علماء المسلمين و الوهابيون
عبدالوهاب شعراني
نسخه متنی
نمايش فراداده
الكتاب: علماء المسلمين والوهابيون
المؤلف: عبد الوهاب الشعراني المصري
الجزء:
الوفاة: 973
المجموعة: ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: قد اعتنى بطبعه طبعة جديدة بالأوفست / حسين حلمي بن سعيد استانبولي / HAKIKAT KITABEVI / A / Darussefaka Cad No 57 / Pk 35 56 45 523 : Tel / ( ISTANBUL - Fatih ) / ( Turkey - 1984 )
علماء المسلمين
والوهابيون
قد اعتنى بطبعه طبعة جديدة بالأوفست
حسين حلمي بن سعيد استانبولي
HAKIKAT KITABEVI
A / Darussefaka Cad No 57
Pk 35 56 45 523: Tel
(ISTANBUL - Fatih)
(TURKEY -) 1984 -
تعريف الكتاب 1
هذا الكتاب " علماء المسلمين " يتشكل من المقالات المنتخبة
من الكتب الخمسة المشهورة. وقد كانت مكتبة ايشيق طبعت
هذا الكتاب للمرة الأولى سنة 1976 م والآن تكرر طبعه
وأسماء الكتب الخمس كالآتي:
1 - مقدمة كتاب الفقه المشهور " الميزان الكبرى "
للعلامة عبد الوهاب الشعراني ويتكون من سبعة وسبعين صفحة
ويذكر فيه المؤلف بوجوب اقتداء أحد المذاهب الأربعة.
2 - المجموعة المنتخبة من كتاب " شواهد الحق " للشيخ
يوسف النبهاني وعبارة من ستة وخمسين صفحة، ويذكر في هذه
المنخبات بأن أفكار وعقيدة ابن تيمية وأمثاله من الفساق كالوهابية
باطلة وغير سليمة وأنهم يريدون هدم الدين من الداخل
3 - " عقائد النسفية " وهذا الكتاب ذو قيمة عظيمة في نظر
علماء أهل السنة والجماعة، لأن الكتاب يشرح المبادئ الأساسية
للإيمان. وهو 2 / 41 أربعة صحيفة ونصف صفحة.
4 - خمسة صفحة مترجمة من اللغة العربية للمكتوب الخامس
والخمسين من مجلد الثاني لكتاب " المكتوبات " لرائد الأئمة
وصفوة الأصفياء الإمام الرباني أحمد الفاروقي " قدس سره " ويقول
فيه: الأوامر والنواهي للأمم السابقة موجودة بالقرآن العظيم،
والأئمة الأربعة شرحوا أدلة مذاهبهم مستندا للقرآن الكريم،
ولو أخطأوا عند تفسيرهم وللمقتدى أجر واحد، لم يبق في القرآن
أي أمر أو ناه إلا واحتوته المذاهب الأربعة وثلاثة أرباعهم في
المذهب الحنفي.
5 - رسالة مولانا خالد البغدادي المتوفى بالشام سنة 1242 ه
1826 م وهي 16 صفحة. والرسالة كتبت بخط اليد، يد العلامة
حسين حلمي ايشيق، وهي تشرح التصوف.
هجري قمري * هجري شمسي * ميلادي
1404 * 1362 * 1984
علماء المسلمين والوهابيون
هذه الأوراق انتخبتها من الكتب الخمسة المشهورة
الأولى، ميزان الكبرى لعبد الوهاب الشعراني المصري توفي في سنة 973 ثلاث
وسبعين وتسعمائة هجرية و 1565 ميلادية.
والثانية، شواهد الحق ليوسف بن إسماعيل النبهاني ولد في حيفا سنة 1265
هجرية و 1849 ميلادية وتوفي في بيروت سنة 1350 هجرية و 1926 ميلادية
والثالثة، العقائد النسفي لنجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي الفقيه الحنفي
ولد سنة 461 وتوفي بسمرقند سنة 537 هجري
والرابعة، من معرب المكتوبات الإمام الرباني للإمام العالم الرباني المجدد للألف
الثاني شيخ أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي الحنفي النقشبندي ولد سنة 971
هجرية و 1563 ميلادية وتوفي سنة 1034 أربع وثلاثين وألف من الهجرة
النبوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية وسنة 1625 ميلادية قال العالم
العامل وولي الكامل والمجدد القرن الرابع عشرة ومتوفى سنة 1363 وثلاث
وستين وثلاثمائة وألف بشهر أنقرة في تركية السيد عبد الحكيم ابن المصطفى الآرواسي
قدس روحه السامي في كتابه المسمى (أصحاب الكرام): أفضل الكتب الإسلامية
بعد كتاب الله تعالى وبعد أحاديث النبوية مكتوبات للإمام الرباني لا مثل له في
الأقطار الجهاني
والخامسة رسالة في تحقيق الرابطة لمولانا وسيدنا قدوة المحققين غوث الثقلين
حضرت ضياء الدين خالد بغدادي ولد سنة 1193 بشهر سليمانية قريب بغداد فرحل
سنة إلى جهان آباد يعني دهلي أخذ الطريقة النقشبندية من حضرت عبد الله دهلوي
وبشره شيخه ببشارات كثيفة تحققت بالعيان فلم تكمل عليه السنة حتى صار الفرد
الكامل وأجازه شيخه بالإرشاد حتى وصل السليمانية ثم دخل من وطنه إلى بغداد
مشتغلا بنشر العلم والإرشاد ثم ارتحل من بغداد إلى الشام واستوطن دمشق سنة
1238 ناشرا للعلم والفضائل والحكم فيها إلى أن لقي ربه وتوفاه شهيدا بالطاعون
سنة 1242 هجري و 1826 ميلادي ودفن رحمه الله تعالى في صالحية دمشق
(تنبيه)
من أراد أن يطبع هذه الرسالة وحدها أو يترجمها إلى لغة أخرى فله من الله الأجر الجزيل ومني
الشكر الجميل وكذلك جميع كتبي كل مسلم مأذون بطبعها بشرط جودة الورق والتصحيح
1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الشريعة المطهرة بحرا يتفرع منه جميع بحار العلوم النافعة والخلجان *
وأجرى جداوله على أرض القلوب حتى روى منها قلب القاصي من حيث التقليد لعلمائها
والدان * ومن على من شاء من عباده المختصين بالإشراف على ينبوع الشريعة المطهرة
وجميع أحاديثها وآثارها المنتشرة في البلدان * واطلعه الله من طريق كشفه على عين
الشريعة الأولى التي يتفرع منها كل قول في سائر الأدوار والأزمان * فأقر جميع أقوال
المجتهدين ومقلديهم بحق حين رأى اتصالها بعين الشريعة من طريق الكشف والعيان
وشارك جميع المجتهدين في اغترافهم من عين الشريعة الكبرى وإن تقاصر عنهم في النظر
وتأخر عنهم في الأزمان * فإن الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها
كالفروع والأغصان * فلا يوجد لنا فرع من غير أصل ولا ثمرة من غير غصن كما لا يوجد أبنية
من غير جدران * وقد أجمع أهل الكشف على أن كل من أخرج قولا من أقوال علماء
الشريعة عنها فإنما ذلك لقصوره عن درجة العرفان * فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد أمن علماء أمته على شريعته بقوله العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان * ومحال من
المعصوم أن يؤمن على شريعته خوان * وأجمعوا أيضا على أنه لا يسمى أحد عالما إلا أن بحث
عن منازع أقوال العلماء وعرف من أين أخذوها من الكتاب والسنة لا من ردها بطريق
الجهل والعدوان * وإن كل من رد قولا من أقوال علمائها وأخرجه عنها فكأنه ينادي على
2
نفسه بالجهل ويقول ألا اشهدوا أني جاهل بدليل هذا القول من السنة والقرآن * عكس
من قبل أقوالهم ومقلديهم وأقام لهم الدليل والبرهان * وصاحب هذا المشهد الثاني لا يرد
قولا من أقوال علماء الشريعة إلا ما خاف نصا أو إجماعا ولعله لا يجده في كلام أحد منهم
في سائر الأزمان * وغايته أنه لم يطلع على دليل لا أنه يجده مخالفا لصريح السنة أو القرآن *
ومن نازعنا في ذلك فليأت لنا بقول من أقوالهم خارج عنها ونحن نرد على صاحبه كما نرد على
من خالف قواعد الشريعة بأوضح دليل وبرهان * ثم إن وقع ذلك ممن يدعي صحة التقليد
للأئمة فليس هو بمقلد لهم في ذلك وإنما هو مقلد لهواه والشيطان * فإن اعتقادنا في جميع
الأئمة أن أحدهم لا يقول قولا إلا بعد نظره في الدليل والبرهان * وحيث أطلقنا المقلد
في كلامنا فإنما مرادنا به من كان كلامه مندرجا تحت أصل من أصول إمامه وإلا فدعواه
التقليد له زور وبهتان * وما ثم قول من أقوال علماء الشريعة خارج عن قواعد
الشريعة فيما علمناه وإنما أقوالهم كلها بين قريب وأقرب وبعيد وأبعد بالنظر لمقام كل
إنسان * وشعاع نور الشريعة يشملهم كلهم ويعمهم وإن تفاوتوا بالنظر لمقام الإسلام
والإيمان والإحسان * أحمده حمد من كرع من عين الشريعة المطهرة حتى شبع وروى
منها الجسم والجنان * وعلم أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت شريعة واسعة جامعة
لمقام الإسلام والإيمان والإحسان * وأنها لا حرج ولا ضيق فيها على أحد من المسلمين
ومن شهد ذلك فيها فشهوده تنطع وبهتان * فإن الله تعالى قال وما جعل عليكم في الدين من
حرج ومن ادعى الحرج في الدين فقد خالف صريح القرآن * واشكره شكر من علم كمال
شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فوقف عندما حدث له من الأمر والنهي والترغيب
والترهيب ولم يزد فيها شيئا إلا أن شهد له شعاع الدليل والبرهان * فإن الشارع ما سكت عن
أشياء إلا رحمة بالأمة لا لذهول ولا نسيان * وأسلم إليه تسليم من رزقه الله تعالى حسن الظن
بالأئمة ومقلديهم وأقام لجميع أقوالهم الدليل والبرهان * أما من طريق النظر والاستدلال
* وأما من طريق التسليم والإيمان * وأما من طريق الكشف والعيان * ولا بد لكل مسلم
من أحد هذه الطرق ليطابق اعتقاده بالجنان قوله باللسان * أن سائر أئمة المسلمين على هدى
من ربهم في كل حين وأوان * وكل من لم يصل إلى هذا الاعتقاد من طريق الكشف والعيان
* وجب عليه اعتقاد ذلك من طريق التسليم والإيمان * وكما لا يجوز لنا الطعن فيما جاءت به
الأنبياء مع اختلاف شرائعهم فكذلك لا يجوز لنا الطعن فيما استنبطه الأئمة المجتهدون
بطريق الاجتهاد والاستحسان * ويوضح لك ذلك أن تعلم يا أخي أن الشريعة جاءت من
حيث الأمر والنهي على مرتبتي تخفيف وتشديد لا على مرتبة واحدة كما سيأتي إيضاحه في
الميزان * فإن جميع المكلفين لا يخرجون عن قسمين قوي وضعيف من حيث إيمانه أو جسمه
في كل عصر وزمان * فمن قوى منهم خوطب بالتشديد والأخذ بالعزائم ومن ضعف
منهم خوطب بالتخفيف والأخذ بالرخص وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه وتبيان
فلا يؤمر القوي بالنزول إلى الرخصة ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة وقد رفع الخلاف
في جميع أدلة الشريعة وأقوال علمائها عند كل من عمل بهذه الميزان * وقول بعضهم إن
3
الخلاف الحقيقي بين طائفتين مثلا لا يرتفع بالحمل محمول على من لم يعرف قواعد هذا الكتاب
لأن الخلاف الذي لا يرتفع من بين أقوال أئمة الشريعة مستحيل عند صاحب هذه الميزان
فامتحن يا أخي ما قلته لك في كل حديث ومقابله أو كل قول ومقابله تجد كل واحد منهما لا بد
أن يكون مخففا والآخر مشددا ولكل منهما رجال في حال مباشرتهم الأعمال ومن المحال
أن لا يوجد لنا قولان معا في حكم واحد مخففان أو مشددان * وقد يكون في المسألة
الواحدة ثلاثة أقوال أو أكثر وقول مفصل فالحاذق يرد كل قول إلى ما يناسبه ويقاربه
في التخفيف والتشديد حسب الإمكان * وقد قال الإمام الشافعي وغيره أن إعمال الحديثين
أو القولين أولى من إلغاء أحدهما وإن ذلك من كمال مقام الإيمان * وقد أمرنا الله تعالى
بأن نقيم الدين ولا نتفرق فيه حفظا له عن تهدم الأركان * فالحمد لله الذي من علينا بإقامة
الدين وعدم اضجاعه حيث الهنا العمل بما تضمنته هذه الميزان * وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له شهادة تبوء قائلها غرف الجنان * وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده
ورسوله الذي فضله على كافة خلقه وبعثه بالشريعة السمحاء وجعل إجماع أمته ملحقا في
وجوب العلم بالسنة والقرآن * اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين *
وعلى آلهم وصحبهم أجمعين وجميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين * صلاة وسلاما دائمين
بدوام سكان النيران والجنان * آمين اللهم آمين وبعد فهذه ميزان نفيسة عالية المقدار
حاولت فيها ما بنحوه يمكن الجمع بين الأدلة المتغايرة في الظاهر وبين أقوال جميع المجتهدين
ومقلديهم من الأولين والآخرين إلى يوم القيامة كذلك ولم أعرف أحدا سبقني إلى ذلك
في سائر الأدوار * وصنفتها بإشارة أكابر أهل العصر من مشايخ الإسلام وأئمة العصر بعد أن
عرضتها عليهم قبل إثباتها وذكرت لهم إني لا أحب أن أثبتها إلا بعد أن ينظروا فيها فإن قبلوها
أبقيتها وإن لم يرتضوها محوتها فإني بحمد الله أحب الوفاق وأكره الخلاف لا سيما في قواعد
الدين * وإن كان الاختلاف رحمة بقوم آخرين * فرحم الله من رأى فيها خللا وأصلحه
نصرة للدين * وكان من أعظم البواعث لي على تأليفها للإخوان فتح باب العمل بما تضمنه
قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وليطابقوا في تقليدهم بين قولهم باللسان *
إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وبين اعتقادهم ذلك بالجنان * ليقوموا بواجب
حقوق أئمتهم في الأدب معهم ويحوزوا الثواب المرتب على ذلك في الدار الآخرة ويخرج من
قال ذلك منهم بلسانه إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم ولم يعتقد ذلك بقلبه عما هو
متلبس به من صفة النفاق الأصغر الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد ذم الله
سبحانه وتعالى منافقي الكفار بنفاقهم زيادة على حصول ذمهم بصفة كفرهم في نحو قوله
تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم
تؤمن قلوبهم ومعلوم أن كلما عابه الله تعالى على الكفار فالمسلمون أولى بالتنزه عنه وعما
يقرب من شبه صورته ويسد المقلدون باب المبادرة إلى الانكار على من خالف قواعد
مذاهبهم ممن هو من أهل الاجتهاد في الشريعة فإنه على هدى من ربه وربما أظهر مستنده
4
في مذهبه لمن أنكر عليه فأذعن له وخجل من مبادرته إلى الانكار عليه وهذا من جملة
مقاصدي بتأليف هذا الكتاب والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فاعملوا أيها
الإخوان على الوصول إلى ذوق هذه الميزان وإياكم والمبادرة إلى إنكارها قبل أن تطالعوا
جميع هذه الفصول التي سنقدمها بين يدي الكلام عليها أي قبل كتاب الطهارة بل ولو
أنكرها أحدكم بعد مطالعة فصولها فربما كان معذورا لغرابتها وقلة وجود ذائق لها
من أقرانكم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى إذا علمت ذلك وأردت أن تعلم ما أومأنا إليه من
دخول جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين في شعاع نور الشريعة
المطهرة بحيث لا ترى قولا واحدا منها خارجا عن الشريعة المطهرة فتأمل وتدبر فيما
أرشدك يا أخي إليه وذلك أن تعلم وتتحقق يقينا جازما أن الشريعة المطهرة جاءت
من حيث شهود الأمر والنهي في كل مسألة ذات خلاف على مرتبتين تخفيف وتشديد
لا على مرتبة واحدة كما يظنه بعض المقلدين ولذلك وقع بينهم الخلاف بشهود التناقض
ولا خلاف ولا تناقض في نفس الأمر كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء الله
تعالى فإن مجموع الشريعة يرجع إلى أمر ونهي وكل منهما ينقسم عند العلماء على مرتبتين
تخفيف وتشديد وأما الحكم الخامس الذي هو المباح فهو مستوى الطرفين وقد يرجع
بالنية الصالحة إلى قسم المندوب وبالنية الفاسدة إلى قسم المكروه هذا مجموع أحكام
الشريعة وإيضاح ذلك أن من الأئمة من حمل مطلق الأمر على الوجوب الجازم ومنهم من
حمله على الندب ومنهم من حمل مطلق النهي على التحريم ومنهم من حمله على الكراهة ثم إن
لكل من المرتبين رجالا في حال مباشرتهم للتكاليف فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه
خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا أو المستنبط منها في مذهب
ذلك المكلف أو غيره ومن ضعف منهم من حيث مرتبة إيمانه أو ضعف جسمه خوطب
بالرخصة والتخفيف الوارد كذلك في الشريعة صريحا أو المستنبط منها في مذهب
ذلك المكلف أو مذهب غيره كما أشار إليه قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم خطابا عاما
وقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أي كذلك فلا يؤمر
القوي المذكور بالنزول إلى مرتبة الرخصة والتخفيف وهو يقدر على العمل بالعزيمة
والتشديد لأن ذلك كالتلاعب بالدين كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء
الله تعالى وكذلك لا يكلف الضعيف المذكور بالصعود إلى مرتبة العزيمة والتشديد
والعمل بذلك مع عجزه عنه لكن لو تكلف وفعل ذلك لا نمنعه إلا بوجه شرعي فالمرتبتان
المذكورتان على الترتيب الوجوبي لا على التخيير كما قد يتوهمه بعضهم فإياك والغلط فليس
لمن قدر على استعمال الماء حسا أو شرعا أن يتيمم بالتراب وليس لمن قدر على القيام
في الفريضة أن يصلي جالسا وليس لمن قدر على الصلاة جالسا أن يصلي على الجنب وهكذا
في سائر الواجبات وكذلك القول في الأفضل من السنن مع المفضول فليس من الأدب أن
يفعل المفضول مع قدرته على فعل الأفضل فعلم أن المسنونات ترجع إلى مرتبتين كذلك
فيقدم الأفضل على المفضول ندبا مع القدرة ويقدم الأولى شرعا على خلاف الأولى وإن
5
جاز ترك الأفضل والمفضول أصالة فمن أراد عدم اللوم فلا ينزل إلى المفضول إلا أن عجز عن
الأفضل فامتحن يا أخي بهذه الميزان جميع الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة
وما انبنى وتفرع على ذلك من جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين تجدها
كلها لا تخرج عن مرتبتي تخفيف وتشديد ولكل منهما رجال كما سبق ومن تحقق بما ذكرنا
ذوقا وكشفا كما ذقناه وكشف لنا وجد جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم داخلة
في قواعد الشريعة المطهرة ومقتبسة من شعاع نورها لا يخرج منها قول واحد عن الشريعة
وصحت مطابقة قوله باللسان إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لاعتقاد ذلك بالجنان
وعلم جزما ويقينا إن كل مجتهد مصيب ورجع عن قوله المصيب واحد لا بعينه كما سيأتي
إيضاحه في الفصول إن شاء الله تعالى وارتفع التناقض والخلاف عنده في أحكام الشريعة
وأقوال علمائها لأن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يجل عن التناقض وكذلك
كلام الأئمة عند من عرف مقدارهم واطلع على منازع أقوالهم ومواضع استنباطاتها فما
من حكم استنبطه المجتهد إلا وهو متفرع من الكتاب أو السنة أو منهما معا ولا يقدح في
صحة ذلك الحكم الذي استنبطه المجتهد جهل بعض المقلدين بمواضع استنباطاته وكل من
شهد في أحاديث الشريعة أو أقوال علمائها تناقضا لا يمكن رده فهو ضعيف النظر ولو أنه
كان عالما بالأدلة التي استند إليها المجتهد ومنازع أقواله لحمل كل حديث أو قول ومقابله
على حال من إحدى مرتبتي الشريعة فإن من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يخاطب الناس على قدر عقولهم ومقامهم في حضرة الإسلام أو الإيمان أو الاحسان
وتأمل يا أخي في قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الآية
تحط علما بما قلناه وإلا فأين خطابه لأكابر الصحابة من خطابه لأجلاف العرب وأين مقام
من بايعه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والمعسر والميسر ممن
طلب أن يبايعه صلى الله عليه وسلم على صلاة الصبح والعصر فقط دون غيرهما من الصلوات
ودون الزكاة والحج والصيام والجهاد وغيرها وقد تبع الأئمة المجتهدون ومقلدوهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فما وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد فيه عادة
شددوا فيه أمرا كان أو نهيا وما وجدوه خفف فيه خففوا فيه فاعتمد يا أخي على اعتقاد
ما قررته وبينته لك في هذه الميزان ولا يضرك غرابتها فإنها من علوم أهل الله تعالى وهي
أقرب إلى طريق الأدب مع الأئمة مما تعتقده أنت من ترجيح مذهب على مذهب بغير طريق
شرعي وأين قول من يقول إن سائر أئمة المسلمين أو الأئمة الأربعة الآن على هدى من ربهم
ظاهرا وباطنا ممن يقول ثلاثة أرباعهم أو أكثر على غير الحق في نفس الأمر * وإن أردت
يا أخي أن تعلم نفاسة هذه الميزان وكمال علم ذائقها بالشريعة من آيات وأخبار وآثار وأقوال
فأجمع لك أربعة من علماء المذاهب الأربعة واقرأ عليهم أدلة مذاهبهم وأقوال علمائهم
وتعاليلهم التي سطروها في كتبهم وانظر كيف يتجادلون * ويضعف بعضهم أدلة بعض
وأقوال بعض وتعلو أصواتهم على بعضهم بعضا حتى كان المخالف لقول كل واحد قد
خرج عن الشريعة ولا يكاد أحدهم يعتقد ذلك الوقت إن سائر أئمة المسلمين على هدى من
6
ربهم أبدا بخلاف صاحب هذه الميزان فإنه جالس على منصة في سرور وطمأنينة كالسلطان
حاكم بمرتبتي ميزانه على كل قول من أقوالهم لا يرى قولا واحدا من أقوالهم خارجا عن
مرتبتي الميزان من تخفيف أو تشديد بل يرى الشريعة قابلة لكل ما قالوه لوسعها فاعمل
يا أخي بهذه الميزان وعلمها لإخوانك من طلبة المذاهب الأربعة ليحيطوا بها علما أن لم يصلوا
إلى مقام الذوق لها بطريق الكشف كما أشار إليه قوله تعالى فإن لم يصبها وابل فطل وليفوزوا
أيضا بصحة اعتقادهم في كلام أئمتهم ومقلديهم ويطابقوا بقلوبهم قولهم باللسان إن سائر
أئمة المسلمين على هدى من ربهم إن لم يكن ذلك كشفا ويقينا فليكن إيمانا وتسليما فعليكم
أيها الإخوان باحتمال الأذى ممن يجادلكم في صحة هذه الميزان قبل ذوقها وقبل أن
تحضروه معكم حال قراءتها على علماء المذاهب الأربعة فإنه معذور لا يكاد يسلم لكم صحتها
لغرابتها وربما وافق مذاهب الحاضرين هيبة لهم ورد المذهب الذي لم يكن أحد من
مقلديه حاضر العدم من ينتصر لذلك المذهب وفي ذلك دلالة على مراعاته وجوه المخلوقين
نسأل الله العافية وبما قررناه لك يا أخي انتهت الميزان الشعرانية المدخلة لجميع أقوال الأئمة
المجتهدين ومقلديهم في الشريعة المحمدية نفع الله بها المسلمين وقد حبب لي أن أذكر لك يا أخي
قاعدة هي كالمقدمة لفهم هذه الميزان بل هي من أقرب الطرق إلى التسليم لها وذلك أن تبني
أساس نظرك أولا على الإيمان بأن الله تعالى هو العالم بكل شئ والحكيم في كل شئ أزلا وأبدا
لما أبدع هذا العالم وأحكم أحواله وميز شؤونه وأتقن كماله أظهره على ما هو مشاهد من
الاختلاف الذي لا يمكن حصره ولا ينضبط أمره متغايرا في الأمزجة والتراكيب مختلفا
في الأحوال والأساليب على حكم ما سبق به علم الله القديم وعلى وفق ما نفذت به إرادة
العليم الحكيم * فجاء على هذه الأوضاع والتآليف واستقر أمره على ما لا تنتهي إليه
غاياته من الشؤون والتصاريف * وكان من جملة بديع حكمته وعظيم آلائه وعميم رحمته إن
قسم عباده إلى قسمين شقي وسعيد * واستعمل كلا منهما فيما خلق له من متعلق الوعد
أو الوعيد * وأوجد لكل منهما في هذه الدار بحكم عدله وسعة أفضاله ما يصلح لشأنه في حاله
وما له من محسوسات صورها * ومعنويات قدرها ومصنوعات أبدعها وأحكام شرعها *
وحدود وضعها وشؤون أبدعها * فتمت بذلك أمور المحدثات * وانعقد بذلك نظام
الكائنات * وكمل بذلك شأني الزمان والمكان حتى قيل إنه ليس في الامكان * أبدع
مما كان * قال تعالى في كتابه القديم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم على أنه سبحانه
وتعالى لم يجعل كل نافع نافعا مطلق ولا كل ضار ضارا مطلقا بل ربما نفع هذا ما ضر هذا وضر
هذا ما نفع هذا وربما ضر هذا في وقت ما نفعه في وقت آخر ونفع هذا في وقت ما ضره في
وقت آخر كما هو مشاهد في الموجودات الحسية والمدركات المعنوية لمعان جلت عن
الادراك بالأفكار وأسرار خفيت إلا على من أراده عالم الأسرار ومن هنا يتحقق إن كلا
ميسر لما خلق له وإن ذلك إنما هو لإتمام شؤون الأولين والآخرين * وإن الله هو الغني عن
العالمين * وحيث تقررت لك يا أخي هذه القاعدة العظيمة علمت أن الله تعالى لم يمكر بسعيد
من حيثما كلفه أبدا وإن اختلاف أئمة هذه الأمة في فروع الدين أحمد عاقبة وأقوم رشدا
7
وإن الله تعالى لم يخلقنا عبثا ولم ينوع لنا التكاليف سدى بل لم يلهم أحدا من المكلفين العمل
بأمر من أمور الدين تعبده به على لسان أحد من المرسلين أو على لسان إمام من أئمة الهدى
المجتهدين إلا وفي العمل به على وجهه في ذلك الوقت أعلى مراتب سعادة ذلك المكلف
المقسومة له حينئذ واللائقة بحاله ولا يصرفه عن العمل بقول إمام من أئمة الهدى إلى
العمل بقول إمام آخر منهم إلا وفيما صرفه عنه انحطاط في ذلك الوقت عن الأكمل في درجته
اللائقة به رحمة منه سبحانه وتعالى بأهل قبضة السعادة ورعاية للحظ الأوفر لهم في دينهم
ودنياهم كما يلاطف الطبيب الحبيب * ولله المثل الأعلى وهو القريب المجيب * لا سيما وهو
الفاعل المختار في الأموات والأحياء والمدبر المريد لكل شئ من سائر الأشياء * فانظر يا أخي
إلى حسن هذه القاعدة ووضوحها وكم أزالت من إشكالات معجمة وأفادت من أحكام
محكمة فإنك إذا نظرت فيها بعين الإنصاف تحققت بصحة الاعتقاد أن سائر الأئمة الأربعة
ومقلديهم رضي الله عنهم أجمعين على هدى من ربهم في ظاهر الأمر وباطنه ولم تعترض
قط على من تمسك بمذهب من مذاهبهم ولا على من انتقل من مذهب منها إلى مذهب ولا على
من قلد غير إمامه منهم في أوقات الضرورات لاعتقادك يقينا إن مذاهبهم كلها داخلة في
سياج الشريعة المطهرة كما سيأتي إيضاحه وإن الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحى
واسعة شاملة قابله لسائر أقوال أئمة الهدى من هذه الأمة المحمدية وإن كلا منهم فيما هو عليه
في نفسه على بصيرة من أمره وعلى صراط مستقيم * وإن اختلافهم إنما هو رحمة بالأمة نشأ
عن تدبير العليم الحكيم * فعلم سبحانه وتعالى أن مصلحة البدن والدين والدنيا عنده تعالى
لهذا العبد المؤمن في كذا فأوجد له لطفا منه بعباده المؤمنين إذ هو العالم بالأحوال قبل
تكوينها فالمؤمن المكامل يؤمن ظاهرا وباطنا إن الله تعالى لو لم يعلم أزلا إن الأصلح عنده
تعالى لعباده المؤمنين انقسامهم على نحو هذه المذاهب لما أوجدها لهم وأقرهم عليها بل كان
يحملهم على أمر واحد لا يجوز لهم العدول عنه إلى غيره كما حرم الاختلاف في أصل الدين
بنحو قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصيناه به
إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فافهم ذلك فإنه نفيس واحذر أن
يشتبه عليك الحال فتجعل الاختلاف في الفروع كالاختلاف في الأصول فتزل بك القدم
في مهواة من التلف فإن السنة التي هي قاضية عندنا على ما نفهمه من الكتاب
مصرحة بأن اختلاف هذه الأمة رحمة بقوله صلى الله عليه وسلم وهو يعد خصائصه في أمته
ما من معناه وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن قبلنا عذابا ا ه وربما يقال إن الله تعالى لما
علم أزلا إن الأحظ والأصلح عنده تعالى لهذا العبد المؤمن في إتمام دينة التطهر بالماء الجاري
مثلا لاستحقاق حال مثله التطهر بما هو أشد في إحياء الأعضاء لأمر يقتضي ذلك أوجد له
إماما أفهمه عنه إطلاق القول بعدم صحة الطهارة بسوى ذلك الماء في حق كل أحد
فكان أنعش لهمته وألهمه تقليده ليلتزم ما هو الأحوط في حقه رحمة به ولما علم الله سبحانه
وتعالى أن الأحظ والأصلح عنده تعالى أيضا لهذا العبد المؤمن تجديد وضوئه إذا كان
متوضئا وصمم العزم على فعل ينتقض به الوضوء لانتقاض وضوئه الأول بنفس ذلك العزم
8
لأمر يقتضي ذلك أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل
أحد وألهمه التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه ولما علم سبحانه وتعالى إن الأحظ والأصلح
عنده تعالى أيضا لهذا العبد المؤمن التنزه الكلي عن مباشرة ما خامره الكلب مثلا ولو بغير
فمه من المائعات الشاملة للماء القليل والغسل من ذلك سبعا أحدها بتراب لأمر يقتضي
ذلك أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل أحد وألهمه
التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه أيضا ولما علم سبحانه وتعالى إن الأحظ والأصلح عنده
تعالى لهذا العبد المؤمن أن يتمضمض ويستنشق مثلا في كل وضوء لأمر يقتضي ذلك
أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل أحد وألهمه
التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه وهكذا القول في سائر الأحكام فما من سبيل من
سبل الهدى إلا ولها أهل في علمه سبحانه وتعالى أرشدهم إليها بطريق من طرق الارشاد
الصريحة أو الإلهامية كما أنه سبحانه وتعالى يسر ظهور هذه الميزان لما علم أزلا إن
الأحظ والأصلح عنده تعالى لمؤلفها ومن وافقه في مقامه وأخلاقه وأحواله أن يكشف
له عن عين الشريعة الكبرى التي يتفرع منها سائر منازع مذاهب المجتهدين ومواد
أقوالهم ليرى ويطلع على جميع محال مآخذهم لها من طريق الكتاب والسنة أطلعه الله
سبحانه وتعالى عليها كذلك ليلتزم ما هو الأولى في حقه من كونه يقرر سائر مذاهب الأئمة
بحق وصدق وليكون فاتحا لأتباعه باب صحة الاعتقاد في أن سائر أئمة المسلمين على
هدى من ربهم كما سيأتي إيضاحه فضلا من الله ونعمة والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم ولا يقال لم لا سوى الحق تعالى بينهم بقدرته وجعلهم على حالة واحدة أو لم لا أفهم
كل مقلد عن إمامه عدم إطلاق ذلك الحكم في حق كل أحد مثلا لأن ذلك كالاعتراض
على ما سبق به العلم الإلهي ثم اعلم أن اختصاص كل طائفة من هذه الأمة بحكم من
أحكام الشريعة في علم الله تعالى ربما يكون طريقا لترقيهم إلى أعلى ما هم عليه وربما
يكون حفظا لمقامهم عن النقص ويصح أن يقال إن التكاليف كلها إنما هي للترقي دائما
في حق من أتى بها على وجهها إذا اعتقدنا أن القائمين بما كلفوا به آخذون في الترقي مع
الأنفاس لأن الله تعالى لا تنتهي مواهبه أبد الآبدين ودهر الداهرين والله واسع عليم
فقد بان لك يا أخي بهذه القاعدة العظيمة التي ربما يكون عليها مدار هذه الميزان
الكريمة التي ربما لم تسمح قريحة بمثلها إن هذه الميزان الشعرانية مدخلة لجميع مذاهب
المجتهدين من أئمة الهدى ومقلديهم في الشريعة المحمدية نفع الله بها المسلمين * واعلم يا أخي
أنني لما شرعت في تعليم هذه الميزان للإخوان لم يتعقلوها حتى جمعت لهم على قراءتها جملة من
علماء المذاهب الأربعة فنهاك اعترفوا بفضلها كما اعترف به علماء المذاهب المذكورون حين
رأوها توجه جميع أقوال مذاهبهم وقد وصلوا في قراءتها وتحريرها إلى باب ما يحرم من
النكاح ونرجو من فضل الله إتمام قراءتها عليهم إلى آخر أبواب الفقه وذلك بعد أن سألوني
في إيضاحها بعبارة أوسع من هذه العبارة المتقدمة وإيصال معرفتها إلى قلوبهم ذوقا من غير
سلوك في طريق الرياضة على قواعد أهل الطريق فكأنهم حملوني بذلك جميع جبال الدنيا
9
على ظهري مع ضعف جسدي فصرت كلما أوضح لهم الجمع بين حديثين أو قولين في باب يأتوني
بحديث أو قول في باب آخر يناقض عندهم مقابله فحصل لي منهم تعب شديد وكأنهم
جمعوا لي سائر العلماء الذين يقولون بقولهم في سائر الأدوار من المتقدمين والمتأخرين
إلى يوم الدين وقالوا لي جادل هؤلاء كلهم واجعلهم يرون جميع المذاهب المندرسة
والمستعملة كلها صحيحة لا ترجيح فيها لمذهب على مذهب لاغترافها كلها من عين الشريعة
المطهرة وذلك من أصعب ما يتحمله العارفون بأسرار أحكام الله تعالى ثم إني استخرت
الله تعالى وأجبتهم إلى سؤالهم في إيضاح الميزان بهذا المؤلف الذي لا أعتقد أن أحدا
سبقني إليه من أئمة الإسلام وسلكت فيه نهاية ما أعلم مسيس الحاجة إليه من البسط
والإيضاح لمعانيها ونزلت أحاديث الشريعة التي قيل بتناقضها وما انبنى على ذلك من جميع
أقوال المجتهدين ومقلديهم في سائر أبواب الفقه من باب الطهارة إلى آخر أبواب الفقه على
مرتبتي الشريعة من تخفيف وتشديد حتى لم يبق عندهم في الشريعة تناقض تناسيا لهم
فإنها ميزان لا يكاد الإنسان يرى لها ذائقا من أهل عصره وقدمت على ذلك عدة فصول
نافعة هي كالشرح لما أشكل من ألفاظها عليهم أو كالدهليز الذي يتوصل منه إلى صدر الدار
وبعضها مشتمل على ذكر أمثلة محسوسة تقرب على العقل كيفية تفريع جميع المذاهب من
عين الشريعة الكبرى وكيفية اتصال أقوال آخر أدوار المقلدين بأول أدوارهم الذي هو
مأخوذ من حضرة الوحي الإلهي من عرش إلى كرسي إلى قلم إلى لوح إلى حضرة جبرئيل
عليه السلام إلى حضرة محمد صلى الله على وسلم إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابع التابعين
إلى الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين وعلى بيان شجرة وشبكة ودائرة وبحر يعلم الناظر
فيها إذا تأمل أن جميع أقوال الأئمة لا يخرج شئ منها عن الشريعة وعلى بيان أن جميع
الأئمة المجتهدين يشفعون في أتباعهم ويلاحظونهم في جميع شدائدهم في الدنيا والبرزخ
ويوم القيامة حتى يجاوزوا الصراط وعلى بيان أن كل مذهب سلكه المقلد وعمل به على
وجه الاخلاص أوصله إلى باب الجنة وعلى بيان قرب منازل الأئمة على نهر الحياة من منزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أعطاه الكشف وعلى بيان ذم الرأي وبيان تبري جميع
الأئمة من القول به في دين الله عز وجل لا سيما الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه
خلاف ما يظنه بعضهم به وختمت أبواب الفقه بخاتمة نفيسة مشتملة على بيان سبب
مشروعية جميع التكاليف وهو أن أحكام الدين الخمسة نزلت من الأملاك السماوية
فأكرم بها من ميزان لا أعلم أحد سبقني إلى وضع مثلها وكل من تحقق بذوقها دخل في نعيم
الأبد وصار يقرر جميع مذاهب المجتهدين وأقوال مقلديهم ويقوم في تقرير ذلك مقامهم
حتى كأنه صاحب ذلك المذهب أو القول العارف بدليله وموضع استنباطه وصار لا يجد
شيئا من أقوال الأئمة ومقلديهم إلا وهو مستند إلى آية أو حديث أو أثر أو إجماع أو قياس
صحيح على أصل صحيح كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى ذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأسأل الله تعالى من فضله أن يحمى هذا الكتاب من
كل عدو وحاسد يدس فيه ما ليس من كلامي مما يخالف ظاهر الشريعة لينفر الناس عن
10
مطالعته كما وقع لي ذلك مع بعض الأعداء فإنهم دسوا في كتابي المسمى بالبحر المورود
في المواثيق والعهود أمورا تخالف ظاهر الشريعة وداروا بها في الجامع الأزهر وغيره
وحصل بذلك فتنة عظيمة وما خمدت الفتنة حتى أرسلت لهم نسختي التي عليها خطوط العلماء
ففتشتها العلماء فلم يجدوا فيها شيئا مما يخالف ظاهر الشريعة مما دسه الأعداء فالله تعالى
يغفر لهم ويسامحهم والحمد لله رب العالمين ولنشرع في ذكر الفصول الموضحة للميزان فأقول
وبالله التوفيق.
