتعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام ليدعوا الناس إلى
طاعته وعبادته، وأمرهم بمجادلة الكفار ومناظرتهم، ومن ذلك قوله تعالى لسيدنا
رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل:
125، وقال تعالى (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت
من الصادقين) هود: 32، والذي يبعثه الله تعالى لإقناع الناس باتباع دين الله الحق
لا بد أن يكون فطنا ذكيا لأن هذا الأمر لا يصلح للبليد ولا للغبي ولا للمغفل،
ولذلك كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام في القمة من الذكاء والفطانة
والتيقظ، وهذا مصداق قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه
نرفع درجات من نشاء) الأنعام: 83.
[الصفة الرابعة]: تبليغهم ما أمروا بتبليغه:
قال الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل
فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة: 67، وقال تعالى (الذين

403
يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وكفى بالله حسيبا)
الأحزاب: 39 وقال تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام: (قال يا قوم ليس
بي ضلالة ولكني رسول رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم
من الله ما لا تعلمون) الأعراف: 62، وقال تعالى: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات
ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا) الجن: 28.
فهذه الآيات الكريمة جميعها تثبت صفة التبليغ للرسل عليهم الصلاة
والسلام، وتبين أنهم بلغوا جميع ما أمروا بتبليغه بما لا يدع مجالا للشك.
ويمكن أن نعد صفة الأمانة هي تبليغهم كل ما أمروا بتبليغه لا سيما والله
تعالى يقول: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين " ثم لقطعنا
منه الوتين) الحاقة: 46، قال الإمام الرازي في " التفسير " (15 / 30 / 118) " والمعنى
ولو نسب إلينا قولا لم نقله... لأخذنا بيده... ".
[فائدة مهمة]:
وهنا نقف عند بعض النصوص التي وردت مما يتعلق بأشياء علمها النبي صلى الله عليه وسلم
وأمر بكتمانها، أو علمها وأخبر بها أفرادا معدودين، كإعلامه صلى الله عليه وسلم لسيدنا حذيفة بن
اليمان بأسماء المنافقين، وإعلام أبي هريرة بأسماء بعض ملوك الجور وسلاطين السوء
الذين يأتون من بعده، وهذا كله ليس تشريعا وليس مما أمره الله تعالى بإبلاغه
للناس لذلك لم ينتشر عند كافة الناس، وإنما اقتصر تعليمه ذلك لأشخاص قلائل
وربما لواحد فقط كسيدنا حذيفة رضي الله عنه.
ومن هذا الباب يدخل بعض الباطنية فيقول: جاء عن أبي هريرة أنه قال
" حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين أما الأول فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع
مني هذا البلعوم " فهذا الذي أخفاه هو علم أسرار الأولياء وسر الباطن والظاهر
وما إلى ذلك من ترهات معروفة يلهج بها بعض (أدعياء التصوف!!) هكذا يقول
أولئك الباطنيون!!

404
والجواب عليه: أن حديث أبي هريرة أو أثره هذا رواه البخاري في صحيحه
(1 / 216 فتح) وقال الحافظ ابن حجر في شرحه:
" حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء
السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا
على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى
خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء
أبي هريرة فمات قبلها بسنة ".
ثم قال الحافظ هناك:
[قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث
اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطن إنما حاصله الانحلال من
الدين، قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله " قطع " أي قطع أهل الجور رأسه إذا
سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم...] انتهى فتأمل.
[تنبيه مهم] في مسألة الباطن والظاهر والشريعة والحقيقة:
فال بعض الناس: " إن الحقيقة تخالف الشريعة وتخرقها، وإن الباطن يخالف
الظاهر ": وعمدة استدلالهم بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام المذكورة في القرآن
الكريم!!
ونحن نقول لهم: إن هذا خطأ فادح وليس في قصة سيدنا الخضر ما يؤيد
ما تذهبون إليه.
فأولا: هو نبي على الصحيح، وفي ثبوت نبوته بالأدلة ما يهدم هذا كله.
قال الإمام الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (1 / 219):
" قوله (هو أعلم منك) ظاهر في أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو
لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى وهو باطل من القول ".

405
ولنا رسالة خاصة في إثبات نبوته أسميناها " القول العطر في نبوة سيدنا
الخضر " عليه السلام فليراجعها من شاء.
وثانيا: لأن الأمور التي فعلها سيدنا الخضر ليس فيها ما يخالف شرعنا كما
أوضح ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " (1 / 222) حيث
قال:
[قال: القرطبي: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى
وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وكذا قال آخر أنا آخذ عن قلبي عن ربي،
وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.
وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا
الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به
صحيحا، فإن الذي فعله الخضر ليس في شئ منه ما يناقض الشرع، فإن نقض
لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا
وعقلا، ولكن مبادرة سيدنا موسى بالانكار بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك
واضحا في رواية أبي إسحق التي أخرجها مسلم ولفظه " فإذا جاء الذي يسخرها
فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها "، فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في
المحتملات، وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن
مقابلة الإساءة بالاحسان، والله أعلم]. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
فقتل الغلام كان بأمر الله تعالى، وما كان بأمر الله تعالى لا يقال إنه مخالف
للشريعة، وذلك لأن الشريعة هي عبارة عن امتثال أمر الله تعالى وتنفيذه،
واجتناب نهيه، وهو نبي - أي الخضر - وقد قال (وما فعلته عن أمري) أي:
إن هذا تنفيذا لأمر الله تعالى، فأين خرق الشريعة بالحقيقة التي جاء القرآن
بإثباتها؟!
ولا يخفى على أهل العلم أن محققي علماء الإسلام نصوا على كفر من قال

406
أو ادعى بأن الحقيقة تخالف الشريعة أو أن الباطن يخالف الظاهر، وممن نص على
ذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه " الإحياء " (1 / 100) حيث قال:
" فمن قال: إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر فهو إلى
الكفر أقرب منه إلى الإيمان " ا ه‍.
وقد بسط الإمام الغزالي رحمه الله تعالى هذا الموضوع هناك وتوسع فيه ولا بد
من مطالعته مطالعة متمعن.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر أيضا في " فتح الباري " (1 / 221) نقلا عن
القرطبي ما نصه:
[الثانية: ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام
الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة
تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص
بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، يحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم،
لصفاء قلوبهم من الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق
الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها
عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من
تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور " استفت قلبك وإن
أفتوك " (196) قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من
الشرائع فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله
السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى (يصطفي
من الملائكة رسلا ومن الناس) وقال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وأمر
بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه



(196) رواه أحمد (4 / 194) من حديث أبي ثعلبة الخشني بإسناد صحيح، وله شاهد أيضا
في " صحيح مسلم " (4 / 1980) من حديث النواس.
407
الهدى. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك
طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها
عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب]. انتهى من " فتح الباري ".
[تنبيه آخر]: يجب اعتقاد كفر كل من ادعى النبوة بعد سيدنا محمد
صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو
قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) الأنعام: 93،
ويؤخذ من هذه الآية أيضا كفر من ادعى أنه يوحى إليه ولو لم يدع النبوة، هكذا
صرح به أهل العلم في باب الردة من كتب الفقه [أنظر مغني المحتاج (4 / 135) وغيره].
ومنه يعلم كفر القاديانية أتباع غلام أحمد قادياني الذي ادعى النبوة الظلية
أي أن نبوته تحت ظل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في الباكستان قبل نحو مائة
عام.
وكذلك يعلم كفر البهائية الذين يدعون أن مؤسس دعوتهم واسمه (علي
محمد) أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن قرآنه أفضل من قرآن سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم،
وقد ولد هذا الرجل في بلدة شيراز في إيران سنة 1819 م، وأتباعه يستعملون التقية
أحيانا للتمويه في سبيل نشر دعوتهم فهؤلاء لا يجوز الشك في كونهم خارجين عن
دائرة الإسلام والله العاصم.
[تنبيه مهم جدا]: ذهب الشيخ العز ابن عبد السلام رحمه الله تعالى
الملقب عند بعض أهل العلم بسلطان العلماء إلى أن النبوة أفضل من الرسالة!!
وهو قول مستشنع وباطل مردود لا يجوز الالتفات إليه ولا التعويل عليه!! وقد
علل ذلك بما ذكره في كتابه " قواعد الأحكام " (2 / 236) حيث قال:
[(فائدة): إن قيل: أيهما أفضل النبوة أم الإرسال؟
فنقول: النبوة أفضل، لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب من صفات

408
الجمال ونعوت الكمال وهي متعلقة بالله من طرفيها (197)، والارسال دونها (198)،
- لأنه - أمر بالابلاغ إلى العباد فهو متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف
الآخر (199)، ولا شك أن ما يتعلق من طرفيه أفضل مما يتعلق به من أحد طرفيه (200)
والنبوة سابقة على الإرسال (201)، فإن قول الله لموسى (إني أنا الله رب العالمين)
مقدم على قوله (اذهب إلى فرعون إنه طغى)، فجميع ما تحدث به قبل قوله
(اذهب إلى فرعون) نبوة، وما أمره بعد ذلك من التبليغ فهو إرسال (202).
والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب له، والإرسال إلى
أمر الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده ما أوجبه عليهم من معرفته وطاعته واجتناب
معصيته، وكذلك الرسول لما قال له جبريل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
إلى قوله (إلى ربك الرجعى) كان هذا نبوة، وكان ابتداء الرسالة حين جاء



(197) هذا تحليل باطل واستنتاج فاسد!! وذلك لأنه بناه على التعريف الباطل في تعريف
النبي وهو أنه: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه!! وقد بينا بطلانه بأدلة العقل
والنقل وذكرنا أن التعريف الصحيح للنبي هو: من أوحي إليه بشرع رسول وأمر
بتبليغه، وأن كلا من النبي والرسول مأموران بالتبليغ لقوله تعالى (وما أرسلنا من
قبلك من نبي ولا رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) فبين الله تعالى أن
كلا منهم مرسل، أي مأمور بالتبليغ، فافهم!!
(198) كلام فاسد غير صحيح!!
(199) من أين أتى بهذه النظرية وما دليله عليها؟! ونصوص الكتاب والسنة تعارضها!!
(200) تحليل باطل فاسد!!
(201) فكان ماذا؟!! ولا أدري كيف يعتبر أن الأفضل ما كان أولا!! وسيدنا محمد صلى
الله عليه وآله وسلم آخر الأنبياء والمرسلين وهو أفضلهم!! ثم لا أدري كيف يعتبر
الرتبة الأولى أفضل، وأفضل أحوال النبي أو الرسول ما كان آخرا، لأن أحوالهم
لا تزال في ترق وتشريف وتكريم وقرب!! فكيف عكس وقلب الأمر؟! لا أدري!!
(202) وليس في هذا كله ما يدل على قصدك ومرادك الذي هو أن النبوة أفضل من الرسالة
البتة!!
409
جبريل ب‍ (يا أيها المدثر قم فأنذر) (203)].
وقول ابن عبد السلام في مواضع أخرى بأن الرسل أفضل من الأنبياء لا يعذره
ولا يسوغ مقالته الباطلة الشنيعة تلك إطلاقا، وما حاول أن يتعذر له به بعض
الناس ليس بشئ (204)، لذلك صرح العلماء بنقد كلام ابن عبد السلام هذا
ووجوب اجتنابه، قال ابن حجر الهيتمي في هذه المسألة بالخصوص في " فتاواه
الحديثية " ص (152):
" ووقع لابن عبد السلام رحمه الله فيها ما لا ينبغي فاجتنبه. وقول السائل:



(203) وليس في هذا كل أيضا ما يدل على قصدك ومرادك الذي هو أن النبوة أفضل من
الرسالة البتة!!
(204) وقد استرسل بعض (الدكاترة الشرعيين!!) في دفاعه الهزيل عن كلام العز بلا دليل
مبتعدا عن المنطق السليم!! والدليل القويم!! حتى بلغ به الأمر أن يدافع عن كلام
أشد شناعة من الكلام الأول!! حيث قال: " وقد ذكر صاحب الكواكب الدرية
أن تفضيل الولاية على النبوة لا يعني أن الولي أفضل من النبي لأن ذلك باطل
الإجماع " وأقول لهذا القائل: لا تزال تنزلق من هاوية إلى هاوية فبعد أن نافحت
ودافعت عن كون النبوة أفضل من الرسالة وفهم من تقريرك لذلك أن النبوة ولاية لأنها
تعلق بين العبد وربه ولا دخل للعباد فيها وهو كلام باطل فاسد، عدت إلى شئ
واحد ففرقت وأيدت بل وتبنيت قول من قال الولاية أفضل من النبوة!! فما هو الفرق
بينهما؟! بين ولاية النبي ونبوته أيها المتفلسف؟!
وهذا ما حداه في موضع آخر من مقالته أن يفرق بين علم النبي ونبوته وإرساله!!
وكان علم النبي غير معلومات النبوة والرسالة!! فقد قال المشار إليه وهو يظن نفسه
أنه أتى بكلام بديع: " فتكون موهبة الرسول عليه الصلاة والسلام من العلم أفضل
من موهبته من الانزال المتضمن للنبوة والإرسال " والعياذ بالله!!
فنقول له: وهل علم النبي إلا الانزال؟! وهل الانزال إلا أوامر الله تعالى ونواهيه
وما بخير به نبيه من المعلومات؟! وهي شئ واحد فمن أين أتت فلسفة التفريق؟!
وعلى كل حال فنحن ننصح ذاك الدكتور أن يعترف بالصحيح المطابق للواقع وأن لا
يجادل ويماري بالباطل والله تعالى يتولى وهدانا وهداه، والحمد لله رب العالمين.
410
وهل ولاية النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من نبوته الخ كان مراده بهذا أيضا المسألة المشهورة
عن ابن عبد السلام وهي قوله: (إن نبوة النبي أفضل من رسالة لأن النبوة هي
الطرف المتعلق بالحق، والرسالة هي الطرف المتعلق بالخلق، وما تعلق بالحق
أفضل مما تعلق بالخلق) وهو ضعيف جدا ومن ثم ضعفه غير واحد من
المتأخرين، وبيان ضعفه أن الرسالة ليس لها طرف من جهة الخلق فقط بل لها
طرفان، لأن الرسول هو المبلغ عن الله تعالى الأحكام للناس فهو متلق من
جهة الحق وملق للخلق، فكانت رسالته التي تأهل بها إلى الخلافة عن الله تعالى
أفضل من مجرد نبوته لأنه لم يتأهل بها إلى المرتبة العلية " (205) انتهى كلام العلامة
ابن حجر.
وللعز ابن عبد السلام رحمه الله تعالى مسائل ذكرها العلماء أخطأ فيها فلا
يقتدى به فيها (206)، والله الموفق والهادي.



(205) ولم يذكر الدكتور المشار إليه هذا الكلام عن ابن حجر لأنه بنقله سيتضح بطلان دعواه
ومدافعته وتمحلاته!! وإنما اقتصر على قول كلام ابن حجر " ووقع لابن عبد السلام
رحمه الله فيها ما لا ينبغي فاجتنبه " ثم قال - الدكتور - عقب ذلك: " قلت: هذا
التحذير لا مبرر له خاصة بعد أن تطلع عل ما قرره العز في هذه المسألة "!!
ونحن نقول له: لقد اطلعنا على ما قرره فيها فوجدناه باطلا فاسدا وقد تقدم الكلام
عليه فاعرف ذلك!! ثم قوله في كلامه " هذا التحذير لا مبرر له " خطأ من ناحية
العربية والصواب أن يقول " لا مسوغ له " لأن التبرير ليس من معانيه التسويغ وإيجاد
العذر، فلا وجه له وإن استعمله بعض من يدعي الأدب!! فافهم!! [أنظر مادة (سوغ) ومادة (برر) في القاموس]!!
(206) وإنني أذكر بعضها للنصح ولئلا يقع أحد فيما وقع فيه فيحتج بكلامه فأقول:
1 - قوله (لا يمسح وجهه في دعاء القنوت إلا جاهل)!!
قال العلامة المناوي في " فيض القدير " (1 / 369) عند شرح حديث " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه " ما نصه:
" وفيه رد على ابن عبد السلام في قوله لا يمسح وجهه إلا جاهل!! ومن ثم قيل هي
هفوة... ".
2 - قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (7 / 198):
" ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع
بمكة والمدينة ".
3 - مسألة اعتراضه على الحافظ ابن الصلاح في صلاة الرغائب، والصواب حليف
ابن الصلاح في هذه المسألة لا مع العز، وقد أبرق العز فيها وأرعد كثيرا من غير
فائدة، وليس ههنا محل بسط الكلام في الرد عليه في هذه المسألة. وقد وافقني على
هذه المسألة سيدي المحدث عبد العزيز ابن الصديق عندما ذكرتها له، ثم وقفت على
كلامه عليها في كتابه " وصول التهاني " ص (67) فوجدته يقول هناك:
" ولكن العز ابن عبد السلام أخطاه التوفيق في رده الأول والثاني على ابن الصلاح
رحمهما الله تعالى رغم كون الموضوع سهلا بسيطا ".
4 - وقال الإمام الأسنوي في كتابه " التمهيد في تخريج الفروع على الأصول " ص (114):
" وهذا النص الذي ذكرته صريحا - عن الإمام الشافعي - أيضا فيه رد أيضا على ما
قاله الشيخ عز الدين في القواعد: إنه لا ثواب على حصول المصائب والآلام، وإنما
الثواب على الصبر عليها، أو الرضى بها... ".
5 - قوله (إن التوسل ينبغي أن يكون مقتصرا على التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم) وهو خطأ
إن ثبت عنه، لمخالفته الأدلة الصحيحة الصريحة في ذلك.
وهناك عدة مسائل أخطأ فيها أيضا لا أود أن أطيل ههنا بذكرها نذكرها إن شاء الله
تعالى في موضع آخر والله الموفق.
411
الإيمان برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعموم بعثته
أساس الشهادة الثانية
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى، وأنه خاتم
الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وهو المبعوث
إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضيا).
الشرح:
الإيمان برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أصل معنى الشهادة
الثانية، قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر
الناس لا يعلمون) سبأ: 28، وقال الله تعالى (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا
اعتدنا للكافرين سعيرا) الفتح: 13، وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله
ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض
ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا
للكافرين عذابا مهينا) النساء: 151.
ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله أن تعلم وتعتقد وتؤمن وتصدق بأن سيدنا
محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي عبد الله ورسوله إلى كافة الخلق، والمراد بالخلق
هنا الإنس والجن، وكذا الملائكة وهم متعبدون بما يناسبهم من شريعتنا وهذا من
خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا) الفرقان: 1 و (العالمين) بفتح اللام هنا هم العقلاء من الخلق
وهم الملائكة والإنس والجن.
وقال تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه

413
بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن
ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه
جهنم كذلك نجزي الظالمين) الأنبياء: 29.
قال سيدي الإمام المحدث عبد الله بن الصديق في كتابه " دلالة القرآن المبين
على أن النبي أفضل العالمين " ص (68):
" في هذه الآية إنذار إلى الملائكة، وفي آية أخرى (وأوحي إلي هذا
القرآن لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام: 18، فيؤخذ منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى
الملائكة، ذكر هذا الاستنباط الحافظ السيوطي في " الأرائك في إرسال النبي إلى
الملائك " وهو استنباط وجيه، يؤيده ما تقدم من قتال الملائكة معه صلى الله عليه
وسلم في غزوة بدر، وما سبق في سورة الإسراء من تعبدهم بحضور الصلاة معنا،
وما ثبت في الصحيح أنهم يحضرون خطبة الجمعة (207)، ويحضرون معنا صلاة
الجماعة، وأن الإمام إذا قال (ولا الضالين) قالوا: آمين، فمن وافق تأمينه
تأمينهم غفر له. وصح أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعدون أهل بدر فيكم؟
قال خيارنا أو من خيارنا، قال جبريل عليه السلام: كذلك أهل بدر فينا (208).
إلى غير ذلك مما يدل على أنهم متعبدون بما يناسبهم من شريعتنا وهذا من خصائص
نبينا صلى الله عليه وسلم ".
والشهادة الثانية تتبعها أحكام عديدة، منها الإيمان بصفاته وعلاماته صلى الله عليه وسلم
المنقولة إلينا بالتواتر والتي منها: كونه صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وهم
أشرف قبائل العرب ولهم الصدارة والمنزلة الرفيعة بين العرب، ويجب معرفة أنه
صلى الله عليه وسلم ولد بمكة وبعث بها أي نزل عليه الوحي بالنبوة وهو بها، ثم هاجر إلى المدينة
وأنه مات فيها ودفن فيها، وأنه صادق في كل ما أخبر به عن الله تعالى سواء كان
من أخبار من قبله من الأمم والأنبياء وبدء الخلق أو مما أخبر به عما سيحدث في



(207) رواه البخاري (6 / 304).
(208) رواه البخاري (7 / 312 فتح).
414
المستقبل في هذه الدنيا وفي الآخرة، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال
العباد وأقوالهم.
ويجب اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق والإجماع منعقد على ذلك،
والأنبياء يلونه في الفضل ثم الملائكة هذا هو الصحيح المشهور.
وتفضيل بعض الرسل على بعض منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم
درجات) البقرة: 253.
وفضائله صلى الله عليه وآله وسلم مذكورة في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى
(ورفعنا لك ذكرك) وقوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) وقوله تعالى
(فإنك بأعيننا) وقوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
ومن فضائله أن الله تعالى ذكر أعضاءه الشريفة في كتابه الكريم ومن ذلك
أنه ذكر وجهه فقال (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول
وجهك شطر المسجد الحرام) وذكر قلبه فقال سبحانه (نزل به الروح الأمين *
على قلبك لتكون من المنذرين)، وذكر صدره الشريف فقال سبحانه (ألم نشرح
لك صدرك)، وذكر ظهره فقال سبحانه (الذي أنقض ظهرك)....
وقد نادى الله تعالى كل نبي باسمه فقال (يا آدم) (يا نوح) (يا
إبراهيم) (يا موسى) وناداه بقوله (يا أيها الرسول) (يا أيها النبي) وكل
ذلك زيادة في تشريفه وتوقيره.
وقد أخذ الله عز وجل الميثاق والعهد من الأنبياء أن يؤمنوا به، وأن ينصروه
إن أدركوه إذ قال سبحانه ولم يزل قائلا عليما تنبيها لقدر نبيه وتفخيما: (وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال
فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) آل عمران الآية: 81.

415
ولهذا قال سادتنا علي ابن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم وقتادة
والسدي وقريب منه قول الحسن وطاووس كما ذكر ذلك الطبري وابن كثير وغيرهما
من أهل التفسير: ما بعث الله نبيا من الأنبياء من لدن نوح إلا أخذ الله منه الميثاق
ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولينصرنه إن خرج في زمنهم، ولهذا فما من نبي من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام إلا عنده علم به صلى الله عليه وسلم وبمبعثه وزمانه ومهاجره وعلاماته
وأوصافه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى عن اليهود الذين أخبرتهم أنبياؤهم بوصفه صلى الله عليه وسلم: (فلما
جاءهم ما عرفوا كفروا به) البقرة: الآية 89.
بل لم تعرف له صلى الله عليه وسلم قدره الأنبياء فحسب، وإنما عرفت له قدره الأشجار
والأحجار وشهدت له بالرسالة لتحث الناس على الإيمان به.
فأما الأشجار:
فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر،،
فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين تريد؟ " قال: إلى
أهلي. قال: " هل لك في خير؟ " قال: وما هو؟ قال: " تشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله "، قال: ومن يشهد على ما
تقوله؟ قال: " هذه السلمة " - يعني الشجرة - فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي
بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا - أي شقا - حتى قامت بين يديه
فأشهدها ثلاثا فشهدت ثلاثا أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي
إلى قومه وقال: إن اتبعوني آتك بهم وإلا رجعت فكنت معك. رواه الدارمي
والطبراني في الكبير وأبو يعلى والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح [أنظر " مجمع
الزوائد " (8 / 292)].
وأما الأحجار وشهادتها:
فقد روى مسلم في صحيحه (4 / 1787) والدارمي في مسنده وغيرهما بأسانيد
صحيحه من حديث جابر بن سمرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إني لأعرف
حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ".

416
وفي مستدرك الحاكم (2 / 620) عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: " كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال
السلام عليك يا رسول الله " قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وأقره الحافظ الذهبي.
ومن تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم وصفه بالسيادة فنقول عند ذكر اسمه
(سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أو (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) ولا عبرة بمن خالف في ذلك وأنكر
متأثرا بمذهب المبتدعة المتمسلفين!!
قال تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " وقال
تعالى عن سيدنا يحيى (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) آل عمران: 39، وقال
صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد الناس " رواه البخاري (5 / 395) ومسلم (1 / 186) وغيرهما، وقال
الصحابي الجليل سيدنا سهل بن حنيف للنبي صلى الله عليه وسلم: " يا سيدي والرقى
صالحة... " رواه أحمد (3 / 486) والحاكم في المستدرك (4 / 413) وغيرهما وهو صحيح
كما بينته في " التناقضات الواضحات " الجزء الثاني ص 72 ورددت على من
خالف!! وتناقض!!
وقال عمر بن الخطاب كما في البخاري (7 / 99): " أبو بكر سيدنا وأعتق
سيدنا، يعني بلالا "، وفي البخاري (5 / 306) قال صلى الله عليه وسلم عن سبطه الحسن: " إن
ابني هذا سيد "، وقال أبو كثير وهو من التابعين: " كنت مع سيدي علي بن أبي
طالب... " رواه الحميدي (1 / 31) وأبو يعلى في " مسنده " (1 / 372) بإسناد صحيح،
فهذه النصوص جميعها تثبت السيادة وخاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما قوله صلى الله عليه وسلم " أنا
سيد الناس " وهو متواتر، فمن قال: لا يجوز إطلاق السيادة عليه صلى الله عليه وسلم لا خارج
الصلاة ولا داخلها وتعذر بأن هذا قد يؤدي إلى الاطراء المذموم كفر بلا مثنوية
وخرج عن الإسلام، وانظر " سير أعلام النبلاء " (10 / 464) للاستزادة.
وقال الحافظ السخاوي في " القول البديع " ص (108):
" وقرأت بخط بعض محققي من أخذت عنه ما نصه: الأدب مع من ذكر

417
مطلوب شرعا بذكر السيد، ففي حديث الصحيحين: قوموا إلى سيدكم، أي
سعد بن معاذ، وسيادته بالعلم والدين، وقول المصلين، اللهم صل على سيدنا
محمد فيه الإتيان بما أمرنا به، وزيادة الأخبار بالواقع الذي هو أدب فهو أفضل
من تركه فيما ظهر من الحديث السابق ".
وللسيد المحدث الحافظ الشريف أحمد ابن الصديق الغماري رسالة في موضوع
السيادة هذا سماها " تشنيف الأذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه عليه الصلاة
والسلام " فليرجع إليها من أراد التوسع ولينظر ما كتبناه في التعليقات على كتابنا
" صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ص (203 - 205).
وقال سيدي عبد الله ابن الصديق أعلى الله تعالى درجته في كتابه القيم " دلالة
القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين " ص (9) ما نصه:
[(الأول): قد يظن بعض الناس أن أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم ليست ذات أهمية
في الدين، وهذا خطأ كبير ممن يظنه، بل لها أهمية كبرى، لأن تصحيح العقيدة
يتوقف عليها، لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الجهل بالدين أصوله وفروعه.
ولقد سئل بعض أهل العلم مرة: ما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من نوح
عليه السلام؟ مع أن نوحا لبث يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، بنص
القرآن فلم يسعفه علمه بدليل.
وقال لي بعض الصحفيين مرة: أنا أعتقد أن عيسى أفضل من النبي عليهما
الصلاة والسلام. قلت: لم ذلك؟ قال: لأن عيسى ولد من غير أب، فلم
يكن من النطفة المستقذرة. قلت له: فعلى هذا تكون ناقة صالح عليه السلام
أفضل من عيسى أيضا. لأنها خرجت من صخرة، ولم تخرج من الفرج الذي
هو مخرج البول! ولو كان التفضيل منوطا بهذا، لكان آدم عليه السلام أفضل
الرسل على الإطلاق، لأنه خلق من غير أب ولا أم، فلم تقذفه نطفة، ولا ضمه
رحم. ولأنه عاش ألف سنة، كما في الصحيح، دعا فيها أولاده إلى الله تعالى.

418
ولكن التفضيل في الحقيقة، منوط بخصال الكمال التي يتحلى بها النبي، مع المزايا
التي يهبها الله تعالى له. على هذا الأساس يتفاضل الرسل والأنبياء وغيرهم، وهذا
الأساس نفسه، هو مبنى أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم. أما خصال الكمال التي كان يتحلى
بها فينبئ عنها قوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) ولم يثن بهذا على نبي
ولا رسول. فأفاد أنه متفرد بهذا الخلق.
وسئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:
كان خلقه القرآن. معنى هذا الجواب الوجيز الجامع: أن ما في القرآن الكريم
من أخلاق وآداب وفضائل ومكارم يتمثل في شخصه عليه الصلاة والسلام. ولذا
قال البوصيري رحمه الله تعالى:
فاق النبيين في خلق وفي خلق * ولم يدانوه في علم ولا كرم
وأما المزايا التي وهبه الله إياها فكثيرة. مثل دفاع الله عنه، وندائه بوصف
النبوة والرسالة، ونهى المؤمنين أن ينادوه باسمه المجرد، وتجنيد الملائكة للقتال
معه، وإنذارهم على لسانه، وعموم بعثته، وختمه للنبوة، وإقسام الله بحياته،
وغير ذلك مما يتحدث عنه هذا الكتاب.
ولا شك أن إثبات هذه المزايا، وتلك الأخلاق له صلى الله عليه وسلم، واعتقاد اتصافه بها،
واجب شرعا. تتوقف عليه صحة عقيدة المسلم، كما صرح به العلماء، لأن كتاب
الله تحدث بها صراحة ووضوح. بله السنة المتواترة والإجماع عليها من الأمة بجميع
فرقها. وهذا معنى أفضليته عليه الصلاة والسلام. لأننا نعلم أنه لا يوجد نبي
ولا رسول ولا ملك جمع هذه الصفات كلها غيره. وإذا فلا يوجد من يساويه،
فضلا عن أن يفوقه. ومن هنا قطعنا بأفضليته عليه الصلاة والسلام، كما قطعنا
بخطأ من فضل الملائكة أو الرسل عليه، وهو - أعني من فضل ملكا أو رسولا
عليه - إما متناقض لاعتقاده ثبوت معنى الأفضلية له صلى الله عليه وسلم، مع إثبات لفظها
لغيره، وإما غافل عن أن ثبوت المعنى لشئ، يلزمه ثبوت اللفظ لذلك الشئ،
ضرورة أن اللفظ لازم للمعنى وتابع له.

419
(الثاني): قد يقال: جاءت أحاديث تفيد عدم أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي
قوله عليه الصلاة والسلام - لمن قال له: يا خبر البرية - (ذاك إبراهيم) وقوله
عليه الصلاة والسلام: " لا تفضلوني على يونس "، وقوله صلى الله عليه وسلم (يصعق الناس
فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بالعرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي
بصعقته يوم الطور) وقوله عليه الصلاة والسلام - من حديث - (فعرفت فضل
علمه بالله علي) يعني جبريل عليه السلام. ولنا في الجواب عن هذه الأحاديث
مسلكان:
(الأول): الترجيح. وذلك إن الأحاديث المذكورة أخبار آحاد، والأفضلية
ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع، فتكون راجحة بلا نزاع.
(الثاني): الجمع. وهو من وجهين:
(أحدهما): أن تلك الأحاديث خرجت مخرج التواضع، مع الإشارة إلى
حفظ رتبة يونس عليه السلام، حتى لا يتسرب إلى النفوس ما يغض من مقامه
الكريم، بالنسبة لما حصل له، على أن حديث الصعق لا علاقة له بالأفضلية،
لأن موسى عليه السلام إن كان لا يصعق يوم القيامة، مجازاة له بصعقة يوم
الطور، فالأمر واضح. وإن كان يصعق ويفيق أول واحد فتلك مزية حقا؟
يقابلها من جانب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم مزايا: أهمها الشفاعة العظمى التي
يتأخر عنها موسى نفسه، ويتقدم لها نبينا صلى الله عليه وسلم. تتلوها شفاعات منه مقبولة. حتى
يقول له مالك خازن النار: ما تركت لغضب ربك في أمتك من بقية. وحتى
يناديه ربه: أقد رضيت يا محمد؟ فيقول: أي رب رضيت. ثم تقدمه لباب
الجنة يستفتحها، فيقول له خازنها: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك.
(ثانيهما): أن تلك الأحاديث صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله
بأفضليته عنده. بيان ذلك: أن الله تعالى والى إفضاله على نبيه وقتا بعد وقت،
ولحظة بعد لحظة. فكان أول ما قال له في الإنذار (وأنذر عشيرتك الأقربين)

420
ثم (ولتنذر أم القرى ومن حولها) ثم (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا
ونذيرا) ثم صرف إليه الجن، وبعثه إليهم أيضا. ثم عمم بعثته فقال (تبارك
الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) ثم أسرى به وأراه من آياته،
ما زاده رفعة وعلوا، ثم لما أمره بالجهاد أمر الملائكة بأن يجاهدوا معه، ويكونوا
من جنده. وهكذا كلما مرت على النبي صلى الله عليه وسلم لحظة، زاد في نفسه فضلا، ونال
من مولاه موهبة. وكلما نزلت عليه آية أو سورة، ازداد بها علما وقربا. فكان علمه
بأفضليته على المخلوقات، متأخرا عن صدور تلك الأحاديث منه وقد قال صلى الله عليه وسلم
بعدها " أنا سيد ولد آدم "....، ولما شمس البراق حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم ركوبه
ليلة الإسراء قال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فوالله ما ركبك أحد أكرم على
الله منه، فأرفض البراق عرقا. وجبريل عليه السلام ركب البراق مع الأنبياء،
فهذه شهادة منه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه ومن الأنبياء عليهم السلام].
انتهى كلام " سيدي " عبد الله ابن الصديق أعلى الله تعالى درجته.
معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
لقد أيد الله تعالى أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام بالمعجزات، حيث
أظهرها على أيديهم ليصدقهم الناس وليعترفوا بأنهم رسل الله وأنبيائه، وكأن الله
سبحانه وتعالى يقول للناس عند إظهار المعجزات على أيدي الرسل والأولياء: لقد
صدق عبادي (الأنبياء والرسل) في كل ما يبلغونه عني.
والمعجزة مأخوذة في اللغة من العجز، وهو الضعف وهو بعكس معنى
القدرة، لأن الناس يضعفون أمامها عن الإتيان بمثلها.
والمعجزة أمر خارق للعادة مقترن بالتحدي مع دعوى الرسالة والنبوة ولا
يمكن معارضتها.
والأمر الخارق للعادة خمسة أنواع:
1 - المعجزة: وهي التي تظهر على أيدي الأنبياء، وقد عرفناها، وبعض العلماء

421
قسم المعجزة إلى قسمين، الأول: ما يظهر قبل بعثة الرسول والنبي ويسمى
إرهاصا، كالطير الأبابيل وحجارة السجيل التي سحقت جيش أبرهة وردته عن
بيت الله الحرام خائبا هالكا مرذولا فكانت إرهاصا لمبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
والثاني: ما يحدث على يدي النبي بعد مبعثه وهي المعجزة.
2 - الكرامة: وهي الأمر الخارق للعادة الذي يظهره الله تعالى على يد المؤمن
التقي الصالح المنقاد للنبي، ومن علامات هذا المؤمن أن تكون عقيدته صحيحة
وأن يكون قد تعلم وعرف ما فرضه الله عليه ولذلك قال العلماء (ما اتخذ الله
من ولي جاهل)، فمن ظهرت على يده خوارق ولم يكن مستقيما شرعا - اعتقادا
وعبادة - فليس بولي، وما ظهر على يديه ليس كرامة، والعوام لا يميزون بين
الولي التقي العالم إلا بالمنظر والمظهر فيحسبون بعض الناس أولياء أخذا بمظاهرهم
وأن لهم كرامات والواقع بخلاف ذلك، فتنبه لذلك ولا تغفل عنه.
3 - الإعانة: وهي أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى لانسان عادي ليس وليا
فينقذه بها من ورطة مثلا أو يخرجه من ضائقة، كما جاء في الحديث الصحيح في
الثلاثة التي انفرجت الصخرة عن فم الغار الذي دخلوا فيه بعدما سدته فخرجوا
منه ونجوا.
4 - الإهانة: وهو أمر خارق للعادة يحدثه الله تعالى ضد مراد شخص يدعي
الولاية أو النبوة على عكس مراده ودعواه، كما روي أن مسيلمة الكذاب جاء لبئر
مالح ماؤه فتفل فيه ليصبح ماؤه حلوا فازدادت ملوحته وصار كنقاعة الحناء وغاض.
5 - الاستدراج: وهو أمر خارق للعادة أيضا يحدث على يد من يدعي النبوة أو
الولاية وهو كاذب فيقع الأمر وفق مراده مع أن حاله يدل على أنه غير مستقيم،
وبعض الفسقة اليوم يظنون أن ما يفعلونه أو يحصل على أيديهم كرامات!! فالأمر
امتحان واختبار واستدراج لهم وللناس ليتبين هل سيتوب ويتقي الله تعالى أم سيبقى
مغرورا بباطله؟! قال تعالى (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم

422
إن كيدي متين) القلم: 45 وينبغي أن نعلم أو نتذكر هنا أن طوائف من الكفار
كالبوذيين يضربون أنفسهم بالسيوف والرماح ولا تؤثر فيهم ويمشون على الجمر
والنار فلا تحرق أرجلهم ولله في خلقه شؤون!!
ومن الأمور الباطلة قول بعضهم (ما صح أن يكون معجزة لنبي صح أن
يكون كرامة لولي) فإن هذه العبارة فاسدة المعنى، ولو قال بها بعض العلماء،
لأن القرآن مثلا هو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح بحال أن يكون كرامة لولي، يؤتيه
الله كتابا مثله، وغيره كثير، فتنبه لذلك.
سرد بعض معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعض معجزات الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام فعلينا أن نؤمن ونصدق بها، فمن تلك المعجزات:
1 - معجزات سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: منها انقلاب العصى إلى حية
حقيقية وابتلاعها حبال وعصي السحرة، قال تعالى: (وجاء السحرة فرعون
قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين * قالوا
يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا
أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن الق عصاك
فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك
وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب
موسى وهارون) الأعراف: 122.
ومن معجزاته أنه ضرب البحر بعصاه فانفلق فمر بنو إسرائيل منه وخرجوا
فلما دخل في البحر فرعون وجنوده عاد البحر كما كان فغرقوا قال تعالى (فلما تراءا
الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين *
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود
العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا

423
الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) الشعراء: 67.
2 - بعض معجزات سيدنا عيسى عليه السلام: قال الله تعالى (إذ قال الله يا
عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم
الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق
من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني، وتبرئ الأكمه
والأبرص بإذني، وإذا تخرج الموتى بإذني، وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم
بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) المائدة: 110 فهذا بيان
معجزات سيدنا عيسى وليس بعد بيان القرآن بيان.
بعض معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
1 - القرآن الكريم: لما كان سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سيد
الأنبياء والمرسلين وخاتمهم فلا نبي بعده أعطاه الله معجزة خالدة مستمرة إلى قيام
الساعة وهي القرآن الكريم الذي يبلى ثوب الدهر أمامه وإعجازه جديد، ويهرم
الزمان ورونقه إلى مزيد، والذي ألجم به تحدي العرب العرباء، وأعمدة البلغاء
والفصحاء والشعراء، والذي لا يزال في كل عصر ووقت يكتشف الناس صدق
أخباره وأنبائه، لما حواه من بيان جميع مرافق الحياة والأخذ بأيدي المجتمعات
الإنسانية إلى الرقي والارتقاء، ولم يأت أحد بكتاب يعجز الخلق بمن فيهم من
البلغاء والفصحاء أن يأتوا ولا بسورة من مثله، تصديقا لما جاء به سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء: 88.
ويتجلى الإعجاز فيه بأمور عديدة، منها: البلاغة والفصاحة وعدم استثقال
كلماته وإيجازه في العبارة مع عظم المعنى وإخباره عما كان وعما يكون، وأن الناس
يكتشفون كل يوم في العلوم الكونية ما يصدق معلوماته، وأن قارئه لا يمل من
قراءته إلى غير ذلك مما هو مبسوط ومدون في الكتب المتحدثة عن إعجاز القرآن،
ومن إعجازه أشياء غير معروفة لهذا اليوم تظهر شيئا فشيئا.

424
ومن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم حفظه من أيدي المحرفين والمبدلين،
فلا يستطيع الخلق جميعا أن يتلاعبوا به لقوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحافظون).
2 - ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم الإسراء والمعراج المذكور في سورة الإسراء (سبحان الذي
أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه
من آياتنا) الإسراء: 1. ومنها انشقاق القمر قال الله تعالى (اقتربت الساعة وانشق
القمر) وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وهو متواتر، وكذلك حنين الجذع،
ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة حتى روى الجيش بعدما عطشوا، وتكثير
الطعام، وكلها متواترة كما في كتاب " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للمحدث
الكتاني.
ومنها ما رواه مسلم في الصحيح (4 / 1782) من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ".
وغيرها كثير وكثير وكلها معجزات شاهدة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، والله
الموفق والهادي.
واعلم أن منكر معجزات الأنبياء كافر ضال.

425
الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون
ومما يجب معرفته أيضا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء بعد موتهم،
للنصوص الشرعية الواردة في ذلك، والتي منها حديث سيدنا أنس رضي الله عنه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " وهو صحيح (209)، ومنها
حديث سيدنا عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حياتي خير لكم.... ومماتي
خير لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا
استغفرت لكم " وهو صحيح أيضا (210).
وعن عبد الله بن مسعود أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله في الأرض ملائكة
سياحين يبلغوني عن أمتي السلام " وهو صحيح (211).
قال ابن حزم في " الفصل " (1 / 89):
" وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضا أو
نافلة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فلو لم يكن روحه عليه السلام
موجودا قائما لكان السلام على العدم هدرا " انتهى.
وأما حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: فثابتة بالنص والإجماع، وفي حديث الإسراء
والمعراج الثابت في الصحيحين والذي فيه التقاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء الذين
قبله أكبر دليل على ذلك، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الأنبياء أحياء في قبورهم



(209) رواه أبو يعلى (6 / 146) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8 / 211): " رواه أبو يعلى
والبزار ورجال أبي يعلى ثقات ".
(210) رواه البزار (1 / 397 كشف الأستار) وغيره، قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد "
(9 / 24): " رواه البزار ورجاله رجال الصحيح " وانظر أيضا كتابنا " التناقضات
الواضحات " (2 / 296 - 305) لترى الرد على من حاول تضعيفه.
(211) رواه الإمام أحمد في المسند (1 / 144) وابن حبان في الصحيح (3 / 195) وغيرهما وهو
صحيح.
426
يصلون " رواه أبو يعلى في " مسنده " (6 / 147) وغيره وهو صحيح، والمراد بقوله
" أحياء " هو الحياة التي نفهمها نحن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطبنا إلا بما نفهم،
ومن أول الحياة بأنها حياة خاصة أو غير ذلك فقد أبعد النجعة وهو تأويل باطل،
والحق ما ذكرناه.
وقال الإمام الحافظ عبد الوهاب السبكي رحمه الله تعالى في " الطبقات "
(1 / 327): " والناس من خسمائة وثلاثة وستين سنة يخطبون في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم... وهو حاضر يبصر ويسمع ".
وقال الحافظ السخاوي في " القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع "
ص (171):
" يؤخذ من هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم حي على الدوام، وذلك أنه محال عادة
أن يخلو الوجود كله من واحد يسلم عليه في ليل أو نهار ونحن نؤمن ونصدق بأنه
صلى الله عليه وسلم حي يرزق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض، والإجماع على
هذا ".
وقال ابن حزم في " المحلى " (1 / 25):
" وأما الشهداء فإن الله عز وجل يقول (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله
أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله) ولا خلاف
بين المسلمين في أن الأنبياء عليهم السلام أرفع قدرا ودرجة وأتم فضيلة عند الله
عزو جل وأعلى كرامة من كل من دونهم، ومن خالف في هذا فليس مسلما ".
ومن شاء الاستزادة في هذا الموضوع فعليه برسالة الحافظ البيهقي " حياة
الأنبياء " ورسالة الحافظ السيوطي " إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء " وليراجع
المخالفون كتاب " الروح " لابن القيم ليروحوا عن أنفسهم!!

427
اللوح والقلم والعرش والكرسي
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، والعرش والكرسي
حق وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شئ وبما فوقه) (212).
الشرح:
(أولا): اللوح المحفوظ: هو أم الكتاب الذي ذكره الله تعالى في كتابه
الكريم بقوله سبحانه (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد: 39،
وقد ورد ذكره في قوله تعالى (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) البروج: 22.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كان الله ولم يكن شئ غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل
شئ " (213) وفي رواية صحيحة (214) " وكتب في اللوح ذكر كل شئ " وهي مفسرة
للأولى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب كتابا قبل
أن يخلق الخلق: أن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش " رواه
(213) رواه البخاري (6 / 286) وغيره.
(214) رواها أحمد في المسند (4 / 431).



(212) في بعض النسخ بدل (وبما فوقه) لفظة (وفوقه) وقد أصر عليها المتمسلفون لإثبات
عقيدتهم المتهاوية ونصرة العلو الحسي والتجسيم الذي يعتقدونه!! وفي نسخة من
مخطوطة الطحاوية وكذا في شرح الغنيمي ص (93) ما أثبتناه فانتبه!! وسياق الكلام
يدل على ما أثبتناه.
428
البخاري (13 / 522) ومسلم (4 / 2107).
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 526):
" والغرض منه الإشارة إلى أن اللوح المحفوظ فوق العرش " (215).
وقال أيضا (13 / 413):
" قال - الخطابي -: ويكون معنى قوله (فوق العرش) أي عنده علم ذلك
فهو لا ينساه ولا يبدله، كقوله تعالى (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى).
وأما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم
وأحوالهم، ويكون معنى (فهو عنده فوق العرش) أي ذكره وعلمه وكل ذلك
جائز في التخريج " ا ه‍.
فيمكن أن يقال أن اللوح المحفوظ كناية عن علم الله تعالى للأشياء وضبطها
ولذلك كان الإيمان باللوح المحفوظ من فروع الاعتقاد لا من أصوله بحيث لا نكفر
منكره الذي يؤمن باللوح المحفوظ ويقول هو علم الله تعالى وليس كتابا ولا جسما
محسوسا، وأما من أنكر اللوح المحفوظ بمعنى إحاطة علم الله سبحانه وتعالى
بالخلق وما يتصل بذلك فهو كافر مرتد.
وجاء في الحديث الصحيح أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
لزوجته أم حبيبة:
" قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة) رواه مسلم
(4 / 2051) وعن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف
سنة " (216) رواه مسلم (4 / 2044).



(215) ومن غريب التحليلات والكلام المخالف للسنة الصحيحة قول متناقض عصرنا!! في
تعليقه على متن الطحاوية ص (37) (مقرا): " وإلا فقد قام الدليل على أن العرش
فوق المخلوقات وليس فوقه شئ من المخلوقات ".
(216) وأخشى أن يكون هذا الذي حكاه عبد الله بن عمرو ليس من كلام النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وإنما هو في الكتب القديمة التي كان عبد الله يقرأها!! وهي كتب أهل
الكتاب!! فيكون هذا مثل حديث التربة الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة!! فتنبه!!
429
وقد حملنا هذه الأحاديث على كتابة هذه الأمور في اللوح المحفوظ وهو مخلوق،
أو إظهارها أي إعلام الملائكة بها، ولا يمكن حمل ذلك على البداءة بتقديرها لأن
صفات المولى سبحانه قديمة ولا تقوم الحوادث به و (ليس كمثله شئ) والله
تعالى أعلم.
وجاء في حديث باطل (أورده ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية ص 263)
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا:
" إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها ياقوتة حمراء قلمه نور
وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، وعرضه ما بين السماء والأرض،
وينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق ويرزق ويميت ويحيى ويعز ويذل
ويفعل ما يشاؤه " (217).



(217) هذا لفظه عن ابن عباس موقوفا وهو مرفوع عنه بنحو هذه الأحرف رواه الطبراني في
" المعجم الكبير " (12 / 72)، وفي سنده محمد بن عثمان بن أبي شيبة متهم رموه بالكذب
كما تجده في ترجمته، وهو صاحب كتاب العرش الذي أتى فيه بطامات وأوابد، وحسبنا
هنا أن الشيخ! المتناقض!! نفسه قال عنه في " إرواء غليله (7 / 107) ما نصه
" وحسبك هنا أن الذهبي نفسه قد أورده في الضعفاء وقال: كذبه عبد الله بن أحمد،
ووثقه صالح جزرة. قلت: فمثله كيف يصحح حديثه؟! " ارجع إلى كتابنا
التناقضات (2 / 175 - 176) وأزيد عليه فأقول: وفي " لسان الميزان " (5 / 280 هندية):
قال ابن خراش عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة هذا: كان يضع الحديث، وطعن
فيه مطين أيضا والدارقطني، وقال البرقاني لم أزل أسمعهم يذكرون أنه مقدوح فيه.
وفي سنده أيضا زياد بن الحارث البكائي ضعيف، قال الحافظ في التقريب: " في
حديثه عن غير ابن إسحاق لين " وليث ابن أبي سليم قال الحافظ في التقريب:
" صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك " وتد ضعف هذين الأخيرين المتناقض!!
وخاصة الثاني منهما في مواضع كثيرة من كتبه، وبعد هذا يقول عن هذا الحديث في
تعليقه على شرح صديقه!! في التجسيم ابن أبي العز في شرحه للطحاوية:
" ضعيف " بدل أن يحكم ببطلانه!! وبطلانه ظاهر واضح لمخالفته لحديث " قد جف
القلم بما أنت لاق " رواه البخاري (9 / 117)، ولحديث " رفعت الأقلام وجفت
الصحف " رواه الترمذي (4 / 667) وقال: حسن صحيح، ولحديث مسلم
(4 / 2041): " جفت به الأقلام وجرت به المقادير ".
وحديث الطبراني الباطل هذا فيه أن الأقلام لم تجف بل ما زال الله يغير ويبدل.
430
(ثانيا): القلم: ليس في القرآن ما يثبت القلم المراد إثباته هنا وأما قوله
تعالى (ن والقلم وما يسطرون) فليس ذلك مرادا، وإنما المراد هنا القسم بالقلم
الذي يسطر به الناس الكلام والكتابة.
وقد جاء ذكر القلم في أحاديث آحاد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " جف القلم بما أنت لاق " رواه
البخاري (9 / 117) قال الحافظ هناك في شرحه ص (119):
[قوله (جف القلم بما أنت لاق) أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح
المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به، قال
عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه
إليه] ا ه‍.
قلت: وكلام الحافظ ملخصه أن ذلك كناية عن أن تقدير الله للأشياء
وعلمه بما هو كائن أزلي، ويتعالى الله تعالى أن يكون له قلم حقيقي ولوح يكتب
فيه حقيقة كما يكتب البشر، كما لا يحتاج لشئ يتذكر به، لا يضل ربي ولا ينسى
سبحانه ومع هذا فنحن لا ننكر وجود اللوح بل وجوده هو الراجح عندنا.
وجاء في البخاري (1 / 459) ومسلم (1 / 149) أثناء حديث لسيدنا أنس في الإسراء
معلقا فيهما عن ابن شهاب قال: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة
الأنصاري كانا يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ثم عرج بي
حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ".

431
وهذا فيه إثبات أقلام عديدة لا قلم واحد، فتأمل!!
وجاء في حديث آخر " أول ما خلق الله القلم " وهو صحيح (218).
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (6 / 289):
[قوله (وكان عرشه على الماء) قال الطيبي: هو فصل مستقل لأن القديم
من لم يسبقه شئ، ولم يعارضه في الأولية، لكن أشار بقوله " وكان عرشه على
الماء " إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل خلق السماوات
والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء. ومحصل الحديث أن مطلق قوله
" وكان عرشه على الماء " مقيد بقوله " ولم يكن شئ غيره " والمراد بكان في الأول
الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم. وقد روى أحمد والترمذي وصححه من
حديث أبي رزين العقلي مرفوعا " إن الماء خلق قبل العرش " وروى السدي في
تفسيره بأسانيد متعددة " إن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء " وأما ما رواه أحمد
والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا " أول ما خلق الله
القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة " فيجمع بينه وبين
ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش أو بالنسبة إلى ما منه صدر
من الكتابة، أي أنه قيل له اكتب أول ما خلق، وأما حديث، " أول ما خلق
الله العقل " فليس له طريق ثابت (219)، وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو



(118) رواه أبو يعلى في مسنده (4 / 217) والبيهقي في " السنن الكبرى " (9 / 3) وفي الأسماء
والصفات ص (378) من حديث سيدنا ابن عباس بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي
عاصم في " سنته " (1 / 48 - 50) من حديث عبادة بن الصامت وابن عمر وابن عباس
بأسانيد ضعيفة، والإمام أحمد في المسند (5 / 317) بسند ضعيف عن عبادة، وأبو داود
(4 / 225) من حديث عبادة بسند حسن إلا أنه مختلف فيه، والحديث صحيح.
ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (29 / 14) والحاكم في " المستدرك " (4 / 454) موقوفا
على ابن عباس رضي الله عنهما.
(219) وكذلك حديث " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " حديث موضوع مكذوب ليس
له إسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في شئ من كتب السنة التي تروى فيها الأحاديث
بأسانيدها، ومحاولة ادعاء بعض الناس بأن له إسنادا في جزء مفقود من " مصنف
عبد الرزاق " تعصب لا قيمة له في الموازين العلمية، فتنبهوا لذلك!!
432
تأويله والله أعلم، وحكى أبو العلاء الهمداني أن للعلماء قولين في أيهما خلق أولا
العرش أو القلم؟ قال: والأكثر على سبق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن
تبعه الثاني، وروى ابن أبي حازم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
" خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق
وهو على العرش: أكتب، فقال وما أكتب؟ قال علمي في خلقي إلى يوم القيامة "
ذكره في تفسير سورة سبحان، وليس فيه سبق خلق القلم على العرش، بل فيه
سبق العرش. وأخرج البيهقي في " الأسماء والصفات " من طريق الأعمش عن
أبي ظبيان عن ابن عباس قال " أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، فقال:
يا رب وما أكتب؟ قال اكتب القدر فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام
الساعة " وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال " بدء
الخلق العرش والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء " والجمع بين هذه الآثار
واضح]، انتهى من " الفتح ".
[تنبيه]: وأريد أن أنبه هنا على أمر مهم، وهو بطلان وفساد ما جاء في
أثر سيدنا ابن عباس من أن الله تعالى قال للقلم عندما خلقه " أكتب فقال: يا
رب ما أكتب. فقال: اكتب القدر فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة ".
وذلك لأن القلم مخلوق من مخلوقات الله تعالى لا يعلم الغيب ولا القدر،
ولا يعرف شيئا.
ومن خالف في هذا يكون قائلا بأن القلم يعلم الغيب ويعلم الأشياء الخمس
التي لا يعلمها إلا الله وكل ذلك باطل من القول، فتنبهوا لذلك ولا تغفلوا عنه!!
وخلاصة الأمر أن وجود القلم غير قطعي فليس هو عقيدة يكفر منكرها،
والله تعالى أعلم.

433
(ثالثا): العرش: العرش من أعظم مخلوقات الله تعالى حجما، لا نعلم
كيفية شكله، وليس هو على صورة كرسي كما تتوهم المجسمة والمشبهة الذين
يتخيلون أن الله تعالى جالس عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والعرش في اللغة: هو السقف والسرير والعز والملك والسلطان وغير ذلك،
قال الإمام الراغب في المفردات:
[عرش: العرش في الأصل شئ مسقف، وجمعه عروش، قال (وهي
خاوية على عروشها) ومنه قيل عرشت الكرم وعرشته إذا جعلت له كهيئة سقف
وقد يقال لذلك المعرش، قال: (معروشات وغير معروشات - ومن الشجر
ومما يعرشون - وما كانوا يعرشون) قال أبو عبيدة: يبنون، واعترش العنب ركب
عرشه، والعرش شبه هودج للمرأة شبيها في الهيئة عرش الكرم، وعرشت البئر
جعلت له عريشا، وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. قال (ورفع أبويه
على العرش - أيكم يأتيني بعرشها - نكروا لها عرشها - أهكذا عرشك) وكنى
به عن العز والسلطان والمملكة، قيل فلان ثل عرشه. وروي أن عمر رضي الله
عنه رؤي في المنام فقيل ما فعل بك ربك؟ فقال لولا أن تداركني برحمته لثل
عرشي. وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، وليس كما تذهب
إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك لا محمولا،
والله تعالى يقول (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن
أمسكهما من أحد من بعده) وقال قوم هو الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب،
واستدل بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في
جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي عند العرش كذلك " (220)



(220) هذا حديث ضعيف قال الحافظ في " الفتح " (13 / 411): [وفي حديث أبي ذر الطويل
الذي صححه ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا ذر ما السماوات السبع مع
الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على
الحلقة "، وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح
عنه].
قلت: هو في صحيح ابن حبان (2 / 76 - 77) وفي موارد الظمآن برقم (94) ص (52).
وأخرجه بنحو هذا اللفظ، الحافظ ابن جرير في " تفسيره " (3 / 10) والبيهقي في " الأسماء
والصفات " ص (405) وصححه الألباني المتناقض!! في " صحيحته " (1 / 173) وصرح
بأنه لا يصح حديث في إثبات الكرسي غير هذا الحديث ص (176).
وكنت قد أوردته في بعض كتبي وذكرت أن الحافظ أشار إلى صحته في الفتح ثم عرفت
أنه ضعيف بعد الوقوف على إسناده.
434
وقوله (وكان عرشه على الماء) تنبيه أن العرش لم يزل منذ أوجد مستعليا على
الماء. وقوله (ذو العرش المجيد - رفيع الدرجات ذو العرش) وما يجري مجراه
قيل هو إشارة إلى مملكته وسلطانه لا إلى مقر له يتعالى عن ذلك] انتهى.
وقال الحافظ الزبيدي في " شرح القاموس " (4 / 321):
[(و) في الصحاح العرش (سرير الملك) قلت: وبه فسر قوله تعالى (ولها
عرش عظيم) وفي حديث بدء الوحي " فرفعت رأسي فإذا هو قاعد على عرش
في الهواء " (221) وفي رواية " بين السماء والأرض " (222) يعني جبريل عليه السلام على
سرير، وقال الراغب: وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه، وقال عز وجل
(أيكم يأتيني بعرشها) وقال (نكروا لها عرشها) وقال (أهكذا عرشك)
(و) كنى به عن (العز) والسلطان والمملكة (وقوام الأمر ومنه) قولهم (ثل
عرشه) أي عدم ما هو عليه من قوام أمر، وقيل وهي أمره وقيل ذهب عزه،
ومنه حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل بك
ربك؟! قال: لولا أن تداركني لثل عرشي، وقال زهير:
نداركتما الأحلاف قد ثل عرشها وذبيان إذ زلت به أحلامها النعل
(و) العرش (ركن الشئ) قاله الزجاج والكسائي وبه فسر قوله تعالى
(وهي خاوية على عروشها) أي خلت وخربت على أركانها (و) العرش (من



(221) مسلم (1 / 144).
(222) البخاري (8 / 678).
435
البيت سقفه) ومنه الحديث " أو كالقنديل المعلق بالعرش " (223) يعني السقف،
وفي حديث آخر " كنت أسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرشي " (224) أي سقف
بيتي، وبه فسر قوله تعالى (خاوية على عروشها) أي صارت على سقوفها كما
قال عز من قائل (فجعلنا عاليها سافلها) أراد أن حيطانها قائمة وقد تهدمت
سقوفها فصارت في قرارها وانقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف
المتهدمة قبلها، ومعنى الخاوية والمنقعرة واحد، وهي المنقلعة من أصولها، وجعل
بعضهم على بمعنى عن، وقال أي خاوية عن عروشها لتهدمها، وعروشها
سقوفها، يعني سقط بعضها على بعض وأصل ذلك أن يسقط السقف ثم تسقط
الحيطان عليها (و) العرش (الخيمة) من خشب وثمام (و) العرش (البيت
الذي يستظل به كالعريش) ومنه الحديث قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ألا نبني
لك عريشا تستظل به فقال " بل عرش كعرش موسى " (225) (ج) أي جمع الكل
(عروش وعرش) بضمتين (وأعراش وعرشة) بكسر ففتح وقال ابن سيده:
وعندي أن عروشا جمع عرش وعروشا جمع عروش وليس جمع عرش لأن باب فعل
وفعل كرهن ورهن وسحل وسحل لا يتسع (و) العرش (من القوم رئيسهم المدبر
لأمرهم) على التشبيه بعرش البيت وبه فسر قول الخنساء:
كان أبو حسان عرشا حوى * مما بناه الدهر دان ظليل
أي: كان يظلنا بتدبيره في أموره (و) العرش (القصر) وقال كراع هو البيت
والمنزل (و) العرش كواكب قدام السماك الأعزل وقال الجوهري هي (أربعة
كواكب صغار أسفل من العواء ويقال لها عرش السماك وعجز الأسد) وفي التهذيب
عرش الثريا كواكب قريبة منها (و) العرش (الجنازة) وهو سرير الميت (قيل
ومنه) الحديث (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ واهتزازه فرحه) بحمل سعد عليه



(223) مسلم (3 / 1502 - 1503).
(224) النسائي (2 / 179)، وابن ماجة (1 / 429)، وأحمد في " المسند " (6 / 424) وغيرهم.
(225) الدارمي في " السنن " (1 / 18) عن الحسن البصري مرسلا.
436
إلى مدفنه وقيل إنه عرش الله تعالى لأنه قد جاء في رواية أخرى " اهتز عرش الرحمن
لموت سعد " (226) وهو كناية عن ارتياحه بروحه حين صعد به لكرامته على ربه وقيل
هو على حذف مضاف وقد تقدم البحث في ذلك مبسوطا في " ه‍ زز " فراجعه
(و) قال ابن الأعرابي العرش (الملك) بضم الميم وهو كناية كما تقدم عن
الراغب] ا ه‍ من شرح القاموس.
فالحاصل أن نصوص الكتاب والسنة واردة بذكر العرش وإثباته فالإيمان
بوجوده واجب، ولا ندري كنهه بالتحديد والظاهر أنه مخلوق عظيم جعله الله تعالى
سقفا للمخلوقات وتعبد بعضهم بحمله، ويجب أن يعتقد كل مسلم أن العرش
ضئيل ضعيف كالهباء أمام قدرة الله تعالى وجلاله، ويكفر من تصور أن الله تعالى
جسم أو على شكل إنسان جالس عليه كما قالت اليهود بأنه سبحانه بعد خلق
السماوات والأرض تعب واستلقى عليه لأنهم يتصورون هم والمجسمة بأن الله
سبحانه جسم كالآدميين وأنه يجلس على سرير أو على كرسي، سبحانه ما أحلمه
عليهم، حين لم يخسف بهم بل أخرهم إلى أجل معلوم، وعقاب محتوم!!
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (7 / 124):
[قال أبو الوليد بن رشد في " شرح العتبية " إنما نهى مالك (227) لئلا يسبق
إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك تحرك الله تعالى بحركته، كما يقع للجالس
منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله، تبارك الله وتنزه عن مشابهة
خلقه، انتهى ملخصا. والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي
من هذا لما أسند في الموطأ حديث " ينزل الله إلى السماء الدنيا " لأنه أصرح في
الحركة من اهتزاز العرش، ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف
أن الله تعالى منزه عن الحركة والتحول (228) والحلول ليس كمثله شئ] انتهى.



(226) البخاري (7 / 123) ومسلم (4 / 1915).
(227) عن التحديث بحديث " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " الذي في البخاري
(7 / 123) والظاهر أن الإمام مالكا كان يرى ضعف هذا الحديث.
(228) فأين هذا الكلام من زعم ابن تيمية الحراني في " موافقة معقوله لمنقوله " (2 / 4) المطبوع
عنه].
قلت: هو في صحيح ابن حبان (2 / 76 - 77) وفي موارد الظمآن برقم (94) ص (52).
وأخرجه بنحو هذا اللفظ، الحافظ ابن جرير في " تفسيره " (3 / 10) والبيهقي في " الأسماء
والصفات " ص (405) وصححه الألباني المتناقض!! في " صحيحته " (1 / 173) وصرح
بأنه لا يصح حديث في إثبات الكرسي غير هذا الحديث ص (176).
وكنت قد أوردته في بعض كتبي وذكرت أن الحافظ أشار إلى صحته في الفتح ثم عرفت
أنه ضعيف بعد الوقوف على إسناده.
437
وقال الإمام عبد القاهر البغدادي في " أصول الدين " (ص 113) مؤولا قوله تعالى
(الرحمن على العرش استوى) ما نصه:
" والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد
أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب ثل عرش فلان
إذا ذهب ملكه " ا ه‍. ثم أورد شواهد من أشعار العرب تدل على ما ذهب إليه.
قلت: وهذا لا يخالف تأويلنا لقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)
أي الرحمن قاهر العرش ومستول على الممالك (229)، ولا يفيد قوله ولا قولنا نفي
وجود العرش البتة، إنما يفيد المعنى المراد في هذه الآية لا غير لا نفي العرش،
وقد مر الكلام على معنى هذه الآية وما يتعلق بها مع تفنيد مزاعم المجسمة والمشبهة
في الكلام على [القواعد التي يجب مراعاتها عند إطلاق صفة على الله تعالى ص
()] فليرجع إليها من شاء، فهذا ما يتعلق بالعرش على وجه الاختصار، والله
الموفق.



(229) ولا يقتضي هذا المعنى ونحوه المغالبة كما ادعاه بعض المموهين!! لأن مثل قوله تعالى
(والله غالب على أمره) صريح في ذكر الغلبة له سبحانه ولم يقتض معنى المغالبة،
فافهم!!
438
(رابعا): الكرسي:
لقد ورد ذكر لفظ الكرسي في القرآن الكريم في آية الكرسي في سورة البقرة
في قوله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض). وروى الحافظ ابن جرير
الطبري في " تفسيره " (3 / 9) بسند صحيح عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما
قال: [(وسع كرسيه) كرسيه: علمه].
وقد ذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن الكرسي غير العرش، وذهب جماعة
من السلف إلى أن الكرسي هو العرش كما ذكره ابن جرير في " تفسيره " (3 / 10)
وقال القرطبي في " تفسيره " (3 / 278) هو مذهب الحسن بن أبي الحسن. قلت:
ولا يثبت هذا عن الحسن لأن في سنده إليه جويبر عن الضحاك والأول منهما متروك
والثاني ضعيف.
ثم أخطأ القرطبي بقوله في " تفسيره " (3 / 277):
" وأرباب الإلحاد يحملونها - أي لفظة (وسع كرسيه السماوات والأرض) -
على عظم الملك وجلالة السلطان وينكرون وجود العرش والكرسي وليس
بشئ " ا ه‍.
أخطأ القرطبي لأن سيدنا ابن عباس وغيره أولوها بالعلم، بل القرطبي نفسه
أولها بالعلم قبل ذلك وكذا الحافظ ابن جرير في تفسيره! فتأمل!
والذي نقوله هو: إن العرش جسم لقوله تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم
يومئذ ثمانية) الحاقة: 17، وأما الكرسي فنقول بأنه جسم آخر دون العرش خلقه
الله تعالى لحكمة يعلمها (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وهو غير قطعي خلافا
للعرش، فمن خالفنا في ذلك ونفاه أو قال إنه هو العرش أو كناية عن العلم في
الآية لم نعترض عليه ولم نضلله وله اجتهاده فهذا من فروع العقيدة لا من أصولها.

439
(فصل): في بيان أربعة أحاديث باطلة تتعلق بالكرسي:
(الحديث الأول): روي عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
[سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال:
كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره].
وهذا باطل مرفوعا وموقوفا!! وما هو إلا هراء يجل مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو ابن عباس رضي الله عنهما أن يفوها به، إلا إن حكياه عن اليهود في مقام
ذم عقائدهم الباطلة وذكر فساد ما يقولون!! وقد رواه مرفوعا الخطيب البغدادي
في " تاريخه " (9 / 251)، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 22)، ورواه موقوفا
الطبراني في " الكبير " (12 / 39) والحاكم (2 / 282) والمجسم الكذاب محمد بن عثمان بن
أبي شيبة في كتاب " العرش "، قال ابن كثير في تفسيره (1 / 317): " كذا أورد هذا
الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس فذكره وهو
غلط " ثم قال بعد ذلك بقليل: " وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير
الفزاري الكوفي وهو متروك عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح
أيضا ".
قلت: الصحيح عندنا في هذا الحديث أنه إسرائيلي مأخوذ من كعب
الأحبار لأن أبا هريرة وابن عباس رضوان الله عليهما رويا عن كعب الأحبار كما
في " تهذيب الكمال " للحافظ المزي (24 / 190)، فإذا علمت ذلك فستعرف خطأ
الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6 / 323) حيث اكتفى بالتصريح بأن رجاله
رجال الصحيح وكذا الإمام الحاكم في المستدرك حيث صحح الموقوف أيضا على
شرط الشيخين وأقره الذهبي رحمهم الله تعالى، فلا تغفل عن هذا لأن هؤلاء
رحمهم الله تعالى كثيرا ما يصححون فيرد تصحيحهم، وقد روي نحو هذا الحديث
عن أبي موسى الأشعري موقوفا كما في " الأسماء والصفات " ص (404) للحافظ
البيهقي رحمه الله تعالى، وقد تأول هذا النص البيهقي هناك بقوله: " ذكرنا أن
معناه فيما نرى أنه - أي الكرسي - موضوع من العرش موضع القدمين من السرير،

440
وليس فيه إثبات المكان لله سبحانه ". وفي أثر أبي موسى هذا ذكر للأطيط!! وقد
صرح الحفاظ بأنه لا يصح حديث في الأطيط وقد اعترف الشيخ! المتناقض!!
بذلك في " ضعيفته " (2 / 257 و 307)!!!
هذا ولم يورد ابن جرير الطبري في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله
عنهما غير تأويله الآية (وسع كرسيه) بالعلم، وهذا مما يؤكد لنا بطلان ما روي
عن ابن عباس بسند رجاله رجال الصحيح من أنه قال: " الكرسي موضع
القدمين ".
وقال ابن جرير الطبري في " تفسيره " (3 / 11) في ختام تفسير هذه العبارة من
آية الكرسي:
[وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه
جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله
تعالى ذكره (ولا يؤده حفظهما) على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ
ما علم، وأحاط به مما في السماوات والأرض...] ودلل على ذلك بعدة أدلة من
القرآن واللغة، والحمد لله رب العالمين.
وإذا كان الكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى فمعنى ذلك أن المولى
سبحانه جسم على هيئة الآدمي له رجلان وقدمان يدليهما من العرش ويضعهما
على الكرسي وهذا الكلام كفر وضلال ما بعده ضلال!! ولذلك فأنا أجزم ببطلان
لفظ " الكرسي موضع القدمين " مرفوعا وموقوفا، وأجزم بأنه دخيلة إسرائيلية
منقولة عن كعب الأحبار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
(الحديث الثاني): ما رواه عبد الله بن خليفة - وهو أحد المجاهيل - (كذبا
وزورا) عن سيدنا عمر رضوان الله تعالى عليه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
أدع الله تعالى أن يدخلني الجنة فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: " إن كرسيه
وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع -

441
ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من
ثقله ".
هذا الحديث المفترى مروي في تفسير الحافظ ابن جرير الطبري (3 / 10) وما
أظنه إلا مدسوسا في تفسيره لأن الكلام الذي بعده مباشرة ينقضه (لأن النسخة
المطبوعة من تفسير ابن جرير كانت بأيدي الحنابلة) والله تعالى المستعان!!
والحديث مروي أيضا في كتاب " السنة " المنسوب لابن الإمام أحمد ص (80)
برقم (409) ومن هذه المصنفات التي روي هذا الحديث فيها بهذا اللفظ تعلم أنه
موضوع مكذوب، لا سيما والشيخ الحراني يعترف في " منهاج سنته " (1 / 260)
بقوله: " والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن
الجوزي... ".
وذكر الشيخ المتناقض!! في " ضعيفه " (2 / 256) بعدما اعترف بأن الحديث
منكر أنه: رواه أبو العلاء الحسن الهمداني في كتاب في الصفات (100 / 1) وهو
حنبلي، ورواه الضياء في المختارة (1 / 59) وهو حنبلي أيضا، كما رواه أبو محمد
الدشتي المجسم الحنبلي في الكتاب الذي سماه " كتاب إثبات الحد لله عز وجل
وأنه قاعد وجالس على عرشه " (134 - 135) ومن أسماء هؤلاء الحنابلة تعلم مبلغ
الحديث من الصحة!!
وانظر للاستزادة عن هذا الدشتي ما كتبه الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة
والرضوان على ذيل تذكرة الحفاظ للحافظ الحسيني ص (263)، وانظر تعليقي على
كتاب " دفع شبه التشبيه " للحافظ ابن الجوزي ص (247) وما بعدها.
(الحديث الثالث): روي عن ثعلبة بن الحكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده:
إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم
ولا أبالي ". هكذا رواه الطبراني في " معجمه الكبير " (2 / 84).