* (فصل) * أن قال قائل إن حملك جميع أقوال الأئمة المجتهدين على حالتين يرفع
الخلاف ومعلوم أن الخلاف إذا تحقق بين عالمين مثلا لا يرتفع بالحمل * فالجواب والأمر
كذلك لكن عند كل من لم يتحقق بذوق هذه الميزان أما من تحققها وحمل الحديثين
أو القولين على حالين فإن الخلاف يرتفع عنده كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية فأحمل
يا أخي قول من قال أن الخلاف المحقق بين طائفتين لا يرتفع بالحمل على حالين على حال من
لم يتعقل هذه الميزان وأحمل قول من قال إن الخلاف يرتفع بالحمل المذكور على من تعقلها
لأنه لا يرى بين أقوال أهل الله تعالى خلافا محققا أبدا والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * إياك يا أخي أن تبادر أول سماعك لمرتبتي الميزان إلى فهم كون المرتبتين
على التخيير مطلقا حتى أن المكلف يكون مخيرا بين فعل الرخصة والعزيمة في أي حكم شاء فقد
قدمنا لك أن المرتبتين على الترتيب الوجوبي لا على التخيير بشرطه الآتي في أوائل الفصل
السابع عند الاستثناء وأنه ليس الأولى لمن قدر على فعل العزيمة أن ينزل إلى فعل الرخصة
الجائزة وقد دخل على بعض طلبة العلم وأنا أقرر في أدلة المذاهب وأقوال علمائها فتوهم
إنني أقرر ذلك للطلبة على وجه التخيير بين فعل العزيمة والرخصة من حيث إن جميع الأئمة
على هدى من ربهم فصار يحط على ويقول إن فلانا لا يتقيد بمذهب أي على طريق الذم
والنقص لي لا على طريق وسع اطلاعي على أدلة الأئمة فالله تعالى يغفر له لعذره بعدم تعقل
هذه الميزان الغريبة ويكون على علم جميع الإخوان إنني ما قررت مذهبا من مذاهب الأئمة
إلا بعد اطلاعي على أدلة صاحبه لا على وجه حسن الظن به والتسليم له فقط كما يفعله بعضهم
ومن شك في قولي هذا فلينظر في كتابي المسمى بالمنهج المبين في بيان أدلة المجتهدين فإنه يعرف
صدقي يقينا وإنما لم اكتف بنسبة القول إلى الأئمة من غير اطلاعي على دليله لأن أحدهم
قد يرجع عنه بخلاف ما إذا عرفت الأدلة في ذلك من كتاب أو سنة مثلا فإنه لا يصح مني
رجوع عن تقرير ذلك المذهب كما يعرف ذلك من اطلع على توجيهي لكلام الأئمة الآتي من
باب الطهارة إلى آخر أبواب الفقه فإني وجهت في هذه الميزان ما يقاس عليه جميع الأقوال
المستعملة والمندرسة وعلمت أن الذين عملوا بتلك المذاهب ودانوا الله بها وأفتوا بها الناس
إلى أن ماتوا كانوا على هدى من ربهم فيها عكس من يقول إنهم كانوا في ذلك على خطأ * فقد
علمت يا أخي أنني لا أقول بتخيير المكلف بين العمل بالرخصة والعزيمة مع القدرة على فعل
العزيمة المتعينة عليه معاذ الله أن أقول بذلك فإنه كالتلاعب بالدين كما مر في الميزان إنما
تكون الرخصة للعاجز عن فعل العزيمة المذكورة قطعا لأنه حينئذ تصير الرخصة المذكورة
11
في حقه عزيمة بل أقول إن من الواجب على كل مقلد من طريق الإنصاف أن لا يعمل
برخصة قال بها إمام مذهبه إلا إن كان من أهلها وأنه يجب عليه العمل بالعزيمة التي قال
بها غير إمامه حيث قدر عليها لأن الحكم راجع إلى كلام الشارع بالأصالة لا إلى كلام غيره
لا سيما إن كان دليل الغير أقوى خلاف ما عليه بعض المقلدين حتى أنه قال لي لو وجدت
حديثا في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا أعمل به وذلك جهل منه بالشريعة وأول من
يتبرأ منه إمامه وكان من الواجب عليه حمل إمامه على أنه لم يظفر بذلك الحديث أو لم يصح
عنده كما سيأتي إيضاحه في الفصول إن شاء الله تعالى إذ لم أظفر بحديث مما اتفق عليه
الشيخان قال بضعفه أحد ممن يعتد بتضعيفه أبدا وفي كلام القوم لا ينبغي لأحد العمل
بالقول المرجوح إلا إن كان أحوط في الدين من القول الأرجح كالقول بنقض الطهارة
عند الشافعية بلمس الصغيرة والشعر والظفر فإن هذا القول وإن كان عندهم ضعيفا فهو
أحوط في الدين فكان الوضوء منه أولى انتهى * وصاحب الذوق لهذه الميزان يرى
جميع مذاهب الأئمة المجتهدين وأقوال مقلديهم كأنها شريعة واحدة لشخص
واحد لكنها ذات مرتبتين كل من عمل بمرتبة منهما بشرطها أصاب كما سيأتي إيضاحه
في الفصول إن شاء الله تعالى وقد اطلعني الله تعالى من طريق الالهام على دليل لقول
الإمام داود الظاهري رضي الله عنه بنقض الطهارة بلمس الصغيرة التي لا تشتهي وهو
أن الله تعالى أطلق اسم النساء على الأطفال في قوله تعالى في قصة فرعون يذبح أبناءهم
ويستحيي نساءهم ومعلوم أن فرعون إنما كان يستحيي الأنثى عقب ولادتها فكما أطلق
الحق تعالى اسم النساء على الأنثى في قصة الذبح فكذلك يكون الحكم في قوله تعالى
أو لامستم النساء بالقياس على حد سواء وهو استنباط حسن لم أجده لغيري فإنه يجعل
علة النقض الأنوثة من حيث هي بقطع النظر عن كونها تشتهي أو لا تشتهي فقس عليه
يا أخي كلما لم تطلع له من كلام الأئمة على دليل صريح في الكتاب أو السنة وإياك أن ترد
كلام أحد من الأئمة أو تضعفه بفهمك فإن فهمك إذا قرن بفهم أحد من الأئمة المجتهدين
كان كالهباء والله أعلم
* (فصل) * فإن قال قائل فهل يجب عندكم على المقلد العمل بالأرجح من القولين
أو الوجهين في مذهبه ما دام لم يصل إلى معرفة هذه الميزان من طريق الذوق والكشف
* فالجواب نعم يجب عليه ذلك ما دام لم يصل إلى مقام الذوق لهذه الميزان كما عليه
عمل الناس في كل عصر بخلاف ما إذا وصل إلى مقام الذوق لهذه الميزان المذكورة
ورأى جميع أقوال العلماء وبحور علومهم تتفجر من عين الشريعة الأولى تبتدئ منها
وتنتهي إليها كما سيأتي بيانه في فصل الأمثلة المحسوسة لاتصال أقوال العلماء كلهم بعين
الشريعة الكبرى في مشهد صاحب هذا المقام فإن من اطلع على ذلك من طريق كشفه
رأى جميع المذاهب وأقوال علمائها متصلة بعين الشريعة وشارعة إليها كاتصال
الكف بالأصابع والظل بالشاخص ومثل هذا لا يؤمر بالتعبد بمذهب معين لشهوده
تساوي المذاهب في الأخذ من عين الشريعة وأنه ليس مذهب أولى بالشريعة من مذهب
12
لأن كل مذهب عنده متفرع من عين الشريعة كما تتفرع عيون شبكة الصياد في سائر الأدوار
من العين الأولى منها ولو أن أحدا أكرهه على التقيد لا يتقيد كما سيأتي إيضاحه في الفصول
الآتية إن أشاء الله تعالى وصاحب هذا الكشف قد ساوى المجتهدين في مقام اليقين
وربما زاد على بعضهم لاغتراف علمه من عين الشريعة ولا يحتاج إلى تحصيل آلات الاجتهاد
التي شرطوها في حق المجتهد فحكمه حكم الجاهل بطريق البحر إذا ورد مع عالم بها ليملأ سقاه
منه فلا فرق بين الماء الذي يأخذه العالم ولا بين الماء الذي يأخذه الجاهل هذا حكم جميع
أهل هذه الميزان فيما صرحت به الشريعة من الأحكام بخلاف ما لم تصرح به إذا أراد
الإنسان استخراجه من آية أو حديث فإنه يحتاج إلى معرفة الآلات من نحو وأصول
ومعان وغير ذلك كما بيناه في كتابنا المسمى بمفحم الأكباد في بيان موارد الاجتهاد وهو
مجلد ضخم فراجعه إن شئت والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فإن قال قائل إن أحدا لا يحتاج إلى ذوق مثل هذه الميزان في طريق صحة
اعتقاده إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم بل يكفيه اعتقاده تسليما وإيمانا كما عليه عمل
غالب طلبة العلم في سائر الأعصار * فالجواب قد قدمنا لك في الميزان إن التسليم للأئمة هو
أدنى درجات العبد في اعتقاده صحة أقوال الأئمة وإنما مرادنا بهذه الميزان ما هو أرقى من
ذلك فيطلع المقلد على ما اطلع عليه الأئمة ويأخذ علمه من حيث أخذوا أما من طريق النظر
والاستدلال وأما من طريق الكشف والعيان وقد كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول
خذوا علمكم من حيث أخذه الأئمة ولا تقنعوا بالتقليد فإن ذلك عمى في البصيرة انتهى
وسيأتي بسط ذلك في فصل ذم الأئمة للقول بالرأي في دين الله إن شاء الله تعالى فراجعه فإن
قلت فلأي شئ لم يوجب العلماء بالله تعالى العمل بما أخذه العالم من طريق الكشف مع كونه
ملحقا بالنصوص في الصحة عند بعضهم فالجواب ليس عدم إيجاب العلماء العمل بعلوم
الكشف من حيث ضعفها ونقصها عما أخذه العالم من طريق النقل الظاهر وإنما ذلك
للاستغناء عن عده في الموجبات بصرائح أدلة الكتاب والسنة عند القطع بصحته أي
ذلك الكشف فإنه حينئذ لا يكون إلا موافقا لها أما عند عدم القطع بصحته فمن حيث عدم
عصمة الآخذ لذلك العلم فقد يكون دخل كشفه التلبيس من إبليس فإن الله تعالى قد أقدر
إبليس كما قال الغزالي وغيره على أن يقيم للمكاشف صورة المحل الذي يأخذ علمه منه من سماء
أو عرش أو كرسي أو قلم أو لوح فربما ظن المكاشف إن ذلك العلم عن الله فأخذ به فضل
وأضل فمن هنا أوجبوا على المكاشف أنه يعرض ما أخذه من العلم من طريق كشفه على
الكتاب والسنة قبل العمل به فإن وافق فذاك وإلا حرم عليه العمل به فعلم أن من أخذ علمه
من عين الشريعة من غير تلبيس في طريق كشفه فلا يصح منه الرجوع عنه أبدا ما عاش
لموافقته الشريعة التي بين أظهرنا من طريق النقل ضرورة أن الكشف الصحيح لا يأتي
دائما إلا موافقا للشريعة كما هو مقرر بين العلماء والله أعلم
* (فصل) * فإن طعن طاعن في هذه الميزان وقال إنها لا تكفي أحدا في إرشاده إلى طريق
صحة اعتقاده أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم كما مر قلنا له هذا أكثر ما قدرنا عليه
13
في طريق الجمع بين قول العبد بلسانه إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وبين اعتقاده
ذلك بقلبه فإن قدرت يا أخي على طريق أخرى تجمع بين القلب واللسان فاذكرها لنا لنرقمها
في هذه الميزان ونجعلها طريقة أخرى ولعل الطاعن في صحة هذه الميزان التي ذكرناها إنما
كان الحامل له على ذلك الحسد والتعصب فإنه لا يقدر يجعل الشريعة على أكثر من مرتبتين
تخفيف وتشديد أبدا ومن شك في قولي هذا فليأت بما يناقضه وأنا أرجع إلى قوله فإني والله
ناصح للأمة ما أنا متعنت ولا مظهر علما لحظ نفس فيما أعلم بقطع النظر عن إرشادي
للإخوان إلى صحة الاعتقاد في كلام أئمتهم ولولا محبتي لإرشاد الإخوان إلى ما ذكر
لأخفيت عنهم علم هذه الميزان الشريفة كما أخفيت عنهم من العلوم اللدنية ما لم نؤمر بإفشائه
كما أشرنا إليه في كتابنا المسمى بالجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من
الأسرار والعلوم فإننا ذكرنا فيه من علوم القرآن العظيم نحو ثلاثة آلاف علم لا مرقى لأحد
من طلبة العلم الآن فيما نعلم إلى التسلق إلى معرفة علم واحد منها بفكر ولا إمعان نظر
في كتب وإنما طريقها الكشف الصحيح فتخلع هذه العلوم على العارف حال تلاوته للقرآن
لا يتخلف عن النطق به حتى كان عين ذلك العلم عين النطق بتلك الكلمة ومتى تخلف العلم
عن النطق فليس هو من علوم أهل الله وإنما هو ينتجه فكر وعلوم الأفكار مدخولة عند
أهل الله لا يعتمدون عليها لإمكان رجوع أهلها عنها بخلاف علوم أهل الكشف كما
مر آنفا فاعلم ذلك
* (فصل) * وإياك أن تسمع بهذه الميزان فتبادر إلى الانكار على صاحبها وتقول كيف
يصح لفلان الجمع بين جميع المذاهب وجعلها كأنها مذهب واحد من غير أن تنظر فيها أو
تجتمع بصاحبها فإن ذلك جهل منك وتهور في الدين بل اجتمع بصاحبها وناظره فإن قطعك
بالحجة وجب عليك الرجوع إلى قوله ولو لم يسبقه أحد إلى مثله وإياك أن تقول إن واضع
هذه الميزان جاهل بالشريعة فتقع في الكذب فإنه إذا كان مثله يسمى جاهلا مع قدرته على
توجيه أحكام جميع أقوال المذاهب فما بقي على وجه الأرض الآن عالم وقد قال الإمام
محمد بن مالك وإذا كانت العلوم منحا إلهية واختصاصات لدنية فلا بدع أن يدخر الله تعالى
لبعض المتأخرين ما لم يطلع عليه أحد من المتقدمين انتهى فبالله عليك يا أخي ارجع إلى الحق
وطابق في الاعتقاد بين اللسان والقلب ولا يصدنك عن ذلك كون أحد من العلماء السابقين
لم يدون مثل هذه الميزان فإن جود الحق تعالى لم يزل فياضا على قلوب العلماء في كل عصر
واخرج عن علومك الطبيعية الفهمية إلى العلوم الحقيقية الكشفية ولو لم يألفها طبعك
فإن من علامة العلوم اللدنية أن تمجها العقول من حيث إنكارها ولا تقبلها إلا بالتسليم
فقط لغرابة طريقها فإن طريق الكشف مباينة لطريق الفكر وسيأتي في الفصول الآتية
إن شاء الله تعالى إن من علامة عدم صحة اعتقاد الطالب في أن سائر أئمة المسلمين على هدى
من ربهم كونه يحصل له في باطنه ضيق وحرج إذا قلد غير إمامه في واقعة ويقال له أين قولك
إن غير إمامك على هدى من ربه وكيف يحصل في قلبك ضيق وحرج من الهدى فهناك
تندحض دعواه وتظهر له عدم صحة عقيدته إن كان عاقلا والحمد لله رب العالمين
14
* (فصل) * إعلم يا أخي أني ما وضعت هذه الميزان للإخوان من طلبة العلم إلا بعد تكرر
سؤالهم لي في ذلك مرارا كما مر أول الفصول وقولهم لي مرادنا الوصول إلى مقام مطابقة
القلب للسان في صحة اعتقاد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في سائر أقوالهم فلذلك
أمعنت النظر لهم في سائر أدلة الشريعة وأقوال علمائها فرأيتها لا تخرج عن مرتبتين
تخفيف وتشديد فالتشديد للأقوياء والتخفيف للضعفاء كما مر لكن ينبغي استثناء
ما ورد من الأحكام بحكم التخيير فإن للقوي أن ينزل إلى مرتبة الرخصة والتخفيف مع
القدرة على فعل الأشد ولا تكون المرتبتان المذكورتان في الميزان فيه على الترتيب الوجوبي
وذلك كتخيير المتوضئ إذا كان لابس الخف بين نزعه وغسل الرجلين وبين مسحه بلا نزع مع
أن إحدى المرتبتين أفضل من الأخرى كما ترى فإن غسل الرجلين أفضل إلا لمن نفرت نفسه
من المسح مع علمه بصحة الأحاديث فيه فإن المسح له أفضل على أنه لقائل أن يقول إن المرتبتين
في حق هذا الشخص أيضا على الترتيب الوجوبي بمعنى أنه لو أراد أن يعبد الله تعالى بالأفضل
كان الواجب عليه في الإتيان بالأفضل ارتكاب العزيمة وهو إما الغسل بالنظر إلى حال
غالب الناس وإما المسح بالنظر إلى ذلك الفرد النادر الذي نفرت نفسه من فعل السنة لا سيما
وقولنا أفضل غير مناف للوجوب كما تقول لمن تنصحه عليك يا أخي برضى الله تعالى فإنه أولى
لك من سخطه وكذلك ينبغي أن يستثنى من وجوب الترتيب في مرتبتي الميزان ما إذا ثبت عن
الشارع فعل أمرين معا في وقتين من غير ثبوت نسخ لأحدهما كمسح جميع الرأس في وقت
ومسح بعضه في وقت آخر وكموالاة الوضوء تارة وعدم الموالاة فيه تارة أخرى ونحو ذلك
فمثل هذا لا يجب فيه تقديم مسح جميع الرأس والموالاة على مسح بعضه وعدم المولاة
إلا إذا أراد المكلف التقرب إلى الله تعالى بالأولى فقط وقس على ذلك نظائره وأما قول
سيدنا ومولانا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن آخر الأمرين من فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو الناسخ المحكم فهو أكثري لا كلي إذ لو كان ذلك كليا لحكمنا
بنسخ المتقدم من الأمرين بيقين في نفس الأمر من مسح كل الرأس أو بعضه مثلا لأنه لا بد
أن يكون انتهى الأمر منه صلى الله عليه وسلم إلى مسح الكل أو البعض فيكون ما قبل
الأخير منسوخا ولا يخفى ما في ذلك من القدح في مذهب من يقول بوجوب تعميم مسح
الرأس أو عدم تعميمه وكان الإمام محمد بن المنذر رحمه الله يقول إذا ثبت عن الشارع
صلى الله عليه وسلم فعل أمرين في وقتين فهما على التخيير ما لم يثبت النسخ فيعمل
المكلف بهذا الأمر تارة وبهذا الأمر تارة أخرى انتهى وعلى ما قررناه من مرتبتي
الميزان ينبغي حمل القول بمسح الرأس كله وجوبا على زمن الصيف مثلا ومسح بعضه على
مسحه في زمن البرد مثلا لا سيما في حق من كان أقرع أو كان قريب العهد بحلق رأسه
أو يخاف من نزول الحوادر من رأسه فاعلم ذلك يا أخي وقس عليه نظائره والحمد لله رب
العالمين
* (فصل) * إعلم يا أخي أن مرادنا بالعزيمة والرخصة المذكورتين في هذه الميزان هما
مطلق التشديد والتخفيف وليس مرادنا العزيمة والرخصة اللتين حدهما الأصوليون
15
في كتبهم فما سمينا مرتبة التخفيف رخصة إلا بالنظر لمقابلها من التشديد أو الأفضل لا غير
وإلا فالعاجز لا يكلف بفعل ما هو فوق طاقته شرعا وإذا لم يكلف بما فوق طاقته فما بقي إلا
أن يكون فعل الرخصة في حقه واجبا كالعزيمة في حق القوي فلا يجوز للعاجز النزول عن
الرخصة إلى مرتبة ترك الفعل بالكلية كما إذا قدر فاقد الماء المطلق على التراب لا يجوز له
ترك التيمم وكما إذا قدر العاجز عن القيام في الفريضة على الجلوس لا يجوز له الاضطجاع
أو قدر على الاضطجاع على اليمين أو اليسار لا يجوز له الاستلقاء أو قدر على الاستلقاء
لا يجوز له الاكتفاء بنحو الايماء بالعينين أو قدر على الايماء بالعينين لا يجوز له الاكتفاء
بإجراء أفعال الصلاة على قلبه كما هو مقرر في كتب الفقه فكل مرتبة من هذه المراتب
بالنظر لما قبلها كالعزيمة مع الرخصة لا يجوز له النزول إليها إلا بعد عجزه عما قبلها والله أعلم
والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * ثم لا يخفى عليك يا أخي إن كل من فعل الرخصة بشرطها أو المفضول بشرطه
فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يقل به إمامه على ما يأتي في الفصول الآتية من التفصيل
كما أن من فعل العزيمة أو الأفضل بكلفة ومشقة فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يكلفه
الشارع بذلك من حيث عظم المشقة فيه اللهم إلا أن يأتي عن الشارع ما يخالف ذلك كقوله
صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصيام في السفر فإن الأفضل للمسافر في مثل ذلك الفطر
للضرر الحاصل به ومن المعلوم أن من شأن الأمور التي يتقرب به إلى حضرة الله تعالى أن
تكون النفس منشرحة بها محبة لها غير كارهة وكل من يأتي بالعباد كارها لها أي من حيث
مشقتها فقد خرج عن موضوع القرب الشرعية المتقرب بها إلى حضرة الله عز وجل لا سيما
في مثل المسألة التي نحن فيها فإنه صلى الله عليه وسلم نفى البر والتقرب إلى الله تعالى بالصوم
الذي يضر بالمسافر ونحن تابعون للشارع ما نحن مشرعون فلا ينبغي لأحد التقرب إلى الله
تعالى إلا بما أذن له الشارع فيه وانشرحت نفسه به من سائر المندوبات وما لم يأذن فيه
فهو إلى الابتداع أقرب وما كل بدعة يشهد لها ظاهر الكتاب والسنة حتى يتقرب بها وتأمل
يا أخي نهى الشارع عن الصلاة حال النعاس تعرف ذلك لأن النعاس إذا غلب على العبد
وتكلف الصلاة صارت نفسه كالمكره عليها ولا يخفى ما في ذلك من نقص الثواب المرتب على
محبة الطاعة فاعلم ذلك يا أخي واعمل بالرخص بشرطها فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه
كما يحب أن تؤتى عزائمه كما صرح به الحديث الذي رواه الطبراني وغيره والحمد لله
رب العالمين
* (فصل) * إن قال قائل فعلى ما قررتم فهل رأيتم في كلام أحد من العلماء ما يؤيد هذه
الميزان من حمل كلام الأئمة على حالين ورده إلى الشريعة قلنا نعم ذكر الشيخ محيي الدين
في الفتوحات المكية وغيره من أهل الكشف أن العبد إذا سلك مقامات القوم متقيدا
بمذهب واحد لا يرى غيره فلا بد أن ينتهي به ذلك المذهب إلى العين التي أخذ إمامه منها
أقواله وهناك يرى أقوال جميع الأئمة تغترف من بحر واحد فينفك عنه التقيد بمذهبه
ضرورة ويحكم بتساوي المذاهب كلها في الصحة خلاف ما كان يعتقد قبل ذلك
16
قال الشيخ محيي الدين ونظير ما قلناه القول بتفضيل الرسل بعضهم على بعض بالاجتهاد
ثم إذا وصل إلى شهود حضرة الوحي التي أخذوا منها أحكام شرائعهم انفك عنه
التفضيل بالاجتهاد وصار لا يفرق بين أحد من رسله إلا من حيثما كشف الله تعالى له
عنه بحكم اليقين لا الظن فهذا نظير المقلد إذا اطلع على العين التي أخذ الأئمة المجتهدون
مذاهبهم منها انتهى وكذلك مما يؤيد هذه الميزان قول الشيخ بدر الدين الزركشي
في آخر كتاب القواعد له في الفقه أعلم وفقك الله لطاعته إن الأخذ بالرخص والعزائم
في محل كل منهما مطلوب فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله عليه كان
أفضل كما أشار إليه حديث أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فإذا
ثبت هذا الأصل عندك يا أخي فاعلم أن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن
كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كأبي محمد الجويني وأضرابه فإنه صنف
كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين قال وذلك في حق أهل الورع
والتقوى من باب العزائم كما أن العمل بالمختلف فيه عندهم من باب الرخص فإذا وقع
العبد في أمر ضروري وأمكنه الأخذ فيه بالعزيمة فله فعله وله تركه وكان ذلك الفعل
الشديد عليه من باب القوة والأخذ بالعزائم إن كان راجحا وإن لم يمكنه الأخذ فيه بالعزيمة
أخذ بالرخصة كما أن له الأخذ بالقول الضعيف في بعض المواطن فلا يكون ذلك منه من باب
المخالفة المحضة قال الزركشي وبعد إذ علمت هذا فحينئذ تعرف أن أحدا من الأئمة الأربعة
أو غيرهم لم يتقلد أمر المسلمين في القول برخصة أو عزيمة إلا على حد ما ذكرناه من هذه
القاعدة فينبغي لكل مقلد للأئمة أن يعرف مقاصدهم انتهى كلام الزركشي رحمه الله
في آخر قواعده وهو من أعظم شاهد لصحة هذه الميزان فلم ينقل لنا عن أحد من الأئمة
الأربعة ولا غيرهم فيما بلغنا أنه كان يطرد الأمر في كل عزيمة قال بها أو رخصة قال بها
في حق جميع الأمة أبدا وإنما ذلك في حق قوم دون قوم وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس
بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني
وشيخ الإسلام عز الدين بن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البراسي
الشهير بابن الأقيطع رحمهم الله والشيخ علي النبتيتي الضرير ونقل الشيخ الجلال السيوطي
رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء إنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما
العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق
فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى فإن قال قائل كيف صح من هؤلاء العلماء
أن يفتوا الناس بكل مذهب مع كونهم كانوا مقلدين ومن شأن المقلد أن لا يخرج عن قول
إمامه فالجواب يحتمل أن يكون أحدهم بلغ مقام الاجتهاد المطلق المنتسب الذي لم يخرج
صاحبه عن قواعد إمامه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن القاسم وأشهب والمزني وابن
المنذر وابن سريج فهؤلاء كلهم وإن أفتوا الناس بما لم يصرح به إمامهم فلم يخرجوا عن
قواعده وقد نقل الجلال السيوطي رحمه الله تعالى إن الاجتهاد المطلق على قسمين مطلق
غير منتسب كما عليه الأئمة الأربعة ومطلق منتسب كما عليه أكابر أصحابهم الذين ذكرناهم
17
قال ولم يدع الاجتهاد المطلق غير المنتسب بعد الأئمة الأربعة إلا الإمام محمد بن جرير الطبري
ولم يسلم له ذلك انتهى ويحتمل أن هؤلاء العلماء الذين كانوا يفتون الناس على المذاهب
الأربعة أطلعهم الله تعالى على عين الشريعة الأولى وشهدوا اتصال جميع أقوال الأئمة
المجتهدين بها وكانوا يفتون الناس بحكم مرتبتي الميزان لا بحكم العموم فلا يأمرون قويا
برخصة ولا ضعيفا بعزيمة وكأنهم نابوا مناب أهل المذاهب الأربعة في تقرير مذاهبهم
واطلعوا على جميع أدلتهم وقد بلغنا حصول هذا المقام أيضا لجماعة من علماء السلف
كالشيخ أبي محمد الجويني والإمام ابن عبد البر المالكي ومن الدليل على ذلك أن أبا محمد صنف كتابه المسمى بالمحيط ولم يتقيد فيه بمذهب كما مر عن الزركشي وكذلك ابن عبد البركان
يقول كل مجتهد مصيب فإما أن يكونا فعلا أو قالا ما ذكر لاطلاعهما على عين الشريعة
الكبرى وتفريع أقوال جميع العلماء منها كما اطلعنا بحمد الله تعالى وإما أن يكونا فالا ذلك
من حيث إن الشارع قرر حكم المجتهد الذي استنبطه من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وقد بلغنا عن الشيخ عز الدين بن جماعة أنه كان إذا أفتى عاميا بحكم
على مذهب إمام يأمره بفعل جميع شروط ذلك الإمام الذي أفتاه بقوله ويقول له إن
تركت شرطا من شروطه لم تصح عبادتك على مذهبه ولا غيره إذ العبادة الملفقة من عدة
مذاهب لا تصح إلا إذا جمعت شروط تلك المذاهب كلها انتهى وذلك منه احتياطا للدين
وخوفا أن يتسبب في نقص عبادة أحد من المسلمين فإن قلت فهل ينبغي لمن يفتي على الأربعة
مذاهب أن لا يفتي المقلدين إلا بالأرجح من حيث النقل أو يفتيهم بما شاء من الأقوال
فالجواب الذي ينبغي له أن لا يفتي الناس إلا بالأرجح لأن المقلد ما سأله إلا ليفتيه بالأرجح
من مذهب إمامه لا بما عنده هو اللهم إلا أن يكون المرجوح أحوط في دين السائل فله أن
يفتيه بالرجوح ولا حرج * ولما ادعى الجلال السيوطي رحمه الله مقام الاجتهاد
المطلق المنتسب كان يفتي الناس بالأرجح من مذهب الإمام الشافعي فقالوا له لم لا تفتيهم
بالأرجح عندك فقال لم يسألوني ذلك وإنما سألوني عما عليه الإمام وأصحابه فيحتاج من يفتي
الناس على الأربعة مذاهب أن يعرف الراجح عند أهل كل مذهب ليفتي به المقلدين
إلا أن يعرف من السائل أنه يعتمد علمه ودينه وينشرح صدره لما يفتيه به ولو كان مرجوحا
عنده فمثل هذا لا يحتاج إلى الاطلاع على ما هو الأرجح عند أهل كل مذهب انتهى
فاعلم ذلك
* (فصل) * ومما يوضح لك صحة مرتبتي الميزان أن تنظر إلى كل حدث ورد أو قول
استنبط وإلى مقابله فإذا نظرت فلا بد أن تجد أحدهما مخففا والآخر مشددا غير ذلك
لا يكون ثم إن الحديث أو القول المخفف قد يكون هو الصحيح الراجح في مذهبك وقد يكون
هو الضعيف المرجوح ولا يخلو حالك يا أخي عند العمل به من أن تكون من أهل مرتبة من
مرتبتي الميزان دون المرتبة الأخرى بالشروط التي تقدمت في فعل الرخصة أي التخفيف
فتفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت به فاعلم ذلك
واعمل عليه وأفت غيرك بما هو وأهله فليس لمن قدر على سهولة الطهارة أن يمس فرجه
18
إذا كان شافعيا ويصلي بلا تجديد طهارة تقليدا لأبي حنيفة كما أنه ليس له أن يصلي فرضا
أو نفلا بغير الفاتحة مع قدرته عليها أو أن يصلي بالذكر مع قدرته على القرآن كما سيأتي
إيضاحه في توجيه أقوال العلماء إن شاء الله تعالى على أن لك أيضا أن تصعد إلى فعل
العزيمة مع المشقة إن اخترت ذلك على وجه المجاهدة لنفسك كما أن لك أيضا أن تنزل
إلى الرخصة بشرطها في هذه الميزان وهو العجز عن غيرها حسا أو شرعا فقط وتكون على
هدى من ربك في كل من المرتبتين ثم إنه قد يكون في الحكم الواحد أكثر من قولين فالحاذق
يرد ما قارب التشديد إلى التشديد وما قارب التخفيف إلى التخفيف كالقول المفصل على
حد سواء كما قدمناه في خطبة الميزان * ومحال أن يوجد دليلان أو قولان مشددان
أو مخففان لا يلحق أحدهما بالآخر ولا يدخل فيه فإن شئت فامتحن ذلك في أقوال مذهبك
مع بعضها بعضا وإن شئت فامتحن ذلك في مذهبك ومقابله من جميع المذاهب المخالفة له
تجدهما لا يخرجان عن تخفيف وتشديد ولكل منهما رجال في حال مباشرة التكاليف كما مر
في الميزان وكذلك ما أوجبه المجتهد أو حرمه باجتهاده فكله يرجع إلى المرتبتين فإن مقابل
التحريم عدم التحريم الشامل للمندوب وقال بعضهم ما أوجبه المجتهد أو حرمه يكون
في مرتبة الأولى ومقابله في مرتبة خلاف الأولى لأنه ليس لغير الشارع أن يحرم أو يوجب
شيئا انتهى والحق أن للمجتهد المطلق أن يحرم ويوجب وانعقد إجماع العلماء على ذلك بل
ولو قلنا بقول هذا البعض فهو يرجع إلى المرتبتين أيضا إذ الأولى في مرتبة التشديد غالبا
لتحجير المطلوبية في الجملة سواء كان ذلك الأولى فعلا أو تركا وخلاف الأولى في مرتبة
التخفيف غالبا فإن قال قائل فمن أين جعلتم كلام المجتهدين من جملة الشريعة مع أن الشارع
لم يصرح بما استنبطوه فالجواب أنه يجب حملهم على أنهم علموا ذلك الوجوب أو التحريم من
قرائن الأدلة أو علموا أنه مراد الشارع من طريق كشفهم لا بد لهم من أحد هذين الطريقين
وقد يجتمعان عند بعض المجتهدين فإن قال قائل فما تقولون فيما ورد فردا من الأحاديث
والأقوال فالجواب مثل ذلك لا مقابل له بل هو شرع مجمع عليه فلا يأتي فيه مرتبتا الميزان
وذلك كالحديث الذي نسخ مقابله أو كالقول الذي رجع عنه المجتهد أو أجمع العلماء على
خلافه فليس فيما ذكر إلا مرتبة واحدة لجميع المكلفين لعدم وجود مشقة على أحد في قوله
ترجح على مشقة تركه خلاف ما فيه المشقة المذكورة فإنه يجئ فيه التخفيف والتشديد كالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا فإنه ورد في كل منهما التخفيف والتشديد فالتشديد كونه
عند بعضهم لا يسقط عن المكلف بخوفه على نفسه أو ماله والتخفيف سقوطه عنه بخوفه
المذكور عند آخرين فالأول في حق الأقوياء في الدين كالعلماء والصالحين والثاني في حق
الضعفاء من العوام في الإيمان واليقين * فإن قال قائل فهل تأتي المرتبتان في حق من يغير
المنكر بتوجهه بقلبه إلى الله تعالى من الأولياء فيكسر إناء الخمر ويمنع الزاني من الزنا
بحيلولته بحائل بينه وبين فرج الزانية مثلا فالجواب نعم تأتي فيه المرتبتان فمن الأولياء من
يرى وجوب التوجه إلى الله تعالى في ذلك ويكون بذلك كالقادر على إزالة المنكر ومنهم
من لا يرى وجوب ذلك بل يكره الاطلاع بكشفه على المنكرات الواقعة في الوجود من غير
19
المتجاهرين بمعاصيهم وذلك لما فيه من الاطلاع على عورات الناس ويسمى ذلك بالكشف
الشيطاني عند بعض القوم وأنه يجب على صاحبه سؤال الله تعالى أن يحول بينه وبينه
فإن قال قائل فما تقولون فيمن له حال يحميه من أهل المنكر إذا أنكر عليهم وكسر إناء خمرهم
هل يجب عليه تغييره باليد أو اللسان اعتمادا على أن الله تعالى لا يخذله أو لا يجب من حيث
إن الحق تعالى لا تقيد عليه فالجواب مثل هذا تأتي فيه المرتبتان فمن الأولياء من ألزمه بذلك
إذا علم أن له حالا يحميه ومنهم من لم يلزمه بذلك نظير ما قالوا فيمن قدر على أن يصل إلى مكة
في خطوة والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فإن قلت فمن يقول إن القياس من جملة الأدلة الشرعية فهل تأتي فيه كذلك
مرتبتا الميزان فالجواب نعم تأتيان فيه فإن من العلماء من كره القياس في الدين ومنهم من
أجازه من غير كراهة ومنهم من منعه فإنه طرد علة وما يدري العبد بأن الشارع قد لا يكون
أراد طرد تلك العلة وإنما ترك ذلك الأمر خارجا عن ذلك الحكم توسعة على أمته وذلك
كقياس الأرز على البرقي باب الربا يجامع الاقتيات فإن الشارع لم يبين لنا حكم الأرز فكان
الأولى بالأدب عند بعض أهل الله تعالى إبقاءه على عدم دخول الربا فيه كما أشار إليه حديث
وسكت عن أشياء رحمة بكم فمن يقول بقياس الأرز على البر مشدد ومن يقول بعدم قياسه
مخفف وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقدرون على القياس ولكنهم تركوا
ذلك أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال سفيان الثوري من الأدب إجراء
الأحاديث التي خرجت مخرج الزجر والتنفير على ظاهرها من غير تأويل فإنها إذا أولت
خرجت عن مراد الشارع كحديث من غشنا فليس منا وحديث من تطير أو تطير له وحديث
ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية فإن العالم إذا أولها بأن
المراد ليس منا في تلك الخصلة فقط أي وهو منافي غيرها هان على الفاسق الوقوع فيها وقال
مثل المخالفة في خصلة واحدة أمر سهل فكان أدب السلف الصالح بعدم التأويل أولى
بالاتباع للشارع وإن كانت قواعد الشريعة قد تشهد أيضا لذلك التأويل * وقد دخل جعفر
الصادق ومقاتل بن حبان وغيرهما على الإمام أبي حنيفة وقالا له قد بلغنا أنك تكثر من
القياس في دين الله تعالى وأول من قاس إبليس فلا تقس فقال الإمام ما أقوله ليس هو
بقياس وإنما ذلك من القرآن قال تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ فليس ما قلناه بقياس
في نفس الأمر وإنما هو قياس عند من لم يعطه الله تعالى الفهم في القرآن انتهى ومن هنا يعلم
أن أهل الكشف غير محتاجين إلى القياس لاستغنائهم عنه بالكشف فإن أورد عليهم شخص
نحو تحريم ضرب الوالدين فإنه ليس في القرآن التصريح بتحريم ضربهما وإنما أخذ العلماء
ذلك من قوله تعالى فلا تقل لهما أف فكان النهي عن ضربهما من باب أولى فالجواب أن هذا
لا يرد على أهل الكشف لأن الله تعالى قال وبالوالدين إحسانا ومعلوم أن ضربهما ليس
بإحسان فلا حاجة إلى القياس * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول يصح دخول
القياس عند من احتاج إليه وعند من لم يحتج إليه في مرتبتي الميزان فمن كلف الإنسان
بالفحص عن الأدلة واستخراج النظائر من القرآن شدد ومن لم يكلفه بذلك فقد خفف ولم يزل
20
في الناس من يقدر على الاستنباط ومن يعجز عن ذلك في كل عصر وكان ابن حزم يقول جميع
ما استنبطه المجتهدون معدود من الشريعة وإن خفي دليله على العوام ومن أنكر ذلك فقد
نسب الأئمة إلى الخطأ وأنهم يشرعون ما لم يأذن به الله وذلك ضلال من قائله عن الطريق
والحق أنه يجب اعتقاد أنهم لولا رأوا في ذلك دليلا ما شرعوه فرجع الأمر كذلك في قضية
الاستنباط إلى مرتبتي الشريعة كالقياس فمن أمر الناس باتباع كل ما شرعه
المجتهدون فقد شدد ومن لم يأمرهم إلا بما صرحت به الشريعة أو أجمع عليه العلماء فقد
خفف في الجملة لأنه من باب فمن تطوع خيرا فهو خير له والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * من لازم كل من لم يعمل بهذه الميزان التي ذكرناها وترك العمل بجميع
الأقوال المرجوحة نقصان الثواب غالبا وسوء الأدب مع جميع أصحاب تلك الأقوال
والوجوه من العلماء عكس ما يحصل لمن عمل بالميزان فإن ذلك المرجوح الذي ترك هذا العبد
العمل به لا يخلوا ما أن يكون أحوط للدين فهذا لا ينبغي ترك العمل به وإما أن يكون غير
أحوط فقد يكون رخصة والله يحب أن تؤتي رخصة كما صرح به الحديث أي بشرطه
ويكون على علم الإخوان أن لكل سنة سنها المجتهدون أو بدعة حرمها المجتهدون درجة
في الجنة أو دركا في النار وأن تفاوت مقامهم ونزل عما سنه الشارع أو كرهه كما صرح به
أهل الكشف فاعلم ذلك واعمل بكل ما سنه لك المجتهدون واترك كل ما كرهوه ولا تطالبهم
بدليل في ذلك فإنك محبوس في دائرتهم ما دمت لم تصل إلى مقامهم لا يمكنك أن تتعداهم إلى
الكتاب والسنة وتأخذ الأحكام من حيث أخذوا أبدا * وسمعت سيدي عليا الخواص
رحمه الله تعالى يقول اعملوا بكل أقوال الأئمة التي ظاهرها المخالفة لبعضهم بعضا عند
اجتماع شروط العمل بها فيكم لتحوزوا الثواب الكامل فأين مقام من يعمل بالشريعة
كلها ممن يرد غالبها ولا يعمل به إذ المذهب الواحد لا يحتوي أبدا على جميع الأدلة ولو قال
صاحبه في الجملة إذا صح الحديث فهو مذهبي بل ربما ترك أتباعه العمل بأحاديث كثيرة
صحت بعد إمامهم وذلك خلاف مراد إمامهم فافهم انتهى فإن توقف إنسان في حصول
الثواب بما سنه المجتهدون وطالبنا بالدليل على ذلك قلنا له إما أن تؤمن بأن سائر أئمة
المسلمين على هدى من ربهم فلا يسعه إن كان صحيح الاعتقاد إلا أن يقول نعم فنقول له فحيثما
آمنت بأنهم على هدى من الله تعالى وأن مذاهبهم صحيحة لزمك الإيمان بالثواب لكل من
عمل بها على وجه الاخلاص وحصول المراتب لمن عمل بها في الجنة وإن تفاوت المقام فإن
ما سنه الشارع أعلى مما سنه المجتهد لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة
فله أجرها وأجر من عمل بها إلى آخر ما قال عليه الصلاة والسلام فافهم والله أعلم
* (فصل) * ينبغي لكل مؤمن الإقبال على العمل بكل حديث ورد وبكل قول استنبط
أي بشرطه لأنه لا يخرج عن مرتبتي الميزان أبدا * وسمعت سيدي عليا الخواص
رحمه الله تعالى يقول كل ما ترونه في كلام الشارع وكلام أحد من الأئمة مخالفا للآخر
في الظاهر فهو محمول على حالين لأن كلام الشارع يجل عن التناقض وكذلك كلام الأئمة
لمن نظر فيه بعين العلم والإنصاف لا بعين الجهل والتعصب كما مر قال وتأملوا قوله صلى
21
الله عليه وسلم لمن سأله من آحاد الصحابة كيف رأيت ربك فقال نورانيا أراه وقال لأكابر
الصحابة رأيت ربي قولا واحدا فما قال لغير الأكابر ما قال إلا خوفا عليهم أن يتخيلوا
في جناب الحق تعالى ما لا يليق به ونظير ذلك تقريره صلى الله عليه وسلم أبا بكر على خروجه
عن ماله كله وقوله لكعب بن مالك حين أراد أن ينخلع من ماله لما تاب الله عليه أمسك
عليك بعض مالك فهو خير لك ونظير ذلك أيضا حديث ابدأ بنفسك ثم بمن تعول مع مدح
الله تعالى المؤثرين على أنفسهم فقوله ابدأ بنفسك خطاب للكمل عملا بحديث الأقربون
أولى بالمعروف وإلا أقرب إليك من نفسك وأما قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم فهو خطاب
لغير أكابر الصحابة وإنما مدحهم على ذلك ليخرجوا من ورطة الشح الذي فتحوا عيونهم
عليه في الدنيا فإذا خرجوا عن ذلك أمروا بالبداءة بأنفسهم لأنها وديعة الله تعالى عندهم
بخلاف غيرها ليس هو وديعة عندهم وإنما هو جار لهم * وسمعت سيدي عليا
الخواص رحمه الله تعالى يقول إذا ظلم الكامل ذاته بتقديم غيرها عليها آخذه الله بذلك
بخروجه عن العدل المأمور به بخلاف المريد كأنه مسامح بظلم نفسه في مرضاة الله تعالى
وتحميلها فوق طاقتها من العبادات بل يثاب على ذلك فإذا وصل إلى نهاية السلوك النسبية
التي بمثابة بلوغ مرام من وصل دار الملك وعرفه ممن له عنده حاجة أمر حينئذ بالإحسان إلى
نفسه لأنها كانت مطيته في الوصول إلى حضرة ربه وأما ما ورد من شد النبي صلى الله عليه
وسلم الحجر على بطنه من الجوع ونحوه من المجاهدات فإنما ذلك تنزلا وتشريعا لآحاد الأمة
فلو أنه صلى الله عليه وسلم وقف مع مقامه الشريف الذي يعامل به ربه ولم يتنزل لعسر على
غالب أمته الصدق والإخلاص في اتباعه انتهى
* (فصل) * إن قال قائل كيف الوصول إلى الاطلاع على عين الشريعة المطهرة التي
يشهد الإنسان اغتراف جميع المجتهدين مذاهبهم منها ويشهد تساويها كلها في الصحة كشفا
ويقينا لا إيمانا وتسليما فقط ولا ظنا وتخمينا فالجواب طريق الوصول إلى ذلك هو السلوك
على يد شيخ عارف بميزان كل حركة وسكون بشرط أن يسلمه نفسه يتصرف فيها وفي أموالها
وعيالها كيف شاء مع انشراح قلب المريد لذلك كل الانشراح وأما من يقول له شيخه طلق
امرأتك أو أسقط حقك من مالك أو وظيفتك مثلا فيتوقف فلا يشم من طريق الوصول
إلى عين الشريعة المذكورة رائحة ولو عبد الله تعالى ألف عام بحسب العادة غالبا فإن قلت
فهل ثم شروط أخر في حال السلوك فالجواب نعم من الشروط أن لا يمكث لحظة على حدث
في ليل أو نهار ولا يفطر مدة سلوكه إلا لضرورة ولا يأكل شيئا فيه روح من أصله ولا يأكل
إلا عند حصول مقدمات الاضطرار ولا يأكل من طعام أحد لا يتورع في مكسبه كمن
يطعمه الناس لأجل صلاحه وزهده وكمن يبيع على من لا يتورع من الفلاحين وأعوان
الولاة وأن لا يسامح نفسه بالغفلة عن الله لحظة بل يديم مراقبته ليلا ونهارا فتارة يشهد
نفسه في مقام الاحسان كأنه يرى ربه وتارة يشهد نفسه في مقام الايقان بعد الاحسان
فيرى ربه ينظر إليه على الدوام إيمانا بذلك لا شهودا وذلك لأن هذا أكمل في مقام التنزيه
لله عز وجل من شهود العبد كأنه يرى ربه لأنه لا يشهد إلا ما قام في مخيلته وتعالى الله عن
22
كل شئ يخطر بالبال فافهم فإن قال قائل فما كان كيفية سلوك صاحب هذه الميزان
فالجواب أني أخذتها أولا عن الخضر عليه السلام علما وإيمانا وتسليما ثم إني أخذت
في السلوك على يد سيدي على الخواص حتى اطلعت على عين الشريعة ذوقا وكشفا ويقينا
لا أشك فيه فجاهدت في نفسي كذا كذا سنة وجعلت لي حبلا في سقف خلوتي أوضعه في عنقي
حتى لا أضع جنبي على الأرض وبالغت في التورع حتى كنت أسف التراب إذا لم أجد
طعاما يليق بمقامي الذي أنا عليه في الورع وكنت أجد للتراب دسما كدسم اللحم أو السمن
أو اللبن وسبقني إلى نحو ذلك إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه فمكث عشرين يوما يسف
التراب حين فقد الحلال المشاكل لمقامه انتهى وكذلك كنت لا أمر في ظل عمارة أحد من
الولاة ولما عمل السلطان الغوري الساباط الذي بين مدرسته وقبته الزرقاء كنت أدخل من
سوق الوراقين وأخرج من سوق الشرب ولا أمر تحت ظله وكذلك الحكم في جميع عمارات
الظلمة والمباشرين والأمراء وأعوانهم وكنت لا آكل من شئ إلا بعد تفتيشي فيه غاية
التفتيش ولا أكتفي فيه برخصة الشرع وأنا على ذلك بحمد الله تعالى إلى الآن ولكن مع
اختلاف المشهد فإني كنت فيما مضى أنظر إلى اليد المالكة له والآن أنظر إلى لونه أو رائحته
أو طعمه فأدرك للحلال رائحته طيبة وللحرام رائحة خبيثة وللشبهات رائحة دون الحرام
في الخبث فاترك ذلك عند هذه العلامات فأغناني ذلك عن النظر إلى صاحب اليد ولم أعول
عليه فلله الحمد على ذلك فلما انتهى سيري إلى هذه الحدود وقفت بعين قلبي على عين الشريعة
المطهرة التي يتفرع منها قول كل عالم ورأيت لكل عالم جدولا منها ورأيتها كلها شرعا محضا
وعلمت وتحققت أن كل مجتهد مصيب كشفا ويقينا لا ظنا وتخمينا وأنه ليس مذهب أولى
بالشريعة من مذهب ولو قام لي ألف مجادل يجادلني على ترجيح مذهب على مذهب بغير
دليل واضح لا أرجع إليه في قلبي وإنما أرجع إليه إن رجعتم مداراة له لحجابه وأقول له نعم
مذهبك أرجح أعني عنده هو لا عندي أنا ومن جملة ما رأيت في العين جداول جميع المجتهدين
الذين اندرست مذاهبهم لكنها يبست وصارت حجارة ولم أر منها جدولا يجري سوى جداول
الأئمة الأربعة فأولت ذلك ببقاء مذاهبهم إلى مقدمات الساعة ورأيت أقوال الأئمة
الأربعة خارجة من داخل الجداول كما سيأتي صورته في فصل الأمثلة لاتصال مذاهب
العلماء بالشريعة وإيصالها العامل بها إلى باب الجنة إن شاء الله تعالى فجميع المذاهب
الآن عندي متصلة ببحر الشريعة اتصال الأصابع بالكف والظل بالشاخص ورجعت
عن اعتقادي الذي كنت اعتقده قبل ذلك من ترجيح مذهبي على غيره وأن المصيب من
الأئمة واحد لا بعينه وسررت بذلك غاية السرور فلما حججت سنة سبع وأربعين وتسعمائة
سألت الله تعالى في الحجر تحت ميزاب الكعبة الزيادة من العلم فسمعت قائلا يقول لي من
الجو أما يكفيك إنا أعطيناك ميزانا تقرر بها سائر أقوال المجتهدين وأتباعهم إلى يوم
القيامة لا ترى لها ذائقا من أهل عصرك فقلت حسبي وأستزيد ربي انتهى فإن قلت فإذن
سبب حجاب بعض ضعفاء المقلدين عن شهود عين الشريعة الأولى إنما هو غلظ حجابه بأكل
الحرام والشبهات وارتكاب المخالفات فالجواب نعم وهو كذلك فإن قلت فما حكم من
23
أكل الحرام وترك المعاصي وسلك بنفسه من غير شيخ فهل يصل إلى هذا المقام من الوقوف
على العين الأولى للشريعة فالجواب لا يصح لعبد الوصول إلى المقامات العالية إلا بأحد
أمرين إما بالجذب الإلهي وإما بالسلوك على يد الأشياخ الصادقين لما في أعمال العباد من
العلل بل لو قدر زوال العلل من عبادته فلا يصح له الوصول إلى الوقوف على عين الشريعة
لحبسه في دائرة التقليد لإمامه فلا يزال إمامه حاجبا له عن شهود عين الشريعة الأولى التي
يشهدها إمامه لا يمكنه أن يتعداه ويشهدها إلا بالسلوك على يد شخص آخر فوقه
في المقام من أكابر أئمة العارفين كما مر ومحال عليه أن يعتقد إن كل مجتهد مصيب
إلا بالسلوك المذكور حتى يساويه في مقام الشهود فإن قلت فإذن من أشرف على عين
الشريعة الأولى يشارك المجتهدين في الاغتراف من عين الشريعة وينفك عنه التقليد
فالجواب نعم وهو كذلك فإنه ما ثم أحد حق له قدم الولاية المحمدية إلا ويصير يأخذ أحكام
شرعه من حيث أخذها المجتهدون وينفك عنه التقليد لجميع العلماء إلا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم إن نقل عن أحد من الأولياء أنه كان شافعيا أو حنفيا مثلا فذلك قبل
أن يصل إلى مقام الكمال * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول لا يبلغ
الولي مقام الكمال إلا أن صار يعرف جميع منازع جميع الأحاديث الواردة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويعرف من أين أخذها الشارع من القرآن العظيم فإن الله تعالى قال
ما فرطنا في الكتاب من شئ فجميع ما بينته الشريعة من الأحكام هو ظاهر المأخذ للولي
الكامل من القرآن كما كان عليه الأئمة المجتهدون ولولا معرفتهم بذلك ما قدروا على استنباط
الأحكام التي لم تصرح بها السنة قال وهي منقبة عظيمة للكامل حيث صار يشارك الشارع
في معرفة منازع أقواله صورة من القرآن العظيم بحكم الإرث له صلى الله عليه وسلم انتهى
فإن قلت فهل يجب على المحجوب عن الاطلاع على العين الأولى للشريعة التقيد بمذهب
معين فالجواب نعم يجب عليه ذلك لئلا يضل في نفسه ويضل غيره فاعذر يا أخي المقلدين
المحجوبين إذا انكشف حجابك في قولهم المصيب واحد ولعله إمامي والباقي مخطئ يحتمل
الصواب في نفس الأمر في كل مسألة فيها خلاف ونزل قول كل من قال كل مجتهد مصيب
على من انتهى سيره وخرج عن التقليد وشهد اغتراف العلماء كلهم علمهم من عين الشريعة
ونزل قول كل من قال المصيب واحد لا بعينه والباقي مخطئ يحتمل الصواب على من لم ينته
سيره ولا ترجح قولا منهما على الآخر واشكر ربك على ذلك والحمد لله رب العالمين * فعلم من
جميع ما قررناه وجوب اتخاذ الشيخ لكل عالم طلب الوصول إلى شهود عين الشريعة الكبرى
ولو أجمع جميع أقرانه على علمه وعمله وزهده وورعه ولقبوه بالقطبية الكبرى فإن لطريق
القوم شروطا لا يعرفها إلا المحققون منهم دون الدخيل فيهم بالدعاوى والأوهام
وربما كان من لقبوه بالقطبية لا يصلح أن يكون مريدا للقطب بل قال بعض المحققين
إن القطب لا يحيط بمقامات نفسه فضلا عن غيره وذلك لأن صفات القطبية في العبودية
تقابل صفات الربوبية فكما لا تنحصر صفات الربوبية كذلك لا تنحصر صفات العبودية انتهى
والحمد لله رب العالمين
24
* (فصل) * فإن قلت فإذا انفك قلب الولي عن التقليد ورأى المذاهب كلها متساوية
في الصحة لاغترافها كلها من بحر الشريعة كشفا ويقينا فكيف يأمر المريد بالتزام
مذهب معين لا يرى خلافه فالجواب إنما يفعل ذلك مع الطالب رحمة به وتقريبا للطريق
عليه ليجمع شتات قلبه ويدوم عليه السير في مذهب واحد فيصل إلى عين الشريعة التي
وقف عليها إمامه وأخذ منها مذهبه في أقرب زمان لأن من شأن المجتهد أن لا يبني قوله على
قول مجتهد آخر ولو سلم له صحة مذهبه حفظا لقلوب أتباعه عن التشتت وقد قالوا حكم من
يتقيد بمذهب مدة ثم بمذهب آخر مدة وهكذا حكم من سافر بقصد موضع معين بعيد ثم صار
كلما بلغ ثلث الطريق أداه اجتهاده أنه لو سلك إلى مقصده من طريق كذا لكان أقرب من
هذا الطريق فيرجع عن سيره ويعود قاصدا ابتداء السير من أول تلك الأخرى فإذا بلغ ثلثها
مثلا أداه اجتهاده إلى أن سلوك غيرها أيضا أقرب لمقصده ففعل كما تقدم له وهكذا فمثل
هذا ربما أفنى عمره كله في السير ولم يصل إلى مقصده المعين الذي هو مثال عين الشريعة التي
وصل إليها إمامه أو غيره من أصحاب تلك المذاهب على أن انتقال الطالب من مذهب إلى
مذهب فيه قدح في حق ذلك الإمام الذي انتقل عن مذهبه على تفصيل سيأتي إن شاء الله
تعالى في فصل حكم المنتقل من مذهب إلى مذهب ولو صدق هذا الطالب في صحة هذا
الاعتقاد في أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لما طلب الانتقال من مذهب إلى غيره
بل كان يشهد أن كل مذهب عمل به وتقيد عليه أوصله إلى باب الجنة كما سيأتي بيانه آخر
هذا الباب في فصل الأمثلة المحسوسة للميزان إن شاء الله تعالى * وسمعت سيدي
عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول إنما أمر علماء الشريعة الطالب بالتزام مذهب معين
وعلماء الحقيقة المريد بالتزام شيخ واحد تقريبا للطريق فإن مثال عين الشريعة أو حضرة
معرفة الله عز وجل مثال الكف ومثال مذاهب المجتهدين وطرق الأشياخ مثال
الأصابع ومثال أزمنة الاشتغال بمذهب ما أو طريق شيخ ما مثال عقد الأصابع لمن أراد
الوصول إلى مس الكف لكن من طريق الابتداء بمس عقد الأصابع فكل عقدة من عقد
الأصابع الثلاث بمثابة وصول الطالب إلى ثلث الطريق إلى سلوك عين الشريعة أو عين
المعرفة التي مثلناها بالكف فإذا كان مدة سلوك المريد أو الطالب في العبادة ثلاث سنين
ويصل إلى عين الشريعة أو حضرة المعرفة بالله تعالى فتقيد بمذهب أو شيخ سنة ثم ذهب لآخر
سنة ثم لآخر سنة فقد فوت على نفسه الوصول ولو أنه جعل الثلاث سنين على يد شيخ واحد
لأوصله إلى عين الشريعة أو حضرة المعرفة بالله تعالى فساوى صاحب مذهبه في العلم
أو شيخه في المعرفة لكن فوت على نفسه بذهابه من مذهب أو شيخ إلى آخر لما تقدم من أنه
لا يصح أن يبني مجتهد أو شيخ له على مذهب غيره أو طريق غيره فكأنه مقيم مدة سيره الثلاث
سنين في أول عقدة من عقد الأصابع التي هي كناية عن ثلث الطريق ولو أنه دام على شيخ
واحد لوصل إلى مقصوده ووقف على العين الكبرى للشريعة وأقر سائر المذاهب المتصلة بها
بحق فافهم والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فإن قلت هذا في حق العلماء بأحكام الشريعة والحقيقة فما تقولون في أقوال
25
أئمة الوصول والنحو والمعاني والبيان ونحو ذلك من توابع الشريعة هل هي كذلك
على مرتبتي الميزان من تخفيف وتشديد كالأحكام الشرعية أم لا فالجواب نعم هي كذلك
لأن آلات الشريعة كلها من لغة ونحو وأصول وغير ذلك ترجع إلى تخفيف وتشديد
فإن من اللغات وكلام العرب ما هو فصيح وأفصح ومنها ما هو ضعيف وأضعف فمن كلف
العوام مثلا اللغة الفصحى في غير القرآن أو الحديث فقد شدد عليهم ومن سامحهم فقد خفف
وأما القرآن والحديث فلا يجوز قراءته باللحن إجماعا إلا إذا لم يمكن اللاحن التعليم لعجز
لسانه كما هو مقرر في كتب الفقه ومن أمر الطالب أيضا بالتبحر في نحو علم النحو فقد شدد
ومن اكتفى منه بمعرفة الإعراب الذي يحتاج إليه عادة فقد خفف وقد ينقسم تعلم هذه
العلوم إلى فرض كفاية وإلى فرض عين فمثال فرض الكفاية ظاهر ومثال فرض العين
في ذلك أن يخرج للشريعة مبتدع يجادل علماءها في معاني القرآن والحديث فإن تعلم
هذه العلوم حينئذ يكون في حق العلماء الذين انحصر الاحتياج إليهم في مجلس المناظرة
فرض عين فإن لم يخرج للشريعة مبتدع أو خرج ولم يتعين على جماعة كان تعلم هذه العلوم
في حق غير من عليه من العلماء فرض كفاية فإن الشريعة كالمدينة العظيمة وهذه العلوم
كالمنجنيقات التي على سورها تمنع العدو من الدخول إليها ليفسد فيها فافهم فإن قلت
فما الحكم فيما إذا وجد الطالب حديثين أو قولين أو أقوالا يعرف الناسخ من الحديثين
ولا المتأخر من القولين أو الأقوال فماذا يفعل فالجواب سبيله أن يعمل بهذا الحديث
أو القول تارة وبالقول الآخر تارة ويقدم الأحوط منهما على غيره في الأمر والنهي بشرطه
بمعنى أنه يترك العمل بغيره جملة وإن كان أحدهما منسوخا أو رجع عنه المجتهد في نفس الأمر
فذلك لا يقدح في العمل به فإن قلت قد تقدم أن الولي الكامل لا يكون مقلدا وإنما يأخذ
علمه من العين التي أخذ منها المجتهدون مذاهبهم ونرى بعض الأولياء مقلدا لبعض الأئمة
فالجواب قد يكون ذلك الولي لم يبلغ إلى مقام الكمال أو بلغه ولكن أظهر تقيده في تلك
المسألة بمذهب بعض الأئمة أدبا معه حيث سبقه القول بها وجعله الله تعالى إماما
يقتدى به واشتهر في الأرض دونه وقد يكون عمل ذلك الولي بما قال به ذلك المجتهد لاطلاعه
على دليله لا عملا بقول ذلك المجتهد على وجه التقليد له بل لموافقته لما أدى إليه كشفه فرجع