442
وهو حديث باطل مكذوب مفترى في سنده العلاء بن مسلمة بن عثمان
الرواس وضاع لا يحل الاحتجاج به [أنظر ترجمته في تهذيب الكمال (29 / 539)] (230)
(الحديث الرابع): روي عن سيدنا علي عليه السلام مرفوعا: " الكرسي
لؤلؤ، والقلم لؤلؤ، وطول القلم سبعمائة سنة، وطول الكرسي حيث لا يعلمه
العالمون ".
رواه أبو نعيم في " الحلية " (3 / 180) وهو موضوع.



(230) ومن الخطأ البين قول الحافظ الهيثمي رحمه الله تعالى عنه في " المجمع " (1 / 126):
" رجاله موثقون " وكذا إيراد صاحب " التاج الجامع للأصول " (1 / 60) لهذا الحديث
الموضوع بعبارة فيها لبس تفيد تحسينه!! [وقد أخبرني شيخي سيدي عبد الله ابن
الصديق أنه يعرف مؤلف التاج وأنه لا يعرف في الحديث قليلا ولا كثيرا وإنما هو
مجرد ناقل. وهو كذلك حقا وصدقا] وكذلك أخطأ الحافظ المنذري رحمه الله تعالى
في " الترغيب والترهيب " (1 / 101) حيث قال في تخريج هذا الحديث الذي نحن
بصدده: " رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات "!! وكذلك قول ابن كثير في
" تفسيره " (3 / 149): " إسناده جيد ". وكذا أيضا قول الحافظ السيوطي عنه في
" اللآلي المصنوعة " (1 / 221): " لا بأس به " وقد وقع هذا من هؤلاء العلماء فيما أظن
لتقليدهم الحافظ المنذري الذي أخطأ في تخريجه، وعادة إذا أخطأ الحافظ المنذري في
تخريج حديث فإن الحافظ الهيثمي يخطئ فيه أيضا لأنه يتبعه ويأخذ بقوله كثيرا.
443
الإيمان بالكتب السماوية
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين).
الشرح:
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل
على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) النساء: 136.
الإيمان بالكتب السماوية غير المحرفة التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء من
أركان التوحيد والإيمان، فيكفر من أنكر أو جحد ولو واحدا منها مما هو منصوص
عليه في القرآن أو بحديث متواتر، أو جحدها جملة، ومن المعلوم أن جميعها قد
حرف ولم يبق على ما أنزلها الله إلا القرآن الكريم، والدليل عليه قول الله تعالى
(قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) وقال الله تعالى عن أهل الكتاب
(وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم
يعلمون) البقرة: 75، وقال تعالى (يحرفون الكلم عن مواضعه) النساء: 46، وقال
سبحانه وتعالى في القرآن الكريم (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر:
9، وقوله تعالى عنه أيضا (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت: 42.
قال العلامة النسفي في تفسيره:
" قيل الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة، صحف شيث (ابن
سيدنا آدم) ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشرة
ثم التوراة له، والإنجيل لسيدنا عيسى والزبور لسيدنا داود، والقرآن لسيدنا محمد
صلى الله وسلم عليهم أجمعين ".

444
والدليل على بعض ما قال العلامة النسفي قول الله تعالى (نزل عليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس
وأنزل الفرقان) آل عمران: 3، وقال تعالى (وآتينا داود زبورا) النساء: 163 وقال
تعالى (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) الأعلى: 19.
ففي هذه الآيات الكريمة ذكر الكتب المنزلة القرآن والتوراة والإنجيل والزبور
وصحف سيدنا إبراهيم وصحف سيدنا موسى التي يكفر من جحد واحدا منها،
وأما الباقي فلا يكفر جاحدها لأنها لم تثبت بنص قطعي.

445
الإيمان بوجود الجان
وما يتعلق بذلك
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وهو صلى الله عليه وسلم المبعوث إلى عامة الجن).
الشرح:
الإيمان بوجد الجن أمر واجب لأن الله تعالى ذكر لنا الجن وأعلمنا بوجودهم
في القرآن الكريم، فيكفر لذلك جاحد وجودهم، ومن تلك الآيات الواردة
بذكرهم قوله تعالى (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار
السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان)
الرحمن: 34 ففي هذه الآية أيضا دليل على عنهم مكلفون بشريعتنا لأن الله تعالى
خاطبهم بهذا القرآن وتحداهم به، ويؤكد هذا قوله تعالى (قل أوحي إلي أنه
استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن
نشرك بربنا أحدا) الجن: 2.
فهذه الآيات تثبت وجوب الإيمان بوجود الجن وأنهم مكلفون الآن بشريعة
سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانوا قبل ذلك أيضا مكلفين بشرائع
الأنبياء السابقين، وليس فيهم أنبياء إنما يتبعون شرائع أنبياء البشر لا غير، ومن
ذلك قول الله تبارك وتعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن
فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا
سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق
مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من
عذاب أليم) الأحقاف: 31، وقال تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن
والإنس والطير فهم يوزعون) النمل: 17، وقال تعالى (ولسليمان الريح غدوها

446
شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن
ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) سبأ: 12.
والجان مخلوقون من نار لقوله تعالى (في خلق الإنسان من صلصال كالفخار *
وخلق الجان من مارج من نار) الرحمن: 15 وللحديث الصحيح " خلقت الملائكة
من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " رواه مسلم
(4 / 2294) من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.
والجن لا يعلمون الغيب، لقوله تعالى عن سيدنا سليمان (فلما قضينا عليه
الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن
لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سبأ: 14 وإنما يحاولون استراق
السمع من الملائكة في السماء الدنيا، والمراد باستراق السمع سرقة بعض الأخبار
التي أعلم الله تعالى الملائكة بأنها ستحدث وتكون، فقد جاء في الحديث
الصحيح: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في
السماء، فتسترق الشيطان السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة
كذبة من عند أنفسهم " رواه البخاري (6 / 304 فتح)، وقد نص القرآن على أن الجن
والشياطين كانوا يذهبون إلى مواضع في السماء الدنيا لاستراق السمع قبل مبعث
سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام طردوا ورموا
بالشهب فشدد عليهم، قال الله تعالى حكاية عن الجن (وأنا لمسنا السماء
فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن
يستمع الآن يجد له شهابا رصدا).
واعلم أن إبليس من الجن وقد أخطأ الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه
" الأسماء واللغات " في ترجمته ص (106) عندما قال " والصحيح أنه من الملائكة "
وهذا القول منه مخالف لقوله تعالى (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر
ربه) الكهف: 50، ومخالف أيضا لقوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم) فاعرف
ذلك.

447
[فائدة]: قال الله تعالى (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج
أبويكم من الجنة ينزع عنهما لماسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث
لا ترونهم) الأعراف: 27.
في هذه الآية نص على أن الشيطان وقبيله وهم الجن يرونا ونحن لا نراهم،
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية في تفسيره (7 / 186):
" قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يرون، لقوله (من حيث
لا ترونهم)، وقبل جائز أن يروا، لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم - للناس -
كشف أجسامهم حتى ترى.
قال النحاس: (من حيث لا ترونهم) يدل على أن الجن لا يرون إلا في
وقت نبي ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون
فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا
في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ".
ثم قال بعد ذلك:
[وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة. وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال:
وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ
الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل أسيرك البارحة.
وقد تقدم في البقرة. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والله لولا دعوة أخي
سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة " - في العفريت الذي تفلت
عليه.] ا ه‍
قلت: قال الإمام الحافظ عبد الوهاب السبكي في كتابه " طبقات الشافعية
الكبرى " (3 / 148):
" وفي هذه المناقب (أي مناقب الشافعي للآبري) أن حرملة قال سمعت

448
الشافعي رضي الله عنه يقول:
من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته لقوله تعالى (إنه يراكم
هو وقبيله من حيث لا ترونهم) إلا أن يكون الزاعم نبيا " ا ه‍.
أقول: هذا الكلام الذي قاله الشافعي هو الصواب الذي يميل إليه
القلب للآية المذكورة، ولما ذكره الإمام القرطبي عن الإمام النحاس فإنه المفهوم
منها والمعقول.
وأما حديث أبي هريرة الذي في البخاري في باب الوكالة (4 / 487) فهو منقطع
الإسناد كما قاله الحافظ ابن العربي المالكي كما نقله عنه الحافظ في " الفتح " (4 / 488)
لأن البخاري قال في أول إسناده: " وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا
عوف... " فذكره، ونرى أن هذه القصة مضطربة كما سيأتي بيان رواياتها بعد
قليل إن شاء الله تعالى، فهي إما غير ثابتة أو تعددت وهو بعيد لأنه قد روي
حصولها مع ستة من الصحابة وظاهر الحادثة واحدة.
- فبعضهم يروي أنها حصلت مع أبي هريرة وذلك عند البخاري (4 / 487) وغيره.
- وبعضهم يقول إنها مع أبي أيوب الأنصاري كما في الترمذي (5 / 158) وفي المستدرك
(3 / 458 - 459) للحاكم وفيه أن الذي أتاه شيطانة على صورة السنور!! (أي
القط).
- وبعضهم عن أبي بن كعب رواه الطبراني (1 / 201) قال الحافظ الهيثمي في
" المجمع " (10 / 118): " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".
- وبعضهم عن معاذ بن جبل رواه الطبراني (20 / 51 و 101) وهو حسن بطريق آخر.
- وبعضهم عن أبي أسيد الساعدي عند الطبراني (19 / 236) وقال الهيثمي في
" المجمع " (6 / 323): " رواه الطبراني ورجاله وثقوا كلهم وفي بعضهم ضعف " أي
أنه حسن كما يظهر.

449
- وبعضهم عن بريدة بن الحصيب عند البيهقي في " دلائل النبوة " (7 / 111).
ونستبعد أن تكون حصلت مع هؤلاء الستة.
وإليك نص الحديثين اللذين ذكرهما القرطبي في كلامه الأول: قصة النبي
صلى الله عليه وسلم مع الجني الواقعة في صحيح مسلم، والثاني: قصة أبي هريرة مع الجني التي
في صحيح البخاري المعلقة للاطلاع وحصول الفائدة.
[الحديث الأول]: روى مسلم في " الصحيح " (1 / 384) من حديث أبي هريرة قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة. ليقطع علي الصلاة. وإن
الله أمكنني منه فذعته (أي خنقته). فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من
سواري المسجد. حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون ثم ذكرت قول أخي سليمان:
(رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي). فرده الله خاسئا ".
[الحديث الثاني]: قال البخاري في " صحيحه " (4 / 487):
[وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان. فأتاني آت
فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
إني مهتاج وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال فخليت عنه. فأصبحت، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكى حاجة
شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت
أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته، فجعل يحثو من الطعام،
فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج، وعلي
عيال، لا أعود. فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكى حاجة شديدة وعيالا، فرحمته
فخليت سبيله.، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو

450
من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات،
إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت
ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي
القيوم) حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان
حتى تصبح. فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعل أسيرك
البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت
سبيله قال: ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من
أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال لي: لن يزال عليك
من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شئ على الخير.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب. تعلم من تخاطب منذ ثلاث
ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذلك شيطان "]. انتهى.
فهذه الأحاديث تثبت رؤية الجن في عهد نبي لتكون معجزة له، أما في غير
زمان النبي فلا يرى كما قدمنا، (ولا التفات لدعوى بعض الناس في تخيلهم
أنهم يرون في لحظة صريعة أحيانا إنسان بشكل مميز كان يتخيلوا رجل قصير (قزم)
أو أشكالا أخرى).
والإمام الشافعي يقول كما تقدم: من زعم أنه رآهم نرد شهادته.

451
حكم التعامل مع الجن وإخراجهم
إتيان الكهان والعرافين
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا نصدق كاهنا ولا عرافا).
الشرح:
انتشر في هذا الأيام بين بعض الناس بشكل كبير ما يسمونه التعامل مع الجن
وتحضير الأرواح وإخراج الجني من بعض من يزعمون أنه أصيب بالصرع ولنا على
هذه الأمور ملاحظات:
الأولى: أما تحضير الأرواح فغير صحيح البتة، والمعلومات التي يعطيها
صاحب المعلومات غير صحيحة، ولا يجوز تصديق أخبارهم ولو طابق بعضها
الواقع، وتحصل المطابقة أحيانا إذا كانت سؤالا عن بعض ما يتعلق بشخصية
السائل مما وقع، لأن قرين الإنسان الذاهب للعراف يخبر قرين العراف المتصل
بالجان الذي يدعي بأنه يحضر الأرواح بالمعلومات المتعلقة بهذا الشخص كاسمه
واسم والده ووالدته وعدد أولاده وسنه فيظنه عندئذ إذا أخبره بذلك أنه يعلم
الغيب. وهذا فعل حرام وهو اشتغال بما لا فائدة فيه.
الثانية: وأما سؤال الجن والاتصال بهم فلا يقره الشرع قال تعالى (ويتعلمون
ما يضرهم ولا ينفعهم) البقرة: 102، ولقوله تعالى حكاية عن إبليس اللعين
(فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ص: 83،
والمخلصين هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا صريح في أن الشياطين
والجن يظلون الخلق ولا يهدونهم ولا يأخذون بأيديهم إلى الطاعة، ولقوله تعالى
(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) الجن: 6،

452
وقال تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه
الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم
فليبتكن آذن الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليا
من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم يمنيهم وما يعدهم الشيطان
إلا غرورا * أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) النساء: 121.
وقد انتشرت في هذه الأيام كتب تتضمن دعاوى محاورات مع الجان
والشياطين، وتتحدث بجهل بالغ عن عالم الجن والشياطين، وعن كيفية إخراج
الجني من المصروع، كما انتشرت أشرطة يزعمون أن فيها محاورات مع الجن،
وكلام بين مخرجي الجن من المصروعين وبين الجني الصارع، ويذكر في تلك
الأشرطة أن ذلك الجني تركي أو هندي أو صيني أو فرنسي وما إلى ذلك من
الترهات، ثم ذهب جماعة من المشايخ المنتمين إلى السلفية المعاصرة يدعون أن
بإمكانهم إخراج الجن، فجاءوا إلى كثير من المرضى الذين أصيبوا بصرع نتيجة
أمور تتعلق بالجهاز العصبي أو حالات إغماء أو صداع أو غير ذلك فجعلوا
يضربون أولئك المرضى ويؤذونهم ويثخنونهم بالجراح زاعمين بذلك أن الجني
سيخرج منهم بالضرب واللكم، وكل ذلك تخريف وضلال مبين وشعوذة ممقوتة
مذمومة بنظر الشرع، والذي فتح لهم هذا الباب على مصراعيه في هذا الزمن،
وجرأهم على هذه البدعة النكراء هو أحد مشايخهم الذي زعم أن جنيا أسلم على
يديه!! ولو فعل مثل هذه الأفاعيل النكراء أحد المتصوفة لرفعوا عقيرتهم بالرد عليه
ولقاموا بتأليف المجلدات الضخمة في بيان إلحاده وضلاله وانحرافه عن الجادة!!
ولله تعالى في خلقه شؤون!! لا يسأل عما يفعل وهم يسألون!!
وكل هذه الأعمال حرام مبين لا يجوز فعلها لما أسلفناه من الأدلة ولما سيأتي
إن شاء الله تعالى، وقد علمنا ديننا الحنيف أن نقرأ سورة الكرسي والمعوذتين وغير
ذلك لنقي أنفسنا من عمل الشياطين والسحر والسحرة.
ثم مما يجدر التنبيه عليه أنه يجب محاربة المشعوذين والسحرة الذين يكتبون

453
الحجب والتمائم التي تحوي غير القرآن من الطلاسم والحروف التي لا تفهم ولا
يدرى معناها ونحوها، والذين يستخفون بعقول بعض ضعفاء العقول بل وغيرهم
ليغنموا أموالهم بالباطل ألا ساء ما يزرون وهم كذابون، وعملهم حرام والإتيان
إليهم حرام، وبعض الناس يظنون أنهم يستطيعون أن يحلوا مشاكلهم أو يشفوا
مرضاهم وربما حدث المقصود استدراجا من الله تعالى لهم، مع أن الإسلام والعقل
السليم أمر الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولو كان هؤلاء المشعوذين يستطيعون ذلك
لاستعانت بهم الشرطة في كشف اللصوص فإنهم يستعينون بالكلاب ولا يستعينون
بهم، أو لاستعان بهم المسلمون في دحر أعداء الأمة أو غير ذلك من الأمور
المهمات.
ثم نقول لمدعي السلفية: هل كان السلف الصالح يقومون بما يقوم به أكثركم
اليوم وترضونه هل كان عبد الله بن المبارك والثوري وشعبة ويحيى بن معين وأحمد بن
حنبل يفعلون هذه الأفاعيل؟! حاشاهم من ذلك.
ونحن لا ننكر وجود الجن والشياطين ولا تلبسهم أحيانا نادرة جدا ببعض
الناس وإنما ننكر الاشتغال بما ذكرناه من المنكرات وإيهام أي مريض أو صاحب
مشكلة بأنه مصاب بتلبس أو أنه مسحور، كما ننكر إتيان العرافين والكهنة
وزاعمي إخراج الجن من الناس.
روى البخاري (10 / 114) وغيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال: أتت امرأة سوداء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي.
قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك " فقالت:
أصبر. ثم قالت: إني أتكشف (يعني إذا صرعت ووقعت على الأرض
ينكشف شئ من جسمها وهي لا تحب ذلك لأنها مؤمنة تقية) فادعو الله لي أن
لا أتكشف، فدعا لها ".
فانظر كيف لم يقل لها صلى الله عليه وآله وسلم: أنت قد تلبسك شيطان،

454
كما يزعم اليوم أولئك الخراصون، ثم بين أن علاجها إنما يتم بالدعاء، لا
بالضرب ونحوه مما يفعله اليوم المتمسلفون والدجالون!! فاعلم ذلك جيدا يرحمك
الله تعالى.
وعلى فرض أن الراكضين وراء التعامل مع الجن اتصلوا فعلا بجني يريدون
منه أمرا فإنه سيلعب بهم وسيخدعهم ويضللهم تحقيقا لبعض الآيات التي ذكرناها
قبل قليل والتي فيها قوله تعالى مخبرا عن الشيطان والجن (ولأضلنهم) لأنه إذا
كان في الإنس عفاريت مضلون فما بالك بالجن والعفاريت والشياطين
الحقيقيين؟!!!
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " شرح صحيح مسلم " (14 / 223):
[باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان: قوله صلى الله عليه وسلم " فلا تأتوا الكهان " وفي رواية
سئل عن الكهان فقال: " ليسوا بشئ " قال القاضي رحمه الله كانت الكهانة
في العرب ثلاثة أضرب:
أحدها: يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء
وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب
أو بعد وهذا لا يبعد وجوده ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين
وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون
ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام.
الثالث: المنجمون وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما
لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف وهو الذي يستدل
على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها وقد يعتضد بعض هذا الفن
ببعض في ذلك بالزجر والطرق (231) والنجوم وأسباب معتادة وهذه الأضرب كلها



(231) الطرق: الضرب بالحصى وهو ضرب من التكهن.
455
تسمى كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم والله أعلم].
انتهى.
وقد ثبت في صحيح مسلم (4 / 1748) عن معاوية بن الحكم السلمي الصحابي
قال: قلت يا رسول الله: " أمورا كنا نصنعها في الجاهلية: كنا نأتي الكهان؟
فقال صلى الله عليه وسلم:
" فلا تأتوا الكهان ".
وفي مسلم (4 / 1750) أيضا عن السيدة عائشة قالت: سأل أناس رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم " ليسوا بشئ " قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون
أحيانا الشئ يكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة،
فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ".
وفي " صحيح مسلم " (4 / 1751) أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا
فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين يوما ".
قال الإمام النووي في " شرحه " عليه (14 / 227):
[قوله صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)
أما العراف فقد سبق بيانه وأنه من جملة أنواع الكهان، قال الخطابي وغيره:
العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما، وأما عدم
قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه
ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة
للقضاء ولكن لا ثواب فيها كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا فصلاة الفرض وغيرها
من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض
عنه وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني،

456
ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من
أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله والله أعلم] انتهى.
وفي الحديث الصحيح الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى عرافا أو كاهنا
فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الإمام أحمد (2 / 429) والحاكم
(1 / 8).
قال العلامة المناوي في " فيض القدير شرح الجامع الصغير " (6 / 22):
" قال النووي والفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار
عن الكوائن المستقبلة ويزعم معرفة الأسرار، والعراف يتعاطى معرفة الشئ
المسروق مكان الضالة ونحو ذلك، ومن الكهنة من يزعم أن جنيا يلقي إليه
الأخبار ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه وأمارات يستدل بها عليه ".
ثم قال العلامة المناوي هناك:
[(من أتى عرافا أو كاهنا) وهو من يخبر عما يحدث أو عن شئ غائب أو
عن طالع أحد بسعد أو نحس أو دولة أو محنة أو منحة (فصدقه بما يقول فقد
كفر بما أنزل الله على محمد) من الكتاب والسنة، وصرح بالعلم تجريدا وأفاد
بقوله فصدقه أن الغرض إن سأله معتقدا صدقه، فلو فعله استهزاء معتقدا كذبه
فلا يلحقه الوعيد، ثم إنه لا تعارض بين ذا الخبر وما قبله لأن المراد أن مصدق
الكاهن إن اعتقد أنه يعلم الغيب كفر، وإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته
من الملائكة وأنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر، قال الراغب: العرافة
مختصة بالأمور الماضية والكهانة بالحادثة، وكان ذلك في العرب كثيرا، وآخر من
روي عنه الأخبار العجيبة سطيح وسواد بن قارب] انتهى.
وبذلك يتبين تحريم التعامل مع الجن والكهنة والعرافين وتحضير الأرواح
والاشتغال بهذه الأمور التي بيناها في هذا الفصل والله الهادي والموفق.

457
الإيمان بنعيم القبر وعذابه
(الذي هو نعيم البرزخ وعذابه في الحقيقة)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
([ونؤمن] بعذاب القبر لمن كان أهلا له، وسؤال منكر ونكير في قبره
عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن
الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من
حفر النيران، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، ونرجو
للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن
عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا
نقنطهم).
الشرح:
أما شرح هذه العبارات المجمل فهو:
أن المصنف رحمه الله تعالى بين أنه يجب علينا أن (نؤمن ب‍) حصول ووقوع
(عذاب القبر لمن كان أهلا له) وهم الكفار والعصاة والبغاة من المؤمنين، وكذلك
بحصول نعيم القبر لمن كان أهلا له وهم المؤمنون والأتقياء على حسب درجاتهم
عند الله تعالى، وقد ذكر المصنف عذاب القبر وأغفل ذكر نعيم القبر وهو خطأ
عام يقع فيه أغلب من يتكلم في هذا الموضوع، وعذاب القبر ونعيمه يراد به
عذاب البرزخ ونعيمه لقوله تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون:
100، وإنما نسب النعيم والعذاب للقبر لأن غالب البشر يدفنون، والعقل
البشري لا يستطيع أن يتصور في العادة إلا عذابا أو نعيما في هذا القبر على هذا
الجسد الذي أمامه والذي يراه بعينه، وإلا فمن أحرق أو غرق أو انفجرت فيه

458
طائرة مثلا فإنه ينعم ويعذب في البرزخ بلا شك ولا ريب، لأن نعيم البرزخ
وعذابه ثابت بقطعي الدلالات، خلافا ل‍، (سؤال منكر ونكير في قبر) الإنسان
(عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار) وهي من أخبار الآحاد ولم تتواتر
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والحق أن هذا السؤال إن قلنا به فهو على الروح في البرزخ
لا على الجسم والروح، لأن الروح لا تعود إلى الجسم خلافا لما جاء في بعض
الأحاديث والأقوال (232)، وما جاء (عن الصحابة رضوان الله عليهم) أيضا في
ذلك مما لا يخالف ما قررناه من القواعد ونصوص القرآن، لكن الصحيح أن
أقوالهم رضي الله تعالى عنهم ليست من الحجج الشرعية التي يصح التمسك بها،



(232) لأننا إذا قلنا بأن الروح تعود للبدن في القبر فإننا نعارض القرآن الكريم الذي ينص
على أن هناك حياتان وميتتان في مثل قوله تعالى (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا
اثنتين) غافر: 11. وقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم
يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) البقرة: 28. الموتة الأولى هي العدم الذي كان
الناس فيه قبل أن يخلقهم الله تعالى، والحياة الأولى هي الحياة الدنيا، والموتة الثانية
هي الموت بعد هذه الحياة الدنيا، والحياة الثانية هي إحيائهم يوم القيامة للبعث.
ولا يصح لأي إنسان أن يتمسك بقوله تعالى (ثم إليه ترجعون) مستدلا به على حياة
ثالثة لأنه لم يذكر قبله موتا بل عطف سبحانه هذه الجملة على الحياة الثانية ولم يفصل
بينهما بذكر موت، كما أن القول بخلاف هذا يعارض الآية الأولى التي قررت أن غاية
هذا البيان موتتان وحياتان (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين).
ولا يرد علينا قول بعضهم: فإن قبل هناك من أحياهم الله تعالى بعد موتهم كمن
أحياهم على يد سيدنا عيسى ابن مريم، والرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه
فهؤلاء أحياهم الله تعالى ثلاث مرات ولا تنطبق عليهم الآية!!
قلنا: هؤلاء مستثنون من عموم الآية لأن إحيائهم معجزة خارقة للعادة وللقانون
الذي أجراه الله تعالى ومتى شاء غيره، فيبقى العموم على عمومه وهؤلاء مستثنون،
وإلا فإن أخرجنا الجميع واستثنيناهم برد أرواحهم إليهم في قبورهم بطل النص وصار
لا معنى له لأن جمع أفراده يعتبرون مستثنون ساعتئذ!! وهذا لا يقول به عاقل!!
والحمد لله تعالى.
459
إذ أن قول الصحابي ليس بحجة كما هو القول الصحيح المقرر في علم الأصول،
فقول المصنف رحمه الله هنا في الاحتجاج بكلامهم مرجوح، وخاصة بعد ثبوت
تحديث بعضهم في بعض القضايا عن مثل كعب الأحبار أو عبد الله بن سلام أو
عن الكتب القديمة (233)، وقضية أن (القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة
من حفر النيران) جاءت في حديث ضعيف جدا بل موضوع (234)، (ولا نقول
لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) لقوله تعالى (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا
تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) البقرة: 81، (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم
الجنة برحمته) لقوله تعالى (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) النساء: 99، وقال
تعالى معلما إيانا أن ندعوه فنقول: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا
واغفر لنا وارحمنا) البقرة: 286، وقال تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم) التوبة: 102،



(233) وهذا مما لا يمكن أن يجادل فيه أحد فقد ثبت أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان
ينقل كثرا من الإسرائيليات وهو مولع بقراءة كتب أهل الكتاب، وتجد في " تهذيب
الكمال " (24 / 189) أن ممن روى عن كعب الأحبار: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن عمر، ومعاوية، وأبو هريرة!! وأن ممن روى عن عبد الله بن سلام
الإسرائيلي كما في " تهذيب الكمال " (15 / 75): أنس بن مالك وعبد الله بن مغفل،
وأبو هريرة وغيرهم وعن مثل هؤلاء دخلت الإسرائيليات وتسربت إلى الفكر
الإسلامي، فانتبه لذلك ولا تغفل عنه!!
(234) رواه الترمذي في سننه (4 / 640) وفي سنده علل منها: عبيد الله بن الوليد الوصافي،
وهو ضعيف جدا، وقال النسائي، متروك الحديث، وقال الحاكم: روى عن محارب
أحاديث موضوعة. أنظر " تهذيب التهذيب " (7 / 51). وقال الحافظ المنذري في
" الترغيب والترهيب " (4 / 238): " رواه الترمذي والبيهقي كلاهما من طريق
عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو واه ". ورواه الطبراني في الأوسط كما في " المجمع "
(3 / 46) وضعفه.
460
(ولا نأمن عليهم) لقوله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم
الخاسرون) الأعراف: 99، قال الإمام القرطبي في تفسيره (7 / 254): " قوله تعالى
(أفأمنوا مكر الله) أي عذابه وجزاءه على مكرهم. وقيل مكره استدراجه بالنعمة
والصحة " ا ه‍ وقد وقع في هذا الوصف وهو الأمن من المكر كثير من مدعي الولاية
والقطبانية ونحوها!! وكذلك كثير من العصاة الذين يتكلمون على رحمة الله
ومغفرته دون أن يعملوا ما يستوجب الرحمة والمغفرة!!. قال تعالى: (اعلموا أن
الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة: 98. وقال تعالى (وإن ربك
لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) الرعد: 6. معناه: أن
الله يغفر لمن تاب وأخلص وبقي خائفا من عقابه لا يتبجح على الناس بطاعة
ولا بعمل، وهو سبحانه شديد العقاب لمن لم يتب أو لمن يرائي ويدعي الدعاوى
الكاذبة والتي منها إظهار الولاية والتبجح بها، (ولا نشهد لهم بالجنة) لأنه لا
يشهد بالجنة إلا لمن هو مقطوع له فيها كالأنبياء والمرسلين ومن جاء فيه نص صريح
في أنه من أهل الجنة كالعشرة المبشرين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة
وأمهما ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيدة فاطمة، وأمها السيدة
خديجة، والسيدة عائشة، والسيدة مريم، ونحوهم رضوان الله تعالى عليهم،
ونقطع للذين وصفهم الله تعالى في القرآن بأنهم من أهل الجنة، كالمؤمنين الذي
يعملون الصالحات، فنقول: كل مؤمن عمل الصالحات في الجنة ولا نعين (235)



(235) ولذلك لما عين الصحابة أن فلانا في الجنة رد عليهم صلى الله عليه وآله وسلم!!
فقد روى البخاري (11 / 529) ومسلم (1 / 108) عن أبي هريرة: أن عبدا كان للنبي
صلى الله عليه وسلم يقال له مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواد القرى
بعد الرجوع من خيبر إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس هنيئا له الجنة، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم
لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ".
ومعنى عائر: قال الحافظ في " الفتح " (7 / 489): " سهم عائر... أي لا يدرى من
رمى به، وقيل هو الحائد عن قصده " ا ه‍.
وفي صحيح مسلم (1 / 107) أيضا عن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: لما كان يوم
خيبر أقبل نفر من صحابة التي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد، حتى مروا
على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلا!! إني رأيته في النار،
في بردة غلها أو عباءة ".
وفي الحديث الصحيح الآخر: " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس
وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل
الجنة " رواه البخاري (7 / 1 47 و 475) ومسلم (4 / 2042).
قلت: وهذه النصوص كلها قد تضافرت على المعنى الذي قررناه، ومنه يتبين شذوذ
مثل حديث الصحيحين [البخاري (3 / 223) ومسلم (2 / 655)] عن سيدنا أنس الذي يقول
فيه: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا
عليها شرا فقال: " وجبت " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟
قال: " هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار
أنتم شهداء الله في الأرض ".
461
بل نقول كما قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم: 32،
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " نحسبه هكذا ولا نزكي على الله أحدا " (236)،
(ونستغفر لمسيئتهم، ونخاف عليهم) من الذنوب والمعاصي، (ولا نقنطهم).
أي من رحمة الله تعالى فلا نقول لهم في الترغيب والترهيب ما لا يحصل ولم يثبت
عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي تفصيل هذا وشرحه أكثر
بعد قليل إن شاء الله تعالى.
قال إمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(مميت بلا مخافة).
الشرح:



(236) رواه البخاري (10 / 476) وغيره.
462
شرح مسألة الموت ونعيم القبر وعذابه وبيان هذا الأمر بالتفصيل:
يتضمن مبحث الإيمان بالموت عدة مباحث لا بد من تجليتها وبيان حقيقتها
وإزالة ما ران في عقول الناس من خطأ يتعلق ببعضها، وهذه القضايا هي: مسألة
الوفاة وقبض الروح وأنها ليست عذابا ولا ألما، ومسألة سكرة الموت وهي أيضا
ليست ألما ولا عذابا وهي تحصل لبعض الناس دون بعض، ومسألة ذهاب الروح
- وهي حقيقة الإنسان المدرك الباصر السامع - إلى عالم البرزخ إن كان صالحا
ينعم مع عباد الله الصالحين وإن كان طالحا فيعذب مع العباد المجرمين، ومسألة
نعيم القبر وعذابه الذي هو في الحقيقة نعيم البرزخ وعذابه، فلنذكر هذه المسائل
على سبيل التفصيل دون إسهاب ممل فنقول:
مسألة الوفاة وقبض الروح وأنها ليست ألما ولا عذابا:
قال الله تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا
الجنة بما كنتم تعملون) النحل: 32. وقال تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء، بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون)
النحل: 28. وقال تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم
ترجعون) السجدة: 11.
واعلم أن الوفاة وقبض الروح للمؤمن ليس فيها عذاب ولا ألم البتة خلافا
لما يصوره ويقوله بعض الناس!! والدليل عليه قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس
حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى
إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " الزمر. 42.
بين الله سبحانه في هذه الآية أن النوم نوع من الموت وفيه وفاة، فالله سبحانه
يتوفى الأنفس التي لم تمت حينما تنام وكلنا لا يشعر ألما في هذه الوفاة، وسكرة
الموت هي مثل نعاس النوم بالضبط، والفرق بين النوم والموت أن الموت يبقى فيه
العبد بكامل إدراكه وينتقل انتقالا كاملا إلى عالم البرزخ، خلافا للنوم فهو لا يذكر

463
فيه كثيرا ما يراه لأن الروح سترجع بعله للجسد.
وقد زعم بعض القصاص والوعاظ نقلا من الكتب التي تنقل الأحاديث المنكرة
والتالفة الموضوعة أن ألم الموت شديد جدا بحيث أنه ورد في بعض الأحاديث أنه
أشد من ألف ضربة بالسيف وفي بعض الروايات أشد من ألف وثلاثمائة ضربة
بالسيف (237) وكل ذلك باطل لا يصح، وهل تصح مثل هذه القضايا بعد ثبوت
التبشير والاطمئنان للمؤمن في القرآن الكريم؟!! وبعد مثل قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: " واجعل الموت راحة لي من كل شر " رواه مسلم (4 / 2087).
فإما أن نصغي للقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وإما أن نصغي لترهات القصاص والأحاديث الموضوعة التالفة (238)!!
فمن تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة:
1 - حديث: " إن أهون الموت بمنزلة حسكة كانت في صوف، فهل تخرج
الحسكة من الصوف إلا ومعها صوف؟! " رواه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر
الموت " عن شهر بن حوشب مرسلا كما قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء
(4 / 462) والحافظ السيوطي في زيادة الجامع الصغير. وهو واه، أي ضعيف جدا.
وقال الإمام الحافظ عبد الوهاب السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى " (6 / 382):
" لم أجد له إسنادا ".



(237) حديث موضوع انظر " المطالب العالية " (1 / 193) والموضوعات لابن الجوزي
(3 / 220).
(238) وللأسف الشديد وقعت مثل هذه الروايات الباطلة في كتب بعض العلماء
ك‍ " الإحياء " و " التذكرة " وكتب الشعراني سامحهم الله تعالى وغفر لهم، كما انتشرت
أيضا عند المشبهة والمجسمة بشكل فظيع، ووضعت اليوم في كثير من الكتب التجارية
التالفة التي تتحدث عن الموت واليوم الآخر!! ومن العجب العجاب أن ترى مثل
الحافظ!! ابن رجب قد ملأ كتابه " أهوال القبور " بتلك الأحاديث الموضوعة والتالفة
فما أدري أين ذهب الحفظ والنقد والمعرفة؟!
464
قلت: وهو باطل المتن.
2 - وحديث: " أدنى جبذات الموت بمنزلة مائة ضربة بالسيف " أخرجه ابن أبي
الدنيا أيضا مرسلا كما قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4 / 462) ورجال هذا
المرسل ثقات: والمرسل من ضعيف الحديث، والحديث باطل أيضا.
3 - وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب
والقصب والأنامل اللهم فأعني على الموت وهونه علي " قال الحافظ العراقي في
تخريج الإحياء (4 / 462): " رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث طعمة
بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي " ا ه‍ فهو باطل أيضا.
4 - وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على مريض ثم قال: " إني
أعلم ما يلقى، ما منه عرق إلا ويألم للموت على حدته " قال العراقي: " رواه
ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث سلمان بسند ضعيف... " ا ه‍.
5 - وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: " بلغنا أن الميت يجد ألم الموت ما لم يبعث
من قبره " وهذا خرافة إسرائيلية رواها ابن أبي الدنيا في كتاب الموت وأبو نعيم في
الحلية عن كعب الأحبار اليهودي، ومنه جاءت هذه الأفكار والطامات.
6 - وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: " إذا بقي على المؤمن من
درجاته شئ لم يبلغها بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وكربه درجته
في الجنة، وإذا كان للكافر معروف لم يجز به هون عليه في الموت ليستكمل ثواب
معروفه فيصير إلى النار " وهذا هراء لا قيمة له فانظر كيف يجعل الموت هينا على
الكافر ثقيلا على المؤمن!! وهذا الهراء رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت بسنده
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، و عبد الرحمن هذا ضعيف.
7 - ويروى أيضا: " لو أن قطرة من ألم الموت وضعت على جبال الدنيا كلها
لذابت " قال العراقي: " لم أجد له أصلا " وكذلك قال السبكي في الطبقات (6 / 382)

465
8 - وروي عن سيدنا موسى عليه السلام أنه لما صارت روحه إلى الله تعالى قال
له ربه: يا موسى كيف وجدت الموت؟ قال: وجدت نفسي كالعصفور حين يقلى
على المقلى لا يموت فيسترح ولا ينجو فيطير.
وروي أيضا عنه عليه السلام أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية تسلخ!!!
قلت: وهو هراء إسرائيلي منقول عن أهل الكتاب لا قيمة له، وهذا من
جملة طعنهم في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإذا كان الأنبياء وهم في حضرة
القرب والتجلي والإكرام والإنعام والروح والريحان يحدث فيهم هذا الألم وهذا
العذاب من الموت فما بالك بباقي الناس؟! والله تعالى يقول: (ومن يعمل من
الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما " طه: 122.
9 - ومن الكذب الإسرائيلي أيضا ما روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال
لكعب الأحبار: " يا كعب حدثنا عن الموت؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، الموت
كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل وأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل
شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى ".
قلت: قال العراقي: " رواه ابن أبي الدنيا بإسناده عن كعب الأحبار "!!
وكان سيدنا عمر يحتاج لمعرفة الموت أن يترك الكتاب والسنة والواقع ويسأل أمثال
كعب الأحبار!! وهو الذي قال له: لتتركن الأحاديث أو لألحقنك بأرض القردة.
[أنظر " تاريخ أبي زرعة " (1 / 544)] ولا يتصور ذلك بعد نهي النبي صلى الله عليه وآله
وسلم له عن النظر في كتبهم!
10 - وروي في حديث مكذوب موضوع أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: " إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها
على بعض تقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة " رواه الديلمي
وغيره وفي سنده: إبراهيم بن أبي هدبة، قال الذهبي: " كذاب واه "، وقال
الدارقطني: " متروك ". وقال الحافظ العراقي: " وأبو هدبة هالك " أنظر
" تخريج الأحياء " (4 / 463)، و " الميزان " (1 / 71).

466
11 - وقد روي أيضا عن سيدنا أنس مرفوعا: " الموت كفارة لكل مسلم " أي:
ألمه، وهو حديث موضوع أورده الحافظ ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات "
(3 / 218)، وانظر أيضا " اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " (2 / 415). وبمعناه
أيضا " الموت كفارة لكل ذنب ".
12 - وذكروا عن شداد بن أوس أنه قال: " الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة
على المؤمن وهو أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور،
ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بالموت ما انتفعوا بعيش ولا لذو بنوم ".
وهو كذب بحت مروي عن وهب بن منبه وكان قد قرأ الكتب القديمة المليئة
بالتحريف.
13 - وعن مكحول (وهو تابعي) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" لو أن شعرة من شعر الميت وضعت على أهل السماوات والأرض لماتوا بإذن
الله تعالى، لأن في كل شعرة الموت ولا يقع الموت بشئ إلا مات ".
قلت: هو كذب بحت، وقد كان رأس سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لما توفي في حجر السيدة عائشة وعلى صدرها فلماذا لم تمت معه؟!!!
قال العراقي: " رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت " قلت: وأكثر هذا
الكتاب خرافات وطامات، فليتنبه لذلك.
وقال الحافظ السبكي في الطبقات (6 / 382): " لم أجد له إسنادا ".
14 - قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء (4 / 462):
" وروي أن نفرا من بني إسرائيل مروا بمقبرة فقال بعضهم لبعض: لو دعوتم
الله تعالى أن يخرج لكم من هذه المقبرة ميتا تسألونه، فدعوا الله تعالى فإذا هم
برجل قد قام وبين عينيه أثر السجود قد خرج من قبر من القبور، فقال: يا قوم
ما أردتم مني لقد ذقت الموت منذ خمسين سنة ما سكنت مرارة الموت من قلبي ".

467
قال الزبيدي في " شرح الإحياء " (10 / 260): [رواه ابن أبي الدنيا في كتاب
الموت من حديث جابر بهذا اللفظ ورواه ابن أبي شبية في مسنده وأحمد في الزهد
وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن منيع والضياء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: " تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كان فيهم أعاجيب " ثم أنشأ يحدثنا
قال: خرجت طائفة منهم....] وذكر الحديث.
قلت: لا نشك في كذب هذه القصة الإسرائيلية، وأما الذين ذكرهم
الزبيدي بأنهم رووا الحديث فليس كذلك!! فقد رجعت إلى ابن أبي شيبة (6 / 235
طبعة دار الفكر) فلم أجد هذه القصة وإنما وجدت صدر هذا الحديث هكذا هناك:
[حدثنا وكيع عن الربيع بن سعد عن ابن سابط عن جابر قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم أعاجيب "] هكذا فقط ولم يزد
على ذلك، وإنما الذي زاد تلك القصة الخرافية ابن أبي الدنيا في كتابه!! لذلك
قال الزبيدي " بهذا اللفظ " أي عند ابن أبي الدنيا، وعلى كل حال ففي سنده
أيضا بدون ذكر القصة ضعف شديد وهو:
1 - الربيع بن سعد الجعفي: قال الذهبي في " الميزان " (2 / 40): " لا يكاد
يعرف ".
2 - عبد الرحمن بن سابط: قيل ليحيى بن معين سمع من جابر؟ قال: لا هو
مرسل. [أنظر " تهذيب الكمال " (17 / 1257)]. فالقصة لا أصل لها وصدرها ضعيف.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب هذه القصة في كتابه " أهوال القبور " حديث رقم
(237) وذكر أن هذه القصة مدرجة في الحديث وهي من قول ابن سابط أحد
رواته.
وقد حكم على سند الحديث دون هذه القصة المنكرة بأنه جيد، والواقع ليس
كذلك!! كما بينا، وكتابه هذا " أهوال القبور " فيه الطم والرم ولا عبرة بما فيه،
والله الهادي.

468
15 - عن سكين بن عبد العزيز العطار قال: ذكر أبي عن أنس لا أعلمه إلا رفعه
قال:
" لم يلق ابن آدم منذ خلقه الله عز وجل أشد عليه من الموت، ثم إن الموت
أهون مما بعده... " الحديث رواه أحمد (3 / 154) والطبراني في الأوسط كما في
" المجمع " (10 / 344).
قلت: وهو ضعيف الإسناد لأن الراوي عن سيدنا أنس هو عبد العزيز بن
قيس العبدي العطار أبو سكين وهو مجهول كما قال أبو حاتم (التهذيب 6 / 314) ولم يتابعه
أحد (239)، ومعنى المتن باطل لأن الموت بالنسبة للكافر ليس أهون من نار جهنم.
فكل هذا وأمثاله كذب بحت وأكثره من الإسرائيليات التالفة المخالفة لما جاء
في القرآن الكريم ولما ورد في سنة سيد المرسلين الصحيحة الثابتة عنه (240).



(239) وقد جود إسناد هذا الحديث الحافظ المنذري في الترغيب (4 / 390) وتبعه على ذلك
الحافظ الهيثمي في المجمع (10 / 334) وهو خطأ كما بينت، وانظر " مجمع البحرين "
(8 / 90).
(240) وما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في هذا الباب في الجزء الرابع من الإحياء وهو
كتاب ذكر الموت وما بعده من ص (448 - 468) من روايات وأقوال للعلماء والصالحين
والعارفين والصوفية، لا يجوز التعويل عليه ولا الالتفات إليه وهو باطل، مع أن كتاب
الإحياء وباقي كتب الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فيها علم غزير وحق واضح كثير،
والعصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام!! فلا تغفل عن هذا.
469
قضية سكرات الموت وبيان أنها ليست عذابا ولا ألما وأنها تصيب بعض الناس
دون بعض:
ما هو تعريف السكرة؟! السكرة مشتقة من السكر، قال الراغب:
[السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب،
وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذلك قال الشاعر:
(سكران سكر هوى وسكر مدام) ومنه سكرات الموت].
أقول: فالسكر هو غياب العقل أو ضعفه، وسكرة الموت هو غياب الروح
في عالم البرزخ ورجوعها إلى الجسد، وهي مثل النعاس للنائم، ولم يقل أحد بأن
السكر ألم، أو أن السكران هو المتألم، بل السكران هو الفاقد للشعور، إذا
فهمت ذلك نقول لك:
قال الله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
ومعناه: وجاءت لحظة الموت بالحق أي مع بيان هل هو سعيد أو شقي، فإن
الملائكة كما تقدم تبشر المؤمنين عند موتهم بالرحمة والعفو ودخول الجنة وأما الكفار
والعصاة البغاة فتضرب وجوههم وأدبارهم.
والسكرة هنا هي الغيبوبة وهو المشاهد من بعض الأموات دون بعض،
والدليل على ذلك وهو الذي لا مرية فيه أن كثيرا من الناس يموتون وهم نيام أو
فجأة أو بانفجار في طائرة أو سيارة أو سفينة أو حادث فيموتون في لحظة ولا تأتيه
سكرة الموت التي يتخيلها من بنى هذه القضية على الخرافات الإسرائيلية التي تقدم
الكلام على بعضها. وقد عقد البخاري في صحيحه (3 / 254) بابا سماه " باب موت
الفجاءة، البغتة ".
[قاعدة مهمة جدا]: والأصل في هذه المسائل والأبواب في حال
المؤمنين والكافرين قول الله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الفجر: 30 " وقال تعالى: (ولو

470
ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب
الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) الأنفال: 51، وقال
تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول
لهم *........ * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك
بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) سورة سيدنا محمد: 28.
وقوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة
بما كنتم تعملون) النحل: 32.
ولا عبرة بأي حديث أو أثر أو قول خالف هذه القواعد التي تقررت في
القرآن الكريم. ولا يملك أي إنسان بعد هذا البيان أن يخوف المؤمنين ويدعي
أن الخوف والفزع وضغطة القبر ومثل هذه الأمور ستصيب المؤمن والمسلم،
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) الكهف: 5.
قلت: وقد أوردوا في سكرات الموت أحاديث ليستدلوا بها على أنها آلام
لا بد من ذكرها والجواب عليها فنقول:
1) حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
عند موته: " اللهم أعني على سكرات الموت " رواه الترمذي (3 / 308) وقال:
" حديث غريب " (241) وفي نسخة عبد الباقي: " حسن غريب " وهو حديث
ضعيف، لأن في سنده موسى بن سرجس لم يوثقه أحد ولا حتى ابن حبان فهو
مجهول وأصل الحديث " إن للموت سكرات " فتصرف في لفظه فصار " اللهم أعني
على سكرات الموت " غلطا.



(241) هكذا نقل الحافظ ابن حجر عن الترمذي في " التهذيب " (10 / 307) في ترجمة أحد رواته
الضعفاء المستورين وهو موسى بن سرجس. وقد أخطأ الحافظ رحمه الله تعالى عندما
حسن هذا الحديث في الفتح (11 / 362)، والحديث رواه أيضا ابن ماجة (1 / 518) وأحمد
في المسند (6 / 64 و 70 و 77 و 151) والحاكم في المستدرك (2 / 465) و (3 / 56) وهو ضعيف
بلا شك.
471
وأصل الحديث في البخاري (11 / 361) " إن للموت سكرات " ولا يفيد هذا
أن في السكرات عذاب ولا ألم البتة، بل يقرر هذا النص فقط أن بعض الناس
يصابون بسكرة أثناء موتهم، إن صح هذا الحديث!! فإن الحافظ قال هناك في
الشرح " لكن في كل من الطريقين ما ليس في الآخر، فالظاهر أن الطريقين
محفوظان " ا ه‍. وقد ذكر هذا الحديث الحافظ الدارقطني في " الالزامات والتتبع "
ص (350).
وقد ربط الذين أثبتوا الألم في سكرات الموت بين هذا اللفظ وبين ما جاء في
حديث آخر فأخطأوا!! والحديث الآخر هو: عن عبد الله بن مسعود قال:
دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك. فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا
شديدا. قال: " أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ". قلت: ذلك بأن
لك أجرين. قال: " أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما
فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها " رواه البخاري (10 / 111)
ومسلم (4 / 1991).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: " وعن الأصمعي: الوعك الحر، فإن كان
محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها " ا ه‍. فالقضية لا علاقة لها بالسكرات
وإنما هي بالحمى التي في المرض.
قلت: وقول الحافظ هنا (فإن كان محفوظا) يفيد أن هذه الألفاظ يحتمل
أنها من تصرف الرواة فكيف يصح الاعتماد عليها وترك نصوص القرآن القطعية
التي تبشر المؤمن بالروح والريحان عند موته.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من أحب لقاء الله أحب
الله لقاءه... المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله تعالى وكرامته، فليس
شئ أحب إليه مما أمامه " (242) والمؤمنين وخاصة الأنبياء من أشد الناس حبا للقاء



(242) رواه البخاري (11 / 357) ومسلم (4 / 2065) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله
تعالى عنه.
472
الله تعالى وفرحا بالموت الذي فيه لهم من الله تعالى الإكرام والإنعام والاستراحة
من نصب الدنيا، وقد جاء أيضا في حديث صحيح " مستريح ومستراح
منه " (243) المؤمن مستريح، والكافر مستراح منه.
فأولئك الذي ربطوا سكرات الموت بالوعك وبالألم أخطأوا لأن هذا ألم الحمى
مما يسمى اليوم (السخونة) التي كانت قد أصابت سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وأجسام البشر عندما تصيبهم الحرارة والحمى والسخونة فإنهم
يتألمون ولا علاقة لهذا الأمر بسكرات الموت!! فافهم. لا سيما وأن الأنبياء
عليهم صلوات الله وسلامه ليسوا بمعصومين عن الأمراض الخفيفة كما مر معك
قال صاحب " إضاءة الدجنة ":
وغير قادح من الأعراض * في حقهم يجوز كالأمراض
للأجر والتشريع والتخلي * عن زهرة الدنيا وللتسلي
وبهذا البيان تبين نفي الخوف والفزع والألم والجزع عن المؤمنين عند موتهم والله
يتولانا وهو يهدي إلى سواء السبيل.



(243) رواه البخاري (11 / 362) ومسلم (2 / 656) عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه.
473
فصل
في بيان أن الإنسان يكون بعد موته في البرزخ لا في القبر
إعلم يرحمك الله تعالى أن المراد بنعيم القبر وعذابه على التحقيق هو نعيم
البرزخ وعذابه، لقوله تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون: 100،
والبرزخ هو العالم الذي ينقل الله تعالى إليه الأرواح بعد الممات، وروح الإنسان
هو المدرك العالم الباصر السامع في الإنسان على التحقيق، والجسم ثوب لا غير،
والدليل عليه ما جاء في الحديث الصحيح أن أهل الجنة يدخلونها وأجسامهم مثل
سيدنا آدم طول أحدهم ستين ذراعا وعرضه سبعة أذرع (244) وغير ذلك.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: أخرجي
راضية مرضيا عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح
المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتون به باب السماء، فيقولون:
ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد
فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألون: ماذا فعل فلان ماذا فعل
فلان؟! فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم قالوا
ذهب به إلى أمه الهاوية.
وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون أخرجي
ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى
يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح



(244) جاء في الحديث الثابت في الصحيحين عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا " رواه البخاري
(6 / 362) ومسلم (4 / 2184) واللفظ له.
474
الكفار ".
رواه النسائي (4 / 8) والحاكم (1 / 353)، وكذا ابن حبان (7 / 285) بلفظ قريب
لهما، وهو حديث صحيح غير معارض. ويمعناه أيضا مختصرا جاء في صحيح
مسلم (2202).
فنحن نؤمن بالنعيم بعد الموت بل من ساعة الموت إلى قيام الساعة للمؤمنين،
وبالعذاب للكفار والفاسقين والظالمين، ونعتقد ذلك ونضلل من أنكره لوروده
في القرآن والسنة.
قال الإمام اللقاني في شرح منظومته (الجوهرة) وهو مخطوط (2 / 164):
" قال الجلال: قال العلماء: عذاب القبر هو عذاب البرزخ
أضيف إلى القبر لأنه الغالب، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما
أراد به - سواء - قبر أم لم يقبر، ولو صلب أو غرق في بحر أو أكله) الدواب أو حرق حتى صار رمادا أو ذري في الريح... وكذا القول في
النعيم " انتهى.
وإنما نسب النعيم والعذاب للقبر لأن أكثر الناس يقبرون لا غير.
وأما الآيات والأحاديث في إثبات النعيم والعذاب فمنها قوله تعالى (فلولا
إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا
تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن
كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين *
فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من
حميم * وتصلية جحيم) الواقعة: 94، وهذه فيها ذكر النعيم والعذاب.

475
الآيات التي تذكر نعيم القبر (أي البرزخ):
قال الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم
من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) آل عمران: 170 فانظر إلى قوله تعالى
(يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) أي إذا ماتوا وهم متقون مثلهم
(ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة
الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من
غفور رحيم) فصلت: 38.
ومن الحديث: ما جاء في " صحيح مسلم " (3 / 1502) من حديث عبد الله بن
مسعود مرفوعا: " أرواحهم - الشهداء - في جوف طير خضر لها قناديل معلقة
بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت... " الحديث.
وعن كعب بن مالك مرفوعا: " نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى
يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " رواه الإمام أحمد في " المسند " (3 / 455) والطبراني
في " الكبير " (19 / 64)، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1 / 437): " وهو بإسناد
صحيح عزيز عظيم ".
ومعنى قوله " طائر يعلق في شجر الجنة " أو " في جوف طير خضر " أي
أن الطائر مركب له لا أن الإنسان محبوس فيه كما أفاده سيدي عبد الله ابن
الصديق أعلى الله درجته في كتابه في الشهداء، فتنبه.

476
الآيات التي تذكر عذاب القبر (أي البرزخ):
قال تعالى (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل
فرعون أشد العذاب) غافر: 46، فدل على أن هذا العذاب قبل قيام الساعة وما
ذاك إلا عذاب البرزخ المسمى بعذاب القبر.
وقال تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم
وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام
للعبيد) الأنفال: 51.
وقال تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا
أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير
الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام: 93.
قال المحدث الكتاني في كتابه " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " الحديث
(113):
[أحاديث عذاب القبر ونعيمه] وبعد أن ذكر رواية ذلك عن (32) من
الصحابة، قال:
" وقال الأبي في شرح مسلم في الكلام على أحاديث شق العسيب على القبر
ما نصه قال عياض: فيه عذاب القبر، قلت: تواتر، وأجمع عليه أهل
السنة ا ه‍...
وقال اللقاني في شرحه لجوهرته لما تكلم على عذاب القبر ونعيمه ما نصه:
ودليل وقوعه قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا). وأما الأحاديث،
فبلغت جملتها التواتر ا ه‍... وقال في إرشاد الساري نقلا عن صاحب المصابيح
قال: قد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد أنها متواترة، لا
يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شئ من أمر

477
الدين... " ا ه‍.
فالخلاصة من هذا أننا نثبت نعيم القبر وعذابه ونقول بأنهما في البرزخ حقيقة،
لا في القبر الذي يدفن فيه الجسد وأن السؤال يكون في البرزخ، وأما حديث
" القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار " فحديث ضعيف جدا
أخرجه الترمذي (4 / 639 برقم 3460) والطبراني كما في " المجمع " (3 / 46) وضعفه.
وهو غير صحيح المعنى إذا أريد به الموضع الذي يوضع فيه الجسد، وصحيح
المعنى إذا أريد به البرزخ، هذا مع التنبه لضعفه.
ضمة القبر عقيدة باطلة لا أساس لها من الصحة:
إعلم أنه قد انتشر بين الناس عامة فيما أذاعه الخطباء والوعاظ والقصاص
والمدرسون الذي يحملون الغث والسمين دون أن يغربلوه!! أنه إذا وضع الميت
في قبره فإنه يكون كما هو الآن في حالة حياته مدركا عالما باصرا سامعا فيضغطه
القبر ويضمه ضمة حتى تختلف فيها أضلاعه ولو نجا من ضمة القبر أحد لنجا
سيدنا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن!! هكذا يقولون!! وهو قول
باطل فاسد!!
ونحن بدورنا يجب علينا أن نبين ذلك ونجلي أوجه فساد هذه العقيدة الباطلة
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
الدليل على بطلان قضية ضمة القبر وخاصة للمؤمنين:
قال الله تعالى (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا
خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 112. وقد ذكر الله تعالى في آيات كثيرة أن
المؤمن من ساعة وفاته إلى ساعة دخوله الجنة لا يدخل عليه هم ولا خوف ولا
حزن، وفكرة ضغطة القبر خوف كبير وهلع مستطير مناقض ومعارض لما هو مقرر
في القرآن الكريم، ومن تلك الآيات التي تبين البشرى والطمأنينة التي يجدها من

478
ساعة وفاته قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم
ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) النحل: 32، وتفسير ذلك ما جاء في الحديث
الصحيح عن سيدنا كعب بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نسمة المؤمن طائر يعلق
في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " رواه أحمد (3 / 455) وغيره وهو
صحيح، وبمعناه تقريبا ما جاء أيضا في صحيح مسلم (3 / 1502) عن سيدنا
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
ولا يكاد قارئ القرآن يحصي الآيات التي فيها تبشير المؤمن الطائع بما له عند
الله من الأجر والثواب والطمأنينة و (أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
2) وقال الله تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون) الجاثية: 21.
في هذه الآية بين الله تعالى لنا أن المؤمن التقي لا يكون كالفاجر الشقي
في حياته ولا في مماته، وبعموم هذا البيان نقول: يستحيل أن يتساوى المؤمن
والكافر أو التقي والعاصي في أن كل منهما سيضمه القبر حتى تختلف أضلاعه
وتزول حمائله!! والذي يؤكد هذا أيضا قوله تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين
ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون) القلم: 37. وقال تعالى:
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) طه: 122.
3) وجاء في صحيح البخاري (3 / 232) ومسلم (4 / 2201) عن قتادة أنه قال: " وذكر
لنا أنه يفسح له (أي للمؤمن) في قبره سبعون ذراعا " وهو موصول من غير طريق
قتادة عند الترمذي (3 / 383 برقم 1071) وابن حبان في صحيحه (7 / 381) والحاكم (1 / 379)
وغيرهم (245). ولم يذكر في هذه الروايات أنه يضم ويضغط القبر على المؤمن بل



(245) أنظر سنن أبي داود (4753) و " شعب الإيمان " (1 / 356) للبيهقي، وهذه الأحاديث
نوردها لمن يجادل في هذه المسألة ولا ينظر إلا إلى الأحاديث وصحة أسانيدها!! وإلا
فنحن لا نسلم بها ولا نقول بذلك!! بل نقول إن الأموات يكونون في البرزخ لا في
القبور.
479
ذكر أنه يفسح له، فهذا يعارض أحاديث الضم!!
4) أن صاحبا الصحيحين لما رويا قصة سيدنا سعد بن معاذ حذفا منها قضية
ضغطة القبر وضمته وهذا يؤكد لنا أن هذه القضية مردودة ومعلة بنظرهما، وهو
أمر معتبر عند أهل الحديث وخاصة إذا ضممناه لما قبله ولما بعده من الأدلة من
تفنيد أحاديث الضم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
حجج من أثبت ضغطة القبر على المؤمنين!!:
احتج من أثبت عقيدة الضمة والضغطة بحديث النسائي (4 / 100) عن ابن
عمر مرفوعا:
" هذا الذي تحرك له العرش (يعني سعد بن معاذ) وفتحت له أبواب السماء
وشهده سبعون ألف ملك لقد ضم ضمة ثم فرج عنه " (246) رجاله ثقات إلا أنه



(246) ورواه النسائي في الكبرى (1 / 660) من طريق ابن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن
ابن عمر، وهو في الصغرى من طريق ابن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن
عمر، ورواه ابن حبان في صحيحه (7 / 379) من طريق نافع عن صفية - امرأة ابن
عمر - عن عائشة، والطبراني في الكبير (6 / 10 و 13) من طريق عبيد الله عن نافع عن
ابن عمر، ومن حديث جابر في الموضع الآخر، وحديث جابر رواه الإمام أحمد
(3 / 360 و 377) والبيهقي في " دلائل النبوة " (4 / 29) وفي سندها جميعا عن غير ابن عمر
معاذ بن رفاعة وهو وإن كان من رجال البخاري إلا أن ابن معين ضعفه، وقال
الأزدي: لا يحتج بحديثه.
وقد أفاض الزبيدي في " شرح الإحياء " (10 / 422) في ذكر روايات حديث الضمة وكذا
ابن كثير في " البداية والنهاية " (4 / 126)، وكلها ضعيفة أو باطلة لا يصح التمسك
بها لما بينا.
وقد أورد الحافظ ابن الجوزي حديث سعد بن معاذ في الموضوعات (3 / 233) فأصاب،
وحاول المدارسي في ذيل القول المسدد ص (127) أن يرد ذلك فلم يصب إطلاقا لأنه
نظر إلى بعض أسانيد الحديث ولم ينظر إلى معارضته للقرآن.
480
مضطرب الأسانيد باطل المتن لأنه يعارض القرآن كما تقدم ولذلك أورده ابن
الجوزي من بعض طرقه في الموضوعات.
وروى أحمد (5 / 407) عن سيدنا حذيفة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما
انتهينا إلى القبر قعد على شفته فجعل يردد بصره فيه ثم قال:
" يضغط المؤمن فيه ضغطة تزول منها حمائله ويملأ على الكافر نارا... "
الحديث. وهو ضعيف منكر، قال الحافظ العراقي: رواه أحمد بسند ضعيف.
[أنظر شرح الإحياء 10 / 422].
وروي أيضا أن القبر ضغط بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب لما دفنت رضي
الله عنها!! فقد جاء في رواية باطلة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء
ليدفن ابنته زينب رضي الله عنها حزن وسئل عن ذلك فقال: " كنت أذكر ضيق
القبر وغمه وضعف زينب فكان ذلك يشق علي فدعوت الله أن يخفف عنها ففعل
ولكن ضغطها ضغطة سمعها من بين الخافقين إلا الإنس والجن " (247).
أقول: كيف استجاب وفعل: ثم ضغطها هذه الضغطة؟!! ما هذا
التناقض؟!! الذي يتعالى عنه مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي رواية أشد بطلانا من هذه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس عند
قبر ابنته رقية (248) رضي الله عنها عند دفنها فتربد وجهه ثم سري عنه فسأله



(247) رواه الطبراني (1 / 257 برقم 745) وكذا (22 / 433 برقم 1054) وهو ضعيف ومنكر، ولذا
أورده ابن الجوزي في الموضوعات (3 / 321) وفي العلل المتناهية (2 / 426)، ورد من
رد على ابن الجوزي بأنه ليس موضوعا بل هو ضعيف ليس بشئ لأنه قد اقتصر في
نظره على السند والحافظ ابن الجوزي نظر إلى السند والمتن المخالف للقرآن فقوله هو
الصواب.
(248) ذكرها الزبيدي في شرح الإحياء (10 / 423) وعزها لسعيد بن منصور وابن أبي الدنيا!!
والحديث أورده الحافظ السيوطي في " اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " بسند
سعيد بن منصور وغيره ونقل عن الحافظ ابن الجوزي أنه قال: الحديث لا يصح من
جميع طرقه. قلت: فلا تغترن بعد ذلك ببعض الأسانيد الأخرى فالحديث مخالف
للقرآن فافهم ولا تتعن!!
481
أصحابه عن ذلك فقال " ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج
عنها، وأيم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين "!!
ثم قال الزبيدي في " شرح الإحياء " (10 / 423) بعد ذكر هذين الحديثين:
" وقد عرف مما تقدم من الأخبار والآثار أن ضمة القبر لكل أحد فدخل فيه
الصبيان الذين ماتوا صغارا، ومما يشهد لذلك ما رواه الطبراني بسند صحيح عن
أبي أيوب أن صبيا دفن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت
هذا الصبي " (249).... وروى عمر بن شبة في كتاب المدينة عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ما عفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد " قيل: يا رسول
الله: ولا القاسم ابنك، قال: " ولا إبراهيم " وكان أصغرهما (250)]!!!
انظروا كيف حصل الاضطراب والتناقض والتضارب في هذه الروايات ففي
بعضها أن الذي ضم القبر عليها رقية وفي بعضها زينب بنتا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكيف دعا أن يخفف عنها ومع ذلك ضغطت ضغطة سمعها ما بين الخافقين!!



(249) والصواب أنه باطل وغير صحيح، رواه الطبراني في " الكبير " (4 / 121) وفي سنده
حماد بن سلمة عن غير ثابت، ورواه ابن عدي في الكامل (2 / 536) على أنه من
منكرات ثمامة بن عبد الله كما هو معلوم عند أهل الحديث، وأعله الدارقطني كما ذكر
الضياء في المختارة (70 / 1 الظاهرية) حيث قال: " قال الدارقطني: رواه حرمي بن عمارة
وسعيد بن عاصم الملحي شيخ بصري عن حماد عن ثمامة بن أنس، وخالفهم وكيع
وأبو عمرو الحوضى، روياه عن ثمامة مرسلا، وهو الصحيح " أي أن الصحيح
إرساله، والمرسل من ضعيف الحديث، وقول الحافظ الهيثمي في " المجمع " (3 / 47):
" رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح " ليس كذلك كما بينا، ثم هو وإن
كان رجاله رجال الصحيح وظاهر إسناده الصحة فهو معل بالارسال ومعارض
بالقرآن، وهو باطل والسلام.
(250) وهو حديث تالف.
482
ومن العجب العجاب أن يحصل هذا في آل بيته صلى الله عليه وآله وسلم
وفي مناصريه ولا يحصل في بني أمية أعداؤه كما لا يحصل في واضعي هذه الأحاديث
الباطلة التالفة المهزولة!!
ولا ندري أين ذهبت شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم وأين ذهب قول الله
تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى)؟!!
وإذا كان هذا حال أبناء النبيين والمرسلين الأتقياء البررة الصالحين والصحابة
الصادقين فما بالك بحال من بعدهم وحال أهل هذه الأعصار؟!! وفي هذه العقيدة
الباطلة تيئيس للمؤمن من رحمة الله تعالى ومن عفوه وإنعامه وكرمه!! فوالله ما
هذا إلا كذب مبين وافتراء على شريعة سيد المرسلين!!
وعلى كل حال أيضا فهذه أحاديث آحاد ولا تثبت بمثلها عقائد!! وخاصة أنها
معارضة للقرآن!!
ولما رأى المروجون تهافت عقيدة الضغطة هذه وبطلانها أمام نصوص القرآن
الكريم التي تقرر عدم دخول الخوف والفزع على المؤمنين من ساعة مماتهم وتضارب
الأحاديث الواردة في ذلك وضعف أسانيدها، اخترعوا قضية أخرى ليلطفوا
الجو في هذه المسألة فزعموا أن القبر يضم المؤمن كالأم الحنون بعدما قالوا إن المؤمن
يضغط في القبر ضغطة تزول منها حمائله (201)!!
قال الزبيدي [" في شرح الإحياء " (10 / 423) "]:
[روى ابن أبي الدنيا عن محمد التيمي قال: كان يقال إن ضمة القبر إنما
أصلها أنها - أي الأرض - أمهم ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة (202) فلما



(251) قال الزبيدي في " اتحاف السادة المتقين " (10 / 422): " قال الأزهري: الحمائل هنا
عروق الأنثيين، قال: ويحتمل أن يراد موضع حمائل السيف أي عواتقه وصدره
وأضلاعه " قلت: والأنثيين معناها في اللغة الخصيتين وكذا الأذنين.
(252) أين غابوا عنها وهم يدبون ويروحون ويجيئون طيلة أيام حياتهم عليها؟!!
483
رد إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة التي غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن
كان لله مطيعا ضمته برأفة ورفق، ومن كان عاصيا ضمته بعنف سخطها منها عليه
لربها. وروى البيهقي وابن منده والديلمي وابن النجار عن سعيد بن المسيب أن
عائشة قالت:
يا رسول الله منذ يوم حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني
شئ، قال: " يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في أسماع المؤمنين كالإثمد في
العين!! وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع
فتغمز برأسه غمزا رفيقا، ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون
في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة "] وهو حديث مكذوب موضوع قبح الله
واضعه.
وهذا الذي حكاه الزبيدي هنا يخالف ما حكاه قبل ذلك بأسطر حيث قال:
" قال أبو القاسم السعدي في كتاب الروح له: لا ينجو من ضغطة القبر صالح
ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغطة للكافر (253)
وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله في قبره ثم يعود إلى الإفساح فيه، قال:
والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت. وقال الحكيم الترمذي: سبب
هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما وإن كان صالحا فجعلت
هذه الضغطة جزاء لها (254) ثم تدركه الرحمة ولذلك ضغط سعد بن معاذ في التقصير



(253) وهذا مما يكذبه الواقع!! فكم رأينا قبورا لأناس من الكفار لا تزال قبورهم كما حفرت
ليس فيها ضغطا ولا ضما ولا قربا ولا بعدا!! والله المستعان على من يتلاعب بعقول
الناس ويخوفهم بأمر ظاهر البطلان!! فإذا قالوا: هو ضم معنوي. قلنا: قد بطل
إذن أصل كلامكم والحمد لله.
(254) وأين ذهبت مغفرته سبحانه لذنوب من شاء من عباده؟!! ثم إنه أثبت الضمة حتى
للصبي!! والصبي غير مكلف ولم يقترف ما يصح أن يسمى إثما وخطيئة فكيف يتم
ويقبل بعد ذلك هذا الكلام المتناقض؟!!
484
من البول " ا ه‍.
أقول: وهذه الأقوال وأمثالها هراء لا ينبغي الالتفات إليها بعد وضوح أدلة
القرآن الناصة على فكرة الأمان والاطمئنان والبشرى و (أن لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون) والله الهادي.
[تنبيه]: ثم في إثبات العذاب والضغطة والهول والفزع ونحو هذه
الأمور للمؤمن بعد موته نسبة الظلم لله تعالى وإثباته له!! وهو أمر مستشنع
ومرفوض شرعا!! وتعالى الله سبحانه أن يظلم أحدا!!
قال تعالى: (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون)
يونس: 44. وقال تعالى (ولا يظلم ربك أحدا) الكهف: 49. وقال تعالى (إن
الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما)
النساء: 40.
فإن قال قائل: وكيف يصاب الأطفال والأبرياء في الدنيا بالآلام والمصائب؟!
قلنا: إنما يكون هذا الأمر في دار الدنيا لأنها دار امتحان واختبار وبلاء
وقد شاء الله ذلك!! أما بعد الموت فلا يصيب المؤمن من هموم الدنيا وآلامها
ومصائبها شئ لأن الله وعد المؤمنين الذين عملوا الصالحات والأتقياء والمسلمين
والأصفياء بذلك، ووعده سبحانه لا بد أن يتم والدليل على ذلك قوله تعالى:
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة: 9.
وقال تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم:
6.
والدليل على أن لا كرب على المسلم من ساعة موته قول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لابنته السيدة فاطمة عندما حزنت عليه عندما علمت أنه سيموت
فقالت: واكرب أباه. فقال لها " ليس على أبيك كرب بعد اليوم " رواه البخاري
(8 / 149) وغيره. فافهم هذا ولا تنسه!!