تقليد هذا الولي للشارع لا لغيره وما ثم ولي يأخذ علما إلا عن الشارع ويحرم عليه أن
يخطو خطوة في شئ لا يرى قدم نبيه أمامه فيه وقد قلت مرة لسيدي على الخواص رضي
الله عنه كيف صح تقليد سيدي الشيخ عبد القادر الجبلي للإمام أحمد بن حنبل وسيدي
محمد الحنفي الشذلي للإمام أبي حنيفة مع اشتهارهما بالقطبية الكبرى وصاحب هذا المقام
لا يكون مقلدا إلا للشارع وحده فقال رضي الله عنه قد يكون ذلك منهما قبل بلوغهما
إلى مقام الكمال ثم لما بلغا إليه استصحب الناس ذلك اللقب في حقهما مع خروجهما
عن التقليد انتهى فاعلم ذلك
* (فصل) * فإن قلت إن الأئمة المجتهدين قد كانوا من الكمل بيقين لاطلاعهم على عين
الشريعة كما تقدم فكيف كانوا يعقدون مجالس المناظرة مع بعضهم بعضا مع أن ذلك ينافي
26
مقام من أشرف على عين الشريعة الأولى ورأى اتصال مذاهب المجتهدين كلها بعين
الشريعة فالجواب قد يكون مجلس المناظرة بين الأئمة إنما وقع منهم قبل بلوغ المقام
الكشفي واطلاعهم على اتصال جميع مذاهب المجتهدين بعين الشريعة الكبرى فإن من
لازم المناظرة ادحاض حجة الخصم وإلا كانت المناظرة عبثا ويحتمل أن مجلس المناظرة
كان بين مجتهد وغير مجتهد فطلب المجتهد بالمناظرة ترقية ذلك الناقص إلى مقام الكمال
لا ادحاض حجته من كل وجه ويحتمل أيضا أن يكون مجلس المناظرة إنما كان لبيان الأكمل
والأفضل ليعمل أحدهم به ويرشد أصحابه إلى العمل به من حيث إنه أرقى في مقام الإسلام
أو الإيمان أو الاحسان أو الايقان وبالجملة فلا تقع المناظرة بين الكاملين على الحد المتبادر
إلى الأذهان أبدا بل لا بد لها من موجب وأقرب ما يكون قصدهما تشحيذ ذهن أتباعهما
وإفادتهم كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل بعض أشياء لبيان الجواز وإفادة الأمة نحو
حديث ما الإسلام وما الإيمان وما الاحسان وإيضاح ذلك أن كل مجتهد يشهد صحة قول
صاحبه ولذلك قالوا المجتهد لا ينكر على مجتهد لأنه يرى قول خصمه لا يخرج عن إحدى
مرتبتي الشريعة وأن خصمه على هدى من ربه في قوله وثم مقام رفيع ومقام أرفع فإن
قلت فهل يصح في حق من اطلع على عين الشريعة المطهرة الجهل بشئ من أصول أحكام
الشريعة المطهرة فالجواب أنه لا يصح في حقه الجهل بمنزع قول من أقوال العلماء بل يصير
يقرر جميع مذاهب المجتهدين وأتباعهم من قلبه ولا يحتاج إلى نظر في كتاب لأن صاحب
هذا المقام يعرف كشفا ويقينا وجه إسناد كل قول في العلم إلى الشريعة ويعرف من
أين أخذه صاحبه من الكتاب والسنة بل يعرف إسناد كل قول إلى حضرة الاسم الذي
برز من حضرته من سائر الأسماء الإلهية وهذا هو مقام العلماء بالله تعالى وبأحكامه على
التحقيق فإن قلت فعلى ما قررتم من أن سائر الأئمة على هدى من ربهم فكل شخص يزعم أنه
يعتقد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم نفرت نفسه من العمل بقول غير إمامه
وحصل له به الحرج والضيق فهو غير صادق في اعتقاده المذكور فالجواب نعم والأمر
كذلك ولا يكمل اعتقاده إلا أن تساوى عنده العمل بقول كل مجتهد على حد سواء
بشرطه السابق في الميزان فإن قلت فهل يجب على مثل هذا السلوك على يد شيخ حتى يصل
إلى شهود عين الشريعة الأولى في مقام الإيمان والإحسان والإيقان من حيث إن لكل
مقام من هذه المقامات عينا تخصه كما أن لكل عبادة شروطا في كل مقام منها كما
يعرف ذلك أهل الكشف وبه يصير أحدهم يعتقد أن كل مجتهد مصيب فالجواب كما تقدمت
الإشارة إليه نعم يجب السلوك حتى يصل إلى ذلك لأن كل ما لم يتوصل إلى الواجب إلا به
فهو واجب ومعلوم أنه يجب على كل مسلم اعتقاده أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم
ولا يصح الاعتقاد إلا أن يكون جازما ولا يصح الجزم الحقيقي إلا بشهود العين التي يتفرع
منها كل قول والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فإن قلت فبماذا أجيب من نازعني في صحة هذه الميزان من المجادلين وقال
هذا أمر ما سمعنا به عن أحد من علمائنا وقد كانوا بالمحل الأسنى من العلم فما الدليل عليها من
27
الكتاب والسنة وقواعد الأئمة فالجواب من أدلة هذه الميزان طلب الشارع منا الوفاق
وعدم الخلاف في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه أي بالآراء التي
لا يشهد لموافقتها كتاب ولا سنة وأما ما شهد له الكتاب والسنة فهو من جمع الدين لا من
تفرقته ومن الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله
تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقوله تعالى
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقوله تعالى إن الله بالناس لرؤف رحيم وأما الأحاديث في ذلك
فكثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم لمن بايعه على السمع والطاعة في المنشط والمكره فيما استطعتم ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم
يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ومنها قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة
أي توسعة عليهم وعلى أتباعهم في وقائع الأحوال المتعلقة بفروع الشريعة وليس المراد
اختلافهم في الأصول كالتوحيد وتوابعه وقال بعضهم المراد به اختلافهم في أمر معاشهم
وسيأتي أن السلف كانوا يكرهون لفظ الاختلاف ويقولون إنما ذلك توسعة خوفا أن
يفهم أحد من العوام من الاختلاف خلاف المراد وقد كان سفيان الثوري رحمه الله
تعالى يقول لا تقولوا اختلف العلماء في كذا وقولوا قد وسع العلماء على الأمة بكذا
ومن الدليل على صحة مرتبتي الميزان أيضا من قول الأئمة قول إمامنا الشافعي وغيره رضي
الله عنهم أن إعمال الحديثين أو القولين بحملهما على حالين أولى من إلغاء أحدهما فعلم
أن من طعن في صحة هذه الميزان لا يخلو إما أن يطعن فيما شددت فيه أو خففت فيه لكون
إمامه قال بضده فقل له إن كلا من هذين الأمرين جاءت به الشريعة وإمامك لا يجهل
مثل ذلك فإذا أخذ إمامك بتخفيف أو تشديد فهو مسلم لمن أخذ بالمرتبة الأخرى ضرورة
فيجب على كل مقلد اعتقاد أن إمامه لو عرض عليه حال من عجز عن فعل العزيمة التي قال
هو بها لأفتاه بالرخصة التي قال بها غيره اجتهادا منه لهذا العاجز لا تقليد لذلك الإمام
الذي قال بها أو كان يقر ذلك المجتهد على الفتوى بها وكل من أمعن النظر في كلام الأئمة
المجتهدين رضي الله عنهم وجد كل مجتهد يخفف تارة ويشدد أخرى بحسب ما ظفر به من أدلة
الشريعة فإن كل مجتهد تابع لما وجد من كلام الشارع لا يخرج في استنباطه عنه أبدا وغاية
كلام المجتهد أنه أوضح كلام الشارع للعامة بلسان يفهمونه لما عندهم من الحجاب الذي هو
كناية هنا عن عدم التوفيق لما يحتاج إليه من طرق الفهم الذي يفتقر معه إلى توفيق كلام
أحد من الخلق سوى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه ولو أن حجابهم رفع
لفهموا كلام الشارع كما فهمه المجتهدون ولم يحتاجوا إلى من يشرحه لهم وقد قدمنا آنفا أن
أحدا من المجتهدين لم يشدد في أمر أو يخفف فيه إلا تبعا للشارع فما رأى الشارع شدد فيه
شدد وما رآه خفف فيه خفف قياما بواجب شعائر الدين سواء أوقع التشديد في فعل الأمر
أم اجتناب النهي وجميع المجتهدين على ذلك كما يعرفه من سير مذاهبهم وإيضاح ذلك أن كلما
28
رآه الأئمة يخل بشعار الدين فعلا أو تركا أبقوه على التشديد وكلما رأوا أن به كمال شعار الدين
لا غير ولا يظهر به نقص فيه أبقوه على التخفيف إذ هم أمناء الشارع على شريعته من بعده
وهم الحكماء العلماء فافهم فإن قلت إن بعض المقلدين يزعم أن إمامه إذا قال بعزيمة لا يقول
بالرخصة أبدا وإذا قال برخصة لا يقول بمقابلها من العزيمة أبدا بل كان إمامه ملازما قولا
واحدا يطرده في حق كل قوي وضعيف حتى مات وأنه لو عرض عليه حال من عجز عن فعل
العزيمة لم يفته بالرخصة أبدا فالجواب أن هذا اعتقاد فاسد في الأئمة ومن اعتقد مثل ذلك
في إمامه فكأنه يشهد على إمامه بأنه كان مخالف لجميع قواعد الشريعة المطهرة من آيات
وأخبار وآثار كما مر بيانه آنفا وكفى بذلك قدحا وجرحا في إمامه لأنه قد شهد عليه بالجهل
بجميع ما انطوت عليه الشريعة من التخفيف والتشديد فالحق الذي يجب اعتقاده في سائر
الأئمة رضي الله عنهم أنهم إنما كانوا يفتون كل أحد بما يناسب حاله من تخفيف وتشديد
في سائر أبواب العبادات والمعاملات ومن نازعنا في ذلك من المقلدين فليأتنا بنقل صحيح
السند عنهم بأنهم كانوا يعممون في الحكم الذي كانوا يفتون به الناس في حق كل قوي
وضعيف ونحن نوافقه على ما زعمه ولعله لا يجد في ذلك نقلا عنهم متصل السند منهم إليه
نلتزمه حجة له أبدا على هذا الوجه أي بل لا بد لنا من القدرة بمشيئة الله تعالى على القدح
في فهم ذلك المقلد لعبارة ذلك الإمام رضي الله تعالى عنه فإن من المعلوم أن جميع أقوال
المجتهدين تابعة لأدلة الشريعة من تخفيف أو تشديد كما مر آنفا بحكم المطابقة فما صرحت
الشريعة بحكمه لا يمكن أحدا منهم الخروج عنه أبدا وما أجملته أي ذكرته ولم تبين مرتبته
فإن المجتهدين يرجعون فيه إلى قسمين قسم يخفف وقسم يشدد بحسب ما يظهر لهم من
المدارك أو لغة العرب كما يعرف ذلك من سير مذاهب الأئمة وذلك نحو حديث إنما الأعمال
بالنيات أو حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه أو لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو لا صلاة
لجار المسجد إلا في المسجد فإن من المجتهدين من قال لا صلاة أو لا وضوء لمن ذكر تصح أصلا
ومنهم من قال لا صلاة كاملة ولا وضوء كامل ولفظ الأحاديث المذكورة يشهد لكل إمام
لا سبيل لأحدهما أن يهدم قول الآخر جملة من غير تطرق احتمال أي معنى يعارض في ذلك
أبدا وأقرب معنى في ذلك أن حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظهر له في المسائل الشرعية
ولا يطالب بسوى ما يظهر له أبدا فإن قلت فإذن كان من كمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
التي اختص بها إنها جاءت على ما ذكر من التخفيف والتشديد الذي لا يشق على الأمة كل
تلك المشقة وبذلك ونحوه كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين في تكميل أديانهم ودفع
ما فيه مشقة عليهم فالجواب نعم وهو كذلك فرحم صلى الله عليه وسلم أقوياء أمته بأمرهم
باكتسابهم الفضائل والمراتب العلية وذلك بفعل العزائم التي يترقون بها في درجات الجنة
ورحم الضعفاء بعدم تكليفهم ما لا يطيقونه مع توفر أجورهم كما ورد في حق من مرض
أو سافر من أن الحق تعالى يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يعمل صحيحا مقيما فعلم أن
الشريعة لو كانت جاءت على إحدى مرتبتي الميزان فقط لكان فيها حرج شديد على الأمة
في قسم التشديد ولم يظهر للدين شعار في قسم التخفيف وكان كل من قلد إماما في مسألة قال
29
فيها بالتشديد لا يجوز له العمل بقول غيره في مضايق الأحوال والضرورات فكانت المشقة
تعظم على الأمة بذلك فالحمد لله الذي جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل
حال بحكم الاعتدال فلا يوجد فيها شئ فيه مشقة على شخص إلا ويوجد فيها شئ آخر فيه
التخفيف عليه إما حديث أو أثر أو قول إمام آخر أو قول في مذهب ذلك المشدد مرجوح
يخفف عنه فإن قلت فما الجواب أن نازعنا أحد فيما قلناه من المقلدين الذين يعتقدون أن
الشريعة جاءت على مرتبة واحدة وهي ما عليه إمامه فقط ويرى غير قول إمامه خطأ يحتمل
الصواب قلنا له الجواب إننا نقيم عليه الحجة من فعل نفسه وذلك أننا نراه يقلد غير إمامه
في بعض الوقائع فنقول له هل صار مذهب إمامك فاسدا حال عملك بقول غيره ومذهب الغير
صحيحا أم مذهبك باق على صحته حال عملك بقول غيره ولعله لا يجد له جواب سديدا يجيبك به
أبدا على وجه الحق * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول لا يكمل لمؤمن
العمل بالشريعة كلها وهو متقلد بمذهب واحد أبدا ولو قال صاحبه إذا صح الحديث فهو
مذهبي لترك ذلك المقلد الأخذ بأحاديث كثيرة صحت عند غير إمامه وهذا من ذلك المقلد عمى
في البصيرة عن طريق هذه الميزان وعدم فهمه لكلام إمامه رضي الله تعالى عنه إذ لو كان
إمامه رضي الله تعالى عنه يقول من نفسه الشريعة أنه أدرى بشأن نصوص رسول الله
صلى الله عليه وسلم من كل أحد لما كان يقول رضي الله عنه إذا صح الحديث أي بعدي فهو
مذهبي والله أعلم انتهى وهو كلام نفيس فإن الشريعة إنما تكمل أحكامها بضم جميع
الأحاديث والمذاهب بعضها إلى بعض حتى تصير كأنها مذهب واحد ذو مرتبتين وكل من
اتسع نظره وتبحر في الشريعة وأطلع على أقوال علمائها في سائر الأدوار وجد الشريعة
منسوجة من الآيات والأخبار والآثار سداها ولحمتها منها وكل من أخرج حديثا أو أثرا
أو قولا من أقوال علمائها عنها فهو قاصر جاهل ونقص علمه بذلك وكان علمه كالثوب الذي نقص من قيامه أو لحمته سلك أو أكثر بحسب ما يقتضيه الحال فالشريعة الكاملة حقيقة
هي جميع المذاهب الصحيحة بأقوالها لمن عقل واستبصر فضم يا أخي جميع أحاديث
الشريعة وآثارها وأقوال علمائها إلى بعضها بعضا وحينئذ يظهر لك كمال عظمة
الشريعة وعظمة هذه الميزان ثم انظر إليها بعد الضم تجدها كلها لا تخرج عن مرتبتي
تخفيف وتشديد أبدا وقد تحققنا بهذا المشهد ولله الحمد من سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة
فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها فالجواب الذي ينبغي
لك أنك تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة
كلهم أسرى في يد الشريعة كما سيأتي بيانه في فصل تبريهم من الرأي ومن فعل مثل ذلك
فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فإنه خير كثير كما عليه
كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذا
لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم إنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم
لأخذوا بها وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه وكل قول كانوا قالوه وقد بلغنا
من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد بن حنبل إذا صح عندكم
30
حديث فأعلمونا به لنأخذ به ونترك كل قول قلناه قبل ذلك أو قاله غيرنا فإنكم أحفظ
للحديث ونحن أعلم به انتهى فإن قلت فإذا قلتم إن جميع مذاهب المجتهدين لا يخرج شئ منها
عن الشريعة فأين الخطأ الوارد في حديث إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر وإن أصاب
فله أجران مع أن استمداد العلماء كلهم من بحر الشريعة فالجواب أن المراد بالخطأ هنا هو خطأ
المجتهد في عدم مصادفة الدليل في تلك المسألة لا الخطأ الذي يخرج به عن الشريعة لأنه إذا
خرج عن الشريعة فلا أجر له لقوله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد انتهى
وقد أثبت الشارع له الأجر فما بقي إلا أن معنى الحديث أن الحاكم إذا اجتهد وصادف نفس
الدليل الوارد في ذلك عن الشارع فله أجران أجر التتبع وأجر مصادفة الدليل وإن لم يصادف
عين الدليل وإنما صادف حكمه فله أجر واحد وهو أجر التتبع فالمراد بالخطأ هنا الخطأ
الإضافي لا الخطأ المطلق فافهم فإن اعتقادنا أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم
في جميع أقوالهم وما ثم إلا قريب من عين الشريعة وأقرب وبعيد عنها وأبعد بحسب طول
السند وقصره وكما يجب علينا الإيمان بصحة جميع شرائع الأنبياء قبل نسخها مع اختلافها
ومخالفة أشياء منها لظاهر شريعتنا فكذلك يجب على المقلد اعتقاد صحة مذاهب جميع
المجتهدين الصحيحة وإن خالف كلامهم ظاهر كلام إمامه فإن الإنسان كلما بعد عن شعاع نور
الشريعة خفى مدركه ونوره وظن غيره أن كلامه خارج عن الشريعة وليس كذلك ولعل
ذلك سبب تضعيف العلماء كلام بعضهم بعضا في سائر الأدوار إلى عصرنا هذا فتجد أهل كل
دور يطعن في صحة قول بعض الأدوار التي مضت قبله وأين من يخرق بصره في هذا الزمان
جميع الأدوار التي مضت قبله حتى يصل إلى شهود اتصالها بعين الشريعة الأولى التي
هي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن هو محجوب عن ذلك فإن بين المقلدين الآن وبين
الدور الأول من الصحابة نحو خمسة عشر دورا من العلماء فاعلم ذلك فإن قلت فهل لهذه
الميزان دليل في جعلها على مرتبتين من حضرة الوحي الإلهي قبل أن ينزل بها جبريل
فالجواب نعم أجمع أهل الكشف الصحيح على أن أحكام الدين الخمسة نزلت من أماكن مختلفة
لا من محل واحد كما يظنه بعضهم فنزل الواجب من القلم الأعلى والمندوب من اللوح والحرام
من العرش والمكروه من الكرسي والمباح من السدرة فالواجب يشهد لمرتبة التشديد
والمندوب يشهد لمرتبة التخفيف وكذلك القول في الحرام والمكروه وأما المباح فهو أمر
برزخي جعله الله تعالى من جملة الرحمة على عباده ليستريحوا بفعله من جملة مشقة التكليف
والتحجير ولا يكونوا فيه تحت أمر ولا نهي إذ تقيد البشر بأن يكون تحت التحجير على الدوام
مما لا طاقة له به ولكن بعض العارفين قد قسم المباح أيضا إلى تخفيف وتشديد بالنظر للأولى
وخلاف الأولى فيكون ذلك عنده على قسمين كالعزيمة والرخصة كما تقدم فإن قلت فما
الحكمة في تخصيص نزول الأحكام الخمسة من هذه الأماكن المتقدمة فالجواب الحكمة
في ذلك أن كل محل يمد صاحبه بما فيه فيكون من القلم الأعلى نظرا إلى التكاليف
الواجبة فيمد أصحابها بحسب ما يرى فيها ويكون من العرش نظرا إلى المحظورات
فيمد أصحابها بالرحمة لأن العرش مستوى الاسم الرحمن فلا ينظر إلى أهل حضرته إلا بعين
31
الرحمة كل أحد بما يناسبه من مسلم وغيره رحمة إيجاد أو رحمة إمداد أو رحمة إمهال
بالعقوبة ويكون من الكرسي نظرا إلى الأعمال والأقوال المكروهة فيسرع إلى أهلها
بالعفو والتجاوز ولهذا كان يؤجر تارك المكروه ولا يؤاخذ فاعله وأما السدرة فهي المرتبة
الخامسة وإنما سميت منتهى لأنها لا يجاوزها شئ من أعمال بني آدم بمقتضى أن الأمر
والنهي ينزل من قلم إلى لوح إلى عرش إلى كرسي إلى سدرة ثم يتعلق بعد ذلك بمظاهر
المكلفين فليس للأحكام محل يجاوز السدرة للاستقرار فيه بينها وبين مظاهر المكلفين
أبدا فهي منتهى مستقرات الأحكام في العالم العلوي فليتأمل * وسمعت سيدي عليا
الخواص رحمه الله تعالى يقول المباح قسم النفس وهو خاص بالسدرة وإليها تنتهي
نفوس عالم السعادة وإلى أصولها وهو الزقوم تنتهي نفوس عالم الشقاء الأبدي فاعلم ذلك
فإنه نفيس والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فإن ادعى أحد من العلماء ذوق هذه الميزان والتدين بها هل نصدقه
أو نتوقف في تصديقه فالجواب أننا نسأله عن منازع أقوال مذاهب العلماء المستعملة
والمندرسة فإن قررها كلها وردها إلى مرتبتين وعرف مستنداتها من الكتاب والسنة
كأصحابها صدقناه وإن توقف في توجيه شئ من ذلك تبين أنه لا ذوق له فيها وإنما هو عالم
بها مسلم لأهلها لا غير واعلم أن مرادنا بمنزع كل قول منشأه مثال ذلك قول بعض العلماء
بتحريم رؤية وجه الأمرد الجميل فهذا القول منشأه الاحتياط ودليل هذا المحتاط نحو
قوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك * قال بعضهم ومن تأمل نحو قوله تعالى
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وعلم أن النهي عن القرب بغير الوجه المطلوب إنما
هو تنفير مما لعله يؤدي إليه من الأضرار باليتيم وماله لاحت له أسرار منازع أقوال العلماء
العاملين والأئمة المجتهدين فليتأمل والله أعلم وقد تقدم أن الله تعالى لما من علي بالاطلاع على
عين الشريعة رأيت المذاهب كلها متصلة بها ورأيت مذاهب الأئمة الأربعة تجري جداولها
كلها ورأيت جميع المذاهب التي اندرست قد استحالت حجارة ورأيت أطول الأئمة
جدولا الإمام أبا حنيفة ويليه الإمام مالك ويليه الإمام الشافعي ويليه الإمام أحمد بن
حنبل وأقصرهم جدولا مذهب الإمام داود وقد انقرض في القرن الخامس فأولت ذلك
بطول زمن العمل بمذاهبهم وقصره فكما كان مذهب الإمام أبي حنيفة أول المذاهب
المدونة تدوينا فكذلك يكون آخرها انقراضا وبذلك قال أهل الكشف ثم لما نظرت إلى
مذاهب المجتهدين وما تفرع منها في سائر الأدوار إلى عصرنا هذا لم أقدر أخرج قولا واحدا
من أقوالهم عن الشريعة لشهودي ارتباطها كلها بعين الشريعة الأولى ومن أقرب مثال
لذلك شبكة صياد السمك في أرض مصر فإن العين الأولى منها مثال عين الشريعة المطهرة
فانظر إلى العيون المنتشرة منها إلى آخر الأدوار التي هي مثال أقوال الأئمة المجتهدين
ومقلديهم إلى يوم القيامة تحط علما بصورة ارتباط أقوالهم بعين الشريعة وتجد كل عين
مرتبطة بما فوقها حتى تنتهي إلى العين الأولى فيا سعادة من أطلعه الله تعالى على عين
الشريعة الأولى كما اطلعنا ورأى أن كل مجتهد مصيب ويا فوزه ويا كثرة سروره إذا رآه جميع
32
العلماء يوم القيامة وأخذوا بيده وتبسموا في وجهه وصار كل واحد يبادر إلى الشفاعة
فيه ويزاحم غيره على ذلك ويقول ما يشفع فيه إلا أنا ويا ندامة من قصر في السلوك ولم يصل
إلى شهود العين الأولى من الشريعة ويا ندامة من قال المصيب واحد والباقي مخطئ فإن
جميع من خطأهم يعبسون في وجهه لتخطئته لهم وتجريحهم بالجهل وسوء الأدب وفهمه
السقيم فاسع يا أخي إلى الاشتغال بالعلم على وجه الاخلاص والورع والعمل بكل ما علمت
حتى تطوى لك الطريق بسرعة وتشرف على مقام المجتهدين وتقف على العين الأولى التي
أشرف عليها إمامك وتشركه في الاغتراف منها فما كنت متبعا له حال سلوكك مع
حجابك عن العين التي يستمد منها كذلك تكون متبعا له في الاغتراف من العين التي اغترف
منها ثم إذا حصلت ذلك المقام فاستصحب شهود العين الأولى وما تفرع منها في سائر الأدوار
تصر توجه جميع أقوال العلماء ولا ترد منها قولا واحدا إما لصحة دليل كل واحد منهم
عندك من تخفيف أو تشديد وإما لشهودك صحة استنباطاتهم واتصالها بعين الشريعة وإن
نزلت في آخر الأدوار فرجع الأمر في ذلك كله إلى مرتبتي الشريعة من تخفيف وتشديد
ولكل منهما رجال وقد كان الإمام أحمد يقول كثرة التقليد عمى في البصيرة كأنه يحث
العلماء على أن يأخذوا أحكام دينهم من عين الشريعة ولا يقنعوا بالتقليد من خلف حجاب
أحد من المجتهدين فالحمد لله الذي جعلنا ممن يوجه كلام جميع علماء الشريعة ولا يرد
من أقوالهم شيئا لشهودنا اتصال أقوالهم كلها بعين الشريعة ويؤيدنا حديث أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم انتهى وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين فهو
صحيح عند أهل الكشف ومعلوم أن المجتهدين على مدرجة الصحابة سلكوا فلا تجد
مجتهد إلا وسلسلته متصلة بصحابي قال بقوله أو بجماعة منهم فإن قلت فلأي شئ قدم العلماء
كلام المجتهدين من غير الصحابة على كلام آحاد الصحابة مع أن المجتهدين من فروعهم
فالجواب إنما قدم العلماء كلام المجتهد غير الصحابي على كلام الصحابي في بعض المسائل لأن
المجتهد لتأخره في الزمان أحاط علما بجميع أقوال الصحابة أو غالبهم فرجع الأمر في ذلك
إلى مرتبتي الميزان من تخفيف وتشديد لأن ما عليه جمهور الصحابة أو بعضهم لا يخرج عن
ذلك * وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله تعالى يقول مرارا عين الشريعة
كالبحر فمن أي الجوانب اغترفت منه فهو واحد وسمعته أيضا يقول إياكم أن تبادروا إلى
الانكار على قول مجتهدا وتخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها ومعرفتكم بجميع لغات العرب التي احتوت عليها الشريعة ومعرفتكم بمعانيها وطرقها فإذا أحطتم
بها كما ذكرنا ولم تجدوا ذلك الأمر الذي أنكرتموه فيها فحينئذ لكم الانكار والخير لكم وأنى
لكم بذلك فقد روى الطبراني مرفوعا أن شريعتي جاءت على ثلاثمائة وستين طريقة ما سلك
أحد طريقة منها إلا نجا انتهى والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * إن أردت يا أخي الوصول إلى معرفة هذه الميزان ذوقا وتصير تقرر مذاهب
المجتهدين ومقلديهم كما يقررها أصحابها فاسلك كما مر طريق القوم والرياضة على يد شيخ صادق
33
له ذوق في الطريق ليعلمك الاخلاص والصدق في العلم والعمل ويزيل عنك جميع الرعونات
النفسية التي تعوقك عن السير وامتثل إشارته إلى أن تصل إلى مقامات الكمال النسبي
وتصير ترى الناس كلهم ناجين إلا أنت فترى نفسك كأنك هالك فإن سلكت كذلك ضمنت لك
إن شاء الله تعالى وصولك في أسرع زمان عادة إلى شهود عين الشريعة الأولى التي يتفرع
منها قول كل عالم وأما سلوكك بغير شيخ فلا يسلم غالبا من الرياء والجدال والمزاحمة على الدنيا
ولو بالقلب من غير لفظ فلا يوصلك إلى ذلك ولو شهد لك جميع أقرانك بالقطبية فلا عبرة بهذه
الشهادة وقد أشار إلى ذلك الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات فقال
من سلك الطريق بغير شيخ ولا ورع عما حرم الله تعالى فلا وصول له إلى معرفة الله تعالى
المعرفة المطلوبة عند القوم ولو عبد الله تعالى عمر نوح عليه الصلاة والسلام ثم إذا وصل
العبد إلى معرفة الله تعالى فليس وراء الله مرمى ولا مرقى بعد ذلك فهناك يطلع كشفا ويقينا
على حضرات الأسماء الإلهية ويرى جميع اتصال أقوال العلماء بحضرة الأسماء ويرتفع
الخلاف عنده في جميع مذاهب المجتهدين لشهوده اتصال جميع أقوالهم بحضرة الأسماء
والصفات لا يخرج عن حضرتها قول واحد من أقوالهم انتهى وهذا نظير ما قدمناه في عين
الشريعة الكبرى * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول إذا انتهى سلوك
المريد انحلت عنه عقدة التفضيل بالفهم وتمسك بمعرفة معنى قوله تعالى لا نفرق بين أحد
من رسله وعرف هناك إن كل من فضل بعقله بعض الرسل على بعض من غير كشف صحيح
فقد فرق بخلاف من فضل بالكشف فإنه يشهد وحدة الأمر ويرى عين الجمع هي عين الفرق
كما أن السالك من طلبة العلم يسلك حنفيا أو حنبليا مثلا مقتصرا على مذهب واحد بعينه
يدين الله تعالى به لا يرى مخالفته فينتهى به هذا المشهد إلى مقام بصير يتعبد نفسه فيه بجميع
المذاهب من غير فرقان أي لشهوده اغتراف جميع المذاهب من عين واحدة انتهى كلام
الشيخ وهو شاهد عظيم للميزان مقرر للقولين في مسألة هل كل مجتهد مصيب أم لا فعلم
أن كل من كان في حال السلوك فهو لم يقف على العين الأولى فلا يقدر على أن يتعقل إن كل
مجتهد مصيب بخلاف من انتهى سلوكه فإنه يشهد يقينا إن كل مجتهد مصيب وحينئذ يكثر
الانكار عليه من عامة المقلدين متى صرح لهم بما يعتقده لحجابهم عن شهود المقام الذي وصل
إليه فهم معذورون من وجه غير معذورين من وجه آخر حيث لم يردوا صحة علم ذلك إلى الله
تعالى فإنه ما ثم لنا دليل واضح يرد كلام أهل الكشف أبدا لا عقلا ولا شرعا لأن
الكشف لا يأتي إلا مؤيد بالشريعة دائما إذ هو إخبار بالأمر على ما هو عليه في نفسه وهذا
هو عين الشريعة * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول العلوم اللدنية
كلها من أنواع علوم الخضر عليه السلام ولا يخفى عليكم ما وقع من إنكار السيد موسى
عليه الصلاة والسلام ولكن لما سكت موسى عن إنكاره عليه آخر الأمر علمنا أن موسى عليه
الصلاة والسلام أطلعه الله على ما أطلع عليه الخضر عليه السلام وإلا فما كان يسوغ له
السكوت على ما يراه منكرا عنده فإن خرق سفينة قوم بغير إذنهم خوفا أن يسخرها ظالم
أو قتل غلام خوفا أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا لا تجوز مثله الشريعة انتهى وقد أشار إلى
34
نحو ذلك الشيخ محيي الدين أوائل الفتوحات فقال من علامة العلوم الدينية إن تمجها
العقول من حيث أفكارها ولا يكاد أحد من غير أهلها يقبلها إلا بالتسليم لأهلها من غير
ذوق وذلك لأنها تأتي أهلها من طريق الكشف لا الفكر وما تعود العلماء أخذ العلوم
إلا من طريق أفكارهم فإذا أتاهم علم من غير طريق أفكارهم أنكروه لأنه أتاهم من
طريق غير مألوفة عندهم انتهى ومن هنا تعلم يا أخي إن من أنكر هذه الميزان من المحجوبين
فهو معذور لأنها من العلوم اللدنية التي أوتيها الخضر عليه السلام بيقين فاعلم ذلك والحمد
لله رب العالمين
* (فصل) * في بيان تقرير قول من قال إن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا بعينه
وحمل كل قول على حالة وبيان ما يؤيد هذه الميزان * اعلم أن مما يؤيد هذه الميزان ما أجمع عليه
أهل الكشف وصرح به الشيخ محيي الدين في الكلام على مسح الخف من الفتوحات فقال
لا ينبغي لأحد قط أن يخطئ مجتهدا أو يطعن في كلامه لأن الشرع الذي هو حكم الله تعالى
قد قرر حكم المجتهد فصار شرعا لله تعالى بتقرير الله تعالى إياه قال وهذه مسألة يقع
في محظورها كثير من أصحاب المذاهب لعدم استحضارهم ما نبهناهم عليه مع كونهم
عالمين به فكل من خطأ مجتهدا بعينه فكأنه خطأ الشارع فيما قرره حكما انتهى وفي هذا
الكلام ما يشعر بإلحاق أقوال المجتهدين كلها بنصوص الشارع وجعل أقوال المجتهدين
كأنها نصوص للشارع في جواز العمل بها بشرطه السابق في الميزان ويؤيد ذلك أيضا قول
علماءنا لو صلى إنسان أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد فلا قضاء مع أن ثلاث جهات
منها غير القبلة بيقين ولكن لما كانت كل ركعة مستندة إلى الاجتهاد قلنا بالصحة ولم تكن
جهة أولى بالقبلة من جهة ومما يؤيد ذلك أيضا ما أجمع عليه أهل الكشف من أن المجتهدين
هم الذين ورثوا الأنبياء حقيقة في علوم الوحي فكما أن النبي معصوم كذلك وارثه محفوظ
من الخطأ في نفس الأمر وإن خطأه أحد فذلك الخطأ إضافي فقط لعدم اطلاعه على دليل
فإن جميع الأنبياء والرسل في منازل رفيعة لم يرثهم فيها إلا العلماء المجتهدون فقام اجتهادهم
مقام نصوص الشارع في وجوب العمل به فإنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم الاجتهاد في
الأحكام تبعا لقوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم ومعلوم أن الاستنباط من مقامات المجتهدين رضي الله عنهم فهو تشريع عن أمر
الشارع كما مر فكل مجتهد مصيب من حيث تشريعه بالاجتهاد الذي أقره الشارع عليه
كما أن كل نبي معصوم انتهى * وسمعت بعض أهل الكشف يقول إنما تعبد الله تعالى
المجتهدين بالاجتهاد ليحصل لهم نصيب من التشريع ويثبت لهم فيه القدم الراسخة
فلا يتقدم عليهم في الآخرة سوى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فيحشر علماء هذه الأمة
حفاظ أدلة الشريعة المطهرة العارفون بمعانيها في صفوف الأنبياء والرسل لا في صفوف
الأمم فما من نبي أو رسول إلا وبجانبه عالم من علماء هذه الأمة أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر
وكل عالم منهم له درجة الأستاذية في علم الأحكام والأحوال والمقامات والمنازلات
إلى ختام الدنيا بخروج المهدي عليه السلام ومن هنا نعلم أن جميع المجتهدين تابعون
35
للشارع في التخفيف والتشديد فإياك أن يشدد إمام مذهبك في أمر فتأمر به جميع الناس
أو يخفف في أمر فتأمر به جميع الناس فإن الشريعة قد جاءت على مرتبتين لا على مرتبة
واحدة كما مر في الميزان ولذلك صح لك القول بأن الله تعالى لم يكلف عباده بما يشق أبدا بل دعا
صلى الله عليه وسلم على من شق على أمته بقوله اللهم من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم
فارفق اللهم به ومن شق على أمتي فاشقق اللهم عليه ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم دعا على
من سهل عليهم أبدا بل كان يقول لأصحابه اتركوني ما تركتكم خوفا عليهم من كثرة تنزل
الأحكام التي يسألونه عنها فيعجزون عن العمل بها فالعالم الدائر مع رفع الحرج دائر مع
الأصل الذي ينتهي إليه أمر الناس في الجنة بخلاف الدائر مع الحرج فإنه دائر مع أمر
عارض يزول بزوال التكليف فإن قلت فإذن من ألزم الناس بالتقيد بمذهب واحد فقد
ضيق عليهم وشق عليهم فالجواب أنه ليس في ذلك مشقة في الحقيقة لأن صاحب ذلك
المذهب لم يقل بإلزام الضعيف بالعزيمة بل جوز له الخروج من مذهبه إلى الرخصة التي قال
بها غيره فرجع مذهب هذا الإمام إلى مرتبتي الشريعة فلا تضييق ولا مشقة على من التزم
مذهبا معينا فإن لم تفهم الشريعة هكذا فما فهمت وإن لم تقرر مذاهب المجتهدين هكذا
فما قررت ولا كان صح للمقلد اعتقاد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم بل كان
يخالف قوله جنانه وذلك معدود من صفات النفاق وقد تقدم إنني ما وضعت هذه الميزان
في هذه الطروس إلا انتصار المذاهب الأئمة ومقلديهم خلاف ما أشاعه عني بعض الحسدة
من قوله إن من تأمل في هذه الميزان وجدها تحكم بتخطئة جميع المجتهدين قال لأن كل
مجتهد لا يقول بقول الآخر بل يخطئه فيلزم من ذلك تخطئة كل مجتهد في تخطئته الآخر
انتهى كلام هذا الحاسد فالجواب قد أجمع الناس على قولهم إن مجتهدا لا ينكر على مجتهد
وإن كل واحد يلزمه العمل بما ظهر له أنه الحق وقد أرسل الليث بن سعد رضي الله عنه سؤالا
كما مر إلى الإمام مالك يسأله عن مسألة فكتب إليه الإمام مالك أما بعد فإنك يا أخي إمام
هدى وحكم الله تعالى في هذه المسألة هو مقام عندك انتهى وما ذلك إلا لاطلاع كل مجتهد
على عين الشريعة الأولى التي يتفرع منها كل مذهب ولولا اطلاعه لكان من الواجب
عليه الانكار ويحتمل أن من خطأ غيره من الأئمة إنما وقع ذلك منه قبل بلوغه مقام الكشف
كما يقع فيه كثير ممن ينقل كلام الأئمة من غير ذوق فلا يفرق بين ما قاله العالم أيام بداءته
وتوسطه ولا بين ما قاله أيام نهايته فتأمل في هذا الفصل فإنه ناطق بصحة هذه الميزان ومذاهب
المجتهدين كلها لتقرير الشارع حكمهم باستناده إلى الاجتهاد والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * لا يلزم من تقيد كامل من الأولياء أو المجتهدين بالعمل بقول دون آخر أن
يكون يرى بطلان ذلك القول الذي لم يعمل به فيحتمل أنه إنما ترك العمل به لكونه ليس من
أهله سواء أكان ذلك في العزيمة أم الرخصة فإن كل كامل ومجتهد يرى استمداد سائر المذاهب
من عين الشريعة سواء المذاهب المستعملة والمندرسة فكل قول لا يعمل به لعدم أهليته
له فهو في حقه كالحديث المنسوخ وفي حق غيره كالحديث المحكم وأما غير الكامل من
المقلدين فحكمه حكم من كان متعبدا بشريعة عيسى التي لم تبدل مثلا ثم نسخت بشريعة
36
محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يلزمه العمل بشريعة محمد وترك ما نسخ من شريعة عيسى
فنرى العلماء يتعبدون بقول مدة من الزمان ثم يظهر لهم قول آخر هو أصح دليلا عندهم
من الأول فيتركون الأول ويعملون بالثاني ويصير الأول عندهم كأنه حديث منسوخ مع
أن علماءهم الذين تقدموا تعبدوا بذلك القول زمانا وأفتوا به الناس حتى ماتوا فلو قلت
لأحد الآن تعبد بذلك القول القديم لا يجيب إلى ذلك وإيضاح ذلك أن الله تعالى إذا أراد
أن يتعبد عباده بأحكام أخر على وجه آخر مخصوص غير الأحكام التي كانوا عليها أظهر
لعلمائهم وجه ترجيح أقوال غير الأقوال التي كانوا يرجحونها فبادروا إلى العمل بما ترجح
عندهم وتبعهم المقلدون لهم في الترجيح على ذلك بانشراح صدر وهكذا الأمر إلى انقراض
المذاهب ويؤيد ذلك قول السيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الله عز وجل يحدث
للناس أقضية بحسب زمانهم وأحوالهم وتبعه على ذلك عطاء وجاهد والإمام مالك فكانوا
لا يفتون فيما يسألون عنه من الوقائع إلا أن وقع ويقولون فيما لم يقع إذا وقع ذلك فعلماء
ذلك الزمان يفتونهم فيه انتهى وربما يكون في باطن ذلك أيضا رحمة بالأمة لأن الحق تعالى
ربما علم من أهل ذلك الزمان الملل من العمل بذلك الحكم فقيض لهم من أبطله ممن يمكنهم
الأخذ عنه من جنسهم لانقطاع الوحي رحمة منه تعالى بهم حيث كان يحدث لهم في كل
زمان من الشرع أحكاما يتلقونها بالقبول وميل النفس فلا يجدون في العمل بها مشقة
في الجملة وقد يقال والله تعالى أعلم أن ذلك إنما كان من الله تعالى ليقع لعلماء هذه الأمة مثل
ما وقع للأنبياء الذين هم ورثتهم من ظهورهم بشرع كالجديد كل برهة من الزمان يشبه
النسخ لشريعة من قبلهم من غير نسخ حقيقة * وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله
تعالى يقول ما من قول من أقوال المذاهب المستعملة والمندرسة إلا وقد كان شرعا لنبي
تقدم فأراد الحق تعالى بفضله ورحمته أن يجعل لهذه الأمة نصيبا من العمل ببعض تشريع
الأنبياء ليحصل لهم بعض الأجر الذي كان يحصل للعاملين بنحو ما عملوا به من شرائع الأنبياء
خصوصية لهذه الأمة من حيث إن شريعة نبيهم حاوية لمجموع أحكام الشرائع المتقدمة
انتهى فعلم أنه لا يلزم من ترك الكامل العمل بقول أن يكون ذلك لكونه يراه خارجا عن
الشريعة لأن ذلك القول المتروك لا يخرج عن كونه رخصة أو عزيمة فرجع الأمر إلى مرتبتي
التخفيف والتشديد وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول أيضا اعتقادنا في
جميع الأكابر من العلماء أنهم ما سلموا لبعضهم بعضا إلا لعلمهم بصحة أقوالهم ومستنداتهم
واتصالها بعين الشريعة لا إحسانا لنظن بهم من غير اطلاع على صحتها واتصالها بعين الشريعة
وقد تقدم أن بعض أتباع المجتهدين وصل إلى شهود عين الشريعة الأولى وقال كل مجتهد
مصيب كابن عبد البر المالكي والشيخ أبي محمد الجويني والشيخ عبد العزيز الديريني
وأضرابهم بدليل أن الشيخ أبا محمد صنف كتابه المسمى بالمحيط الذي تقدم أنه لم يتقيد فيه
بمذهب وكذلك الشيخ عبد العزيز الديريني صنف كتاب الدرر الملتقطة في المسائل المختلفة
أفتى فيها على المذاهب الأربعة فلولا اطلاعه على مستندات الأئمة الأربعة ما كان يسوغ
له أن يفتي على مذاهبهم كلهم وحمل أمثال هؤلاء على أنهم كانوا يفتون على المذاهب من باب
37
الإيمان والتسليم من غير أن يعرف أحدهم مستندات أصحابها فيها ومدارك أقوالهم بعيد
جدا على مقامهم وكذلك القول فيمن اختار غير ما نص عليه إمامه يحتمل أنه إنما اختاره
لاطلاعه على اتصال ذلك القول بعين الشريعة المطهرة كما اتصل بها قول إمامه على حد
سواء كالإمام زفر وأبي يوسف وأشهب وابن القاسم والنووي والرافعي والطمعاوي وغيرهم
من اتباع المجتهدين ويحتمل أن كل من أفتى واختار غير قول إمامه لم يطلع على أدلة إمامه
وإنما أفتى لاعتقاده صحة قول ذلك الإمام الآخر في نفس الأمر فعلم أن كل مقلد اطلع على
عين الشريعة المطهرة لا يؤمر بالتقيد بمذهب واحد لأنه يرى اتصال أقوال الأئمة كلها
صحيحها وضعيفها بعين الشريعة الكبرى وإن أظهر التقيد بمذهب واحد فإنما ذلك لكونه
من أهل تلك المرتبة التي تقيد بها من تخفيف أو تشديد وربما لزم المذهب والأحوط في الدين
مبالغة منه في طاعة الله تعالى من باب التطوع في قوله تعالى فمن تطوع خيرا فهو خير له
وإلى نحو ما ذكرناه أشار الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله ما جاء عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فعلى الرأس والعين وما جاء عن أصحابه تخيرنا وما جاء
عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال انتهى ففي ذلك إشارة إلى أن للعبد أن يختار من المذاهب
ما شاء من غير وجوب ذلك عليه إذا كان من أهل ذلك المقام وكان سيدي على الخواص
رحمه الله تعالى إذا سأله إنسان عن التقيد بمذهب معين الآن هل هو واجب أم لا يقول له
يجب عليك التقيد بمذهب ما دمت لم تصل إلى شهود عين الشريعة الأولى خوفا من الوقوع
في الضلال وعليه عمل الناس اليوم فإن وصلت إلى شهود عين الشريعة الأولى فهناك
لا يجب عليك التقيد بمذهب لأنك ترى اتصال جميع مذاهب المجتهدين بها وليس مذهب
أولى بها من مذهب فيرجع الأمر عندك حينئذ إلى مرتبتي التخفيف والتشديد بشرطهما
وكان سيدي على الخواص رحمه الله تعالى يقول أيضا ما ثم قول من أقوال العلماء إلا وهو
مستند إلى أصل من أصول الشريعة لمن تأمل لأن ذلك القول إما أن يكون راجعا إلى آية
أو حديث أو أثرا أو قياس صحيح على أصل صحيح لكن من أقوالهم ما هو مأخوذ من صريح
الآيات أو الأخبار أو الآثار ومنه ما هو مأخوذ من المأخوذ أو من المفهوم فمن أقوالهم
ما هو قريب ومنها ما هو أقرب ومنها ما هو بعيد ومنها ما هو أبعد ومرجعها كلها إلى
الشريعة لأنها مقتبسة من شعاع نورها وما ثم لنا فرع يتفرع من غير أصل أبدا كما مر بيانه
في الخطبة وإنما العالم كلما بعد عن عين الشريعة ضعف نور أقواله بالنظر إلى نور أول مقتبس
من عين الشريعة الأولى ممن قرب منها وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول
أيضا كل من اتسع نظره من العلماء ورأى عين الشريعة الأولى وما تفرع منها في سائر
الأدوار واستصحب شهود ما تفرع منها في سائر الأدوار وهو نازل إلى آخر الأدوار أقر
بحقية جميع مذاهب الأئمة ومقلديهم من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصره هو
انتهى وسيأتي مثاله في فصل الأمثلة المحسوسة إن شاء الله تعالى من تمثيل ذلك بالشجرة
أو شبكة الصياد وغير ذلك والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * وإياك يا أخي أن تطالب أحدا من طلبة العلم الآن بصدق اعتقاده في أن كل
38
مجتهد مصيب ما دام مرتكبا خطيئة واحدة لا سيما محبته للدنيا وشهواتها كما أنه لا ينبغي لك
أن تطالبه بمثل ذلك ما دام في حجاب التقليد لإمامه فإنه محجوب بإمامه عن شهود العين
الأولى التي اغترف منها إمامه لا يراها أبدا بل مره بالسلوك على يد شيخ عارف بطريق القوم
وبالعوائق التي تعوق الطالب عن الوصول إلى منتهى السير فإذا بلغ النهاية وشهد مذاهب
العلماء كلها شارعة إلى كبد العين وجداولها كما سيأتي بيانه في الأمثلة المحسوسة فهناك
يقرر مذاهب الأئمة المجتهدين كما مر في الفصل قبله ويقول كل مجتهد مصيب وأما قبل
بلوغه إلى هذا المقام فلا يجوز لك منعه من التقيد بمذهب واحد بل أنك لو نهيته عن ذلك
لا يجيبك لأن من لازمه أن يقول المصيب واحد في نفس الأمر ولعله مذهبي أنا وحدي
والباقي مخطئ لا يتعقل في قلبه غير ذلك ويقول الحق واحد غير متعدد ويجعل الشريعة
جاءت على مرتبة واحدة لا على مرتبتين وإن الصحيح من الشريعة هو ما أخذ به إمامه
سواء أكان تخفيفا أم تشديدا والحق أن الشريعة جاءت على مرتبتين بقرينة صحة أدلة
كل من المرتبتين غالبا في أحاديث لا تحصى كما سيأتي بيانه في فصل الجمع بين الأحاديث
إن شاء الله تعالى وكثيرا ما يقول البيهقي وغيره كالحافظ الزيلعي ممن جمع أدلة المذاهب
في كتابه وانتصر لمذهبه ورجح أدلته بكثرة الرواة أو صحة السند وهذا الدليل وإن كان صحيحا
فأحاديث مذهبنا أصح سندا وأكثر رواة وما قال ذلك إلا عند العجز عن تضعيف دليل
المخالف وادحاضه بالكلية ولو أن صاحب هذا القول من البيهقي أو غيره اطلع على
ما اطلعنا عليه من أن الشريعة المطهرة جاءت على مرتبتين تخفيف وتشديد لم يحتج إلى قوله
أحاديثنا أصح وأكثر بل كان يرد كل حديث أو قول خالف الآخر إلى إحدى مرتبتي
الشريعة وكذلك القول في مرجحي المذاهب من مقلدي الأئمة ما قالوا قلت الأصح كذا
وكذا إلا لعدم اطلاعهم على مرتبتي الميزان ولو أنهم اطلعوا عليهما ما جعلوا في أقوال
مذهبهم أصح وصحيحا وأظهر وظاهرا بل كانوا يقولون بصحة الأقوال كلها ويردونها إلى
مرتبتي التخفيف والتشديد وإفتاء كل سائل بما يناسب حاله من قوة أو ضعف برخصة
أو عزيمة وكان يفتي أحدهم على الأربعة مذاهب فإن قال لنا شافعي فعلى هذه الميزان
فلي أن أصلي إذا مسست ذكري بلا تجديد وضوء قلنا له نعم لك ذلك ولكن بشرط أن
تكون من أهل هذه الرخصة لا مطلقا وذلك كما إذا ابتلى الشخص بكثرة الوسواس
في الوضوء لصلاة الصبح مثلا حتى كاد الوقت يخرج فلما فرغ هذا من الوضوء مس فرجه
بغير قصد ففي مثل هذه الصورة له تقليد الإمام أبي حنيفة في الصلاة بهذه الطهارة التي وقع
فيها مس الفرج بشرطها تحصيلا لفعل الفريضة في وقتها فإن المقاصد آكد من الوسائل عند
جمهور العلماء لا سيما وقد ورد في الحديث هل هو إلا بضعة منك ولم يثبت عند من قال
بذلك نسخة على اصطلاحنا فرجع الأمر في هذه المسألة إلى مرتبتي الميزان تخفيف وتشديد
فليس لنحو من لم يبتل بالوسواس أن يصلي إذا مس فرجه أو لمس أجنبية مثلا إلا بعد تجديد
الطهارة فإن قال لنا أحد ممن قلد الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه إن إمامنا لا يقول
بمطلوبية الطهارة ممن مس فرجه أبدا سواء أكان ممن يعسر عليه تجديد الطهارة أم لا قلنا له
39
هات لنا عنه ذلك بسند متصل منك إليه في هذه المسألة أنه صرح بذلك ولعله لا يجد ذلك أبدا
لا سيما وقد انعقد الاجماع على أن الأولى للشخص مراعاة الخروج من الخلاف في كل
عبادة أداها وهذه القاعدة هي مدار اصطلاح صاحب هذه الميزان وهناك نقول له إن
ذلك شهادة منك على إمامك بالجهل بمرتبتي الشريعة وعدم اطلاعه على العين الأولى من
الشريعة كما اطلع عليها بقية المجتهدين ونقول له أيضا أين اعتقادك في ورع إمامك الذي
كان لا يدون مسألة واحدة مما استنبطه من الكتاب والسنة حتى يعقد لها مجلسا من العلماء
ويقول أترتضون هذا فإذا قالوا نعم قال لأبي يوسف أو محمد بن الحسن أكتب ذلك وإن
لم يرتضوه تركه واعتقادنا في جميع الأئمة المجتهدين إنهم كانوا لا يثبتون لهم قولا في الشريعة
إلا عند فقدهم النص في ذلك عن الشارع فلو أن الإمام أبا حنيفة ظفر بحديث من مس
فرجه فليتوضأ لقال به أيضا وحمله على أهل العافية من الوسواس مثلا أو على الأكابر من
العلماء والصالحين ونزل الحديثين على مرتبتي الميزان وقس على ذلك يا أخي كل ما كان واجب
الفعل أو الترك في مذهبك فلك فعله إن كنت من أهله ولك تركه إن عجزت عن فعله حسا
أو شرعا فالعجز الحسي معروف والعجز الشرعي هو كما إذا رأيت الماء مثلا وحال دونه مانع
من سبع أو قاطع طريق مثلا وقد تقدم أول الميزان إن مرتبتيها على الترتيب الوجوبي
لا على التخيير فإياك أن تذهل عن ذلك وكذلك تقدم إن كل من نازعنا من المقلدين في حمله
الدليلين أو القولين على حالين وادعى أن إمامه كان يطرد القول بالتشديد أو التخفيف في حق
كل قوي وضعيف طالبناه بالنقل الصحيح عن إمامه أو خطأناه فيما ادعى وكل من نور الله
تعالى قلبه وعرف مقام الأئمة في الورع وعدم القول بالرأي في دين الله تعالى شهد لهم كلهم
بأن أحدا منهم كان لا يفتي أحدا برخصة إلا أن رآه عاجزا ولا بعزيمة إلا أن رآه قادرا وإن
لم يكن صاحب الواقعة حاضرا عند إمامه حين أفتى الناس بذلك حتى أن صاحب هذا النور
يعرف جميع المسائل التي أفتى بها إمامه الأقوياء والضعفاء على التفصيل وقد تحققنا بمعرفة
ذلك والحمد لله * إذا علمت ذلك فيقال لكل مقلد امتنع من العمل بقول غير إمامه في
مضايق الأحوال امتناعك هذا تعنت لا ورع لأنك تقول لنا إنك تعتقد أن سائر أئمة المسلمين
على هدى من ربهم وإن كل إمام عملت بقوله منهم فأنت على هدى من ربك فيه وذلك
لاغتراف الأئمة كلهم مذاهبهم من عين الشريعة ثم إن جميع ما اغترفوه منها لا يخرج عن
مرتبتي الميزان أبدا كما لا تخرج أنت عن أن تكون من أهل واحدة منهما فتعمل
بما أنت أهله من رخصة أو عزيمة كما سيأتي بسطه في الجمع بين أقوال أئمة المذاهب
إن شاء الله تعالى فإن قال الشافعي أيضا فعلى ما قررتموه في هذه الميزان فلي أن أصلي بلا
قراءة فاتحة الكتاب مع القدرة عليها قلنا له هي عزيمة فإن قدرت على قراءتها لم يجزئك
غيرها وإن كنت عاجزا عن قرائتها فاقرأ بغيرها وعلى ذلك مع الاصطلاح المتقدم قريبا
يحمل قول الإمام أبي حنيفة بعدم تعينها وإن عمم مقلدوه الحكم في ذلك للقادر والعاجز
فافهم والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * ومما يدلك على صحة ارتباط جميع أقوال علماء الشريعة بعين الشريعة
40
كارتباط الظل بالشاخص ما يفصلونه من المجمل في الشريعة فما فصل عالم ما أجمل في كلام
من قبله من الأدوار إلا للنور المتصل به من الشارع صلى الله عليه وسلم فالمنة في ذلك حقيقة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو صاحب الشرع لأنه هو الذي أعطى العلماء تلك
المادة التي فصلوا بها ما أجمل في كلامه كما أن المنة بعده لكل دور على من تحته فلو قدر أن
أهل دور تعدوا من فوقهم إلى الدور الذي قبله لانقطعت وصلتهم بالشارع ولم يهتدوا لإيضاح
مشكل ولا تفصيل مجمل وتأمل يا أخي لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل بشريعته
ما أجمل في القرآن لبقي القرآن على إجماله كما أن الأئمة المجتهدين لو لم يفصلوا ما أجمل في
السنة لبقيت السنة على إجمالها وهكذا إلى عصرنا هذا فلولا أن حقيقة الاجمال سارية
في العالم كله من العلماء ما شرحت الكتب ولا ترجمت من لسان إلى لسان ولا وضع العلماء
على الشروح حواشي كالشروح للشروح فإن قلت فما الدليل على ما قلت من وجود
الاجمال في الكتاب والتفصيل له في السنة قلنا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لتبين
للناس ما نزل إليهم فإن البيان وقع بعبارة أخرى غير عبارة الوحي الذي نزل عليه فلو أن علماء
الأمة كانوا يستقلون بالبيان وتفصيل المجمل واستخراج الأحكام من القرآن لكان الحق
تعالى اكتفى من رسوله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ للوحي من غير أن يأمره ببيان *
وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول لولا بيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمجتهدين لنا ما أجمل في الكتاب والسنة لما قدر أحد منا على ذلك كما أن الشارع
لولا بين لنا بسنته أحكام الطهارة ما اهتدينا لكيفيتها من القرآن ولا قدرنا على
استخراجها منه وكذلك القول في بيان عدد ركعات الصلوات من فرض ونفل وكذلك
القول في أحكام الصوم والحج والزكاة وكيفيتها وبيان أنصبتها وشروطها وبيان فرضها
من سننها وكذلك القول في سائر الأحكام التي وردت مجملة في القرآن لولا أن السنة بينت لنا
ذلك ما عرفناه ولله تعالى في ذلك حكم وأسرار يعرفها العارفون انتهى * قال سيدي علي
الخواص رحمه الله تعالى ومن هنا تعلم يا ولدي إن السنة قاضية على ما نفهمه من أحكام
الكتاب ولا عكس فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أبان لنا أحكام الكتاب بألفاظ شريعته
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وفي القرآن العظيم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى
الله والرسول يعني إلى الكتاب والسنة واعملوا بما وافقهما أو وافق أحدهما عندكم انتهى
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى أيضا يقول لا يكمل مقام العالم عندنا في العلم
حتى يرد سائر أقوال المجتهدين ومقلديهم في سائر الأدوار إلى الكتاب والسنة ولا يصير عنده
جهل بمنزع قول واحد منها لو عرض عليه قال وهناك يخرج عن مقام العوام ويستحق
التلقيب بالعالم وهو أول مرتبة تكون للعلماء بالله تعالى ثم يترقى أحدهم عن ذلك درجة
بعد درجة حتى يصير يستخرج جميع أحكام القرآن وآدابه من سورة الفاتحة فإذا قرأ
بها في صلاته ربما يكون ثوابه كثواب من قرأ القرآن كله من حيث إحاطته بمعانيه ثم يترقى
من ذلك حتى يصير يخرج أحكام القرآن كله وأحكام الشريعة وجميع أقوال المجتهدين
ومقلديهم إلى يوم القيامة من أي حرف شاء من حروف الهجاء ثم يترقى إلى ما هو أبلغ من
41
ذلك قال وهذا هو العالم الكامل عندنا انتهى وسمعته مرارا يقول الجدال في الشريعة