485
فصل
في
معالجة الخوف المتولد من التفكر بالموت
والإنكار على الكتب والأشخاص الذين يعطون صورا مخطئة عن هذا
الموضوع
تقدم معنا قبل قليل الكلام على ضغطة القبر والسكرات، وبينا هناك أنه
ليس هنالك ضغطة بالأدلة من الكتاب والسنة، وأن الموت ليس ألما وأن معنى
سكرة الموت لحظة الموت، وأن سكرة الموت هي انكشاف عالم البرزخ للروح قبل
خروجها من الجسد لقوله تعالى (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)
وليس في ذلك على المؤمن ألما ولا عذابا مثاله مثال النعاس للنائم خلافا للكافر،
فإذا تحققت ذلك وعرفته فنقول:
العجيب الغريب أن المصنفين والمدرسين والمؤلفين والوعاظ يذكرون للناس
عذاب القبر ولا يذكرون لهم نعيمه، ويزيدون على ذلك فيخوفونهم من الموت
ومن القبر وظلمته فيوردون لهم أحاديث منكرة وموضوعة وضعيفة في ذلك منها قولهم
إذا وضع الإنسان في قبره يقول له القبر:
" أنا بيت الدود، أنا بيت الظلمة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت الغربة ".
وهذا موضوع وكذب بلا شك. والانسان بعد موته يكون في البرزخ بعيدا
عن الجسد فلا يتأثر لو أحرق بدنه أو أكله الدود (255).



(255) وما ورد في بعض الأخبار من إيذاء الميت بالجلوس على قبره مثلا فهو من باب الايذاء
المعنوي للروح في البرزخ وذلك بعدم احترام الجسد، إذ أن أجساد المؤمنين لها حرمة
فلا يجوز أن يمثل بها ولا أن يفعل بها ما يصح أن يسمى انتهاكا لحرمتها وعدم
احترامها. فافهم.
486
والأحاديث الصحيحة التي يوهم ظاهرها أو يفيد أن النعيم والعذاب يقع في
نفس القبر فهي آحاد لا تعارض القطعيات ثم هي مؤولة ولا نحتاج لإطالة الكلام
فيه هنا.
ثم إن من حكمة الله تعالى ومشيئته في أمور خلقه التي أرادها أن لا يترك
الإنسان وحده لا أثناء حمله ولا عند ولادته ولا في حياته ولا في مماته ولا في محشره
ولا في الجنة ولا في النار، لأنه هو الواحد الأحد الذي شاء أن يجعل خلقه أزواجا.
فالانسان في بطن أمه يكون مع أمه قريبا جدا منها وحوله أهله ثم يولد فيكون
الناس حوله وهكذا يعيش طيلة حياته ثم يموت فيستقبله في عالم البرزخ أهله الذين
ماتوا قبله أو الصالحون من عباد الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى (يستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم يكون
في المحشر مع الناس وكذلك في الجنة والنار كما هو معلوم، فإياك أن تظنن بأن
الله تعالى سيتركك وحدك البتة لا سيما أن الشارع قد نهى عن الوحدة كما جاء
في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله " لو يعلم الناس ما في
الوحدة ما أعلم ما سرى منهم راكب بليل " وأمر بالجماعة ورغب فيها ونهى عن
الشذوذ وحذر منه، فهذا بيان ذلك وليس بعد هذا بيان.
وقد أدى هذا التصور المخطئ عن الموت وكذلك الرعب الناشئ عنه أن
تموت روح الجهاد وحب الموت عند المسلمين في هذه الأعصار، خلافا لحال
الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين كانوا يحبون الموت أكثر من الحياة، فهذا
خالد بن الوليد يقول في بعض رسائله لأحد زعماء الكفر: " لقد أتيتك بأناس
يحبون الموت كما أنتم تحبون الحياة " وفي صحيح مسلم (3 / 1510) أن الصحابي
عمير بن الحمام الأنصاري أخرج تمرات يأكلهن في المعركة ثم قال: " لئن أنا
حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة. قال فرمى بما كان معه من التمر
ثم قاتلهم حتى قتل ".

487
وروى أحمد (1 / 349) بسند صحيح عن سيدنا ابن عباس أنه دخل على السيدة
عائشة عند وفاتها فقال لها: " أبشري يا أم المؤمنين فوالله ما بينك وبين أن يذهب
عنك كل أذى ونصب أو قال وصب وتلقي الأحبة محمدا وحزبه إلا أن تفارق
روحك جسدك ".
ولما حضر بلالا رضي الله عنه الوفاة قالت امرأته وا حزناه فقال: بل وا طرباه
غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه. ذكره الزبيدي في " شرح الإحياء " (10 / 330) (256)
وذكر هناك أقوالا مثل هذه عن بعض الصحابة، فليرجع إليها من شاء.
وقال الذهبي [في " سير أعلام النبلاء " (2 / 294) وفي تاريخ الإسلام (5 / 358) في ترجمة السيدة أسماء]:
" عن ابن عيينة عن منصور بن صفية، عن أمه، قالت: قيل لابن عمر: إن
أسماء في ناحية المسجد - وذلك حين صلب ابن الزبير - فمال إليها، فقال:
إن هذه الجثث ليست بشئ وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري ".
ورجال إسناد هذا الأثر ثقات.
وقد نقل أئمة المسلمين أن كثيرا من العلماء والأولياء الصالحين رآهم الناس
بعد موتهم في حالة جميلة من السرور والحبور، فمثلا: قال الحافظ الذهبي في
" سير أعلام النبلاء " (18 / 278) أن الخطيب البغدادي رؤي بعد موته في النوم فقيل
له:
" كيف حالك؟ قال: أنا في روح وريحان وجنة نعيم ".
وقال الذهبي هناك أيضا:
" قال أبو الحسن.. الزعفراني: حدثني الفقيه الصالح حسن بن أحمد



(256) وقد ذكر هناك أن أبي الدنيا رواه، وذكر إسناده فقال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد
حدثنا أبو مسهر حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: قال بلال فذكره. وأبو الحسن الذي
في سنده هو الطنافسي الحافظ وهو محدث قزوين شيخ ابن ماجة وهو ثقة. أنظر ترجمته
في " السير " (11 / 459).
488
البصري قال: رأيت الخطيب في المنام - أي بعد وفاته - وعليه ثياب بيض حسان
وعمامة بيضاء، وهو فرحان يتبسم، فلا أدري قلت: ما فعل الله بك؟ أو هو
بدأني، فقال: غفر الله لي، أو رحمني وكل من يجبئ - فوقع لي يعني بالتوحيد
- إليه يرحمه، أو يغفر له، فأبشروا، وذلك بعد وفاته بأيام ".
[تنبيه مهم جدا]:
ولما كان أكثر من يكتب اليوم إنما يريد من كتابته الربح المادي والتجارة (257)،
وهو واقع في آصار التقليد ومحروم من النظر الصحيح والاجتهاد المعتبر مع وجود
آلاته رأينا كتبا كثيرة تطبع وتطرح في الأسواق وفي المكتبات تحمل أفكارا مخطئة جدا
عن الموت!! واليوم الآخر!!
ودأب كاتبي تلك الكتب هو النقل من بعض الكتب القديمة التي تحمل في
ثناياها الطم والرم، والغث والسمين، ويذكرون فيها الأحاديث التالفة الموضوعة
التي لا يستطيع عامة الناس أن يكتشفوا الزغل والكذب منها بل يظنون أنها أشياء
صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن مناقشتها ولا ردها
ولا تزييفها وإبطالها!!!
ويظن أولئك الكاتبون لهذه الخرافات أنهم بذلك يعالجون الناس ويرهبونهم
من المعاصي ويجعلونهم ملتزمين بأحكام الدين!! وهذا غلط فاحش!! فمثل هذه
الكتب لم تصنع إلا ردة فعل عند الناس وجعلتهم يهربون من الدين والالتزام به
أو يصابون بمرض الكآبة والأسقام النفسية المبنية على الأفكار والتصورات الفاسدة
الباطلة!!



(257) كما لا يقصد النصيحة لله تعالى والتقرب إليه سبحانه!! وخدمة الإسلام!! وإنما يقصد
أيضا الجاه والسمعة والرياء!! وأن يذكر في ديوان المصنفين والكتاب!! والذي يهمه
هو إرضاء الناس لا رضي الله سبحانه!! فلذلك آل الأمر إلى ما ترى. ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!
489
ثم تفنن الجهلاء في هذا العصر تفننا ذريعا حيث ذهبوا إلى تصميم أغلفة
لكتبهم الفاسدة التي تحمل تلك الأفكار الهزيلة بتصميمات مرعبة بعيدة عن
الطمأنينة والارتياح مخالفين نهج القرآن (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)!! وقوله
صلى الله عليه وسلم " بشروا ولا تنفروا "
فوضعوا على تلك الأغلفة مثلا: صورة ثعبان ملتف على آدمي أو صورة
أناس في مكان مذعورين من النار أو صورة دخان وأشباح أو...... إلى غير
ذلك من ترهات فارغة!!
كما قاموا بتسجيل أشرطة (كاسيت) يتحدثون فيها عن الموت بصورة غير
صحيحة البتة!! والذي نقوله هو تحريم تأليف هذه الكتب والأشرطة وتحريم
نشرها كما نقول بتحريم قراءة تلك الكتب أو سماع تلك الأشرطة إلا من قبل
العلماء الذين يتمكنون من قراءتها لنقدها وتفنيد ما فيها!! والله الموفق.
ويتلخص من الآيات والأحاديث التي مرت معك أن الموت فيه أمران لا بد من
معرفتهما واعتقادهما:
الأمر الأول: أن الموت ليس عدما بالنسبة للانسان، بل هو بقاء الروح وهي
المدركة العالمة الباصرة السامعة العاقلة، ويعتبر الإنسان الذي يعتقد أن الإنسان
يفنى ويصبح عدما بالموت ضالا كافرا ليس مسلما معتقدا لعقيدة الإسلام الحقة.
والأمر الثاني: أن الإنسان لا يكون في القبر المظلم الموحش حتى قيام
الساعة، بل يكون بعد خروج روحه من بدنه مباشرة في عالم البرزخ الذي أخبرنا
الله تعالى عنه بقوله (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) إما منعا وإما معذبا.
وهذان هما عنصرا الإيمان في قضية الموت وعذاب القبر وفاقد هما أو أحدهما
فاقد للإيمان في هذا الموضوع.
ونثبت النعيم والعذاب لمن لم يدفن من الأموات، كمن انفجرت به طائرة

490
أو صاروخ فضاء أو غرق في البحر أو تفجرت السفينة التي هو بها في حرب وغيرها
وأكلته حيتان البحر لأن النعيم والعذاب غير مربوط بالقبر بل هو في عالم البرزخ
كما دل عليه القرآن في قوله تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).
وقد اختلف أهل السنة والجماعة في النعيم والعذاب، هل عائد على الروح
أم على الجسد والروح، ونرى أن الأقوى أنه على الروح فقط، ولا مانع أن يكون
على الجسد أيضا بطريقة لا يمكننا إدراكها، ولا يخالف هذا ظهور العذاب على
بعض الأجساد في الأحيان النادرة، كما يظهر حفظ بعض الأجساد من البلى على
ممر العصور والدهور أحيانا.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (3 / 233):
" لم يتعرض - البخاري - في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط
أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركها لأن الأدلة
التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم واكتفى بإثبات
وجوده " ا ه‍ أي وجود عذاب القبر دون أن يتعرض هل هو على الروح أو عليها
وعلى الجسد، وقولنا (عذاب القبر) المراد به عندنا أينما ذكرناه وكذا في كلام العلماء
حسب ما نرى هو عذاب البرزخ فلا تغفل عن هذه النقطة.
وأما سؤال الملكين الوارد في الأحاديث فالصحيح عندنا أن السؤال واقع في
البرزخ إن ثبت فعلا لا في نفس القبر ويحصل السؤال للمؤمنين بكل راحة وطمأنينة
كما يسأل الإنسان في الدنيا عن أشياء وهو لم يقترف جريمة وهو يعلم أنه غير معذب
لأن الملائكة تكون قد بشرت المؤمن عند خروج روحه بأنه من المؤمنين الناجين
الذين قال الله عنهم (فروح وريحان وجنة نعيم) كما أنهم لا يخافون لأن الله
تعالى وعد بذلك كما جاء في القرآن في قوله سبحانه (لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون).
وقال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا

491
الجنة بما كنتم تعملون) النحل: 32.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (3 / 234) عند الكلام على سماع الأموات (في
شرح حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه
" ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ") نقلا عن السهيلي ما نصه:
" وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان
رؤوسهم كما هو قول الجمهور، أو بأذان الروح على رأي من يوجه السؤال إلى
الروح من غير رجوع للجسد ". فتأمل جيدا.
والذي يظهر لنا في باب الجمع بين الأدلة الواردة في هذا الموضوع أن الله تعالى
أحدث اتصالا بين روح الإنسان في عالم البرزخ وبين البقعة التي دفن فيها الجسد
(وهو القبر) فمن ذهب إلى قبر إنسان وسلم عليه، أو دعا له أو غير ذلك فإن
ذلك الميت (أي الإنسان في البرزخ) يسمعه ويشعر به، كما جاء في الحديث
الصحيح " ما من أحد يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه
ورد السلام عليه " وهو حديث صحيح رواه الخطيب في تاريخه (6 / 137) وغيره.
وقد أحدث التصور المخطئ عن الموت في هذا العصر عند كثير من الناس
اضطرابا وخوفا شديدا من الموت وما بعده حتى أورث أمراضا نفسية عند بعضهم
وهي ما يسمى اليوم بمرض الكآبة، وهو قبض روحي لشعور صاحب التصور
المخطئ أنه لا بد له أن يمر في يوم من الأيام بمرحلة العذاب والخوف المتعلق
بالموت ونحو هذه الأمور، ونحن نطمئنه ونبشره ونقول له لن يمر بك ذلك وخاصة
إن كنت مسلما تقيا، لأن الله تعالى يقول في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه عن المؤمنين (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا
هم يحزنون) البقرة: 38، وقال تعالى (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره
عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 112، وقال تعالى (الذين
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم

492
ولا هم يحزنون) البقرة: 274، وقد ذكر الله تعالى للمؤمنين قوله (لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون) في القرآن في نحو اثني عشر موضعا تأكيدا لهذا الأمر في نفوس
أهل الإيمان.
وقال تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) إلى
قوله تعالى (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم
توعدون) الأنبياء: 103، فإذا كانوا لا يفزعون في الفزع الأكبر يوم القيامة وقد أمنهم
الله تعالى من الخوف، فما بالك بالفزع الأصغر الموت وما بعده!! وقال تعالى
(من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) النمل: 89.
فالله تعالى بشر المؤمنين، ولكن هؤلاء الوعاظ وبعض العلماء يخوفونهم،
ويحدثونهم بالواهيات والضعاف أو بالأحاديث الصحيحة المعارضة بالقطعيات!!
ومن تلك الأحاديث حديث ضمة القبر للمؤمن والكافر وأنه لم ينج من ضمة القبر
حتى سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن عند موته فرحا بلقياه (258)، والصحيح
أننا لا نأخذ بهذا الحديث لأن معناه يخالف ما ثبت في القرآن من الرحمة والبشرى
للمؤمنين وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هذا ما نعتقده وندين الله تعالى
به، ولا نرد الآيات المحكمات القطعيات التي تبشر المؤمن وتعلمه بأنه لا خوف
عليه ولا حزن، لحديث آحاد يدخل الرعب والخوف على قلوب الناس، بل لا
نعتقد صحته إسنادا ومتنا.
واعلم أنه لا بد للمؤمن من أن يتعادل عنده جانب الخوف والرجاء لا يطغى
أحدهما على الآخر وإلا صار قانطا أو متواكلا.



(258) هذا الحديث رواه النسائي في سننه (4 / 100 برقم 2055) فقال: أخبرنا إسحق بن إبراهيم
قال حدثنا عمر بن محمد العنقزي قال حدثنا ابن إدريس عن عبد الله عن نافع عن
ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هذا الذي تحرك له العرش (يعني سعد بن
معاذ)، وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألف ملك لقد ضم ضمة ثم فرج
عنه " وكذا رواه ابن حبان في صحيحه (7 / 379) ورجاله ثقات وظاهر إسناده الصحة
إلا أنه غريب وشاذ ومشكل عندي ككثير من الأحاديث التي حكم عليها العلماء
بالشذوذ وبعضها في الصحيحين، وذلك لأمرين، الأول: أنه معارض بالقرآن كما
ذكرنا، والثاني: أن نافعا يرويه تارة عن امرأة ابن عمر عن السيدة عائشة كما في
مسند أحمد (6 / 55) وفيه ما يدل على اضطراب القضية، وتارة عن ابن عمر، وروي
أيضا من حديث سيدنا حذيفة عند أحمد (5 / 407) بسند ضعيف. والثالث: أن هناك
أحاديث عديدة تكلمت عن الميت المؤمن والكافر وما يلقيان ولم تتعرض البتة لضمة
القبر وضغطته بل تعرضت الأحاديث التي بعضها في البخاري ومسلم إلى أن القبر
يفسح عليه، وصاحبا الصحيحين لم يخرجا حديث الضغطة في صحيحهما مع أن
إسناده على شرط مسلم، وهذا الأمر معتبر إذا ضم إلى ما قبله من التعليل.
وقد روى الطبراني (4 / 121) عن أبي أيوب مرفوعا: " لو أفلت أحد من ضمة القبر
لأفلت هذا الصبي " قلت: ولا يثبت لأن في سنده حماد بن سلمة عن غير ثابت،
وهذا غير معقول مع الآيات التي ذكرناها ولأن الصبي ليس مكلفا، وهو آحاد غير
متواتر فلا يبنى عليه أصل في الاعتقاد، وقد نص الدارقطني أن هذا الحديث مرسل
غلط بعض الرواة فجعله متصلا وقد تقدم الكلام في هذا مفصلا.
493
[تنبيه]: وإننا ننصح من يخاف من الموت والقبر أن يتذكر هذه الأمور
العقائدية أولا ويقنع نفسه بها، وهي أن الله تعالى بشره بالنعيم وأخبر بأن الإنسان
لا يفنى بالموت إطلاقا، وأنه لا يكون في حفرة مظلمة، وإنما يكون إن كان مؤمنا
تقيا مع إخوانه المؤمنين في البرزخ وهم الذين سبقوه والذين قال الله تعالى فيهم
(يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون)، وننصح هذا الخائف أيضا أن يحافظ على الفرائض ويكثر من النوافل
وخاصة قيام الليل ولو ركعتين أو أربع ركعات يطيل فيهن السجود ويلتجئ إلى
الله ليذهب الخوف والجزع عن قلبه ويدخل عليه الطمأنينة والراحة والسكينة،
وكذلك يقرأ القرآن ويكثر من ذكر الله تعالى، قال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن
القلوب) فكلما قلت طاعاته وكثرت معاصيه ازداد خوفه والعكس بالعكس.
كما ينبغي أن يتذكر من تذكر الموت والقبر أيضا سعة رحمة الله تعالى والجنة

494
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته بنا وشفاعته لنا وأمثال هذه الأمور، لأن
الموت والقبر يدخلان ويوردان على القلب حالات قبض جلالية، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم
والشفاعة والجنة ورحمة الله تعالى تورد حالات بسط جمالية، فيتعادلان فيزول
الخوف والقبض اللذان يورثان مرض الكآبة الذي يعجز عن معالجته الأطباء
النفسانيون، لأن الأمر يحتاج إلى علاج روحي وقد ذكرناه لكم الآن، والأطباء
يعطون المصاب لمعالجته مسكنات لن تجدي، ولا يعني ذلك أننا ندعو إلى الذهاب
لأهل السحر والكهانة والحجب المرفوضة وإنما ندعو إلى فهم العقيدة الإسلامية
من علماء الإسلام المخلصين على الوجه الصحيح لا المخطئ. والله الموفق
والهادي.
(فصل): في إثبات سماع الأموات للأحياء:
اعلموا يرحمكم الله تعالى أن بعض من توهم أن الأموات لا يسمعون ظنوا
أن قول الله تعالى (وما أنت بمسمع من في القبور) فاطر: 22، دليلا على ذلك،
وليس كذلك، بل هذه الآية دليل على أن الكفار المصرين على الباطل لن ينتفعوا
بالتذكير والموعظة كما أن الأموات الذين صاروا إلى قبورهم لن ينتفعوا بما يسمعونه
من التذكير والموعظة بعد أن خرجوا من الدنيا على كفرهم، فشبه الله تعالى هؤلاء
الكفار المصرين بالأموات من هذا الوجه، ونص على ذلك أهل التفسير
فراجعه، وإني أنقل لك قول واحد منهم: جاء في تفسير ابن كثير (3 / 560) في تفسير
آية (وما أنت بمسمع من في القبور) أن المعنى:
" أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار
بالهداية والدعوة إليها كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة
لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم (إن أنت إلا نذير) فاطر: 22 " ا ه‍.
واعلم أن الله تعالى قال (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذ

495
ولوا مدبرين) (259) النمل: 88، وأنت تعلم أن الأموات لا يولون مدبرين بعد العظة
والتذكير وإنما المراد بذلك الكفار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كما في البخاري (11 / 208): " مثل الذي يذكر الله تعالى والذي لا يذكره مثل الحي
والميت ".
إذا فهمت ذلك فتدبر الآن في أدلة سماع الأموات:
1 - روى الإمام البخاري (7 / 301) ومسلم (2 / 643) في صحيحيهما من حديث ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قليب
بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما
أقول... ".
وفي رواية في الصحيح (البخاري 7 / 301): أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
جعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان،
أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم
ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها،



(259) الضمير في قوله سبحانه (إذا ولوا مدبرين) عائد على الموتى وعلى الصم، لأن المراد
بكل منهما الكفار " وهذا ظاهر بداهة، فالموتى والصم هم الكفار لا الأجساد،
ونص على ذلك أئمة محققي المفسرين قال الطبري في تفسيره (مجلد 11 جزء 20 صحيفة
12):
[وقوله (إنك لا تسمع الموتى) يقول: إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من
طبع الله على قلبه فأماته لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه (ولا يسمع الصم
الدعاء) يقول: ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله عن سماعه سمعه (إذا ولوا
مدبرين) يقول: إذا هم أدبروا معرضين عنه لا يسمعون له، لغلبة دين الكفر على
قلوبهم ولا يصغون للحق ولا يتدبرون ولا ينصتون لقائله، ولكنهم يعرضون عنه
وينكرون القول به والاستماع له] انتهى من الطبري.
وهذا يثبت بلا شك أن الضمير في قوله (ولوا) يعود على الأموات وعلى الصم.
وكذا قال الإمام الحافظ أبو حيان في تفسيره النهر الماد (2 / 634) فليراجع.
496
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " والذي نفس محمد بيده ما أنتم
بأسمع لما أقول منهم " ا ه‍.
ومن رد هذا الكلام الصريح بكلام السيدة عائشة قلنا له:
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (7 / 304) ما نصه:
" ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد
عن عائشة مثل حديث أبي طلحة - يعني أنها أثبتت أن الأموات يسمعون - وفيه
ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها
رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد
القصة " ا ه‍.
2 - عن سيدنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: " إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام "
رواه الحاكم في المستدرك (2 / 421) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي فيض
القدير (2 / 479): " رواه أحمد في المسند والنسائي وابن حبان والحاكم، قال
الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ العراقي: الحديث متفق عليه دون
قوله سياحين " ا ه‍.
3 - قال الحافظ السيوطي " في اللمعة في أجوبة الأسئلة السبعة " (الحاوي 2 / 170):
[روى الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد من حديث ابن عباس قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في
الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " صححه الحافظ أبو محمد بن
عبد الحق].
قلت: رواه الخطيب في تاريخه (6 / 137) وهو صحيح كما بينته في كتابي
" الإغاثة ".
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

497
" ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام " رواه
أبو داود وغيره، وصححه النووي في رياض الصالحين وفي الأذكار، وقال الحافظ
ابن حجر: رجاله ثقات، كما في فيض القدير.
قال الإمام الحافظ السيوطي في رسالته (إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء) المطبوع
ضمن الحاوي (2 / 147):
[قوله (رد الله) جملة حالية، وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا
ماضيا قدرت (قد)، كقوله تعالى: (أو جاؤوكم حصرت صدورهم) النساء:
90 أي قد حصرت، كذا تقدر هنا، والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع
من كل أحد و (حتى) ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى الواو، فصار
تقدير الحديث:
(ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك فأرد عليه).
وإنما جاء الإشكال على من ظن أن جملة (رد الله علي) بمعنى الحال،
أو الاستقبال، وظن أن (حتى) تعليلية، وليس كذلك، وبهذا الذي قررناه
ارتفع الإشكال من أصله وأيده من حيث المعنى: أن الرد لو أخذ بمعنى الحال
والاستقبال لزم تكرره عند تكرار سلام المسلمين، وتكرر الرد يستلزم تكرار
المفارقة، وتكرر المفارقة يلزم عليه محذوران:
أحدهما: تأليم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح منه، أو نوع ما من
مخالفة التكريم إن لم يكن تأليم.
والآخر: مخالفة سائر الشهداء وغيرهم، فإنه لم يثبت لأحد منهم أن يتكرر
له مفارقة الروح وعودها في البرزخ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى
بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة]. انتهى كلام الحافظ السيوطي.
5 - وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم:

498
" والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى ابن مريم إماما مقسطا وحكما
عدلا، فليكسرن الصليب ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء
وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأجبته " رواه
أبو يعلى (11 / 462 برقم 6584) والحاكم (2 / 595). قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد "
(8 / 211): " قلت هو في الصحيح باختصار رواه أبو يعلى ورجاله رجال
الصحيح " ا ه‍.
قلت: وفي قوله (لأجبته) دلالة ظاهرة في سماعه إياه.
6 - وجاء في الصحيحين البخاري (الفتح 3 / 205) ومسلم وكذا عند أحمد والسدي
والبزار وابن حبان مرفوعا:
" إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم " وهو محمول عندنا على
سماعه إياهم في البرزخ.
7 - جاء في حديث أبي هريرة والسيدة عائشة وبريدة واللفظ له عند مسلم وغيره
كما في " تلخيص الحبير " (2 / 137): [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول
إذا ذهب إلى المقابر: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا
إن شاء الله بكم لاحقون، أسال الله لنا ولكم العافية "].
قلت: وهذا نداء ودعاء للأموات صريح من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وخطاب من لا يسمع ولا يعقل غير جائز وغير معقول.
وبذلك ثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن الأموات يسمعون، وقد كتب بعض
الناس في هذه الأيام ما يفيد عدم سماعهم مستدلين بظاهر الآية التي ذكرناها لكن
استدلالهم بها خطأ لما بيناه، والله الموفق.

499
انتفاع الأموات بأعمال الأحياء
(ومن ذلك وصول قراءة القرآن الكريم للأموات وانتفاعهم بها)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات).
الشرح:
قال الإمام النووي في كتاب " الأذكار " ص (258) (260):
" أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه، واحتجوا بقوله
تعالى (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان) الحشر: 10، وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها، وفي الأحاديث
المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " (261) وكقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم اغفر
لحينا وميتنا " (262) وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب القرآن... " ا ه‍.
قلت: وأجمع المسلمون على مشروعية صلاة الجنازة التي فيها دعاء للميت
كما فيها قراءة الفاتحة، والمقصود أن تعود بركة الدعاء وثواب قراءة الفاتحة والأذكار
فيها على الميت.
وعن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال لي أبي:



(265) في كتاب الجنائز منه باب ما ينفع الميت من قول غيره. من طبعة دار الفكر الأولى
(1403 ه‍).
(261) رواه مسلم في " صحيحه " (2 / 669).
(262) رواه أحمد في " المسند " (2 / 368) وفي مواضع أخرى، وأبو داود (3 / 211) والترمذي
(3 / 344) والنسائي (4 / 74 صغرى) وابن ماجة (1 / 480) وابن حبان في صحيحه (7 / 340)
وغيرهم وهو صحيح.
500
" يا بني: إذا أنا مت فألحدني فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى
ملة رسول الله ثم شن علي التراب شنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها،
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك " (263).
وقال الإمام النووي في " الأذكار " ص (254) أيضا:
[وروينا في سنن أبي داود والبيهقي بإسناد حسن عن عثمان رضي الله عنه
قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم
وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ".
قال الشافعي والأصحاب: يستحب أن يقرؤوا عنده شيئا من القرآن، قالوا
فإن ختموا القرآن كله كان حسنا.
وروينا في سنن البيهقي بإسناد حسن أن ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر
بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها (264)] انتهى كلام الإمام النووي.
وعادة المسلمين في القديم والحديث أنهم كانوا يقرؤون القرآن ويختمونه
لأمواتهم وقد فعلوا ذلك لأئمتهم من العلماء والفقهاء والمحدثين، وقد ذكر الحافظ



(263) رواه الطبراني في " الكبير " (19 / 221) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد "
(3 / 44): " ورجاله موثوقون ". قلت: وهو حديث حسن، وحسنه شيخنا الإمام
المحدث " سيدي " عبد الله ابن الصديق في كتابه " توضيح البيان لوصول ثواب القرآن "
المطبوع مع " إتقان الصنعة " ص (110)، قلت: بل هو حديث صحيح احتج به
يحيى بن معين كما في " تهذيب الكمال " للمزي (22 / 537 - 538)، والإمام أحمد وعلي بن
موسى الحداد كما روى ذلك الخلال. وفي معناه حديث آخر ضعيف الإسناد إلا أنه
حسن بهذا الشاهد وهو ما رواه الطبراني في " الكبير " (12 / 444) والبيهقي في شعب
الإيمان (7 / 16) عن سيدنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره وليقرأ عند رأسه فاتحة
الكتاب ".
(264) أنظر " سنن البيهقي " (4 / 56).
501
الذهبي في تراجم كثير من الأئمة أن المسلمين فعلوا ذلك ووهبوه للميت منهم،
ففي ترجمة الإمام الحافظ الخطيب البغدادي مثلا من " سير أعلام النبلاء " (18 / 286)
قال:
" وختم على قبره عدة ختمات ".
[ملاحظة مهمة]: ومن الخطأ الشائع عند بعض الناس!! بل وبعض المفتين
على بعض المشارب مسارعتهم للقول بأن الميت لا ينتفع بعمل غيره محتجين بقوله
تعالى (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) النجم: 39، وبحديث " إذا مات ابن
آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد
صالح يدعو له " (265).
وإليكم الجواب على هذا مقتطفا من رسالة " سيدي " الإمام عبد الله ابن
الصديق الغماري " توضيح البيان لوصول ثواب القرآن " (266)، قال أعلى الله درجته
ورحمه وأثابه:
[لم تنف - الآية - انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفت ملكه لغير سعيه وبين
الأمرين فرق لا يخفى، فأخبر الله تعالى أن الإنسان لا يملك إلا سعيه، أما سعي
غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه وهو
سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى.
قال ابن القيم وكان شيخنا - يعني ابن تيمية (267) - يختار هذه الطريقة
ويرجحها ا ه‍.
وقال القرطبي: وقيل إن الله عز وجل إنما قال (وأن ليس للانسان إلا ما



(265) رواه مسلم (3 / 1255) وغيره.
(266) وهي مطبوعة بذيل كتابه الذي سماه أعلى الله مقامه: " إتقان الصنعة في تحقيق معنى
البدعة ".
(267) ونقل كلام الشيخ الحراني وتلميذه ابن زفيل هنا من باب قولهم: من فمك ندينك!!
فافهم!!
502
سعى) ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للانسان إلا ما
سعى، فإذا تصدق عليه غيره فليس يجب له شئ، إلا أن الله عز وجل يتفضل
عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل ا ه‍.
وفي فتاوى الحافظ ابن الصلاح ما نصه:
" مسألة في قوله تعالى (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) وقد ثبت أن أعمال
الأبدان لا تنتقل. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا
من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " وقد اختلف في
القرآن: هل يصل إلى الميت أو لا؟ وكيف يكون الدعاء يصل إليه والقرآن
أفضل؟! أجاب رضي الله عنه: هذا قد اختلف فيه، وأهل الخير وجدوا البركة
في مواصلة الأموات بالقرآن، وليس الاختلاف في هذه المسألة، كالاختلاف في
الأصول، بل هي من مسائل الفروع، وليس نص الآية المذكورة دالا على بطلان
قول من قال: إنه يصل، فإن المراد به - أي نص الآية - أنه لا حق له ولا جزاء
إلا فيما يسعى، ولا يدخل في ذلك ما يتبرع به الغير من قراءة ودعاء وأنه لا حق
في ذلك ولا مجازاة، وإنما أعطاه الغير تبرعا، وكذلك الحديث، لا يدل على بطلان
قوله، فإنه في عمله، وهذا من عمل غيره ا ه‍.
وقال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا
ينتفع إلا بعمله، فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في
دخولها، ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار.
ثالثها: أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن في الأرض.
رابعها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط، بمحض فضله
ورحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم.

503
خامسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم.
سادسها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين (كان أبوهما صالحا).
سابعها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق، بنص السنة والإجماع.
ثامنها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت، لحج وليه عنه، بنص السنة.
تاسعها: أن الحج المنذور، أو الصوم المنذور، يسقط عن الميت بعمل غيره،
بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير.
عاشرها: أن المدين قد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه
أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو من عمل الغير ا ه‍ باختصار.
فتبين مما تقدم أن الاستدلال بالآية على منع وصول القراءة للميت، غير
صحيح، لأن الآية لا تفيد ذلك].
انتهى ما أردنا نقله من كلام سيدي عبد الله ابن الصديق والله الموفق.

504
أشراط الساعة وعلاماتها
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن
مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج
دابة الأرض من موضعها).
الشرح:
ذهب جمهور أهل السنة والجماعة إلى أن للساعة أشراطا أي علامات لا تقوم
حتى تحصل هذه الأمور، واستدلوا بقول الله تعالى في كتابه العزيز:
(فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا
جاءتهم ذكراهم) سورة سيدنا محمد: 18.
قالوا: وبعد ظهور بعض علامات الساعة لا يقبل إيمان من آمن أو تاب
بعد ذلك لقوله تعالى:
(هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك،
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت
في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) الأنعام: 158.
وقد ذكر القرآن الكريم بعض علامات الساعة التي يقول بها أهل السنة في
قوله تعالى:
في الدابة: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم
أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) النمل: 82.
وفي الدخان: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا

505
عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) الدخان: 11.
وفي نزول سيدنا عيسى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا
صراط مستقيم) الزخرف: 61. وقرئ (وإنه لعلم للساعة).
وفي خروج يأجوج ومأجوج: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من
كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) الأنبياء: 97.
وروى مسلم في " الصحيح " (4 / 2225) من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري
قال:
" اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر. قال: " ماذا تذاكرون؟ " قالوا نذكر
الساعة. قال: " إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشرة آيات " فذكر " الدخان،
والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه
السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف
بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس
إلى محشرهم ".
وعن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على
الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها " فالأخرى على أثرها قريبا " رواه مسلم
(4 / 2260)
وعنه أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(الآيات - يعني علامات الساعة - خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع
السلك يتبع بعضها بعضا " رواه الإمام أحمد في " المسند " (2 / 219) ورواه الحاكم
(4 / 546) من حديث سيدنا أنس وصححه على شرط مسلم.

506
وعن سيدنا حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لأنا أعلم بما مع الدجال منه. معه نهران يجريان. أحدهما رأى العين ماء
أبيض. والآخر رأى العين نار تأجج. فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا
وليغمض. ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه، فإنه ماء بارد. وإن الدجال ممسوح
العين. عليها ظفرة غليظة. مكتوب بين عينيه كافر. يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير
كاتب " رواه مسلم (4 / 2249).
وروى مسلم في صحيحه (4 / 2251)، عن النواس بن سمعان، قال:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة. فخفض فيه ورفع (268). حتى ظنناه
في طائفة النخل. فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا. فقال " ما شأنكم؟ " قلنا: يا
رسول الله ذكرت الدجال غداة. فخفضت فيه ورفعت. حتى ظنناه في طائفة
النخل. فقال: " غير الدجال أخوفني عليكم. إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه
دونكم. وإن يخرج ولست فيكم فامرء حجيج نفسه. والله خليفتي على كل مسلم
إنه شاب قطط (269). عينه طافئة. كأني أشبهه بعيد العزى بن قطن. فمن أدركه
منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف. إنه خارج خلة بين الشام والعراق (270).



(268) أغلب التعليقات الشارحة لهذا الحديث مأخوذة من شرح الإمام النووي على صحيح
مسلم. فقوله (فخفض فيه ورفع): بتشديد الفاء فيهما. وفي معناه قولان: أحدهما
أن فخفض بمنى حقر، وقوله رفع أي عظمه وفخمه. فمن تحقيره وهوانه على الله
تعالى عوره. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " هو أهون على الله من ذلك " وأنه لا يقدر على قتل أحد
إلا ذلك الرجل، ثم يعجز عنه، وأنه يضمحل أمره، ويقتل بعد ذلك، هو
واتباعه. ومن تفخيمه وتعظيم فتته والمحنة به هذه الأمور الخارقة للعادة، والوجه
الثاني أنه خفض من صوته في حال الكثرة فيما تكلم فيه. فخفض بعد طول الكلام
والتعب ليستريح، ثم رفع ليبلغ صوته كل أحد بلاغا كاملا مفخما.
(269) (قطط) أي شديد جعودة الشعر، مباعد للجعودة المحبوبة.
(270) (إنه خارج خلة بين الشام والعراق) معناه شمت ذلك وقبالته أي المنطقة الموازية لتلك
المنطقة.
507
فعاث يمينا وعاث شمالا (271). يا عباد الله فاثبتوا ".
فلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال:
" أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم ".
قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال:
" لا اقدروا له قدره (272) " قلنا:
يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال:
" كالغيث استدبرته الريح. فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به
ويستجيبون له. فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت. فتروح عليهم سارحتهم،.
أطول ما كانت ذزا (273)، وأسبغه ضروعا، وأمده خواصر. ثم يأتي القوم.



(271) (فعاث يمينا وعاث شمالا) العيث الفساد، أو أشد الفساد والاسراع فيه. وحكى
القاضي أنه رواه بعضهم: فعاث، اسم فاعل، وهو بمعنى الأول.
(272) (أقدورا له قدره) قال القاضي وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه
لنا صاحب الشرع. قالوا: ولولا هذا الحديث، ووكلنا إلى اجتهادنا، لاقتصرنا فيه
على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. ومعنى اقدروا له
قدره: أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا
الظهر. ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر. فصلوا العصر. وإذا مضى
بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب، فصلوا المغرب. وكذا العشاء والصبح ثم
الظهر ثم العصر ثم المغرب. وهكذا حتى ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات
سنة، فرائض كلها، مؤداة في وقتها.
أما الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم
الأول، على ما ذكرناه.
(273) (فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا الخ) أما تروح فمعناه ترجع آخر النهار.
والسارحة هي الماشية التي تسرح، أي تذهب أول النهار إلى المرعى. والذرى الأعالي
والأسنمة جمع ذروة، بالضم والكسر. وأسبغه أي أطوله لكثرة اللبن، وكذا أمده
خواصر، لكثرة امتلائها من الشبع
508
فيدعوهم فيردون عليه قوله. فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين (274) ليس بأيديهم
شئ من أموالهم. ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها
كيعاسيب النحل " (275). ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا. فيضربه بالسيف فيقطعه
جزلتين رمية الغرض (276) ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه. يضحك فبينما هو كذلك
إذ بعث الله المسيح ابن مريم. فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق. بين
مهرودتين (277). واضعا كفيه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر. وإذا رفعه
تحدر منه جمان كاللؤلؤ (278) فلا يحل (279) لكافر يجد ريح نفسه إلا مات. ونفسه
ينتهي حيث ينتهى طرفه. فيطلبه حتى يدركه بباب لد (280). فيقتله. ثم يأتي



(274) (فيصبحون ممحلين) قال القاضي: أي أصابهم المحل، من قلة المطر، ويبس
الأرض من الكلأ. وفي القاموس: المحل، على وزن فحل، الجدب والقحط،
والإمحال كون الأرض ذات جدب وقحط. يقال أمحل البلد إذا أجدب.
(275) (كيعاسيب النحل) هي ذكور النحل. هكذا فسره ابن قتيبة وآخرون. قال
القاضي: المراد جماعة النحل، لا ذكورها خاصة. لكنه كنى عن الجماعة
باليعسوب، وهو أميرها.
(276) (فيقطعه جزلتين رمية الغرض) الجزلة بالفتح على المشهور وحكى ابن دريد كسرها،
أي قطعتين ومعنى رمية الغرض أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رمية، هذا هو
الظاهر المشهور. وحكى القاضي هذا ثم قال: وعندي أن فيه تقديما وتأخيرا. وتقديره:
فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين. والصحيح الأول.
(277) (فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين) هذه المنارة موجودة اليوم شرقي
دمشق. ومعناه لابس مهرودتين أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران وقيل: هما
شقتان، والشقة نصف الملاءة.
(278) (تحدر منه جمان كاللؤلؤ) الجمان حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار والمراد
يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه. فسمى الماء جمانا لشبهه به في الصفاء
والحسن.
(279) (فلا يحل) معنى لا يحل، لا يمكن ولا يقع، وقال القاضي: معناه عندي حق
وواجب.
(280) (بباب لد) بلدة قريبة من بيت المقدس.
509
عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم (281) ويحدثهم
بدرجاتهم في الجنة. فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت
عبادا لي، لا يدان لأحد بقتالهم (282). فحرز عبادي إلى الطور (283). ويبعث الله
يأجوج ومأجوج. وهم من كل حدب ينسلون (284). فيمر أوائلهم على بحيرة
طبريه. فيشربون ما فيها. ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء. ويحصر
نبي الله عيسى وأصحابه. حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار
لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله (285) عيسى وأصحابه. فيرسل الله عليهم النغف (286)
في رقابهم. فيصبحون فرسي (287) كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبي الله عيسى
وأصحابه إلى الأرض. فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم (288)
ونتنهم. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق



(281) (فيمسح عن وجوههم) قال القاضي: يحتمل أن هذا المسح حقيقة على ظاهره.
فيمسح على وجوههم تبركا وبرا، يحتمل أنه إشارة إلى كشف ما هم فيه من الشدة
والخوف.
(282) (لا يدان لأحد بقتالهم) يدان تثنية يد. قال العلماء: معناه لا قدرة ولا طاقة. يقال:
ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان. لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد، وكان يديه
معدومتان لعجزه عن دفعه.
(283) (فحرز عبادي إلى الطور) أي ضمهم واجعله لهم حرزا. يقال: أحرزت الشئ أحرزه
إحرازا، إذا حفظته وضممته إليك، وصنته عن الأخذ.
(284) (وهم من كل حدب ينسلون) من كل أكمة، من كل موضع مرتفع. وينسلون
يمشون مسرعين.
(285) (فيرغب نبي الله) أي إلى الله. أي يدعو.
(286) (النغف) هو دود يكون في أنوف الإبل والغنم. الواحدة نغفة.
(287) (فرسي) أي قتلى واحدهم فريس. كقتيل وقتلى.
(288) (زهمهم) أي دسمهم.
510
البخت (289) فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يرسل الله مطرا لا يكن (290)
منه بيت مدر (291) ولا وبر. فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة (292). ثم يقال
للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة (293) من الرمانة.
ويستظلون بقحفها (294). ويبارك في الرسل (295). حتى أن اللقحة (296) من الإبل
لتكفي الفئام (297) من الناس. واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة
من الغنم لتكفي الفخذ من الناس (298). فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة.
فتأخذهم تحت آباطهم. فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس،
يتهارجون فيها تهارج الحمر (299) فعليهم تقوم الساعة ".



(289) (البخت) قال في اللسان: البخت والبختية دخيل في العربية. أعجمي معرب. وهي
الإبل الخراسانية، تنتج من عربية وفالج، وهي جمال طوال الأعناق.
(290) (لا يكن) أي لا يمنع من نزول الماء.
(291) (مدر) هو الطين الصلب.
(292) (كالزلفة) روي: الزلقة. وروي: الزلفة. وروي: الزلفة. قال القاضي: كلها
صحيحة، واختلفوا في معناه. فقال ثعلب وأبو زيد وآخرون: معناه كالمرآة. وحكى
صاحب المشارق هذا عن ابن عباس أيضا. شبهها بالمرآة في صفائها ونظافتها. وقيل:
كمصانع الماء. أي إن الماء ستنقع فيها حتى تصير كالمصنع الذي يجتمع فيه الماء.
(293) (العصابة) هي الجماعة.
(294) وهذا وإن كان جائزا في قدرة الله تعالى فيكاد أن يقال فيه: غير معقول، ومثله هنا
في متن هذا الحديث أشياء. وقوله (بقحفها) بكسر القاف، هو مقعر قشرها. شبهها
بقحف الرأس، وهو الذي فوق الدماغ وقيل: ما انفلق من جمجمته وانفصل.
(295) (الرسل) هو اللبن.
(296) (اللقحة) بكسر اللام وفتحها لغتان مشهورتان الكسر أشهر. وهي القريبة العهد
بالولادة، وجمعها لقح كبركة وبرك واللقوح ذات اللبن. وجمعها لقاح.
(297) (الفئام) هي الجماعة الكثيرة.
(298) (الفخذ من الناس) قال أهل اللغة: الفخذ الجماعة من الأقارب.
(299) (يتهارجون فيها تهارج الحمر) أي يجامع الرجال النساء علانية بحضرة الناس، كما
إلا أنه غريب وشاذ ومشكل عندي ككثير من الأحاديث التي حكم عليها العلماء
بالشذوذ وبعضها في الصحيحين، وذلك لأمرين، الأول: أنه معارض بالقرآن كما
ذكرنا، والثاني: أن نافعا يرويه تارة عن امرأة ابن عمر عن السيدة عائشة كما في
مسند أحمد (6 / 55) وفيه ما يدل على اضطراب القضية، وتارة عن ابن عمر، وروي
أيضا من حديث سيدنا حذيفة عند أحمد (5 / 407) بسند ضعيف. والثالث: أن هناك
أحاديث عديدة تكلمت عن الميت المؤمن والكافر وما يلقيان ولم تتعرض البتة لضمة
القبر وضغطته بل تعرضت الأحاديث التي بعضها في البخاري ومسلم إلى أن القبر
يفسح عليه، وصاحبا الصحيحين لم يخرجا حديث الضغطة في صحيحهما مع أن
إسناده على شرط مسلم، وهذا الأمر معتبر إذا ضم إلى ما قبله من التعليل.
وقد روى الطبراني (4 / 121) عن أبي أيوب مرفوعا: " لو أفلت أحد من ضمة القبر
لأفلت هذا الصبي " قلت: ولا يثبت لأن في سنده حماد بن سلمة عن غير ثابت،
وهذا غير معقول مع الآيات التي ذكرناها ولأن الصبي ليس مكلفا، وهو آحاد غير
متواتر فلا يبنى عليه أصل في الاعتقاد، وقد نص الدارقطني أن هذا الحديث مرسل
غلط بعض الرواة فجعله متصلا وقد تقدم الكلام في هذا مفصلا.
511
وقد صرح جماعة من العلماء المحدثين المحققين بتواتر خروج الدجال ونزول
سيدنا عيسى عليه السلام وليس ذلك متواترا على التحقيق، آخرهم تأليفا شيخنا
الإمام المحدث عبد الله ابن الصديق وقبله الإمام العلامة الكوثري رحمهما الله
تعالى وأعلى درجتهما في جنة الخلد وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين. آمين.
واسم رسالة العلامة الكوثري " نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى
عليه السلام قبل الآخرة "، ولسيدي عبد الله ابن الصديق في هذا الموضوع
رسالتان، الأولى: " إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان "، والثانية:
" عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام ".
وكذا صنف العلامة الفاضل محمد أنور شاه الكشميري الهندي كتابا سماه
" التصريح بما تواتر في نزول المسيح " وهو مطبوع ومتداول، لكن كما قدمنا أن
الصحيح في هذا الأمر أنه غير متواتر.
وقال العلامة الكتاني في " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " (300) ص (240):
" قال الأبي في شرح مسلم في الكلام على أحاديث الأشراط ما نصه: وتقدم
في حديث جبريل عليه السلام قول ابن رشد: الأشراط عشرة والمتواتر منها
خمسة. ا ه‍ والذي تقدم له في حديث جبريل هو أنه بعدما نقل عن القرطبي أن
الأشراط تنقسم إلى معتاد كالمذكورات في حديث جبريل، وكرفع العلم، وظهور
الجهل، وكثرة الزنا، وكثرة شرب الخمر، وغير معتاد كالدجال، ونزول عيسى،
وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها. قال: قال ابن



(300) كتاب " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " لا يسلم لصاحبه بتواتر كل حديث أورده
فيه، فقد أورد فيه أحاديث ادعى تواترها وهي ضعاف كحديث " لا وضوء لمن لم
يسم الله عليه " مع أنه اعترف بذلك فقال في آخر كلامه على هذا الحديث:
" والسيوطي رحمه الله بالغ فعد الحديث كما ترى في المتواتر "!!!
512
رشد: واتفقوا على أنه لا بد من ظهور هذه الخمسة، واختلفوا في خمسة أخر:
خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، ونار
تخرج من قعر عدن تروح معهم حيث راحوا، وتقيل معهم حيث قالوا، زاد
بعضهم وفتح القسطنطينية وظهور المهدي ا ه‍ " انتهى كلام الكتاني من نظم
المتناثر.
ويتضح من كلامه هذا أن فتح القسطنطينية وخروج المهدي (301) غير متفق
عليهما أيضا بين الأمة ولا يسلم لهم دعوى التواتر فيها لأن الأمة لم تجمع على
ذلك، ونحتاج مستقبلا لعرض دراسة لأسانيد ذلك (302).
ولم يذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (11 / 352 - 357) في شرح حديث طلوع
الشمس من مغربها أنه متواتر، وقد روى البخاري أيضا في الصحيح (13 / 81) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقاتلة عظيمة،
دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول
الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن،
ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال
من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به،
وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني
مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا



(301) ولم تصح أحاديث المهدي على كثرتها وكثرة ما ألف فيها من المصنفات الكبار والصغار
إلا من طريق اثنين أو ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، وممن صنف فيها سيدنا
الإمام عبد الله بن الصديق أعلى الله درجته ولكنه لم يعط البحث والتمحيص فيها
حقه!! وإنما جمع كثيرا من طرق الأحاديث فجزاه الله عنا خير الجزاء.
(302) وخاصة أن فتح القسطنطينية قد تم منذ زمن بعيد على يد محمد الفاتح العثماني، ولم
يظهر عند ذلك الدجال كما جاء في بعض روايات حديث الدجال الصحيحة الإسناد،
وهذا مما يدل على أنها ضعيفة أو باطلة وغير صحيحة.
513
أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في
إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا
يطويانه، ولتقومن الساعة قد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن
الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه
فلا يطعمها ". ولنا مناقشة لهذه الأمور بتوسع في مكان آخر إن شاء الله تعالى،
والله الموفق.
ومن قرأ ما كتبه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (11 / 352 - 357) في شرح
حديث طلوع الشمس من مغربها وكذا من قرأ ما يتعلق بذلك من شرح كتاب
الفتن في الفتح (13 / 74 - 110) بعين الفاحص الناقد المقارن فإنه سيرى بكل وضوح
الاضطراب بين الروايات في أخبار أشراط الساعة والحديث عنها، والتخالف في
أيها يحصل أولا!! وكيف أن معاني بعضها يضاد معاني البعض الآخر، وقد تكلف
بعض العلماء في الجمع بينها مع ظهور التخالف بين كثير من أخبارها!!
أضف إلى ذلك أيضا أن من الغريب العجيب في هذا الأمر أشياء أخر
كحديث الجساسة (303) والذي فيه أن المسيح الدجال مقيد في دير في إحدى
الجزر!! وهو خبر من أعجب العجب، وفيه من النكارة ما لا يخفى وخاصة
أنه صح أيضا - إسنادا - أن ابن صياد هو الدجال (304)!! كما حلف بذلك سيدنا
عمر بحضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بذلك سيدنا جابر (305) وقد أطال
الحافظ [في الفتح (13 / 325 - 329)] في بيان التخابط والتخالف في ذلك وصرح بأن بعض
ما ورد فيه وإن كان رجاله ثقات فهو متلقى من بعض كتب أهل الكتاب!! وقال:
" ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث
جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة



(303) الذي في " صحيح مسلم " (4 / 2261).
(304) قصة ابن صياد هي في البخاري (6 / 172) ومسلم (4 / 2240).
(305) وهو في البخاري (13 / 323) ومسلم (4 / 2243).
514
تميم " (306) فعلى هذا يمكن أن يقال: لو كان الدجال وأمره هذا صحيحا وكونه
من أشراط الساعة قد جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقع فيه هذا التخابط
والالتباس والتناقض، فالله أعلم بثبوت هذه العلامات المذكورات في الأحاديث
والتي لم يأت لها ذكر في القرآن، والظاهر أن أحاديث الفتن وأشراط الساعة وبعض
ما يحدث يوم القيامة من أمور وكذلك بعض التفصيلات الواردة في قصة الإسراء
والمعراج قد دخلتها الإسرائيليات وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه من هذا الشرح
حسب ما يناسب المقام من اختصار ونسهب فيه أيضا بإذن الله تعالى في موضع
آخر.
حجة الفريق الآخر الذي أنكر علامات الساعة الكبرى التي تحدث قبل قيام
الساعة:
وقال آخرون: نحن نثبت أشراطا للساعة لأن موضوع وجود أشراط للساعة
أمرا مقطوعا به لقوله تعالى (فقد جاء أشراطها) فهذه الآية تثبت أن للساعة
أشراطا ونحن نقول بذلك لكنها مضت وذهبت، وقد صح في الحديث أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال " بعثت أنا والساعة كهاتين ".
فذهبوا إلى نفي هذه الأشراط والعلامات التي تقع إبان حصول الساعة
ووقوعها، وقالوا ليس هناك علامات للساعة بعد مبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
واحتجوا بقوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي
لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) الأعراف:
187، وبقوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) الأنعام: 31، وبقوله
تعالى: (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) الأنبياء:
40، وبقوله تعالى: (أو تأتيهم الساعة بغتة) يوسف: 107، وبقوله تعالى: (ولا
يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم
عقيم) الحج: 55، وبقوله تعالى (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم



(306) يعني أن البخاري لم يخرج قصة الجساسة واعتبرها مرجوحة.
515
لا يشعرون) الزخرف: 66.
قالوا: إن منطق القرآن الكريم ودلالته وسياق الآيات دل على أن الساعة
تأتي بغتة، وأشراط الساعة بالمفهوم الذي قاله مخالفونا تنافي مفهوم المباغتة،
والمباغتة في اللغة هي المفاجئة بالشئ من حيث لا يحتسب ولا يرتقب، وهذا الذي
يدل عليه فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآيات ففي البخاري (2 / 545)
ومسلم (2 / 628) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خسفت
الشمس في زمن النبي صلى لله عليه وسلم فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة... " ولم ينتظر
أشراطا لها!!
وأجابوا على ما استدل به الجمهور من الآيات التي قالوا بأنها دالة على أن
هناك أشراطا ستقع وساعدهم في ذلك ما نقله بعض أهل السنة كابن حزم في
كتابه مراتب الإجماع من أن نزول سيدنا عيسى عليه السلام آخر الزمان مختلف
فيه بين الأمة حيث قال ابن حزم هناك ص (173) ما نصه - تحت عنوان: باب
من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع -: " وأنه لا نبي مع محمد
صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبدا، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام أيأتي قبل يوم القيامة
أم لا ".
وأكد هؤلاء نفيهم لعلامات الساعة المستقبلية التي ذكرناها بقول الله تعالى
أيضا: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم
إذا جاءتهم ذكراهم) سورة سيدنا محمد: 18.
قالوا: ذكر الله تعالى في هذه الآية أن أشراط الساعة قد جاءت، أي في قوله
تعالى (فقد جاء أشراطها) أي انتهى مجئ أشراطها ومضى ولم يبق إلا قيامها،
والأصل أن (جاء) فعل ماض، وقد التي قبله للتحقيق، وفي الحديث " بعثت
أنا والساعة كهاتين " رواه البخاري (11 / 347) ومسلم (4 / 2268). وأما جمهور أهل
السنة ففسروا قوله تعالى (فقد جاء أشراطها) أي: فقد قرب مجئ أشراطها،

516
فهي في طريقها إليكم وإن لم تقع بعد.
وقال هؤلاء: وأما الدابة المذكورة في قوله تعالى (وإذا وقع القول
عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)
النمل: 82، فالمراد بهذه الدابة هي ناقة سيدنا صالح التي أخرجها الله تعالى من
الصخرة وكانت مبصرة أي عاقلة، والإشكال أتى لكم في هذه الآية من لفظة
(إذا) التي توهمتم بأنها تدل على المستقبل لا غير، والصحيح أن لفظة (إذا)
لا ينحصر معناها في الدلالة على المستقبل بل تستعمل عربية في الماضي أيضا
[تجدون ذلك في مغني اللبيب لابن هشام]. وقد ذكر الله تعالى أن ناقة سيدنا صالح عليه السلام
كانت مبصرة في قوله سبحانه (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها
الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) الإسراء:
59، قالوا: ومعنى مبصرة هنا: عاقلة، وهذا وجه الإعجاز فيها، وإلا فكل
ناقة كانت عند هؤلاء القوم فهي رائية ومرئية وإلا فبأي شئ كانت معجرة؟!!
قالوا: فالمراد بخروج الدابة إذا هو إخراج الله تعالى لناقة سيدنا صالح من
الصخرة وهي قصة ماضية وليست أمرا سيحدث في المستقبل (307)، أضف إلى ذلك
أن سورة النمل التي ذكرت فيها هذه الدابة سورة قصص، لأشياء حدثت في
الماضي، وفي هذه السورة ذكر لدواب كانت قد تكلمت وهي هدهد سيدنا
سليمان والنمل والدابة أيضا، وكلها قصص لما سلف، وإن كان ظاهر آية الدابة
يفيد بأنها تحدث في المستقبل لكن المراد منها ما حدث في الماضي.



(357) قال القرطبي في تفسيره (13 / 235):
" واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب
التذكرة، ونذكره هنا إن شاء الله مستوفى، فأول الأقوال: فصيل ناقة صالح وهو
أصحها والله أعلم ".
ثم قال:
" قلت: ولهذا والله أعلم قال بعض المتأخرين من المفسرين إن الأقرب أن تكون هذه
الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا ".
517
قالوا: وأما يأجوج ومأجوج: فقوم قد ذهبوا ولا عودة لهم في الدنيا، وقد
كان هؤلاء القوم سنة (628) قبل الميلاد كما تفيد كتب التاريخ، وكما جاء في قصة
ذي القرنين في القرآن في سورة الكهف، ثم لا يمكن عادة أن يكون هؤلاء القوم
أحياء إلى الآن لأن أعدادهم الضخمة التي ذكرها الحديث الذي وصفهم وكثرة
ما يأكلون وشربهم لبحيرة طبريا يثبت استحالة حبسهم في مكان ضيق أكثر من
ألفي (2000) عام دون أن يموتوا، وكذلك لأن الحديث الثابت في البخاري (308)
الذي فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بأنه لن يبقى على وجه الأرض بعد مائة
سنة ممن هو عليها ذلك اليوم أحد، يدخل هؤلاء فيه بلا ريب.
قالوا: والصحيح عندنا أنهم ماتوا في تلك الأحقاب الماضية وذهبوا قبل
أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدهر، وقد ذكر خبر يأجوج ومأجوج
في سورتي قصص كالكهف والأنبياء وهذا يدل أيضا على أن الأمر قد سلف وحصل
وليس أمرا سيحدث في المستقبل.
قالوا: وأما الدخان فهو ليس من أشراط الساعة وإنما يحدث عند النفخ
أي عقب قيام الساعة، وقد جاء في الصحيحين البخاري (8 / 574) ومسلم (4 / 2156
- 2157) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه قال: " خمس قد مضين:
الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر ".
وقد بين ابن مسعود رضي الله عنه كما جاء في صحيح مسلم (4 / 2157) أمر
الدخان فقال " إنما كان هذا، أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم
بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء
فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.... " فهذا هو الدخان المراد بالأشراط
وقد مضى، أو هو بعد قيام الساعة بعد النفخة الأولى!!
قالوا: وأما نزول سيدنا عيسى عليه السلام وخروج المهدي فهو غير ثابت



(308) الحديث في " صحيح البخاري " (2 / 45) ومسلم (4 / 1965).
518
في القرآن ولا هو مقطوع به في الحديث ولذلك وقع الخلاف فيه بين الأمة كما حكى
ابن حزم، ولو كان من الأصول المقطوع بها لما حصل فيها هذا الاختلاف.
قالوا: وأما آية (وإنه لعلم للساعة) فلا تدل بوجه من الوجوه على
أنه سينزل آخر الزمان، وفكرة نزول سيدنا عيسى وخروج المهدي كانت عند
النصارى قديما وهي عين التبشير بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
(وخاصة أن اسم المهدي محمد بن عبد الله)، قال تعالى (وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) البقرة: 89، فلما بعث
سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرف أهل الكتاب القضية وزعموا أن رجلا
آخر سيبعث آخر الزمان (309) ومنهم من قال هو سيدنا عيسى عليه السلام تحريفا
وتضليلا!! وقد حدث أهل الكتاب بهذا قدماء المسلمين والصحابة، فرووا تلك
الأحاديث من باب " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فصار الأمر بعد ذلك عند
بعض الناس أن هذا من كلام النبوة والواقع ليس كذلك بل هو من الإسرائيليات.
وقالوا: بأن حديث النواس بن سمعان الذي فيه ذكر خروج الدجال
ويأجوج ومأجوج حديث آحاد لا تبنى عليه عقائد وقواطع وهو خرافة إسرائيلية ولا
ريب، وقد حصل الاضطراب في الدجال كما رأيتم في أنه هل هو في دير أو هو
ابن صياد وقد التبس أمره حتى على النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض الروايات وهذا
أمر منكر ومحال في العادة في حق نبي قد أعلمه الله تعالى به وبصفاته، زيادة
على أن هذا الدجال ما من نبي إلا وقد أنذر أمته منه كما جاء في بعض الروايات
التي اعتمدها من أثبت مجيئه!!
قالوا: وأما حديث الآيات العشر الذي في صحيح مسلم (4 / 2225) الذي



(309) واتكل على ذلك كثير من المسلمين وركنوا إلى التخاذل والانتظار دون العمل والاجتهاد
وقد ادعى وزعم كثير من الخراصون والكذابون بأنه المهدي المنتظر، وقطعا لا يجوز
رد مسألة المهدي وغيرها لأن فلانا وفلانا من الدجاجلة يدعيها ويزعم أنه المهدي،
وإنما نرجع في ذلك إلى الأدلة والتحقيقات العلمية والموازنات، فلا تغفل عن هذا.
519
فيه " وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " فليس صحيحا
أيضا لمخالفته لما جاء في البخاري (في مواضع منها 13 / 78) مرفوعا: " إن أول أشراط
الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب "!!
قلت: ومن الغريب العجيب أيضا مما يؤيد إنكارهم لحديث خروج النار
آخر الزمان أنه ورد في البخاري (13 / 78) ومسلم (4 / 2227 برقم 2902) من حديث أبي
هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار
من أرض الحجاز تضئ أعناق الإبل ببصرى " قال الإمام الحافظ التاج السبكي
في " طبقات الشافعية الكبرى " (8 / 266) أن من الحوادث التي وقعت سنة (654 ه‍) ما
نصه:
[لما كان الخامس من جمادى الآخرة من هذه السنة (310) كان ظهور النار
بالمدينة المنورة وقبلها بليلتين ظهر دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة، ثم ظهرت تلك
النار في الحرة قريبا من قريظة، يبصرها أهل المدينة من الدور، وسالت أودية
منها بالنار إلى وادي شظا سيل الماء، وسالت الجبال نيرانا، وسارت نحو طريق
الحاج العراقي، فوقفت وأخذت تأكل الأرض أكلا، ولها كل يوم صوت عظيم
من آخر الليل إلى ضحوة، واستغاث الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وأقلعوا عن المعاصي
واستمرت النار فوق الشهر، وهي مما أخبر بها المصطفى صلوات الله عليه حيث
يقول: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ أعناق الإبل
ببصرى " وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى بالليل ورأى أعناق الإبل في
ضوئها].
وبين تلك السنة والآن سنين كثيرة فهذه ليست من علاماتها الكبرى التي هي
كالخرزات المتتاليات.
وذكر الحافظ في " الفتح " (13 / 79) نقلا عن الإمام النووي أنه تواتر العلم



(310) قال محقق الطبقات: يعني سنة أربع وخمسين وستمائة، كما في ذيل الروضتين 190،
والبداية والنهاية 13 / 187، وتاريخ الخلفاء 465، 466.
520
بخروج هذه النار يومئذ عند جميع أهل الشام.
ومما ورد من الاضطراب والتخالف في هذا الأمر - أمر النار - أنه ورد في بعض
الأحاديث الصحيحة الأسانيد أن هذه النار تكون يوم القيامة في أرض المحشر،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على
بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار،
تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا،
وتمسي معهم حيث أمسوا " رواه البخاري (11 / 377) ومسلم (4 / 2195).
وفي بعض الأحاديث ورد أنها أول علامات الساعة كما تقدم، وفي بعضها:
" أول شئ يحشر الناس نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب " رواه أبو داود
الطيالسي ص (373).
وأقول في ختام بحث أشراط الساعة: لا يخلو كلام هؤلاء القوم الذين نفوا
حصول أشراط الساعة الكبرى في المستقبل قبل قيام الساعة بمجمله من قوة،
وهذه الأدلة التي ذكروها وخاصة آيات المباغتة (مهما أولها أصحابنا ليجمعوا بينها
وبين غيرها من الأدلة) تجعل الأشراط العظام من الأمور التي لا يقطع بها وخاصة
أنه ثبت في صحيح مسلم (1 / 37) في حديث سيدنا جبريل المشهور عندما سئل النبي
صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فقال: " أخبرني عن أماراتها "؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " أن تلد
الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون البنيان " ولم يذكر في هذا
الحديث الأشراط المسماة بالكبرى مع أنه ذكر في هذا الحديث الأمور المهمات!!
لذلك لا يكفر منكرها، وملخص الأمر أن المسألة من الفروع وليست من
الأصول، وبالله التوفيق.
(ملاحظة مهمة): من الخطأ الشائع الذائع أن يأخذ الخطباء والوعاظ
والمدرسون في المساجد وغيرها عند حدوث حوادث أو مناسبات معينة أو حروب

521
أحاديث ضعيفة وموضوعة أو كلاما من كتب غير موثوقة ككتاب الجفر أو أحاديث
صحيحة لا تنطبق على تلك الحوادث، فيفسرونها للناس على حسب أمزجتهم
وأفكارهم، وقد حدث هذا في حرب الخليج!! فقد جاء كثير من الخطباء بأحاديث
موضوعة فنشروها وذكروها على أنها حقائق ثابتة!! وبعضهم ألف أحاديث
ووضعها من عنده لينصر هواه أو تيارا سياسيا معينا ثم بعد ذلك ما لبث أن أخفقت
كلماته وذهبت هباء وبان جهله فيما ادعاه وكذبه أحيانا!!
والمهم في ذلك أن العامة الذين لا يميزون بين الغث والسمين ظنوا أن ما
يقوله هؤلاء هو حق جاء من عند الله تعالى، فلما تخلف ما قاله هؤلاء الخطباء
والمحاضرون ولم يتحقق كفر جماعة من العامة بالله تعالى وقد حدث هذا فعلا
وشاهدناه ونقل إلينا!! فلله الأمر من قبل ومن بعد، وقد أحببت أن أنبه على
هذا لأن ذكره مناسب هنا، والله الموفق والهادي.

522
الإيمان باليوم الآخر
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب،
وقراءة الكتاب، والثواب، والعقاب، والصراط، والميزان، والجنة والنار
مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان / - والله - باعث بلا مشقة).
الشرح:
الإيمان باليوم الآخر من أسس الإيمان بالله تعالى وأركانه، فإن الإيمان بالمعاد
والجنة والنار والحساب والنعيم والعذاب أمور لا يمكن تصور انفكاك إيمان الإنسان
المسلم بدون الايقان الجازم بها قال الله تعالى في وصف المؤمنين (وبالآخرة هم
يوقنون) البقرة: 4.
وقد قرن الله تعالى الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به سبحانه في آيات عديدة
منها قوله تعالى (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله
وكان الله بهم عليما) النساء. 39.
وقوله تعالى (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم
فهم في ريبهم يترددون) التوبة: 45.
وقوله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) المجادلة: 22.
وقد بين الله سبحانه وتعالى كفر من لا يؤمن باليوم الآخر في قوله تعالى:
(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا
بعيدا) النساء: 136.
ويتضمن الإيمان باليوم الآخر عدة مسائل لا بد لنا أن نذكرها ونبين ما يتعلق

523
بها باختصار دون إطناب وإملال فنقول وبالله تعالى التوفيق:
الإيمان بالنفخ في الصور مرتين:
قال الله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور
فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم
في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا) الكهف: 101.
فهذه الآية تثبت مسألة النفخ في الصور بلا شك وتثبت بأن هناك صورا ينفخ
فيه.
والنفخ في الصور يكون مرتين، مرة ليموت الخلق إلا من شاء الله تعالى
منهم، ومرة أخرى لإحيائهم وخروجهم للاجتماع في أرض المحشر، والدليل عليه
قوله تعالى:
(ونفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم
نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب
وجئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون) الزمر: 69، وفي
آية أخرى (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات والأرض إلا من شاء
الله، وكل أتوه داخرين) النمل: 87.
فانظر أيها المؤمن التقي لقوله تعالى (فصعق من في السماوات والأرض)
وإلى قوله تعالى في الآية الأخرى (ففزع في السماوات والأرض) ثم إلى قوله
سبحانه وتعالى بعد هاتين الجملتين (إلا من شاء الله) لتعلم علما أكيدا قطعيا
بأن المؤمن التقي مستثنى من هذا الصعق والفزع لصريح قوله تعالى في آيات
أخرى، منها قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ
آمنون) النمل: 89، وقوله تعالى (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي كنتم توعدون) الأنبياء 103، هذا مع قوله تعالى (لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون)، وإنما قال الله تعالى (ففزع من في السماوات والأرض)

524
للترهيب وهو كذلك بالنسبة للإنس والجن لأن غالبهم ومعظمهم غير مؤمنين،
فكان الخطاب للأغلب الأكثر والحكم للغالب، قال تعالى (وقليل من عبادي
الشكور) ونسبة المؤمنين لغيرهم قليلة جدا كما جاء في الحديث الصحيح " ما أنتم
في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود " رواه البخاري (11 / 378)
ومسلم (1 / 201)، وقال تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف
تحكمون) القلم: 26.
فافهم هذا واعرفه جيدا، ولا تغفل عنه.
الإيمان بالبعث والحشر والحساب:
ويتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث وهو خروج الموتى من القبور
وكذلك من غير القبور، كمن مات غريقا أو في انفجار طائرة أو غيرها فتناثرت
أجزاؤه فلم يعثر على شئ من جسده إلى المكان الذي شاء الله سبحانه وتعالى أن
يحشر العباد إليه، وقد وردت بذلك الآيات والأخبار.
قال الله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم
لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) التغابن: 7، فهذه الآية فيها ذكر البعث.
وقال تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر
منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم
ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه،
ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا
ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) الكهف: 49.
وقال تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى
جهنم وردا) مريم: 86.
وقال تعالى (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون
سوء الحساب) الرعد: 21، وقال تعالى (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد:

525
40، وقال (والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) الرعد: 41، وقال
تعالى (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)
غافر: 27، وقال تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه *
إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها
دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله
فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه) الحاقة 26.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كنفه (أي ستره
وعفوه) فيقرره بذنوبه. فيقول: هل تعرف: فيقول أي رب أعرف. قال: فإني
قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته. وأما
الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله "
رواه البخاري (8 / 353) ومسلم (4 / 2120).
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله أليس قد
قال الله تعالى (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال:
إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب. يوم القيامة إلا عذب " رواه
البخاري (11 / 400).
وقال البخاري في صحيحه (11 / 405):
" باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب " وأورد في الباب عدة أحاديث
منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر

526
ليلة البدر... " الحديث
وهذه الآيات والأحاديث فيها ذكر الحشر والحساب وفيها أخذ كل إنسان
صحيفته التي كتبت فيها أعماله.
والحساب: هو عرض أعمال العباد عليهم، والثواب: هو الجزاء الذي
يعطيه الله تعالى للمؤمن ويكرمه به من كل ما يسره من حين موته حتى يدخل
الجنة وهي من أعظم الثواب.
والعذاب: أعاذنا الله تعالى وحمانا برحمته منه هو ما يسوء الكافر والعاصي
من ساعة وفاته حتى دخوله النار وهي أعظم العذاب أجارنا الله منها.
وينبغي أن نلاحظ في هذه الأمور كلها أن المؤمن مميز في ذلك اليوم، وأنه
مسرور غير حزين لا يهوله شئ، ولا يفزع وهو تحت لواء سيدنا محمد صلى الله
عليه وآله وسلم (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) النساء: 69، وينبغي
أن نتذكر قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون)
القلم: 36.
والله تعالى الموفق والهادي.
(مسألة): هل يبعث الناس عراة يوم القيامة أم كاسين؟
لقد ورد أحاديث تنص على أن الناس يبعثون يوم القيامة حفاة عراة غرلا
(أي غير مختونين)!! وأحاديث تفيد أنهم يبعثون كاسين، وإليكم بيان ذلك:
روى البخاري (11 / 377) ومسلم (4 / 2194) عن السيدة عائشة رضي الله عنها
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " يحشر الناس
يوم القيامة حفاة عراة غزلا " قلت: يا رسول الله النساء والرجال!! جميعا!!
ينظر بعضهم إلى بعض!! فقال: " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى

527
بعض " ورواه أيضا البخاري (11 / 377) ومسلم (4 / 2194) عن ابن عباس.
ووردت أحاديث أخرى تبين أن الناس يبعثون بثيابهم فمنها:
1 - ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد
فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
" إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ".
رواه أبو داود (3 / 190) وابن حبان في " الصحيح " (16 / 307) والحاكم (1 / 340)
والبيهقي (3 / 384) وغيرهم وسنده صحيح على شرط مسلم.
2 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله
وسلم حدثني: " أن الناس يحشرون يوم القيامة ثلاثة أفواج، فوج راكعين
طاعمين كاسين، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم النار، وفوج
يمشون ويسعون... " الحديث رواه النسائي (4 / 116) والحاكم (4 / 564) وهو
صحيح، وصححه أبو حاتم في " العلل " (2 / 225).
ومن المعلوم أيضا أن الله تعالى حيي يسير أمر بالستر، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما
سأله رجل فقال له: يا رسول الله! عوراتنا ما نبقي منها وما نذر؟! فقال:
" احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك " فقال: يا رسول الله
أرأيت إن كنت خاليا؟! فقال: " إن الله أحق أن يستحيا منه " رواه أبو داود
(4 / 41) وغيره وهو صحيح.
وقد كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة!! ويزعمون أن الله تبارك وتعالى
أمرهم بذلك!! فأنزل سبحانه وتعالى قوله (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها
آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا
تعلمون) (311) الأعراف: 28.



(311) قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (5 / 8 / 154): " فتأويل الكلام إذا: وإذا
فعل الذين لا يؤمنون بالله الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء قبيحا من الفعل وهو
الفاحشة وذلك تعريهم للطواف بالبيت، وتجردهم له فعذلوا على ما أتوا من قبيح
فعلهم وعوتبوا عليه قالوا: وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا فنحن نفعل مثلما كانوا
يفعلون ونقتدي بهديهم ونستن بسنتهم والله أمرنا به! فنحن نتبع أمره فيه!! يقول
الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: قل يا محمد لهم إن الله لا يأمر
بالفحشاء، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويا، أتقولون أيها الناس على
الله ما لا تعلمون، أترون عن الله أنه أمركم بالتعري والتجرد من الثياب واللباس
للطواف وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك " ا ه‍.
528
قلت: فالشريعة أمرت بالستر. قال الحافظ في " الفتح " (11 / 383):
[قوله (عراة) قال البيهقي: وقع في حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه
أبو داود وصححه ابن حبان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " يجمع
بينهما في أن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى
الأنبياء (312)....] انتهى.
وقال الحافظ السيوطي في " الحاوي " (2 / 196):
" مسألة: أحاديث الحشر عراة عارضها أحاديث أخر صرح فيها بأن الناس
يحشرون في أكفانهم، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من سلك مسلك الترجيح
فرجح أحاديث الحشر في الأكفان على أحاديث الحشر عراة؟ وهذا رأي القليل،
والأكثرون سلكوا مسلك الجمع فجمعوا بين الأحاديث بأن أحاديث الحشر في
الأكفان خاصة بالشهداء، وأحاديث الحشر عراة في غيرهم هكذا نقله القرطبي،
وجمع البيهقي بأن بعض الناس يحشر عاريا وبعضهم يحشر في أكفانه ولم يعين
شهداء ولا غيرهم ".
وقد ذكر ذلك العلامة ابن حجر الهيتمي في " حاشيته على شرح الايضاح في



(312) قوله (أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء) رأي غير صحيح بنظرنا والأول هو
الصواب إن شاء الله تعالى.
529
المناسك " ص (58) في أول الكتاب في الخصلة الثامنة والعشرين من آداب السفر حيث قال هناك:
" لأن ما صح أن الخلق يحشرون حفاة عراة ليس على عمومه كما صرح به
البيهقي وغيره، فإن من المؤمنين من يبعث في أكفانه كما ورد في عدة أحاديث،
وورد من طرق أنه دعا لأم سلمة بأن الله تعالى يستر عورتها يومئذ لما سألته في
ذلك... " انتهى.
وأما قوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) الأنبياء: 104، فمعناه: كما في
" تفسير الجلالين " وهو الصواب باختصار: " (كما بدأنا أول خلق) عن عدم
(نعيده) بعد إعدامه " أي: ثانيا، وليس في الآية أية دلالة على إرجاعه أقلف
أو إرجاع كل شعرة أو كل ظفر قصه في الدنيا إلى جسمه، وإنما المعنى العام كما
يفهم عند كل عربي بداهة وسليقة هو: أننا نعيده حيا بعدما أمتناه، كما أحييناه
في المرة الأولى، والحمد لله تعالى.
وبعد هذا أقول: الصحيح عندنا أن الناس يبعثون يوم القيامة كاسين
ويحتمل أن يبعث بعض الكفار أو جميعهم عراة زيادة في خزيهم، وما ورد في بعض
الأحاديث أن سيدنا إبراهيم عليه السلام أول من يكسى يوم القيامة، فمعناه:
أول من يكسى من حلل الجنة.
[مسألة أخرى]: وقد ورد في بعض الآثار أن الناس يقومون يوم
القيامة شاخصة أبصارهم ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا لا يأتيهم خبر من السماء ولا
يؤمر فيهم بأمر!!
وفي بعض الروايات: أربعين عاما، يمكثون رافعي رؤوسهم إلى السماء لا
يكلمهم أحد، وفي بعضها مائة عام، وفي بعضها سبعين عاما، وفي بعضها أن
الله تعالى يأمر الملائكة أن يوقفوهم على رؤوس أصابعهم هذه المدة!!
وكل ذلك كذب لا يلتفت إليه، وبعضه يروى عن النبي صلى الله عليه وآله

530
وسلم ولا يصح (313)، وهي من القضايا التي أصل مصدرها من كعب الأحبار
اليهودي الذي سكن حمص كما تجد ذلك في بعض طرق هذه الأحاديث عند ابن
جرير!!
قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (15 / 30 / 93):
[حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله (يوم يقوم
الناس لرب العالمين) قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول: يقومون ثلاث مئة
سنة].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا بالنسبة للمؤمنين مما يحكم ببطلان هذه الآثار
والأخبار!! فمنها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يوم يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون
ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب " رواه أبو يعلى (10 / 415)
وهو صحيح.
وعن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار " قال الحافظ الهيثمي
في " مجمع الزوائد " (10 / 337): " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أبي كثير
الزبيدي وهو ثقة " (314).



(313) ومنه حديث رواه الحاكم في " المستدرك " (4 / 592) عن سيدنا عبد الله بن مسعود
مرفوعا، وهو كذب بحت لا يشك فيه عاقل، وقد تكلمت عليه في رسالتي المسماة
" تنبيه أهل الشريعة " فليرجع إليها من شاء التوسع في معرفة علله ودواعي حكمنا
عليه بالوضع!!
(314) وانظر " باب خفة يوم القيامة على المؤمنين " في " المجمع " (10 / 337).
531
وروى الحاكم في " المستدرك " (1 / 84) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
" يوم القيامة كقدر ما بين الظهر والعصر " وهو صحيح (315)
وأما قوله تعالى (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فلا دلالة فيه على ذلك
القيام المقدر بثلاثمائة عام شاخصه أبصارهم!! بل معناه يوم يقوم الناس من
قبورهم للحساب ولدخول الجنة أو النار، والله الهادي.
(مسألة): هل تحشر الحيوانات والبهائم يوم القيامة أم لا؟!! نقل العلماء اختلاف السلف والمسلمين في إحياء البهائم وحشرهم يوم
القيامة، وكذا في القصاص بينها، وأصل اختلافهم في ذلك اختلافهم في معنى
قوله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) التكوير: 5، فبعضهم ذهب إلى أن ذلك
إنما هو في الدنيا عند النفخة الأولى، وسياق الآيات التي وردت فيها يدل على
ذلك عندهم، وهو قوله تعالى (إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت *
وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا
البحار سجرت) فهذا دال كما هو ظاهر على أن هذه الأمور تقع عند قيام الساعة
في الدنيا.
وقوله تعالى بعد تلك الآيات (وإذا المؤودة سئلت * بأي ذنب قتلت * وإذا
الصحف نشرت) لا يدل ذكر هذه الأمور مع ما ذكر أولا عندهم على أن ما
ذكر أولا يكون بعد قيام الناس من قبورهم إلى أرض المحشر، وإنما هو تصوير
وبيان لعدة مواقف بعضها في الدنيا عند قيام الساعة، وبعضها يوم القيامة بعد
قيام الناس ومجيئهم للحساب (316).



(315) وقد صححه أيضا متناقض عصرنا!! في " صحيحته " (5 / 584).
(316) قال الحافظ الشريف الحسني: السيد أحمد ابن الصديق الغماري في كتابي " مطابقة
الاختراعات العصرية بما أخبر به سيد البرية " ص (24):
" وقد قدمنا أن أبي بن كعب وابن عباس وأبا العالية وجماعة من السلف قالوا: إن
هذه في الدنيا قبل يوم القيامة، قالوا: ذكر الله تعالى في هذه السورة الكريمة اثنتي
عشرة علامة، ستة منها في الدنيا وستة منها في الآخرة، فالتي في الدنيا آخرها:
(وإذا البحار سخرت) وما بعدها فهو في الآخرة كما رواه ابن جرير وابن أبي
حاتم.. ".
ثم ذكر أن معنى قوله تعالى (وإذا العشار عطلت) أي الإبل عطلت
بالسيارات: أي في الدنيا، وأن معنى قوله تعالى (وإذا الوحوش حشرت) أي
في بساتين الحيوانات.
532
وأجابوا عن الأحاديث الواردة في ذلك بأنها آحاد لا يبنى عليها اعتقاد.
قال الحافظ أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " (10 / 415) في تفسير قوله تعالى
(وإذا الوحوش حشرت) ما نصه:
" (حشرت): أي جمعت من كل ناحية، فقال ابن عباس: جمعت
بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وعنه وعن قتادة وجماعة:
يحشر كل شئ حتى الذباب، وعنه تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها
لبعض... ".
قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (30 / 67):
[حدثني علي بن مسلم الطوسي قال: ثنا عباد بن العوام، قال: أخبرنا
حصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (وإذا الوحوش حشرت) قال:
حشر البهائم موتها، وحشر كل شئ: الموت، غير الجن والإنس فإنهما يوقفان
يوم القيامة].
قلت: وهذا سند صحيح عن ابن عباس رجاله ثقات عند أهل الحديث،
وله سند آخر ذكره الزبيدي في شرح القاموس (3 / 142) من طريق أبي الطيب اللغوي
في كتابه " الأضداد ".
وقد ذكر أهل اللغة أن من معاني (الحشر): الموت، قال العلامة اللغوي

533
محمد مرتضى الزبيدي في " تاج العروس شرح القاموس " (3 / 142):
" والحشر: الموت، قال الأزهري في تفسير قول الله تعالى (وإذا الوحوش
حشرت): قال بعضهم: حشرها موتها في الدنيا ".
وقال الإمام المحدث الدميري (*) في " حياة الحيوان " 1 / 230: في الكلام على
(البهيمة):
[فائدة: قال ابن دحية، في كتاب الآيات البينات: اختلف الناس في حشر
البهائم، وفي جريان القصاص بينها، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يجري
القصاص بين البهائم لأنها غير مكلفة وما ورد في ذلك من الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم:
" يقتص للجماء من القرناء ويسأل العود لم خدش العود " فعلى سبيل المثل
والأخبار عن شدة التقصي في الحساب. وأنه لا بد من أن يقتص للمظلوم من
الظالم وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: يجري القصاص بينها، يحتمل أنها
كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا].
وقال الإمام الدميري أيضا في " حياة الحيوان " (2 / 536) في الكلام على
(الوحش):



* هو الإمام العلامة المحدث المفسر الأصولي اللغوي الأديب ذو الفنون: محمد بن
موسى بن عيسى بن علي الكمال أبو البقاء الدميري الأصل القاهري الشافعي المولود سنة
(742 ه‍)، المتوفى سنة (858 ه‍). قال الحافظ السخاوي في ترجمته في " الضوء اللامع "
(10 / 59):
" وبرع في التفسير والحديث والفقه وأصوله والعربية والأدب وغيرها وأذن له في الافتاء
والتدريس، وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة، وكتب على ابن ماجة شرحا في نحو خمس
مجلدات سماه الديباجة مات قبل تحريره، وكذا شرح المنهاج وسماه: النجم الوهاج
لخصه من السبكي والأسنوي وغيرهما وعظم الانتفاع به خصوصا بما طرزه به من التتمات
والخاتمات والنكت البديعة... ونظم في الفقه أرجوزة طويلة فيها فروع غريبة وفوائد
حسنة وله تذكرة مفيدة، وحياة الحيوان وهو نفيس أجاده وأكثر فوائده مع كثرة استطراده
فيه من شئ إلى شئ... ".
534
[تتمة أخرى: قوله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت وقوله
تعالى: (ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما
فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) اختلف العلماء في حشر البهائم
والوحش والطير، فقال عكرمة: حشرها موتها. وقال أبي بن كعب: حشرت أي
اختلطت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشر كل شئ الموت، غير
الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة. وقال الجمهور: الجميع تحشر وتبعث حتى
الذباب ويقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقول الله
تعالى: كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا فذلك قوله عز وجل
حكاية عن الكافر: (يا ليتني كنت ترابا)].
قلت: فخلاصة الكلام في هذه المسألة أنها من الفروع وبأي قول أخذ
المرء كان جائزا.

535
الإيمان بوزن الأعمال والميزان:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والميزان).
الشرح:
قال الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) الأنبياء: 46، فذكر في هذه
الآية موازين عديدة وليس ميزانا واحدا، وقال تعالى (والوزن يومئذ الحق فمن
ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) الأعراف: 9.
ولا يشترط في هذا الميزان أن يكون ذو كفتين كما يتصور البعض، لكن يجب
الإيمان بالميزان، لأن الميزان في لغة العرب يستعمل في الميزان الحسي أي الآلة وفي
الميزان المعنوي أي: كناية عن العدل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليأتي الرجل العظيم
السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا (فلا
نقيم لهم يوم القيامة وزنا) الكهف: 106 " رواه البخاري (8 / 426) ومسلم (4 / 2417)
عن أبي هريرة.
قال الراغب الأصفهاني في كتابه " المفردات " ص (522):
" وزن: الوزن معرفة قدر الشئ، يقال وزنته وزنا وزنة، والمتعارف في الوزن
عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان. وقوله (وزنوا بالقسطاس المستقيم - وأقيموا
الوزن بالقسط) إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من
الأفعال والأقوال. وقوله (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) فقد قيل هو المعادن
كالفضة والذهب، وقيل بل ذلك إشارة إلى كل ما أوجده الله تعالى وأنه خلقه
باعتدال كما قال (إنا كل شئ خلقناه بقدر) وقوله (والوزن يومئذ الحق)

536
فإشارة إلى العدل في محاسبة الناس كما قال (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)
وذكر في مواضع الميزان بلفظ الواحد اعتبارا بالمحاسب وفي مواضع بالجمع اعتبارا
بالمحاسبين ويقال وزنت لفلان ووزنته كذا، قال: (وإذا كالوهم أو وزنوهم
يخسرون)، ويقال قام ميزان النهار إذا انتصف " انتهى.
والمراد من الميزان فيما يظهر هنا هو العدل وبيان صحائف الأعمال حتى أنه
يتضح للعبد جميع ما عمله من خيرات ومن شرور ومن تقييم لها، والانسان يقول
أحيانا: وزنت فلانا فلم أره رجلا مستقيما، قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد: 25.
قال تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا
الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن: 9.
وقال الحافظ أبو حيان في " البحر المحيط " (10 / 56) عند تفسير قوله تعالى
(والسماء رفعها ووضع الميزان) ما نصه:
" وقال مجاهد والطبري والأكثرون: الميزان: العدل، وتكون الآلات من
بعض ما يندرج في العدل " ا ه‍.
وقال الحافظ أبو حيان أيضا في " البحر المحيط " (5 / 14):
" اختلفوا هل ثم وزن وميزان حقيقة، أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام
والقضاء السوي والحساب المحرر؟ فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدمهم إلى
هذا مجاهد والضحاك والأعمش وغيرهم، وعبر بالثقل عن كثرة الحسنات،
وبالخفة عن قلتها، وقال جمهور الأمة بالأول وأن الميزان له عمود وكفتان ولسان
وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنة، ينظر إليه الخلائق تأكيدا للحجة وإظهارا
للنصفة وقطعا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد

537
عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وأما الثقل
والخفة فمن صفات الأجسام وقد ورد أن الموزون هي الصحائف التي أثبتت فيها
الأعمال، فيحدث الله تعالى فيها ثقلا وخفة وما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم
يصح إسناد، وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد، هذا قول
الجمهور. وقال الحسن: لكل أحد يوم القيامة ميزان على حده، وقد يعبر عن
الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفة موازينه أي
موزوناته فيكون موازين جمع موزون لا جمع ميزان، وكذلك من خفت كفة
حسناته " ا ه‍.
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 538):
" وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء ".
والحاصل أننا نؤمن بالميزان ونكفر متكره لكن لا نجزم بأنه آله، فيجوز أن
يكون الآلة التي توزن بها الأشياء ويجوز أن يكون كناية عن العدل وهو الراجح
فيما يظهر، والله تعالى أعلم.

538
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والصراط).
الشرح:
قضية الصراط بمعنى أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد
من السيف يمر علية الناس واحدا واحدا فمنهم من يقع عنه فيسقط في النار
ومنهم من ينجو وعليه كلاليب مثل شوك السعدان تخطف الناس فيقعون في النار
قضية مرجوحة، ولا بد لنا هنا أن نناقش هذه الأفكار التي بنيت عليها هذه القضية
ونناقش عمدة أدلتها حتى يتبين لنا جلية الأمر في ثبوتها أو عدم ثبوتها:
(مناقشة الفكرة الأولى): كون الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف):
لم يأت في القرآن الكريم أن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف،
وكذا لم يصح حديث في أن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف إطلاقا،
وقد استعرض الإمام الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (11 / 454) الروايات الواردة
في ذلك وبين أنه لا يثبت منها شئ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال هناك:
[ووقع عند مسلم " قال أبو سعيد: بلغني (317) أن الصراط أحد من السيف



(317) قوله (بلغني) هي في صحيح مسلم (1 / 171) وهذه اللفظة تدل على أنه سمعه من أهل
الكتاب، وليس هو حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جزما، وإلا لما قال
بلغني، وقول الصحابي ليس حجة، وعلى كل الأحوال لم يثبت هذا في القرآن كما
لم يثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قاله، وسيدنا أبو سعيد
وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وبعض الأفراد الآخرين من الصحابة الكرام كانوا
يستمعون، ويروون عن مثل كعب الأحبار وعبد الله بن سلام كما تجد ذلك في تراجمهم
من كتب الرجال ك‍ " تهذيب الكمال " و " تهذيب التهذيب "، وفي " سير أعلام النبلاء "
(3 / 489): أن كعبا جالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية.
وقال الإمام البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (343) إن: " عبد الله بن عمرو كان
ينظر في كتب الأوائل فما لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون مما رآه فيما وقع بيده
من تلك الكتب " أي الإسرائيلية بل إن كثيرا من المرفوعات المنقولة عنه هي من هذه
البابة. وذكر مثل هذا أيضا الحافظ ابن الجوزي في كتابه " منهاج الوصول ".
هذا وأنبه على أنني كنت قد أخطات في حاشية لي في كتاب " عقيدة أهل السنة والجماعة "
حيث ذكرت هناك أن كون الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة: رواه البخاري
ومسلم اعتمادا على كلام الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء حيث وقع ذلك
مني تقليدا دون تمحيص، فتنبهوا لذلك واعلموه.
539
وأدق من الشعرة، ووقع في رواية ابن منده من هذا الوجه " قال سعيد بن أبي
هلال: بلغني " ووصله البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزوما به وفي سنده.
لين (318)، ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير " أن الصراط مثل السيف
وبجنبتيه كلاليب، أنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر " وأخرجه
ابن ابن الدنيا من هذا الوجه وفيه " والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم
سلم "، وجاء عن الفضيل ابن عياض قال " بلغنا أن الصراط مسيرة خمسة عشر
ألف سنة، خمسة آلاف صعود وخمسة آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من
الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من
خشية الله " أخرجه ابن عساكر في ترجمته، هذا معضل لا يثبت، وعن سعيد
ابن أبي هلال قال " بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض الناس، ولبعض
الناس مثل الوادي الواسع " أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا وهو مرسل أو
معضل، وأخرجه الطبري من طريق غنيم بن قيس أحد التابعين قال " تمثل النار
للناس، ثم يناديها مناد: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بكل ولي
لها فهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم " ورجاله ثقات
مع كونه مقطوعا (319)] انتهى كلام الحافظ ابن حجر.



(318) معنى لين: أي ضعف، أي: فهو ضعيف غير ثابت.
(319) أي فهو ضعيف.
540
قلت: وهناك حديث آخر لم يذكره الحافظ في هذه القضية وهو عن سيدنا
سلمان رضي الله عنه مرفوعا: " يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات
والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟! فيقول الله تعالى لمن
شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. ويوضع
الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة من تجيز على هذا؟! فيقول من شئت من
خلقي فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك " وقد رواه الحاكم (4 / 586) وفي
سنده مجهول وهو المسيب بن زهير لم يوثقه أحد، وكذا حماد بن سلمة لا يعول
عليه في مثل هذه المضايق فالحديث ضعيف جزما (320).



(320) ومن الغريب العجيب أن متناقض عصرنا!! صحح هذا الحديث في " سلسلته
الصحيحة " (2 / 656) وأورد له شاهدا أضعف منه صححه به وهوما رواه الحاكم أيضا
(5 / 590) عن ابن مسعود مرفوعا وفيه " فيمرون على الصراط كحد السيف دحض
مزلة " وزعم المتناقض هناك أن أبا خالد الدالاني الذي في سند هذا الحديث مختلف
فيه وأن الحافظ قال عنه: " صدوق يخطئ كثيرا "!!
ونسي المسكين أنه تناقض إذ جزم في موضع آخر من كتبه بأن أبا خالد الدالاني
ضعيف!! وذلك أنه قال في " سلسلته الضعيفة " (4 / 229) عنه أثناء كلامه على حديث
هناك: " رواه الحاكم (3 / 73) من طريق أبي خالد الدالاني عن أبي خالد مولى آل
جعدة عن أبي هريرة.... فذكره وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي! كذا قالا وذلك من أوهامهما فإن الدالاني هذا وشيخه لم يخرج لهما الشيخان
شيئا، ثم الأول منهما ضعيف (أي أبا خالد الدالاني)، أورده الذهبي في
الضعفاء... " انتهى كلام المتناقض فتأمل كيف يتناقض ويصحح الحديث بالضعفاء
حتى بنظره!!
وأقول: وأزيد، الآن فأعلمكم بأن الذهبي حكم على هذا الحديث بالنكارة في
تعليقه على " المستدرك " (4 / 592) حيث قال: " ما أنكره على جودة إسناده.... "، مع
أن إسناده ضعيف وغير جيد في الواقع وقد ضعف هو نفسه الدالاني أحد رواته.
وأبو خالد هذا قال عنه ابن سعد أيضا في " الطبقات " (7 / 310): " منكر الحديث "
وقال عنه الحافظ ابن حبان في " كتاب المجروحين " (3 / 105): " كان كثير الخطأ فاحش
الوهم يخالف الثقات في الروايات، حتى إذا سمعها المبتدأ في هذه الصناعة علم أنها
معمولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا لم يوافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم
بالمعضلات؟!! "
فإذا هذه الأحاديث لا تصح بحال ولا تقوم لها قائمة والله الموفق والهادي.
541
وقال الإمام البيهقي في " شعب الإيمان " (1 / 332) عند ذكره قضية أن الصراط
أدق من الشعرة وأحد من السيف ما نصه:
[وهذا اللفظ من الحديث لم أجده في الروايات الصحيحة. وروي عن زياد
النميري " الصراط كحد الشفرة أو كحد السيف " وهي أيضا رواية
ضعيفة (321)] ا ه‍.
فإذا لم يثبت في الكتاب أو السنة في هذا الأمر شئ كما ترى حتى عند الإمام
البيهقي والحافظ ابن حجر.
وفي شرح الدردير على " الخريدة " ص (54) ما نصه:
" وأنكر القرافي تبعا لشيخه العز كونه - أي الصراط - أدق من الشعرة وأحد
من السيف ".



(321) ومن الخطأ ما وقع في المقاصد الحسنة للسخاوي ص (333) أنه نقل كلام الحافظ
البيهقي من " شعب الإيمان " وزعم أنه قال عن حديث سيدنا أنس المرفوع هذا:
" وهي رواية صحيحة " والصواب ما أثبتناه من " شعب الإيمان " أنه ضعفه، وكلمة
أيضا قبلها هناك تؤكد أنه ضعفه وتنفي الشك.
542
فصل
ولا بد لنا أولا قبل أن نناقش الفكرة الثانية وهي فكرة أن الصراط جسر
فوق جهنم وقبل أن نعرض هذه الفكرة على القرآن الكريم ينبغي أن نذكر أشياء
نحتاج إليها هنا قبل مناقشة هذه الأفكار لأنها من القواعد المتفق عليها ولا بد
من استحضارها حال المناقشة والرجوع والتحاكم إليها وهي:
الأمر الأول:
أن معنى الصراط في لغة العرب التي نزل القرآن بها هو: الطريق الواسع
السهل، قال الإمام الراغب في المفردات ص (230): ا السراط الطريق
المستسهل " وقال أيضا: " الصراط الطريق المستقيم "، وفي القاموس مع شرحه
للزبيدي (5 / 152) في مادة (سرط): " والسراط بالكسر السبيل الواضح، وبه فسر
قوله تعالى: إهدنا السراط المستقيم، أي: ثبتنا على المنهاج الواضح كما قاله
الأزهري ".
وفي مادة (سرط) منه ص (174) قال: " (الصراط بالكسر الطريق) قال الله
تعالى: اهدنا الصراط المستقيم ".
ثم ذكر معناه عند أهل السنة وهذا لا يعنينا هنا إنما يعنينا معناه عند العرب
حسب لغتهم (322).



(322) ينبغي أن نتنبه هنا إلى مسألة دقيقة تتعلق بموضوع إخراج معنى الكلمة من
القواميس والمعاجم اللغوية وهي أنه في كثير من الأحيان يدخل مصنفو ومؤلفو تلك
الكتب على المعاني اللغوية البحتة معان شرعية أو آراء لأشخاص تتعلق بموضوع معنى
الكلمة لا علاقة لها بموضوعها اللغوي فيظنها بعض الناس عند مراجعة تلك الكتب
اللغوية ك‍ " لسان العرب " أو " تاج العروس شرح القاموس " من معاني تلك الكلمة
الثابتة عند العرب في لغتهم وهذا غير صحيح، وبالتالي فإن إخراج معنى الكلمة
من معاجم اللغة يحتاج أن يكون الباحث أو المخرج لتلك الكلمة فاهما لهذه القضية
حتى لا يختلط عليه الحابل بالنابل!!
ومثال ذلك إدخال " أن الصراط جسر فوق جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف "
في معنى الصراط عند الزبيدي مثلا في " تاج العروس " مع كون هذا المعنى هو معنى
عند بعض طوائف المسلمين وفرقهم لا كلهم، وهو معنى شرعي غير معروف في لغة
العرب ولا علاقة له به!! وخاصة عند بحث معنى لفظة صراط في لغة العرب وماذا
يقصدون بها!!
ومثال ذلك أيضا إدخال بعض المؤلفين كابن منظور في " لسان العرب " أن تفسير
الاستواء بالاستيلاء يقتضي معنى المغالبة!! وهذا الاقتضاء لا دليل عليه شرعا ولا
لغة وهو لازم بعيد لا عبرة به، كما أنه أيضا رأي شخص يتبع فيه رأي فرقة من
الفرق، فأدخل في بعض كتب اللغة فظنه البعض قاعدة لغوية!! وهو ليس كذلك!!
ويتبين هذا الأمر لكل من نظر بعين الفاحص المتجرد عن العصبية والتعصب، فلا
يعنيه ساعتئذ مذهب صاحب المعجم اللغوي ولا نحلته وإنما يدرك بأن ما طرحه من
المعاني اللغوية بعضها لغوي مجرد وهذا ما يعني الباحث ويهمه وبعضها اصطلاحي
شرعي أو مذهبي أو غير ذلك، والله الموفق.
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن المجسمة والمشبهة ينفرون طلاب العلم عن مراجعة
مثل كتاب " المفردات " للإمام الراغب الأصفهاني مع أنه كتاب دقيق جدا في اللغة
يعطي الباحث مدى ربط الكلمة بعدة معان مذكورة في القرآن يتبين منها حقيقة معناها
اللغوي، ويظهر من عباراته بكل وضوح الفرق بين المعاني اللغوية والاصطلاحات
الشرعية عند طائفة ما أو عند جميع الطوائف والفرق الإسلامية، فكتابه ذاك يعد من
أهم المراجع اللغوية لقدمه ووضوحه في البيان، والله الموفق.
543
فلما كان الصراط في لغة العرب هو الطريق الواسع السهل استعير شرعا لفظ
الصراط للإسلام والقرآن، قال تعالى: (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل).
الأمر الثاني:
أن الصراط بمعنى أنه جسر منصوب على متن جهنم أو فوقها أو بين حافتيها
لم يرد في القرآن الكريم الذي هو الأصل في معرفة العقائد، وإنما ورد في حديث

544
آحاد معارض بالقطعيات كما سترى إن شاء الله تعالى عند مناقشة الفكرة الثانية،
فكيف لا يذكر في القرآن هذا الأمر العظيم ويغفل ذكره فيه ولا يبين بأنه جسر
ممدود فوق جهنم؟! وإذا كان أصلا في اليوم الآخر وهو بذلك العظم والهول كما
يصفونه فكيف يسكت عنه ولا يذكر؟! والله تعالى لم يترك في كتابه الكريم ذكر
ما دونه وما هو أقل شانا منه من أمور الآخرة كالصحف التي يأخذها الناس وطعام
أهل الجنة والنار وآنيتهم التي يشربون فيها، وهي ليست في عظم الشأن والحال
كالجسر العظيم ذي الأهوال الذي يرده الناس كافة حتى الأنبياء الذين يقولون
عند جوازه اللهم سلم سلم كما ورد!!!
والمتأمل في آي الذكر الحكيم لا يجد ولا نصا واحدا يذكر فيه صراحة أن
الصراط هو جسر فوق جهنم، والآيات التي يستدل بها من يثبت الصراط ليس
فيها ذكر ذلك وإنما هم يستنبطون ذلك منها استنباطا بناء على فكرة قامت
بمخيلتهم لا غير!!! زد على ذلك أن الصحابة والسلف والعلماء والمفسرون قد
اختلفوا في تفسيرها كما سترى إن شاء الله تعالى!!!
فمن تلك الآيات الكريمات التي يستدلون بها عليه قوله تعالى: (وإن منكم
إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) مريم: 71.
والصحيح أن هذه الآية واردة في الكافرين وفي بعض عصاة المؤمنين الذي
فعلوا المنكرات العظيمة ومشوا مع الظلمة ولكنهم مؤمنون بالله تعالى وقدر لهم
دخول النار، بدليل الآيات التي قبلها والتي لا يذكرها في هذا المقام المستدلون
بها على أن الصراط جسر منصوب على جهنم.
فيكون معنى قوله تعالى (وإن منكم) أي: أيها الكافرون (323) (إلا



(323) قال الإمام الرازي في " التفسير (11 / 243):
" واعلم أنه تعالى لما قال من قبل (فوربك لنحشرنهم والشياطين) ثم قال (ثم
لنحضرنهم حول جهنم) أردفه بقوله (وإن منكم إلا واردها) يعني جهنم،
واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولا كناية الغيبة
ثم خاطب خطاب مشافهة، قالوا: إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار، ويدل عليه
أمور (أحدها) قوله تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)
والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها (والثاني) قوله (لا يسمعون حسيسها) ولو وردوا
جهنم لسمعوا حسيسها (وثالثها) قوله (وهم من فزع يومئذ آمنون)... " ا ه‍.
545
واردها)، وهذا العموم في قوله تعالى (وإن منكم) لا يشمل الخلق جميعا،
ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن
النعيم) ومعلوم من نصوص الكتاب والسنة أن هناك من يدخل الجنة بغير سؤال
ولا حساب، قال تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر: 10،
وجاء في الحديث " يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب " رواه مسلم
(1 / 197) والبخاري بلفظ قريب منه (11 / 405 - 406).
وقوله تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا) أي اتقوا الشرك (324)، ومعناه: اتقوا
الله تعالى بعدم اقترافهم للشرك والكفر لكن ظلموا أنفسهم بأنواع من المعاصي
التي استوجبت دخولهم النار، فهؤلاء يخرجهم الله تعالى وينجيهم من الخلود في
النار ويذر (الظالمين) أي الكافرين (فيها جثيا) أي مخلدون لا يخرجون
منها، والظالمين هنا الكافرين، وقد سمى الله تعالى الكفر ظلما في القرآن الكريم،
لأن الكفر من أكبر الظلم وأشده على الحقيقة، قال الله تعالى (إن الشرك لظلم
عظيم) لقمان: 13 وقال تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)
الحج: 25.
ولنرجع إلى سياق آية الورود وإلى الآيات التي قبلها فنقول: قال الله تعالى:
[(ويقول الإنسان) أي الإنسان الكافر بدليل ما بعده (أإذا ما مت لسوف
أخرج حيا)؟! وهذا لا يقوله المؤمن الذي يوقن بالبعث وإنما يقوله الكافر (أولا



(324) قال الإمام الرازي في " تفسيره " (11 / 243): " قال ابن عباس: المتقي هو الذي اتقى
الشرك بقول لا إله إلا الله، واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد
الدليل بصحته... ".
546
يذكر) هذا (الإنسان) الكافر (أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا * فوربك
لنحشرنهم) أي الكفار والعتاة وكذا بعض عصاة المؤمنين الذين مشوا في ركاب
هؤلاء وأعانوهم، والدليل على أنها في الكافرين قوله تعالى بعد ذلك
(والشياطين) أي التي كانت تضلهم وتأزهم أزا في الدنيا، أما المؤمنون بما فيهم
من أنبياء وصديقين وصالحين فلا يحشرون مع الشياطين، فآية الورود تتحدث عن
نوع من أنواع الحشر وهو حشر الكافرين والظالمين من بعض عصاة المؤمنين،
وهو خلاف حشر المؤمنين الآمنين المستبشرين، ثم قال الله سبحانه بعد ذلك عن
هؤلاء الكفار ومن معهم من الظلمة العاصين (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا)
أي سيحضرهم الله تعالى حول جهنم جميعا فيكونون قريبا منها وهذا من جملة ما
سيلقون من العذاب، وأما المؤمنون الأتقياء والناجون حتى المسيئين من المؤمنين
الذين يعفو الله تعالى عنهم فقد قال الله عنهم كما في سورة الأنبياء: إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها، ثم بين الله
لنا ماذا سيفعل بهم إذا أحضروا حول نار جهنم حيث قال سبحانه (ثم لننزعن
من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي يوضع في النار ويدخلها أولا أشد
الظالمين والكافرين الذين كانوا في الدنيا عتاة من سفاكي الدماء وقاهري الخلق
ليعلم أتباعهم بأن سادتهم هؤلاء هم قادتهم إلى النار وأنهم سيدخلون النار
قبلهم، وهذا أيضا معنى قوله تعالى: (ثم نحن أعلم بالذين هم أولى بها
صليا)، ويقال لهم جميعا أي الكفار وبعض العصاة إذا أحضروا حول جهنم
(وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) وهذا تخويف لهم وزيادة
في عذابهم بسبب إجرامهم وكفرهم بالله تعالى وظلمهم العباد وإزهاقهم للأرواح،
ثم أخبرنا الله تعالى أنه يخرج بعد ذلك المؤمنين العاصين ويبقي أهل الكفر خالدين
فيها حيث يقول سبحانه (ثم ننجي الذين اتقوا) أي اتقوا الله تعالى بعدم
شركهم وكفرهم به بعد انقضاء مددهم (ونذر) أي نترك (الظالمين فيها جثيا)
أي باقين وماكثين]. أجارنا الله منها بمنه وكرمه.
ومما يدل ويؤكد أن هذه الآية (وإن منكم إلا واردها) ليست دليلا على

547
الجسر المنصوب على متن جهنم أن الصحابة والسلف اختلفوا في تفسيرها كلما تجد
ذلك في التفاسير، أنظر مثلا تفسير الحافظ ابن جرير (9 / 16 / 109) وتفسير القرطبي
(11 / 136) والرازي (11 / 244) ومنه قول الإمام القرطبي هناك:
" واختلف الناس في الورود، فقيل: الورود الدخول،..... وقالت
فرقة: الورود الممر على الصراط....، وقالت فرقة: هو ورود إشراف واطلاع
وقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم، فيرونها وينظرون
إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى
الجنة، وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار
الدنيا، (لحديث) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له صلى الله عليه وسلم: أبشر
فإن الله تبارك وتعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من
النار (325). وقالت فرقة الورود: النظر إليها في القبر،.... وقال الأكثر:
المخاطب العالم كله، ولا بد من ورود الجميع، وعليه نشأ الخلاف في الورود ".
انتهى كلام القرطبي.
وقال الحافظ أبو حيان في " البحر المحيط " (7 / 289):
[وقرأ الجمهور (منكم) بكاف الخطاب، والظاهر أنه عام للخلق وأنه
ليس الورود الدخول لجميعهم، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على
الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشئ ولم يدخل كقوله
(ولما ورد ماء مدين) ووردت القافلة البلد ولم تدخله، ولكن قربت منه أو
وصلت إليه. قال الشاعر:
فلما وردن الماء زرقا جمامة وضعن عصى الحاضر المتخيم
وتقول العرب: وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم،
وليس يراد به الماء بعينه. وقيل: الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون



(325) رواه أحمد (2 / 440) وغيره وهو صحيح، وحديث " الحمى من فيح جهنم " رواه
البخاري (10 / 174) ومسلم (4 / 1732).
548
الورود في حقهم الدخول، وعل قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين
يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا
يعجبني نقله في كتابي هذا لشناعة قولهم إن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم]
انتهى.
قلت: ومنه يتبين أن المسألة خلافية وليست مسألة إجماعية كما يصورها
البعض، كما أن هذه الآية الكريمة ليست دليلا على الصراط المراد الذي هو جسر
منصوب على متن جهنم، فكيف يستدلون بها على الجسر؟!
وقد جاءت لفظة (الورود) في القرآن بمعنى الدخول قال تعالى (أنتم وما
تعبدون من دون الله حسب جهنم أنتم لها واردون) الأنبياء: 98.
قال الإمام الرازي في " تفسيره " (11 / 223): " (إنكم) خطاب لمشركي مكة
وعبدة الأوثان ".
وقال الإمام الرازي في حق المؤمنين في " تفسيره " (11 / 227):
" (أولئك عنها مبعدون) أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون
النار ولا يقربونها البتة، وعلى هذا القول بطل قول من يقول إن جميع الناس يردون
النار ثم يخرجون إلى الجنة، لأن هذه الآية مانعة منه... ".
ومن الآيات التي استدلوا بها على وجود الصراط الذي هو جسر قوله تعالى
(ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) وهذه أيضا
ليس فيها أي دليل على أن الصراط جسر على متن جهنم بل إن هذه الآية تخبر
عن حال الكافرين في الدنيا بأنهم استبقوا صراط الغي وسارعوا إليه أي ركضوا
في طريق الضلال وتركوا طريق الهدى فكيف سيبصرون الحق ويتبعونه؟! وقد
فسرها بذلك سيدنا ابن عباس كما تجد ذلك في التفاسير (أنظر تفسير الحافظ ابن جرير الطبري
12 / 23 / 27) وقال الإمام القرطبي في " تفسيره " (15 / 49):
[قوله تعالى (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى

549
يبصرون)... قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا
إلى طريق الحق. وقال الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى:
لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار
الطبري].
وروي عن عبد الله بن سلام وكان يهوديا ثم أسلم أنه فسر هذه الآية بأن هذا
الأمر هو المرور على الصراط الذي هو جسر حينما يمد يوم القيامة فيطمس الله
أبصارهم وهم عليه [أنظر " تفسير القرطبي " (15 / 50)].
فالظاهر أنه حدث بهذا إن ثبت عنه مما كان يحفظه ويعلمه من التوراة،
فتكون هذه الفكرة قد دخلت على المسلمين من باب الإسرائيليات ثم انتشرت
عند كثيرين وأصبحت معتمدة لديهم (326).



(326) وخاصة أن راوي الحديث وهو أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ممن روى عن عبد الله بن
سلام كما تجد ذلك في كتب الجرح والتعديل [انظر مثلا " تهذيب الكمال " (15 / 75)]
وهذا مثل كثير من الأمور التي يتداولها العوام يحسبونها حقائق كقولهم إن سيدنا أيوب
عليه السلام قد مرض حتى كان الدود يمشي على بدنه فكلما سقطت دودة أعادها
وقال لها ارجعي وكلي نصيبك!! وهذا من الكذب الإسرائيلي البحت، لأن الأنبياء
معصومين من الأمراض الظاهرة المنفرة ومرض سيدنا أيوب كان باطنيا ولم يظهر عليه
ما ينفر الإنسان منه، وليس بعيد منا أيضا حديث التربة الذي في مسلم (4 / 2149
برقم 2789) والذي نص البخاري في " التاريخ الكبير " (1 / 413 - 414) بأن الأصح أنه
من كلام كعب الأحبار حيث رواه عنه أبو هريرة فظنه الرواة الذين جاءوا بعده أنه كلام
النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في الواقع ليس كذلك، وبالتالي فهو حديث إسرائيلي دخل في
الصحيح ومنه تعلم بأن كتاب الصحيح ليس معصوما من أن يدخله الخطأ والوهم
والإسرائيليات بشهادة علماء هذا الفن، واعلم أن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه هو كتاب الله تعالى فاعرف ذلك جيدا.
وليس هذا هو أول حديث ولا آخر حديث يتكلم عليه العلماء من أحاديث الصحيحين
كما هو معلوم، بل إن هناك أحاديث أخرى، منها مثلا حديث شريك الذي في
الإسراء والذي رواه البخاري (13 / 478) وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرحه هناك
(13 / 483) قول أهل العلم الذين سبقوه فيه ومن ذلك قوله هناك: " قال الخطابي:
ليس في هذا الكتاب يعني صحيح البخاري حديث أشنع ظاهرا ولا أشنع مذاقا من
هذا الفصل " ثم قال الحافظ بعد ذلك: " وقد روي هذا الحديث عن أنس من غير
طريق شريك فلم يذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة ". وهذا يدلنا على أن في الصحيح
أشياء شنيعة، وهي مستشنعة بشهادة فحول الحافظ وكبار العلماء والمحدثين، فافهم
هذا ولا تنسه.
ثم إن النقد ليس مقيدا في الأحاديث التي نصوا عليها في الصحيح، وإنما قد يدرك
وينقد الباحث والعالم المحقق ما لا يدركه وينقده غيره وليس الباب مقفلا ومقتصرا
على أناس دون آخرين ما دام النقد مبني علي العلم والمعرفة. وقد روى البخاري نفسه
في الصحيح (1 / 204) عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي (رضوان الله عليه) هل
عندكم كتاب؟ فقال: " لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم.... " فتأمل!!
550
ومن الآيات التي استدلوا بها على الجسر أيضا قوله تعالى (فاهدوهم إلى
صراط الجحيم) وهذا لا دلالة فيها على الجسرية وإنما فيها الأمر بدلالتهم على
طريق الهلاك أو طريق النار، وإذا أثبتوا بها جسرا للجحيم فيلزمهم إثبات جسر
آخر لجنات النعيم ولم يقولوا بذلك!!
فتأمل!!!
الأمر الثالث: أن الأحاديث التي وردت في الصراط هي أحاديث آحاد،
لا تفيد إلا الظن، وهي معارضة بقطعي الدلالات كما سترى إن شاء الله تعالى،
وعمدة استدلالهم على الجسر ذي الكلاليب هو حديث أبي هريرة وأبي سعيد الذي
فيه: ".... يجمع الله الناس - يوم القيامة - فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه،
فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد
الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي
يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا
فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم،
فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: فأكون أول

551
من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك
السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل
شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم،
منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو... ".
وهذا رواه البخاري (11 / 445) ومسلم (1 / 146) وهو حديث شاذ بمرة كما ذكرت
ذلك في التعليق على كتاب " دفع شبه التشبيه " ص (157) وأزيد هنا موضحا: بأن
هذا هو حديث الصورة الذي فيه إشكالات كثيرة مخالفة لما جاء في القرآن الكريم
ولما هو مقرر بقطعي الدلالات في الكتاب والسنة، لأن في طياته أفكارا باطلة
مردودة لا يمكن الأخذ بها، وتجد ذكر بعضها في الحاشية هنا (327).



(327) قد ذكرت أن في جزء من هذا الحديث وهو صدره ستة عشر إشكالا في كتابي " الأدلة
المقومة لاعجوجات المجسمة " وإنني أذكر بعضها هنا فأقول:
1 - في هذا الحديث أن الله يتشكل فتارة يأتيهم بغير صورته وتارة يأتيهم بصورته وهذا
محال لأن الله تعالى (ليس كمثله شئ).
2 - وفيه أيضا أن لله تعالى صورة وهو محال أيضا وباطل من القول للآية.
3 - ثم يقال أين رأوه وعرفوه سبحانه قبل ذلك حتى يصح أن يقال: " فيأتيهم بغير
صورته التي يعرفون "؟!!!
4 - وفيه أن المنافقين يرون الله تعالى في أرض المحشر!! وهذا معارض لقوله تعالى
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).
5 - تقرر عند أهل السنة القائلين بإثبات رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة أن الرؤيا
إنما تكون في الجنة تحقيقا لقوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) عندهم،
وهذا الحديث يدل على أن الرؤيا تقع في أرض المحشر عندما يكون المنافقون - الذين
أخبر الله تعالى بأنهم في الدرك الأسفل من النار - مختلطين بالمؤمنين في أرض المحشر.
6 - ورد في هذا الحديث أن الله تعالى إذا أتاهم بصورته التي يعرفونها اتبعوه!! فهذا
فيه أنه جسم ينطلق فيتبعونه، مثل اتباع عبدة الشمس والقمر لآلهتهم، وهذا
مستحيل جدا.
وبالتأمل في هذه الأمور وغيرها أيضا لا يتردد أي عاقل في الحكم على هذا الحديث
بالبطلان.
552
وهناك حديث آخر مثله في مسلم (1 / 187) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي
الله عنهما وفيه " قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به
فمخدوش ناج ومكدوس في النار " وهذا آحاد أيضا لا يقطع به، وهو من طريق
أبي مالك الأشجعي وقد قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث يكتب حديثه. وقال
النسائي: ليس به بأس، كما في " تهذيب الكمال " (10 / 270) فهو ليس في الدرجة
العليا من الحفظ والضبط، وليس حديثه هذا مقطوعا به بل هو معارض للقطعي
كما سترى إن شاء الله تعالى عند مناقشة الفكرة الثانية.
وبقي من الأحاديث المهمة في هذه المسألة ما رواه مسلم أيضا (1 / 179) عن
سيدنا جابر وفيه " ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن
لا أكون أحفظ ذلك. قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن
يكونوا فيها ". ففيه شك صريح فيما رواه في الصراط، وقد اعترف بذلك الراوي
فكيف نبني على الشك أصول الدين؟!
وروى أحمد (4 / 182) والترمذي (5 / 144) عن النواس بن سمعان أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبي
الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط
داع يقول: يا أيها الناس أدخلوا الصراط جميعا ولا تتفرجوا وداع يدعو من جوف
الصراط فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبوب قال ويحك لا تفتحه فإن تفتحه
تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم
الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق
الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " وهو صحيح، والصراط هنا هو الطريق
وهو ضرب مثل في هذا الحديث.
وكثير من الناس عند سماعهم لكلمة صراط لا يتخيلون إلا الجسر الدقيق
الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، مثل الحبل الذي يمشي عليه بعض
الناس أحيانا فربما وقع وربما سار عليه!!

553
وبذلك يتضح لنا جليا أن قضية تفسير الصراط بأنه الجسر الممدود على ظهر
جهنم لم تأت في القرآن الكريم، لكن جاءت في حديث آحاد لم يبلغ التواتر،
وفيه إشكالات جمة، تجعلنا نقول عنه إنه ليس حديث آحاد فحسب، وإنما هو
مردود للإشكالات الواقعة في أفكاره وقضاياه التي تخالف ما جاء في القرآن الكريم
كما سيتبين لنا الآن إن شاء الله تعالى.
ولا بد لنا هنا أن نصرح بأن الأصوليين (أي علماء الأصول) وعلماء الحديث
نصوا على أن حديث الآحاد إذا عارض نص القرآن رددناه ولم نأخذ بما فيه، وقد
نص علي ذلك الخطيب البغدادي في كتابه " الفقيه والمتفقه " (1 / 132) وغيره من
علماء السلف والخلف حتى الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد نقلت ذلك
بتوسع في كتابنا هذا عند الكلام على حديث الآحاد وأنه لا يفيد العلم وإنما يفيد
الظن مطولا موسعا مدللا فارجع إليه إن شئت.
(مناقشة الفكرة الثانية): وهي أن الصراط جسر فوق جهنم:
لقد حوت القضية القائلة بأن الصراط جسر فوق جهنم عدة أفكار لا بد
أن نناقشها واحدة واحدة وهذه الأفكار هي: أن فكرة الصراط بهذا المعنى تنص
على أن المؤمنين يقربون من النار ويجوزون عليها من بين حافتيها، وأن في هذا
الأمر مهما كانت صورته نوع من الهلع والخوف والفزع، وفي ذلك تساوى المؤمنين
مع الكافرين في أن الجميع يمرون بهذا الموقف المخيف الصعب الذي يقول فيه
الرسل اللهم سلم سلم، وأن الناس من برهم وفاجرهم يمرون عليه واحدا واحدا
على اختلاف طريقة السير والسرعة، وأن طريقة دخول النار تتم بالسقوط من هذا
الجسر فيها، وأن المرء لا يدري ما هو مصيره عندما يمشي عليه هل سيقع فيها
أم لا وهل سيأخذه أحد كلاليب الصراط أم لا!!! إلى غير ذلك من قضايا وأفكار.
والمتأمل في القرآن الكريم يجده ينقض هذه الأفكار التي وردت في حديث
الآحاد هذا، وما علينا هنا إلا أن نناقش هذه الأفكار فكرة فكرة بحسب مفهوم

554
كتاب الله تعالى الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) فنقول وبالله
تعالى التوفيق:
أولا: تنص فكرة الجسر الذي فوق جهنم على أن الناس يمرون عليه
ويكونون قريبين من النار بل يمرون ما بين حافتيها!! فيجوزون عليها من
فوقها!!
وهذه الفكرة تعارض ما هو مقرر في القرآن الكريم من أن المؤمنين لا يقربون
من نار جهنم ولا يسمعون صوتها قال الله تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها) الأنبياء: 101.
ثانيا: فكرة الصراط بمعنى الجسر الممدود على متن جهنم بين حافتيها فيها
من الهلع والخوف والفزع ما لا يستطيع أحد أن ينفيه حتى عن الأنبياء الذين
يقولون كما جاء في ذلك الحديث: اللهم سلم سلم!!
وهذه الفكرة أيضا تعارض ما ثبت في القرآن الكريم من أن المؤمنين فضلا
عن الأنبياء يكونون آمنين مطمئنين لا يصيبهم خوف ولا فزع، قال الله تعالى (لا
يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) الأنبياء
103، وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون)
النمل: 89، وقال تعالى: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضر وسرورا)
الإنسان: 11، وقال تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 112. وقال تعالى (وما نرسل المرسلين
إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الأنعام:
48. وقال تعالى: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر
المؤمنين) آل عمران: 171. وقد ذكر الله تعالى (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
في كتابة الكريم في نحو ثلاثة عشر موضعا فأين تطبيق هذه الآية في الجسر الذي
على متن جهنم؟!!!

555
ثالثا: وتفيد فكرة الصراط تساوي المؤمنين مع الكافرين في الخوف
والصعوبة التي يلقونها على الصراط، وإن كان هناك بعض الفروق كما جاء في
ذلك الحديث " فمخدوش ناج ومكردس في النار "، والرسل تقول: اللهم سلم
سلم!!
وهذه الفكرة أيضا تنافي ما هو مقرر في القرآن من أن حال المؤمنين يختلف
تماما عن حال الكفار والمجرمين قال الله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين *
ما لكم كيف تحكمون) القلم: 26، وقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم)
الجاثية: 21.
رابعا: تنص فكرة الصراط على أن الناس يمرون على الصراط الذي هو
جسر جهنم واحدا واحدا وليسوا جماعات!!
وهذا أيضا مخالف لما جاء في القرآن الكريم من أنه يذهب بالناس من أرض
الحساب والمحشر إلى الجنة والنار أفواجا أفواجا وزمرا زمرا، قال الله تعالى
في ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون * وسيق الذين كفروا إلى
جهنم زمرا) الزمر: 71، وقال سبحانه (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا
حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها
خالدين) الزمر: 73.
خامسا: تنص فكرة الصراط الذي هو جسر على متن جهنم أن كيفية
دخول النار تتم بالسقوط من هذا الجسر المنصوب على حافتيها والهوي في النار!!
وهذا الأمر مخالف لما هو مقرر في القرآن الكريم من أن دخول النار يتم
بمجيئ الكفار والعصاة إلى أبوابها مثل مجيئ المؤمنين إلى أبواب الجنة والدخول فيها
بعدئذ، قال الله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها
فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم

556
وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين *
قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها أبدا فبئس مثوى المتكبرين) الزمر: 72.
وهؤلاء هم الذين يدخلون فيها غير أولئك الذين تلتقطهم.
وقال الله تعالى في وصف جهنم أعاذنا الله منها: (وإن جهنم لموعدهم
أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) الحجر: 44.
وجاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى النار
ليلة الإسراء وقف على بابها ولم يقف على جسر منصوب عليها!! قال صلى الله
عليه وآله وسلم:
" قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين.... وقمت على باب
النار فإذا عامة من يدخلها النساء " رواه البخاري (9 / 298 و 11 / 415) ومسلم (4 / 2096)
سادسا: تفيد فكرة الصراط الذي هو جسر بأن المار عليه لا يعرف مصيره
هل سيقع في النار وهل سيأخذه أحد الكلاليب بسبب بعض معاصيه أم سينجو!!
وبالتالي فهو بعد الحساب وقراءة صحيفته هل سيقع في النار أم سيدخل الجنة!!
وهذا أيضا مضاد ومخالف لما تقرر في القرآن الكريم وفي الأحاديث الصحيحة
الأخرى من أن المؤمن وغيره من ساعة موته يعرف مصيره، وأنه يقوم من قبره
ضاحكا مستبشرا آمنا نوره يسعى بين يديه وتبشره الملائكة ويشرب من الحوض
فيذهب ظمؤه، قال تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي كنتم توعدون) الأنبياء: 103، وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) يونس: 64. وقال
تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم
اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم * يوم
يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) الحديد: 13.

557
وقال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) النحل: 32.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد جاء في الأحاديث أن العبد المؤمن بعد موته
يرى مقعده من الجنة، والعبد الكافر يرى مقعده من النار، وكل ذلك مما يبطل
تلك الفكرة!!
فتأملوا جيدا هدانا الله تعالى للحق وللسبيل القويم!!
وإذا تأملنا في نصوص القرآن الكريم وتدبرناها وجدنا أن الصراط قد عبر
فيه عن الطريق الواضح الذي شرعه الله تعالى لعباده وهو دين الإسلام الذي بعث
الله تعالى به رسله وأنبياءه، ومن ذلك قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)
الأنعام: 153. وقال تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) وقال تعالى (وهذا صراط
ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) الأنعام: 126. قال الحافظ ابن جرير
الطبري في تفسير هذه الآية (5 / 8 / 32) ما نصه:
" يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيناه لك يا محمد في هذه السورة وفي غيرها
من سور القرآن هو صراط ربك، يقول: طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه
دينا، وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه.... وعن ابن عباس قوله (وهذا صراط
ربك مستقيما) يعني به الإسلام " انتهى مختصرا فتأمل!!
[تنبيه]: إذا تقرر ذلك فاعلم أن كل نص جاء فيه مثلا لفظة (ألقي
في النار) فمعناه وضع في النار ولا يلزم من ذلك أنه مر على الجسر فسقط فيها،
وهذا تماما كما يقال مثلا في اللغة (ألقي في السجن وطرح فيه) والسجن ربما يكون
على رأس جبل والمتكلم أخفض منه، وذلك لأن مكان الإذلال والقهر يرمز له
بالسفل في لغة العرب، ومكان التكريم يرمز له بالعلو والرفعة، وكذلك الجنة
والنار فاعرف ذلك ولا تغفل عنه.
[تكميل]: وإذا تأملنا في هذه القضية بتمعن ونظرنا في اختلاف

558
الصحابة فمن بعدهم في معنى آية الورود وغيرها علمنا أن قضية الجسر الذي
على متن جهنم غير مجمع عليها بين الأمة خلافا لدعوى البعض، وأعجبني قول
العلامة السالمي رحمه الله تعالى حيث يقول في مشارق أنوار العقول:
وقوله الصراط فهو الحق لا * جسر كما بعضهم تأولا
وأعلم أنه لا بد في مسائل أصول الدين أن يكون الأمر مجمعا عليه بين الأمة
جميعها بكافة فرقها المعتد بهم، فلا يكفي في هذا الأمر إجماع فرقة من فرق الأمة
فحسب، ولا يكفي إجماع أهل السنة والجماعة!! وذلك لأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال في الحديث الصحيح الذي هو مستند الإجماع الصريح: " لا تجتمع
أمتي على ضلالة " (328) ولم يقل صلى الله عليه وسلم لا يجتمع أهل السنة والجماعة على ضلالة،
فلا بد من النظر في مثل هذا الأمر في قول الزيدية والمعتزلة والإباضية والشيعة
وهؤلاء لم يجمعوا مع أهل السنة في القضية على زعم من قال إنها مجمع عليها فصار
أن الأمر غير مجمع عليه لا زمن الصحابة والسلف ولا في الأزمان التي بعدهم بدليل
وجود الخلاف بين فرق الأمة (329).



(328) رواه الحاكم في " المستدرك " (1 / 116) وغيره وهو صحيح.
(329) ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن أئمة أهل السنة والجماعة جوزوا الصلاة خلف المعتزلة،
قال الخطيب الشربيني في " مغني المحتاج " (4 / 135): " قاله البيهقي وغيره من المحققين
لإجماع السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم ". والذين
لا يعتد بهم في الاتفاق والاختلاف من الفرق هم الكرامية الذين أكفرهم سائر فرق
الإسلام.
وقد عاب أهل السنة على الزيدية أنهم جعلوا إجماع العترة إجماعا معتبرا ومعتدا به،
وعللوا إبطالهم هذا الأمر بأن هذا إجماع طائفة من الأمة، ولم يعيبوا على أنفسهم أنهم
جعلوا إجماعهم دون سائر فرق الإسلام حجة لا يجوز مخالفتها ولا العدول عنها فانظروا
إلى هذا التخابط وإلى هذا العدول عن قوله صلى الله عليه وسلم " لا تجتمع أمتي على ضلالة "!!
مع أن ما قاله الزيدية أقرب للحق مما قاله أصحابنا مجردا بلا دليل، لأن الزيدية
احتجوا بدليل واضح وهو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة جمعاء بالتمسك
بالحبلين كتاب الله تعالى وعترته صلى الله عليه وسلم وهو في " صحيح مسلم " (4 / 1873 برقم 2408)
وغيره.
وانظر ما قلناه وقررناه في مبحث الإجماع ص () في هذا الكتاب.
559
ويكفي أن الإمام البيهقي لم يذكر الصراط في كتاب " الاعتقاد والهداية " ولم
يبين أنه هو جسر جهنم مع أنه ذكر العرض والحساب والميزان!! وكذلك ابن حزم
لم ينقل في كتاب مراتب الإجماع أن أهل الحق اتفقوا على الجسر بل قال هناك
ص (175): " واتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون في وقت تنقطع
فيه سكناهم في الدنيا يحاسبون عما عملوا من خير وشر، وأن الله تعالى يعذب
من يشاء ويغفر لمن يشاء. واختلفوا في تفسير هذه الجملة بعد اتفاقهم على هذا
اللفظ " ا ه‍.
ومما يدل على اضطراب العلماء في هذه القضية وعدم بتهم فيها بمثل هذا
الوضوح الذي بيناه هنا آنفا، أنهم اختلفوا هل يمر جميع الناس على الصراط أم
لا وهل هناك جسر واحد للناس كافة أم أن هناك جسران اثنان جسر للمؤمنين
وجسر للكافرين؟! وإليكم نموذجا ومثالا من اختلافهم في ذلك منقولا من كلام
الإمام الحافظ السيوطي نختم به هذا البحث ليخرج الإنسان بنتيجة واضحة بعد
التأمل فيما كتبناه ليتيقن صحته أو لا وما وقع من الخطأ في هذه في المسألة ثانيا،
فلو كانت عقيدة مجمعا عليها لما وقع فيها هذا التخالف!!
فنقول قال الإمام السيوطي كما في " الحاوي للفتاوي " (2 / 196) في جواب سؤال
ما نصه:
[أحوال البعث: مسألة: هل يمر إبليس وكفار الإنس والجن على الصراط؟
الجواب: صرح ابن برجان في الإرشاد بأن الكفار لا يمرون على الصراط،
وفي الأحاديث ما يشهد له وفي أحاديث أخر ما يقتضي خلاف ذلك وأنهم يمرون
فحمل ذلك على المنافقين لكون بعض الروايات فيها ما يدل على ذلك، ثم رأيت
القرطبي صرح بأن في الآخرة صراطين، صراط لعموم الخلق إلا من يدخل الجنة

560
بغير حساب ومن يلتقطهم عنق النار، وصراط للمؤمنين خاصة وهذا جمع حسن
وعرف منه أن من يلتقطهم عنق النار وهم طوائف مخصوصة من الكفار لا يمرون
على الصراط أصلا، وكذلك بعث النار الذي يخرج من الخلق إليها، قبل نصب
الصراط، دلت الأحاديث على أنهم لا يمرون على الصراط أصلا وهم طوائف
من الكفار، والظاهر أنه لا يمر على الصراط من الكفار إلا المنافقون وأهل الكتابين
اليهود والنصارى فإن هؤلاء الفرق الثلاث ورد في الحديث أنهم يحملون عليه
فيسقطون منه في النار، وكذلك من ينصب له الميزان من الكفار وهم طائفة
مخصوصة منهم يمرون عليه فيحضروا وزنهم فإن الميزان إنما هو على الصراط - هذا
ملخص القول في ذلك - وبسطه في كتابنا المسمى - بالبدور السافرة في أمور الآخرة
- والله أعلم] ا ه‍.
وبمقارنة هذا الكلام مع التحقيق الذي ذكرناه هنا يلاحظ اضطرابهم الشديد
في مسألة الصراط!!
فهذا ما وقفنا عليه في مسألة تفسير الصراط بالجسر وأحببنا أن نعرضه بأسلوب
علمي محقق ومنقح والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم
الوكيل.

561
الإيمان بالحوض:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والحوض الذي أكرمه لله تعالى به غياثا لأمته حق).
الشرح:
الحوض الذي أعطاه الله تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
هو الكوثر الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر *
فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر). قال القرطبي في تفسيره " الجامع
لأحكام القرآن " 20 / 214):
[العرب تسمي كل شئ كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا....،
واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على
ستة عشر قولا (330):
الأول: أنه نهر في الجنة، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا، وقد
ذكرناه في كتاب التذكرة، وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت،
تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج " (311) هذا



(330) وذكر الحافظ أبو حيان في البحر المحيط (10 / 556) أن في ذلك ستة وعشرين قولا. وكذا
نقل الاختلاف بين السلف في هذا الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (15 / 30 / 320)
فيكون هذا مما اختلف فيه السلف في العقائد أيضا. وأما باقي الأقوال التي ذكروها
في تفسير نهر الكوثر فهي مثل قولهم: هو النبوة والكتاب، أو القرآن أو الإسلام،
أو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، أو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع، أو الإيثار،
أو رفعة الذكر......... إلى آخر ما ذكره الإمام القرطبي هناك. ولا شك أن
ذلك كله قد أعطاه الله تعالى له أيضا صلى الله عليه وسلم.
(331) هو في سنن الترمذي (5 / 450).
562
حديث حسن صحيح.
الثاني: أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف قاله عطاء. وفي صحيح مسلم
عن أنس قال: " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه
متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة
فقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر *
إن شانئك هو الأبتر) ثم قال:
" أتدرون ما الكوثر "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه نهر وعدنيه
ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد
النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما
أحدث بعدك " (332). والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة].
ومنه يتبين أن الكوثر هو الحوض نفسه وإلا فقد أعطى الله تعالى نبيه ولا ريب
أنهارا لا عدد لها في الجنة وإنما خص ذكر الكوثر لأنه يكون في أرض المحشر أو
يصب في أرض المحشر كما هو واضح وظاهر.
وقد ذكر البخاري في صحيحه (11 / 463) في باب الحوض قوله تعالى (إنا
أعطيناك الكوثر) بيانا منه إلى أن الكوثر هو الحوض عنده أيضا (333).



(332) هو في صحيح مسلم (1 / 300).
(333) وقد قال الحافظ في الفتح (11 / 466) في أوائل شرح " باب الحوض ": " وإيراد
البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة وبعد نصب الصراط إشارة منه إلى
أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه ".
قلت: وهو كلام خطأ من الحافظ رحمه الله تعالى ولم يرد البخاري ذلك!! وقد
أدرك الحافظ تهافت هذا الكلام فقال بعد ذلك: " وقد استشكل كون الحوض بعد
الصراط "!!! ثم هو قد نظر للموضوع من جهة واحدة!! وعلى نمط ما تربى عليه
وورثه من أشياخه!! وقد بينا أن الصراط بمعنى الجسر المنصوب على ظهر جهنم لا
وجود له في الحقيقة إذ لا دليل عليه وهو فكرة معارضة للقرآن الكريم، والسلام.
563
أقول: وبذلك نستطيع أن نقول لقد ثبت الحوض في القرآن الكريم وفي
السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة المتظافرة التي لا معارض لها، وقد صرح
الحافظ ابن عبد البر بتواترها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والحوض هو عطية الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك
في أرض المحشر قبل دخول الجنة، فهو ليس في الجنة ويمكن أن يكون ممتدا منها
أو ينقل إليها بعد ذلك، فيشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة فلا يظمأون بعد
الشرب منه أبدا ويذاد عنه الكافرون وبعض عصاة المؤمنين.
[فائدة]: وهناك مناسبة في سورة الكوثر بين هذا النهر وبين عترته
وآل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن الله تعالى قال في هذه السورة (إن
شانئك هو الأبتر) وذلك أن بعض الكفار (334) كان يقول: إن محمدا أبتر ليس
له ولد ذكر، فأنزل الله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) أي مبغضك الذي يقول
في حقك هذا الكلام هو الأبتر الذي لا يذكره أحد، وقد ذكر الإمام الفخر الرازي
في ذلك كلاما جميلا أحببت نقله هنا، وهو قوله هناك في تفسيره (32 / 124) إن من
معاني الكوثر في قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر):
[والقول الثالث: الكوثر أولاده، قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على
من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان،
فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في
الدنيا أحد يعبأ به (335)، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر
والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم] انتهى.