من بقايا النفاق لأنه يراد به ادحاض حجة الغير من العلماء وقد قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فنفى
تعالى الإيمان عمن يجد في الحكم عليه بالشريعة حرجا وضيقا قال صلى الله عليه وسلم
عند نبي لا ينبغي التنازع ومعلوم أن نزاع الإنسان لعلماء شريعته وجدالهم وطلب ادحاض
حججهم التي هي الحق كالجدال معه صلى الله عليه وسلم وإن تفاوت المقام في العلم فإن العلماء
على مدرجة الرسل درجوا وكما يجب علينا الإيمان والتصديق بكل ما جاءت به الرسل وإن لم
نفهم حكمته فكذلك يجب علينا الإيمان والتصديق بكلام الأئمة وإن لم نفهم علته حتى
يأتينا عن الشارع ما يخالفه وقد تقدم نقل الاجماع على وجوب الإيمان والتصديق
بشرائع الرسل كلهم وإن اختلفوا في التشريع وإنها كلها حق مع اختلافها وتباينها
وكذلك القول في مذاهب الأئمة المجتهدين يجب الإيمان بصحتها على سائر المقلدين الذين
يشهدون تباينها وتناقضها حتى يمن الله تعالى عليهم بالإشراف على عين الشريعة المطهرة
الكبرى واتصال جميع أقوال العلماء بها فهناك يجد أحدهم جميع مذاهب المجتهدين
ومقلديهم ترجع إلى الشريعة المطهرة لا يخرج عنها من أقوالهم قول واحد لرجوعها جميعا
إلى مرتبتي الشريعة المطهرة من تخفيف وتشديد فما ثم عند صاحب هذا المشهد تخطئة
لأحد من العلماء في قول له أصل فيها أبدا وإن وقع أن أحدا من المقلدين خطأ أحدا في
شئ من ذلك فليس هو خطأ في نفس الأمر وإنما هو خطأ عنده فقط لخفاء مدركه عليه لا غير *
وروينا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول التسليم نصف الإيمان قال له
الربيع الجيزي بل هو الإيمان كله يا أبا عبد الله فقال وهو كذلك وكان الإمام الشافعي
يقول من كمال إيمان العبد أن لا يبحث في الأصول ولا يقول فيها لم ولا كيف فقيل له وما
هي الأصول فقال هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة انتهى أي فنقول في كل ما جاءنا عن
ربنا أو نبينا آمنا بذلك على علم ربنا فيه ويقاس بذلك ما جاء عن علماء الشريعة فنقول آمنا
بكلام أئمتنا من غير بحث فيه ولا جدال فإن قلت فهل يصح لأحد الآن الوصول إلى مقام
أحد من الأئمة المجتهدين فالجواب نعم لأن الله تعالى على كل شئ قدير ولم يرد لنا دليل على
منعه ولا في نفس الأدلة الضعيفة هذا ما نعتقده وندين الله تعالى به وقد قال بعضهم إن
الناس الآن يصلون إلى ذلك من طريق الكشف فقط لا من طريق النظر والاستدلال
فإن ذلك مقام لم يدعه أحد بعد الأئمة الأربعة إلا الإمام محمد بن جرير ولم يسلموا له ذلك كما مر
وجميع من ادعى الاجتهاد المطلق إنما مراده المطلق المنتسب الذي لا يخرج عن قواعد إمامه
كابن القاسم واصبغ مع مالك وكمحمد وأبي يوسف مع أبي حنيفة وكالمزني والربيع مع
الشافعي إذ ليس في قوة أحد بعد الأئمة الأربعة أن يبتكر الأحكام ويستخرجها من
الكتاب والسنة فيما نعلم أبدا ومن ادعى ذلك قلنا له فاستخرج لنا شيئا لم يسبق لأحد من
الأئمة استخراجه فإنه يعجز فليتأمل ذلك مع ما قدمناه آنفا من سعة قدرة الله تعالى لا سيما
والقرآن لا تنقضي عجائبه ولا أحكامه في نفس الأمر فاعلم ذلك والحمد لله رب العالمين
42
* (فصل) * ومما يؤيد هذه الميزان عدم إنكار أكابر العلماء في كل عصر على من انتقل
من مذهب إلى مذهب إلا من حيثما يتبادر إلى الأذهان من توهم الطعن في ذلك الإمام
الذي خرج من مذهبه لا غير بدليل تقريرهم لذلك المنتقل على المذهب الذي انتقل إليه إذ
المذاهب كلها عندهم طريق إلى الجنة كما سيأتي بيانه أواخر الأمثلة المحسوسة إن شاء الله
تعالى فكل من سلك طريقا منها أوصلته إلى السعادة والجنة وكان الإمام ابن عبد البر رحمه
الله تعالى يقول ولم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى
صحة خلافه بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضا لأنهم كلهم على
هدى من ربهم وكان يقول أيضا لم يبلغنا في حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر أحدا من الأمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه وما ذلك إلا لأن كل
مجتهد مصيب انتهى ونقل القرافي الاجماع من الصحابة رضي الله عنهم على أن من استفتى
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقلدهما فله بعد ذلك أن يستفتي غيرهما من الصحابة ويعمل به
من غير نكير وأجمع العلماء على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجة ومن ادعى
دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل انتهى وكان الإمام الزناتي من أئمة المالكية يقول
يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل وكذلك يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب
لكن بثلاثة شروط الأول أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الاجماع كمن تزوج بغير
صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد الثاني أن يعتقد في من يقلده
الفضل ببلوغ أخباره إليه الثالث أن لا يقلد وهو في عماية من دينه كان يقلد في الرخصة
من غير شرطها انتهى وقال القرافي يجوز الانتقال من جميع المذاهب إلى بعضها بعضا
في كل ما لا ينتقض فيه حكم حاكم وذلك في أربعة مواضع أن يخالف الاجماع أو النص
أو القياس الجلي أو القواعد انتهى قال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى وممن
بلغنا أنه انتقل من مذهب إلى آخر من غير نكير عليه من علماء عصره الشيخ عبد العزيز بن
عمران الخزاعي كان من أكابر المالكية فلما قدم الإمام الشافعي بغداد تبعه وقرأ عليه كتبه
ونشر علمه ومنهم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كان على مذهب الإمام مالك فلما قدم الإمام
الشافعي إلى مصر انتقل إلى مذهبه وصار يحث الناس على اتباعه ويقول يا إخواني هذا
ليس بمذهب إنما هو شريعة كله وكان الإمام الشافعي يقول له سترجع إلى مذهب أبيك فلما
مات الإمام الشافعي رجع كما قال الشافعي وكان يظن أن الإمام يستخلفه على حلقة درسه
بعده فلما استخلف البويطي رجع ابن عبد الحكم وصحت فراسة الشافعي رضي الله تعالى عنه
ومنهم إبراهيم بن خالد البغدادي كان حنفيا فلما قدم الشافعي بغداد ترك مذهبه واتبعه
ومنهم أبو ثور كان له مذهب فتركه واتبع الشافعي ومنهم أبو جعفر بن نصر الترمذي رأس
الشافعية بالعراق كان أولا حنفيا فلما حج رأى ما يقتضي انتقاله لمذهب الشافعي فتفقه على
الربيع وغيره من أصحاب الشافعي ومنهم أبو جعفر الطحاوي كان شافعيا وتفقه على خاله
المزني ثم تحول حنفيا بعد ذلك ومنهم الخطيب البغدادي الحافظ كان حنبليا ثم عمل شافعيا
ومنهم ابن فارس صاحب كتاب المجمل في اللغة كان شافعيا تبعا لوالده ثم انتقل إلى مذهب
43
مالك ومنهم السيف الآمدي الأصولي المشهور كان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي
ومنهم الشيخ نجم الدين بن خلف المقدسي كان حنبليا ثم تفقه على الشيخ موفق الدين ودرس
في مدرسة أبي عمرو ثم تحول شافعيا وارتفع شأنه ومنهم الشيخ محمد بن الدهان النحوي كان
حنبليا انتقل إلى مذهب الشافعي ثم تحول حنفيا حين طلب الخليفة نحويا يعلم ولده النحو ثم
إنه تحول شافعيا حين شغرت وظيفة تدريس النحو بالنظامية لما شرط صاحبها أن لا ينزل
فيها إلا شافعي المذهب ولم يكن هناك أحد أعلم منه بالفقه والنحو ومنهم الشيخ تقي الدين بن
دقيق العيد كان أولا مالكيا تبعا لوالده ثم تحول إلى مذهب الشافعي ومنهم شيخ الإسلام
كمال الدين بن يوسف الدمشقي كان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي ومنهم الإمام
أبو حيان كان أولا على مذهب أهل الظاهر ثم عمل شافعيا انتهى كلام الجلال السيوطي
رحمه الله تعالى وقال صاحب جامع الفتاوي من الحنفية يجوز للحنفي أن ينتقل إلى
مذهب الشافعي وبالعكس لكن بالكلية أما في مسألة واحدة فلا يمكن كما لو خرج دم من بدن
حنفي وسال فلا يجوز له أن يصلي قبل أن يغسله اقتداء بمذهب الشافعي في هذه المسألة فإن
صلى بطلت صلاته وقال بعضهم ليس لعامي أن يتحول من مذهب إلى مذهب حنفيا كان
أو شافعيا والمشهور غيره كما سيأتي وقال بعضهم يجوز للشافعي أن يتحول حنفيا ولا عكس
قال السيوطي وهذه دعوى لا برهان عليها وقد أدركنا علماءنا وهم لا يبالغون في النكير
على من كان مالكيا ثم عمل حنفيا أو شافعيا ثم تحول بعد ذلك حنبليا ثم رجع بعد ذلك إلى
مذهب مالك وإنما يظهرون النكير على المنتقل لإيهامه التلاعب بالمذاهب وجزم
الرافعي بجواز ذلك وتبعه النووي وعبارة الروضة إذا دونت المذاهب فهل يجوز للمقلد
أن ينتقل من مذهب إلى مذهب آخر إن قلنا يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم وغلب على ظنه
إن الثاني أعلم فينبغي أن يجوز بل يجب وإن خيرناه فينبغي أن يجوز أيضا كما لو قلد في القبلة
هذا أياما وهذا أياما انتهى كلام الروضة فلولا أن علماء السلف رأوا أنه ليس بذلك بأس
ما أقروا من انتقل من مذهب إلى غيره ولولا علمهم بأن الشريعة تشمل المذاهب كلها وتعمها
لأنكروا عليه أشد النكير ثم لا يخلو أمر السلف من أمرين إما أن يكونوا قد اطلعوا على
عين الشريعة ورأوا اتصال جميع المذاهب بها أو سكتوا على ذلك إيمانا بصحة كلام الأئمة
وتسليما لهم وإن قال أحد من المالكية اليوم بئس ما صنع من ينتقل من مذهبه إلى غيره
قلنا له بل بئس ما قلت أنت لأن إمام مذهبك الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى
والإمام القرافي رحمه الله تعالى جوزا ذلك فقولك هذا تعصب محض فإن الأئمة كلهم في
الحق سواء فليس مذهب أولى بالشريعة من مذهب وقد سئل الجلال السيوطي رحمه الله
تعالى عن حنفي يقول يجوز للإنسان أن يتحول حنفيا ولا يجوز للحنفي أن يتحول شافعيا أو
مالكيا أو حنبليا فقال قد تقدم أننا قلنا إن هذا تحكم من قائله لا دليل عليه من كتاب ولا سنة
ولم يرد لنا في حديث صحيح ولا ضعيف تمييز أحد من أئمة المذاهب على غيره على التعيين
والاستدلال بتقديم زمن أبي حنيفة رضي الله عنه لا ينتهض حجة ولو صح لوجب تقليده
على كل حال ولم يجر تقليد غيره البتة وهو خلاف الاجماع وخلاف ما رواه البيهقي في كتاب
44
المدخل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مهما أوتيتم
من كتاب الله فالعمل به واجب لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة لي ماضية
فإن لم يكن في سنة لي فما قال أصحابي لأن أصحابي كالنجوم في السماء فأيما أخذتم به فقد
اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة انتهى قال الجلال السيوطي ثم إنه يلزم من تخصيص
تحريم الانتقال بمذهب الإمام أبي حنيفة طرد ذلك في بقية المذاهب فيقال بتحريم الانتقال
من مذهب المتقدم بالزمن إلى مذهب المتأخر كالشافعي يتحول مالكيا والحنبلي يتحول
شافعيا دون العكس وكل قول لا دليل عليه فهو مردود على صاحبه قال صلى الله عليه وسلم
كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد انتهى * ورأيت فتوى أخرى له مطولة قد حث فيها على
اعتقاد إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وإن تفاوتوا في العلم والفضل ولا يجوز لأحد
التفضيل الذي يؤدي إلى نقص في غير إمامه قياسا على ما ورد في تفضيل الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام فقد حرم العلماء التفضيل المؤدي إلى نقص نبي أو احتقاره لا سيما إن
أدى ذلك إلى خصام ووقيعة في الأعراض وقد وقع الاختلاف بين الصحابة في الفروع
وهم خير الأمة وما بلغنا أن أحدا منهم خاصم من قال بخلاف قوله ولا عاداه ولا نسبه إلى
خطأ ولا قصور نظر وفي الحديث اختلاف أمتي رحمة وكان الاختلاف على من قبلنا عذابا
أو قال هلاكا انتهى ومعنى رحمة أي توسعة على الأمة ولو كان أحد من الأئمة مخطئا في نفس
الأمر لما كان اختلافهم رحمة قال وقد استنبطت من حديث أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم إننا إذا اقتدينا بأي إمام كان اهتدينا لأنه صلى الله عليه وسلم خيرنا
في الأخذ بقول من شئنا منهم من غير تعيين وما ذلك إلا لكونهم كلهم على هدى من ربهم
ولو كان المصيب من المجتهدين واحدا والباقي مخطئا لكانت الهداية لا تحصل لمن قلد الباقين
وكان محمد بن حزم يقول في حديث إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران
إن المراد بالخطأ هنا عدم مصادفة الدليل كما تقدم لا الخطأ الذي يخرج صاحبه عن الشريعة
إذ لو خرج به عن الشريعة لم يحصل له به أجرا انتهى * وقد دخل هارون الرشيد على الإمام
مالك رضي الله عنه فقال له دعني أبا عبد الله أفرق هذه الكتب التي ألفتها وانشرها في بلاد
الإسلام واحمل عليها الأمة فقال له يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه
الأمة فكل يتبع ما صح دليله عنده وكل على هدى وكل يريد الله وكان الإمام مالك يقول
كثيرا ما شاورني هارون الرشيد أن يعلق كتاب الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه
فقلت له لا تفعل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في
البلاد وكل مصيب فقال زادك الله توفيقا يا أبا عبد الله انتهى فانظر يا أخي إن كنت مالكيا
إلى قول إمامك وكل مصيب وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله تعالى يقول لما حج
المنصور قال للإمام مالك إني عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ ثم أبعث بها
إلى كل مصر من أمصار المسلمين وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره فقال الإمام
مالك رحمه الله تعالى لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل
وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا إلى الله تعالى به فدع
45
الناس وما اختاروا لأنفسهم في كل بلد انتهى ورأيت بخط الشيخ جلال الدين السيوطي
رحمه الله تعالى ما نصه حين سئل عن الانتقال من مذهب إلى آخر الذي أقول به إن للمنتقل
أحوالا أحدها أن يكون الحامل له على الانتقال أمرا دنيويا اقتضته الحاجة إلى الرفاهية
اللائقة به كحصول وظيفة أو مرتب أو قرب من الملوك وأكابر الدنيا فهذا حكمه حكم مهاجر
أم قيس لأنه الأعز من مقاصده الثاني أن يكون الحامل له على الانتقال أمرا دنيويا
كذلك لكنه عامي لا يعرف الفقه وليس له من المذهب سوى الاسم كغالب المباشرين
وأركان الدولة وخدامهم وخدام المدارس فمثل هذا أمره خفيف إذا انتقل عن مذهبه
الذي كان يزعم أنه متقيد به ولا يبلغ إلى حد التحريم لأنه إلى الآن عامي لا مذهب له فهو كمن
أسلم جديدا له التمذهب بأي مذهب شاء من مذاهب الأئمة الثالث أن يكون الحامل له أمرا
دنيويا كذلك ولكنه من القدر الزائد عادة على ما يليق بحاله وهو فقيه في مذهبه وأراد
الانتقال لغرض الدنيا الذي هو من شهوات نفسه المذمومة فهذا أمره أشد وربما وصل
إلى حد التحريم لتلاعبه بالأحكام الشرعية لمجرد غرض الدنيا مع عدم اعتقاده في صاحب
المذهب الأول إنه على كمال هدى من ربه إذ لو اعتقد أنه على كمال هدى ما انتقل عن مذهبه
الرابع أن يكون انتقاله لغرض ديني ولكنه كان فقيها في مذهبه وإنما انتقل لترجيح المذهب
الآخر عنده لما رآه من وضوح أدلته وقوة مداركه فهذا إما يجب عليه الانتقال أو يجوز له
كما قاله الرافعي وقد أقر العلماء من انتقل إلى مذهب الشافعي حين قدم مصر وكانوا
خلقا كثيرا مقلدين للإمام مالك الخامس أن يكون انتقاله لغرض ديني لكنه كان عاريا
من الفقه وقد اشتغل بمذهبه فلم يحصل منه على شئ ووجد مذهب غيره أسهل عليه بحيث
يرجو سرعة إدراكه والتفقه فيه فهذا يجب عليه الانتقال قطعا ويحرم عليه التخلف لأن
تفقه مثله على مذهب إمام من الأئمة الأربعة خير من الاستمرار على الجهل لأنه ليس له من
التمذهب سوى الاسم والإقامة على الجهل نقص عظيم في المؤمن وقل إن تصح معه عبادة
قال الجلال السيوطي وأظن أن هذا هو السبب في تحول الطحاوي حنفيا بعد إن كان
شافعيا فإنه كان يقرأ على خاله الإمام المزني فتعسر يوما عليه الفهم فحلف المزني إنه لا يجئ
منه شئ فانتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة ففتح الله تعالى عليه وصنف كتابا عظيما
شرح فيه المعاني والآثار وكان يقول لو عاش خالي ورآني اليوم لكفر عن يمينه انتهى
السادس أن يكون انتقاله لا لغرض ديني ولا دنيوي بأن كان مجردا عن القصدين جميعا
فهذا يجوز مثله للعامي إما الفقيه فيكره له أو يمنع منه لأنه قد حصل فقه ذلك المذهب
الأول ويحتاج إلى زمن آخر ليحصل فيه فقه المذهب الآخر فيشغله ذلك عن الأمر الذي هو
العمل بما تعلمه قبل ذلك وقد يموت قبل تحصيل مقصوده من المذهب الآخر فالأولى
لمثل هذا ترك ذلك انتهى كلام الجلال السيوطي رحمه الله تعالى فقد بان لك يا أخي من
جميع ما قررناه في هذا الفصل من عدم إنكار أهل الأعصار على من انتقل من مذهب إلى
آخر أنهم كانوا يرون الشريعة واسعة وأن جميع الأئمة على هدى من ربهم وقد أجمع
أهل الكشف على ذلك ولا يصح أن يجتمع مثلهم على ضلالة وقالوا كل قول من أقوال علماء
46
هذه الأمة موافق للشريعة في نفس الأمر وإن لم يظهر لبعض المقلدة ذلك كما أن
كل قول من أقوال علماء هذه الشريعة موافق لشريعة نبي ممن تقدم وأن من علم بما اتفق
عليه العلماء كلهم فكأنه عمل بغالب شرائع الأنبياء وربما كان له من الأجر كأجر جميع
اتباع الأنبياء كلهم إكراما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وسمعت سيدي عليا الخواص
رحمه الله تعالى يقول كل من نور الله تعالى قلبه علم أن سكوت العلماء على من انتقل من
مذهب إلى آخر إنما هو لعلمهم بأن الشريعة تعمهم كلهم وتشملهم فيحمل قول من رجح قول
إمامه على غيره على أنه لم يبلغ إلى مقام الكمال حال قوله ذلك وقد قدمنا في إيضاح الميزان
وجوب اعتقاد الترجيح على كل من لم يصل إلى الإشراف على العين الأولى من الشريعة وبه
صرح إمام الحرمين وابن السمعاني والغزالي والكيا الهراسي وغيرهم وقالوا لتلامذتهم
يجب عليكم التقيد بمذهب إمامكم الشافعي ولا عذر لكم عند الله تعالى في العدول عنه انتهى
ولا خصوصية للإمام الشافعي في ذلك عند كل من سلم من التعصب بل كل مقلد من
مقلدي الأئمة يجب عليه اعتقاد ذلك في إمامه ما دام له يصل إلى شهود عين الشريعة الأولى
وأما قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فيحتمل أن يكون مراده الخلافة ويحتمل
أن يكون مراده إمامة الدين وإذا تطرق الاحتمال سقط الاستدلال وقد فتش العلماء
فوجدوا غالب الأئمة المجتهدين من الموالي كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك فإنه من بني
أصبح والنخعي من النخع وهم قوم من اليمن لا من قريش ومحمد بن الحسن والإمام أحمد
شيبانيين وهما من ربيعة لا من قريش ولا من مضر والثوري من بني ثورين عمرو بن أد
وكذلك مكحول والأوزاعي من الموالي وأضرابهم والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * في بيان استحالة خروج شئ من أقوال المجتهدين عن الشريعة وذلك لأنهم
بنوا قواعد مذاهبهم على الحقيقة التي هي أعلى مرتبتي الشريعة كما بنوها على ظاهر
الشريعة على حد سواء وإنهم كانوا عالمين بالحقيقة أيضا خلاف ما يظنه بعض المقلدين فيهم
فكيف يصح خروج شئ من أقوالهم عن الشريعة ومن نازعنا في ذلك فهو جاهل بمقام الأئمة
فوالله كانوا علماء بالحقيقة والشريعة معا وإن في قدرة كل واحد منهم أن ينشر الأدلة
الشرعية على مذهبه ومذهب غيره بحكم مرتبتي هذه الميزان فلا يحتاج أحد بعده إلى
النظر في أقوال مذهب آخر لكنهم رضي الله عنهم كانوا أهل إنصاف وأهل كشف فكانوا
يعرفون أن الأمر يستقر في علم الله تعالى على عدة مذاهب مخصوصة لا على مذهب واحد
فأبقى كل واحد لمن بعده عدة مسائل عرف من طريق كشفه أنها تكون من جملة مذهب
غيره فترك الأخذ بها من باب الإنصاف والاتباع لما أطلعهم الله تعالى عليه من طريق
كشفهم أنه مراد له تعالى لا من باب الايثار بالقرب الشرعية والرغبة عن السنة كما اطلع
الأولياء على قسمة الأرزاق المحسوسة لكل إنسان فانظر يا أخي في أقوال أئمة المذاهب
تجد أحدهم إن خفف في مسألة شدد في مسألة أخرى وبالعكس كما سيأتي بسطه في توجيه
أقوالهم في أبواب الفقه إن شاء الله تعالى وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى
يقول إنما أيد أئمة المذاهب مذاهبهم بالمشي على قواعد الحقيقة مع الشريعة إعلاما لأتباعهم
47
بأنهم كانوا علماء بالطريقين وكان يقول لا يصح خروج قول من أقوال الأئمة المجتهدين عن
الشريعة أبدا عند أهل الكشف قاطبة وكيف يصح خروجهم عن الشريعة مع اطلاعهم
على مواد أقوالهم من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومع الكشف الصحيح ومع اجتماع
روح أحدهم بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالهم عن كل شئ يوقفوا فيه من الأدلة
هل هذا من قولك يا رسول الله أم لا يقظة ومشافهة بالشروط المعروفة بين أهل الكشف
وكذلك كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن كل شئ فهموه من الكتاب والسنة قبل أن
يدونوه في كتبهم ويدينوا الله تعالى به ويقولون يا رسول الله قد فهمنا كذا من آية كذا
وفهمنا كذا من قولك في الحديث الفلاني كذا فهل ترتضيه أم لا ويعملون بمقتضى قوله
وإشارته ومن توقف فيما ذكرناه من كشف الأئمة المجتهدين ومن اجتماعهم برسول الله صلى
الله عليه وسلم من حيث الأرواح قلنا له هذا من جملة كرامات الأولياء بيقين وإن لم تكن
الأئمة المجتهدون أولياء فما على وجه الأرض ولي أبدا وقد اشتهر عن كثير من الأولياء
الذين هم دون الأئمة المجتهدين في المقام بيقين أنهم كانوا يجتمعون برسول الله صلى الله عليه
وسلم كثيرا ويصدقهم أهل عصرهم على ذلك كسيدي الشيخ عبد الرحيم القناوي وسيدي
الشيخ أبي مدين المغربي وسيدي أبي السعود بن أبي العشاير وسيدي الشيخ إبراهيم الدسوقي
وسيدي الشيخ أبي الحسن الشاذلي وسيدي الشيخ أبي العباس المرسي وسيدي الشيخ
إبراهيم المتبولي وسيدي الشيخ جلال الدين السيوطي وسيدي الشيخ أحمد الزواوي
البحيري وجماعة ذكرناهم في كتاب طبقات الأولياء ورأيت ورقة بخط الشيخ جلال الدين
السيوطي عن أحد أصحابه وهو الشيخ عبد القادر الشاذلي مراسلة لشخص سأله في شفاعة
عند السلطان قايتباي رحمه الله تعالى اعلم يا أخي أنني قد اجتمعت برسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى وقتي هذا خمسا وسبعين مرة يقظة ومشافهة ولولا خوفي من احتجابه صلى الله عليه
وسلم عني بسبب دخولي للولاة لطلعت القلعة وشفعت فيك عند السلطان وإني رجل من
خدام حديثه صلى الله عليه وسلم وأحتاج إليه في تصحيح الأحاديث التي ضعفها المحدثون من
طريقهم ولا شك أن نفع ذلك أرجح من نفعك أنت يا أخي انتهى ويؤيد الشيخ جلال الدين
في ذلك ما اشتهر عن سيدي محمد بن زين المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يرى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة ولما حج كلمه من داخل القبر ولم يزل هذا
مقامه حتى طلب منه شخص من النحرارية أن يشفع له عند حاكم البلد فلما دخل عليه أجلسه
على بساطه فانقطعت عنه الرؤية فلم يزل يتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤية حتى
قرأ له شعرا فتراءى له من بعيد فقال تطلب رؤيتي مع جلوسك على بساط الظلمة لا سبيل لك
إلى ذلك فلم يبلغنا أنه رآه بعد ذلك حتى مات انتهى وقد بلغنا عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي
وتلميذه الشيخ أبي العباس المرسي وغيرهما أنهم كانوا يقولون لو احتجبت عنا رؤية رسول
الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما أعددنا أنفسنا من جملة المسلمين فإذا كان هذا
قول آحاد الأولياء فالأئمة المجتهدون أولى بهذا المقام وكان سيدي على الخواص رحمه الله
تعالى يقول لا ينبغي لمقلد أن يتوقف في العمل بقول من أقوال أئمة المذاهب ويطالبهم
48
بالدليل على ذلك لأنه سوء أدب في حقهم وكيف ينبغي التوقف عن العمل بأقوال قد بنيت
على أصل صحيح الأحاديث وعلى الكشف الصحيح الذي لا يخالف الشريعة أبدا فإن علم
الكشف أخبار بالأمور على ما هي عليه في نفسها وهذا إذا حققته وجدته لا يخالف
الشريعة في شئ بل هو الشريعة بعينها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخبر إلا بالواقع
لعصمته من الباطل والظن انتهى وسيأتي بيان ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وسمعت سيدي
عليا المرصفي رحمه الله يقول مرارا كان أئمة المذاهب رضي الله عنهم وارثين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم في علم الأحوال وعلم الأقوال معا خلاف ما يتوهمه بعض المتصوفة
حيث قال إن المجتهدين لم يرثوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علم القال فقط حتى
أن بعضهم قال جميع ما علمه المجتهدون كلهم ربع علم رجل كامل عندنا في الطريق إذ الرجل
لا يكمل عندنا حتى يتحقق في مقام ولايته بعلوم الحضرات الأربع في قوله تعالى هو الأول
والآخر والظاهر والباطن وهؤلاء المجتهدون لم يتحققوا بسوى علم حضرة اسمه الظاهر
فقط لا علم لهم بعلوم حضرة الأزل ولا الأبد ولا يعلم الحقيقة انتهى قلت وهذا كلام جاهل
بأحوال الأئمة الذين هم أوتاد الأرض وقواعد الدين والله أعلم وسمعت سيدي عليا
الخواص أيضا يقول كل من نور الله تعالى قلبه وجد مذاهب المجتهدين وأتباعهم كلها
تتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق السند الظاهر بالعنعنة ومن طريق إمداد
قلبه صلى الله عليه وسلم لجميع قلوب علماء أمته فما اتقد مصباح عالم إلا من مشكاة نور قلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فافهم وسمعته يقول مرة أخرى ما من قول من أقوال