(334) قيل هو العاص بن وائل، وقيل أبو جهل، وقيل عقبة بن أبي معيط. أنظر تفسير
" البحر المحيط " (10 / 557).
(335) لأنهم قبحهم الله تعالى هم أعداؤه عليه الصلاة والسلام إلا من رحم ربك منهم وهم
كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود كأمثال سيدنا عثمان وعمر بن عبد العزيز، فقد
روى الترمذي (5 / 444) وغيره بسند صحيح عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى
الحسن بن علي بعدما بايع معاوية، فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه
المؤمنين، فقال: لا تؤنبني رحمك الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بنو أمية على منبره فساءه
ذلك فنزلت (إنا أعطيناك الكوثر) يا محمد، يعني نهرا في الجنة، ونزلت (إنا
أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر)
يملكها بنو أمية يا محمد. قال القاسم فعددناه فإذا هي ألف يوم (الصحيح: شهر)
لا يزيد يوم ولا ينقص.
قلت: رجاله رجال مسلم وهو صحيح، قال الترمذي إن يوسف بن سعد:
مجهول. والصواب ليس كذلك بل هو ثقة، وثقه يحيى بن معين " تهذيب الكمال "
(32 / 426) والحافظ في التقريب والذهبي في الكاشف، فافهم!!
564
وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك،
وكيزانه كعدد نجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدا " رواه البخاري (11 / 463)
ومسلم (4 / 1793).
وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن
شراب الحوض فقال:
" أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغت (أي يدفق ويصب فيه الماء
دفقا شديدا) فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق
(أي فضة) " رواه مسلم (4 / 1799).
وقد روي في حديث ضعيف عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: من
أحب أن يسمع خرير الكوثر فليجعل أصبعيه في أذنيه. قال ابن كثير في
" التفسير " (4 / 596) " معنى ذلك أنه يسمع نظير ذلك لا أنه يسمعه نفسه والله
أعلم ".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" إني فرطكم على الحوض (أي سابقكم) من مر علي شرب. ومن شرب

565
لم يظمأ أبدا. ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم " رواه
البخاري (11 / 464) ومسلم (4 / 1793).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض. فأقول: يا
رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على
أدبارهم القهقري " رواه البخاري (11 / 464) ومسلم (1 / 217).
وفي رواية أبي سعيد في البخاري (11 / 464) فيقول هم: " سحقا سحقا لمن
غير بعدي ".
وفي رواية عند مسلم (4 / 1793): " أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم "
ففي قوله " يعرفونني " دلالة واضحة على أنهم من أصحابه، ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أخرى عند مسلم (1 / 217) أيضا " وليصدن عني طائفة منكم فلا
يصلون. فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي. فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري
ما أحدثوا بعدك؟ ".
ويؤكد هذا أيضا ما جاء في رواية أخرى في البخاري ومسلم (4 / 1800):
" ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني ".
وقد أثبت هذا الحديث بلفظ " أصحابي " عبد الله بن مسعود عند مسلم (برقم
2297) وسيدنا أنس عند مسلم (برقم 2304)، ورواه سعيد بن المسيب عن جماعة من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (11 / 465).
وهذا هو مصداق الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه (4 / 2143) أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل

566
في سم الخياط... " الحديث (336).
وهذا محمول عند جماعة من الأئمة وأكابر من محققي العلماء على أن هؤلاء
هم رؤوس القوم الذين قاتلوا سيدنا عليا ونازعوه الخلافة والأمر، ما عدا السيدة
عائشة وسيدنا الزبير وسيدنا طلحة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لأنهم تابوا
وأقلعوا واستغفروا ورجعوا فهدوا إلى صراط مستقيم، وقد عين هؤلاء المقصودين
بالخروج على سيدنا علي الحديث الآخر الصحيح المتواتر المخرج في الصحيحين
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار " أنظر البخاري
(6 / 30)
وفي لفظ عند البخاري (1 / 541) أيضا " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "
وسيدنا عمار رضوان الله تعالى عليه قتل في صفين وهو يقاتل معاوية مع سيدنا علي
رضي الله عنه وأرضاه.
قال الحافظ ابن عبد البر " التمهيد " (2 / 291):
" الأحاديث في حوضه صلى الله عليه وسلم متواترة صحيحة ثابتة كثيرة، والإيمان بالحوض عند
جماعة علماء المسلمين واجب، والاقرار به عند الجماعة لازم ".
فتبين من هذا وجوب الإيمان بالحوض لتواتر الأحاديث فيه، وعدم المعارض
لها في الكتاب والسنة. وقد استشكل بعض الناس في حديث الحوض أمرين:
(الأول): قوله إن الحديث ينص على أن هذا الحوض من شرب منه لا
يظمأ أبدا، وهذا يناقض أن أهل الجنة يأكلون ويشربون فيها كما جاء في الكتاب



(336) فإن قال قوم هذا الحديث محمول على ابن أبي سلول وجماعته المنافقين. قلنا: ليس
كذلك " إذ لو كان الحديث محمول عليهم لما قال في حديث الحوض " إنك لا تدري
ما أحدثوا بعدك ". لأن ابن أبي سلول لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات في حياة
النبي عليه الصلاة والسلام.
567
والسنة، فشرب الناس في الجنة كيف يكون مع أنهم ارتووا من الحوض ولن
يظمأوا بعد ذلك؟!
قلنا: هذا مردود والجواب عليه: أن الظمأ في لغة العرب هو أشد
العطش، والمؤمنون متى دخلوا الجنة لن يصيبهم ظمأ كما كان يصيبهم في الدنيا
أحيانا عند انقطاع الماء، عنهم، فشربهم في الجنة على وجه التلذذ والتمتع لا على
وجه شدة العطش، وذلك لأنهم متى أصابهم العطش قبل اشتداده عليهم أتاهم
الله تعالى بالماء وغيره مما أعده لهم من الشراب الطيب في الجنة، فالخدم بين أيديهم
متى عطشوا وقبل أن يشتد بهم العطش جاءهم الولدان المخلدون بما يشتهون،
قال تعالى (يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين)
الواقعة: 18، وقال تعالى: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا
منثورا) إلى قوله (وسقاهم ربهم شرابا ظهورا) الإنسان: 21، وقال تعالى:
(يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين) الصافات: 46.
(الإشكال الثاني): قال بعضهم كيف يكون الحوض بعد الصراط عند من
يثبت وجود صراط بمعنى الجسر المنصوب على ظهر جهنم والذي يمر عليه
الناس، ثم ينجو من الوقوع في النار جماعة من المرتدين والمنافقين الذين يذادون
عن الحوض ويمنعوا من الشرب منه، فلا يقعون في النار ويجوزون الصراط ولا
تأخذهم الكلاليب التي عليه؟!
قلنا: أولا: الجسر المنصوب غير ثابت بل غير موجود على التحقيق كما
بيناه. وثانيا: ينبغي أن يقال الصواب عند من أثبت الجسر أن الحوض قبل
الصراط لا بعده ولا يشرب منه إلا الذين سبقت لهم الحسنى، ويذاد عنه من
ذكروا في الأحاديث التي قدمناها، فالحوض قبل الصراط لا بعده، وعلى القول
الصحيح المختار نقول:
إن الحوض في أرض المحشر فيشرب منه المؤمنون عند الحساب وعند رؤيتهم

568
لصحفهم فيأتي أشخاص غيروا وبدلوا، أو خانوا وتلاعبوا، أو عصوا وفسقوا،
أو بغوا وظلموا، ليشربوا عنه فيذادون ولا يذاد عن الحوض إلا شقي، فيقول
لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحقا سحقا، فتسوق الملائكة المؤمنين إلى
الجنة زمرا زمرا دون مرور على جسر فوق جهنم أعاذنا الله تعالى منها، لقوله تعالى
في حق المؤمنين (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا
يسمعون حسيسها وهم في اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الأكبر
وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) الأنبياء: 103.
اللهم اسقنا من حوض نبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم شربة
هنيئة مريئة لا نظما بعدها أبدا يا رب العالمين.
[فائدة]: وأما ما جاء من أن لباقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
أحواض يوم القيامة فلم يثبت في القرآن الكريم كما أنه لم يثبت في حديث صحيح
الإسناد (337).
وينبغي أن نلفت نظر طالب الحق هنا إلى أننا إذا قلنا أن الكوثر هو الحوض
وأخذنا برواية صحيح مسلم المثبتة لذلك ورجحناها تبين لنا أن الله تعالى ذكر
خصيصة ومزية لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطيت له يوم القيامة
وهي الحوض وهذا يستلزم ويفيد بأن غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة
والتسليم لم يعطوا مثلها ولذلك خص هو بذكرها، ومعنى ذلك أنه لا حوض يوم
القيامة إلا حوضه وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يشربون منه أيضا ويستأنس
لذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ".



(337) ومنه يتبين لنا خطأ متناقض عصرنا!! الذي صحح حديث أحواض الأنبياء في
" صحيحته " (4 / 117) مع اعترافه هناك بأنه ليس فيها ما يصح إسناده!! ومع ذلك
صححها بتعدد طرقها!! أضف إلى هذا جهله بمعارضة ذلك لمزيته صلى الله عليه
وآله وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين بذكر كوثره في القرآن الكريم دون غيره!!
فكلامه هناك مما لا يجوز الالتفات إليه ولا التعويل عليه لبطلانه وفساده وضعف
الأسانيد فيه!!
569
الإيمان بالشفاعة:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار، ونرجو
للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن
عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم، ولا
نقنطهم).
الشرح:
لقد ثبتت الشفاعة منطوقا ومفهوما في القرآن الكريم وخاصة للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ومن تلك الآيات قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
الضحى: 3، وقال تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) الإسراء: 79،
وتفسير المقام المحمود بالشفاعة ثابت في الصحيحين وغيرهما (338).
وقال الله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي
له قولا) طه: 109.
وقال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) يونس: 3.
وفي شفاعة الملائكة قوله تعالى (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول *
وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى



(338) أنظر البخاري (3 / 338 و 8 / 399 و 13 / 422) ومسلم (1 / 179).
ومن الغريب العجيب أن يعرض المجسمة والمشبهة عن هذا الوارد الثابت في
الصحيحين ويفسروا المقام المحمود بجلوس سيدنا محمد على العرش بجنب الله!!
تعالى الله عن إفكهم وكذبهم علوا كبيرا وهم يعتمدون على ذلك على ما يروى عن
مجاهد بسند ضعيف من أنه قال ما ذكرناه من التفسير المنكر المستشنع، وتكفل الخلال
في كتابه السنة (1 / 209) بنصرة التفسير المخطئ المستبشع وقد نطق بما هو مستشنع
عند جميع العقلاء!!
570
وهم من خشيته مشفقون) الأنبياء: 28.
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (11 / 426):
" وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، ودل عليها قوله
تعالى (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي
شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى، من مات من أمتي لا
يشرك بالله شيئا " رواه الإمام مالك في الموطأ (1 / 213) والبخاري (11 / 69) ومسلم (1 / 189).
والشفاعة تكون للمسلمين فقط، فلا يشفع في كافر لقوله تعالى (فما تنفعهم
شفاعة الشافعين) المدثر: 48، فيشفع الأنبياء والملائكة وكذلك العلماء العاملون
والشهداء، فعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" شفعت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون " رواه البخاري
(13 / 421) ومسلم (1 / 170)، وعن سيدنا أنس بن مالك مرفوعا " إن الرجل ليشفع
للرجلين والثلاثة " رواه البزار (14 / 173) قال الحافظ الهيثمي في " المجمع " (10 / 382):
" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ".
وأما أحاديث الشفاعة الطويلة في الصحيحين فلم أذكرها هنا لأن فيها ألفاظا
وأمورا منكرة وقد تسرب إليها أفكار إسرائيلية سأبينها في كتاب آخر مفصلة إن
شاء الله تعالى.
[تنبيه مهم جدا]: يتخيل بعض الناس أن رب العالمين على صورة
إنسان جالس على العرش يوم القيامة، وأنه يحاسب العباد واحدا واحدا بمعنى
أنهم يمرون من أمامه واحدا واحدا فيرونه وهو جالس على كرسيه، أو نحو هذا
التصور الفاسد، وهذا ضلال مبين وكفر وإلحاد برب العالمين الذي (ليس كمثله

571
شئ وهو السميع البصير) فيجب على كل مسلم أن يزيل هذا التصور الفاسد
من قلبه وعقله ومخيلته، لأن الله سبحانه لا يدخل في التصور والخيال إطلاقا بوجه
من الوجوه ولأنه أخبر بأنه (لم يكن له كفوا أحد) بل إن الناس لا يرون الله
تعالى في أرض المحشر لأن النظر إلى الله تعالى من أكبر النعم والعطايا، ولا يعطى
هذه النعمة إلا أهل الجنة في الجنة على قول من يثبت الرؤية لله تعالى في الآخرة
وفيها خلاف بين الأمة يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
فمحاسبة الله تعالى لعباده معناها إيجادهم في ذلك اليوم للحساب حيث تعطي
الملائكة الصحف للناس وتذود بعض الناس عن الحوض، وتسوق المؤمنين إلى
الجنة والكافرين إلى النار، يكلم الله تعالى عباده المؤمنين دون أن يروه، كما جاء
في الحديث الصحيح " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه
ترجمان... " رواه البخاري (13 / 423).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يدني المؤمن (339) يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه (أي
ستره وعفوه) فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف، قال:
فإنني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة
حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا
على الله " رواه البخاري (8 / 353) ومسلم (4 / 2120).



(339) عبر النبي صلى الله عليه وسلم للتقريب والتفهيم عن تكليم الله تعالى لعبده في الآخرة سرا على مقتضى
لغة العرب وما جرى به تعبيرهم في الكلام بقوله " يدني " لأن المرء إذا أراد أن يكلم
إنسانا في العادة دون أن يطلع شخصا آخر على ذلك الكلام فإنه يدنو منه أو يدنيه،
وزاد عليه قوله فيه " حتى يضع عليه كنفه " إشارة للحرص على عدم اطلاع الناس
على ذلك كالانسان الذي يغطي غيره بردائه أو عباءته، ويضعها بينه وبين من يريد
الأسرار له في الكلام معه. والله تعالى منزه عن المكان وعن أن يكون جسما تقرب
منه الأجسام وتبتعد، فكل ذلك مجاز فلاحظ هذا ولا تغفل عنه.
572
وأما الكفار والمجرمون الطغاة فلا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم أي لا
يرحمهم، لقوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به
ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا
يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة
فما أصبر هم على النار) البقرة: 175، وقال تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله
وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) آل عمران: 77.
ولا يشترط فيمن يكلمه الله تعالى أن يكون الله عز وجل في ذلك المكان الذي
يكلمه فيه بل يستحيل ذلك لتنزه الله تعالى عن المكان كما تقدم.
ألا ترى إلى سيدنا موسى عليه السلام كليم الله تعالى لم يكن بجنب الله ولم
يكن الله جسما حالا في ذلك المكان الذي كان يواعد فيه سيدنا موسى وهو جانب
الطور الغربي، فاعتبر بذلك ولا تنسه، والله الموفق.
[فائدة أخرى مهمة جدا]: تفسير قوله تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها
ووضع. الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون،
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) الزمر: 69.
المقصود تفسيره هنا هو قوله تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها) والصواب
في تفسيره هو أن الله تعالى يخلق نورا يوم القيامة غير نور الشمس وأضافه إلى نفسه
ليؤكد لنا بأنه هو المتصرف في الدنيا والآخرة، وهذه الإضافة إضافة تشريف كما
قال الله تعالى (أن طهرا بيتي) فأضاف البيت له، وقال (ناقة الله) وهكذا،
وقد شرح هذه الآية الإمام الفخر الرازي والإمام القرطبي بما ينشرح له قلب المؤمن
الموحد و إليك ما قالا فيه فإن فيه كفاية:
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (14 / 20):
[ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال (وأشرقت الأرض بنور ربها) وفيه

573
مسائل:
(المسألة الأولى): هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد
عليها الآن بدليل قوله تعالى (يوم تبدل الأرض غير الأرض) وبدليل قوله تعالى
(وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) بل هي أرض أخرى يخلقها الله
تعالى لمحفل يوم القيامة.
(المسألة الثانية): قالت المجسمة: إن الله تعالى نور محض، فإذا حضر
الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله، وأكدوا
هذا بقوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) (340).
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه (الأول) أنا بينا في تفسير قوله
تعالى (الله نور السماوات والأرض) أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى
نورا بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام
على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل، فنحتاج ههنا إلى بيان أن
لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا
ليس إلا هذا المعنى، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل:
أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون أظلمت البلاد
بجورك، وقال صلى الله عليه وسلم " الظلم ظلمات يوم القيامة " (341) وأما بيان أن المراد من النور
ههنا العدل فقط أنه قال (وجئ بالنبيين والشهداء) ومعلوم أن المجيئ
بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل، وأيضا قال في آخر الآية (وهم لا يظلمون)
فدل هذا على أن المراد من ذلك النور إزالة ذلك الظلم، فكأنه تعالى فتح هذه



(340) ومن الكفر الشنيع الفظيع قول ابن القيم كما في " مختصر الصواعق المرسلة " (2 / 248)
أن الله تعالى ينزل إلى الأرض يوم القيامة وأن هذا مما تواترت به الأحاديث والآثار
ودل عليه القرآن صريحا!!!
فنعوذ بالله تعالى من هذا الضلال الصراح والكفر البواح!! سبحان ربك رب العزة
عما يصفون!!
(341) رواه البخاري (5 / 100)، ومسلم (4 / 1196).
574
الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم (والوجه الثاني): في الجواب عن الشبهة
المذكورة أن قوله تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها) يدل على أنه يحصل هناك
نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى، لأنه يكفي
في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه
إلى نفسه كان ذلك النور نور الله، كقوله: بيت الله، وناقة الله وهذا الجواب
أقوى من الأول، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى
المجاز] انتهى.
قلت: معنى قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) أي منورهما أو
هادي أهلهما لنور الإيمان، وهذا تفسير ابن عباس لهما وهو الصحيح وغيره باطل.
وقال الإمام الحافظ القرطبي في تفسيره (15 / 282):
[قوله تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها) إشراقها إضاءتها، يقال:
أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت، ومعنى " بنور ربها " بعدل ربها،
قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك بحكم ربها، والمعنى واحد، أي أنارت
وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل:
إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن
عباس: النور المذكور ههنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله
فيضئ به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين
يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه
على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه،
لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: " وأشرقت الأرض " على
ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير. وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز
وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات،
بل هو منور السماوات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء] انتهى.

575
قلت: فيتضح الآن أن الحديث الذي فيه أن الشمس تدنو من رؤوس
الخلائق يوم القيامة وإن كان في الصحيح فهو شاذ مردود، لأن الله تعالى أخبر
بأن الشمس تكور في قوله تعالى (إذا الشمس كورت) أي انطفأت وذهب نورها
وانتهى عملها من حين النفخة الأولى ثم لا تعود لأنه لم يخبر سبحانه بعودتها لتشرق
الأرض بها، بل أخبر بأن الأرض تشرق بنور يخلقه الله يومئذ ولو كانت الشمس
ستعود لأخبر سبحانه بذلك لا سيما والشمس قد ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن
الكريم، فحديث دنو الشمس من رؤوس العباد معارض للقرآن لا يؤخذ به،
ثم إن دنوها من رؤوس العباد مستحيل وهو نوع من العذاب وقد أخبر الله تعالى
أن المؤمنين مبعدين عن النار والعذاب (لا يحزنهم الفزع الأكبر) فالصحيح أنه
لا وجود للشمس يوم القيامة والظاهر أن الفكرة إسرائيلية، والله الموفق وهو أعلم.
فلو قال قائل: بل الشمس تكون موجودة يوم القيامة، وقد وردت أحاديث
تنص على أن هناك سبعة أقسام من الناس - المؤمنين - في ظل عرش الرحمن وهذا
يثبت وجود الشمس.
قلنا: بل هذا قول باطل من وجوه عديدة منها: أن في هذا إثبات أن
الشمس أكبر من العرش وهذا مستحيل وتكون يومئذ فوقه، فيكون هو أصغر من
الأرض التي يحشر الناس عليها حتى أن ظله يكون قد ستر جزءا من الأرض
دون جزء آخر أكبر!!
وهذا كله يخالف ما ثبت من أن العرش مخلوق عظيم أكبر من السماوات
والأرض وقد وصفه الله تعالى بقوله (رب العرش العظيم).
فيكون معنى " سبعة يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه " وفي رواية " يظلهم
الله في ظله " دون ذكر العرش، أي: يكونون في كنف الرحمن سبحانه وفي حمايته
فلا يصيبهم خوف ولا فزع ولا نحو ذلك، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم " جعل رزقي

576
تحت ظل رمحي " (342) ومثل قوله " كل امرئ في ظل صدقته.. " (343) ومثل قوله
" السلطان ظل الله في الأرض " (344) إلى غير ذلك، والله الموفق.



(342) ذكره البخاري في صحيحه (6 / 98) معلقا بلا سند.
(343) رواه أحمد (4 / 147) والحاكم (1 / 416) وصححه.
(344) رواه ابن أبي عاصم في سنته " (2 / 478).
577
الإيمان بالجنة والنار:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، وإن الله تعالى
خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا، فمن شاء منهم إلى الجنة
فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه).
الشرح:
يجب على كل مسلم أن يؤمن بوجود الجنة والنار، وأنهما داران أعدهما الله
تعالى لعباده، فالجنة مثوى المؤمنين، والنار مستقر الكافرين، وأن الناس بعد أخذ
الصحف يوم القيامة والحساب يذهب بفريق منهم إلى الجنة وهم المؤمنون، وفريق
إلى النار وهم الكفار وبعض عصاة المؤمنين، ثم يخرج بعض عصاة المؤمنين الذين
دخلوا النار فلا يبقى في النار إلا الكفار والمنافقون الذين هم كفار حقيقة، قال
الله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها
وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء
يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على المتكبرين * قيل ادخلوا أبواب
جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى الكافرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة
زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها
خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث
نشاء فنعم أجر العاملين) الزمر: 39.
وقد وردت آيات القرآن الكريم في وصف الجنة والنار وأحوال أهلهما وطعامهم
وشرابهم بما لا يخفى على كل مسلم ومؤمن.
ومما يجب اعتقاده في الجنة والنار أنهما دائمتان لا تفنيان أبدا، وكذلك من
فيهما، ويكفر من اعتقد فناءهما أو واحدة منهما، لقوله تعالى (ومن يعص الله

578
ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) الجن: 23، ولقوله تعالى (وما هم
بخارجين من النار) البقرة: 167، ولقوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار
وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) المائدة: 37.
وقال تعالى في أهل الجنة (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا)
النساء: 122.
وللأمام الحافظ السبكي رسالة في هذا الموضوع سماها " الاعتبار ببقاء الجنة
والنار " مهمة جدا، جعلنا الله تعالى من أهل الجنة الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

579
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم
موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في
مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفى عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل
في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وإن شاء عذبهم في النار
بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم
إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين
كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته).
الشرح:
قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في " شرح صحيح مسلم "
(1 / 217):
" واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن
من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي
كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك
أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يبتل
بمعصية أصلا فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا لكنهم
يردونها على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به المرور على
الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم (345) أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه. وأما
من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء



(345) قلت: تقدم في الكلام على الصراط أن اعتبار الصراط جسرا ممدودا على ظهر جهنم
غير صحيح لقوله تعالى (أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها) ولأن القرآن
ذكر أن الكفار يدخلون نار جهنم من أبوابها في قوله تعالى (حتى إذا جاءوها وفتحت
أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم) وللبحث تفصيل وقد تقدم.
580
عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله
الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل كما
أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل هذا
مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة
وجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل
العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب
وغيره فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص
الشرع " انتهى.
قلت: والدليل على خروجهم من النار بعد دخولهم فيها قوله تعالى (ثم
ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) مريم: 72، والمراد بالذين اتقوا هنا هم
الذين اتقوا الشرك، والظالمين: الكافرين جمعا بين الأدلة والله تعالى أعلم (346).



(346) وقد ذهب السادة الإباضية إلى أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار إذا ماتوا ولم يتوبوا
منها واحتجوا بقول الله تعالى (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها
أبدا) وقد فصل مذهبهم وقولهم فضيلة العلامة مفتي عمان الشيخ أحمد الخليلي في
كتابه القيم الفذ " الحق الدامغ " فليرجع إليه من شاء الاطلاع والتوسع، والصحيح
عندنا ما قررناه من مذهبنا والخلاف في هذه المسألة لا يوجب تكفيرا ولا تضليلا.
581
رؤية الله تعالى في الآخرة:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب
ربنا: (وجوة يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة). وتفسيره على ما أراده الله
تعالى وعلمه، ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم
بوهم، أو تأولها بفهم).
الشرح:
اعلم يرحمك الله تعالى أن نصوص الشريعة نصت على أن رؤية الله سبحانه
وتعالى في الدنيا لا تقع لأحد إطلاقا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " واعلموا
أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " رواه مسلم (4 / 2245).
ولأن سيدنا موسى نبي مرسل من أولي العزم طلب الرؤية ليعلم قومه أن رؤية
الله تعالى لا تجوز لانسان حينما قالوا له كما في القرآن (أرنا الله جهرة) النساء:
152 ونحوها من الآيات الدالة على أنهم طلبوا منه أن يروا الله تعالى فلم ير الله
تعالى هو فضلا عن أن يروه هم، وقال الله له (لن تراني) الأعراف: 143.
وأما سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبين أهل السنة والجماعة خلاف
في أنه هل رأى الله تعالى ليلة الإسراء أم لا؟ والراجح عندنا أنه لم يره (347).



(347) والأحاديث التي منها " نور أنى أراه " وحديث " رأيت نورا " وما شابه هذا كلها
أحاديث متعارضة فيما بينها ومضطربة رغم أن بعضها في الصحيح فلا تدل على شئ.
وقد أنكرت السيدة عائشة رضي الله عنها على من قال " إنه رأى ربه " بآيات قاطعة
عامة وقول من قال: بأن النبي خاطبها على قدر عقلها!! قول باطل مهزول لا يجوز
الالتفات إليه، وهو يتضمن قضيتين باطلتين بالإضافة إلى كونه قولا متهافتا لا دليل
عليه، الأول: الطعن في السيدة عائشة رضوان الله عليها، والثانية: دعوى أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقول الباطل ويبلغها غير الحق وحاشاه صلى الله عليه وآله
وسلم، فافهم!!
582
وأما من ادعى رؤية الله تعالى في اليقظة - كما يهذي بذلك بعض منحرفي
المتصوفة - فضال مضل، قال العلامة عبد السلام اللقاني وقد ناظم الجوهرة في
شرح منظومة والده ص (175) أن مدعي ذلك:
" ضال بإطباق المشايخ، وقد ذهب الكواشي والمهدوي إلى تكفيره ".
وأما رؤية الله في النوم فالصحيح عندنا أنها لا تصح، لأنها تعتبر رؤية في
الدنيا أولا، ولأن الله تعالى لا شكل له ولا صورة ولا هيئة وليس كمثله شئ ولم
يكن له كفوا أحد، والمعروف أن من يقول بأنه رأى ربه في النوم أن يرى رجلا
أو صورة إنسان يكلمه ويقع في قلبه أنه الله تعالى، فهذا ما يسميه بعضهم
بحجاب الصورة، والله تعالى منزه عن الصور والأشكال، فعلى التحقيق يكون
هذا الرائي لم ير الله تعالى، وما نقله بعضهم من أن الإمام أحمد رأى الله تعالى
مائة مرة وأنه قال لله تعالى في المرة الأخيرة: بما يتقرب إليك المتقربون؟ فقال له:
بكلامي يا أحمد... إلى آخر ما ذكروه فكذب محض (348)، وليس هذا من الحجج
التي يمكننا الاعتماد عليها لو صحت، والأحكام لا تثبت بالرؤيا إجماعا، وهذا
لم يتفرد به أحمد بل إن كثيرا من الناس يرون إنسانا ما في المنام فيقع في قلوبهم
أنه الله فيكلمهم ويكلمونه، ونحن نقطع بأن هذا ليس الله تبارك وتعالى الذي
ليس كمثله شئ، والحاصل أننا نقول بأن الله تعالى لا يرى في النوم البتة.
وأما في الآخرة فذهب جمهور أهل السنة إلى إثبات رؤية الله تعالى للمؤمنين
في الجنة، واحتجوا بقوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) وبقوله
تعالى عن الكافرين (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) وبحديث " إنكم
سترون ربكم كما ترون هذا البدر " وفي رواية " كما ترون الشمس في رابعة النهار



(348) ممن ذكر هذه القصة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء وهي قصة موضوعة رواها
الخلال في أماليه في المجلس الخامس بسند فيه أحمد بن محمد بن مقسم وهو كذاب
انظر لسان الميزان (1 / 260). وأوردها الذهبي في ترجمة الإمام أحمد في " السير "
(11 / 347) بسندين فيها هذا الكذاب المشهور فتنبه!!
583
ليس دونها سحاب " وهو في البخاري ومسلم.
وخالفهم في ذلك جماعة من أهل السنة والجماعة وغيرهم كالسيدة عائشة
رضي الله عنها ومجاهد وأبي صالح السمان (349) وعكرمة وغيرهم وكذا المعتزلة
والإباضية والزيدية، واحتجوا بقول الله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك
الأبصار). وأولوا الآيات التي احتج بها جمهور أهل السنة بأن المراد بالآية هو:
وجوه ناضرة مسرورة لأنها تنتظر ثواب ربها وعطاءه وجنته وإنعامه، كما أنه
هناك بالمقابل (وجوه يومئذ باسرة) عابسة (تظن أن يفعل بها فاقرة) أي
مصابة بداهية كبيرة، وهذا الكلام هو بيان ما فيما يكون في أرض المحشر وحال
المؤمنين والكافرين يومئذ، والرؤيا إنما تكون في الجنة.
قالوا: فالمقام هنا مقام مقابلة بين وجوه تنتظر الثواب ووجوه تنتظر العقاب
ورؤية الله تعالى غير مرادة هنا وخصوصا أن الكلام يتعلق بالموقف قبل الدخول
للجنة والنار وأنتم - يا جمهور أهل السنة والجماعة - تقولون بأن الرؤية إنما تتم في
الجنة لا في أرض المحشر (350)، وهذا الكلام يتعلق في أرض المحشر.
ورد هؤلاء على من قال من أهل السنة [بأن لفظ (ناظرة) لا يأتي عربية
بمعنى منتظرة] فقالوا: إن ذلك ليس صحيحا، بل قد ورد القرآن الكريم بإثبات
أن معنى ناظرة منتظرة!! من ذلك قوله تعالى عن بلقيس: (وإني مرسلة إليهم
بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) النمل: 35، أي منتظرة بم يرجع المرسلون،
وهو واضح ظاهر.
كذلك قالوا بأن المراد بقوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)



(349) كما نقل ذلك عنهما - مجاهد وأبي صالح - الحافظ ابن جرير الطبري السلفي في تفسيره
(14 / 20 / 192 - 193) بأسانيد صحيحة، والحافظ في الفتح (13 / 425) عن عكرمة.
والبخاري ومسلم عن السيدة عائشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(350) وقد نقل الاتفاق على هذا ابن العربي المالكي في العارضة " شرح الترمذي " عند حديث
الصورة.
584
أي عن ثواب ربهم وإكرامه وإنعامه، والحجاب أيضا هو عن كلامه لا عن رؤيته
لأن الله تعالى يقول وهو أصدق القائلين (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا
يزكيهم) البقرة: 174.
قال الإمام الغزالي في " المستصفى " (2 / 192):
" واحتج - أي الأشعري - في مسألة الرؤية بقوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم
يومئذ لمحجوبون) قال: وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم، وقال جماعة من
المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء ومنهم ابن شريح إن ذلك
لا دلالة له وهو الأوجه عندنا، ويدل عليه مسالك... ".
وقالوا بأن قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) لا يمكن
تأويله إلا بتأويل بعيد مستثقل، ولكن تأويل الآيات التي أوردها جمهور أهل السنة
قريب سائغ غير مستهجن.
وذكروا ما رواه البخاري (8 / 606) ومسلم (1 / 159) عن مسروق عن السيدة
عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قال مسروق:
" قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت:
" لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من
حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك
الأبصار وهو اللطيف الخبير) (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب).... ".
قالوا: لقد استدلت بعموم آيتين على نفي رؤيته صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ويبقى
العموم على عمومه عندها، وقولكم مرادها في الدنيا تحكم وقول بلا دليل ولو
كان كذلك لذكرته.
ورد نفاة الرؤية بعد ذلك الأحاديث الواردة في الرؤية واحتجوا بأنها آحاد ولا
تثبت العقائد بالآحاد وهو احتجاج مسوغ مقبول.

585
وقد ادعى بعض العلماء بأن أحاديث الرؤية متواترة والواقع أنها ليست كذلك
بعد التتبع، قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 434):
[جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت
على العشرين، وتتبعها ابن القيم في " حادي الأرواح " فبلغت الثلاثين وأكثرها
جياد، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعة عشر حديثا في
الرؤية صحاح].
قلت: ليست الأحاديث بجياد ولا صحاح، ولم يستطع أن يصرح بتواترها
كأحاديث الشفاعة والحوض، وأما ما ذكره عن الدارقطني فلم يثبت لأن الكتاب
الذي جمع الدارقطني فيه الطرق مدسوس على الدارقطني على الصحيح الراجح
ولم يثبت عنه كما بينت ذلك في رسالة خاصة صنفتها في ذلك وهي مطبوعة في
آخر كتاب " دفع شبه التشبيه " ص (289) وأسميتها " البيان الكافي "، والأحاديث
التي في ذلك الكتاب ذكرها ابن القيم وزاد عليها، وقد تتبعت ما ذكره ابن القيم
في " حادي الأرواح " (من ص 260 - 303) ونظرت في متون وأسانيد تلك الأحاديث
التي أوردها وأكثرها ضعيف أو موضوع، ولم أجد ما يصح التمسك به إلا حديث
جرير في الصحيحين وحديث أبي موسى وهو مشكل، وباقي الأحاديث مشكلة
جدا، وبعضها شاذ مردود لا يصح الاستدلال به كحديث أبي سعيد وأبي هريرة
الذي في الصحيحين والذي فيه " فيأتيهم في غير صورته التي يعرفون.. " الحديث
المعروف، وقد تكلمنا عليه وبينا شذوذه في التعليق على " دفع شبه التشبيه " ص
(157) وفي هذا الكتاب وبقية ما ذكره من الأحاديث وهو أكثرها ضعيف منكر أو
موضوع تالف.
وبالجملة فإن ما ذكره ابن القيم ينقسم إلى أربعة أقسام (الأول): أحاديث
صحيحة تنص على إثبات الرؤية ولا يستقيم منها إلا حديث واحد وهو حديث
جرير وهو آحاد. (والثاني): أحاديث في الصحيحين إما شاذة أو فيها ألفاظ
منكرة وتصرف رواة فلا يصح استدلال بها. (والثالث): أحاديث صحيحة

586
وضعيفة لا علاقة لها بالموضوع وإنما استنبط ابن القيم منها ذلك واستنباطه مخطئ
هناك. (والرابع): وهو أكثرها أحاديث ضعيفة ومنكرة وتالفة موضوعة أتى بها
ليكثر بها عدد رواة الرؤية وهي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولذلك لم يصرح الحافظ ابن حجر بتواتر الحديث مع أنه صرح بتواتر أحاديث
أخرى لم تبلغ طرقها العدد الذي بلغه عدد طرق أحاديث الرؤية، فالحديث غير
متواتر قطعا.
وحديث جرير بن عبد الله المرفوع هذا هو قوله:
" كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. قال: إنكم سترون
ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ". رواه البخاري (13 / 419) ومسلم
(1 / 439).
قال العلماء المثبتون للرؤية:
معناه: أنكم إذا رأيتم الله تعالى في الجنة فإنكم لن تشكوا في أن الذي رأيتموه
هو الله كما أنكم لا تشكون في رؤيتكم الآن لهذا القمر ليلة البدر أنه القمر.
وفي بعض الروايات في الصحيحين ذكر الشمس " هل تضارون بالشمس
ليس دونها سحاب؟ ".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه " الفتح " (11 / 447):
[قال البيهقي: سمعت الشيخ أبا الطيب الصعلوكي يقول: " تضامون "
بضم أوله وتشديد الميم، يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا ينضم بعضكم
إلى بعض (أي لا تتزاحمون في رؤيته تعالى) فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح
أوله (تضامون أي:) لا تضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد
من الضيم، معناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه في
جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، قال: والتشبيه برؤية القمر لتعين الرؤية

587
دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى] ا ه‍ وما بين القوسين () من توضيحات
وزياداتي.
ثم قال الحافظ:
[قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة:... وفي عطف الشمس على القمر
مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف، لأن القمر لا يدرك وصفه الأعمى حسا بل
تقليدا، والشمس يدركها الأعمى حسا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلا
فحسن التأكيد بها، قال: والتمثيل واقع في تحقيق الرؤية لا في الكيفية، لأن
الشمس والقمر متحيزان والحق سبحانه منزه عن ذلك].
أقول: وحديث جرير هذا لو انضم له حديث آخر أو حديثان عن غير
جرير يكون من قبيل الآحاد الذي لا يفيد القطع في هذه المسألة، فنحن إذا
رجحنا ثبوت الرؤية يوم القيامة أي في الجنة لم نقطع بها، فالمسألة ظنية ليست
من أصول العقيدة وإنما من الفروع، وفيها خلاف بين أهل السنة أنفسهم كما
تقدم، وكذا بين جمهور أهل السنة وبين من ينفيها كالمعتزلة والإباضية والزيدية
وغيرهم، وقد أخطأ من ادعى الإجماع فيها.
ولذلك نقول: إن من أثبتها على هدى كما أن من نفاها على هدى ولا
نضلله، وكل منهم اجتهد في فهم نصوص الكتاب والسنة فترجح لديه قول من
القولين، فالمسألة من فروع مسائل الاعتقاد لا من الأصول، ليس ذلك لأن فيها
اختلاف ولكن لأن الدلائل فيها ظنية وليست قطعية، وأدلة النفاة قوية لا يستهان
بها ولهم فيها سلف صالح، والله الموفق والهادي.
وقد أنشأ الزمخشري بيتين يرد بهما على القائلين بالرؤية وردوا عليه بأبيات كثيرة
ربما تزيد على مائة بيت لم يأتوا فيها بأكثر مما ذكرناه من الأدلة، ورد عليهم جميعا
في قصيدة طويلة طنانة العلامة الشيخ ناصر بن سالم الرواحي الإباضي رحمه الله
تعالى مطلعها:

588
نزه إلهك أن يرى كي تعرفه أتراك تعرفه وتثبت ذي الصفة
ثم يقول فيها:
رمزت عن تجسيمه ونصبته * غرضا لعينك من وراء البلكفه
وأحلت كيف وما وأين وشبهها * وعبدت ذاتا بالحجاب مكنفه
هذا التناقض في اعتقادك شاهد * يقضي عليك بأن دينك عجرفه
إن كنت تعقل ما تراه فهذه * ماهية محدودة متوقفه
أولست تعقله فأنت مخلط * درك ولا درك فأين المعرفة
[أنظر ديوانه ص 252].
والله الهادي.
[فائدة]: وأما قوله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى *
عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد
رأى من آيات ربه الكبرى) سورة النجم: 18 فمعناه أنه صلى الله عليه وآله وسلم
رأى سيدنا جبريل على خلقته الأصلية التي خلقه الله تعالى عليها مرة أخرى وهي
الثانية ليلة الإسراء عند سدرة المنتهى، وكان قد رآه المرة الأولى في أوائل البعثة
في مكة وقد سد الأفق وله ستمائة جناح. فالمرة الثانية كانت عند سدرة المنتهى،
ولذلك قال الله تعالى في هذه الآيات الكريمة (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)
ولم يقل رأى الله وإنما قال رأى من آيات الله وسيدنا جبريل بهذه الصورة من آيات
الله تعالى الكبرى.
روى البخاري (6 / 313) ومسلم (1 / 159) وابن جرير الطبري في تفسيره
(13 / 27 / 50) واللفظ لمسلم والطبري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت
في آية (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى):
[أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما هو جبريل.
لم أره على صورة التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء

589
سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض "].
قال الحافظ أبو حيان في " البحر المحيط " (10 / 12):
" قالت - عائشة -: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات، فقال لي:
هو جبريل عليه السلام فيها كلها.... وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في
اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن، وليست نصا في الرؤية
بالبصر بل ولا بغيره... ".
وروى البخاري (6 / 313) ومسلم (1 / 158) واللفظ له عن عبد الله بن مسعود
قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) قال: رأى جبريل عليه السلام له ستمائة
جناح.
وكذا روى مسلم (1 / 158) مثل ذلك عن أبي هريرة.
وروى البخاري (6 / 313) عن مسروق أنه قال للسيدة عائشة رضي الله عنها:
فأين قوله (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)؟! قالت: ذاك جبريل
كان يأتيه في صورة الرجل، وإنما أتى هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسد
الأفق.
فتبين من هذا كله أن هذه الآيات لا يصح الاستدلال بها في مسألة إثبات
الرؤية والله تعالى الموفق.

590
مسائل متفرقة تتعلق بالعقيدة

591
مسائل متفرقة تتعلق بالعقيدة

593
باب
في
مسائل متفرقة تتعلق بالعقيدة
الإيمان بالإسراء والمعراج
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى
السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه
ما أوحى، (ما كذب الفؤاد ما رأى) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة
والأولى).
الشرح:
إسراء النبي صلى الله عليه وسلم وعروجه إلى السماء وإلى سدرة المنتهى ثابتان بقطعي
الدلالات في الكتاب الكريم والسنة المطهرة قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى
بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
إنه هو السميع البصير) الإسراء: 1.
وقال تعالى: (ولقد ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة
المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من
آيات ربه الكبرى) النجم: 18.
هذه الآيات الكريمة تثبت لنا الإسراء والمعراج ثبوتا قطعيا وأن ذلك حصل
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بروحه وجسده معا، وقد ثبتت الأحاديث في ذلك
منها: ما رواه البخاري (7 / 201) ومسلم (1 / 149) وغيرهما عن سيدنا أنس عن مالك
بن صعصعة قال:

595
" إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثه عن ليلة أسري قال: بينما أنا في الحطيم - وربما
قال في الحجر - مضطجعا، إذ أتاني آت فقد - قال وسمعته يقول: فشق - ما
بين هذه إلى هذه. فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة
نحره إلى شعرته - وسمعته يقول من قصه إلى شعرته - فاستخرج قلبي، ثم أتيت
بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت
بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض. - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟
قال أنس: نعم - يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي
جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا قال: جبريل. قيل:
ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به،
فنعم المجيئ جاء. ففتح. فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم،
فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي
الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء. ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما
ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت، فردا، ثم قالا:
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح،
قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد
أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء. ففتح، فلما
خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم
قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة
فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء. ففتح
فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد
ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء
الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:

596
محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء.
ففتح. فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه،
فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء
السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء.
ففتح. فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه،
فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فلما تجاوزت بكى. قيل له:
ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن
يدخلها من أمتي. ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من
هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟
قال: نعم. قال: مرحبا به، فنعم المجيئ جاء. فلما خلصت فإذا إبراهيم،
قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا
بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال
هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار:
نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان
فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور. ثم
أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي
الفطرة التي أنت عليها وأمتك. ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم،
فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة
كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت
الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عني
عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم،
فرجعت فقال مثله. فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى

597
فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. قال: إن أمتك لا
تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني
إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال سألت ربي
حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال فلما جاوزت نادى مناد أمضيت
فريضتي، وخففت عن عبادي ".
وأقول بعد ذكر حديث الإسراء والمعراج هذا: إن الإسراء والمعراج ثابتان
وهما قطعيان استدلالا بالقرآن الكريم لكن هذه القصة الطويلة التي أوردناها وبهذا
التفصيل الدقيق الذي ورد في كتب الصحاح وغيرها فيها ألفاظ منكرة مردودة
يستبعد جدا أن تكون من كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخلها شئ من
الإسرائيليات!! فالنهران الظاهران والباطنان مثلا خرافة إسرائيلية لا شك في ذلك
لأن هذه القضية في هذا الحديث معارضة للقرآن الكريم الذي نص على أن الله
تعالى أخرج الأنهار والعيون من ينابيع سلكها في الأرض بعدما أمطرت السماء
عليها. قال تعالى (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض).
ثم إن العلوم الكونية تخالف أيضا ما جاء في هذا الحديث من أن منابع نهر
النيل والفرات ودجلة من أماكن معروفة ومشهورة يعرفها أدنى مطلع على الجغرافيا
والثقافة العامة التي يشترك فيها العام والخاص.
ثم إن بعد ما بين السماء السابعة والجنة وسدرة المنتهى وبين الأرض مسافة
شاسعة جدا لا يمكن أن يتصور عاقل أن منابع هذه الأنهار عند سدرة المنتهى
فوق السماء السابعة وهي تقطع هذه المسافة الطويلة فضلا عن أن ينطق بهذا سيد
البشر والعقلاء وأعلمهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالسؤال والتتبع وجدنا أن أصل هذه القصة موجود في كتب أهل الكتاب
اليهود والنصارى مما أكد لنا أن هذه القصة بهذا الشكل والتصوير الوارد في هذا
الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم فيها ما هو منحول من كتب الأمم السابقة وهم اليهود
والنصارى.

598
فهذه القصة موجودة في كتاب (إخنوخ) وهو من الأسفار القديمة عند
اليهود، ولكن الكنيسة بأقسامها الثلاث (وهي المجامع الكنيسية المتأخرة) اعتبرته
سفرا غير قانوني.
ولكن الكنيسة الحبشية لا تزال تعتبره، والثابت أن المفسرين والمسلمين
المتقدمين بما فيهم جماعة الصحابة رضوان الله عليهم اطلعوا على هذا السفر،
ولذلك ورد اسم (إخنوخ) في بعض التفاسير كتفسير القرطبي مثلا عند تفسير
قوله تعالى في حق سيدنا إدريس عليه السلام (ورفعناه مكانا عليا) وسفر
(إخنوخ) اليهودي هذا يحتوي على قصة رحلة (إخنوخ) وهو سيدنا إدريس
للسموات السبع وإعلانات الله لإخنوخ (كما يعبر)!!
وكذلك يحتوي - كما يقول - على تحذيرات إخنوخ لأبنائه!! وفي الفصل الثاني
من سفر التكوين العدد (10 و 11 و 12 و 13 و 14) ورد ذكر هذه الأنهار
الأربعة ببعض تغيير للأسماء وهي: فيحون وجيحون وحداقل والفرات. فالذي
ألف القصة حور ودور في هذه الأسماء إلى ما يناسب معلومات العرب آنذاك فينبغي
التدبر والتأمل والتفكر الدقيق في هذا الأمر!!
وهو أن بعض الإسرائيليات تسربت إلى الأحاديث بل قد صنع بعضهم من
بعضها أحاديث كاملة نسبوها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أدل على ذلك
مما اعترف به أئمة أهل الحديث وجهابذة فنونه.
وهو أن مثل حديث " خلق الله التربة يوم السبت " الوارد في صحيح مسلم
(4 / 2149 برقم 2789) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم هو في الواقع أو في الأصح كما قال الإمام البخاري شيخ مسلم
في تاريخه الكبير (1 / 413 - 414) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار
اليهودي الأصل. فانقلب بعد ذلك على الرواة فأصبح عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بدل أن يظل من كلام كعب الأحبار اليهودي الأصل.

599
ومثل ذلك كثير، وأكثر ما يتعلق بموضوع الفتن والموت وأهوال يوم القيامة
ووصف ذلك اليوم وما يحصل فيه وكذا ما يتعلق بالإسراء أو المعراج وأحاديث
الشفاعة الطويلة قد دخلتها أشياء من الإسرائيليات.
وبالمناسبة فإننا ننبه على أن كتاب (الإسراء والمعراج) الذي يباع في الأسواق
المنسوب لابن عباس ما هو إلا كذب وافتراء على سيدنا ابن عباس رضي الله
عنهما وهو من جملة الأكاذيب المدسوسة في هذه القضية، قضية الإسراء والمعراج،
فتنبهوا لذلك ولا تغفلوا عنه.
(فصل) في بعض الإشكالات المتعلقة بقصة الإسراء والمعراج (351) من ناحية
التجسيم الذي يتبناه المتمسلفون اليوم أنقله من كتابنا " تنقيح الفهوم العالية لما
ثبت وما لم يثبت من حديث الجارية " ص (59) وبالله تعالى التوفيق:
لقد استدل المجسمة المتمسلفون من حديث الإسراء على أن الله تعالى في



(351) وقع في بعض روايات حديث الإسراء والمعراج وخاصة رواية شريك بن أبي نمر ألفاظ
منكرة!! قال الحافظ ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " ص (136): " فإن قيل:
فقد أخرج في الصحيحين عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي
الله عن 5: أنه ذكر المعراج فقال فيه: (فعلا به إلى الجبار تعالى) فقال (وهو في مكانه
يا رب خفف عنا) فالجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة تفرد بها شريك،
ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ، والمكان لا يضاف إلى الله عز
وجل.... ".
وأقول: لقد نص على هذا أيضا الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 137) حيث قال
هناك: " قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب يعني صحيح البخاري حديث أشنع
ظاهرا ولا أشنع مذاقا من هذا الفصل... " وقال الحافظ هناك أيضا عن شريك:
" هو مختلف فيه فإذا تفرد عد ما ينفرد به شاذا وكذا منكرا.... " الخ ما قال ونقلته
في التعليق على " دفع الشبه " ص (137) وقد ذكر الحافظ في الفتح (13 / 485) أن شريكا
خالف الحفاظ في عشرة أشياء في هذا الحديث (يعني حديث الإسراء والمعراج)،
فينبغي التنبه لذلك والتوسع فيه بالمراجعة.
600
السماء!! ولا بد أن نزيف استدلالهم ونبطل كلامهم في ذلك فنقول:
هذا الحديث ليس فيه أي استدلال لما يريدون من كون معبودهم في السماء
أو فوق السماء!! ومن تأمل أوائل سورة الإسراء عرف ذلك وفهمه جيدا فقد افتتح
سبحانه هذه السورة الكريمة بقوله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع
البصير).
استفتح سبحانه هذه الآية الكريمة بالتسبيح فقال (سبحان الذي أسرى
بعبده) والتسبيح هو التنزيه فكأنه يشير إلى ما قد يخطر في الأذهان من أن النبي
صلى الله عليه وسلم كل ذهب لمكان فيه رب العالمين فقطع هذا الخيال ونزه نفسه عنه فقال (سبحان
الذي أسرى) أي: تنزه عن المكان.
ثم بين سبحانه أنه أسرى بعبده ليس ليراه ويقرب منه بالمكان، وإنما قال
سبحانه (لنريه من آياتنا) وقال تعالى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) وآياته
تعالى أي مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسري وعرج به ليريه
الله سبحانه ملكوت السماوات والأرض والجنة والنار وما إلى ذلك مما ذكر في
الإسراء، وليس ليذهب إلى مكان فيه رب العزة سبحانه المنزه عن الزمان
والمكان!!
فإن قيل: وكيف كلمه ورآه وفرض عليه الصلوات الخمس ألا يدل ذلك على
أنه ذهب إليه، أي إلى مكان هو فيه؟!!
قلنا: ليس كذلك!! فإنه سبحانه كما كلم سيدنا محمدا صلى الله وسلم فوق السماء
عند سدرة المنتهى فقد كلم سيدنا موسى عليه السلام في الواد المقدس طوى
بجانب الطور وذلك في أرض فلسطين، ولا يغني ذلك أن الله سبحانه كان هناك،
فكما أنه سبحانه منزه عن المكان لما خاطب سيدنا موسى بجانب الطور فهو أيضا
منزه عن المكان لما خاطب سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في السماء أو فوتها.

601
والسماء والأرض والأكوان والعوالم مخلوقة لله تعالى وهو منزه عن الحلول فيها
و (لله ما في السماوات وما في الأرض) والدليل على أن الله كلم سيدنا موسى
في الوادي مع تنزيهنا لله تعالى عن أن يكون في الوادي قوله تعالى (فلما أتاها
نودي يا موسى * إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا
اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة
لذكري) طه: 11 - 14.
فانظروا كيف خاطبه سبحانه وفرض عليه الصلاة أي - سيدنا موسى - في
الأرض!! كما خاطب سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وفرض عليه الصلاة وهو في السماء أو
فوقها!! فكما أنه منزه عن أن يكون في الأرض فهو منزه أيضا عن أن يكون في
السماء وكذا في البقعة التي خاطب سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم فيها!!
وقال تعالى أيضا (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب
الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من
النار لعلكم تصطلون * فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة
من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز
كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين).
فهذه الآية فيها قرائن كثيرة يوهم ظاهرها على أن الله تعالى كان في تلك البقعة
عندما كلم سيدنا موسى والسياق يفيد ذلك مع أننا نؤوله ولا نقول بظاهره!!
فأولا: نحن ننزه الله تعالى أن يكون نارا!! لأن سيدنا موسى رأى نارا فذهب
إليها فكلمه الحق سبحانه فهو كليم الله باتفاق!!
وثانيا: ننزه الله تعالى أن يكون بجانب الطور!! أي ننزهه أن يكون قد حل
في منطقة في الأرض.
وثالثا: ننزهه سبحانه عن أن يكون في شاطئ الواد الأيمن!! وفي البقعة
المباركة وعن أن يكون في الشجرة!!

602
ورابعا: قد يقول قائل إن قوله (أقبل ولا تخف) قرينة أيضا على أنه
سبحانه كان في ذلك المكان أو تلك البقعة أو ذلك الوادي!! ونحن نقول كل
ذلك لا يجوز على الحق سبحانه وهو منزه عنه!!
فكما أننا لا نأخذ من قصة سيدنا موسى أن الله تعالى كان في الواد المقدس
طوى وفي الشجرة باتفاق فكذلك لا نأخذ من قصة الإسراء والمعراج أن الله في
السماء أو فوقها كما تقول المجسمة!!
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى في تلك الليلة فهي محل خلاف بين العلماء،
وغالب المجسمة ينفونها ويقولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الله تعالى تلك الليلة، هذا
مع قول الله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) الشورى: 51.
وفي صحيح مسلم (1 / 161) عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت
ربك، قال: " نور أنى أراه " (352).
وفي البخاري (8 / 606) ومسلم (1 / 159) عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي
الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقف قف شعري مما قلت!!
أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد
كذب. ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب)... الخ.
وذكر بعض العلماء أن قوله صلى الله عليه وسلم " لا تفضلوني على يونس بن متى " (353) معناه:



(352) مع ملاحظة أن الله سبحانه وتعالى ليس نورا بمعنى الضوء، وإنما معنى اسمه سبحانه
النور أي الهادي كما فسره بذلك الصحابة وسيدنا ابن عباس منهم وهو ترجمان القرآن
وهذا هو الموافق للمنقول والمعقول، وفي الحديث نفي الرؤية ليلة الإسراء وعدم
ثبوتها.
(353) وأصل الحديث في صحيح البخاري (6 / 451) ومسلم (4 / 1846) بلفظ: " لا ينبغي
لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ".
603
إياكم أن تظنوا بأنني قربت من الله تعالى بالمسافة أكثر من النبي يونس الذي كان
في جوف الحوت في قعر البحر، وإلا فما مناسبة ذكر سيدنا يونس هنا؟!! مع
اعتقادنا جميعا بأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من سيدنا يونس بلا خلاف والله تعالى
يقول (تلك الرسل فضلنا بعضهم محل بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم
درجات)!! وقال تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض)!!
قال المحدث الزبيدي " في اتحاف السادة المتقين " (2 / 105):
[ذكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه
" المنتقى في شرف المصطفى " لم تكلم على الجهة وقرر نفيها، قال: ولهذا أشار
الإمام مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم " لا تفضلوني على يونس بن متى " فقال
مالك: إنما خمص يونس بالتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه
السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل
جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن
متى وأفضل ولما نهى عن ذلك " ا ه‍. أي لما نهى عن ذلك التفضيل.
وبقي أمر أخير لا بد من إيضاحه في قصة الإسراء وهو أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم
كان إذا وصل إلى سيدنا موسى في السماء السادسة كان يقول له سيدنا موسى إرجع
إلى ربك فاسأله التخفيف، فما هو معنى ذلك؟!
وأقول: معناه إن صح (354): أي ارجع إلى المكان الذي خاطبت فيه رب
العزة وكلمك عنده واسأله أن يخفف عن أمتك، فالله تعالى شاء أن يقع الكلام
بينه ولين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في بقعة ومنطقة معينة فوق السماء السادسة، كما كان
سيدنا موسى يكلم الله تعالى ويكلمه الله في منطقة معينة بجانب الطور ولم يكن
رب العالمين ثم هناك في تلك المنطقة!! إذ لا يجوز عليه المكان فتنته!!



(354) مع علمنا بأنه في الصحيحين لكنه منكر.
604
قال تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) وقال تعالى (وما أعجلك
عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى)
فظاهر هذا أن سيدنا موسى سبق قومه إلى الله بالمسافة فوصل إلى البقعة التي كان
يخاطب الله تعالى ويكلمه فيها قبل قومه وكانوا هم خلفه على أثره، لأن الله
واعدهم مرة كما كان يواعد سيدنا موسى في الجانب الأيمن من الطور وقد أخبرنا
سبحانه عن ذلك إذ قال: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوهم وواعدناكم
جانب الطور الأيمن) ومثل هذا قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم (إني ذاهب
إلى ربي سيهدين).
وبذلك يتضح لنا أن قصة الإسراء والمعراج ثابتة قطعا فيجب الإيمان بها،
وأن فيها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن تفاصيل القصة الواردة في الحديث غير قطعية،
وأنه لا دليل للمجسمة في هذه. القصة على أن الله في السماء أو فوق السماء بذاته،
والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

605
معنى الميثاق المأخوذ على العباد
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والميثاق الذي أخذه. الله تعالى من آدم وذريته حق).
الشرح:
ينبغي عند ذكر الميثاق أن نتكلم عن مسألتين تتعلقان به، (المسألة
الأولى): الميثاق الذي أخذ من مفهوم قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم
من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172 وتحقيق القول في معنى
هذا الميثاق هل هو إخراج الذرية من صلب سيدنا آدم أم إقامة الدلائل للانسان
على وجود الخالق من هذا الخلق الذي ندركه. (المسألة الثانية): الميثاق الذي
أخذه الله تعالى على المؤمنين عامة وعلى العلماء خاصة من تبيين أحكام الله تعالى
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلنشرع في بيان هاتين المسألتين وبالله تعالى
التوفيق فنقول:
[المسألة الأولى]: معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا
يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172.
قال الإمام الحافظ أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " (5 / 218):
[(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى) روي في الحديث من طرق: أخذ - الله - من ظهر آدم
ذريته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه. واختلفوا
في كيفية الاخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك

606
الحديث والكلام عليه، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه
مع لفظ الآية، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في
التأويل، وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمحشري: قال هي من
باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته
ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين
الضلالة والهدى فكأنه سبحانه (أشهدهم على أنفسهم) وقررهم وقال (ألست
بربكم) وكأنهم (قالوا بلى) أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك
وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام العرب، ونظيره قول
الله عز وجل (إنما قولنا لشئ إذا أردنا أن نقول له كن فيكون). (فقال لها
وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين). وقول الشاعر:
إذا قالت الأنساع للبطن الحقي * تقول له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى، وأن تقولوا مفعول له
أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها كراهة أن تقولوا يوم القيامة
إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل
وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه
قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقبال على التقليد والاقتداء بالآباء
كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم، (فإن قلت): بنو آدم
وذريتهم من هم، قلت: عنى ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى
حيث قالوا: (عزير ابن الله) وبذر يتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى (أو
تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت
عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله (واسألهم عن القرية) و (إذ
قالت أمة منهم) (وإذ تأذن ربك) (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) (واتل عليهم
نبأ الذي آتيناه آياتنا) انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه].

607
وهذا أيضا هو الذي اعتمده الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية
حيث ذكر ذلك في أول تفسيرها (6 / الجزء التاسع / ص. 110) وكذا في آخرها ص (118).
وكذلك ابن كثير في تفسيره. وكذلك الإمام القرطبي حيث قال في تفسيره (7 / 314)
ما نصه:
" وقوله تعالى (وإذ أخذ ربك) أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق
في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه. الآية مشكلة (355).
وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا



(355) أي مشكلة المعنى، فمعناها غير محدد بالضبط فهي من المتشابه الذي يكل علمه لله
تعالى عند القرطبي، تصديقا للحديث الصحيح الذي فيه أن سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم سمع قوما من أصحابه يتمارون في آية فقال: " إنما هلك من
كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق
بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم فكلوه إلى
عالمه " وأقر هذا اللفظ أحمد وعلي بن المديني كما في تاريخ الإسلام 17 / 280 رواه البغوي
في شرح السنة (1 / 260) وهو صحيح، وصححه الشيخ المتناقض!! في تخريجه لأحاديث
شرح الطحاوية ص (201) واستدل به ابن أبي العز في شرحه علي الطحاوية ص
(597)!! (وإنما ذكرت تصحيح واستدلال هذين للالزام!!) وهذا الحديث موافق
لقول الله تبارك وتعالى (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)
وهو من دلائل مذهب التفويض الذي يقول به جماعات من السلف والخلف، وفي
هذا كله رد على ابن تيمية الذي يقول في غير ما موضع من كتبه أن الصحابة كانوا
يعرفون جميع معاني آيات القرآن الكريم حيث لم يتركوا آية إلا فسروها!! وهذا الكلام
من مغالطاته التي يحاول فيها أن ينصر رأيه القائل ببيان المعنى وتفويض الكيف في
الصاف!! وقد بينا خطأ ذلك في ما علقناه. على " دفع شبه التشبيه " ص (95 - 96).
وقد أوهم الألباني المتناقض!! في " صحيحته " (4 / 158) حديث رقم (1623) أن حديث
أخذ الميثاق في عالم الذر صحيح مرفوعا!! والواقع ليس كذلك بل هو موقوف على
سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، وهو منقول عن الإسرائيليات، من باب (حدثوا
عن بني إسرائيل ولا حرج) والدليل على ذلك قول ابن عباس في هذا الحديث عند
ابن جرير (6 / 9 / 112): " فيرون... " أي اليهود. كما أوهم الألباني أن ابن جرير يقول
بقوله!! وكذا الحافظ ابن حجر!! وأن المسألة مجمع عليها!! (أنظر صحيحته 4 / 161).
ونحن نقول له: من ادعى الإجماع هنا فهو كاذب!! فقد ذكر ابن جرير في آخر تفسير
الآية أقوال السلف فيها وهو أيضا منهم، وقد خالفوا ما ذهب إليه ابن تيمية ومقلده
الألباني الذي يوافقه في مسائل من العقيدة ويخالفه في أخرى!! ومقصدهم من هذا الأمر
إثبات الاستدلال بالفطرة لما يريد المتمسلفون أن يغالطوا به في أبواب العقائد (أنظر
الصحيحة 4 / 160 - 163). وكيف يكون معناها مجمع عليه وقد نقل هو نفسه في صحيحته
أن ابن كثير وابن القيم في كتاب الروح يخالفانه فيما ذهب إليه؟!!
فينبغي أن نفرد رسالة خاصة في هذا الموضوع نتعقب فيها كل كلمة قالها الألباني في
صحيحته حول هذا الحديث والله الموفق.
608
عليه. فقال قوم: معنى الآية: أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من
بعض. قالوا: ومعنى (أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) دلهم بخلقه على
توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا (ألست بربكم) أي:
قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والاقرار منهم، كما قال تعالى في خلق
السماوات والأرض (قالتا أتينا طائعين)، ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل:
إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت
به ما خاطبها ". انتهى من القرطبي.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى قول ضعيف مرجوح عندنا في تفسير هذه
الآية وهو أنهم قالوا بأن الله تعالى أخرج حقيقة جميع ذرية سيدنا آدم من صلبه
(أي الأرواح) وأنه خاطبهم وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ثم أعادهم
في صلب سيدنا آدم عليه السلام.
وإنني أنقل ثلاثة أحاديث هي عمدة أدلتهم على تفسير هذه الآية الكريمة
بإخراج الذرية من صلب سيدنا آدم عليه السلام، والتي خالفوا لأجلها المعنى
الذي قررناه ونقلناه عن أهل العلم الذين تقدم ذكرهم:

609
(الحديث الأول): روى ابن جرير في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي
الله عنهما رفعه قال: " أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان " يعني عرفة " فأخرج
من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا فقال: ألست
بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا...... الآية - إلى ما فعل المبطلون ".
قلت: هذا الحديث لم يثبت رفعه بل الصواب أنه موقوف على سيدنا ابن
عباس رضي الله عنه (أي أنه كلام ابن عباس وليس هو كلام النبي صلى الله
عليه وآله وسلم) وقد صرح بذلك جماعة من الحفاظ وأهل العلم، منهم ابن كثير
في تفسيره (356)، وجزم الطبري بالقول الذي اخترناه كما تقدم.
والصواب أن هذا الحديث من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب فهذه
الأثر لا تقوم به حجة في الاستدلال لا سيما وقد تقرر في علم الأصول بأن الراجح
أن مذهب الصحابي ليس بحجة يجب الأخذ بها.
(الحديث الثاني): ما رواه البخاري (11 / 416) ومسلم (4 / 2161) عن سيدنا
أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: " يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا
يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شئ أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم.
فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي شيئا
فأبيت إلا أن تشرك بي ".
قلت: هذه اللفظة " وأنت في صلب آدم " مدرجة، وهي من زيادات
أبي عمران الجوني أحد رواته، وذلك لأن البخاري ومسلما رويا هذا الحديث من
طرق عن قتادة عن سيدنا أنس وليس فيه هذه الزيادة (أنظر البخاري 11 / 400 ومسلم
4 / 2161 وغيرهما).
(الحديث الثالث): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وممن رواه ابن
جرير في تفسيره (6 / 9 / 113) وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وإذ



(356) حيث قال ابن كثير في تفسير (2 / 272) عن روايات الموقوف: " فهذا أكثر وأثبت ".
610
أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: " أخذوا من ظهره كما يؤخذ
بالمشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى، قالت الملائكة:
شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ".
وهذا الحديث لا يصح سنده لأن في سنده أحمد بن أبي طيبة حدث بأحاديث
كثيرة أكثرها غرائب كما قال ابن عدي، وقال أبو حاتم: يكعب حديثه (357).
أنظر " تهذيب التهذيب " (1 / 39). قلت: وقد شذ في روايته لهذا الحديث عن غيره
فزاد فيه.
وقد اعتمد ما قلته فيه ابن كثير في " تفسير " (2 / 273) وقال الحافظ ابن جرير
الطبري عن هذا الحديث في " تفسيره " (8 / 6 / 118): " ولا أعلمه صحيحا ". فتأمل
جيدا!!
وبذلك يتبين ضعف ووهاء أدلة المستدلين لتفسير الآية بإخراج الذرية من
صلب سيدنا آدم المخالف لظاهر الآية وصحة ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الموضوع أيضا حديث:
" إني سألت ربي أولاد المشركين فأعطانيهم خدما لأهل الجنة، لأنهم لم يدركوا
ما أدرك آباؤهم من الشرك، ولأنهم على الميثاق الأول " (358).



(357) وهذا تضعيف من أبي حاتم لهذا الرجل. قال الذهبي في " السير " (6 / 360):
" قلت: قد علمت بالاستقراء التام أن أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل: يكتب
حديثه، أنه عنده ليس بحجة.. ".
(358) أورده الحافظ السيوطي في " الجامع الصغير " برقم (2641) وعزاه للحكيم الترمذي من
حديث سيدنا أنس!! وتعقبه المناوي في " فيض القدير " (3 / 18) فقال: " إطلاق
المصنف عزوه إليه غير سديد فإنه إنما ساقه بلفظ: " يروى عن أنس ولم يذكره له
إسنادا ".
كما أورده الحافظ السيوطي برقم (3225) وأوله " سألت ربي فأعطاني أولاد المشركين "
وقال عقبه: " رواه أبو الحسن بن ملة في أماليه عن أنس " قلت: وهو هو الأول
الموضوع لا غير. والصواب فيما أرى أن اسمه: أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن
ميله الإصبهاني. مترجم في " سير أعلام النبلاء " (18 / 297) قال الذهبي هناك:
" وأملى عدة مجالس وقع لنا منها).
611
[المسألة الثانية]: الميثاق الذي أخذ علينا في وجوب إفشاء العلم وأن
يتعلم الناس ويعلم بعضهم بعضا، وخاصة العلماء الأحكام التي أنزلها الله
تعالى على رسله وأمر الناس بتطبيقها وتنفيذها والعمل بها.
والذي يتلخص الأمر بها في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فتبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا
فبئس ما يشترون) آل عمران: 187. وفي قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب
الرحيم) البقرة: 160. وقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب
ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) البقرة: 174.
وقال ابن حبان في صحيحه (1 / 297): ذكر إيجاب العقوبة في القيامة على
الكاتم العلم الذي يحتاج إليه في أمور المسلمين: ثم روى عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كتم علما، تلجم بلجام
من نار يوم القيامة " (359).
قال الإمام القرطبي في تفسيره (7 / 312): [قوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم
ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين
يتقون أفلا تعقلون) الأعراف: 169.



(359) والحديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسند. (2 / 263) وأبو داود (2 / 321) وغيرهم.
612
وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق لازم لنا على لسان
نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في (سورة) النساء، ولا خلاف فيه
في جميع الشرائع، والحمد لله].
أقول: بث العلم وإظهاره ونشره والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ونصيحة الفساق وغير الملتزمين ووعظهم من الأمور الواجبات والقضايا المهمات التي
بها قوام الإسلام في الأرض وقوته، قال البخاري في صحيحه (1 / 194):
" وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم (360): أنظر ما كان من حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس (361) العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل
إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم. ولتفشوا العلم. ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن
العلم لا يهلك حتى يكون سرا ".
وعن سيدنا علي رضوان الله تعالى عليه: أنه ذكر فتنا تكون آخر الزمان،
فقال له عمر متى ذلك يا علي؟ قال: " إذا تفقه لغير الدين، وتعلم العلم لغير
العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة " (362).
فيجب على العلماء أن يخترعوا الطرق والأساليب لتفقيه الناس وتعليمهم
أحكام الإسلام لا سيما في هذا الزمان الذي استهتر أهله بتعلم العلوم الشرعية
وتطبيقها، وظن أكثر المتظاهرين بالإسلام أن الدين هو حضور الصلوات الخمس



(360) أبو بكر بن حزم هو أحد الأئمة الكبار من التابعين وهو من رجال الستة وهو غير ابن
حزم الظاهري فتنبه لذلك وبينهما أربعة قرون تقريبا. أنظر ترجمته في " تهذيب
التهذيب " (12 / 40) وغيره.
(361) دروس العلم: أي ضياع العلم وذهابه، وفي القاموس المحيط: " درس الرسم:
عفا، ودرسته الريح " أي أذهبت أثره ومحتة. وفي كتاب " المفردات " للإمام
الراغب: " فسر الدروس بالانمحاء).
(362) رواه الإمام عبد الرزاق في المصنف (11 / 360) والحاكم (4 / 451) وهو صحيح، وسليم
الراوي عن سيدنا عمر هو أبو الشعثاء عندنا والله تعالى أعلم.
613
جماعة في المسجد فقط مع الجهل التام بأحكام الإسلام، والكلام في الأوضاع
السياسية العالمية وما يصيب المسلمين من ويلات في مشارق الأرض ومغاربها، مع
كون هؤلاء المنشغلين بهذه الأمور جهلاء مبتعدين عن التفقه في الدين وقراءة القرآن
ودراسة الحديث النبوي الشريف محجوبين عن الله تعالى بحجاب الحزبية أو
العصبية والتعصب!! أعاذنا الله تعالى من ذلك، لذا يجب نشر العلم وبثه وتعليم
الناس، كما يجب التفكير العميق الجاد لإنشاء معاهد ومدارس وجامعات تخرج
علماء أكفاء مخلصين محتسبين، ويجب أن يدرس في هذه المعاهد والمدارس علماء
مخلصين على طريقة السلف الصالح وعلى قدم النبوة، رؤيتهم وحالهم يذكر بالله
تعالى، يبثون ويبعثون في أجيال المجتمع الإسلامي العلم والعمل والاخلاص
والجد والتشمير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الله ورسوله والتضحية
والشهامة والنجدة والنخوة والتواضع وعدم الغش وتجنب المكر والخيانة وغير ذلك
من الأمور التي بها قوام المجتمع الإسلامي السليم الصحيح المعافى من الأمراض
الخبيثة والأسقام وإلا فالأمر كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا
وأضلوا " رواه البخاري (1 / 194) ومسلم (4 / 2058) من حديث عبد الله بن عمرو.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب بث العلم لذلك، فقد خطب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال:
" ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا
ينهونهم وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون.... "
الحديث رواه الطبراني (363).



(363) وهو حديث حسن في الفضائل أورده الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " (1 / 122)
والحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 164).
614
فصل
الأولياء وكراماتهم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء، ونؤمن بما جاء من
كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم، والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن،
وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن).
الشرح:
لا شك ولا ريب أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكذلك الرسل أفضل
من الأولياء، وقد غالى بعض أهل الضلال في هذا الباب فزعموا أن الأولياء أفضل
الخلق ثم يليهم الأنبياء ثم الرسل فعكسوا الحق رأسا على عقب!! ومن اعتقد
هذا الاعتقاد كفر وارتد والعياذ بالله تعالى، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى
في " الإصابة " (1 / 430) في ترجمة سيدنا الخضر عليه الصلاة والسلام:
" وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون
الخضر (عليه السلام) نبيا لأن الزنادقة يتذرعون بكونه نبي إلى أن الولي أفضل
من النبي!! كما قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي " ا ه‍.
وأما الإيمان بأن عباد الله تعالى فيهم أولياء فهذا أمر ثابت في القرآن الكريم
يكفر من جحده وأنكره، قال الله تعالى فيهم (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة
لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) يونس: 64.

615
والصحيح عندنا في تعريف الولي هو: المسلم المؤمن الذي تعلم ما يجب
عليه معرفته من التوحيد والفقه الضروري المحافظ على أداء الفرائض ثم الزائد
عليهما من النوافل، ولا يشترط الإتيان بالنوافل كلها وإنما بقدر الاستطاعة،
المتوجه بصدق القلب والاخلاص لله تعالى في أعماله، الذي تكره نفسه المعاصي
وتحب الطاعات، الغائر على حرمات الله تعالى المهتم بأمر المسلمين، ولا يشترط
في حقه ظهور كرامة على يديه.
هذا هو التعريف الصحيح الجامع المانع في تعريف الولي عندنا.
أما قولنا (المؤمن المسلم) فهذا قيد لا بد منه فخرج بذلك الكافر والمشرك
إذ يستحيل أن يكون الواحد منهما من أولياء الله تعالى ويلتحق بهما الفاسق والمنافق
لما ورد في القرآن من ذمهما.
وأما قولنا (الذي تعلم ما يجب عليه معرفته من التوحيد والفقه الضروري)
فهذا هو أس التقوى ولا بد من تحقق هذا في الولي، وأبسط تعريف للتقوى هي:
معرفة ما أوجبه الله تعالى وفرضه مع الإتيان به ومعرفة ما نهى عنه فحرمه والانتهاء
عنه، وغير هذا خرط القتاد!! والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين:
" من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " (364) قال الحافظ ابن حجر في شرحه في الفتح (1 / 165):
" ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل
بها من الفروع فقد حرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر
ضعيف وزاد في آخره " ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به " والمعنى صحيح.



(364) روى البخاري (1 / 164) ومسلم (2 / 718)، ورواه أحمد (1 / 306) وغيره بسند صحيح من
حديث سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أحمد (2 / 34) وابن ماجة (1 / 80)
وغيرهما بسند صحيح عن أبي هريرة. وعند الطحاوي في " مشكل الآثار " (2 / 281) من
حديث ابن عمر وهو حسن.
616
لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيها ولا طالب فقه فيصح أن يوصف بأنه
ما أريد به الخير وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ولفضل التفقه
في الدين على سائر العلوم ".
وبذلك يتبين أن الولي لا يكون إلا متفقها في دينه وإلا لم يكن فيه خير،
ومن لم يكن فيه خير لم يكن وليا، على أن الإنسان المتفقه في الدين لا يعرف أنه
متفقه في دينه إلا المتفقهون والمشتغلون بالعلم أما العامة وأشباههم ومن يدعي
العلم فإنه قد يصف إنسانا بالعلم والفقه والورع والتقوى وهر ليس كذلك!!
ولذلك مشى على كثير من العامة وروج عليهم أن فلانا عالم أو ولي!! وهو ليس
كذلك والله المستعان!!
ولذلك قال بعض العلماء نظما:
وجاهل لفرض عين لم يجز إطلاق صالح عليه فاحترز
لأنه بتركه التعلما * لم ين (365) فاسقا يقول العلما
وأما قولنا (المحافظ على أداء الفرائض ثم الزائد عليها من النوافل، ولا
يشترط أن يأتي بالنوافل كلها وإنما بقدر الاستطاعة) لأن العالم الذي لا يعمل
بما علم وخاصة الفرائض لا يكون وليا ولا يعتبر مستقيما على الشريعة، ويدل عليه
قوله تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) الأحقاف: 13، فالاستقامة على أمر الشريعة أمر محتم في ذلك ولذلك قيل:
الاستقامة أعظم كرامة، وقال تعالى (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء
غدقا) الجن: 16.



(365) قال الشيخ العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي في " زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري
ومسلم " (3 / 332): " وقوله لم ين معناه لم يزل، لأنه من ونى بمعنى زال، أي يقول
العلماء، إنه لم يزل فاسقا بتركه التعلم الواجب عليه، فالصالح لا يطلق شرعا إلا
على القائم بحقوق الله وحقوق العباد، ولا يمكن ذلك بدون العلم ".
617
ولحديث البخاري (11 / 341): " وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته
عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به... ".
وقولنا (المتوجه بصدق القلب والاخلاص لله تعالى في أعماله) فلقوله تعالى
(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره. عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) البقرة: 112، وقال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا) الروم: 30، وقال
تعالى (فأقم وجهك للدين القيم) الروم: 43، وقال تعالى (فاعبد الله مخلصا له
الدين * ألا لله الدين الخالص " الزمر: 3.
وقولنا (الذي تكره نفسه المعاصي وتحب الطاعات الغائر على حرمات الله
تعالى) فلقوله تعالى (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم
الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون) الحجرات: 7.
وجاء في الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (366)
أي لا يبلغ كمال الإيمان حتى يكون كذلك.
وقولنا (المهتم بأمر المسلمين) لحديث " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس
منهم " (167) ولأن الذي لا يهتم بأمر المسلمين وأحوالهم لا يكون مهتما بدين الله
تعالى ولا لديه حرص على انتشاره في الأرض وبين الناس، فلا يدل ذلك على



(366) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 289): [ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة
" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " أخرجه الحسن بن سفيان وغيره،
ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين] ا ه‍. ومنه تعلم خطأ من اقتصر
عل تخريج الحديث وتضعيفه من رواية عبد الله بن عمرو كالمتناقض!! في تعليقه على
سنة ابن أبي عاصم ص (12) حديث رقم (15) وفي تخريج المشكاة (1 / 59 برقم 167).
(367) رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (1 / 128) والصغير (الروض الداني 2 / 131)
وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان) (2 / 222) وهو حسن خلافا لما زعم المتناقض!! في
ضعيفته برقم (312).
618
موالاته لله ومعاداته أعداء الله تعالى، فيكون مقدما حب غير الله ورسوله عليهما،
بحيث لا يظهر منه في أحواله وكلامه وأفعاله حب الله ورسوله، وكل ذلك مناف
لأن يحبه الله تعالى حتى يصبح من أوليائه، وقد جاء في الحديث الصحيح " مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه مسلم (4 / 1999) من حديث النعمان، وعن
جرير بن عبد الله البجلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم " رواه
البخاري (10 / 438)، ورواه مسلم (9 / 1809 برقم 65) من حديث أبي هريرة.
فمن لم يرحم المؤمنين ويتفقدهم بماله وجاهه وغير ذلك كتعليمه لهم وغيره مما
يقدر عليه لا يعتبر مهتما بهم فلا يستحق الولاية، والله الموفق.
ومما جاء من الأحاديث الشريفة النبوية في ذكر الأولياء: ما رواه البخاري
في " الصحيح " (11 / 341): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم:
ا إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي
عبدي بأحب مما افترضته عليه، وما يزال عبدي بتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش
بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه... "
ا لحديث (368).
وإنني أنقل جملا وعبارات من شرح الحافظ ابن حجر في " الفتح " على هذا
الحديث فأقول: قال الحافظ رحمه الله تعالى:



(368) ولشيخنا المحدث العلامة السيد عبد العزيز بن الصديق حفظه الله تعالى رسالة رد بها
على الذهبي الذي قال في " الميزان " (1 / 640) في ترجمة خالد بن مخلد القطواني " فهذا
حديث غريب جدا لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه من منكرات خالد بن مخلد "!!
واسم هذه الرسالة: " إثبات المزية بإبطال كلام الذهبي في حديث من عادى لي وليا "
فلينظرها من يشاء الاستزادة والتوسع والتحقيق في هذه المسألة.
619
[قوله (من عادى لي وليا) المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته
المخلص في عبادته... قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا
بإيمانه، ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه،
وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، ولا يتم قرب
العبد من الحق إلا ببعده من الخلق، قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام
للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء.
وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أذى الفرائض وأدام على إتيان النوافل
من صلاة وصيام وغير هما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقالى ابن هبيرة:
يؤخذ من قوله (ما تقرب) الخ أن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما
سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة،
ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب.
كما قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله
النفل عن الفرض فهو مغرور.
قوله (كنت سمعه الذي يسمع به) الخ: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن
هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته.
قوله (ولئن سألني أعطيته) وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا
وبالغوا ولم يجابوا!! والجواب: أن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور
وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب
حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها.
وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا:
القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ، وتقب ذلك
أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شئ من ذلك إلا إذا وافق
الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء، ومن عداهم فقد يخطئ، فقد كان

620
عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض
الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفى بما يقع في خاطره
عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ
منهم وقال: حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خظا فإنه لا يا من أن يكون قلبه إنما
حدثه عن الشيطان، والله المستعان] انتهى من " الفتح ".
هذا مختصر ما يتعلق بالولي وأما الكرامة فقد تقدم في الكلام عل معجزات
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن الأمر الخارق للعادة ينقسم إلى خمسة أنواع
أعظمها المعجزة التي تكون للرسول والنبي، ويليها الكرامة وهي: أمر خارق
للعادة يظهره الله تعالى على يد المؤمن التقي الصالح المنقاد لشرع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن
علامات هذا المؤمن أن تكون عقيدته صحيحة وأن يكون قد تعلم وعرف ما فرضه
الله عليه، ولذلك قال العلماء: (ما اتخذ الله وليا جاهلا ولو شاء أن يتخذه لعلمه)
فمن ظهرت على يديه الخوارق ولم يكن مستقيا شرعا بنظر العلماء في اعتقاداته
وعباداته فليس بولي، وما يظهر على يديه ليس كرامة، والعوام لا يميزون بين
الولي التقي العالم إلا بالمنظر والمظهر!! فيحسبون بعض الناس أولياء أخذا
بمظهرهم وليسوا كذلك!!
وقد نبهنا أيضا على أن قول من قال: (ما كان معجزة لنبي صح أن يكون
كرامة لولي) خطأ وليس صوابا على إطلاقه، والله الموفق.
ومن الأدلة على ثبوت الكرامة في القرآن قوله تعالى عن السيدة مريم (كلما
دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو
من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران: 37.
والسيدة مريم عليها السلام لم تكن من الأنبياء لقوله تعالى (وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) يوسف: 109.
والكرامات المنقولة عن الأمم السابقة والصحابة والأولياء كثيرة منها إجابة

621
الطفل الرضيع وعمره أيام لجريح الراهب لما سأله " من أبوك؟ " فأجاب بأنه
الراعي فبرأه الله تعالى مما رماه به بنو إسرائيل من الزنا وهو في البخاري (6 / 476)
ومسلم (4 / 1977)، والبقرة التي تكلمت فقالت لمن ركبها وضربها:
" لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحرث " وهي في البخاري (6 / 512)، والغلام
الذي كان يأتي الراهب فيتعلم منه وهو في الترمذي (5 / 437).
ومنها الكرامة الواقعة لسيدنا عمر في مخاطبته الجيش الذي كان بخراسان وهو
على المنبر بالمدينة حينما قال: " يا سارية الجبل الجبل " وهو أثر صحيح رواه عدة.
[أنظر الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر في ترجمة سارية (2 / 3)].
قال الإمام الدميري في " حياة الحيوان " (1 / 289):
" فائدة: قال شيخنا اليافعي رحمه الله: لا يلزم أن يكون من له كرامة
من الأولياء أفضل ممن ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض من ليس له كرامة
منهم أفضل من بعض من له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية صاحبها،
وكمال المعرفة بالله " ا ه‍.
وبالجملة فالمؤمنون الأتقياء الذين يؤدون ما فرض الله عليهم وينتهون عما
نهاهم الله تعالى عنه أولياء الله تعالى لقوله جل وعز: (وما لهم ألا يعذبهم الله
وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن
أكثرهم لا يعلمون) الأنفال: 34.
ولقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة
الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من
غفور رحيم) فصلت: 32.
اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم مؤمنين مسلمين غير خزايا ولا مفتونين آمين
آمين.

622
فصل
الجماعة والفرقة وأنواع الاختلاف
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا).
الشرح:
قال الإمام الراغب في المفردات: " الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد
طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين
مختلفان وليس كل مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد
يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة ".
قلت: الاختلاف منه ما هو جائز ومحمود، ومنه ما هو محرم ومذموم، وقد
جاء ذكر كل من هذين القسمين في القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة فلنذكر
بعض النصوص التي وردت في ذلك:
النصوص التي فيها تجويز الاختلاف ومدحه:
قال الله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة: 213. وقال تعالى: (ما قطعتم من
لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) الحشر: 5. وقد كان الصحابة اختلفوا
في قطع الأشجار وهدم البيوت في يهود بني النضير، فقطع قوم منهم، وترك
آخرون، قال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: إن في هذه الآية دليلا على أن كل
مجتهد مصيب. [نقله عنه القرطبي في تفسيره (18 / 8) ج‍.
وقال تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم
وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) الأنبياء: 78 - 79.

623
وكان كل منهما عليهما الصلاة والسلام كان قد خالف الآخر في حكمه فحكم بشئ
مخالف للآخر.
وفي صحيح البخاري (2 / 436) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لنا لما رجع من الأحزاب " لا يصلين أحد العصر إلا في بني
قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها،
وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
فلم يعنف واحدا منهم، وهو صلى الله عليه وسلم ولا يقر على الباطل!!
وروى البخاري (13 / 318) ومسلم (3 / 1342) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ
فله أجر ".
وفي البخاري (9 / 101) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه سمع رجلا
يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " كلاكما محسن ".
النصوص التي فيها تحريم الاختلاف وذمه:
قال الله تعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم
العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19. وقال الله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران: 105. وقال
تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله
ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) الأنعام: 159. وقال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا
من رحم ربك) هود: 119. وقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)
آل عمران: 103.
وروى البخاري (13 / 251) ومسلم (2 / 975) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم

624
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم
عن شئ فدعوه ".
ضابط الاختلاف الجائز والاختلاف المحرم:
قال الله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم
البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة وذلك دين القيامة) البينة: 4 - 5.
إذا وجد الإخلاص والصدق، وخلا القلب عن البغضاء والحسد والظلم
وحب الرياسة وإظهار التفوق والسيادة وحب قهر الغير، وكان القلب وضمير المرء
مهموما بخدمة الدين وإعلاء الحق والشفقة على المسلمين وإنصاف المظلومين وما
إلى ذلك من العناصر المضادة للبغي كان الاختلاف جايزا بشرط أن لا يخرج عن
إطار الشرع واللغة وإلا كان محرما مؤد إلى محرم أكبر ألا وهو التفرق والشحناء
والانقسام إلى شيع وأحزاب (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون *
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم حتى
حين) المؤمنون 52 - 54.
ومتى تبين للمسلمين بالعلم أو بالقرائن أن دافع المخالف اتباع الهوى أو
الترخص لشهوة النفس أو الطمع في أمر دنيوي يضاد المقصد الأسمى الذي هو
رضى الله تعالى، أو يضاد مبدأ خدمة الدين وحراسته وصيانته، أو أن المخالف
بعيد عن حب الألفة والرحمة والمحبة لعباد الله والاجتماع على طاعته ورضاه كان
خلافه مذموما وكان صاحبه خاسرا لا يجوز لانسان أن يوافقه أو يؤيده أو يسير
معه أو يناصره.
وقد يختلف اثنان فيكون كل منهم مخطئ موزور، قال الله تعالى: (ذلك
بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) البقرة:
176.

625
وقال تعالى: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى
يؤفكون) التوبة: 30.
فهذه الآيات واضحة في أن هاتين الفرقتين اختلفتا وكل منهما على ضلالة
وكفر.
وقد يختلف اثنان فيكون أحدهما مصيبا على هدى والآخر مخطئا على ضلالة،
قال الله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم
البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) البقرة: 253. فتبين من هذا
أن المختلفين في أمر قد يكون أحدهما أو أحد الفريقين على ضلالة والآخر على
هدى، ومن هذا الباب ما وقع بين بعض الصحابة وما وقع بين سيدنا علي رضوان
الله عليه ومن معه من الصحابة الكرام وبين معاوية وحزبه، وقد أجمع أهل الحق
على أن معاوية وحزبه بغاة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " عمار تقتله الفئة
الباغية، عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار " رواه البخاري (6 / 30) بهذا
اللفظ ومسلم (4 / 2235 - 2236) مختصرا وهو عند البخاري في موضع آخر في الصحيح
(1 / 541) بلفظ: " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "، وهذه المسألة مشروحة
في بابها.
وقد يختلف اثنان فيكون كل منهما على صواب وهدى - سواء كان خلافهما
خلاف تضاد أو تنوع (369) - قال الله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا
فيه من الحق بإذنه) البقرة: 213.
وتقدمت الأحاديث الصحيحة في إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم
للمختلفين في صلاة العصر وكذا في القراءة عندما قال: " كلاكما محسن ".



(369) علي رأي من يقول بأن الخلاف علي نوعين: الأول خلاف تضاد: كتحريم شئ في
نص مقابل تحليله في نص آخر، وخلاف تنوع: مثل الأخذ بأي صيغة من صيغ
التشهد الواردة عنه صلى الله عليه وسلم لأنها متنوعة في الألفاظ.
626
ما هو المطلوب الواجب عند وجود الخلاف في الرأي أو التنازع:
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن
تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك
خير وأحسن تأويلا) النساء: 59.
يجب شرعا على من رأى خلافا أن لا يعتزل الأمر وأن لا يبعد عنه، بل يجب
عليه أن يعرف قول كل من المختلفين وأن يجتهد في معرفة الحق حتى يقوله ويبدي
رأيه فيه ويقوم بالاصلاح إن كان مطلوبا شرعا، فإن كان الحق مع أحد المختلفين
وجب أن يناصره ويقف معه، وإذا كان الحق ليس معهما فيجب عليه أن يبين
لهما الحق بأي وسيلة يراها ناجحة وصوابا، ثم إن أذعنا للحق فيجب عليه أن
يصلح بينهما. والدليل على ذلك قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما) ولا يتم الصلح إلا بعد فهم القضية الدائرة بينهما ومعرفة الحق
فيها، وبعد معرفة المحق من المبطل (فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله) انظر كيف أمر المسلمين والمؤمنين أن
لا يتركوا اقتتال الفئتين الناشئ عن اختلافهم بل أمر سبحانه بمحاربة الفئة
الباغية ومناصرة المحقة منهما والوقوف معها وإرغام الباغية على الرجوع للحق وعدم
ترك هذا الأمر على الدوام إلى حين رجوع الفرقة المخطئة (فإن فاءت فأصلحوا
بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) الحجرات: 9، أمر سبحانه بإزالة
الشحناء والرضوخ للحق وحمل الجميع على التحاب فيما بينهم وعلى الألفة إذا
عادت الفئة الباغية للحق ورضخت له، وفي هذا أكبر بيان ودليل على ما قررناه،
والله الموفق.
[فائدة مهمة]: من الناس اليوم - وهم ممن لم يرزقوا الإخلاص فيما يظهر -
يجعلون الاختلاف تارة ممدوحا وتارة مذموما على حسب ما تشتهي أنفسهم وتوحيه
نزغاتهم وتتم به مقاصدهم!! فتراهم يقولون حال ابتعادهم عن العلم وأهله وحثهم
الناس على ذلك وتعصبهم لحزبهم أو لآرائهم: (أنظروا إلى فلان وفلان أو إلى

627
أولئك وأولئك كيف يختلفون ويتنازعون!!) فنراهم في مثل هذا الموضع يذكرون
الاختلاف في معرض الذم والقدح!! وتارة أخرى نراهم يقولون في بابة التلفيق
واتباع رخص العلماء المختلفين والتأويلات والشهوات والميل للدعة والتفلت من
الأحكام وعدم الانقياد للشرع مع التظاهر بالديانة إذا صادمت أهواءهم مسألة
حرمها الشرع وصادم التحريم نزغاتهم: (هذه المسألة اختلفوا فيها فيجوز أن
نفعلها)!!
فيجعلون ههنا الاختلاف في معرض المدح المحمود الذي يسهل عليهم
الوصول لرغباتهم وشهواتهم وأهوائهم!! - في ظلال الجهل والتعصب المذموم - ولولا
أنه محمود ههنا عندهم لما أخذوا منه جواز الأخذ بالأسهل عليهم!! فانظر إلى
الشيطان كيف يلعب بهذا الفريق من الناس!!

628
فصل
في بيان بطلان حديث الافتراق
وأما حديث الافتراق فهو حديث باطل لضعف إسناده ولبطلان معناه ومخالفة
ظاهره للقرآن الكريم، وأسانيده من جميع طرقه ضعيفة لا تخلوا من مقال!!
وإليكم بعض ذلك:
الحديث: " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت
النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " رواه
الإمام أحمد في المسند (2 / 332) وأبو داود في السنن في (4 / 198) وغيرهما.
وفي إسناده من حديث أبي هريرة محمد بن عمرو بن علقمة وهو ضعيف كما
بينته في " التناقضات الواضحات " (2 / 240)، وفي إسناده من حديث معاوية:
أزهر بن عبد الله الهوزني: وهو غير ثقة، قال ابن الجارود كان يسب عليا رضوان
الله عليه (370)، كما في ترجمته في " التهذيب " (1 / 179) وقال أزهر هذا: " كنت في
الخيل الذين سبوا أنس بن مالك فأتينا به الحجاج " قلت: فلعنة الله عليه آمين.
والحديث مسلسل بالنواصب.
وأما إسناد الحديث عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه فله سبعة طرق
تقريبا لا تخلو طريق منها من كذاب أو وضاع أو ضعيف أو مجهول (371)!!



(370) وهنا ينبغي أن يطبق النواصب ما قاله أبو زرعة الرازي: " إذا رأيت رجلا ينتقص
أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق "!! وما بالنا نراهم يطبقون هذه
القاعدة التي لا دليل عليها على ما انتقص بني أمية وأتباعهم وأذنابهم ولا يطبقونها على
من انتقص سيدنا عليا رضي الله عنه أو بعض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم المصطفين الأخيار؟!!
(371) وقد اعترف بذلك متناقض عصرنا في " صحيحته " (1 / 359 - 361) ومع ذلك صححه
وزعم أن ذوي الأهواء حاولوا تضعيفه والحكم عليه أو على بعض ألفاظه بالبطلان!!
مع أن حكم ذوي الأهواء هو الصواب لا ما ذهب إليه ذاك المتناقض!!
629
وأما إسناد عوف بن مالك ففيه عباد بن يوسف وهو ضعيف، قال الحافظ
في " التقريب ": " مقبول " وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وقال
ابن عدي: " روى أحاديث تفرد بها " قلت: وهذا منها [أنظر " تهذيب التهذيب "
(5 / 96)]. وهو في ديوان الضعفاء للذهبي برقم (2089) (372).
وأما إسناد حديث عبد الله بن عمرو فرواه الترمذي (5 / 26) وفي إسناده
عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو ضعيف (373).
وأما حديث أبي أمامة فرواه ابن أبي عاصم في " سنته " (1 / 34 برقم 68) وهو
ضعيف، ففي سنده قطن بن عبد الله وهو مجهول، وكذا أبو غالب وهو ضعيف،
قال أبو حاتم: " ليس بالقوي " وقال النسائي: " ضعيف " وقال ابن حبان: " لا
يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات "، وقال ابن سعد: " منكر الحديث "
[أنظر " تهذيب التهذيب) (12 / 216) وهذا قول من ضعفه و " تهذيب الكمال " (34 / 171)].
وأما حديث ابن مسعود فرواه ابن أبي عاصم في " سنته " (1 / 35) وهو موضوع
في إسناده عقيل الجعدي قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (4 / 209 فكر):
" قال البخاري: منكر الحديث،.... وقال ابن حبان: منكر الحديث، يروي



(372) قال البوصيري في " زوائد ابن ماجة " (3 / 239) عن حديثه هذا: " هذا إسناد فيه مقال،
راشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق، وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى
ابن ماجة... " ومنه تعلم أن قول المتناقض!! في " صحيحته " (3 / 480) عن إسناده
أنه " جيد " غير جيد!!
(373) ومن الغريب العجيب أن نرى الشيخ المتناقض!! يتناقض في هذا الحديث من رواية
ابن عمرو إذ نجده يذكره في " صحيح الترمذي " (2 / 334) وينص على ضعفه في
" صحيحته " (3 / 334) حيث يقول: " بل الحديث صحيح، فإن له شاهدا من
حديث عبد الله بن عمرو نحوه، أخرجه الترمذي والحاكم (1 / 129) بسند ضعيف،
كما بينته في تخريج المشكاة (171) "!!! فيا للعجب!!!
وقال في المشكاة (1 / 61) أيضا: " قلت: علته عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو
ضعيف "!!
630
عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج بما روى ولو وافق فيه
الثقات ". وله سند آخر بعده عند ابن أبي عاصم وهو سند تالف، والله الموفق.
وأما حديث سيدنا علي كرم الله وجهه فممن رواه ابن أبي عاصم في
" سنته " (2 / 467 برقم 995) وهو ضعيف جدا في إسناده ليث ابن أبي سليم وحاله
معروف، ضعيف واختلط.
هذا من ناحية إسناده أما من ناحية متنه فنقول:
نحن نقول ببطلان هذا الحديث سواء بزياداته أم بدونها، والتي منها " كلها
في النار إلا واحدة " و " كلها في الجنة إلا واحدة " فبغض النظر عن هذه الزيادات
نحن نقول بأن أصل الحديث باطل للأمور التالية:
1 - لأن الله تعالى يقول عن هذه الأمة المحمدية في كتابه العزيز (كنتم خير
أمة أخرجت للناس) آل عمران: 110، ويقول أيضا (وكذلك جعلناكم أمة
وسطا) البقرة: 143، فهذه الآيات تقرر أن هذه الأمة هي خير الأمم وأنها أوسطها
ومعنى أوسطها أفضلها وأعدلها، قال الفخر في مختار الصحاح: " والوسط من
كل شئ أعدله "، وأما هذا الحديث فيقرر أن هذه الأمة شر الأمم وأكثرها فتنة
وفسادا وافتراقا!! فاليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة ثم جاء النصارى فكانوا
شرا من ذلك وأسوأ حيث افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ثم جاءت هذه الأمة
فكانت أسوأ وأسوأ فافترقت على ثلاث وسبعين فرقة!!! والله تعالى يقول (ولا
تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم البينات) آل عمران: 105
فمعنى ذلك الحديث باطل بصريح القرآن الكريم الذي قرر بأن هذه الأمة
خير الأمم وأفضلها!!
2 - ويؤكد بطلان هذا الحديث من حيث متنه ومعناه أيضا أن كل من صنف
في الفرق كتب أسماء فرق يغاير في كتابه لما كبه الآخر ولا زالت تحدث في كل
عصر فوق جديدة بحيث أن حصرهم لها غير صحيح ولا واقعي، فمثلا كتب

631
الشيخ عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 ه‍ كتابا في الفرق وهو " الفرق بين
الفرق " ذكر فيه ثلاثا وسبعين فرقة!! وقد حدث من زمانه إلى اليوم فرق كثيرة
أخرى ربما تزيد على أضعاف تلك الفرق التي ذكرها.
وقول من قال: " إن ما استحدث من الفرق الجديدة لا تخرج في مبادئها عن
ما ذكره " غير صحيح بل باطل والواقع يرفضه ويثبت فساده والحمد لله رب
العالمين.
3 - أن متن هذا الحديث مضطرب!! ففي بعض طرقه " إلا وإن هذه الأمة
ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء " [ابن أبي عاصم 69] وفي بعضها " فواحدة
في الجنة واثنتان وسبعين في النار " [ابن أبي عاصم 63] وفي بعضها " لم ينج منها إلا
ثلاث " [ابن أبي عاصم 71] وفي بعضها " كلها في النار إلا السواد الأعظم " [ابن أبي
عاصم 68]....!!
وفي بعضها كما عند ابن حبان (15 / 125) قال: " إن اليهود افترقت على إحدى
وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى على مثل ذلك.... " (374)!!!
وقد استغل الحديث طوائف من الناس فبعضهم قال: " من أخبثها
الشيعة "!! وبعضهم قال: " شرهم الذين يقيسون الأمور بآرائهم "!! - يشير
إلى السادة الأحناف!! - وفي بعض رواياتهم التالفة: " كلهم في الجنة إلا
القدرية " وفي بعضها " إلا الزنادقة ".. وهكذا!! وكل ذلك كذب وافتراء على
صاحب الشريعة.
4 - وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث: [كلهم في النار إلا ملة
واحدة، قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال " ما أنا عليه وأصحابي "] وهي رواية
الترمذي (5 / 26) من حديث عبد الله بن عمرو وفي رواية " ما عليه الجماعة ".



(374) وارجع لتدرك الاضطراب الشديد في متن هذا الحديث إلى " مجمع الزوائد " (7 / 258
- 260).
632
قلت: وهذا باطل من القول!! أولا: من جهة الإسناد فإنه ضعيف كما
بيناه. وثانيا: أن قوله " ما عليه أنا وأصحاب " لا يصح صدوره منه صلى الله
عليه وآله وسلم لأمور أذكر واحدا منها:
وهو أن الصحابة افترقوا في عهد رابع الخلفاء الراشدين سيدنا ومولانا أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إلى ثلاث فرق، فرقة مع سيدنا
علي وهي التي على الحق بنصوص الأحاديث الكثرة المقطوع بها، وفرقه مع معاوية
وحزبه وهي الفئة الباغية بنص الحديث وإجماع من يعتد به، وفرقة اعتزلت وقد
أخطات فيما ذهبت إليه، فعبارة " ما عليه أنا وأصحابي " مع أي فرقة من هذه
الفرق تكون، ومحال أن تكون معهم جميعا وخاصة مع الفرقة الباغية التي جاء
في الحديث الصحيح بأن سيدنا عمارا " يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار)!!
(رواه البخاري (1 / 541) و (6 / 30) ومسلم].
لا سيما وقد ورد في الصحيحين أن ناسا من أصحابه صلى الله عليه وسلم يذادون عن الحوض
يوم القيامة فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أصحابي " فيقال له " إنك لا
تدري ما أحدثوا بعدك " [وهو في الصحيحين أنظر البخاري (6 / 386) و (8 / 286)]
هذا مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم " في أصحابي اثنا عشر منافقا ثمانية منهم
لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل من سم الخياط " رواه مسلم في صحيحه
(4 / 2143 برقم 9) فهل يؤمر المسلم بأن يكون على ما عليه هؤلاء؟!! وهل يصح بعد
هذا أن يقال بأن الصحابة كانوا على أمر واحد؟! وخاصة بعد أن نقل الحافظ
ابن حجر في مقدمة " الإصابة " أسماء بعض الصحابة الذين ارتدوا والعياذ بالله
تعالى!! زيادة على من ارتد وحاربهم سيدنا أبو بكر الصديق في حرب المرتدين،
ومنه يتبين بطلان هذا الزيادة التي بيناها أيضا!!
5 - أن هذا الحديث وخاصة بزيادته التي يتشبث بها المجسمة والنواصب والتي
هي " كلهم في النار إلا واحدة " (375) مخالف للأحاديث الكثيرة المتواترة في معناها



(375) والتي صححها متناقض عصرنا!! في " صحيحته " (1 / 358 برقم 204) بلفظ ". وإن
هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي
الجماعة ".
633
التي تنص على أن " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وجبت له
الجنة " ولو بعد عذاب، ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري (3 / 61): " إن الله
قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " ولفظ مسلم
(1 / 63): " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه ".
والفرق المختلفة قليل منها يكفر ببدعته وأما أكثرها كالمعتزلة وغيرهم فإنهم لا
يكفرون حتى يستحقوا دخول النار، لذلك نقل بعض الأئمة كالبيهقي وغيره
إجماع السلف والخلف على " الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم " [انظر
" مغني المحتاج (4 / 135)].
والذي أقوله أخيرا: إن هذا حديث موضوع باطل ولبني أمية اليد الطولى
في وضعه والله الهادي!!

634
فصل
في الإمامة وما يتعلق بها
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
(ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات
منهم، ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه
السيف، ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو
عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل
فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة).
الشرح:
الصلاة خلف البر والفاجر مقتبسة من ثلاثة أحاديث واهية (ضعيفة جدا)
وهي:
الحديث الأول: حديث " صلوا خلف كل بر وفاجر " رواه أبو داود (1 / 162)
وغير، ولفظ رواية أبي داود: " الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم برا كان
أو فاجرا وإن عمل الكبائر " والحديث شامي يؤيد مذهبهم!! وفيه انقطاع بين
مكحول وأبي هريرة رضي الله عنه، لذا أورده الحافظ ابن الجوزي في " العلل
المتناهية " (1 / 422) ولو أورده في كتاب " الموضوعات " لكان أقرب إلى الصواب.
وذكر الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " (2 / 27) أن أبا داود نفسه ضعف هذا
الحديث.
وقال الحافظ البيهقي في السنن (4 / 19): " قال علي [يعني الدارقطني]:
مكحول لم يسمع من أبي هريرة ومن دونه ثقات، قال الشيخ [يعني البيهقي]:

635
قد روي في الصلاة على كل بر وفاجر والصلاة على من قال لا إله إلا الله أحاديث
كلها ضعيفة غاية الضعف، وأصح ما روي في هذا الباب حديث مكحول عن
أبي هريرة وقد أخرجه أبو داود في كتاب السنن إلا أن فيه إرسالا كما ذكره الدارقطني
رحمه الله " انتهى من سنن البيهقي.
الحديث الثاني: حديث سيدنا أنس رضي الله عنه مرفوعا: " صلوا على من
قال لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله " رواه الدارقطني (2 / 56)
وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 420) وفي أسانيدها عن ابن عمر كذابون
ووضاعون كما قال الحافظ ابن الجوزي ص (424).
الحديث الثالث: حديث سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا: " صلوا
خلف كل إمام، وقاتلوا مع كل أمير " رواه الدارقطني (2 / 55)، والعقيلي في
الضعفاء (3 / 90) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 423) وقال العقيلي: " وليس
لهذا المتن إسناد يثبت ".
ورويت هذه الأحاديث بألفاظ متقاربة بنفس المعنى عن سيدنا علي وابن
مسعود وواثلة ابن الأسقع ولا يثبت شئ منها، كما حقق ذلك الحافظ ابن الجوزي
في كتابه " العلل المتناهية " والإمام الدارقطني والإمام البيهقي وغيرهم.
وهذه الأحاديث الواهية تثبت ما كان يدعو إليه بني أمية وأذنابهم كالحجاج
والنواصب من ترسيخ اعتقاد وجوب الرضوخ للطغاة وتعزيز القهر في نفوس الأمة
للظلمة والفجار وتأمين عدم الخروج عليهم بأحاديث مكذوبة يروونها عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وهو منها برئ.
وقد حاولوا أن يدعموا ذلك بإثبات صلاة مثل ابن عمر وسيدنا أنس وسيدنا
الحسن وسيدنا الحسين عليهما السلام وغيرهم خلف الحجاج ومروان بن الحكم
وأمثالهما كما ثبت بعض ذلك في البخاري وغيره، وهذا من أبطل الباطل في
الاستدلال لعدة وجوه من أهمها:

636
أولا: أن ذلك من حالات الإكراه والقهر التي لا يلتفت إليها ولا يعول
عليها.
ثانيا: أن مما يؤكد ذلك أن سيدنا الحسين مثلا وعبد الله بن الزبير وهما من
الصحابة وغيرهم ثاروا على الطغاة المتجبرين الفسقة كيزيد بن معاوية وأبيه وغيرهما
من أذيالهما كعبد الملك بن مروان والحجاج، وهذا مما يؤكد أيضا أنهم لم يكونوا
راضين بالصلاة خلف أولئك السفاكين الفجرة الطغاة ولا موالاتهم، بل كانوا
يعتقدون بأنهم بغاة تسلطوا على الرقاب والعباد والبلاد وأن من الواجب تحرير البلاد
والعباد وتخليصها منهم، لا موالاتهم والسمع والطاعة لهم والصلاة خلفهم
وعليهم! فافهم هداك الله تعالى!!!
روى الحاكم في " المستدرك " (3 / 357) أن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله
عنه قام قائما في وسط دار أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدا أبا القاسم يقول:
سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما
تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله، فلا تتعبوا أنفسكم فوالذي نفسي بيده إن معاوية
من أولئك، فما راجعه عثمان حرفا. وهو صحيح.
وما ثورة ابن الأشعث ومعه علماء وأساطين وجهابذة علماء أهل السنة والجماعة
وواقعة الجماجم منا ببعيد!! وقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة على
فلان وفلان من الناس لأجل الدين وغيره فضلا عن الفجور والنفاق كما ثبت في
الصحاح والسنن!! وصلاته على ابن أبي سلول منسوخة نهاه الله عنها كما هو
معلوم!!
وكل ذلك مما يهدم الفكرة القائلة بأن من أصل الدين: الصلاة خلف كل
بر وفاجر والجهاد مع كل أمير ولك أجرك.
ويثبت ما قلناه أيضا قول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب

637
الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعد الله
لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل
الله فلهم عذاب مهين * لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون
لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان
فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون *
إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين * كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن
الله قوي عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي
الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
ففكرة عدم الخروج على أئمة الجور ليست صحيحة، وهي مخالفة للقرآن
والسنة وعمل الصحابة وأئمة التابعين من أهل السنة والجماعة، وخلف من
بعدهم خلف غيروا وبدلوا هذه الفكرة خوفا من التنكيل والتعذيب قهرا وذلة
واستكانة (376)، وتقية من سيف وسوط بني أمية الذين بغوا وطغوا وبلغ الأمر من
حجاجهم الملعون أن يستهزئ بخادم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ويحتقره!! كما هو معروف ومشهور.



(376) وما كتبه أمثال صاحب كتاب " الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه " ما هو
إلا كلام إنشائي لا قيمة له ولا تعضده نصوص الكتاب والسنة فلا يجوز الالتفات
إليه ولا التعويل عليه لا سيما وقد صرح في كتابه ص (159) من طبعته الأولى بمقصوده
الباطل الفاسد، والذي نعتقده أن أمثال ذلك الشيخ المؤلف يقول ويكتب ما لا يعتقده
وهي مصيبة وكارثة ابتلي بها بعض من يسمونهم بعلماء ومفكري هذا العصر
الاسلاميين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!
638
قال الحافظ الذهبي في " تاريخ الإسلام " (5 / 294):
[وقال الأعمش: كتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان، يعني لما
آذاه الحجاج: إني خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا
رجلا خدم نبيهم لأكرموه.
وقال جعفر بن سليمان: ثنا علي بن زيد قال: كنت بالقصر، والحجاج
يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال [الحجاج]: يا
خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن
الأشعث، أما والذي نفسي بيده لأستاصلنك كما تستأصل الصمغة،
ولأجردنك كما يجرد الضب. قال: يقول أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك
أعني، أصم الله سمعك، فاسترجع أنس وشغل الحجاج، وخرج أنس،
فتبعناه إلى الرحبة، فقال: لولا أني ذكرت ولدي وخشيته عليهم بعدي لكلمته
بكلام لا يستحييني بعده أبدا.
وقال عبد الله بن سالم الأشعري، عن أزهر بن عبد الله قال: كنت في الخيل
الذين بيتوا أنس بن مالك، وكان فيمن يؤلب على الحجاج، وكان مع
عبد الرحمن بن الأشعث، فأتوا به الحجاج، فوسم في يده: " عتيق الحجاج "].
وأما الإمام التقي العادل المقسط فهو واجب الطاعة وإن صدرت منه
الهفوة (377) لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء: 59.
قال الحافظ ابن جرير الطبري السلفي في تفسيره (5 / 150): " يعني بذلك جل



(377) دليل قولنا (لأن صدرت منه هفوة) قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئا يكرهه
فليصبر " رواه البخاري (13 / 121) ومسلم (3 / 1477) من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما ولقول الصديق (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي
عليكم).
639
ثناؤه: فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شئ من أمر دينكم أنتم فيما بينكم أو أنتم
وولاة أمركم فاشتجرتم فيه فردوه إلى الله " ا ه‍ ففيه بيان جواز الاختلاف بين الرعية
وبين الرعاة ووجوب الاحتكام في ذلك إلى الله ورسوله.
ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: " السمع
والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية
فلا سمع ولا طاعة " رواه البخاري (13 / 121) من حديث ابن عمر وقد عقد
البخاري بابا هناك سماه: " باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ".
وأما حديث سيدنا أنس مرفوعا " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد
حبشي كان رأسه زبيبة " الذي رواه البخاري (1 / 184) فمقيد بكون هذا العبد يقود
الأمة بكتاب الله تعالى كما جاء في رواية صحيحة في صحيح مسلم (3 / 1468) عن
يحيى بن الحصين قال سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة
الوداع يقول: " إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له
وأطيعوا " قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (2 / 187) في شرح حديث أنس هذا:
" واستدل به على المنع من القيام على السلاطين وإن جاروا لأن القيام عليهم
يفضي غالبا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد
الحبشي والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش فيكون غيرهم متغلبا،
فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه. ورده ابن الجوزي بأن المراد
بالعامل هنا من يستعمله الإمام لا من يلي الإمامة العظمى، وبأن المراد بالطاعة
فيما وافق الحق انتهى ".
قلت: وما قاله ابن الجوزي هو الصواب وما قبله خطأ مضاد للدليل
الصحيح الثابت في الكتاب والسنة.
وأما حديث سيدنا عبادة الذي فيه " بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في
منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا

640
كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " الذي رواه البخاري (13 / 5) ومسلم (3 / 1470)
فليس فيه دليل على عدم الخروج إلا بكفر وذلك لأن لفظة " كفرا بواحا " التي
فيه من تصرف الرواة ومن تلاعب بني أمية بالأحاديث النبوية!! وقد رواه الثقات
بلفظ: " معصية بواحا " [أنظر صحيح ابن حبان 10 / 429] وبلفظ " ما لم يأمروك
بإثم بواحا " [أنظر مسند أحمد 5 / 321] قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13 / 8):
[قوله (وأن لا ننازع الأمر أهله) أي الملك والإمارة، زاد أحمد من طريق
عمير بن هانئ عن جنادة، وإن رأيت أن لك - أي وإن اعتقدت أن لك - في
الأمر حقا فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج
عن الطاعة "، زاد في رواية حبان أبي النضر عن جنادة عند ابن حبان وأحمد،
" وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك " وزاد في رواية الوليد بن عبادة عن أبيه " وأن
نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " (378) وسيأتي في كتاب الأحكام.
قوله (إلا أن تروا كفرا بواحا) بموحدة ومهملة، قال الخطابي: معنى قوله
بواحا يريد ظاهرا باديا من قولهم: باح بالشئ يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه
وأظهره، وأنكر ثابت في الدلائل بواحا وقال: إنما يجوز بوحا بسكون الواو وبواحا



(378) يلاحظ تضارب معافي هذه المتون فبعضها ينص على السكوت وإن " أكلوا مالك
وضربوا ظهرك " وبالتالي إقناع معتقد صحتها بأن مأكول المال ومضروب الظهر في
طاعة!! وأن ضاربه وآكل ماله واجب الطاعة!! وبعضها يقول: " وأن نقوم بالحق
حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " كما ترى يثبت تلاعب أصابع بني أمية الخفية
بالسنة النبوية الشريفة لتوطيد ملكهم والأمن من الخروج عليهم، ويجل سيد الخلق
سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينطق بهذه الأفكار المتضاربة بعدما قال " لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق " انقيادا لقول الله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله). ومحاولات الشراح في التأليف بين هذه
الروايات المتضاربة هو لعدم إدراكهم لهذا الأمر وكذا لتلاعب بني أمية بالروايات
الحديثية ووضعهم بها ما يوافق أهواءهم.
641
بضم أوله ثم همزة ممدودة، وقال الخطابي: من رواه بالراء فهو قريب من هذا
المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل البراح
البيان يقال برح الخفاء إذا ظهر، وقال النووي: هو في معظم النسخ من مسلم
بالواو وفي بعضها بالراء. قلت: ووقع عند الطبراني من رواية أحمد بن صالح عن
ابن وهب في هذا الحديث كفرا صراحا، بصاد مهملة ومضمومة ثم راء، ووقع
في رواية حبان أبي النضر المذكورة، " إلا أن يكون معصية الله بواحا " وعند أحمد
من طريق عمير بن هانئ عن جنادة " ما لم يأمروك بإثم بواحا " وفي رواية
إسماعيل بن عبيد عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبيه عن عبادة " سيلي
أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا
طاعة لمن عصى الله " وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن
عبادة رفعه " سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون
فليس لأولئك عليكم طاعة ". قوله (عندكم من الله فيه برهان) أي نص آية
أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام
فعلهم يحتمل التأويل (379)، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى
الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم
منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا
بالحق حيثما كنتم انتهى (380). وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا



(379) قد أغمض معنى التأويل هنا على كثير من الناس، والمراد به هنا هو تأويل له وجه
مقبول في الشرع ومعقول، أما من تأول لمن ضل وأضل بتأويل تضحك منه الثكالى
فهو مردود ولا حياه الله ولا بياه، ومن ذلك تأويل معاوية لحديث الصحيحين " عمار
تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " بأن الذي قتله هو سيدنا علي
لأنه أخرجه معه في جيشه فهو من التأويل الذي يستخف بصاحبه ربات الحجال!!
ولذلك ردوا عليه بأنه يلزم من قوله هذا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حمزة لأنه أخرجه
معه في معركة أحد!! فتأمل في هذا جيدا ولا تنسه!!
(380) وما نقله الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث في شرح مسلم من الإجماع
على عدم الخروج على الأئمة الفساق مع اعترافه بأن هناك خلاف في المسألة عند
السلف الصالح والعلماء بعد ذلك، فهو من الإجماع الموهوم المنقوض الباطل وهذه
المسألة أخطأ فيها خطأ واضحا ولذلك اقتصر الحافظ ابن حجر هنا عندما نقل كلامه
على القسم الصحيح منه واعتمده وترك ما أخطأ فيه.
642
يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حمل رواية الكفر
على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب
الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم
يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق
له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداوودي
قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم
وجب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء،
فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح
المنع (381) إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه] انتهى كلام الحافظ من الفتح.
وكل ذلك مما يهدم الفكرة القائلة بأن من أصل الدين: الصلاة خلف كل
بر وفاجر والجهاد مع كل أمير ولك أجرك.



(381) بل الصحيح عدم المنع، كما قال الداودي " إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم
وجب ".
643
الحب والبغض في الله تعالى
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة).
الشرح:
دليل هذه القاعدة الصحيحة قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) ومقتضى
الأخوة التحاب والتالف، وقال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب
الله هم المفلحون) المجادلة: 22.
وقال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل
ذلك فليس من الله في شئ) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقال تعالى:
(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " المرء مع من أحب " رواه البخاري
(10 / 557)، ومسلم (4 / 2034).
وقال الإمام البخاري في الصحيح (1 / 45): " والحب في الله والبغض في الله
من الإيمان ". قال الحافظ ابن حجر في شرحه في " الفتح " (1 / 47):
[قوله (والحب في الله والبغض في الله من الإيمان) هو لفظ حديث أخرجه
أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه " أفضل الأعمال الحب في

644
الله والبغض في الله ". ولفظ أبي أمامة " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع
لله فقد استكمل الإيمان ". وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي
أمامة وزاد أحمد فيه " ونصح لله " وزاد في أخرى " ويعمل لسانه في ذكر الله "
وله عن عمرو بن الجموح بلفظ " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض
لله " ولفظ البزار رفعه " أوثق عرا الإيمان الحب في الله والبغض في الله " وسيأتي
عند المصنف " آية الإيمان حب الأنصار " واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد
وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان] ا ه‍.
ومما يجب ذكره هنا مما يتعلق في الحب والبغض في الله تعالى: وجوب اعتقاد
أن الله سبحانه يحب المؤمنين ويبغض الكافرين، وفلسفة بعض منحرفي المتصوفة
(أدعياء التصوف) وغيرهم في قولهم: " إن الله تعالى يحب الكفار، ولولا أنه يحبهم
ما أرسل الرسل لهم لينقذهم من النار " قول مخالف للقرآن والسنة وهو كفر بحت
لقوله سبحانه وتعالى: (فإن الله لا يحب الكافرين) ولقوله سبحانه: (والله لا
يحب كل كفار أثيم).
وبالمناسبة فإننا نذكر هنا بعض الآيات الكريمة التي ذكر فيها بعض الأصناف
الذين ذكر الله تعالى في كتابه أنه لا يحبهم:
قال الله تعالى: (إن الله لا يحب المعتدين) وقال تعالى (إن الله لا يحب
من كان خوانا أثيما) وقال تعالى (والله لا يحب المفسدين) وقال تعالى (إنه
لا يحب المسرفين) وقال تعالى (إنه لا يحب المعتدين) وقال تعالى (إن الله لا
يحب الخائنين) وقال تعالى (إنه لا يحب المستكبرين) وقال تعالى (إن الله لا
يحب كل مختال فخور).
ذكر الآيات التي فيها من يحبهم الله تعالى:
قال تعالى (إن الله يحب المحسنين) وقال تعالى (إن الله يحب التوابين ويحب
المتطهرين) وقال تعالى (فإن الله يحب المتقين) وقال تعالى (والله يحب

645
الصابرين) وقال تعالى (والله يحب المطهرين) وقال تعالى (إن الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
ومن الخطأ الشائع الذائع بين العلماء المتأخرين في هذه الأعصار وخاصة
المتأثرين بالتصوف منهم قول بعضهم: (نحن لا نكره ولا نبغض الكافر لذاته
وإنما نبغضه لعمله) ويستدل بعضهم لذلك بقوله تعالى: (إني لعملكم من
القالين)!! فيقولون لم يقل لذواتكم وإنما قال لعملكم!!
ونقول لهم: هذا خطأ محض، وذكر الشئ لا ينفي ما عداه كما هو مقرر
في علم الأصول، وهذا التفصيل باطل بصحيح المنقول وصريح المعقول، ولم
يرد على لسان أحد من المتقدمين فيما نعلم، وخاصة أن كتب الجرح والتعديل تحوي
كلام آلاف العلماء الذين يجرحون الرجال ويبغضون المجروح في الله ويوثقون
آخرين ويحبونهم.
وإذا كان ما يقول هؤلاء حقا لبطل الحب في الله والبغض في الله!! وخاصة
أن الله تعالى يقول (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) ولم يقل يوادون أعمال من حاد الله ورسوله!! ومن ذلك يتبين فساد هذا
المذهب الذي نبهنا عليه والله الموافق.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر).
الشرح:
لا معنى لإيراد هذه المسألة هنا في كتب العقائد، وإنما مكانها في باب المسح
على الخفين في كتاب الطهارة من كتب الفقه، وفي مسائل الفقه المجمع عليها
ما هو أولى أن يورده هنا لو قبلنا طرح أمثال هذه المسألة هنا، مثل قولنا: ونرى
أن صلاة الصبح ركعتين وأن في كل ركعة ركوع واحد وسجدتين... الخ،
فتنبه!!!

646
الحج والجهاد مع أولي الأمر
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم،
إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شئ ولا ينقضهما).
الشرح:
إعلم أنه ليس من شرط مضي الحج والجهاد أن يكونا مع أولي الأمر من
المسلمين سواء برهم وفاجرهم، والله تعالى يقول (أفنجعل المسلمين كالمجرمين
مالكم كيف تحكمون)؟! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " لا تزال
طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " رواه
البخاري (13 / 293) ومسلم (3 / 1523)، وفي مسلم (3 / 1524) أيضا " لا تزال عصابة
من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ".
وهذه الروايات الصحيحة الثابتة المبينة بأن هؤلاء هم بالدرجة الأولى
المجاهدون تبطل قول من زعم بأن هذه الطائفة هي أهل الحديث!!
قلت: وفي " صحيح ابن حبان " (15 / 111) عن أبي أمامة قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت
عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ".
قلت: ولم يذكر الفقهاء في باب الحج أن من شروط صحته ومضيه أن
يكون مع أولي الأمر سواء كانوا بررة أو فجارا!! لقوله تعالى: (ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولم يشرط ذلك بأولي الأمر!!
فإذا احتج إنسان على وجوب ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمر على المسلمين رجلا

647
في الحج أو يحج هو بهم فيكون أميرهم!!
قلنا: ليس ذلك من شرطه وإنما هو من صور السفر وطلب الإمارة التي
حثت عليها الشريعة في جميع الأحوال للمسلمين وليس في الحج خاصة.
ثم الأمر كان على حسب تصور هذا القائل يومئذ على أمير واحد للمسلمين،
واليوم لهم أمراء كثر بعدد الدول الإسلامية في العالم!! فتحت راية أي أمير منهم
سيحجون؟!! وما هو الدليل على ذلك؟!!
ومسلمو الدول الغير الإسلامية كمسلمي فرنسا والنرويج وأمريكا وأشباهها
تحت راية أي أمير سيحجون؟!! برا كان أو فاجرا!! وبأي دليل يتم التعيين؟!!
لذا نرى أن هذا الذي قاله المصنف رحمه الله تعالى غير صواب فضلا عن
أن ذكره ليس مناسبا في أبواب العقائد!!
والظاهر أن الزمن الذي كانوا يعيشون فيه اضطرهم لقول ذلك تقليدا لمن
كان قبلهم ممن أثر فيهم الفكر الأموي ثم فكر جبابرة العباسيين الذين نهجوا نفس
النهج في هذه القضية!! والمكره له أحكام ولله في خلقه شؤون!!
[تكملة في بيان جهاد النفس]:
ومن أنواع الجهاد أيضا مجاهدة المؤمن لنفسه في ردعها عن المحرمات وقيامها
بأداء الأوامر الشرعيات وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة، قال تعالى (وأما من
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) وقال تعالى
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وجاء في الحديث الصحيح: " أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله،
وأفضل المهاجرين من جاهد نفسه وهواء في ذات الله " رواه أحمد (6 / 21) والترمذي
(4 / 165) والطبراني (18 / 309) والحاكم (1 / 11) وقال الحافظ الهيثمي في " المجمع "

648
(3 / 268): " رواه البزار والطبراني في الكبير باختصار ورجال البزار ثقات " (382).
وحديث جابر مرفوعا " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " رواه
الخطيب في تاريخه (13 / 523) وغيره، قال السيد الحافظ أحمد بن الصديق الغماري
في تخريج أحاديث العوارف ص (18 مخطوط):
" رواه البيهقي في الزهد، والخطيب في التاريخ من حديث جابر وضعفه
البيهقي وليس كذلك بل هو حديث حسن إن شاء الله ولي فيه جزء مفرد ".



(382) قلت: ومن الغريب العجيب أن الشيخ المتناقض!! صحح الحديث في
" صحيحته " (3 / 478) واقتصر على عزوه لابن نصر في الصلاة من حديث عبد الله بن
عمرو!! لكنه ذكره في صحيحته (2 / 81) معزوا لهم!!
649
فصل
في ذكر الصحابة رضي الله عنهم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا
نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا
نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق
وطغيان.
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله
عنه، تفضيلا له وتقديما على جميع الأئمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله
عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،
وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون، وأن العشرة الذين سماهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، نشهد لهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله الحق، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد
وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي
الله عنهم أجمعين).
الشرح:
أي ونحب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين ذكرهم هنا وغيرهم
ممن لم يسئ ويغير أحكام الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا
نفرط في حب أحد منهم إفراطا يجعلنا نخرج عن نصوص الشرع وميزان الكتاب

650
والسنة، كمن أداه حبه لسيدنا عثمان أن يطعن في سيدنا علي، أو من أداه حبه
لسيدنا علي أن يطعن في الشيخين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر أو أم المؤمنين السيدة
عائشة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فلا نتبرأ من أحد من هؤلاء السادة القادة
وأمثالهم كالزبير وطلحة رضي الله عنهما اللذين قاتلا سيدنا علي لأنهما تابا ورجعا
فرضي الله عنهما وأرضاهما وكذا نحب باقي العشرة، فنحن نبغض من يبغضهم
وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحب جميع الصحابة دين وإيمان
وإحسان، وبغض جميع الصحابة كفر لأن الله أثنى على جمهورهم، وبغض بعض
الصحابة نفاق وطغيان وخاصة بغض سيدنا علي رضوان الله عليه لقوله صلى الله
عليه وآله وسلم له " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) وكذا من النفاق
بغض السيدة فاطمة والحسن والحسين وآل البيت وقد وقع في جناية بغضهم معاوية
وأصحابه وآله بني أمية (383) إلا نفرا يسيرا منهم كعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.



(383) وممن سار على درب بني أمية وناصب سيدنا عليا والسيدة فاطمة وآل البيت الأطهار
وطعن فيهم ابن تيمية الحراني وأصحابه النواصب، وقد وقع أكثر ذلك من ابن تيمية
في كتابه الذي يزعم أنه " منهاج السنة " وفي الرسالة الخاصة التي صنفناها في هذا
الموضوع تجدون بإذن الله تعالى بيان ذكر المواضع التي وقع بها هذا الناصبي!!
وأما كتاب " العواصم من القواصم " لابن العربي المالكي فقد اجتزأ منه الناصبي
المشهور محب الدين الخطيب قسما يتعلق بالكلام على بعض الصحابة بأمر من سادته
وقام بالتعليق عليه بعبارات نقلها من منهاج سنة الشيخ الحراني!! وهي تعليقات
ممجوجة مكشوفة هزيلة لا تصمد أمام البحث العلمي!!
ومن المعلوم المعروف أن العواصم والتعليقات التي عليه حوت كثيرا من المغالطات
والأوهام المصادمة للحقائق العلمية الثابتة في كتب الأحاديث والسنة النبوية بالأسانيد
الصحيحة القوية حتى أن اتباع الشيخ الحراني ومقلديه أنكروا كثيرا مما هو مدون في
العواصم وحواشي الخطيب الناصبي عليه كما تجد بعض ذلك في صحيحة متناقض
عصرنا!! (1 / 770 - 772) وغيرها!!
وكذلك كتاب " تطهير الجنان واللسان " للهيتمي بناه على أحاديث موضوعة ومهزولة
ولم يتعرض لذكر الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تعارضها ولم يستوعب في كتابه
ذلك، بحيث لا يصح لعاقل أن يتمسك بما فيه كما لا يجوز له أن يعول عليه!!
ولنا إن شاء الله تعالى مستقبلا تعليقات على الكتابين المذكورين!! والله الموفق.
651
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولا لأبي بكر الصديق
رضي الله عنه، ثم لسيدنا عمر، ثم لسيدنا عثمان، ثم لسيدنا علي رضي الله
عنهم أجمعين.
وذهب قوم من أهل السنة والجماعة إلى أن إثبات خلافة سيدنا أبي بكر وأوليتها
يدل على تفضيله وتقديمه رضي الله تعالى عنه على جميع الأمة، وذهب قوم منهم
إلى أن السيدة فاطمة أفضل الناس بعد رسول الله صلى عليه وسلم ومنهم سيدنا عمر بن
الخطاب، وذهب قوم إلى أن جعفر الطيار أفضل ومنهم أبو هريرة، وذهب جماعة
كثيرون من الصحابة والسلف والخلف إلى أن سيدنا علي أفضل وهكذا فالمسألة
خلافية بين الصحابة وبالتالي بين الأمة كما مر في مقدمة هذا الشرح في (فصل
اختلاف السلف في مسائل الاعتقاد)، ومن ذهب إلى تقديم سيدنا أبي بكر قال:
إن الأفضلية بعد ذلك لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم اختلفوا بعد
ذلك فبعضهم ذهب إلى أن الأفضل سيدنا عثمان رضي الله عنه ثم سيدنا علي بن
أبي طالب رضي الله عنه، وقسم كبير من السلف عكس فقدم سيدنا علي على
سيدنا عثمان رضي الله عن الجميع، ثم قالوا بأفضلية باقي العشرة المبشرين بالجنة
الذين ذكر المصنف رحمه الله تعالى أسمائهم هنا في المتن، وكل هذا يدل على أن
هذه المسألة ليست من العقائد وإنما هي مسألة اجتهادية من مسائل الفروع هذا
هو التحقيق.
هذا واعلم أن لنا رسالة خاصة في هذا الموضوع تعرضنا فيها لهذه المواضيع
بالتفصيل الدقيق وإلى بني أمية وما يتعلق بهم، وذكرنا فيها مسألة عدالة الصحابة
رضي الله تعالى عنهم وأنهم عدول ثقات إلا نفرا يسيرا استثنته نصوص الكتاب
والسنة ونص عليهم كثير من علماء الأمة وأكابر الأئمة المحدثين من أهل السنة
والجماعة وكذا تعرضنا فيها لمسألة التفضيل بما لا تجده في كتاب مجموعا محققا
ومغربلا، فنسأل الله تعالى التوفيق والهداية لما يحبه ويرضاه.

652
فصل
في وجوب محبة آل البيت وتوقيرهم وموالاتهم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطاهرات
من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق).
الشرح:
تقدم الكلام فيما يتعلق بالصحابة الكرام رضي الله عنهم وهنا نقول:
محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فريضة عقائدية من الله
تعالى على كل مسلم ومؤمن، والدليل عليها من القرآن قوله تعالى (قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى) (384) الشورى: 23. والدليل على تفضيل الله لهم
قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
الأحزاب: 33.
وثبت في صحيح مسلم (4 / 1873 برقم 2408) وغيره عن سيدنا زيد بن أرقم رضي
الله عنه قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة،
فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال:
" أما بعد: ألا أيها الناس: فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب،



(384) وقد زعم النواصب أعداء النبي وآل بيته الأطهار أن المراد بلفظ (القربى) هو الطاعة
التي هي بمعنى (القربة) ليحرفوا الناس عن فهم القرآن باللغة التي أنزله الله تعالى
به بقصد صرف الناس عن محبة آل البيت!! فلا تغفل عن هذا!!
653
وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله
واستمسكوا به ".
فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:
" وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم
الله في أهل بيتي ".
ورواه الترمذي (5 / 663 برقم 3788) بسند صحيح بلفظ:
" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من
الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن
يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (385).
والمراد بالأخذ بآل البيت والتمسك بهم هو محبتهم والمحافظة على حرمتهم
والتأدب معهم والاهتداء بهديهم وسيرتهم والعمل برواياتهم والاعتماد على رأيهم
ومقالتهم واجتهادهم وتقديمهم في ذلك على غيرهم.
والمراد بهم بعد وفاة أهل الكساء ذريتهم من أهل العلم والمجتهدون الأتقياء
الورعين منهم، العارفون المطلعون على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم الواقفون
على طريقته منهم، بهذا يكونون مقابل كتاب الله سبحانه كما جاء في الأحاديث
الصحيحة.
ولا يفيد هذا عدم احترام غير العالم منهم ما دام غير خارج عن أحكام الشريعة



(385) وأما حديث " تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي "
الذي يردده الناس فيما بينهم ويقوله الخطباء على المنابر فحديث موضوع مكذوب وضعه
الأمويون وأتباعهم ليصرفوا الناس عن هذا الحديث الصحيح في العترة، فانتبه لذلك
جدا!! وقد ذكرت جميع طرقه وبينت ما في أسانيده من الكذابين والوضاعين في آخر
كتابي " صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ص (289) فارجع إليه
إن شئت التوسع.
654
وأوامر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد جاء في البخاري (7 / 78)
عن أبي بكر الصديق رضوان الله تعالى عليه أنه قال: " ارقبوا محمدا صلى الله
عليه وآله وسلم في أهل بيته ".
وأهل البيت هم سيدنا علي والسيدة فاطمة وسيدنا الحسن وسيدنا الحسين
عليهم السلام وذريتهم من بعدهم ومن تناسل منهم للحديث الصحيح الذي نص
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه على ذلك، ففي الحديث الصحيح:
[نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) في بيت أم سلمة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا
فجللهم بكساء وعلى خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال:
" اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ".
قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال:
" أنت على مكانك وأنت إلى خير ".
هذا لفظ الترمذي (5 / 663 برقم 3787) من حديث عمرو بن أبي سلمة، وهو
في " صحيح مسلم " (4 / 1883 برقم 2424) من حديث السيدة عائشة (386).
قال البخاري في صحيحه (7 / 77):
[باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فاطمة سيدة نساء أهل
الجنة " (387)].



(386) ورواه من حديث أم سلمة: أحمد في " المسند " (6 / 292 و 298 و 304) والطبراني
(3 / 54)، ومن حديث سعد بن أبي وقاص: الحاكم (3 / 147)، ومن حديث صفية:
الحاكم (3 / 148) ومن حديث واثلة: ابن حبان (15 / 433) والطبراني في " الكبير "
(22 / 66) والحاكم (3 / 147) والبيهقي في " السنن " (2 / 152) وغيرهم.
(387) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري موصولا في الصحيح (6 / 628) في المناقب باب رقم (25)، وقال الحافظ في الفتح (7 / 105): [وعند الحاكم من حديث حذيفة بسند
جيد " أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك وقال: إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة "].
655
وفي البخاري (7 / 78) أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " ارقبوا
محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته ".
وتواتر الخبر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن " الحسن
والحسين عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة " (388).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم:
" والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار " رواه
الحاكم (3 / 150) بسند صحيح. وكذا ابن حبان في صحيحه (15 / 435) بسند حسن.
وقد نص على محبة العترة جمهور أهل السنة والجماعة لكنها بقيت مسألة نظرية
لم يطبقها كثيرون فهي مفقودة حقيقة في أرض الواقع وهذا مما يؤسف له جد
الأسف.
وقد حاول النواصب وهم المبغضون لسيدنا علي رضوان الله عليه ولذريته -
وهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأطهار - أن يصرفوا الناس عن محبة
آل البيت التي هي قربة من القرب فوضعوا أحاديث في ذلك وبنوا عليها أقوالا
فاسدة منها:
أنهم وضعوا حديث: " آل محمد كل تقي " وحديث " أنا جد كل تقي " ونحو
هذه الأحاديث التي هي كذب من موضوعات أعداء أهل البيت النبوي.
ومن الباطل قول أحد النواصب المبتدعة (389) أثناء كلام له في هذا الموضوع:



(388) ممن رواه: أحمد في المسند (5 / 391) والترمذي (5 / 656) وقال: حسن صحيح، وانظر
فيض القدير (3 / 414 - 415).
(389) في ما يسميه!! " صحيحته " (4 / 359) الطبعة الثالثة 1406 ه‍.
656
" وأهل بيته في الأصل هم نساؤه صلى الله عليه وسلم وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن
جميعا (390)، كما هو صريح قوله تعالى في الأحزاب: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها (يا نساء النبي لستن
كأحد من النساء إن اتقيتن...) وتخصيص الشيعة (أهل البيت) في الآية بعلي وفاطمة
والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصارا
لأهوائهم كما هو مشروح في موضعه (391)، وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة
الآية، ودخول علي وأهله فيها، كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره، وكذلك حديث " العترة "
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود أهل بيته صلى الله عليه وسلم بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله ".
قلت: اقترف هذا الناصبي عدة كذبات أو مغالطات!!:
الأولى: أنه كذب على ابن كثير وحرف كلامه وأخذ منه ما يوافق هواه مما
يتوهم منه من لم يرجع إلى كلامه أنه قال كذلك!!



(390) يريد هذا المبتدع هنا أن يصرف الناس عن اعتقاد أن أهل البيت هم على وجه
الخصوص أصحاب الكساء سيدنا علي والسيدة فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام
فادعى أن أهل البيت هنا أزواجه صلى الله عليه وسلم!! وكان هذا المبتدع يحترم أزواجه صلى الله عليه وسلم!! وقد
حاول أن يظهر هنا أنه يحترمهن رضوان الله تعالى عليهن مع أنه يصفهن في صحيحته
(4 / 531) بأن الزنا يجوز عليهن وأنهن غير محفوظات ولا معصومات منه كبرت كلمة
تخرج من فمه!! فعل الناس أن يسألوه ما فائدة إثارة هذا الموضوع الباطل الفاسد
بعد خمسة عشر قرنا من وفاتهن رضوان الله تعالى عليهن؟!
ولذلك رد عليه بعض من كان قد صحبه ورافقه أكثر من 25 عاما في كتاب مستقل
أسماه " نوال المنى في بيان عصمة أزواج الأنبياء وأمهات المؤمنين من الزنا " وكانت
هذه المسألة سببا للفراق بينهما!! فاعتبروا يا ذوي الأبصار؟!
(391) وهذا من تلبيساته وتمحله في رد السنة الثابتة في تفسيره لأهل البيت، وهو بهذا أراد
أن يلبس على القارئ بأن من قال إن أهل البيت هم أهل الكساء أنهم هم الشيعة!!
والحق أن من قال ذلك جميع أهل السنة والجماعة وقبلهم الذي لا ينطق عن الهوى
صلى الله عليه وآله وسلم!! ولكن هذا هو النصب الذي يفضي بصاحبه إلى ما
ترى!! كما شرحنا هذا في موضعه!!
657
والثانية: أنه رد ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة التي نص فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أن آله هم على وجه الخصوص سيدنا علي والسيدة فاطمة والحسن
والحسين!!
ثالثا: أنه رد بذلك كلام الصحابة الذين بينوا أن آله صلى الله عليه وسلم هم عترته وذريته
ومنهم هؤلاء الأربع وقدم على كلامهم قول ابن كثير الذي حرفه أيضا!!
ورابعا: رد إجماع الأمة واتفاقها على أن آل البيت هم ذرية سادتنا علي
والحسن والحسين ودخول آل جعفر وآل عقيل وآل العباس وغيرهم من نسل قرابته
الأدنون معهم.
أما كذبه على ابن كثير: فقد صور هذا المبتدع الناصبي أن ابن كثير يقول
أن الأصل في الآل هم الأزواج كما جاء في سياق آية التطهير وأن دخول أصحاب
الكساء من باب التوسع في معنى الآية!! والصواب أن ابن كثير قال عكس
هذا!! فقد اعتبر أن أصحاب الكساء هم الأصل واعتبر هذه الآية نص في دخول
الأزواج في الآل!! فمن التوسع في معنى الآية هو إدخال الأزواج فيها!! لا
العكس كما زعم هذا المبتدع!! حيث قال ابن كثير في تفسيره (3 / 491) هناك ما
نصه:
" وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول
هذه الآية... وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر فإنه قد وردت
أحاديث تدل على أن المراد أعلم من ذلك... ".
ثم قال ابن كثير ص (494) إن الإمام مسلما روى في صحيحه (4 / 1874) عن
يزيد بن حيان أنه قال لسيدنا زيد بن أرقم رضي الله عنه:
" من أهل بيته، نساؤه؟ قال لا، وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر
من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين
حرموا الصدقة بعده ".

658
ثم قال ابن كثير:
" ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله
تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فإن
سياق الكلام معهن ".
فتأملوا جيدا أيها الناس كيف اعتبر الصحابة والعلماء أنه هل يدخل أزواج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل البيت وآله صلى الله عليه وسلم وأقربائه أم لا ثم بينوا أن
هذه الآية تجعلهم ممن يدخلون في عموم الآية!! ومحاولة دعوى أن آله هم أزواجه
فقد دعوى فاشلة قديمة ردها سيدنا زيد بن أرقم وغيره وتبناها بنو أمية وأذيالهم
النواصب الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن محبة آل البيت والتعلق بهم وموالاتهم
فلا تغفلوا عن هذا!!
ثم قد بين الله تعالى في كتابه الكريم أن ذرية الرجل هم آله بالدرجة الأولى
ثم بعد ذلك نساؤه، قال تعالى (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم) آل عمران: 61. فذكر الأبناء قبل النساء على عادة العرب في لغتهم التي
نزل بها القرآن الكريم في تقديم الأهم فالأهم والأقرب فالأقرب!!
وقال تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما
ألتناهم من عملهم من شئ " الطور: 21.
وأما في السنة النبوية فقد صحت أحاديث كثيرة جدا منها ما هو صريح في
قوله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي
أهل بيتي ".
وهو حديث صحيح وقد تقدم، ولما خرجت السيدة عائشة على سيدنا علي
رضوان الله تعالى عليهما كان الحق مع سيدنا علي لا معها باتفاق لأدلة كثيرة جدا
ولقوله تعالى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقد تابت
وندمت ورجعت، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فرضي الله عنها وأرضاها.