المجتهدين ومقلديهم إلا وينتهي سنده برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بجبريل ثم بحضرة الله
عز وجل التي تجل عن التكييف من طريق السند الظاهر والسند الباطن الذي هو علم
الحقيقة المؤيدة بالعصمة فمن نقل علمها على الحقيقة لم يصح منه خطأ في قول من أقواله وإنما
يقع الخطأ في طريق الأخذ عنها فقط فكما يقال إن جميع ما رواه المحدثون بالسند الصحيح
المتصل ينتهي سنده إلى حضرة الحق جل وعلا فكذلك يقال فيما نقله أهل الكشف الصحيح
من علم الحقيقة وذلك لأن جميع مصابيح علماء الظاهر والباطن قد اتقدت من نور الشريعة
فما من قول من أقوال المجتهدين ومقلديهم إلا وهو مؤيد بأقوال أهل الحقيقة لا شك عندنا
في ذلك انتهى وهذا سبب تأييدي لكلام أئمة الشريعة بتوجيهي لكلامهم بكلام أهل
الحقيقة في كل مسألة من باب الطهارة إلى آخر أبواب الفقه كما سيأتي بيانه فيها إن شاء الله
تعالى ولا أعلم أحد سبقني إلى التزام ذلك في كتاب كل ذلك تقوية لقلوب الطلبة من مقلدي
المذاهب ليعملوا بكلام أئمتهم على يقين وبيان إذا رأوا الحقيقة تؤيد الشريعة المستنبطة
وعكسه انتهى وسمعت أخي الشيخ أفضل الدين وقد جادله فقيه في مسألة يقول والله ما بنى
أحد من أئمة المذاهب مذهبه إلا على قواعد الحقيقة المؤيدة بالكشف الصحيح ومعلوم أن
الشريعة لا تخالف الحقيقة أبدا وإنما تتخلف الحقيقة عن الشريعة في مثل حكم الحاكم
بشهادة شهود الزور الذين اعتقد الحاكم عدالتهم فقط فلو كانوا شهود عدالة ما تخلفت
الحقيقة عن الشريعة فكل حقيقة شريعة وعكسه وإيضاح ذلك أن الشارع أمرنا
49
بإجراء أحوال الناس على الظاهر ونهانا عن أن ننقب وننظر ما في قلوبهم رحمة بهذه الأمة
كما قال تعال سبقت رحمتي غضبي ولا تسبق الرحمة الغضب إلا بكثرة وقوع الناس في المعاصي
والزور وزيادة ذلك على الطاعات والصدق فافهم وعلى هذا الذي قررناه يكون إجراء
أحكام الناس على الظاهر من الشرع المقرر بتقرير الشارع ونظير ذلك أيضا اكتفاؤنا من
المكلف بفعل التكاليف ظاهرا وقد يكون في باطنه زنديقا على خلاف ما أظهره لنا
وإن كان مراد الشارع بشريعته حقيقة إنما هو ما وافق فيه الظاهر الباطن فمن شهد زورا
أو صلى غير مؤمن فليس هو على شرع مطلقا في نفس الأمر حتى يقابل بالحقيقة إنما ذلك
باطل من غير الدين فإن فهمت يا أخي ما قررته لك انقدح لك الجمع بين قول من يقول إن
حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا وبين من يقول إنه ينفذ ظاهرا فقط أي في الدنيا دون
الآخرة وقد ينتصر الحق تعالى لمنصب الشرع فينفذ حكم الحاكم بشهادة الزور ظاهرا
وباطنا وبه قال بعض الأئمة فيسامح شهود الزور في الآخرة ويعفو عنهم ويمشي حكم الحاكم
في مسألتهم كما يمشي شهادة العدول ويرضى الخصوم كل ذلك فضلا منه ورحمة بعباده
وسترا على فضائحهم عند بعضهم بعضا وفي الحديث إن شخصا مات في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فشهد الصحابة كلهم فيه بالشر إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فأوحى الله
تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إن الذين شهدوا في فلان بالسوء صادقون ولكن الله
تعالى أجاز شهادة أبي بكر تكرمة له انتهى وذلك أن مقام الصديقية يقتضي أن لا يرى
صاحبه من الناس إلا محاسنهم قياسا على باطنه هو فافهم وسمعت سيدي عليا الخواص
رحمه الله يقول لا يكمل إيمان العبد بأن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم إلا أن سلك
طريق القوم وأما أصحاب الحجب الكثيفة من غالب المقلدين فمن لازمهم سوء الاعتقاد في
غير إمامهم أو يسلمون له قوله وفي قلبهم منه حزازة فإياكم أن تكلفوا أحدا من هؤلاء
المحجوبين بهذا الاعتقاد الشريف إلا بعد السلوك وإن شككت يا أخي في قولي هذا
فاعرض عليه أقوال المذاهب وقل لكل واحد عمل بقول غير إمامك فإنه لا يطيعك في ذلك
وكيف يطيعك في ذلك وأنت تريد تهدم قواعد مذهبه عنده بل ولو سلم لك ظاهرا لا يقدر على
انشراح قلبه بذلك باطنا قال وقد بلغنا إن من وراء النهر جماعة من الشافعية والحنفية
يفطرون في نهار رمضان ليتقووا على الجدال وادحاض بعضهم حجج بعض انتهى وقد قررنا
في فصل انتقال المقلدين من مذهب إلى مذهب تحقيق المناط في ذلك واعلم يا أخي أن
الأئمة المجتهدين ما سموا بذلك إلا لبذل أحدهم وسعه في استنباط الأحكام الكامنة في
الكتاب والسنة فإن الاجتهاد مشتق من الجهد والمبالغة في إتعاب الفكر وكثرة النظر في
الأدلة فالله تعالى يجزي جميع المجتهدين عن هذه الأمة خيرا فافهم لولا استنبطوا للأمة
الأحكام من الكتاب والسنة ما قدر أحد من غيرهم على ذلك كما مر فإن قلت فما دليل
المجتهدين في زيادتهم الأحكام التي استنبطوها على صريح الكتاب والسنة وهلا كانوا
وقفوا على حد ما ورد صريحا فقط ولم يزيدوا على ذلك شيئا الحديث ما تركت شيئا يقربكم
إلى الله ألا وقد أمرتكم به ولا شيئا يبعدكم عن الله ألا وقد نهيتكم عنه فالجواب دليلهم
50
في ذلك الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبيينه ما أجمل في القرآن مع قوله تعالى
ما فرطنا في الكتاب من شئ فإنه لولا بين لنا كيفية الطهارة والصلاة والحج وغير ذلك
ما اهتدى أحد من الأمة لمعرفة استخراج ذلك من القرآن ولا كنا نعرف عدد ركعات
الفرائض ولا النوافل ولا غير ذلك مما سيأتي في الفصل الآتي عقبه إن شاء الله تعالى
فكما أن الشارع بين لنا بسنته ما أجمل في القرآن فكذلك الأئمة المجتهدون بينوا لنا
ما أجمل في أحاديث الشريعة ولولا بيانهم لنا ذلك لبقيت الشريعة على إجمالها وهكذا
القول في أهل كل دور بالنسبة للدور الذي قبلهم إلى يوم القيامة فإن الاجمال لم يزل ساريا
في كلام علماء الأمة إلى يوم القيامة ولولا ذلك ما شرحت الكتب ولا عمل على الشروح
حواش كما مر فافهم فإن قلت فهل ما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء
من المراجعة في شأن الصلاة كان اجتهادا منه أم لا فالجواب كما قاله الشيخ محيي الدين
كان ذلك منه اجتهادا فإن الله تعالى لما فرض على أمته الخمسين صلاة نزل بها إلى موسى
ولم يقل شيئا ولا اعترض ولا قال هذا كثير على أمتي فلما قال له موسى إن أمتك لا تطيق
ذلك وأمره بالمراجعة فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا من حيث وفور شفقته على أمته
ولا سبيل له إلى رد أمر ربه فأخذ في الترجيح في أي الحالين أولى وهذا هو حقيقة الاجتهاد
فلما ترجح عنده أنه يراجع ربه رجع بالاجتهاد إلى ما يوافق قول موسى وأمضى ذلك في
أمته بإذن من ربه عز وجل فإن فهمت ما ذكرناه علمت أن في تشريع الله تعالى اجتهاد
المجتهدين تأنيسا له صلى الله عليه وسلم كي لا يستوحش وفيه أيضا التأسي به كما
أن في اجتهاده صلى الله عليه وسلم أيضا تأنيسا وجبرا لقلب موسى عليه الصلاة والسلام
لأنه ربما ندم إذا رجع إلى نفسه وتأمل فوجد الله أرحم بعباده منه ولو أنه كان أبقى
عليهم الخمسين صلاة لكان يقويهم على فعلها فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما أن
الله تعالى جبر قلب موسى حين استشعر الندم على قوله بقوله تعالى ما يبدل القول لدى
فأفهم موسى أن مراجعة موسى كانت في محلها لكون القول كان من الحق تعالى على
سبيل إرادة إظهار نعمه على رسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له فسر بذلك وعلم أن
في الحضرة الإلهية ما يقبل التبديل والنسخ ومنه ما لا يقبل ذلك فقد بان لك يا أخي بما
قررناه منشأ اجتهاد المجتهدين وهو كلام نفيس ولعلك لا تجده في كتاب والحمد لله رب
العالمين
* (فصل) * إن قال قائل أي فائدة في تأليف هذه الميزان ومن المعلوم أن أهل جميع
المذاهب يعلمون أن كل من عجز عن العزيمة يجوز له العمل بالرخصة فالجواب أن ما قاله
هذا القائل صحيح ولكن أهل المذاهب إذا عملوا بالرخصة يعملون بها وعندهم منها حصر
وضيق في نفوسهم لعدم معرفتهم بتوجيهها وموافقتها للكتاب والسنة بخلاف صاحب
هذه الميزان فإنه يعمل بها مع انشراح القلب لمعرفته بتوجيهها وموافقتها للكتاب والسنة
وأين من هو على يقين من صحة عبادته ممن هو على شك فيها فاعلم ذلك والله تعالى أعلم والحمد
لله رب العالمين
51
ولنشرع في ذم الرأي فنقول وبالله التوفيق
* (فصل) * شريف في بيان الذم من الأئمة المجتهدين للقول في دين الله تعالى بالرأي لا سيما
الإمام أبو حنيفة اعلم أنني إنما قدمت هذا الفصل على ما بعده من الجمع بين الأحاديث
والأقوال لأنبه طالب العلم على شدة تبري جميع المجتهدين من القول في دين الله بالرأي ليقبل
على العمل بجميع أقوال الأئمة المجتهدين بطيب نفس وانشراح صدر على حكم مرتبتي
الميزان فإن أقوالهم كلها لا تخرج عن مرتبتي الميزان وتخفيف وتشديد وقد كان الأئمة
المجتهدون كلهم يحثون أصحابهم على العمل بظاهر الكتاب والسنة ويقولون إذا رأيتم
كلامنا يخالف ظاهر الكتاب والسنة فاعملوا بالكتاب والسنة واضربوا بكلامنا الحائط
ا ه وإنما قالوا ذلك احتياطا للأمة وأدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يزيد أحدهم
في شريعته صلى الله عليه وسلم شيئا لم يرده ولم يرضه وخوفا أن يكتب أحدهم من جملة الأئمة
المضلين إذا زاد في الشريعة شيئا مما ذكر فإن قلت فما حد القول الذي لا يرضاه الله ورسوله
فالجواب حده أن يخرج عن قواعد الشريعة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكل ما شهدت له الشريعة بالصحة وموافقة القواعد فهو معدود من الشريعة وإن لم
يصرح به الشارع وعبارة البيهقي في باب القضاء من سننه الكبرى اعلم أن الرأي المذموم
هو كل ما لا يكون مشبها بأصل قال وعلى ذلك يحمل كل ما جاء في ذم الرأي ا ه إذا علمت
ذلك فاعلم أن الشريعة منقسمة على ثلاثة أقسام الأول ما أتى به الوحي من الأحاديث مثل
حديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ومثل حديث لا تنكح المرأة على عمتها
ولا خالتها ومثل حديث لا يحرم في الرضاعة المصة ولا المصتان ومثل حديث الدية على
العاقلة وما جرى مجرى ذلك من الأصول الثابتة في الشريعة فإنه كالقرآن من حيث انعقاد
الاجماع على عدم مخالفته القسم الثاني ما أباح الحق تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن
يسنه على رأيه هو على وجه الارشاد لأمته كتحريم لبس الحرير على الرجال وقوله
في حديث تحريم مكة إلا الإذخر حين قال له عمه العباس إلا الإذخر يا رسول الله ولولا أن الله
تعالى كان يحرم جميع نبات الحرم لم يستثن صلى الله عليه وسلم الإذخر لما سأله عمه العباس
في ذلك ونحو حديث لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل ونحو حديث
لو قلت نعم لوجبت ولم تستطيعوا في جواب هن قال له في فريضة الحج أكل عام يا رسول
الله قال لا ولو قلت نعم لوجبت الحديث وقد كان صلى الله عليه وسلم يخفف على أمته حسب
طاقته وينهاهم عن كثرة السؤال ويقول اتركوني ما تركتكم خوفا من كثرة تنزل الأحكام
عن سؤالهم فيعجزون عن القيام بها القسم الثالث ما جعله الشارع فضيلة لأمته وتأديبا
لهم فإن فعلوه حازوا الفضيلة وإن تركوه فلا حرج عليهم وذلك كنهيه صلى الله عليه وسلم
عن كسب الحجام وكأمره بالمسح على الخفين بدلا عن غسل الرجلين وكنهيه النساء عن زيارة
القبور وعن لبس الحرير ومعلوم أن السنة فاضية على الكتاب ولا عكس من حيث إنها بيان
لما أجمل في القرآن كما أن الأئمة المجتهدين هم الذين بينوا لنا ما في السنة من الاجمال كما
أن أتباع المجتهدين هم المبينون لنا ما أجمل في كلام المجتهدين وهكذا إلى يوم القيامة وسمعت
52
سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول لولا أن السنة بينت لنا ما أجمل في القرآن
ما قدر أحد من العلماء على استخراج أحكام المياه والطهارة ولا عرف كون الصبح
ركعتين والظهر والعصر والعشاء أربعا ولا كون المغرب ثلاثا ولا كان يعرف أحدا ما يقال
في دعاء التوجه والافتتاح ولا عرف صفة التكبير ولا أذكار الركوع والسجود
والاعتدالين ولا ما يقال في جلوس التشهدين ولا كان يعرف كيفية صلاة العيدين
والكسوفين ولا غيرهما من الصلوات كصلاة الجنازة والاستسقاء ولا كان يعرف أنصبة
الزكاة ولا أركان الصيام والحج والبيع والنكاح والجراح والأقضية وسائر أبواب الفقه
وقد قال رجل لعمران بن حصين لا تتحد معنا إلا بالقرآن فقاله له عمران إنك لأحمق هل
في القرآن بيان عدد ركعات الفرائض أو اجهروا في كذا دون كذا فقال الرجل لا فأفحمه
عمران ا ه وروى البيهقي أيضا في باب صلاة المسافر من سننه عن عمر رضي الله عنه أنه
سئل عن قصر الصلاة في السفر وقيل له إنا لنجد في الكتاب العزيز صلاة الخوف ولا نجد
صلاة السفر فقال للسائل يا ابن أخي أن الله تعالى أرسل إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم
شيئا وإنما نفعل ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله قصر الصلاة في السفر سنة
سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ا ه فتأمل ذلك فإنه نفيس
* (فصول) * في بيان ما ورد في ذم الرأي عن الشارع وعن أصحابه والتابعين وتابع
التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وروينا في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل
محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكان صلى الله عليه وسلم يقول كل عمل ليس عليه أمرنا
فهو رد وروى البخاري عن ابن مسعود أوائل كتاب الفرائض من صحيحه أنه قال تعلموا
العلم قبل الظانين أي الذين يتكلمون في دين الله بالظن والرأي فانظر كيف نفى عبد الله بن
مسعود العلم عن المتكلمين في دين الله بالرأي وروى الترمذي بإسناد حسن أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة إن أردت أن لأتوقف على الصراط طرفة عين
فلا تحدث في دين الله شيئا برأيك ا ه وكان عبد الله بن عباس ومجاهد وعطاء وغيرهم
يخافون من دخول الرأي في أقوالهم أشد الخوف حتى أن عبد الله بن عباس ومحمد بن
سيرين كانا إذا وقع أحد في عرضهما وسألهما أن يحللاه قالا له إن الله تعالى قد حرم
أعراض المؤمنين فلا نحلها ولكن غفر الله لك يا أخي قال بعض العارفين وهو من دقيق
الورع ذو عجب في التصريف وإيضاح ذلك أن الغيبة وكل ذنب يقع فيه العبد له وجهان
وجه يتعلق بالله تعالى من حيث تعلق حدوده ولا مدخل للعبد فيه ووجه يتعلق بالعبد
يؤاخذ الله تعالى به الخصم إذا وقعت المشاححة في الآخرة من العبد ا ه وروى البيهقي
عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول لا يقلدن رجل رجلا في دينه فإن آمن آمن وإن كفر
كفر يعني في نفس الأمر وانظروا في دينكم وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أفتى
الناس يقول هذا رأى عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر وروى البيهقي
عن مجاهد وعطاء إنهما كانا يقولان ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه
53
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وكذلك كان مالك بن أنس رحمه الله تعالى يقول
كما سيأتي في الفصل الذي بعده إن شاء الله تعالى وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يقول سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم
بكتاب الله عز وجل قال الخطابي وأصحاب السنن هم حفاظ الحديث والمطلعون عليه
كالأئمة المجتهدين وكمل أتباعهم فإنهم هم الذين يفهمون ما تضمنته السنن من الأحكام
وسمع الإمام أحمد بن أبي إسحاق السبيعي قائلا يقول إلى متى حديث اشتغلوا بالعلم فقال له
الإمام أحمد قم يا كافر لا تدخل علينا أنت بعد اليوم ثم إنه التفت إلى أصحابه به وقال ما قلت
أبدا إلا حسد من الناس لا تدخل داري غير هذا الفاسق ا ه فانظر يا أخي كيف وقع من
الإمام هذا الزجر العظيم لمن قال إلى متى حديث اشتغلوا بالعلم فكانوا رضي الله عنهم
لا يتجرأ أحد منهم أن يخرج عن السنة قيد شبر بل بلغنا إن مغنيا كان يغني للخليفة فقيل له
إن مالك بن أنس يقول بتحريم الغناء فقال المغني وهل لمالك وأمثاله أن يحرم في دين ابن
عبد المطلب والله يا أمير المؤمنين ما كان التحريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من
ربه عز وجل وقد قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله لم يقل بما رأيت يا محمد فلو كان
الدين بالرأي لكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى وحي وكان الحق تعالى
أمره أن يعمل به بل عاتبه الله تعالى حين حرم على نفسه ما حرم في قصة مارية وقال يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية ا ه فإذا كان هذا كلام المغني في ذلك الزمان في الإمام
مالك فكيف كلام غيره من العلماء العاملين في ذلك الزمان وتقييدهم بالكتاب والسنة
وما ذكرت لك يا أخي هذه الحكاية عن المغني إلا لأبين لك عدم تجرئ أحد من السلف على
الكلام في دين الله بالرأي لتأخذ كلام المجتهدين بالإيمان والتصديق ولو لم تعرف
من أين أخذوه واستنبطوه من الكتاب أو السنة ونعتقد أن الإمام مالكا لولا رأى في
السنة ما يشهد لتحريم الغناء وسماعه ما أفتى به وكان الإمام حمدان بن سهل رضي الله عنه
يقول لو كنت قاضيا لحبست كلا من هذين الرجلين من يطلب الحديث ولا يطلب الفقه
أو يطلب الفقه ولا يطلب الحديث ويقول انظروا إلى الأئمة المجتهدين كيف طلبوا الحديث
مع الفقه ولم يكتفوا بأحدهما وكان الإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى يقول من
أعظم فتنة تكون على الأمة قوم يقيسون في الأمور برأيهم فيحرمون ما أحل الله
ويحلون ما حرم الله ا ه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول والذي نفس عمر بيده
ما قبض الله تعالى روح نبيه صلى الله عليه وسلم ولا رفع الوحي عنه حتى أغني أمته كلهم عن
الرأي وكان الشعبي يقول سيجئ قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام بذلك وينثلم
وكان وكيع رحمه الله تعالى يقول عليكم باتباع الأئمة المجتهدين والمحدثين فإنهم يكتبون
ما لهم وما عليهم بخلاف أهل الأهواء والرأي فإنهم لا يكتبون قط ما عليهم وكان الشعبي
وعبد الرحمن بن مهدي يزجران كل من رأياه يتدين بالرأي وينشدان
دين النبي محمد مختار * نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله * فالرأي ليل والحديث نهار
54
وكان أحمد بن سريج يقول أهل الحديث أعظم درجة من الفقهاء لاعتنائهم بضبط الأصول
وكان عامر بن قيس يقول لا تذهب الدنيا حتى يصير العلم جهلا والجهل علما وكان عبد الله
ابن مسعود يقول من سئل عن علم لا يعلمه فليقل الله أعلم فإن الله تعالى قال لمحمد صلى الله
عليه وسلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين يعني في الجواب عما سألتموني عنه
وكان يقول من أفتى الناس في كل ما يسألونه فيه فهو مجنون وكان مسروق إذا سئل عن
مسألة يقول للسائل هل وقعت فإن قال لا قال اعفني منها حتى تكون وكان مجاهد يقول
لأصحابه لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به وإنما يكتب الحديث ولعل كل شئ أفتيتكم به اليوم
ارجع عنه غدا وكان الأعمش رضي الله عنه يقول عليكم بملازمة السنة وعلموها للأطفال
فإنهم يحفظون على الناس دينهم إذا جاء وقتهم وكان أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول إذا
تبحر الرجل في الحديث كان الناس عنده كالبقر وكان أبو بكر بن عياش يقول أهل الحديث
في كل زمان كأهل الإسلام مع أهل الأديان والمراد بأهل الحديث في كلامه ما يشمل أهل
السنة من الفقهاء وإن لم يكونوا حفاظا وكان أبو سليمان الخطابي يقول عليكم
بترك الجدال في الحديث وأقوال الأئمة فإن الله تعالى يقول ما يجادل في آيات الله إلا الذين
كفروا وما كانت قط زندقة أو بدعة أو كفرا وجراءة على الله تعالى إلا من قبل الجدال وعلم
الكلام وكان عمر بن عبد العزيز يقول دائما إذا رأيتم جماعة يتناجون سرا فيما بينهم بأمر
دينهم فاشهدوا أن ذلك ضلال وبدعة وكان يقول أكابر الناس هم أهل السنة
وأصاغرهم هم أهل البدعة وكان سفيان الثوري يقول المراد بالسواد الأعظم هم من
كان من أهل السنة والجماعة ولو واحدا فاعلم ذلك * وأما ما نقل عن الأئمة الأربعة رضي
الله عنهم أجمعين في ذم الرأي فأولهم تبريا من كل رأى يخالف ظاهر الشريعة الإمام الأعظم
أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه خلاف ما يضيفه إليه بعض المتعصبين ويا فضيحته
يوم القيامة من الإمام إذا وقع الوجه في الوجه فإن من كان في قلبه نور لا يتجرأ أن يذكر
أحدا من الأئمة بسوء وأين المقام من المقام إذ الأئمة كالنجوم في السماء وغيرهم كأهل
الأرض الذين لا يعرفون من النجوم إلا خيالها على وجه الماء وقد روى الشيخ محيي الدين
في الفتوحات المكية بسنده إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول إياكم والقول
في دين الله تعالى بالرأي وعليكم باتباع السنة فمن خرج عنها ضل فإن قيل إن المجتهدين
قد صرحوا بأحكام في أشياء لم تصرح الشريعة بتحريمها ولا بوجوبها فحرموها وأوجبوها
فالجواب أنهم لولا علموا من قرائن الأدلة تحريمها أو وجبوها ما قالوا به والقرائن أصدق
الأدلة وقد يعلمون ذلك بالكشف أيضا فتتأيد به القرائن ا ه وكان الإمام أبو حنيفة يقول
القدرية مجوس هذه الأمة وشيعة الدجال وكان يقول حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي
بكلامي وكان إذا أفتى يقول هذا رأي أبي حنيفة وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء
بأحسن منه فهو أولى بالصواب وكان يقول إياكم وآراء الرجال ودخل عليه مرة رجل
من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل دعونا من هذه الأحاديث فزجره الإمام
أشد الزجر وقال له لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن ثم قال للرجل ما تقول في لحم القرد
55
وأين دليله من القرآن فأفحم الرجل فقال للإمام فما تقول أنت فيه فقل ليس هو من بهيمة
الأنعام فانظر يا أخي إلى مناضلة الإمام عن السنة وزجره من عرض له بترك النظر في
أحاديثها فكيف ينبغي لأحد أن ينسب الإمام إلى القول في دين الله بالرأي الذي لا يشهد
له ظاهر كتاب ولا سنة وكان رضي الله عنه يقول عليكم بآثار من سلف وإياكم ورأى الرجال
وإن زخرفوه بالقول فإن الأمر ينجلي حين ينجلي وأنتم على صراط مستقيم وكان يقول
إياكم والبدع والتبدع والتنطع وعليكم بالأمر الأول العتيق ودخل شخص الكوفة
بكتاب دانيال فكاد أبو حنيفة أن يقتله وقال له اكتب ثم غير القرآن والحديث وقيل له
مرة ما تقول في ما أحدثه الناس من الكلام في العرض والجوهر والجسم فقال هذه
مقالات الفلاسفة فعليكم بالآثار وطريقة السلف وإياكم وكل محدث فإنه بدعة وقيل له
مرة قد ترك الناس العمل بالحديث وأقبلوا على سماعه فقال رضي الله عنه نفس سماعهم
للحديث عمل به وكان يقول لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا
طلبوا العلم بلا حديث فسدوا وكان رضي الله عنه يقول قاتل الله عمرو بن عبيد فإنه
فتح للناس باب الخوض في الكلام فيما لا يعنيهم وكان يقول لا ينبغي لأحد أن يقول قولا
حتى يعلم أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله وكان يجمع العلماء في كل مسألة
لم يجدها صريحة في الكتاب والسنة ويعمل بما ينفقون عليه فيها وكذلك كان يفعل إذا
استنبط حكما فلا يكتبه حتى يجمع عليه علماء عصره فإن رضوه قال لأبي يوسف اكتبه رضي
الله عنه فمن كان على هذا القدم من اتباع السنة كيف يجوز نسبته إلى الرأي معاذ الله أن
يقع في مثل ذلك عاقل كما سيأتي بسطه في الأجوبة عنه إن شاء الله تعالى وقال
صاحب الفتاوي السراجية قد اتفق لأبي حنيفة من الأصحاب ما لم يتفق لغيره وقد وضع
مذهبه شورى ولم يستبد بوضع المسائل وإنما كان يلقيها على أصحابه مسألة مسألة
فيعرف ما كان عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم حتى يستقر أحد القولين فيثبته أبو يوسف
حتى أثبت الأصول كلها وقد أدرك بفهمه ما عجزت عنه أصحاب القرائح ا ه ونقل الشيخ
كمال الدين بن الهمام عن أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن إنهم كانوا
يقولون ما قلنا في مسألة قولا وإلا وهو روايتنا عن أبي حنيفة وأقسموا على ذلك أيمانا
مغلظة فلم يتحقق إذن في الفقه بحمد الله تعالى جواب ولا مذهب إلا له رضي الله عنه كيفما
كان وما نسب إلى غيره فهو من مذهب أبي حنيفة وإن نسب إلى غيره فهو بطريق المجاز
للموافقة فهو كقول القائل قولي كقوله ومذهبي كمذهبه فعلم أن من أخذ بقول واحد من
أصحاب أبي حنيفة فهو أخذ بقول أبي حنيفة رضي الله عنه والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فيما نقل عن الإمام مالك من ذم الرأي وما جاء عنه في الوقوف على
ما حدته الشريعة المطهرة كان رضي الله عنه يقول إياكم ورأى الرجال إلا أن اجمعوا
عليه واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم وإن لم تفهموا المعنى فسلموا
لعلمائكم ولا تجادلوهم فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق قال ابن القاسم بل هو
النفاق كله لأن الجدال بالباطل في الحق مع العلماء كالجدال مع رسول الله صلى الله عليه
56
وسلم من حيث إن الحق شرعه صلى الله عليه وسلم وإن تفاوت مقام المجادل في الدين ا ه
وكان يقول سلموا للأئمة ولا تجادلوهم فلو كنا كلما جاءنا رجل أجدل من رجل اتبعناه