659
وفي البخاري (7 / 78) أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ابنته السيدة فاطمة في مرضه الأخير
فقالت وهي تخبر عن ذلك:
" سارني فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت ثم سارني
فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت ".
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في " الفتح " (7 / 78) في شرح باب " مناقب قرابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسمائهم عليهم السلام فقال:
" وقوله (قرابة النبي صلى الله عليه وسلم) يريد بذلك من ينسب إلى جده الأقرب وهو
عبد المطلب ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، أو من رآه من ذكر وأنثى، وهم علي
وأولاده والحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم من فاطمة عليها السلام، وجعفر
وأولاده عبد الله وعون ومحمد، ويقال إنه كان لجعفر رضي الله عنه ابن اسمه
أحمد، وعقيل بن أبي طالب وولده مسلم بن عقيل، وحمزة بن عبد المطلب وأولاده
يعلى وعمارة وأمامه، والعباس بن عبد المطلب وأولاده الذكور عشرة وهم: الفضل
وعبد الله وقثم وعبيد الله والحارث ومعبد وعبد الرحمن وكثير وعون وتمام.... كان
له من الإناث أم حبيب وآمنة وصفية وأكثرهم من لبابة أم الفضل، ومعتب بن
أبي لهب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب وكان زوج آمنة بنت العباس،
وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وأخته ضباعة وكانت زوج المقداد بن الأسود،
وأبو سفيان (392) ابن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، ونوفل بن الحارث بن
عبد المطلب وابناه المغيرة والحارث،.... وأميمة وأروى وعاتكة وصفية بنت
عبد المطلب ".
فهؤلاء كلهم آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهل البيت وأزواجه
معهم، لكن خلاصتهم ولبهم أصحاب الكساء عليهم السلام والرضوان.
وجاء في صحيح مسلم (4 / 1873) كما تقدم أن سيدنا زيد لما سئل عن أهل



(392) وهذا ليس أبو سفيان المشهور والله معاوية الأموي.
660
البيت فقيل له:
" ومن أهل البيت؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته.
ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال - السائل - ومن هم؟ قال: هم
آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس ".
فتأمل!!!!
وقد نص علماء أهل السنة والجماعة على وجوب محبة آل البيت وأكدوا عليها
إلا أن بعضهم جعل ذلك أمرا نظريا ولم يطبقوه عمليا في أرض الواقع للأسف
الشديد متابعة منهم للنواصب أعداء آل البيت النبوي الشريف!! حتى صنف
بعض أهل العلم كتابا بهذا المعنى سماه " أهل البيت النبوي طائفة ممدوحة بالألسن
والأقلام مبغوضة في المعاملات والأحكام "، فينبغي لنا أن لا نقع بما وقع به أولئك
ويجب علينا أن نغرس حب آل بيت نبينا في قلوبنا وقلوب أهلنا وأزواجنا وذرياتنا،
وللموضوع بيان وتفصيل كبير في كتاب آخر والله تعالى يهدي إلى الحق وإلى سواء
السبيل، والحمد لله رب العالمين.
قال الإمام المحدث الدميري في " حياة الحيوان " (1 / 191):
" قال نصر الله بن يحيي: وكان من الثقات ومن أهل السنة: رأيت علي بن
أبي طالب رضي الله تعالى عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين! تفتحون
مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! ثم يتم على ولدك الحسين
ما تم فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال:
اسمعها منه. ثم انتبهت فبادرت إلى حيص بيص (وهو ابن الصيفي) فذكرت
له الرؤيا فشهق وبكى وحلف بالله لم تخرج من فمه ولا خطه إلى أحد وما نظمها
إلا في ليلته ثم أنشدني قوله:
ملكنا فكان العفو منا سجية * فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتموا قتل الأسارى وطالما * غدونا على الأسرى فنعفوا ونصفح

661
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا * وكل إناء بالذي فيه ينضح (393) "
وقد أبدع سيدنا الإمام الجهبذ أبو بكر بن شهاب رضوان الله تعالى عليه حيث
يقول في قصيدة يخاطب بها سيدنا عليا كرم الله وجهه ورضي عنه:
ألا يا أمير المؤمنين وسيد المنيبين إن جن الدجا وتعكرا
عليك سلام الله يا من بهديه * تبلجت الأنوار والحق أسفرا
وتبا لقوم خالفوك وزخرفوا * لأشياعهم زورا من القول منكرا
وتبا لمن والاهم وارتضاهم * أئمته في الدين يا بئس بشر ما اشترى
لئن ظفروا من هذه الدار بالذي * أرادوا فإن المرء يحصد ما ذرا
وبعدك جاءت ذات ودقين يا أبا * تراب وجاءت بعد أم حبوكرا
دماء بنيك الغر طلت وبدلت * حفيظة قرباهم عقوقا مكفرا
لقد عم كرب الدين في كربلاء إذ * بتربتها أمسى الحسين معفرا
على حين قرب العهد بالوحي أصبحت مواثيق طه فيه محلولة العرا
ومن دونه العباس خر مجندلا * فيا لأخ والى فأودى فاعذرا
لتذبدع إن نالوا الشهادة بل لهم * بيحيى وعيسى أسوة بالذي جرى
ولادكار ذاك اليوم فليبك كل ذي * فؤاد به خط السعادة سطرا
فكم ماجد من آل بيت محمد * تحكم فيهم نابذو الدين بالعرا
ومن ليس إلا قينة أو حظية * قصاراه أو عودا وخمرا وميسرا



(393) قال الإمام الدميري بعد ذلك: " واسم الحيص بيص: سعد بن محمدا أبو الفوارس
التميمي، شاعر مشهور. ويعرف بابن الصيفي ولقب بالحيص بيص لأنه رأى
الناس يوما في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي
عليه هذا اللقب. ومعنى الكلمتين الشدة والاختلاط، وتفقه على مذهب الإمام
الشافعي وغلب عليه الأدب ونظم الشعر، وكان مجيدا فيه، وكان إذا سئل عن عمره
يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة!! لأنه كان لا يحفظ مولده، وتوفي سنة أربع
وسبعين وخمسمائة ". وقد ذكره الذهبي في " السير " (21 / 61) والإمام السبكي في
" الطبقات " (7 / 91) وغيرهما.
662
ضغائن في سود الكلاب أمية * أكنت بها من بدر الغدر مضمرا
مواليد سوء حاربوا الله عنوة * وفي الأرض عاثوا مفسدين تجبرا
على ظالمي آل الرسول وهم هم * لعاين ما لبى الحجيج وكبرا
وصب عليهم ربهم سوط نقمة * وجرعهم طين الخبال وتبرأ
ألا يا ذوي المختار إنا عصابة * نمت إليكم بالولادة والقرابة
نوالي مواليكم ونقلي عدوكم * ونجتث عرق النصب ممن به اجترى
ويا ليتنا في يوم صفين والذي * يليه شهدنا كي نفوز ونظفرا
ونشرب بالكاس الذي تشربونه * فإما وإما أو نموت فنعذرا
بني المصطفى طبتم وطاب ثناؤكم * رثاء ومدحا بالبديع محبرا
وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه في قصيدة أخرى طنانة:
قال لي بعض مدعي العلم ممن * أضرم الحمق بين جنبيه نارا
هل ترفضت قلت لم أدر ما الرفض (394) لديكم حقيقة واعتبارا
فرفيع مقام قومي وسام * أن يجاروا السفيه والمهذارا
غير أن الضرورة اقتضت الايضاح فالصمت يوهم الإقرارا
فاستمع ما أقوله ثم قل ما * شيئت بعد اعتذارا أو إنكارا
إن لي من تمسكي بكتاب الله * ما أتقي به الأخطارا
ولما صح من حديث أبي * القاسم أنقاد راضيا مختارا
لا أعاني التأويل فيها اتباعا * للهوى أو تعصبا أو ضرارا (395)



(394) التعليقات على هذه الأبيات هي للسيد العلامة محمد بن عقيل الحسيني الحضرمي رحمه
الله تعالى. قال: الرفض يطلق في الاصطلاح على من رفض أبا بكر وعمر رضي
الله عنهما وسبهما وتبرأ مهما وقد ولع أخابث النواصب وسفهاؤهم بإطلاقه على كل موال
لأهل البيت معاد لأعدائهم.
(395) قد صرح أكابر العلويين بأن طريقة العلويين الحضريين هي الاعتصام بالكتاب
والسنة.
663
مذهبي مذهب الوصي أبي السبطين فالحق دائر حيث دارا (396)
أعلم الصحب للمدينة باب * كم به الله أرغم الكفارا (397)
وتمسكت بالشهيدين إني * سائر في عقيدتي حيث سارا (398)
أشرف العالمين، أما وجدا * أطيب الناس عنصرا ونجارا
والمثنى وابن الحسين علي * من به كل مقتد لن يضارا (399)
وعلى الباقر اعتمادي وزيد في سبيلي فلست أخشى العثارا (400)
حصنوا العلم إذ بنو عبد شمس * خبط عشواء يخبطون سكارى (401)



(396) أي أنه يوالي من والى ويعادي من عادى ويقتفيه في مسائل الأسماء والأحكام فيعدل
من عدل ويفسق من فسق.
(397) إشارة لحديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وقد تكلم بعضهم في هذا الحديث وقد
حكم الحافظ السيوطي بصحته والحافظ العلائي بحسنه وله طرق متعددة وما قيل من
أن ابن معين كذبه يخالفه ما ذكره الحافظ عنه في ترجمة أبي الصلت في تهذيب التهذيب.
[قال حسن: والحديث صححه ابن معين كما في " تاريخ بغداد " 11 / 49، والحافظ
ابن جرير الطبري في " تهذيب الآثار " في مسند سيدنا علي ص (104) حديث رقم
(8) حيث قال:
" وهذا خبر صحيح سنده... "، وحسنه الحافظ العلائي في " النقد الصحيح "
والحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة، والحافظ ابن حجر كما في " اللآلي المصنوعة "
(1 / 334) والحاكم في المستدرك والسيوطي وغيرهم وهو حديث صحيح بلا شك ولا
ريب].
(398) أراد بهما الحسن والحسين عليهما السلام، شهيد المواضي والشهيد المسمم.
(399) هما الإمامان الحسن بن الحسن السبط عليه السلام توفي سنة 97 وعلي بن الحسين
السبط زين العابدين عليه السلام توفي سنة 94 مسموما سمه الوليد بن عبد الملك.
(400) هما محمد الباقر ابن الحسين عليه السلام توفي سنة 114 وأخوه زيد بن علي عليه السلام
قتل يوم عاشوراء أول سنة 122.
(401) يريد أن الإمام علي عليه السلام ومن بعده من ذريه حصنوا العلم فلم يذلوه بالتملق
للمستبدين واللين للمستاثرين ولكنهم قاتلوا على الشورى والتسوية والعدل هم
وأعقابهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
664
غيروا بدلو طغوا وتعامى * حاملو العلم خيفة واضطرارا (402)
ألف شهر تمتعوا ثم حقت * نقمة الله فاستحقوا الدمارا (403)
إلى أن يقول فيها عن ذرية سيدنا علي كرم الله وجهه:



(402) كتغييرهم أساس الحكومة الإسلامية فنقلوها من الشورى إلى الاستبداد ومن الخلافة
إلى الملك، وتغييرهم أحكام الإسلام في الشؤون المالية فجعلوا بيت المال ملكا لهم
يتصرفون فيه كما شاؤوا بعد أن كان ملكا للأمة، واستولوا على أرض الخراج كلها
وتملكوها بعد أن كانت وقفا على المسلمين، حتى صار نصفها اقطاعات بأيديهم في
مشارق الأرض ومغاربها كما قاله عمر بن عبد العزيز، وكاستيلائهم على الأخماس
فاحتجنوها دون ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وكتبديلهم بعض أحكام
الحج والصلاة فكانوا يصلون الجمعة قبل الغروب، وكتركهم الجهر بالتكبير ونظائر
ذلك مما يطول شرحه، وطغوا على خيار الأمة قتلا وتطريدا وذلك مصداق حديث
حذيفة " لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم ويرث دنياكم شراركم "
[رواه أحمد (5 / 389) وابن ماجة (2 / 1342) والترمذي (4 / 496) وحسنه]. وهم
بنو أمية وأتباعهم وحديث " ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل
حقها " [رواه الطبراني في الأوسط كما في " المجمع " (1 / 157) وقال: وفيه موسى بن
عبيدة وهو ضعيف].
(403) يشير بهذا إلى الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك قال قام رجل إلى الحسن بن
علي عليه السلام فقال يا مسود وجوه المسلمين: فقال الحسن لا تؤنبني رحمك الله
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت
(إنا أعطيناك الكوثر) ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر
ليلة القدر خير من ألف شهر) تملكها بنو أمية فحسبنا ذلك فإذا هو لا يزيد ولا
ينقص، وقد جهد الذهبي أن يطعن في هذا الحديث فوجد أن طرقه الثلاثة صحيحة
فقال ما أدري آفته من أين؟ والصواب إن شاء الله أن المصاب بالآفة التي هي موالاة
الجبابرة من بني أمية هو الذهبي نفسه وأما الحديث فصحيح لا آفة به وكيف لا وشاهده
الصحيح الذي صححه الذهبي نفسه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني رأيت في منامي كان بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري
كما تنزو القردة " قال فما رؤى النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى توفي.
665
وبنيه الأئمة العلويين * الأولى حولوا العتيم نهارا
سالكي المنهج الذي لم تجد فيه انعطافا ولست تلقى ازورارا
إلى قوله:
هؤلاء الأعلام أشرف بيت * في الورى بيتهم وأعلا منارا (404)
أيها الغمر هل سؤالك إياي * لجهل أم خفة واغترارا
إننا أيها المغفل نقفو * هؤلاء الأئمة الأطهارا
ولنا الشافعي خير إمام * إن وجدنا في النقل عنهم غبارا
إن يطوفوا نطف ونستلم الركن ونرمي كما رموها الجمار
أعلم الناس بالكتاب وبالسنة حيث الهدى هناك استنارا
بالذي صح عنهم الأخذ أحرى * فاقرء الكتب وافحص الأخبارا
إن تقل ما به يدينون رفض * فهو ديني عقيدة وائتمارا
أو تقل أخطؤا المحجة فاذهب * خاسئا لا تعد إلا حمارا
أعلى الحق تجتري أم عليهم * كيف تسري سرى النسور الحبارى
عن أبيهم أتى الهدى ثم عنهم * يتلقى ويودع الأسفارا
فهو في دورهم وفيهم عريق * ولدى غيرهم يرى مستعارا
ما من الشام جاء أو أرض * طوس أو سمرقند أو أتي من بخارى
ديننا حب أهل بيت رسول الله حبا يكفر الأوزارا
وكذا حب صاحبيه الضجيعين * العليين عنده مقدارا
بهما رب فتنة أخمد الله أزاغت لهولها الأبصارا



(404) لأنهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفاه بذلك فضلا مع ما لهم من جليل الفضائل
والمناقب، والمكارم التي لا يحصيها قلم كاتب ولا حاسب، وحسبك أنه يوجد فيهم
إلى اليوم من لم ينقطع العلم والصلاح في سلسلة نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه منقبة
قل أن توجد لأحد على بسيط الأرض وإلى مثل ذلك أشار الإمام عبد الرحمن بن
مصطفى العبدروس بقوله:
عالم صالح أبي ثم جدي * هكذا هكذا إلى المختار.
666
ولعثمان نعرف الفضل لما * جاد بالفضل حين نال اليسارا
والأولى بشروا بأن لهم في * جنة الخلد مستقرا ودارا
ونحب المهاجرين وأصحاب * النبي الخيار والأنصارا
ضاعف الله أجرهم وعليهم * صيب العفو والرضا مدرارا
وأحل الجميع في جنه الخلد وأجرى من تحتها الأنهارا
هذه السنة التي أمر الله بها الناس صبية وكبارا
ونهاهم عن التولي لمن * نافق أو جد في الفساد وجارا
ما تريدون بعد. إنا شرحنا * ما الصدور انطوت عليه مرارا
هل تسوموننا انتقاص علي * فنغيط المهيمن القهارا
أو على ابنيه نجتري وسخيف * من يعيب الشموس والأقمارا
أم تريدون أن نحب ابن هند * وعن النص مثلكم نتوارى
لم تجد مؤمنا كما أخبر الله محبا من حارب الجبارا
وحديث النبي أقوى عرى * الإيمان في الله بغضنا الأشرارا
فهو باغ ولا كرامة للباغي * ومن النار الشرار استطارا
حارب المرتضى وسمم سبط المصطفى بئس ما ارتضاه قرارا
يقتل الصالحين صبرا كحجر * يأكل الفيئ يلعن الكرارا
وتمادى يعيث فيهم فسادا * وعلوا في الأرض واستكبارا
خاض لج الضلال عشرين عاما * ثم ولى يزيده الخمارا
وتقولون باجتهاد مثاب * يا لهذا معرة وشنارا
لو يكون الذي زعمتم صوابا * لارعوى بعد قتله عمارا
هل ترى عالم الخفيات يرضى * ما صنعتم ويقبل الأعذارا
ومن المخجل احتجاج أناس * بأحاديث تشبه الأسمارا
ساقهم نصبهم إليها افتراها * ورواها من يعبد الدينارا
ولهم كم مقلد رام ربحا * لم يزده التقليد إلا خسارا
أين ربح الذي يرى القار * مسكا يقتنى أو يرى النحاس نضارا

667
ربنا افتح بين الجميع بحق * وارفع الخلف بيننا والشجارا
واهدنا أقوم السبيل ولا * تحمل علينا إصرا ولا إصرارا
وارفع الضنك عن عبادك والبأساء * وارحم وأرخص الأسعارا
وصلاة على نبيك طه * أعظم الرسل رتبة وفخارا
وعلى العترة الكرام أمان * الأرض من أن تميد أو تنهارا
وعلى الصحب من لنصر رسول الله ساموا النفيس والأعمارا
وعلى التابعين ما غرد * القمري أو ناوح الحمام الهزارا
والحمد لله رب العالمين.

668
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير
والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو
على غير السبيل).
الشرح:
ينبغي لكل مؤمن أن يذكر أهل الحق من المسلمين بكل جميل سواء كانوا من
السلف أو من الخلف، فأهل العلم واجب احترامهم وتعظيمهم وتوقيرهم
وخدمتهم في أي عصر ومصر، أما أخطاؤهم التي لا تخرجهم من دائرة الإسلام
ولا هي فسق ظاهر فينبغي على من أدركها اجتنابها مع الثبات على احترامهم
وتبجيلهم!!
أما أهل الباطل ممن تشبهوا بالعلماء وترسموا بسمتهم وادعوا أنهم منهم فيجب
الرد على أهوائهم وآرائهم التي يخالفون بها أهل الحق المتمسكين بنصوص الكتاب
الكريم والسنة المطهرة وقواعد الشريعة الغراء.
ولذلك قيد الإمام الطحاوي علماء السلف بصفة أهل الخير والأثر وأهل الفقه
والنظر وهؤلاء هم أهل الحق من علماء المسلمين في السابق واللاحق.
قال الله تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
وقال تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). والأحاديث
في فضل العلماء كثيرة جدا.
ولا يلزم من قول المصنف رحمه الله تعالى (وعلماء السلف... لا يذكرون
إلا بالجميل) أنه لا يجوز ذكر ما أخطأ فيه أفرادهم من المسائل العلمية ومناقشتهم
فيما بحثه بعضهم من الأمور الشرعية، وإنما يعني أن وقوع الخطأ من بعضهم إن
لم يخرجه من دائرة الإسلام أو يحكم بفسق الواحد منهم لا يقتضي ذمهم وذكرهم

669
بالسوء، وكتب الجرح والتعديل مليئة بنقد علماء السلف والخلف، فقوله (ومن
ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) أي على سبيل الجملة لا أفرادا. والملاحظة
أن أهل السنة والجماعة أقل الناس احتراما لعلمائهم بحيث ينقلبون على العالم لمجرد
مخالفته لأهوائهم وأغراضهم والأمثلة على ذلك كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
وقد وقع جماعة في ذم كبار من علماء السلف تعصبا عليهم لمجرد مخالفتهم
لمذهبهم كما وقع لجماعة من أهل الحديث في تطاولهم على مدرسة أهل الرأي وخاصة
في تطاولهم على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه، ومنهم الخطيب
البغدادي في نقله مثالب موضوعة على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في تاريخه
وتبعه على ذلك قوم من المتعصبين حاولوا ترجمة ما دونه الخطيب البغدادي في كتابه
في حق الإمام أبي حنيفة إلى اللغة الهندية الأردية في سبيل إقناع العامة هناك
للانفضاض من مذهبه رحمه الله تعالى السائد هناك!! وأبى الله تعالى ذلك بجهود
الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان.
ولا زال المتعصبة من المجسمة والمشبهة يطعنون في أهل الحق من الأشاعرة
وأكابر العلماء كإمام الحرمين والغزالي والرازي والنووي وابن حجر وغيرهم لأجل
أنهم يخالفونهم في مشربهم!! والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، والموضوع في هذه
القضية طويل الذيل سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى في رسالة خاصة والله الموفق
وهو سبحانه يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل.

670
مباحث
الردة والشرك
وما يتعلق بهما

671
باب الردة
وما يتعلق بها من الأحكام
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، ومن وصف
الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول
الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر، ولا نخوض في الله ولا نماري
في دين الله، والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما
لأهل القبلة، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين
[أي الهلاك]، ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر
ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شئ من ذلك، ونذر سرائرهم إلى
الله تعالى، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق
مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاه العلم المفقود كفر. ولا يثبت
الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود).
الشرح:
بعد أن عرفنا قواعد التوحيد وأصوله وبعض فرعياته وما ينبثق عنها، وفهمنا
معنى الشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله بشرح مفصل متوسط، لا بدلنا
أن نعرف الآن كيف ينبغي أن يحافظ الإنسان المسلم على عقيدته، وكيف ينبغي
له أن لا يفرط فيها، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الردة وتفاصيل مسائلها، لا سيما
وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تعرضا لهذا الموضوع المهم الخطير ونصا
على أن الإنسان بعد إسلامه وإيمانه قد يعتقد اعتقادات أو يتلفظ بكلمات أو يفعل
أمورا يظنها من الجائزات يخرج بها من الإسلام ويعتبر عند الله تعالى وعند المسلمين

673
في الدنيا والآخرة كافرا مرتدا يستحق دخول النار والخلود فيها والعياذ بالله تعالى.
وها نحن ذا نشرع في عرض تلك النصوص الواردة في الكتاب والسنة التي
تعرضت لهذا الموضوع المهم فنقول وبالله تعالى التوفيق:
قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 217.
وقال تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد
إسلامهم) التوبة 74، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه
فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون
في سبيل الله) المائدة: 54.
وقال تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من
الخاسرين) المائدة: 5.
وقال تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم
وأولئك هم الضالون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم
ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين)
آل عمران: 91.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم:
" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين
المشرق والمغرب " رواه البخاري (11 / 308) ومسلم (4 / 2290).
وفي رواية أخرى للبخاري (11 / 308) عن أبي هريرة بلفظ: " إن العبد ليتكلم
بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكتم
بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ".
قلت: والمؤمن العاصي إذا دخل نار جهنم لمدة مؤقتة فإنه يكون في أعلى

674
درجاتها لا في أدناها لقوله تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) وعموم اللفظ
يفيد ما قررناه حتى في هذا الموضع، فيبقى ذلك المؤمن العاصي (الذي اتقى
الشرك بالله) فيها حتى تنقضي مدة عذابه ويخرج منها، وأما الكافر والمنافق الذي
كان يظهر الإيمان والإسلام ويبطن الكفر ففي أسفل الدركات قال تعالى (إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار).
فيتقرر إذ ذاك أن الكلمة المقصودة في الأحاديث المتقدمة التي ينطق بها العبد
ولا يلقي لها بالا فيهوي بها في النار سبعين خريفا هي كلمة الكفر لا غير.
تعريف الردة وبيان الأمور المكفرة الموقعة في الردة:
الردة هي قطع الاستمرار في دين الإسلام إما بقول أو بفعل أو اعتقاد، ولا
يشترط فيها اجتماع الثلاثة معا فلو فعل أو قال قولا كفريا دون اعتقاد كفر واعتبر
مرتدا، مثال ذلك من سب الدين أو الرب مثلا ثم قال لم أقصد الخروج من
الإسلام ولا قطع الاستمرار فيه ولم ينشرح صدري للكفر لم ينفعه هذا الاعتذار
حقيقة بل يعتبر كافرا مرتدا خارجا من الملة ويجب عليه أن يعود إلى الإسلام بالنطق
بالشهادتين بنية التوبة والبراءة من الكفر والشرك.
ويظن كثير من الناس اليوم أن المسلم لا يرتد ولا يعتبر خارجا عن ملة الإسلام
إلا إذا أعلن للناس بأنه ترك دين الإسلام وكفر بالله العظيم وبرسوله الكريم،
والحقيقة أن الأمر ليس كذلك بل هذا الأمر أحد الأمور المخرجة من الإسلام،
ولا يشترط فعل هذا الأمر حتى يعتبر مرتدا، بل قد يتلفظ الإنسان المسلم كما
قدمنا بكلمة (أي عبارة) أو يفعل فعلا يعتبر به كافرا مرتدا، وسيمر تفصيل هذه
الأمور إن شاء الله تعالى بعد قليل.
قال العلامة السيد عبد الله بن حسين بن طاهر الباعلوي رحمه الله تعالى [المتوفى
سنة 1272 ه‍ في حضرموت] في كتابه " سلم التوفيق ":
" يجب على كل مسلم مكلف حفظ إسلامه وصونه عما يفسده ويبطله ويقطعه

675
وهو الردة والعياذ بالله تعالى، وقد كثر في هذا الزمان التساهل في الكلام حتى
أنه تخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنبا فضلا عن
كونه كفرا ".
وقال الإمام النووي في الروضة (10 / 64):
[الردة هي أفحش أنواع الكفر وأغلظها حكما، وفيها بابان:
الأول: في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان.
الأول: في حقيقتها، وهي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي
هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء
بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات،
والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها.... وتحصل الردة بالقول الذي هو
كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل
فقال المتولي:
من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم
الإجماع، ككونه عالما قادرا، أو أثبت ما هو منفي عنه الإجماع، كالألوان،
أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسول،
أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد
آية من القرآن مجمعا عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سب
نبيا، أو استخف به، أو استحل محرما الإجماع، كالخمر والزنى واللواط، أو
حرم حلالا الإجماع، أو نفى وجوبه كركعة من الصلوات الخمس أو اعتقد وجوب
ما ليس بواجب الإجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي
الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعيا لها، أو
عظم صنما بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه، فكل هذا كفر.
قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر ليس على إطلاقه، بل الصواب

676
فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن
جحد مجمعا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة كفر إن كان فيه نص، وكذا
إن لم يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة بحيث
لا يعرفه كل المسلمين، لم يكفر. والله أعلم] انتهى.
ذكر الأمور المترتبة على من وقع الردة:
ينبغي أن تعلم يرحمك الله تعالى أنه من وقعت منه ردة والعياذ بالله تعالى يترتب
عليه أمور:
(الأمر الأول): يخرج من دائرة الإسلام ويسمى مرتدا أو كافرا ولا تجري
عليه أحكام المسلمين مثل الصلاة عليه إن مات فإنها تحرم، وكذا دفنه في مقابر
المسلمين ونحو ذلك، ويجب استتابته من الكفر ومناظرته إن كانت لديه أو عنده
شبهة، ويجب قتله إن لم يعد للإسلام من قبل الحاكم أو الخليفة أو من يوكله
الخليفة لقضاء هذا الأمر لا غير لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري
(12 / 267) وهو مطالب حال ردته وقبل موته بأداء الصلاة وصيام رمضان ولا تقبل
منه هذه العبادات إلا أن يعود إلى الإسلام.
ومتى فاتته صلوات حال ردته فإنه يجب عليه قضاؤها وكذلك قضاء ما فاته
من الصيام أو ما وقع منه حال ردته وقس على هذا.
قال الحافظ في " الفتح " (12 / 272):
[وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: " أيما
رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن
الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها " وسنده حسن].
(الأمر الثاني): حسنات المرتد تذهب جميعها وتلغى فلا تبقى له حسنة
واحدة، فلو عبد الله تعالى مائة عام يقوم الليل ويصوم النهار أو يجاهد في سبيل
الله تعالى ليلا نهارا ثم وقعت منه ردة كسب الله تعالى أو سب الأنبياء أو الدين

677
أو القرآن أو أي ردة أخرى كانت، فإنه يكفر وتذهب جميع حسناته فلا تبقى له
حسنة واحدة، لقوله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)
الفرقان: 23.
وإذا عاد للإسلام وتبرأ من الكفر وذلك بأن يتشهد بنية الدخول في الإسلام
لم تعد له حسناته التي ذهبت وإنما يستأنف أعمالا بحسنات جديدة، وإذا كان
صادقا في توبته نادما منكسرا لله تعالى حريصا على طلب العلم عاملا فإن الله تعالى
يبدل سيئاته المتبقية إلى حسنات أي بعد محو حسناته التي ذهبت لقوله تعالى
(إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان
الله غفورا رحيما) الفرقان: 70 وأما حسناته التي محقها الله تعالى وأذهبها فإنها لا تعود.
[تنبيه]: اعلم أن معنى قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48:
أي أن الله تعالى لا يغفر لمن مات مشركا أو وصل لحال الغرغرة وعاين الحق
وعرفه ساعتئذ، أما من تاب من الكفر والشرك في أي وقت في حياته قبل ذلك
فإنه مقبول قطعا، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم كانوا قبل أن يستجيبوا للنبي
صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به يعبدون الأصنام والأوثان ويشركون بالله تعالى ثم تابوا من ذلك
الكفر فتاب الله عليهم وجعلهم من أكابر أوليائه، قال تعالى (وليست التوبة
على الذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن،
ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) النساء: 18.
وقال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعه فرعون وجنوده بغيا
وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس: 91.
(الأمر الثالث): بالنسبة لعقد نكاح المرتد فإنه ينفسخ قبل الدخول
إجماعا، وأما بعد الدخول فعند السادة الحنفية ينفسخ فورا أيضا ويجب التفريق

678
بينهما لكن لا يعتبر طلاقا، ويحتاجان إن رجع المرتد منهما إلى الإسلام إلى تجديد
عقد النكاح بمهر جديد، وعند السادة الشافعية لا يحصل التفريق إلا بعد انقضاء
العدة فإن لم يرجع المرتد منهما إلى الإسلام ومضى زمن العدة بأن الانفساخ وفرق
بينهما فإن أرادوا العود بعد انقضاء العدة برجوع المرتد أحتاج الأمر إلى عقد جديد
بولي وشاهدي عدل ولا يعتبر الفسخ طلاقا، وهذه بعض نصوص أئمة المذاهب
في ذلك:
قال في شرح العناية على الهداية المطبوع على هامش فتح القدير (3 / 428)
للبابرتي الحنفي:
" (قوله وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة) في الحال (بغير
طلاق) قبل الدخول أو بعده، وبه قال مالك وأحمد في رواية، وقال الشافعي
وأحمد في أخرى قبل الدخول هو كذلك، وأما بعده فيتوقف إلى انقضاء العدة،
فإن جمعهما الإسلام قبل انقضائها يستمر النكاح، وإلا تبين الفراق من وقت
الردة " انتهى.
وقال الخطيب الشر بيني الشافعي في " مغني المحتاج " (3 / 190):
[(ولو ارتد زوجان) معا (أو أحدها قبل دخول) حيث لا عدة باستدخال
مني الزوج المحترم (تنجزت الفرقة) بينهما لعدم تأكده بالدخول أو ما في معناه،
وحكى الماوردي فيه الإجماع (أو بعده) أي الدخول أو ما في معناه (وقفت) تلك
الفرقة، وحينئذ (فإن جمعهما الإسلام في العدة دام النكاح) بينهما لتأكده بما
ذكر (وإلا) بأن لم يجمعهما (فالفرقة) بينهما تتبين (من) حين (الردة) منهما أو
من أحدهما لأنه اختلاف دين بعد المسيس، فلا يوجب الفسخ في الحال كإسلام
أحد الزوجين الكافرين الأصليين.
(ويحرم الوطأ في) مدة (التوقف) لاحتمال انقضاء العدة قبل اجتماعهما في
الإسلام، فيتبين انفساخ النكاح من وقت الردة، وحصول الوطأ في البينونة (و)

679
لكن لو وطئ (لا حد) عليه للشبهة وهي بقاء أحكام النكاح وتجب العدة منه]
انتهى.
فعلى هذا يكون الولد الحاصل من الجماع الواقع في مدة التوقف ولد زنا وليس
شرعيا.
(الأمر الرابع): أنه لا يرث ولا يورث وماله فيئ (أي غنيمة) إلى بيت المال.
قلت: هذا عند وجود بيت المال في الدولة الإسلامية التي تحكم بالإسلام
والتي تتكفل بسد حاجات الناس وتوزيع الزكوات وغيرها على المحتاجين والفقراء،
أما اليوم فلا ينبغي أن يترك الوارث حقه في التركة من مورثه، لفقد بيت المال
أولا ولأنه سيأخذ حصته من هو شر من صاحب التركة لذا ينبغي أن يأخذ حصته
من التركة على أنها فيئ.
أما إذا كان الوارث مرتدا فينبغي أن يسعى صاحب التركة المسلم أن لا يوصل
إليه شئ من ماله الذي سيتركه بعد وفاته وأن لا ينفعه به إن قدر واستطاع.

680
أقسام الردة وأنواعها
الردة
اعتقادات وأفعال وأقوال
إعلم يرحمك الله تعالى أن الردة تتنوع إلى ثلاثة أنواع إما أقوال أو أفعال أو
اعتقادات ويدخل تحت كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عدة تقسيمات، ومعنى
ذلك أن الإنسان يخرج من الإسلام إما بأقوال يقولها وإما بأفعال وإما باعتقادات
فلنشرع في بيان هذه الأقسام وتفصيلها:
الردة الاعتقادية:
هناك أمور اعتقادية قلبية مضادة لعقيدة الإسلام الحقة قد يعتقدها الإنسان
ويعتقد قلبه عليها معتقدا صحتها أو أحقيتها فيكون بذلك كافرا مرتدا خارجا عن
دائرة الإسلام.
ويستثنى من هذا الأمر الوسوسة القلبية التي تخطر في ذهن بعض الناس
ويدفعها الإنسان عن قلبه وهو كاره لها، والتي ورد ذكرها في بعض الأحاديث
النبوية الصحيحة التي منها ما رواه مسلم في " الصحيح " (1 / 119) عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: " إنا نجد في
أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: " وقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم.
قال: " ذلك صريح الإيمان ".
قال العلماء: صريح الإيمان هو تعاظم الأمر وكراهية قلوبهم لهذا الوارد القلبي
المضاد لعقيدة الإسلام. فقوله صلى الله عليه وسلم " وقد وجدتموه " أي هل كرهت قلوبكم تلك
الواردات والوساوس الشيطانية؟! فلما أعلموه بأن قلوبهم كرهت ذلك وتعاظمته
أخبرهم أن ذلك منهم دليل على صريح إيمانهم، وقد صرح الإمام النووي رحمه
الله تعالى في " شرح مسلم " (2 / 154) بذلك حيث قال:

681
" فقوله صلى الله عليه وسلم (ذلك صريح الإيمان) ومحض الإيمان معناه استعظامكم الكلام
به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا
عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة
والشكوك ".
ونعود إلى الكلام عن الردة الاعتقادية فنقول: إن من أمثلة الاعتقادات
المخرجة للانسان عن ملة الإسلام الشك في الله تعالى من أي جهة من الجهات،
وكان يعتقد الإنسان ويتصور بأن الله تعالى على صورة إنسان وأنه جالس على كرسي
عظيم في مكان فوق السماء السابعة، أو إذا اعتقد أن له شكلا أو صورة أو هيئة،
أو اعتقد ثبوت ما يجب تنزيه الله تعالى عنه إجماعا كالجسمية أو أن له طولا وعرضا
وعمقا، أي حدودا متناهية أو غير متناهية، أو شبههه بشئ من المخلوقات،
أو اعتقد أن له لونا أو أنه كالماء والهواء لا لون لهما، أو أنه من قبيل الأشياء اللطيفة
كالهواء والنار والضوء، أو أنه من قبيل الأجسام الكثيفة كالتراب والصخر
والمعادن، أو أن مخلوقا يمكن أن يتصوره ويتخيله سبحانه، أو أن له وقتا ابتدأ
فيه أو وقتا وزمنا ينتهي إليه.
أو اعتقد قدم العالم، نوعا أو فردا، أو حدوث الصانع سبحانه، أو تسلسل
الحوادث إلى غير بداية بحيث أنه لم يكن وحده، أو أن صفاته سبحانه حادثة أو
ما يقتضي بأن صفاته حادثة، ومن أمثلة ذلك أنه لم يكن قد شاء شيئا ثم شاءه
لدعوة نبي أو ولي، أو أنه يحدث له علم الأشياء بعد أن لم يكن عالما بها، أو
يعلم الكليات دون الجزئيات والتفاصيل، فإن ذلك يقتضي النقص والحدوث
وهو مناف للألوهية.
أو اعتقد اتصال أو انفصال الله تعالى بالعالم، أو قال بأنه خارج العالم أو
داخله. لأنه يكون بذلك قد تصوره جسما يجوز عليه الاتصال والانفصال أولا،
ووصفه بما لم يرد ولا يجوز وصفه به ثانيا، أو اعتقد أنه يوصف بالحركة أو
السكون، أو الحلول أو الاتحاد، أو التناسخ، فكل ذلك وما أشبهه أو ما جرى

682
مجراه كفر موجب للخروج من ملة الإسلام.
وكذلك من اعتقد تحليل أمر محرم بإجماع المسلمين معلوم من الدين بالضرورة
كالزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل، إلا إن كان قريب عهد بإسلام
أي أسلم جديدا ولم يعرف ويتعلم أحكام الإسلام المهمة بعد، فإن أصر وعاند
بعد أن عرفناه وعلمناه ارتد وعاد كافرا.
وكذلك إذا اعتقد نفي وجوب مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة
كالصلوات الخمس، فاعتقد أن الصلاة والزكاة والقيام بالشعائر ليس مهما ولا
واجبا إنما الواجب أن يكون قلبه نظيفا طاهرا كما يدعي بعض الناس اليوم فذلك
كفر ناقل من الملة، فإن تلفظ بذلك أيضا وقاله للناس صار ردة قولية أيضا زيادة
على كونها ردة اعتقادية، فانتبه لذلك.
وكذلك إن اعتقد تحريم أمر حلال بإجماع المسلمين كالبيع والنكاح، فمن
اعتقد حرمة نكاح زوجة ثانية وثالثة ورابعة كفر، لأنه يكون معارضا لقول الله
تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا
تعدلوا فواحدة) النساء: 3، ومما يؤسف له جد الأسف أننا نسمع كثيرا من الناس
يكملون الآية فيزيدون عليها من كيسهم قولهم (ولن تعدلوا) وبعضهم لجهلهم
بدينهم وإسلامهم يظنها تكملة الآية، فيزعمون بذلك أن الله تعالى بين لنا أننا
لن نعدل ولذلك يعتقدون حرمة الزواج بامرأة ثانية، ولو تأملوا فيما يتخيلونه
ويزعمونه بعقولهم لوجدوا أنه لا معنى ساعتئذ لقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم
من النساء مثنى وثلاث ورباع) ولو علم الله تعالى بأن الإنسان لن يعدل في هذا
الأمر لما قال ذلك بل لحرمه من أصله، فانتبه لهذا الأمر.
ويستثنى من هذه المسألة من أعتقد حرمة نكاح زوجة ثانية أو أكثر مع ظلم
إحداهن، أي حرمة نكاح فلان لامرأة ثانية لأنه معروف بالظلم والاستبداد،
فهذا ليس كفرا بل قوله هنا صحيح شرعا.

683
وكذلك يكفر إن اعتقد وجوب ما لم يحب إجماعا كرواتب الصلوات المفروضات
(أي سننها).
وكذلك يكفر فورا من نوى الكفر في المستقبل كمن عزم على أن يكفر بعد
يوم أو سنة ويرجع عن دين الإسلام أو يفعل أمرا يوجب الردة في المستقبل فإنه
يكفر من تلك اللحظة التي عزم فيها، وكذا من أنكر نبوة نبي مجمع على نبوته،
أو رسالة رسول مجمع على رسالته، أو أنكر صحبة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه
لورودها في القرآن الكريم في قوله تعالى (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)
وقد أجمع العلماء على أن المقصود بصاحبه هنا هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي
الله عنه.
وكذلك من أنكر حرفا مجمعا عليه في القرآن، فخرجت بذلك البسملة في
أوائل السور فإنها غير مجمع عليها، أو اعتقد زيادة حرف في القرآن مجمع على
أنه ليس منه.
وكذلك يكفر من كذب رسولا أو نقصه أو صغر اسمه بقصد تحقيره، ومن
أمثلة تكذيب الرسول اليوم أن يسمع إنسان أمرا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن ذلك
قد صح عنه صلى الله عليه وسلم فقال - وهو يريد ويقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم -: إن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم خطأ وباطل. فمن عرف مثلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" نعم الإدام الخل " فقال هو: كلا، بل بئس الإدام الخل، قاصدا تكذيب
النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله كفر بلا شك.
وبمناسبة ذكر هذه المسألة نقول: إن الحديث الذي يتناقله بعض الناس
" بئس الإدام الخل " كذب موضوع.

684
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى).
الشرح:
وكذلك يكفر من جوز نبوة إنسان بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي أن الوحي نزل
على إنسان بعدما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، باستثناء سيدنا عيسى عليه السلام
الذي ينزل آخر الزمان حيث يكون تابعا لشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يكفر (كما في مغني المحتاج 4 / 135) من قال: إن النبوة مكتسبة، أو ينال
العبد رتبتها بصفاء القلوب، أو زعم إنسان أنه يوحى إليه ولو لم يدع النبوة،
أو صدق مدع للنبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم
قال القاضي عياض في أواخر كتابه " الشفا " (2 / 606): " 4 وكذلك - يكفر
- من ادعى مجالسة الله والعروج إليه ومكالمته أو حلوله في أحد الأشخاص كقول
بعض المتصوفة والباطنية... " وكذا كل من دافع عن تلك الضلالات المسطورة
في كتب التصوف أو الكلمات المنقولة عن بعض الصوفية (أي أدعياء التصوف)
التي هي كفر وضلال ظاهر وادعى أن لهم اصطلاحات خاصة بهم لا يعرفها غيرهم
ولا يخاطبون بها إلا الخواص أمثالهم فهو ضال مضل مارق من الدين، ولا يجوز
لأي شخص أن يلتفت لقول هذا المدافع عن الضلالات الذي يدعي تارة بأنها
مدسوسة على أولئك الذين يزعم بأنهم من الأولياء المقربين، وتارة بأنها على
اصطلاحهم الخاص، حتى آل الأمر أن ينقلب الكفر هدى والهدى كفرا، كتلك
الشطحات التي يزعمونها أعاذنا الله تعالى من ذلك الهراء، حتى قال بعض العلماء
كما في " لسان الميزان " لابن حجر (5 / 352): " فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا
خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات
ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له من كثير من العرفان وهذه الحقائق ولو قرأ مائة
كتاب أو عمل مائة خلوة ".

685
وقد تقدم في آخر موضوع صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الإمام
الغزالي رحمه الله تعالى أن من زعم أن الحقيقة تخالف الشريعة وأن الباطن يخالف
الظاهر فهو إلى الكفر أقرب إليه من الإيمان. أي أنه كافر حقيقة.
والقاعدة في ذلك أن كل اعتقاد فيه تشبيه لله تعالى بخلقه أو قياسه على الخلق
أو وصفه بما لا يجوز وصفه به مما لم يرد في الكتاب والسنة ولا أجمعت الأمة على
جواز وصفه به، أو اعتقد وصفه للفظ ورد مضافا له في الكتاب والسنة لكن لا
يجوز وصفه به كالنسيان والمرض والجوع ونحو هذه الأمور، فكله كفر وردة ناقلة
من الملة إلى الكفر أعاذنا الله تعالى من ذلك.
وكذلك كل انتهاك لحرمة الله تعالى أو حرمة ملائكته أو رسله وأنبيائه أو كتبه
أو شعائره لقوله تعالى (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
الحج: 32 وكل ما فيه استهزاء ومعاندة لله تعالى ورسوله لقوله تعالى (ولئن سألتهم
ليقولن إنما كثا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا
تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة: 66.
وقد قال بعض العلماء: كل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك، أخذا
من قوله تعالى (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) ومن قوله تعالى (ولم
يكن له كفوا أحد) وغيرها.
ولا يتم اجتناب هذا الأمر وعدم الوقوع فيه إلا بعد تعلم التوحيد والعقيدة
والحرص على عدم الإتيان بمخالفة أصولها وقواعدها.
[مسألة مهمة جدا]: بحث ما روي عن سيدنا ابن مسعود رضي
الله عنه في نفيه أن سورتي المعوذتين من القرآن:
قلت: أخرج هذا الأثر البخاري في صحيحه (8 / 748) مبهما، وهو أثر
باطل عندنا وقد حكم ببطلانه الحافظ النووي وابن حزم والإمام الفخر الرازي،
وهذا نص الأثر وهو من طريق سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم عن زر بن حبيش

686
قال:
" سألت أبي بن كعب قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا
وكذا. فقال أبي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: قيل لي، فقلت. قال:
فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قلت: هذا لفظه المبهم ولاحظ أسلوب التعمية هذا!! وهل هذا لفظ
يناسب أن ينتقى في كتاب وضع للصحيح؟!!
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " في شرحه (8 / 742):
[قوله (يقول كذا وكذا) هكذا وقع هذا اللفظ مبهما، وكان بعض الرواة
أبهمه استعظاما له. وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق
عبد الجبار ابن العلاء عن سفيان، كذلك على الإبهام، وكنت أظن أولا أن الذي
أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه " قلت
لأبي إن أخاك يحكها من المصحف " وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه
أبو نعيم في " المستخرج " وكان سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه. وقد
أخرجه أحمد أيضا وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ " إن
عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه "، وأخرج أحمد عن أبي
بكر بن عياش عن عاصم بلفظ " إن عبد الله يقول في المعوذتين " وهذا أيضا فيه
إبهام، وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من
طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال " كان
عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله "
قال الأعمش وقد حدثنا عاصم عن زر عن أبي بن كعب فذكر نحو حديث قتيبة
الذي في الباب الماضي، وقد أخرجه البزار وفي آخره يقول " إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أن يتعوذ بهما " قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة].
انتهى كلام الحافظ.

687
قلت: وهذه الأحاديث جميعها التي ذكرها ابن حجر كذب بحت نقطع
بكذبها وبطلانها، لأنه من أبعد ما يمكن أن يكون سيدنا عبد الله بن مسعود لا
يدرك كون المعوذتين من القرآن ولا يعلم ذلك وندركه نحن ونعلمه!! والنبي صلى الله عليه وسلم
يقول " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد "
أي: عبد الله بن مسعود، رواه أحمد (1 / 445) وابن ماجة (1 / 49) وغيرهما وهو
صحيح.
فهل يتصور عاقل أن ابن مسعود العربي القح لا يدرك بسليقته أن المعوذتين
من القرآن؟! لذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " شرح المهذب "
(3 / 396):
" أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف
قرآن، وأن من جحد شيئا منه كفر وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين
باطل ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم في أول كتابه المحلى: هذا كذب علي
ابن مسعود موضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عن ابن مسعود وفيها الفاتحة
والمعوذتان ".
وكذلك قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره (1 / 223) ونقله عنه الحافظ
في " الفتح " (8 / 743). ثم إن ما ذكره الحافظ هناك من كلام يدافع به عن عصمة
الصحيح التي يراها ويذب به عن بطلان أسانيد أحاديث الآحاد فيه المعارضة ليس
بشئ وهو مما لا يعول أو يلتفت إليه.
قال الإمام الرازي: " إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواترا في عصر ابن
مسعود لزم تكفير من أنكرهما، وإن قلنا إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر
ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر وهذه عقدة صعبة ".
قلت: وهل يتصور عاقل أن القرآن لم يتواتر كله ولم يكن قطعيا حتى بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزمن الذي انتقل فيه عبد الله بن مسعود

688
إلى الكوفة؟! ثم بقي كذلك حتى مات وأجمعوا بعده على أن المعوذتين من
القرآن؟! والله ما هذه التصور إلا هراء!!
الردة الفعلية:
الردة الفعلية هي: الفعل الذي ينتهك فاعله حرمة الله تعالى أو حرمة رسول
من رسله أو كتاب غير محرف من كتبه أو ملك من ملائكته أو حكم من أحكام
الله تعالى أو شعيرة من شعائره، ويقوم به فاعله وهو مدرك مختار غير مكره وهو
يتمتع بكامل قواه العقلية، ومن أمثلته.
إلقاء مصحف أو ورقة عليها اسم الله تعالى أو ملك من ملائكته أو نبي
من أنبيائه في قذر أو نجاسة، أو أي فعل فيه انتهاك له، كان يدوسه أو يقف
عليه فيجعله تحت قدميه عمدا، وكذلك أوراق وكتب العلوم الشرعية.
[تنبيه مهم]: ومما يجب الانتباه له في هذا الباب: استعمال الجرائد
والمجلات والصحف وهي مليئة بأسماء الله تعالى ومكتوب فيها: عبد الله
وعبد الرحمن وعبد الرزاق... ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وغير ذلك زد على
ذلك الوفيات في الجرائد، فلا يجوز استعمال الجرائد لوضع الطعام عليها ثم إلقاؤها
في القمامة ونحوها، أو استعمالها في أي مجال فيه انتهاك لها كتنظيف الزجاج وتجفيفه
وتلميعه بها، أو في دهان السيارات، وإنما تتلف تلك الجرائد والأوراق التي كتب
عليها الأسماء المعظمة بالحرق، كما أحرق سيدنا عثمان المصاحف بعد نسخ
المصحف الإمام، ويجب أن يسعى كل مسلم لإيجاد مكان لحرق تلك الأوراق
أو دفنها أو نحو ذلك محافظة على حرمتها، فإن مزق وقطع الورقة التي كتب عليها
الاسم المعظم بحيث تناثرت الحروف أو أزيلت ولم تعد مجتمع لتكون ذلك الاسم
جاز، ومن ذلك تلك الآلات الكهربائية التي تقطع الورق بحيث لا تبقي كلمات
الورقة حروفا مجتمعة تشكل اسما معظما جاز، وإلا فلا يجوز إلقائها بعد ذلك
بل يجب حرقها.

689
وأشنع من ذلك أن أناسا يستعملون أوراقا مكتوب عليها أو جرائد في عملية
الاستنجاء، وقد دخلت مرة إلى الخلاء في أحد المساجد فوجدت ورقة ملقاة هناك
قد استنجى بها جاهل جهول مكتوب عليها بسم الله الرحمن الرحيم!! فغسلتها
وطهرتها!! فانظروا إلى هذا الجهل المؤدي للكفر الشنيع أعاذنا الله تعالى من ذلك
وحمانا (405).
ومن الأمور التي توجب الردة أيضا أن يعلق إنسان مسلم في عنقه صليبا،
أو يتاجر به كالصائغ الذي يبيعه صلبان الذهب والفضة وغيرها.
ومن الأفعال المكفرة أيضا السجود للصنم أو الركوع له، ومنها ما يحصل في
المراسيم التي تفعل للصنم المسمى بالجندي المجهول فمن ركع أو سجد له كفر
بلا شك.
وأما من انحنى راكعا أو سجد لملك من الملوك أو سلطان أو رئيس للتحية
وليس لعبادته وتعظيمه فلا يكفر ولكنه يكون بذلك قد اقترف كبيرة من الكبائر
المحرمة في شريعتنا، ولم يكن السجود لانسان على وجه التحية لا العبادة كفرا،
لأنه كان جائزا في شرائع الأنبياء السابقين، ومنه سجود إخوة سيدنا يوسف وأبيه
- وهو نبي - وأمه كذلك له وقد ذكر الله سبحانه ذلك لنا في القرآن الكريم وهو
قوله (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) يوسف: 100، وكذلك أمر الله
تعالى الملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة: 34.
بل إن التوجه لبعض الجمادات في السجود دون قصدها بالعبادة لا يعد كفرا
ولا إلحادا، فسجودنا نحن مثلا إلى جهة الكعبة في أي بقعة من الأرض كنا،
لا يعد كفرا ولا حراما بل هو تقرب له تعالى نثاب عليه ونعاقب على تركه، إذ



(405) ومن يحتاج إلى الورق في صناعته كمن يدهن السيارات أو ينظف الزجاج فينبغي أن
يشتري ورقا غير مكتوب عليه شئ فيستعمله!! ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه
من حيث لا يحتسب!!
690
ليس في هذا السجود اعتقاد في تلك الأحجار وإنما هو سجود لله تعالى الآمر بالاتجاه
إلى تلك الجهة وهو سبحانه منزه عن الحلول والوجود فيها وفي غيرها، فافهم ذلك
جيدا.
وأنبه هنا إلى أن السجود أو الركوع إلى الصنم المسمى بالجندي المجهول
إنما يكون لذاته، والراكع له لا يقصد الركوع أو السجود لله تعالى رب العاملين
مع كون هذا الفعل غير مأمور به شرعا، خلافا لسجودنا لله تعالى مستقبلين الكعبة
المشرفة، فلاحظ ذلك ولا تغفل عنه.
والدليل على تحريم السجود لغير الله تعالى قوله عز وجل (لا تسجدوا
للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) فصلت:
37.
روى عبد الله بن أبي أوفى فقال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد للنبي
صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما هذا يا معاذ؟! ".
قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطاركتهم، فوددت في
نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تفعلوا. فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله تعالى لأمرت المرأة
أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي
حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب، لم تمنعه " رواه أحمد (4 / 381) وابن
ماجة (1 / 595) وغيرهما وهو حديث صحيح.
وفي صحيح ابن حبان (9 / 470) عن أبي هريرة مرفوعا: " ما ينبغي لأحد أن
يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
لما عظم الله عليها من حقه ".

691
الردة القولية:
إعلم أن أوسع أبواب الردة وأكثرها وقوعا هو الردة القولية الحاصلة باللسان،
حيث تخرج من بعض الناس كلمات توقعهم في الردة والكفر ولا يرون ذلك ذنبا
فضلا عن كونه كفرا وارتدادا، وأكثر النصوص الشرعية المبينة لمسألة الردة نجدها
واردة في هذا القسم لأنه الأكثر وقوعها.
وقد تقدم قول الله تعالى في كتابه العزيز (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا
كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة: 74.
وقال الله تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ق: 18 وقال تعالى:
(إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا
وهو عند الله عظيم) النور: 15.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في
النار أبعد ما بين المشرق والمغرب " رواه البخاري (11 / 308) ومسلم (4 / 2290).
وفي رواية أخرى " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها
- في النار - أبعد من الثريا " رواه أحمد (2 / 402) و (3 / 38) وابن حبان في صحيحه
(13 / 24) وهو حسن بالشواهد.
وعن سيدنا معاذ بن جبل قال: قلت: يا نبي الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم
به؟ فقال:
ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد
ألسنتهم؟! " (406).



(406) رواه أحمد (5 / 231) والترمذي (5 / 12 / 2616) وابن ماجة (2 / 1315) وغيرهم وهو صحيح.
وأما حديث الطبراني (10 / 243) عن سيدنا ابن مسعود أكثر خطايا ابن آدم من لسانه "
فحديث باطل مع أن رجاله رجال الصحيح، كما صرح بذلك الحافظ أبو حاتم الرازي
في " العلل " (2 / 101) ونقله عنه الذهبي في الميزان (4 / 496) في ترجمة أبي بكر النهشلي
لأنه مما تفرد به ولم يتابعه عليه أحد وكان مغفلا، هكذا قالوا وقد نص على ذلك أيضا
ابن حبان في المجروحين (3 / 145)، وقد فات هذا الأمر على الحافظ المنذري في
" الترغيب " (3 / 534) والهيثمي!! في " المجمع " (10 / 300)، ومن قلدهما في هذا العصر
واغتر بظاهر السند كالشيخ المتناقض!! في " صحيحته " (2 / 60) وغيره.
692
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف
علي؟ قال: " هذا، وأخذ بلسانه " رواه الترمذي (4 / 607) وقال: حسن
صحيح.
وعن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يضمن لي ما بين لحييه وما
بين رجليه أضمن له الجنة " رواه البخاري (11 / 308).
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (11 / 309): " قوله (لحييه) هما العظمان
في جنبي الفم والمراد بما بينهما اللسان وما يتأتى به النطق، وبما بين الرجلين
الفرج ".
إذا تأملت هذه النصوص التي أوردناها تعلم أن أوسع أبواب الردة هو القول
والكلام الذي يصدر من الناس ولا يلقون له في غالب الأحوال أي بال، وأمثلة
هذا القسم لا تكاد تحصر ولا يشترط عند التلفظ بها أن يقصد الكفر، بل لو
نطق بما هو كفر كفر وارتد وإن قال لم أقصد الكفر، وقد اتفق أهل العلم على
ذلك وأجمعوا عليه كما يجد ذلك من تتبع أقوالهم ونصوصهم بعد الاطلاع على
نصوص الكتاب والسنة.
إلا أن بعض المعاصرين اليوم خالف ذلك كالسيد سابق في كتابه " فقه السنة "
(3 / 453) فأخطأ خطأ كبيرا حيث قال هناك ما نصه:
" إن المسلم لا يعتبر خارجا عن الإسلام ولا يحكم عليه بالردة إلا إذا انشرح
صدره بالكفر، واطمأن قلبه به، ودخل فيه بالفعل، لقول الله تعالى (ولكن
من شرح بالكفر صدرا)... "!!!

693
وأقول: أخطأ الشيخ سيد سابق جدا لأنه أتى بآية الإكراه فحملها على
من نطق بالكفر مختارا!! فاستدل بآية تتحدث في موضوع آخر أو عن نوع خاص
من أنواع الردة فعممها على جميع الأقسام!! ولو أنه ذكر الآية بتمامها وما قبلها
وما بعدها لتوضح الموضوع للقارئ وأدرك خطاه في اجتهاده هذا، مع أنه اجتهد
مع وجود النصوص، ولا اجتهاد في مورد النص كما هو معلوم ومقرر في علم
الأصول.
ولا بد لنا أن نناقش رأيه هذا حتى نبين أنه مخطئ فيه، هذا مع أنني ناقشت
الشيخ سيد سابق في منزله بمكة المشرفة في هذا الموضوع وغيره وأقمت له الحجج
والبراهين والأدلة على خطئه في هذه المسألة ووعد بالتراجع وتبيين ذلك وتغييره في
الطبعات القادمة من كتابه " فقه السنة " (407) ولكنه لم يفعل للأسف.
ولنعد إلى نقد دليله الذي أتى به فنقول:



(407) وكتاب " فقه السنة " في الواقع اسمه أكبر منه بكثير، وفيه من الأخطاء ما لا يكاد
يحصى، وأغلبها في نقل مذاهب العلماء حيث يقول مثلا في مسألة: وقال الشافعي
بالوجوب، مع أنها في الحقيقة عند الشافعي رحمه الله تعالى من السنن لا الواجبات،
وكذا يفعل هذا كثيرا في سائر المذاهب، وفي مسائل الأحاديث يصحح الضعيف
ويضعف الصحيح، ثم هو أحيانا يستقل برأي أو استنباط غير مبني على دليل معتبر
قوي وإنما يقصد منه التسهيل والتيسير برأيه!!
ثم إن الأمر المهم في كتابه هذا أنه من أكبر العوامل المعاصرة المساعدة على تمييع الفقه
الإسلامي واتباع الرخص والتأويلات والتلفيق الذي هو محرم بإجماع العلماء كما نقلت
ذلك في مقدمة كتابي " صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ص (17
- 22)، ومما أود تأكيده وتقريره هنا أن الكتاب المذكور " فقه السنة " لا يصح العمل
بما فيه ولا التعويل عليه، وأسال الله تعالى أن تتاح لي فرصة في المستقبل لأن أخرج
كتابا بديلا عنه وآخر نقدا له، من باب النصح الواجب للمسلمين، نسأله التوفيق
والهداية.
ويعود سبب عدم وجود بديل لهذا الكتاب إلى تكاسل علماء العصر وعدم قيامهم
بواجبهم الشرعي!!
694
قال الله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)
النحل: 106.
فهذه الآية تتحدث عن الإنسان المسلم الذي أكره على الكفر حيث بين الله
تعالى فيها أن من أكره على الكفر فانشرح صدره إليه ووافق من أكرهه على الكفر
فإنه يكون كافرا حقيقة، وأما من أكره على الكفر وهدد لينطق بكلمة الكفر فنطق
بها وقلبه غير منشرح لها ولا للكفر فلا يكفر وهو مما تجاوز الله عنه في هذا الأمر.
وأما في غير حالة الإكراه فلا يشترط الانشراح البتة، ألا ترى إلى قوله تعالى
(يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة: 74،
فهؤلاء الذين جاءوا يحلفون أنهم ما قصدوا الكفر (أي لم ينشرح صدرهم له)
لم يقبل ذلك منهم واعتبر الله كلامهم كفرا وردة، فتأمل ذلك جيدا!!
وقد ذكر العلماء المفسرون كابن جرير الطبري في تفسيره (8 / 14 / 181) والقرطبي
أيضا (10 / 180) أن هذه الآية نزلت في سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه.
فعن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه
حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتم بخير ثم تركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما
وراءك؟ " قال: شر يا رسول الله!! ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم
بخير، قال: " كيف تجد قلبك؟، قال: مطمئنا بالإيمان. قال: " إن عادوا
فعد " (408).
ويرد على ما جاء في كتاب " فقه السنة " أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
المتقدم الذي رواه البخاري ومسلم " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين
فيها... " وفي رواية أخرى للبخاري أيضا " لا يلقي لها بالا.... " وهذا يدل



(408) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (8 / 14 / 182) والحكم (2 / 357) وصححه على
شرطهما، والبيهقي (8 / 208) في باب المكره على الردة، وهو صحيح.
695
دلالة واضحة على أنه غير قاصد الكفر ولا منشرح صدره به. وقال الإمام
القرطبي: " أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه
القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ".
وقال بعض العلماء نظما:
يرتد عن إسلامه من انتهك * حرمة ذي العرش ورسل وملك
وشرط قصد الكفر من ينتهك * على الصحيح مذهب لا يسلك
وشددوا تأديب مفت أخبرا * بعدم الكفر لمن قد كفرا
بل ذا من الكفر عليه يرهب * إذا لازم المذهب قيل مذهب
وكل ذلك مما يبطل هذا الرأي الشاذ المدون في كتاب " فقه السنة "، فتنبه
أخي المؤمن لذلك ولا تغفل عنه.
ومن الألفاظ الكفرية التي يتناقلها بعض الناس: أن يقول إنسان مسلم لمسلم
آخر دون أن يقترف أمرا يوجب الكفر والارتداد: يا كافر. قال الإمام النووي
في " الروضة " (10 / 65): " قال المتولي: ولو قال المسلم - لمسلم - يا كافر بلا
تأويل: كفر، لأنه سمى الإسلام كفرا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في
الحال ".
ومثال ذلك أن يقول شخص لآخر وقد غضب منه: هل تريدني أن أكفر
لك الآن؟! أو إذا لم تسكت سأكفر، أو قال: إذا لم يفعل لي الله كذا في السنة
الآتية أو في الشهر القادم سأكفر، أو أصابته مصيبة فجعل يخاطب السماء أو غير
السماء كأنه يخاطب الله ويقول: لماذا فعلت بي كذا، أو هل أعجبك أنك فعلت
بي كذا، أو سأكفر بك إذ فعلت بي كذا، وقد حصل هذا فعلا من بعض
الناس، وهذا كله كفر وردة يخرج من الملة.
قال الإمام النووي: " وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله إن هلك مالي أو
ولدي تهودت أو تنصرت. قال: والرضى بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر أن

696
يلقنه كلمة التوحيد فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن
يرتد فهو كافر، بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر لا رزقه
الله الإيمان، فليس بكفر، لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعا عليه بتشديد الأمر
والعقوبة عليه.
ولو أكره مسلما على الكفر، صار المكره كافرا، والاكراه على الإسلام
والرضى به والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام " ا ه‍ كلام النووي.
ويكفر بلا شك وبلا مثنوية من يسب الله تعالى أو يسب الدين أو الأنبياء
أو الإسلام سواء في حال الرضى أو في حال الغضب، لأن الله تعالى واجب
تعظيمه في الرضى والغضب، ويكفر من قال إن الساب في مثل هذه الأحوال
لا يكفر بلا شك أيضا.
وكذلك من يقول اليوم من العامة: (جننت ربي) أو (جننت دين ربي)
أو (خوت ربي) أو (زيح عن ربي) أو (أبعد عن ربي) أو (إيش دين رب
هذا الرجل) أو (حل عن ربي) وغيرها من الكلمات الشنيعة التي يطلقها بعض
السفهاء في حق الباري سبحانه وتعالى أو في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام
أو في حق الإسلام والدين.
ويجب على كل إنسان أن يكون ضابطا لنفسه منقادا للشرع خاضعا لله تعالى
في الرضا والغضب فإن غضب، استرجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومما يؤسف له جد الأسف أننا نرى اليوم كثيرا من الناس في عداد الهمج
الرعاع قد تربوا على الكفر والالحاد ومعصية الله ورسوله وتعودوا على ذلك والعياذ
بالله تعالى، وما ذلك إلا لفساد كثير من الآباء والأمهات، لأنهم لم ينشأوا
ويستقيموا على الإسلام، فيخرج عندئذ الأبناء فجارا مثلهم، نسأل الله تعالى
السلامة.

697
ولا يستطيع أن يتصور العاقل الموحد المؤمن بل لا يستطيع إنسان أن يدرك
ويستوعب كيف يقدم إنسان يدعي الإسلام في بعض الأوقات على شتم الرب
أو الدين الذي ينتمي إليه، وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على فقدان تعظيم
الله تعالى وفقدان قيمة ربه ودينه من قلبه!! وإلا فلو كان معظما لدينه وربه
فإنه لن بفعل هذا الكفر الشنيع، ومثل هذه الظواهر ما هي إلا أحد الأسباب
الكبرى في اندحار هذه الأمة وسقوطها وعدم توفيق الله لها، حيث أن كثيرا من
أفرادها يتمتعون بمثل هذه المواصفات!! بالإضافة إلى البطش والجبروت بخلق
الله تعالى أيضا بكل أموال الناس بالباطل والتحايل على الشرع والمجتمع والناس
وخداعهم!! والله تعالى يقول لهم سبحانه (إن الله لا بغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم).
هذا وقد عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى فرعا مهما في كتاب الردة من
" الروضة " (409) ذكر فيه أمثلة كثيرة من الألفاظ التي يخرج بها الإنسان من الإسلام،
لا بد أن ننقلها من هناك ونعلق عليها ونشرحها ونوضحها بأسهل عبارة وأبسط
أسلوب وهي تناسب أن تكون شرح قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في
عقيدته:
(ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله).
الشرح:
يكفر من سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو من استهزأ بالله تعالى أو
بآياته، أو بوعده أو وعيده (أو صنع فكاهات ونكتا في ذلك أو استمع لمن فعل



(409) وأصل كتاب " الروضة " هو كتاب " شرح الوجيز " للإمام الرافعي رحمه الله تعالى حيث
اختصره الإمام النووي وزاد عليه زيادات قيدها بقوله في أولها " قلت " وفي آخرها بقوله
" والله أعلم " فحيثما وجدت فيه كلاما واقعا بين " قلت " وبين " الله أعلم " فهو كلام
الإمام النووي وما سواه فهو كلام الإمام الرافعي رحمهما الله تعالى، فاعلم ذلك وتنبه
له.
698
ذلك ورضي به ولم ينكر عليه) قال الله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا
نخوض ونلعب قل أبالله وآياته له ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم
بعد إيمانكم) التوبة: 65 وقال تعالى: في وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم
آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره،
إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) النساء: 140 وقال
تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في
حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)
الأنعام: 68.
ومثال السخرية بوعد الله تعالى أن يسخر إنسان بما أعده الله تعالى للمؤمنين
من الثواب ومن الأمور الحسية في الجنة كالحور العين وكالأواني التي يشرب بها أهل
الجنة وكالطعام والشراب الذي أعده الله لهم، فكل ذلك كفر وردة لأنه يتضمن
تكذيب كلام الله تعالى أي القرآن الكريم الذي ذكر الله فيه هذه الأمور، وكذلك
تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم المخبر بها عن الله أيضا والاستهزاء والاستخفاف بوعد الله تعالى.
وأما وعيده فمعناه: أن يستهزأ إنسان بما أعده الله تعالى للكفار والمنافقين
والمجرمين وأمثالهم من العذاب والنكال والنار، مثل قول بعضهم عند ذكر جهنم
(غدا نتدفأ عليها) وهذا يتضمن تكذيب ما جاء في القرآن والسنة من شدة حرها
وفيحها بالإضافة إلى استخفافه بخالقها.
ومما يكفر أيضا قول إنسان مثلا: لو أمرني الله بكذا لم أفعل، أو لو صارت
القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها (410).



(410) ذكر الإمام النووي في الروضة (10 / 66) أن من قال " لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها "
لا يكفر. قلت: قال ذلك على مقتضى قاعدة الزهاد، أي التي قالها بعضهم هن
أنه يعبد الله لله، أي لأنه يستحق سبحانه العبادة لا طمعا في الجنة، ولا خوفا من
النار، لكن من قال ذلك استهزاءا أو استخفافا بالله تعالى أو بوعده فإنه يكفر كما
أثبتناه، والله تعالى أعلم وأحكم.
699
وكذا لو قال له غيره: لا تترك الصلاة فإن الله يؤاخذك بتركها، فقال: لو
آخذني الله بتركها مع ما بي من المرض ظلمني. أو قال إنسان مظلوم: هذا بتقدير
الله. فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى كفر هذا الظالم، وكذلك يكفر
الحراس والمحققون الذين يقولون للناس في السجون أو في مواضع الاعتقالات أو
عند ضربهم أو تعذيبهم والتضييق عليهم: هل يستطيع الله أن ينجيك من هنا؟!
أو أدع الله أن ينجيك من هنا!! أو لا يستطيع الله أن يخلصك الآن ولا ينجيك
أو نحو هذه الكلمات!!
فإن هذا كفر وظلم وقائل مثل هذه الكلمات والراضي بها أول ما تسعر به
نار جهنم يوم القيامة، قال تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم
حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا * ثم
لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) فإذا أحضرهم الله تعالى يومئذ حول جهنم
قيل لهم بعد ذلك لتنمحق قلوبهم ويزاد عليهم في العذاب بعد أن يروا جهنم
ويدركوا عذابها وشدة حرها وهم خارجها (وإن منكم إلا واردها) أي داخلها
(كان على ربك حتما مقضيا) مريم: 17، أي ستدخلونها أيها الكفار العتاة جميعا
وستذوقون عذابها فمن ينجيكم الآن منها؟!!
وقال تعالى (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الدين كفروا يا
ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين * إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون *
لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) الأنبياء: 100.
ويكفر أيضا من قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم،
وكذا لو قيل له مثلا: قلم أظافرك فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لا أفعل هذا
وإن كان سنة قاصدا العناد والاستخفاف والاستهزاء.
ولو قال: فلان يهودي أو كاليهودي فإنه لا يكفر إن كان قصده تشبيهه في
أعماله ولؤمه وخسته باليهود أو غيرهم. ولو قال: لو كان فلان نبيا ما آمنت به،

700
كفر
ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر:
لا حول لا تغني من جوع، كفر.
ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب. أو قال: ما هذا الشرع التافه؟
أو لعن كل عالم وأراد الاستغراق الشامل ولم يرد الذين يستأكلون بالعلم ويضلون
الناس مثلا، كفر.
أو قال أنا برئ من الله وأطلق، أو برئ من الله إن حدث كذا، أو برئ
من ملائكته، أو من الأنبياء، أو من النبي، أو من القرآن، أو من الشريعة،
أو من الإسلام، كفر.
وكذلك من قال وهو يتعاطى قدحا أو كأسا من الخمر أو من يقدم على الزنا
أو على أمر محرم: باسم الله استهزاء أو استخفافا أو (تنكيتا) أي على سبيل
الفكاهة، فقد كفر.
قلت: وكذلك الممثل الذي يمثل أدوار الكفار والملاحدة ويتلفظ
بالكلمات الكفرية، فإنه يكفر ويرتد ويخرج من دائرة الإسلام فليتنبه لذلك (411).
وكذلك من يقول لم يصبني الخير منذ صليت، أو لم أصب خيرا مذ صليت،
أو الصلاة لا تنفعني، أو أتشاءم من الصلاة، أو من قال: ليس الإسلام والدين
بالصلاة والصيام إنما المهم أن يكون قلبك طاهرا أبيض نظيفا، فهذا كفر وارتداد
لأن فيه إنكار وجوب ما علم من الدين بالضرورة.



(411) وللأمام المحدث أحمد بن الصديق الغماري رسالة مهمة في بيان مسألة تحريم التمثيل
أسماها " إقامة الدليل على حرمة التمثيل " وهي مهمة جدا فليطلبها من شاء معرفة
حكم هذا الموضوع بالتفصيل.
ولسيدي عبد الله ابن الصديق شقيقه رسالة أيضا في هذه المسألة مطبوعة مع الرسالة
الأولى، فارجع إليها.
701
وكذلك يكفر من قال لشريف أي إنسان من آل البيت أنا عدوك وعدو جدك
إن أراد بجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال الله تعالى (قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى)، وأما إن قصد بجده سيدنا علي بن أبي طالب
عليه السلام ورضي الله عنه، وكان مبغضا له منكرا لفضائله فهو فاسق ضال
منافق، لأنه تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم
وال من والاه وعاد من عاداه " قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء "
(8 / 335): " متواتر ".
وفي صحيح مسلم (1 / 86) عن سيدنا علي رضوان الله عليه قال: " إنه لعهد
النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي: إنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق ".
وقد قال الفضل بن دكين (من رجال الستة وهو الإمام الحافظ الكبير من
شيوخ أحمد بن حنبل والبخاري وابن معين وإسحق بن راهويه والذهلي وأبو خيثمة
وأبو زرعة وأبو حاتم والدارمي صاحب السنن وغيرهم وروى عنه أيضا عبد الله بن
المبارك توفي سنة 219) ما نصه:
" حب علي رضي الله عنه عبادة ".
ولو قال إنسان: قصعة ثريد خير من العلم. كفر.
ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبها بالمذكرين
والوعاظ، فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق (412)، أو تشبه
بالمعلمين، فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان وضحكوا واستهزؤوا،
كفروا هم وهو، واختار النووي في الروضة أن الصواب لا يكفرون.
قلت: والظاهر أن مراده بعدم تكفيرهم أنهم إذا فعلوا هذا لا على سبيل
الاستهزاء بالدين والشرع.



(412) المخراق هو المنديل إذا فتل ولف ليضرب به، أو السيف أيضا.
702
ولو طال مرض إنسان واشتد فقال، إن شئت توفني مسلما، وإن شئت توفني
كافرا، صار كافرا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت
ولدي، وكذا وكذا، وماذا تفعل أيضا؟! أو ماذا بقي ولم تفعله؟! كفر.
ولو غضب على ولده أو غلامه فضربه ضربا شديدا، فرآه رجل فقال له
شخص: ألست بمسلم؟! فقال الضارب: لا لست مسلما، كفر.
قال الإمام الرافعي في أصل الروضة: ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس
أموالا، فقال أحد المسلمين: ليتني كنت كافرا فأسلم فأعطى، قال بعض
ا لمشايخ (413): يكفر.
قال الإمام النووي عقبه: [قلت: في هذا نظر - أي الصواب لا يكفر -
لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال، وثبت في الأحاديث الصحيحة في قصة
أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف
تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: حتى تمنيت أني لم أكن
أسلمت قبل يومئذ (414).، ويمكن الفرق بينهما. والله أعلم].
وقد أجمع علماء المسلمين على تكفير من قال: لا أكفر من دان بغير دين
الإسلام، أو شك بعدم كفرهم، أو توقف فقال أنا لا أقول كفار ولا غير كفار.
وقد نقل الإجماع في ذلك القاضي عياض في آخر كتابه " الشفا " (2 / 603).
قال الإمام النوري رحمه الله تعالى في " الروضة " (10 / 75):
[قلت: قد ذكر القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض رحمه الله في
آخر كتابه " الشفا بتعريف حقوق نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه " جملة
في الألفاظ المكفرة غير ما سبق، نقلها عن الأئمة، أكثرها مجمع عليه، وصرح



(413) يعني بقوله بعض المشايخ: أي بعض أئمة أهل العلم من السادة الحنفية، وليس
المقصود بذلك بعض الناص الذين يطلق عليهم اليوم مشايخ فتنبه.
(414) رواه البخاري (7 / 517) ومسلم (1 / 96).
703
بنقل الإجماع فيه. والله أعلم.
فمنها: أن مريضا شفي ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر
وعمر رضي الله عنهما لم استوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر ويقتل، لأنه
يتضمن النسبة إلى الجور، وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستتاب ويعزر، وأنه
لو قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسود، أو توفي قبل أن يلتحي، أو قال: ليس هو
بقرشي، فهو كفر، لأن وصفه بغير صفته نفي له وتكذيب به، وأن من ادعى
أن النبوة مكتسبة، أو أنه يبلغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، أو ادعى أنه يوحى
إليه وإن لم يدع النبوة، أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها، ويعانق
الحور، فهو كافر الإجماع قطعا، وأن من دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع
بهما المحمول على ظاهره، فهو كافر الإجماع، وأن من لم يكفر من دان بغير
الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر وإن
أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده، وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى
تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة - أي جميعهم -، وكذا من فعل فعلا أجمع
المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله،
كالسجود للصليب، أو النار والمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير
وغيرها، وكذا من أنكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج،
وأنه ليس على هذه الهيئة المعروفة، أو قال: لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي
مكة أم غيرها، فكل هذا أو شبهه لا شك في تكفير قائله إن كان مما يظن به
علم ذلك، ومن طالت صحبته المسلمين.
فإن كان قريب عهد بإسلام، أو مخالطة المسلمين، عرفناه ذلك، ولا يعذر
بعد التعريف، وكذا من غير شيئا من القرآن، أو قال: ليس بمعجز، أو قال:
ليس في خلق السماوات والأرض دلالة على الله تعالى، أو أنكر الجنة أو النار،
أو البعث أو الحساب، أو اعترف بذلك، ولكن قال: المراد بالجنة والنار والبعث
والنشور والثواب والعقاب غير معانيها، أو قال: الأئمة أفضل من الأنبياء].
انتهى كلام الإمام النووي.

704
وقال الإمام النووي في أول هذا الباب:
" في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى اعتناء تام بتفصيل الأقوال
والأفعال المقتضية للكفر، وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه،
فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم ". انتهى وذكر ما ذكرناه وقدمناه في هذا الفصل
والله الموفق والهادي.

705
فصل
مسائل مهمة تتعلق بالردة
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، وما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين، ولا نخوض في الله ولا نماري
في دين الله، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).
الشرح:
[المسألة الأولى]: يقول بعض الناس اليوم كيف تقولون بأن فلان الذي
فعل كذا أو اعتقد كذا إنه كافر مرتد، مع أن المقرر عند أهل السنة والجماعة
أنهم لا يكفرون مؤمنا بذنب؟!!
ونقول مجيبين لهم: هذه مغالطة واضحة!! وذلك لأن علماء أهل السنة
قالوا: لا نكفر من اقترف ذنبا كالسرقة أو شرب الخمر أو الزنا أو غير ذلك من
الذنوب ما لم يستحله، ولا علاقة لهذا الموضوع بمسألة تكفير من خالف العقيدة
الإسلامية الحقة، ولذلك قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في " شرح
صحيح مسلم " (1 / 150):
[واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا
يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة
حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه
ممن يخفى عليه فيعرف ذلك فإن استمر حكم بكفره. وكذا حكم من استحل الزنا
أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة، فهذه
جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر
الاحتياج إليه].

706
وإيراد بعضهم عند هذه المسألة حديث " من كفر مسلما فقد كفر " ليس في
محله، بل لم يرد الحديث بهذا اللفظ وإنما ورد بلفظ: " من قال لأخيه: يا كافر،
فقد باء بها أحدهما " رواه الإمام مالك رحمه الله تعالى في " الموطأ " (ص 984)
والبخاري (10 / 514) ومسلم (1 / 79) من حديث ابن عمر مرفوعا.
ورواه البخاري (10 / 464) عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: " لا يرمي رجل رجلا
بالفسوق. ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك ".
فهذا الحديث يتناول ويقرر حكم من يرمي مسلما بكفر ولم يقع الإنسان الذي
رمي بالكفر ما يوجب الكفر والارتداد، وإلا فالعلماء حكموا على كثير من
الأشخاص بأعيانهم بالكفر، وهذا الشافعي يقول لحفص الفرد - أحد المبتدعة
إن صح -:
" كفرت بالله العظيم يا حفص ". [أنظر " سير أعلام النبلاء " (10 / 32) وغيره].
وبذلك يتبين أن من يجادل ويماري في هذه المسألة ويستعملها في غير ما
وضعت له متنكب عن سبيل أهل الهدى والحق وكذا مخالف لما عليه علماء أهل
السنة والجماعة، فافهم.
[المسألة الثانية]: يخطئ بعض الناس الذين ينسبون أنفسهم للعلم
فيقول أحدهم عن قول كفري: نعم أوافقك على أن هذا الأمر كفر، ولكن
نقول: هذا كفر ولا نكفر صاحبه!!
ونقول لهم: ليس كذلك!! وقد خالفتم القرآن الكريم الذي بين الله فيه
أن صاحب الكلمة الكفرية يحكم عليه بالكفر أيضا، وذلك في قوله تعالى (ولقد
قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة: 74.
فقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية بصريح العبارة أن من صدرت منه كلمة
الكفر صار كافرا وليس بعد بيان الله تعالى بيان، فافهم.

707
[المسألة الثالثة]: لا يجوز الإقدام على التكفير والمسارعة بإطلاق
الحكم فيه دون تثبت البتة، إلا في الأشياء الظاهرة الواضحة كسب الرب والدين
والأنبياء والكتب المنزلة والملائكة، وأما ما يحتاج إلى نظر وتأمل ومعرفة المقصود
بالكلام فلا ينبغي فيه التكفير العشوائي والاسراف فيه، لأن هناك طائفة من
الناس تكفر فيما لا يوجب تكفيرا ولا ارتدادا، وتسرف في ذلك، وقد وقع من
بعض من رأيتهم يكفرون أشخاصا بلا موجب لذلك ثم تبين لهم أنهم مخطؤون
فيما ذهبوا إليه!!
فليكن قصد الإنسان هنا هو تخليص من وقع في الكفر بإرشاده ونصحه إلى
التوبة لا ليثبت له أنه كفر وارتد، وإنما الواجب أن يأخذ بيده لينقذه إن أمكن
فيقول له: هذه كلمات خطيرة ربما تخرج الإنسان من دينه ولا بد أن تتشهد
للتخلص من الكلام الذي وقعت فيه بنية تجديد الإيمان.
فليحذر الإنسان العاقل من المسارعة في التكفير أيما حذر وخاصة الطلبة
المبتدئون في العلم، وقد تقدم الحديث الواقع في هذه المسألة: " من قال لأخيه:
يا كافر، فقد باء بها أحدهما " رواه البخاري (10 / 514) ومسلم (1 / 79) من حديث
ابن عمر مرفوعا.
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في " الفتح " (10 / 466):
" والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه
المسلم،.... وقيل معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا
بأس به. وقيل يخشى أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر،
فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة، وأرجح من الجميع أن من قال
ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك
كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره.... والحاصل أن المقول
له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن

708
رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه.... وهو من أعدل الأجوبة ".
وقال الحافظ قبل ذلك:
" وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر فإن كان
ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع
عليه شئ لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا
ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له: أنت فاسق، بل في هذه الصورة
تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته
بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما
أمكن ذلك بالرفق لا يجوز أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره
على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الآنفة، لا سيما إن كان الآمر
دون المأمور في المنزلة ".
ونقل الإمام النووي في الأذكار ص (517) أنه يكره أن يقال لأحد عند
الغضب: أذكر الله تعالى خوفا من أن يحمله الغضب على الكفر، وكذا لا يقال
له: صل على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا من هذا.
[المسألة الرابعة]: وهي من مسائل الردة القولية والاعتقادية أفردتها هنا
بالذكر لمسيس الحاجة إليها ولأنها تتعلق بالاعتقاد والقول، وهي مسألة ضرب
الرجل زوجته.
فلو قال قائل: لا يجوز لزوج أن يضرب زوجته في أي حالة كانت، فإن
كان لا يعرف القرآن والسنة ونصوص الشرع الناصة على ذلك أو غابت عنه عرفناه
وذكرناه، فإن عاند وأبى وأصر على عدم الجواز في أي حال كفر لأن الله تعالى
يقول في كتابه العزيز: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على
بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله،
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن

709
أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن
الله كان عليا خبيرا) النساء: 35.
وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يسأل
الرجل فيم ضرب امرأته " (415).
قال الإمام النووي في الأذكار (ص 528): " فصل: يكره أن يسأل الرجل فيم
ضرب امرأته من غير حاجة ".
قلت: وكل هذا محمول على إذا لم يكن الزوج ظالما مستبدا عسوفا.



(415) رواه أبو داود (2 / 246) والنسائي في الكبرى (5 / 372) وابن ماجة (1 / 639) وصححه
الحافظ ابن حجر كما في شرح الأذكار (7 / 140) للعلامة ابن علان الدمشقي.
710
فصل
عدم تصديق العرافين وأمثالهم
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(ولا [نصدق] من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع
الأمة).
الشرح:
[المسألة الخامسة]: من الأمور التي تثار في هذا العصر وتخالف ما عليه
عقائد جمهور المسلمين الآن في العالم دون أن ينتبهوا لها: بعض أنباء الفلكيين
مثلا الذين يقولون على سبيل المثال إنه بعد خمس سنوات مثلا أو سنة (2000)
للميلاد سيرتطم المذنب أو النجم الفلاني بالكرة الأرضية وسيفني الحياة على
الكوكب الأرضي.
هذا الكلام الذي يبث أحيانا في الصحف والجرائد والمجلات يخالف ما عليه
المسلمين مما هو مقرر في القرآن الكريم من أنه لا يتم فناء الحياة على الكرة الأرضية
إلا بنفخ سيدنا إسرافيل في الصور، هذه هي عقيدة الإسلام وهي تضاد ذلك
التنبؤ. وكذلك يدفع هذا التنبؤ عند من ثبتت لديه الأشراط في المستقبل بأن هناك
علامات للساعة لا بد أن تظهر، والتي منها: ظهور المهدي حيث يحكم سبع
سنين ثم سيدنا عيسى عليه السلام وسيحكم أربعين سنة، ثم يبعث الله ريحا
لطيفة تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى على ظهر الأرض مؤمن، بل يبقى شرار
الخلق وعليهم تقوم الساعة، ويقاس على هذا التنبؤ أشباهه.
[المسألة السادسة]: نرى اليوم في هذا الزمن بعض الأفراد في هذه
المجتمعات بل وبعض العائلات أيضا الذين ينتسبون للإسلام وهم بمنأى ومعزل
عن الدين!! حيث يعيشون حقيقة دون أن يؤدوا شعائر الدين ودون أن يعرفوا

711
أحكامه، فنراهم لا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يحجون ولا يدعون الله
تعالى ولا يلتجئون إليه، وبعضهم لا يعهد عنه أنه دخل مسجدا وصلى فيه يوما
من الدهر!! بل لا يقرأون القرآن ولا يعرفون آياته ولا سوره!! وكذلك نجد
نسائهم يخرجون بلا انقياد لأمر الله تعالى فلا يلبسن اللباس الذي أمر الله به ولا
يحتشمن ولا يتسترن، ويرون حالهم هذا طبيعيا جدا ولا يرون أنفسهم مسيئين
فضلا عن كونهم مذنبين وظالمين، كما نجد أبناءهم منحلين من الأخلاق والمبادئ
والدين، بل ويتمادون ويقولون بأن الصلاة والصيام والدعاء وسائر الشعائر ليست
من الأمور المهمة وإنما المهم نظافة القلب وبياضه وأن الإيمان بالقلب وليس بهذه
الشعائر!! مع أن قلوبهم في الحقيقة سوداء مفحمة!!
وخلاصة الأمر أن الدين عندهم أمر ثانوي جدا لا قيمة له!! فهؤلاء كفار
لا شك بأنهم من المرتدين وإن كانوا منحدرين من أصول مسلمة وعروق مؤمنة،
لأن الإيمان هو: اعتقاد بالجنان (أي القلب) وقول باللسان وعمل بالأركان،
فتنبه.
وقد صار حال هؤلاء كالنصارى واليهود الذين حرفوا وغيروا في دينهم، بل
نجد في كثير من الأحيان أن النصارى أحسن حالا منهم في أخلاقهم وعاداتهم
واحتشامهم وذلك بسبب شدة فسق هؤلاء وبغيهم وطغيانهم، حتى انطبق فيهم
ما قاله تعالى عن بعض أهل الكتاب (لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) التوبة: 29.
ونجدهم اليوم يؤثرون المال والنساء والمعامي على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم!!
وفي مثلهم يقول الله تعالى:
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله
وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)
التوبة: 24.

712
[المسألة السابعة]: إعلم بأننا لا نوافق بعض المتأخرين من الفقهاء
على أشياء ذكروها في باب الردة لمخالفتهم للنصوص أولا، ولأئمة مذاهبهم ثانيا،
وللمتقدمين ثالثا، ولأن أقوالهم لا تعتبر نصوصا شرعية لا يمكن مخالفتها رابعا.
ومن تلك المسائل قول بعضهم (416) بأن المجسمة مبتدعة لكنهم غير كفار،
وهذا خطأ محض لا يوافقون عليه البتة، والصواب القول بتكفير المجسمة كما قال
الإمام النووي في " شرح المهذب " (4 / 253).
وقال الإمام القرطبي في كتابه " التذكار في أفضل الأذكار " ص (207):
" ثم متبعو المتشابه لا يخلوا أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن
وإضلال العوام كما فعلته الزنادقة والقرامطة والطاعنون في القرآن. أو طلبا لاعتقاد
ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره
الجسمية حتى اعتقدوا أن الباري تعالى جسم مجسم وصورة مصورة وذات ووجه
وغير ذلك من يد وعين وجنب وإصبع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ".
ثم قال القرطبي:
" فأصحاب القسم - الأول (وهم الزنادقة وأشباههم): لا شك في كفرهم
وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة. - وأما أصحاب القسم - الثاني (وهم
المجسمة): فالصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام
والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد " ا ه‍.
وقال الشيخ عبد القاهر البغدادي (توفي 429 ه‍) في " أصول الدين " ص (337):
" وأما مجسمة خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب، لقولهم: بأن الله له
حد ونهاية من جهة السفل ومنها يماس عرشه، ولقولهم بأن الله تعالى محل
للحوادث ".



(416) ومنهم العز بن عبد السلام ومن قلده في ذلك!! لأن قولهم في ذلك مخالف للدليل!!
713
[المسألة الثامنة]: يستثني من الردة حالة سبق اللسان والخطأ كمن
جرى على لسانه كلمة ولم يقصدها لحديث الصحيحين " إنما الأعمال بالنيات "
وللحديث الآخر " رفع عن أمتي النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه " وهو صحيح
وقد تقدم.
واستدلوا له أيضا بحديث أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أشد فرحا
بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه،
وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من
راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة
الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح ". رواه مسلم (4 / 2104
برقم 2747).
وكذلك تستثنى حالة فقدان العقل بجنون أو مرض أو نوم كمن يتكلم وهو
نائم أو نحو ذلك، إلا من ارتد وهو سكران فإن للعلماء فيه اختلافا، قال الإمام
النووي في المنهاج: " والمذهب صحة ردة السكران ". وكذلك تستثنى حالة
الإكراه وقد مر الكلام عليها مفصلا.

714
فصل
في وجوب التوبة من الردة وكيفيتها
قال العلماء: يجب على من وقعت منه ردة أن يعود فورا للإسلام بالنطق
بالشهادتين بنية الدخول في الإسلام أو تجديد الإيمان، بنية البراءة من الكفر الذي
وقع فيه، ويجب عليه أن يستشعر الندم على ما صدر منه، ويعزم على أن لا يعود
لذلك ولا لمثله، وإلا فإنه يبقى كافرا مرتدا حتى يثبت لنا أنه عاد للإسلام
بالشهادتين كما ثبت لدينا أنه خرج من الإسلام ونقض الشهادتين.
قال الله تعالى (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله
سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما) الفرقان: 75.
وقد تقدم أن حسنات المرتد تذهب فيخسرها ولا تعود، لكن إن تاب توبة
صادقة كما في هذه الآية الكريمة فإن الله تعالى يقلب له سيئاته المتبقية بعد ذهاب
حسناته فيجعلها حسنات.
ولا يكفي أن يتشهد لعادته، كمن كانت عادته أن يقوم كل صباح فيتشهد
عند استيقاظه من النوم دون أن ينوي تجديد إسلامه ودون أن يتبرأ من الكفر الذي
وقع فيه، وينبغي له بعد أن يأتي بالشهادتين بالشرط المعتبر أن يكثر من الاستغفار
والندم، ولا يكفي لمن ارتد أن يستغفر الله تعالى دون أن يأتي بالشهادتين لأنه
لا يدخل في الإسلام من أراد الدخول فيه إلا بالشهادتين وليس بالاستغفار، فلو
استغفر بعد أن سبب الله تعالى أو الدين مثلا ألف مرة لم ينفعه ذلك البتة إلا أن
يتشهد، فافهم ذلك جيدا ولا تغفل عنه.
اللهم احفظ علينا إيماننا وديننا الذي هو عصمة أمرنا ولا تسلط علينا بذنوبنا
من لا يخافك ولا يرحمنا.

715
فصل
في الشرك وما يتعلق به
الشرك بالله تعالى ضرب من الكفر، ومعناه: أن يجعل العبد لله تعالى شريكا
سواء في العبادة أو في الملك أو في الخلق أو في أي معنى من معاني ألوهية المولى
سبحانه وتعالى.
قال العلامة الزبيدي في " شرح القاموس ":
" قال أبو العباس في قوله تعالى (والذين هم به مشركون) معناه: الذين
صاروا مشركين بطاعتهم للشيطان وليس المعنى أنهم آمنوا بالله (وأشركوا بالشيطان،
ولكن عبدوا الله وعبدوا معه الشيطان فصاروا بذلك مشركين ليس أنهم أشركوا
بالشيطان وآمنوا بالله وحده ".
ثم قال:
[وفي الحديث: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل " (417) قال ابن
الأثير: يريد به الرياء في العمل فكأنه أشرك في عمله غير الله تعالى. وقال الله
تعالى (إن الشرك لظلم عظيم) المراد به الكفر]. هذا كلام الزبيدي.
وأقول: ويطلق لفظ المشركين على الكفار الأصليين الذين لم يعبدوا الله
تعالى قط. فتلخص من هذا أن الشرك يطلق أحيانا على الكفر الأصلي وأحيانا
على الاشراك بالله بعد الإيمان به مع بعض خلقه في أمر ما.
قال تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) الزمر: 66.
وقال الله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا



(417) رواه أحمد (4 / 403) وهو حسن.
716
لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام: 88.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي
الذنب أعظم عند الله؟! فقال:
" أن تجعل لله ندا وهو خلقك " رواه البخاري (12 / 112) ومسلم (1 / 90).
قال الراغب الأصفهاني في " المفردات " ص (486) ونقل كلامه الحافظ في
" الفتح " (13 / 491):
" نديد الشئ مشاركه في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال
في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل وليس كل مثل ندا ".
وروى أحمد (4 / 403) عن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شئ إذا فعلته أذهب
عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك، أن أشرك بك وأنا
أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم: تقولها ثلاث مرات " (418).
قال العلامة المناوي في شرح أحاديث الشرك هذه في " فيض القدير "
(4 / 172):
[(الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل) في رواية النملة بالإفراد لأنهم
ينظرون إلى الأسباب كالمطر غافلين عن المسبب، ومن وقف مع الأسباب فقد
اتخذ من دونه أولياء فلا يخرج عنه المؤمن إلا بهتك حجب الأسباب ومشاهدة الكل
من رب الأرباب، وأشار بقوله (على الصفا) إلى أنهم وإن ابتلوا به لكنه متلاش



(418) هكذا أورده الحافظ السيوطي في الجامع الصغير برقم (4934) معزوا للحكيم الترمذي
عن سيدنا أبي بكر الصديق رضوان الله عليه. وحاول المناوي أن يستدرك عليه
واستدراكه عليه في هذه الحديث والذي قبله ليس بشئ كما هو معلوم، وأما شرحه
على الحديث فجيد وحسن.
717
فيهم لفضل يقينهم فإنه وإن خطر لهم فهو خطور خفي لا يؤثر في نفوسهم كما
لا يؤثر دبيب النمل على الصفا، بل إذا عرض لهم خطرات الأسباب ردتها صلابة
قلوبهم بالله.
(تنبيه): قال الإمام الرازي السلامة في القيامة بقدر الاستقامة في نفي
الشركاء فمن الناس من أثبت ظاهرا وهو الشرك الظاهر، والاستقامة في الدنيا
لا تحصل إلا بنفي الشركاء (فلا تجعلوا لله أندادا) ومنهم من أقر بالوحدانية
ظاهرا لكنه يقول قولا يهدم ذلك التوحيد كان يضيف السعادة والنحوسة إلى
الكواكب والصحة والمرض إلى الدواء والغذاء أو العمل إلى العبد استقلالا، وكل
ذلك يبطل الاستقامة في معرفة الحق سبحانه وتعالى، ومنهم من ترك كل ذلك
لكنه يطيع النفس والشهوة أحيانا وإليه أشار بقوله (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
وهذا النوع من الشرك هو المسمى بالشرك الخفي والمراد من قوله سبحانه وتعالى
حكاية عن إبراهيم وإسماعيل (واجعلنا مسلمين لك) وقول يوسف (توفني
مسلما) وأن الأنبياء مبرؤون عن الشرك الجلي أما الحالة المسماة بالشرك الخفي وهو
الالتفات إلى غير الله فالبشر لا ينفك عنه في جميع الأوقات فلهذا السبب تضرع
الأنبياء والرسل في أن يصرف عنهم الأسباب تردها صلابة قلوبهم بالله].
وقال العلامة المناوي أيضا:
[(الشرك فيكم) أيها الأمة (أخفى من دبيب النمل) قال الغزالي: ولذلك
عجز عن الوقوف على غوائله سماسرة العلماء فضلا عن عامة العباد والأتقياء، وهو
من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها وإنما يبتلى به العلماء والعباد المشمرون
عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها
عن الشهوات وصانوها عن الشبهات وحملوها بالقهر على أصناف العبادات عجزت
نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة
إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم، فوجدت مخلصا من مشقة المجاهدة إلى
لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم فسارعت إلى إظهار الطاعة

718
وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع
بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه للشهوات وتوقيه للشبهات وتحمله
مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التفريط والاطراء، ونظروا
إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ورغبوا في بركته ودعائه وفاتحوه بالسلام
والخدمة وقدموه في المجالس والمحافل وتصاغروا له فأصابت النفس في ذلك لذة
هي من أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي
والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات
وشهوة الشهوات فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المرضية وإنما حياته لهذه الشهوة
الخفية التي يعمى عن دركها إلا العقول النافذة القوية ويرى أنه يخلص في طاعة
رب العالمين وقد أثبت اسمه في جريدة المنافقين.
(وسأدلك على شئ إذا فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره) قال
الحكيم: صغار الشرك كقوله ما شاء الله وشئت، وكباره كالرياء (تقول اللهم
إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات)
يحتمل كل يوم يحتمل كل ما سبق إلى النفس الوقوف مع الأسباب وذلك لأنه
لا يدفع عنك إلا من ولي خلقك فإذا تعوذت به أعاذك لأنه لا يخيب من التجأ
إليه وقصر نظر قلبه عليه وإنما أرشد إلى هذا التعود لئلا يتساهل الإنسان في الركون
إلى الأسباب ويرتبك فيها حتى لا يرى التكوين والتدويم إلا رؤية الإيمان بالغيب
فلا يزال يضيع الأمر ويهمله حتى تحل العقدة من عقله الإيمان فيكفر وهو لا يشعر
فأرشده إلى الاستعانة بربه ليشرق نور اليقين على قلبه].
وقال العلامة المناوي أيضا:
[(الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدنا
أن تحب على شئ من الجور أو تبغض على شئ من العدل وهل الدين إلا الحب
في الله والبغض في الله) أي ما دين الإسلام إلا ذلك لأن القلب لا بد له من
التعليق بمحبوب فمن لم يكن الله وحده له محبوبه ومعبوده فلا بد أن يتعبد قلبه

719
لغيره وذلك هو الشرك المبين فمن ثم كان الحب في الله هو الدين، ألا ترى أن
امرأة العزيز لما كانت مشركة كان منها ما كان مع كونها ذات زوج ويوسف لما أخلص
الحب في الله ولله نجا من ذلك مع كونه شابا عزبا مملوكا قال الله تعالى [قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله] انتهى.
فتأمل جيدا!!
ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن بعض الناس في هذا العصر قد حصروا الكلام
على الشرك في مواضع أكثرها ليس شركا ولا كفرا، ومن تلك الأمور:
زيارة القبور، والتوسل، والاستغاثة، والرقى، والتمائم، والتولة،
والتطير، والنشرة، والكهانة، والحكم بغير ما أنزل الله.
ولنتكلم عليها واحدة واحدة بكلام مختصر مفيد فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أما الكهانة فقد تقدم الكلام عليها في موضوع الإيمان بوجود الجان.
[القضية الأولى زيارة القبور]:
1 - أما زيارة القبور: فسنة بالاتفاق، وخاصة قبور الأنبياء والصحابة وأئمة
السلف والصالحين والشهداء، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وليس لها
معارض ومنها حديث أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن
زيارة القبور فزوروها " (419).
وقد نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة قبور المنافقين
والكافرين فقال سبحانه (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره
إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) التوبة، 84 فأفاد ذلك جواز زيارة قبور
المؤمنين والمسلمين.



(419) رواه مالك في الموطأ ص (485) ومسلم (2 / 672) والنسائي (8 / 311) وغيرهم وهو
صحيح.
720
وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت: ماذا أقول إذا أتيت البقيع؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من
المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم
للاحقون " رواه مسلم (2 / 671) ومنة يؤخذ جواز زيارة المرأة للقبور أيضا إذا أمنت
الفتنة.
أما حديث الصحيحين (420) " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد " فهو حديث شاذ مردود كما قال سيدي عبد الله بن الصديق في كتابه
" الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة " ص (105) لأن في الحديث
إشكال كبير وهو: كيف يلعن النصارى بسبب اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد مع
أنه ليس لهم إلا نبي واحد وهو سيدنا عيسى عليه السلام ولم يدفن وإنما عرج به
إلى السماء؟!
ثم كيف يحترم اليهود الأنبياء يجعلون على قبورهم مساجد وقد اشتهر عنهم
معاداة النبيين والمرسلين حتى قال الله تعالى عنهم (ففريقا كذبتم وفريقا
تقتلون) البقرة: 87.
ثم لو سلمنا بصحة الحديث فليس مرادا به البناء على القبر البتة، وإنما المراد
به اتخاذ القبر مسجدا ومعنى ذلك الصلاة على القبر أو إليه، كما قاله ابن حجر
المكي في الزواجر (1 / 148).
ثم نقول أيضا على فرض صحة الحديث: إن هذا الذم واقع على اليهود
والنصارى لا على هذه الأمة الإجماع، لأن الصحابة دفنوا سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في بناء وهو بيت السيدة عائشة وهذا بإجماع الأمة زمن الصحابة
حتى هذا اليوم.
فإن قال قائل: هذا خاص بالأنبياء فقط.
قلنا: ليس كذلك! بل إن هذا القول ظاهر البطلان لإجماع الأمة على



(420) رواه البخاري (3 / 255) ومسلم (1 / 366).
721
دفن سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضوان الله تعالى عليهما بجنبه صلى الله عليه وآله
وسلم في ذلك البناء، وذلك البناء ملصقا بمسجده النبوي الشريف ثم أدخل
في عهد السلف بإشراف خامس الخلفاء الراشدين الإمام المجتهد القدوة السلفي
عمر بن عبد العزيز في المسجد عندما وسع (أنظر البخاري والفتح 3 / 255 و 257) وقد انعقد
على ذلك إجماع الأمة بلا نكير، ومخالف الإجماع صال مضل، وهذا كله مع قوله
تعالى في معرض الثناء على أناس من المؤمنين في كتابه العزيز: (وقال الذين غلبوا
على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) والمقرر أن الكفر والشرك لا يكون حلالا
ممدوحا في شريعة دون شريعة، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقد نقل الذهبي في " سير أعلام النبلاء " عن السلف أشياء كثيرة في الدعاء
عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور آل البيت النبوي الشريف والعلماء والصالحين، منها:
1 - ما ذكره عن محمد بن المنكدر إنه كان يجلس مع أصحابه، فكان يصيبه
صمات، فكان يقوم كما هو حتى يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع، فعوتب
في ذلك، فقال: " إنه يصيبني خطر، فإذا وجدت ذلك، استعنت بقبر النبي
صلى الله عليه وسلم ". [أنظر السير 5 / 359].
2 - وقال في ترجمة منصور بن زاذان (5 / 441) وهو من رجال السنة: " وقبره بواسط
ظاهر يزار ".
3 - وقال في ترجمة السيدة نفيسة وهي من آل البيت (10 / 107): " والدعاء
مستجاب عند قبرها بل وعند قبور الأنبياء والصالحين ".
4 - وقال في ترجمة يزيد بن هارون وهو من رجال الستة (9 / 368): (أما من سار
إلى زيارة قبر فاضل من غير شد رحل فقربة الإجماع بلا تردد!.
5 - وقال في ترجمة معروف الكرخي (9 / 343):
" قال إبراهيم الحربي: قبر معروف الترياق المجرب. يريد إجابة دعاء المضطر
عنده لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء ".

722
والأمثلة في ذلك كثيرة لا تكاد تحصى.
فتبين من هذا أن زيارة القبور ليست من الشرك ولا من مظاهر الشرك بوجه
من الوجوه، وبعض الناس يقولون ليست زيارة القبور شركا إنما الشرك هو ما
يقترن بزيارة القبور من أفعال شركيات كدعاء الأموات والتوسل والاستغاثة بهم!!
ونقول: اعلموا أن الجواب على هذا من وجهين:
(الأول): نقول لهم لماذا إذا تعممون القول وتنفرون الناس عن زيارة القبور
والنبي صلى الله عليه وسلم رغب فيها، ونرى واقعكم أيضا يخالف ما تدعونه من أن المنهي عنه
هو ما يقترن بزيارة القبور حيث نجدكم لا تذهبون لزيارتها ولا تحافظون على السنن
المأثورة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(والثاني): أن دعاء الأموات الذي معناه خطابهم وندائهم، والتوسل
بمن نقل لنا صلاحه منهم وإمامته في الدين، والاستغاثة بهم ليس كفرا ولا شركا
كما سنبين بكل وضوح واختصار بعد قليل في الكلام على القضية الثانية والثالثة
بالنصوص والبراهين والحجج والأدلة التي لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها،
لكننا ننبه هنا ونستثني فنقول:
إن من عظم أولئك الأولياء واعتقد أنهم يتصرفون في الكون وأن بيدهم الخير
والنفع أشرك وكفر وارتد، لأن حال الميت كحال الحي تماما إلا في وصف الموت
والحياة، فهم يدركون ويسمعون كما مر معنا وتقدم في آخر " فصل الإيمان بنعيم
القبر " ص () من هذا الكتاب، ومن اعتقد في إنسان حي أيضا أنه يتصرف
في الخلق وبيده الخير والشر لا على سبيل المجاز كفر وارتد.
وأما المتصوفة الذين أساءوا في هذه القضية وفي غيرها من القضايا فإليك ما
قاله الجهابذة العارفون بحالهم وحقائقهم عنهم وهو القول الفصل:
قال السيد العلامة الجهبذ محمد بن عقيل عليه رضوان الله تعالى:
" والصوفية قد خدم الإسلام صالحوهم رضي الله عنهم، ولكن المنتسبين

723
إليهم من المتصوفة والزنادقة قد أفسدوا الإسلام وأهله وعمموا عقيدة الجبر الصرف
وأخروا الإسلام بأضعاف ما قدمه ونفعه به المخلصون... ".
وقال السيد العلامة الجهبذ أبو بكر بن شهاب في " الترياق النافع شرح جمع
الجوامع " (2 / 174):
[وقال أبو بكر الدقاق: " كل حقيقة لا تتبع شريعة فهي كفر " أقول: ومن
هذا الباب دخل كثير من المتصوفة الكذابين إلى التخريق في أمور الشريعة وادعوا
أن ذلك إلهاما من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله].
وقد ذمهم أيضا العلامة تقي الدين الحصني في " كفاية الأخيار " في غير ما
موضع منها. والذي يمرض ويزعج ما نراه اليوم من إعراض كثير ممن ينسبون
أنفسهم إلى التصوف ويتخيلون أنهم من الأولياء والأصفياء عن العلم والعلماء،
حتى قال بعضهم: العلم حجاب بين العبد وربه، وقال آخرون منهم: من
اشتغل بالعلم والحديث خاصة ولم يسر على طريقتهم العرجاء النكراء محروم من
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم!! حيث يدعي هؤلاء الفسقة الفجرة أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم أو
يجتمعون به كذبا وزورا!!
ولذلك نراهم لا يلتفتون إلى تحريم الله تعالى الكذب في كتابه العزيز، ولا
إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تر " رواه البخاري
(12 / 427) وما أجمل قول الإمام عبد الرحمن الأخضري المالكي الصوفي رحمه الله تعالى
وهو تلميذ الشيخ أحمد زروق حيث يقول:
قد ادعوا من الكمال منتهى * تكل عن تحصيله أولو النهى
فزعموا أن لهم أحوالا * وأنهم قد بلغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحوال * فكونها لمثلهم محال
حاشا بساط القدس والكمال * تطؤه حوافر الجهال
واتخذوا مشايخا جهالا * لم يعرفوا الحرام والحلالا

724
فنفروهم من دعاة الدين * أولي الهدى والعلم والتمكين
فظهرت في جملة البلاد * طائفة البلع والازدراد
آه على طريقة الرجال * أفسدها طوائف الجهال
وقال آخر:
يا سائلا عن سنن الفقير * سألت ما عز عن التحرير
إن الذي سألت عنه ماتا * وصار بعد أعظما رفاتا
فطمست أعلامه تحقيقا * فلم تجد بعد لها طريقا
عاش بها القوم بخير عيشه * فصيرت من بعدهم معيشه
يدعى الذي يسير فيها سالك * وسالكوها اليوم حزب هالك
ومن عادة هؤلاء المتصوفة المنحرفين أن يحاربوا كل من أراد نصيحتهم
وإرشادهم وتصحيح ما هم عليه من الجهل والخرافات وهذا فعلهم في الماضي
والحاضر، أما الحاضر فقد شاهدنا ذلك منهم كثيرا لمن حاول تقويم طريقتهم من
السادة العلماء وأما في الماضي فعلى ذلك أمثلة كثيرة منها أن الإمام القدوة
أبو الحسن ابن ميلة المولود سنة نيف وعشرين وثلاث مائة " كان ينكر على المتشبهين
بالصوفية وغيرهم من الجهال فساد مقالاتهم في الحلول والإباحة والتشبيه، وغير
ذلك من ذميم أخلاقهم فعدلوا عنه لما دعاهم إلى الحق جهلا وعنادا ".
[أنظر " سير أعلام النبلاء " (17 / 298) و " أخبار أصبهان " (2 / 24) للحافظ
أبو نعيم].
وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
هذا ونحن نسعى ليلا نهارا لإثبات وخدمة التصوف المحرر الذي كان عليه
سلفنا الصالح المبني على الكتاب والسنة، كسعينا وحرصنا على بث الفقه
الإسلامي والعقيدة الإسلامية الصافية المحررة المبنية على نصوص الكتاب والسنة،
ولا يعني هذا أيضا أن لا نخالف من قبلنا في بعض آرائهم أو اجتهاداتهم لأن

725
الإنسان سواء كان من السابقين أو اللاحقين أو كان من السلف أو من الخلف
ليس معصوما من الخطأ ولا من الزلل!! وإنما المنزه عن الخطأ والزلل هو القرآن
الكريم وقول الرسول الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى، فافهم ذلك ولا تغفل عنه.
وكما أنه يجب أن يكون في كل عصر ومصر مجددون في الفقه والحديث والعقائد
ومغربلون لها مما قد يدخل عليها مما لا أصل له في الكتاب والسنة، فكذلك ينبغي
أن يكون في كل عصر ومصر مجددون ومغربلون للتصوف لأنه أكثر هذه الأمور
تعرضا لمن يدخل فيه ما ليس منه مما لا يمت إلى الكتاب والسنة بصلة من
الصلات، وإنما كان هو الأكثر تعرضا لدخول الخطل والزلل فيه لأن أكثر المنتمين
له في الأعصار المتأخرة قد أقفلوا عقولهم وجعلوا المشايخ في مقام العصمة وابتعدوا
عن العلم الذي بواسطته يملكون الموازين التي يميزون بها بين الغث والسمين،
ولأن نفوس أكثر المترسمين بهذا الأمر نفوس فرعونية وإن كانت صورهم في الظاهر
صور محمدية صديقية!! لكن نفوسهم تأبى النصح والنصيحة وتأنف من الاعتراف
بالحق والانصياع للشرع، لا سيما إذا كان المترسم بهذا الأمر يتمتع بجهالة
وسفسطائية، ويتخيل أنه غوث البرية، وقطب رحى الدوائر الإلهية، وغير ذلك
من الترهات المحكية، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك جمع الأموال والتلبيس على
العامة والبسطاء والغوغاء الذين تغرهم الصور والرسوم، ولا يدركون حقائق
الأمور، نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ويرزقنا
التواضع والخشية، ويجعلنا ممن يجاهد في سبيله، ويقول الحق ولا يخشى في الله
تعالى لومة لائم، ولا تقريع حاسد أو عاذل هائم، إنه سميع مجيب، وبصير
رقيب.

726
[القضية الثانية التوسل]:
التوسل هو: التوجه إلى الله تعالى في الدعاء بجاه نبي أو عبد صالح، فيقول
الداعي مخاطبا الله تعالى مثلا: اللهم بجاه نبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اغفر لي ذنوبي،
أو اللهم شفع في نبيك صلى الله عليه وسلم في قضاء حاجتي.
وهذا تقرب إلى الله تعالى وليس شركا بوجه من الوجوه، وقد جاءت به
الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فمنها:
1 - ما جاء في التوسل بالأنبياء: فعن سيدنا عثمان بن حنيف: أن رجلا أعمى
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني أصبت في بصري فادع الله لي قال:
" إذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي
محمد نبي الرحمة، يا محمد إني استشفع بك على ربي في رد بصري فشفعني في
نفسي وشفع نبيي في رد بصري وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك " رواه الترمذي
(5 / 569 برقم 3578) وقال: حسن صحيح (421).
وفي رواية صحيحة عند الطبراني وغيره أن الصحابي الجليل سيدنا عثمان بن
حنيف علم رجلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء، وقد صحح ذلك
الطبراني نفسه، (أنظر الروض الداني في تخريج المعجم الصغير للطبراني 1 / 306 - 307]. وأقره الحافظ
المنذري في " الترغيب " (1 / 476) والحافظ الهيثمي في " المجمع " (2 / 279) وغيرهما،
وأورد العلماء هذا الحديث في صلاة الحاجة ليطبقه الناس ويعملوا بما جاء به بعد



(421) وكذا رواه النسائي في السنن الكبرى (6 / 169) وابن ماجة (1 / 441) والحاكم (1 / 313
و 519 و 526)، والطبراني في المعجم الكبير (9 / 17) وصححه، وقوله فيه " وإن كانت
حاجة فافعل مثل ذلك " رواها فيه ابن أبي خيثمة في تاريخه، وأنظر إسناده في رسالة
الإمام المحدث المفيد سيدي عبد الله ابن الصديق المسماة " إرغام المبتدع الغبي بجواز
التوسل بالنبي " ص (17).
727
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل سيدنا عثمان بن حنيف [أنظر الأذكار للإمام النووي ص 282].
قال العلامة المناوي في " فيض القدير " (2 / 135):
" قال السبكي ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه ولم ينكر ذلك
أحد من السلف ولا من الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط
المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثلة انتهى ".
فكيف يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا أن يتوسل به إلى الله في
قوله في الدعاء " اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة "؟! إذا كان التوسل
شركا بالله تعالى؟! وهل يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس ما يقود إلى
الشرك؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم!!
2 - ما جاء في التوسل بالأولياء: توسل سيدنا عمر رضي الله عنه في خلافته
بسيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (2 / 494) ومن قوله
هناك: " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا
فاسقنا. قال فيسقون ".
ومن باب إلزام المخالف في هذا الأمر نقول: ذكر ابن كثير في تاريخه " البداية
والنهاية " (14 / 45) أن ابن تيمية أجاز التوسل ولم يجز الاستغاثة، قال ابن كثير
هناك: " لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثه بمعنى
العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله ".
قلت: ووقفت له على رسالة في الاستغاثة يجيزها في أمور دون أمور كما
سيأتي إن شاء الله تعالى بعد قليل.

728
[القضية الثالثة الاستغاثة]:
الاستغاثة هي أن يطلب شخص من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد موته موجها
الخطاب إليه أن يدعو الله تعالى له في جلب منفعة أو دفع مضرة أو نحو ذلك،
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم هو والأنبياء والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأن الأموات
يسمعون كما تقدم.
ومثال الاستغاثة المشروعة أن يقول شخص وقف على قبر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: يا رسول الله أدع الله تعالى أن يغفر لي.
ودليلها أحاديث كثيرة، منها ما يثبت الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في حياته، ومنها
ما يثبتها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيما فعله بعض الصحابة وأقره الباقون منهم دون نكير حتى
من كبارهم رضي الله عنهم.
فما جاء في حياته: ما رواه البخاري (2 / 501) عن سيدنا أنس قال:
إن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب،
فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال:
يا رسول الله: هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا (أي
يمطرنا).
قال سيدنا أنس: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: " اللهم اسقنا، اللهم
اسقنا، اللهم اسقنا ".
قال سيدنا أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا،
وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس
ثم انتشرت، ثم أمطرت..
قلت: هذا الرجل أصيب ماله بالهلاك وجاء مستغيثا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو

729
الله في أن يمطرهم، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك أن تدعو الله أنت لأن الله
يقول: (وإذا سالك عبادي عني فإني قريب) أو (وقال ربكم ادعوني
استجيب لكم) بل دعا له فأجيب.
وفي البخاري (3 / 338) في حديث الشفاعة أن الخلق يوم القيامة:
" بينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضى بين
الخلق... ".
فدل ذلك على أن الاستغاثة ليست شركا ولا كفرا.
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: فقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (2 / 495):
[روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي صالح السمان عن مالك الدار
وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط شديد في زمن عمر فجاء رجل إلى
قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا.
فأتي الرجل في المنام فقيل له: " ائت عمر وأقرئه السلام وأخبره أنهم
يسقون " (422)].
قلت: حصل هذا الفعل في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه بمحضر من
الصحابة ومعرفتهم مع سيدنا عمر فلم ينكروا عليه، أي فأقروه، فدل على إجماع
سكوتي منهم رضي الله تعالى عنهم.
ولنا رسالة في هذه المسألة أسميناها " الإغاثة بأدلة الاستغاثة " فلتراجع.
قال الإمام النووي أيضا في المجموع (8 / 274) مبينا ما يستحب أن يقوله من
يزور النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقف أمام القبر الشريف مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما نصه:



(422) وقد حاول بعضهم عبثا أن يضعف هذا الأثر، ورددت عليه مفندا ما قال في مقدمة
" إرغام المبتدع " ص (7 - 9) فارجع إليه إن شئت.
730
[ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما
يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا - يعني سائر الشافعية
- عن العتبي مستحسنين له قال:
كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال:
السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله ترابا رحيما) وقد جئتك
مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي...] ا ه‍ كلام النووي.
فانظر رحمك الله تعالى وهداك كيف استحسن العلماء ومنهم الإمام النووي
هذه الصيغة في نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب العفو وأن يستغفر الله له، ونحن لا نفعل
إلا ذلك ولا نستحب إلا هذا، ولا نزيد على ما ورد في الأحاديث المتقدمة أو ما
جاء عن العلماء الكبار في العلم!! ولا نعتقد في المخلوقين أنهم يرزقون بذاتهم
أو يحيون ويميتون، فالله تعالى بين لنا في كتابه أن إسناد الفعل لغيره على طريق
المجاز ليس شركا ولكن ماذا نصنع بمن لا يدرك المجاز وينكره أشد الإنكار، قال
تعالى في شأن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام:
(وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون
وتدخرون في بيوتكم) آل عمران: 49.
فلو قال شخص إن سيدنا عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه
والأبرص، لم يكن كافرا، مع أن الله تعالى هو محيي الموتى حقيقة وهو الذي يبرئ
الأكمه والأبرص، وكلنا يعتقد أن التأثير لله لا لسيدنا عيسى عليه الصلاة
والسلام، وكذلك إذا استغاث رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم راجيا أن يدعو الله له في
تفريج مصيبته أو كربه معتقدا أنه حي في قبره يبلغه سلام أمته أينما كانوا وتعرض
عليه أعمالهم، لم يكن ذلك شركا عند من تجرد من العصبية واتقى الله تعالى،

731
بل سيتحقق أن ذلك سنة وردت بها الأحاديث الصحيحة ونص عليها علماء الأمة
الثقات من السلف والمحدثين.
ومن باب قولهم من فمك ندينك نقول: قال ابن تيمية في " مجموعة الرسائل
الكبرى " (1 / 485) وذلك في رسالة " الاستغاثة " ما نصه:
" والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع
فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وأما
مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضا مما يجب نفيها،
ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي
يكفر تاركها ".
فتأمل!! وهذا موافق لما قررناه.
وأما حديث: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى " رواه أحمد
(5 / 317) والطبراني كما في " المجمع " (8 / 40) ففي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف عن
غير العبادلة، فلا يصح الاحتجاج به.
فتبين بذلك أن الاستغاثة ليست شركا ولا كفرا بالله تعالى وقد وردت بجوازها
الأحاديث الصحيحة، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.

732
[القضية الرابعة الرقي]:
قال صاحب القاموس: " الرقية بالضم العوذة وجمعها وقى ".
قلت: وهي أن يقرأ الإنسان على نفسه أو على غيره آيات من القرآن أو
بعض الأدعية المأثورة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن سيدنا سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: مررنا بسيل فدخلت
فاغتسلت فيه فخرجت محموما فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" مروا أبا ثابت يتعوذ " فقلت: يا سيدي والرقى صالحة؟ فقال:
" لا رقى إلا في نفس أو حمة أو لدغة " (423).
قلت: الصواب هنا في " حمة " هي " حمى " وهي السخونة في الجسم.
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت:
" قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الرقية: بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا،
يشفى سقيمنا بإذن ربنا " رواه البخاري (10 / 206) ومسلم (4 / 1724) والحاكم في
المستدرك (4 / 412).
وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي. فجاء آل عمرو بن حزم
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من
العقرب. وإنك نهيت عن الرقي. قال فعرضوها عليه، فقال:
" ما أرى بأسا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " رواه مسلم
(4 / 1727).
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال:
كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا يا رسول الله: كيف ترى في ذلك: فقال:



(423) رواه الحاكم (4 / 413) واللفظ له، وأحمد (3 / 413)، وأبو داود (2 / 154) وهو صحيح،
وأنظر تحقيق ذلك في كتابنا التناقضات الواضحات (2 / 72 - 76).
733
" اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " رواه مسلم
(4 / 1727).
وعن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن
والحسين ويقول:
" إن أباكما - يعني سيدنا إبراهيم - كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحق: أعيذكما
بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " رواه البخاري
(6 / 408).
والهامة واحدة الهوام من ذوات السموم، واللامة: قال الخطابي: المراد به
كل داء وآفة تلم بالانسان من جنون وخبل.
والرقى المذمومة هي كما قال الإمام النووي في " شرح مسلم " (14 / 196):
" هي التي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتي بغير العربية، وما لا يعرف
معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقي
بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة ".
قلت: ويدخل في الرقي المحرمة ما تحققنا أنها تحوي كلمات كفرية شركية
من باب أولى.
وإذا رقى الإنسان نفسه أو غيره بالقرآن أو بالأذكار فيسن أن ينفث (أي
ينفخ) على كفيه فيمسح بهما وجهه وما أقبل من بدنه أو على موضع الألم أو الداء
وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، ففي صحيح البخاري (10 / 195) عن
السيدة عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه
بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها ".
وبهذا يتبين بأن الرقي أمر مسنون مأثور عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
وليست من الشرك في شئ إلا أن تكون بكلمات كفرية فتكون حراما وشركا.

734
وأما الرقي بكلمات لا يدرى معناها وقد خربت منفعتها ففيها خلاف بين أهل
العلم الراجح عندنا حسب الأحاديث التي تقدمت جوازها للأحاديث التي مرت
والتي منها " إعرضوا علي، رقاكم.. " لكن إن ظهر منها ما يوهم كفرا أو شركا
كانت محرمة لا تجوز بحال ويجب أن يعتقد الراقي والمرقي بأن النفع والضر من
الله لا من ذات الكلمات المقروءة أو المكتوبة، وتجوز الرقي بالكتابة وبالقراءة،
ولا ضير في ذلك والله الموفق.

735
[القضية الخامسة: التمائم والتولة والودعة]:
روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الرقي والتمائم والتولة شرك " (424).
قال الشيخ العلامة المناوي في شرح هذا الحديث في " فيض القدير " (2 / 342):
[(إن الرقي) أي التي يفهم معناها إلا التعوذ بالقرآن ونحوه فإنه محمود ممدوح
(والتمائم) جمع تميمة وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين
توسعوا فيها فسموا بها كل عوذة (والتولة) بكسر التاء وفتح الواو كعنبة ما يحبب
المرأة إلى الرجل من السحر (شرك) أي من الشرك سماها شركا لأن المتعارف منها
في عهده ما كان معهودا في الجاهلية وكان مشتملا على ما يتضمن الشرك، أو لأن
اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك ذكره القاضي، وقال الطيبي
رحمه الله المراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير وذلك ينافي التوكل
والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، لأن العرب
كانت تعتقد تأثيرها وتقصد بها دفع المقادير المكتوبة عليهم فطلبوا دفع الأذى من
غير الله تعالى وهكذا كان اعتقاد الجاهلية فلا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله
وكلامه ولا من علقها تبركا بذكر الله عالما أنه لا كاشف إلا الله فلا بأس به]
انتهى.
قلت: وهو كلام حسن جيد نفيس.
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " وهو



(424) رواه أحمد (1 / 381) وأبو داود (4 / 9) وابن ماجة (2 / 1167) وابن حبان (13 / 456) والحاكم
(4 / 217 و 418) وهو صحيح.
736
حديث ضعيف مع صحة معناه (425).
وهناك خرزة تسميها العرب أخذة كانوا يعتقدون أنها تجعل الإنسان لا يحب
إنسانا آخر معين أو تفرق بين الزوجين أو تجعل الرجل أو المرأة لا يتزوجان، قال
صاحب المثلثات:
ومرة الأخذ تسبمى أخذه * وحفرة كالحوض تلك إخذه
والسحر في منع النكاح أخذه * خرزة تمنع حب الغير
ومما يجدر التنبيه عليه هنا مما يدخل في التمائم المحرمة المنهي عنها تعليق حذوة
حصان أو تمثالها في البيت أو السيارة، وكذلك تعليق الحذاء على السيارة، وكذلك
الخرزة الزرقاء، فكل ذلك منهي عنه في الشرع ومحرم، إلا إذا وجدت خرزة زرقاء
مثلا في عقد أو شئ آخر بقصد الزينة لا بقصد دفع الحسد والعين، وليتعود
الإنسان كل يوم على التعوذ بشئ من القرآن والذكر كسورتي المعوذتين وغيرهما مما
مر في الرقي وكذلك يعوذ أهله وأولاده وغيرهم بذلك، والله الموفق.



(425) رواه أحمد (4 / 154) وأبو يعلى (3 / 296) وابن حبان (13 / 450)) والحاكم (4 / 216) والبيهقي
(9 / 350) والطبراني (17 / 297) والطحاوي في " معاني الآثار " (4 / 325) وغيرهم من طريق
خالد بن عبيد المعافري ولم يوثقه إلا ابن حبان كما لم يرو عنه إلا حياة بن شريح،
ورواه خالد هذا عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر ومشرح ناصبي وهو علة
الحديث حقيقة وأحاديثه عن عقبة مناكير، قال الحافظ ابن حبان في كتاب
" المجروحين " (3 / 28): " مشرح بن هاعان يروي عن عقبة بن عامر، أحاديث
مناكير لا يتابع عليها.. والصواب في أمره ترك ما انفرد من الروايات والاعتبار بما وافق
الثقات " وقال الذهبي في " تاريخ الإسلام " (7 / 470): " كان على المنجنيق الذي رمى
به الكعبة " في جيش الحجاج اللعين الملعون الكافر.
والحجاج كافر مرتد عن دين الإسلام كما صرح بذلك جماعة من أئمة السلف كما ذكر
الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2 / 185) وممن صرح بكفره هناك: سعيد بن
جبير والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي، فلا تغفل عن هذا الأمر في
هذا اللعين، ويحاول النواصب بين الحين والآخر إظهاره بمظهر حسن ويدعون بأنه
مظلوم ومفترى عليه فلا حياهم الله ولا بياهم.
737
[القضية السادسة النشرة]:
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (10 / 233): " قال ابن الجوزي: النشرة
حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر. وقد سئل
أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال: لا بأس به. وهذا هو المعتمد.
ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله " النشرة من عمل الشيطان " إشارة إلى
أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيرا كان خيرا وإلا فهو شر،
ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية
والتعويذ، ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين ".
وقال البخاري في صحيحه (10 / 232):
[باب هل يستخرج السحر؟ وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل
به طب (أي سخر) أو يؤخذ عن امرأته أيحل أو ينشر؟ قال: لا بأس به،
إنما يريدون الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه].
قال الحافظ ابن حجر هناك:
[وصله أبو بكر الأثرم في " كتاب السنن ".. عن قتادة (أي سأل سعيدا)
بلفظ (هل): " يلتمس من يداويه، فقال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه
عما ينفع " وأخرجه الطبري في " التهذيب "، من طريق يزيد بن زريع عن قتادة
عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى
من يطلق عنه فقال: هو صلاح. قال قتادة: وكان الحسن يكره ذلك يقول:
لا يعلم ذلك إلا ساحر قال: فقال سعيد بن المسيب: إنما نهى الله عما يضر
ولم ينه عما ينفع. وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن الحسن رفعه " النشرة من
عمل الشيطان " ووصله أحمد وأبو داود بسند حسن عن جابر].

738
[القضية السابعة التطير أو الطيرة:
التطير هو التشاؤم من الشئ، قال تعالى (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا
لنرجمنكم) وقال تعالى عن ثمود لما قالوا لسيدنا صالح عليه السلام (قالوا اطيرنا
بك وبمن معك، قال طائركم عند الله، بل أنتم قوم تفتنون) النمل: 47.
وقال سبحانه عن بني إسرائيل: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن
تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم
لا يعلمون) الأعراف: 131.
بين الله سبحانه وتعالى أن التشاؤم من عادات المشركين الذين كانوا يتشاءمون
من أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين الذين يدعونهم للإيمان والهداية ولما
فيه مصلحتهم وطاعة خالقهم فيأبون ويقولون إنا تشاءمنا منكم، فرد الله سبحانه
وتعالى عليهم بقوله (ألا إنما طائرهم عند الله) أي الضر الذي أصابكم ليس
من عند من تتشاءمون بهم من الأنبياء والصالحين وإنما هو من الله لأنه سبحانه
وتعالى هو الضار والنافع وهو الذي يأتيكم بالعذاب حيث اتهمتم الرسل والصالحين
من عباده بأنهم مشؤومون.
وأصل الطيرة أن العرب كانوا في جاهليتهم إذا أراد الرجل منهم أن يفعل شيئا
ذهب إلى مكامن الطير وطيرها من أماكنها فإذا طارت لجهة اليمين فعل ذلك
الأمر الذي عزم عليه وإن طارت فذهبت إلى جهة الشمال لم يفعل.
وفي صحيح مسلم (4 / 1746) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا عدوي ولا طيرة وأحب الفال الصالح ".
وعن سيدنا ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كان يتفاءل ولا يتطير، وكان يحب الاسم الحسن " (426).



(426) رواه أحمد (1 / 257) والطيالسي (2690) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف،
وقد روى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه (13 / 140) وسقط من إسناده ليث هذا
والراوي عنه وهو جرير لا تعرف له رواية عن عبد الملك بن سعيد شيخ ليث!! فلم
يعرف ذلك متناقض عصرنا!! لذا صححه في صحيحته (2 / 421) فأخطأ جدا!!
739
قال الشيخ العلامة المناوي في " فيض القدير " (5 / 202) شارحا هذا الحديث:
" (كان يتفاءل) بالهمز أي إذا سمع كلمة حسنة تأولها على معنى يوافقها
(ولا يتطير) أي لا يتشاءم بشئ كما كانت الجاهلية تفعله من تفريق الطير من
أماكنها فإن ذهبت إلى الشمال تشاءموا وذلك لأن من تفاءل فقد فهم خيرا وإن
غلط في جهة الرجاء ومن تطير فقد أساء الظن بربه (وكان يحب الاسم الحسن)
وليس هو من معاني التطير بل هو كراهة الكلمة القبيحة نفسها لا لخوف وراءها
كرجل سمع لفظ خنا فكرهه وإن لم يخف على نفسه منه شيئا ذكره الحليمي " ا ه‍.
أقول: ويستحب لمن تطير من شئ أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا
طير إلا طيرك ولا إله غيرك.
فقد ورد هذا في حديث رواه أحمد في المسند (2 / 220) بسند فيه ضعف. ويعمل
به في الفضائل.
وأما حديث الصحيحين: " لا عدوي ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة:
في المرأة والدار والفرس ". البخاري (10 / 212) ومسلم (7 / 1744) من حديث ابن عمر
فغير مسلم ولا يصح على التحقيق من وجوه:
(الأول): أن السيدة عائشة أنكرت هذا وإليك ذلك:
روى أبو داود الطيالسي (ص 215) عن مكحول قيل لعائشة إن أبا هريرة يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس " فقالت عائشة:
لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قاتل الله اليهود يقولون إن الشؤم
في ثلاث في الدار والمرأة والفرس سمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
وقال الحافظ في " الفتح " (6 / 61):

740
[وروى أحمد وابن خزيمة والحكم من طريق قتادة عن أبي حسان: أن
رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة في الفرس والمرأة والدار " فغضبت غضبا شديدا وقالت: ما
قاله! وإنما قال: " إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك "].
(الوجه الثاني): الأصل في ذلك أنه لا طيرة في الإسلام من شئ، وإنما المشؤوم
العمل السئ الطالح الذي يجر صاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى، قال الله
تعالى: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم
قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) يس: 19، وجاء في الحديث
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة شرك " (427) لذلك ردت السيدة عائشة رضي
الله عنها ذلك، وظهر لنا بردها أن الراوي لخبر الآحاد ولو كان في أعلى مراتب
التوثيق كأبي هريرة الصحابي رضي الله عنه فإن خبره يفيد الظن ولا يفيد العلم
بجواز خطئه وغير ذلك، ولذلك جاز رده خلافا للآية والخبر المتواتر.



(427) رواه أبو داود (4 / 17)، والترمذي (4 / 161)، وابن حبان (13 / 491)، وغيرهم، وهو
صحيح.
741
[القضية الثامنة الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى]:
يظن بعض الناس في هذه الأيام أن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ولو في
قضية واحدة كفر وشرك وخروج عن الملة وليس الأمر كذلك بل في المسألة تفصيل
وهو:
أن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى وهو يعتقد بأن الأحكام الوضعية أفضل
من أحكام الله تعالى أو تساوي حكم الله تعالى كان كافرا مرتدا.
وأما من حكم بغير ما أنزل الله تعالى وهو يعتقد بأن حكم الله تعالى هو
الأفضل! مستشعرا أنه عاص مذنب فيما قام به فهو معصية وفسق وليس كفرا،
وهذا مثل من يشرب الخمر أو يزني مثلا فإن كان مستحلا لذلك فهو كافر وإن
كان معتقدا أنه مخالف لأمر الله تعالى وعاص بفعله فهو فاسق وليس كافرا،
وتقدمت القاعدة المعروفة عند أهل السنة والجماعة أننا لا نكفر أحدا من أهل
القبلة بذنب ما لم يستحله، فإن استحله كفرناه.
وعلى هذا التفصيل يحمل قوله جل وعز في آية (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون) المائدة: 44 وفي آية أخرى (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون) المائدة: 47 وفي آية ثالثة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الظالمون) المائدة: 45.
قال الإمام القرطبي في " أحكام القرآن " (6 / 190):
[قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
و " الظالمون " و " الفاسقون " نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم
من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن
ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار، أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن،
وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد،
فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم

742
بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من
فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى
إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له] انتهى.
خاتمة لموضوع الشرك
والغريب العجيب أننا نرى في هذه الأيام أن بعض الناس يرمون من يقوم
ببعض الأمور الجائزة بالشرك والكفر بدون إدراك وتمييز، ويتركون الشرك والكفر
الحقيقي فلا يبينونه بل يستحبونه ويدعون الناس إليه!!
فمثلا نرى من يتهم زائري الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله
وسلم الذين يستقبلون الحجرة المشرفة ويدعون الله تعالى رافعين أيديهم بأنهم
مشركون، ويتركون من يدعو إلى تجسيم الله تعالى وتشبيهه بخلقه يكتب ويصنف
ويدرس دون أن يبينوا كفره وارتداده وضلاله وإلحاده!! ولا أدل على ذلك من
سكوتهم على من صنف كتاب " عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة
الرحمن " بل تقريظهم لكتابه وإقرارهم له في هذيانه!! ولله في خلقه شؤون!!

743
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى وهي
درجة الراسخين في العلم. فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا ونحن براء
إلى الله من كل ما خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على
الإيمان ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب
الردية مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين
خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة ونحن منهم براء وهم عندنا ضلال
وأردياء، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به،
وبالله العصمة والتوفيق).
الشرح:
معنى كلام المصنف: أن ما هو مذكور هنا سواء كان من أصول العقيدة
أو من فروعها المختلف فيها يجب على كل مسلم عاقل بالغ أن يعتقده إن كان
أصلا وأن يتمسك بالصحيح الراجح إن كان فرعا، وهذه المسائل إذا تعلمها
المسلم وعرفها كان من عباد الله المؤمنين الذين نور الله عقولهم وقلوبهم بنور الإيمان
والإسلام، ولا يمكن أن يمسى الإنسان منور القلب قبل معرفته بعقيدته لأن
الجهل ظلمات والعلم نور.
ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن ذلك، أي الجزم بعقيدة أهل الحق يوجب
الولاء والبراء، أي مولاة أهل الحق المنزهين والتبري من أهل الكفر والالحاد
والمبتدعين، ثم مثل على أهل البدعة بطوائف أصاب في بعضها ولم يصب في
البعض الآخر فقوله المشبهة والجهمية والجبرية والقدرية أصاب في التمثيل بها،
وأما المعتزلة فلم يصب لأنهم لا يخالفون المذهب الحق في أصول الاعتقاد وإنما

744
يخالفون أهل السنة في مسائل فرعية والصواب فيها أحيانا بجانبهم كما تقدم شرح
ذلك في فصول مختلفة من هذا الكتاب، فنحن نعتقد ضلال المشبهة والمجسمة
والكرامية وغيرهم ولا نرى ضلال المعتزلة والإباضية والزيدية والشيعة مع أنه يوجد
في كل طائفة من هذه الطوائف مغالبون شاذون كما يوجد ذلك في أهل السنة أيضا
فلا التفات لهم ولا تعويل عليهم، والله تعالى الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

745
متن العقيدة الطحاوية
ملاحظة
وضعنا كل فقرة في المتن بين قوسين وذكرنا بعدنا مباشرة وقبل
إقفال القوس الثاني موضعها في الشرح ببيان رقم الصحيفة
نحو المثال التالي:
[قديم بلا ابتداء 253]
فعبارة (قدير بلا ابتداء) مشروحة أو موجودة في هذا الشرح
صحيفة 253 وما بعدها، فهذا نوع من أنواع الفهرسة أيضا.

747
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي
حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم
الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم
أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين.
[نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله 39:]
[إن الله واحد لا شريك له 235]، [ولا شئ مثله 259]،
[ولا شئ يعجزه 266]، [ولا إله غيره 235]، [قديم بلا ابتداء
253]، [دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد 255]، [ولا يكون إلا ما
يريد 266]، [لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام 259]
، [حي لا يموت 282]، [قيوم لا ينام 257]، [خالق بلا حاجة
261]، [رازق بلا مؤنة 264]، [مميت بلا مخافة 462]، [باعث بلا
مشقة 266 و 523]، [ما زال بصفاته قديما قبل خلقه 253]، [لم يزدد
بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته 258]، [وكما كان بصفاته أزليا
كذلك لا يزال عليها أبديا 255].
[ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد
اسم الباري 261]، [له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا
مخلوق 253 و 254]، [وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيى استحق هذا
الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم 261]،
[ذلك بأنه على كل شئ قدير 266]، [وكل شئ إليه فقير 258]،

749
[وكل أمر عليه يسير 266]، [لا يحتاج إلى شئ 258]. [(ليس
كمثله شئ وهو السميع البصير) 259 و 282].
[خلق الخلق بعلمه 279]، [وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا
264]، [ولم يخف عليه شئ قبل أن يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن
يخلقهم 279]، [وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وكل شئ يجري
بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء
لهم كان وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل
من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله
266].
[وهو متعال عن الأضداد والأنداد 259]، [لا راد لقضائه، ولا
معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده
266].
[وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وأنه
خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين 413]،
[وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى 685]، [(وهو المبعوث إلى عامة
الجن 446] وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضيا 413].
[وأن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله
وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى
بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد
كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى (سأصليه

750
سقر) فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (إن هذا إلا قول البشر) علمنا
وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر 285].
[ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا
اعتبر وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر 301 و
673].
[والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا
(وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) وتفسيره على ما أراده الله تعالى
وعلمه 582]، [وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول
صل الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك
متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله
عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى
عالمه 167].
[ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم
ما حظر علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد
وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيتذبذب يبن الكفر والإيمان والتصديق
والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا ولا
جاحدا مكذبا 123].
[ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم،
أو تأولها بفهم 582]، [إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف
إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين 147]،

751
[ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه 352]، [فإن ربنا
جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في
معناه أحد من البرية، تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء
والأدوات، (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات 247) 307].
[والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه
في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما
شاء، وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) فصلى الله عليه
وسلم في الآخرة والأولى 595].
[والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته حق 562]،
[والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار 570]، [والميثاق
الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق 606]، [وقد علم الله تعالى
فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا
يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن
يفعلوه 279]، [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد
من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، وأصل القدر سر الله
تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق
والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل
الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن
أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه (لا يسئل عما يفعل
وهم يسألون) فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم

752
الكتاب كان من الكافرين 266].
[فهذا جملة ما محتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى
وهي درجة الراسخين في العلم 744]، [لأن العلم علمان: علم في الخلق
موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم
المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم
المفقود 673].
[ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم 428]، [فلو اجتمع
الخلق كلهم على شئ كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم
يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شئ لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه
كائنا لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ
العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلى العبد أن يعلم أن
الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما،
ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه
في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف
بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه (وخلق كل شئ
فقدره تقديرا) وقال تعالى (وكان أمر الله قدرا مقدورا)، فويل لمن
صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما، لقد التمس
بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما 267].
(والعرش والكرسي حق، [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط
بكل شئ وبما فوقه 428)، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه 307].

753
[ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم الله موسى تكليما، إيمانا
وتصديقا وتسليما، (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على
المرسلين 444)، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين 391].
[ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله
عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين، (ولا نخوض في الله
، ولا نماري في دين الله 673 و 698) 706]، [ولا نجادل في القرآن،
ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين
محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شئ من كلام
المخلوقين ولا نقول بخلقه 285].
(ولا نخالف جماعة المسلمين 183]، [ولا نكفر أحدا من أهل القبلة
بذنب، ما لم يستحله 706]، [ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله
، (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته،
ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا
نقنطهم 570) 458]، [والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل
الحق بينهما لأهل القبلة 673]، [ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما
أدخله فيه 673].
[والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وأن جميع ما أنزل
الله في القرآن وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الشرع والبيان كله حق، (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء،
والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى، وملازمة

754
الأولى 96) 39]، [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند
الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن 615]، [والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى
، ونحن مؤمنون بذلك كله 39]، [لا نفرق بين أحد من رسله ونصدقهم
كلهم على ما جاؤوا به 391].
[وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون
إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين
مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفى عنهم بفضله،
كما ذكر عز وجل في كتابه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء
عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل
طاعته ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ولم
يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من
ولايته 580]، [اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك
به 744].
[ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات
منهم 635]، [ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر
ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شئ من ذلك، ونذر سرائر هم إلى
الله تعالى 673]، [ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله
عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف، ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة
أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونوى

755
طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم
بالصلاح والمعافاة 635]، [(ونتبع السنة 121) والجماعة، ونجتنب
الشذوذ والخلاف والفرقة 183]، [ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض
أهل الجور والخيانة 644]، [ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا
علمه 167]، [ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في
الأثر 646].
[والحج والجهاد. ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى
قيام الساعة لا يبطلهما شئ ولا ينقضهما 647]، [ونؤمن بالكرام
الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين، ونؤمن بملك الموت الموكل
بقبض أرواح العالمين 377]، [وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال
منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر
روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران 458].
[ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض، والحساب،
وقراءة الكتاب، والثواب، والعقاب، (والصراط 539)، (والميزان
536)، [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان 523]، وأن
الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا، فمن شاء منهم
إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه 578]، [وكل
يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على
العباد، والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن

756
يوصف المخلوق به فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة
والوسع، والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب،
هو كما قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
(وأفعال العباد هي بخلق الله وكسب من العباد 275)، ولم يكلفهم
الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ما كلفهم وهو تفسير: لا حول
ولا قوة إلا بالله، نقول لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد
عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات
عليها إلا بتوفيق الله، وكل شئ يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه
وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما
يشاء وهو غير ظالم أبدا 267]، [تقدس عن كل سوء وحين، وتنزه عن
كل عيب وشين، (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) 301].
[وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات 500]، [والله تعالى
يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات 278]، [ويملك كل شئ ولا يملكه
شئ، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين 258]، [ومن استغنى عن الله
طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين 673]، [والله يغضب ويرضى
لا كأحد من الورى 295].
[ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب
أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير
يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر
ونفاق وطغيان.

757
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه، تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون، وأن العشرة
الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم
بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق وهم:
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد،
وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة ابن الجراح وهو أمين هذه الأمة،
رضي الله عنهم أجمعين 650]، [ومن أحسن القول في أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين
من كل رجس فقد برئ من النفاق 653]، [وعلماء السلف من السابقين
ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون
إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل 669].
(ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام،
ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء، ونؤمن بما جاء من كراماتهم
وصح عن الثقات من رواياتهم 615].
[ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم
عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة
الأرض من موضعها 505]، [ولا نصدق كاهنا ولا عرافا 452]، [ولا
من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة 711]، [ونرى

758
الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا 623]، [ودين الله في الأرض
والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى (إن الدين عند الله
الإسلام) وقال تعالى (ورضيت لكم الإسلام دينا) 100]، [وهو بين
الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل 301]، [وبين الجبر والقدر،
وبين الأمن والإياس 267].
[فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا، ونحن براء إلى الله من كل من
خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم
لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية،
مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا
السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال
وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق 744].

759