لخفنا أن نقع في رد ما جاء به جبريل عليه السلام وكان رضي الله عنه إذا استنبط حكما يقول
لأصحابه انظروا فيه فإنه دين وما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه الأصاحب
هذه الروضة يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ابن حزم عنه أنه لما حضرته الوفاة
قال لقد وددت الآن إني أضرب على كل مسألة قلتها برأيي سوطا ولا ألقى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بشئ زدته في شريعته أو خالفت فيه ظاهرها قال ومن هنا منع رضي الله عنه
رواية الحديث بالمعنى للعارف خوفا أن يزيد الراوي في الحديث أو ينقص ا ه قلت وقد
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مرة في جملة مبشرة لي وقال لي عليك بالاطلاع على أقوال
إمام دار هجرتي والوقوف عندها فإنه شهد آثاري ا ه فامتثلت أمره صلى الله عليه وسلم
وطالعت الموطأ والمدونة الكبرى ثم اختصرتها وميزت فيها المسائل التي تميز بها عن بقية
الأئمة عملا بإشارته صلى الله عليه وسلم ورأيته رضي الله عنه يقف عن حد الشريعة لا يكاد
يتعداها وعلمت بذلك أن الوقوف على حد ما ورد أولى من الابتداع ولو استحسن فإن
الشارع قد لا يرضى بتلك الزيادة في التحريم أو في الوجوب والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * فيما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه من ذم الرأي والتبري منه
روى الهروي بسنده إلى الإمام الشافعي أنه كان يقول حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم مستغن بنفسه إذا صح ا ه يعني أنه لا يحتاج إلى قول يعضده إذا صح دليله لأن السنة
قاضية على القرآن ولا عكس وهي مبينة لما أجمل منه * وسئل الشافعي مرة عن محرم قتل
زنبورا فقال وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال الإمام محمد الكوفي
رضي الله عنه رأيت الإمام الشافعي بمكة وهو يفتي الناس ورأيت الإمام أحمد وإسحاق
ابن راهويه حاضرين فقال الشافعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل
من دار فقال إسحاق روينا عن الحسن وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه وكذلك عطاء ومجاهد
فقال الشافعي لإسحاق لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم وتقول قال عطاء ومجاهد والحسن وهل لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم حجة بأبي هو وأمي وكان الإمام أحمد يقول سألت الإمام الشافعي عن القياس فقال
عند الضرورات وكان الشافعي رضي الله عنه يقول لولا أهل المحابر لخطبت الزنادقة
على المنابر وكان رضي الله عنه يقول الأخذ بالأصول من أفعال ذوي العقول ولا ينبغي
أن يقال في شئ من الأصول لم ولا كيف فقيل له مرة وما الأصول فقال الكتاب والسنة
والقياس عليهما وكان يقول إذا اتصل بينكم الحديث برسول الله صلى الله عليه وسلم
فهو سنة ولكن الاجماع أكبر منه إلا أن تواتر يعني الحديث وكان يقول الحديث على
ظاهره لكنه إذا احتمل عدة معان فأولاها ما وافق الظاهر وكان يقول أهل الحديث
في كل زمان كالصحابة في زمانهم وكان يقول إذا رأيت صاحب حديث فكأني رأيت
أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول إياكم والأخذ بالحديث الذي
57
أتاكم من بلاد أهل الرأي إلا بعد التفتيش فيه وكان رضي الله عنه يقول من خاض في علم
الكلام فكأنه دخل البحر في حال هيجانه فقيل له يا أبا عبد الله إنه في علم التوحيد فقال
قد سألت مالكا عن التوحيد فقال هو ما دخل به الرجل الإسلام وعصم به دمه وماله وهو
قول الرجل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
يقول إذا رأيتم الرجل يقول الاسم غير المسمى أو عينه فأشهدوا عليه بالزندقة وروى
الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي إنه كان يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي قال ابن
حزم أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة وفي رواية أخرى إذا رأيتم كلامي يخالف كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعملوا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي
الحائط وقال مرة للربيع يا أبا إسحاق لا تقلدني في كل ما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه
دين وكان رضي الله عنه إذا توقف في حديث يقول لو صح ذلك لقلنا به وروى البيهقي
عنه ذلك في باب حديث المستحاضة تغسل عنه أثر الدم وتصلي ثم تتوضأ لكل صلاة وقال
لو صح هذا الحديث لقلنا به وكان أحب إلينا من القياس على سنة محمد صلى الله عليه وسلم
في الوضوء مما خرج من قبل أو دبر ا ه وكان يقول إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
بأبي هو وأمي شئ لم يحل لنا تركه وقال في باب سهم البراذين لو كنا نثبت مثل هذا الحديث
ما خالفناه وفي رواية أخرى لو كنا نثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأخذنا به
فإنه أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثروا
ولا في قياس ولا شئ إلا طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالتسليم له ذكره البيهقي في
سننه في باب أحد الزوجين يموت ولم يفرض صداقا وروى عنه أيضا في باب السير أنه كان
يقول إن كان هذا الحديث يثبت فلا حجة لأحد معه وكان رضي الله عنه يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به وقال الشافعي في باب
الصيد من الأم كل شئ خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط ولا يقوم معه رأى
ولا قياس فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لأحد معه
أمر ولا نهى غير ما أمر هو به وقال في باب المعلم يأكل من الصيد وإذا ثبت الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يحل تركه لشئ أبدا وقال في باب العتق من الأم وليس في قول أحد
وإن كانوا عددا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة هذا ما اطلعت عليه من المواضع التي
نقلت عن الإمام الشافعي في تبريه من الرأي وأدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل
روينا عنه أنه كان يتأدب مع أقوال الصحابة والتابعين فضلا عن كلام سيد المرسلين صلى الله
عليه وسلم فنقل ابن الصلاح في علوم الحديث أن الشافعي قال في رسالته القديمة بعد أن
أثنى على الصحابة بما هم أهله والصحابة رضي الله عنهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل
وفي كل أمر استدرك به علم وآراؤهم لنا أحمد وأولى من رأينا عندنا لأنفسنا ا ه وروى
البيهقي أن الشافعي استفتى فيمن نذر ليمشين إلى الكعبة وحنث فأفتى بكفارة يمين فكان
السائل توقف في ذلك فقال الشافعي قد قال بهذا القول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح
رضي الله عنه وسيأتي في فصول الأجوبة عن الإمام أبي حنيفة وبيان مقامه في العلم أن
58
الشافعي ترك القنوت لما زار قبره وأدركته صلاة الصبح عنده وقال كيف أقنت بحضرة
الإمام وهو لا يقول به وإن الإمام الشافعي إنما فعل ذلك فتحا لباب الأدب مع الأئمة
المجتهدين وحملهم في جميع أقوالهم على المحامل الحسنة وعلى أنهم ما قالوا قولا إلا لكونهم
اطلعوا على دليله من كلام الشارع صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ذلك قول الشافعي فيما تقدم
عنه أنه لا حجة لقول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فافهم على أن بعضهم قال
إن الشافعي ما فعل ذلك إلا باجتهاد منه فأدى اجتهاده إلى أن الأدب مع الأئمة المجتهدين
واجب فقدمه على فعل بعض السنن لما يترتب عليه من توهم القدح فيه والذي نقول به
إن الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يترك القنوت لمحض الأدب مع الإمام أبي حنيفة رضي
الله عنه مع قول الإمام الشافعي بسنيته حينئذ لما فيه من إساءة الأدب مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بترك شئ قال به لشئ قال به غيره وحاشى الإمام الشافعي رضي الله عنه من
ذلك وإنما نقول إن ترك الإمام الشافعي رضي الله عنه القنوت عند زيارة قبر الإمام أبي
حنيفة رضي الله عنه إنما كان لموافقة في اجتهادهما حصلت ذلك الوقت ويكون ذلك من
إحدى الكرامات الجليلة المعدودة للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ولا يقدح ذلك
في مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه مع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وإنما ذلك فيه
رعاية لكمال المقامين على أنه قد نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في تعظيم الإمام أبي
حنيفة والأدب معه ما فيه مقنع وكفاية لكل ذي لب كما سترى بعضه إن شاء الله تعالى
في هذا الكتاب مرارا وقال بعضهم لا بدع في حملنا ترك القنوت على الأدب المحض لأن
الأدب مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان المتأدب مع أخيه إنما هو متأدب
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابع لشرعه فليتأمل وسيأتي في فصل الأجوبة عن
الإمام أبي حنيفة قول الإمام مالك لما سئل عن الإمام أبي حنيفة ما تقولون في رجل لو
ناظرني في أن نصف هذه الأسطوانة حجر ونصفها فضة لقام بحجته وكذلك قول الإمام
الشافعي الناس كلهم في الفقه عيال على الإمام أبي حنيفة فتأمل يا أخي أدب الأئمة مع
بعضهم بعضا واقتد بهم في ذلك وإياك والتعصب لإمامك حمية جاهلية من غير دليل فتخطئ
طريق الصواب وأول من يتبرأ منك إمامك يوم القيامة وتقدم قول الإمام الليث للإمام
مالك في مسألة أرسلها له من مصر ما حكم الله تعالى في هذه المسألة عندكم وإن
الإمام مالك كتب إلى الليث بعد الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد
فإنك يا أخي إمام هدى وحكم الله تعالى في هذه المسألة ما قام عندك ا ه فاعلم ذلك والحمد لله
رب العالمين
* (فصل) * فيما نقل عن الإمام أحمد من ذمه الرأي وتقيد بالكتاب والسنة روى
البيهقي عنه أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول أولا حد كلام مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبلغنا أنه لم يدون له كلاما كبقية المجتهدين خوفا أن يقع في رأى يخالف الشريعة
وأن جميع مذهبه إنما هو ملفق من صدور الرجال وبلغنا أنه وضع في الصلاة نحو عشرين
مسألة هكذا أخبرني به شيخ الإسلام شهاب الدين الحنبلي الفتوحي رضي الله عنه وبلغنا
59
أنه لم يأكل البطيخ حتى مات وكان إذا سئل عن ذلك يقول لم يبلغني كيف كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأكله وكذلك بلغنا عنه أنه اختفى أيام المحنة في مسألة خلق القرآن
ثم خرج بعد اليوم الثالث فقيل له إنهم الآن في طلبك فقال أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يمكث في الغار حين اختفى من الكفار أكثر من ثلاثة أيام وحاله في العمل بالسنة
مشهور وكان يتبرأ كثيرا من رأى الرجال ويقول لا نرى أحدا ينظر في كتب الرأي غالبا
إلا وفي قلبه دخل وكان ولده عبد الله يقول سألت الإمام أحمد عن الرجل يكون في بلد
لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل منهما
عن دينه فقال يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي وكان كثيرا ما يقول
ضعيف الحديث أحب إلينا من رأى الرجال وكذلك نقل عن الإمام داود وكان
رضي الله عنه يقول انظروا في أمر دينكم فإن التقليد لغير المعصوم مذموم وفيه عمى
للبصيرة وكان يقول قبيح على من أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشي معتمدا على
غيره يشير والله أعلم إلى أنه لا ينبغي لمن قدر على الاجتهاد أن يقلد غيره مع قدرته على النظر
في الأدلة واستخراج ذلك الحكم منها والله أعلم وبلغنا أن شخصا استشاره في تقليد أحد
من علماء عصره فقال لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم وخذ
الأحكام من حيث أخذوا ا ه قلت وهو محمول على من له قدرة على استنباط الأحكام
من الكتاب والسنة وإلا فقد صرح العلماء بأن التقليد واجب على العامي لئلا يضل في
دينه والله أعلم فقد بان لك يا أخي مما نقلناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم أن جميع الأئمة
المجتهدين دائرون مع أدلة الشريعة حيث دارت وإنهم كلهم منزهون عن القول بالرأي في
دين الله وأن مذاهبهم كلها محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر وأن أقوالهم
كلها ومذاهبهم كالثوب المنسوج من الكتاب والسنة سداه ولحمته منهما وما بقي لك عذر في
التقليد لأي مذهب شئت من مذاهبهم فإنها كلها طريق الجنة كما سبق بيانه أواخر
الفصل قبله وإنهم كلهم على هدى من ربهم وإنه ما طعن أحد في قول من أقوالهم إلا لجهله به
أما من حيث دليله وأما من حيث دقة مداركه عليه لا سيما الإمام الأعظم أبو حنيفة
النعمان بن ثابت رضي الله عنه الذي أجمع السلف والخلف على كثرة علمه وورعه وعبادته
ودقة مداركه واستنباطاته كما سيأتي بسطه في هذه الفصول إن شاء الله تعالى وحاشاه
رضي الله عنه من القول في دين الله بالرأي الذي لا يشهد له ظاهر كتاب ولا سنة ومن
نسبه إلى ذلك فبينه وبينه الموقف الذي يشيب فيه المولود وسمعت سيدي عليا الخواص
رضي الله عنه مرة يقول يجب على كل مقلد الأدب مع أئمة المذاهب كلهم وسمع مرة
بعض الشافعية يقول وفي هذا الحديث رد على أبي حنيفة فقال قطع الله لسانك مثلك
يقول هذا اللفظ إنما الأدب أن تقول ولم يطلع الإمام على هذا الحديث ا ه وسمعته
مرة أخرى يقول مدارك الإمام أبي حنيفة دقيقة لا يكاد يطلع عليها إلا أهل الكشف
من أكابر الأولياء قال وكان الإمام أبو حنيفة إذا رأى ماء الميضأة يعرف سائر الذنوب
التي خرت فيه من كبائر وصغائر ومكروهات فلهذا جعل ماء الطهارة إذا تطهر به المكلف
60
له ثلاثة أحوال أحدها أنه كالنجاسة المغلظة احتياطا لاحتمال أن يكون المكلف
ارتكب كبيرة الثاني أنه كالنجاسة المتوسطة لاحتمال أن يكون المكلف ارتكب صغيرة
الثالث أنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره لاحتمال أن يكون المكلف ارتكب مكروها
أو خلاف الأولى فإن ذلك ليس ذنبا حقيقة لجواز ارتكابه في الجملة وفهم جماعة من مقلديه
أن هذه الثلاثة أقوال في حال واحد والحال إنها في أحوال كما ذكرنا بحسب حصر
الذنوب الشرعية في ثلاثة أقسام كما ذكرنا ولا يخلو غالب المكلفين أن يرتكب واحدا منها
إلا نادرا انتهى وسيأتي بسطه في الجمع بين أقوال العلماء في باب الطهارة إن شاء الله تعالى
إذا علمت ذلك فأقول وبالله التوفيق
* (فصول في بعض الأجوبة عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه) *
* (الفصل الأول في شهادة الأئمة له بغزارة العلم وبيان أن جميع أقواله وأفعاله وعقائده
مشيدة بالكتاب والسنة) * إعلم يا أخي أني لم أجب عن الإمام في هذه الفصول بالصدر
وإحسان الظن فقط كما فعل بعضهم وإنما أجبت عنه بعد التتبع والفحص في كتب الأدلة
كما أوضحت ذلك في خطبة كتاب المنهج المبين في بيان أدلة مذاهب المجتهدين ومذهبه أول
المذاهب تدوينا وآخرها انقراضا كما قاله بعض أهل الكشف قد اختاره الله تعالى إماما
لدينه وعباده ولم تزل أتباعه في زيادة في كل عصر إلى يوم القيامة لو حبس أحدهم وضرب
على أن يخرج عن طريقه ما أجاب فرضى الله عنه وعن أتباعه وعن كل من لزم الأدب معه
ومع سائر الأئمة وكان سيدي على الخواص رحمه الله تعالى يقول لو أنصف المقلدون
للإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهما لم يضعف أحد منهم قولا من أقوال الإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه بعد أن سمعوا مدح أئمتهم له أو بلغهم ذلك فقد تقدم عن الإمام
مالك أنه كان يقول لو ناظرني أبو حنيفة في أن نصف هذه الأسطوانة ذهب أو فضة لقام
بحجته أو كما قال وتقدم عن الإمام الشافعي إنه كان يقول الناس كلهم في الفقه عيال على
أبي حنيفة رضي الله عنه انتهى ولو لم يكن من التنويه برفعة مقامه إلا كون الإمام
الشافعي ترك القنوت في الصبح لما صلى عند قبره مع أن الشافعي قائل باستحبابه لكان فيه
كفاية في لزوم أدب مقلديه معه كما مر انتهى وأما ما قاله الوليد بن مسلم من قوله قال لي
مالك بن أنس رحمه الله تعالى أيذكر أبو حنيفة في بلادكم قلت نعم فقال ما ينبغي لبلادكم أن
تسكن فقال الحافظ المزني رحمه الله إن الوليد هذا ضعيف انتهى قلت وبتقدير
ثبوت ذلك عن الإمام مالك فهو مؤول أي إن كان الإمام أبو حنيفة في بلادكم يذكر أي على
وجه الانقياد والاتباع له فلا ينبغي لعالم أن يسكنها الاكتفاء بلادكم بعلم أبي حنيفة واستغناء
الناس بسؤاله في جميع أمور دينهم عن سؤال غيره فإذا سكن أحد من العلماء في بلاده صار
علمه معطلا عن التعليم فينبغي له الخروج إلى بلاد أخرى تحتاج إليه ليبث علمه في أهلها هذا
هو اللائق بفهم كلام الإمام مالك رحمه الله تعالى إن ثبت ذلك عنه لبراءة الأئمة عن الشحناء
والبغضاء لبعضهم بعضا ومن حمله على ظاهره فعليه الخروج من ذلك بين يدي الله عز وجل
يوم القيامة فإن مثل الإمام مالك لا يقع في تنقيص إمام من الأئمة بقرينة ما تقدم عنه
61
من شهادته له بقوة المناظرة وقوة الحجة والله أعلم وأما ما نقله أبو بكر الآجري عن بعضهم
أنه سئل عن مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فقال لا رأي ولا حديث وسئل عن
الإمام مالك فقال رأي ضعيف وحديث صحيح وسئل عن إسحاق بن راهويه فقال حديث
ضعيف ورأي ضعيف وسئل عن الإمام الشافعي فقال رأي صحيح وحديث صحيح انتهى
فهو كلام ظاهره التعصب على الأئمة بإجماع كل منصف إن صح النقل عنه فإن الحس
لا يصدق هذا القائل فيما قاله في حق الإمام أبي حنيفة وقد تتبعت بحمد الله أقواله
وأقوال أصحابه لما ألفت كتاب أدلة المذاهب فلم أجد قولا من أقواله أو أقوال أتباعه إلا
وهو مستند إلى آية أو حديث أو أثر أو إلى مفهوم ذلك أو حديث ضعيف كثرت طرقه
أو إلى قياس صحيح على أصل صحيح فمن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتابي المذكور وبالجملة
فقد ثبت تعظيم الأئمة المجتهدين له كما تقدم عن الإمام مالك والإمام الشافعي فلا التفات
إلى قول غيرهم في حقه وحق أتباعه وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول
مرارا يتعين على أتباع الأئمة أن يعظموا كل من مدحه إمامهم لأن إمام المذهب إذا مدح
عالما وجب على جميع أتباعه أن يمدحوه تقليدا لإمامهم وأن ينزهوه عن القول في دين الله
بالرأي وأن يبالغوا في تعظيمه وتبجيله لأن كل مقلد قد أوجب على نفسه أن يقلد إمامه في كل
ما قاله سواء أفهم دليله أم لم يفهمه من غير أن يطالبه بدليل وهذا من جملة ذلك وقد تقدم
في فصل الانتقال من مذهب إلى مذهب أنه يحرم على المقلد أن يفاضل بين الأئمة تفضيلا
يؤدي إلى التنقيص لأحد منهم مع أن جميع المعترضين على بعض أقوال الإمام رضي الله
عنه دونه في العلم بيقين ولا ينبغي لمن هو مقلد أن يعترض على إمام آخر لأن كل واحد
تابع أسلوبا إلى أن يصل ذلك إلى عين الشريعة المطهرة التي يتفرع منها قول كل عالم كما مر
إيضاحه وكل من ترك التعصب ونظر في أقوال المجتهدين وجدها كالنجوم في السماء ووجد
المعترض عليهم كالذي ينظر خيال تلك النجوم على وجه الماء فلا يعرف حقيقتها ولا مدركها
فالله تعالى يرزق جميع إخواننا من المقلدين للمذاهب الأدب مع جميع أئمة المذاهب
* ومما وقع لي إن شخصا دخل على ممن ينسب إلى العلم وأنا أكتب في مناقب
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فنظر فيها وأخرج لي من كمه كراريس وقال لي انظر في
هذه فنظرت فيها فرأيت فيها الرد على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فقلت له ومثلك يفهم
كلام الإمام حتى يرد عليه فقال إنما أخذت ذلك من مؤلف للفخر الرازي فقلت له إن الفخر
الرازي بالنسبة إلى الإمام أبي حنيفة كطالب العلم أو كآحاد الرعية مع السلطان الأعظم
أو كآحاد النجوم مع الشمس وكما حرم العلماء على الرعية الطعن على إمامهم الأعظم
إلا بدليل واضح كالشمس فكذلك يحرم على المقلدين الاعتراض والطعن على أئمتهم في الدين
إلا بنص واضح لا يحتمل التأويل ثم بتقدير وجود قول من أقوال الإمام أبي حنيفة لم يعرف
المعترض دليله فذلك القول من الاجتهاد بيقين فيجب العمل به على مقلده حتى يظهر
خلافه وكان بعض العلماء من مشايخ الجامع الأزهر ينكر على ابن أبي زيد القيرواني
فقال يوما إن بعض الأطفال يقدر على تأليف مثل رسالته فخرج من الجامع الأزهر فلقيه
62
جندي فقال اقرأ لي هذا الكتاب فلم يعرف أن يقرأه للجندي فمده وضربه إلى أن ألهب قلبه
وقال له تكبر عمامتك وتوهم الناس إنك فقيه انتهى فكان الناس يرون أن ذلك ببركة ابن
أبي زيد رحمه الله تعالى وكان بعض طلبة العلم من الشافعية المترددين إلى ينكر على أصحاب
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ويقول لا أقدر أسمع لأصحابه كلاما فنهيته يوما فلم ينته
ففارقني فوقع من سلم ربع عال فانكسر عظم وركه لم يزل على مقور حتى مات على أسوأ حال
وأرسل إلي إني أعوده فأبيت أدبا مع أصحاب الإمام رضي الله عنه من حيث كونه
يكرههم فاعلم ذلك واحفظ لسانك مع الأئمة وأتباعهم فإنهم على هدى مستقيم والحمد لله
رب العالمين
* (فصل) * في بيان ضعف قول من نسب الإمام أبا حنيفة إلى أنه يقدم القياس على
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم أن هذا الكلام صدر من متعصب على الإمام
متهور في دينه غير متورع في مقاله غافلا عن قوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد كل
أولئك كان عنه مسؤولا وعن قوله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وعن
قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم وقد
روى الإمام أبو جعفر الشيزامارى نسبة إلى قرية من قرى بلخ بسنده المتصل إلى الإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول كذب والله وافترى علينا من يقول عنا إننا نقدم
القياس على النص وهل يحتاج بعد النص إلى قياس وكان رضي الله عنه يقول نحن
لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة وذلك أننا ننظر أولا في دليل تلك المسألة من الكتاب
والسنة أو أقضية الصحابة فإن لم نجد دليلا قسنا حينئذ مسكوتا عنه على منطوق به بجامع
اتحاد العلة بينهما وفي رواية أخرى عن الإمام إنا نأخذ أولا بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقضية
الصحابة ونعمل بما يتفقون عليه فإن اختلفوا قسنا حكما على حكم بجامع العلة بين
المسئلتين حتى يتضح المعنى وفي رواية أخرى إنا نعمل أولا بكتاب الله ثم بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم بأحاديث أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وفي رواية أخرى
أنه كان يقول ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين بأبي هو وأمي
وليس لنا مخالفته وما جاءنا عن أصحابه تخيرنا وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال
وكان أبو مطيع البلخي يقول قلت للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أرأيت لو رأيت رأيا
ورأي أبو بكر رأيا أكنت تدع رأيك لرأيه قال نعم فقلت له أرأيت لو رأيت رأيا ورأي عمر
رأيا أكنت تدع رأيك لرأيه فقال نعم وكذلك كنت أدع رأيي لرأي عثمان وعلي وسائر
الصحابة ما عدا أبا هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب انتهى قال بعضهم ولعل ذلك
لنقص معرفتهم وعدم اطلاعهم على المدارك والاجتهاد وذلك لا يقدح في عدالتهم وكان
أبو مطيع يقول كنت يوما عند الإمام أبي حنيفة في جامع الكوفة فدخل عليه سفيان
الثوري ومقاتل بن حيان وحماد بن سلمة وجعفر الصادق وغيرهم من الفقهاء فكلموا
الإمام أبا حنيفة وقالوا قد بلغنا أنك تكثر من القياس في الدين وإنا نخاف عليك منه فإن
أول من قاس إبليس فناظرهم الإمام من بكرة نهار الجمعة إلى الزوال وعرض عليهم مذهبه
63
وقال إني أقدم العمل بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقضية الصحابة مقدما ما اتفقوا عليه على
ما اختلفوا فيه وحينئذ أقيس فقاموا كلهم وقبلوا يده وركبته وقالوا له أنت سيد العلماء
فاعف عنا فيما مضى منا من وقيعتنا فيك بغير علم فقال غفر الله لنا ولكم أجمعين قال
أبو مطيع ومما كان وقع فيه سفيان أنه قال قد حل أبو حنيفة عرى الإسلام عروة عروة
فإياك يا أخي إن أخذت الكلام على ظاهره أن تنقل مثل ذلك عن سفيان بعد أن سمعت
رجوعه عن ذلك واعترافه بأن الإمام أبا حنيفة سيد العلماء وطلبه العفو عنه وإن أولت
هذا الكلام فلا يحتاج الأمر إلى رجوع ويكون المراد بأنه حل عرى الإسلام أي
مشكله مسألة بعد مسألة حتى لم يبق في الإسلام شيئا مشكلا لغزارة فهمه وعلمه
ومما كان كتبه الخليفة أبو جعفر المنصور إلى الإمام أبي حنيفة بلغني أنك تقدم القياس
على الحديث فقال ليس الأمر كما بلغك يا أمير المؤمنين إنما أعمل أولا بكتاب الله ثم بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بأقضية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ثم
بأقضية بقية الصحابة ثم أقيس بعد ذلك إذا اختلفوا وليس بين الله وبين خلقه قرابة انتهى
ولعل مراد الإمام بهذا القول إنه لا مراعاة لأحد في دين الله عز وجل دون أحد بل
الحق واجب فعله على جميع الخلق والله أعلم بمراده وقد أطال الإمام أبو جعفر الشيزماري
الكلام في تبرئة الإمام أبي حنيفة من القياس بغير ضرورة ورد على من نسب الإمام
إلى تقديم القياس على النص وقال إنما الرواية الصحيحة عن الإمام تقديم الحديث ثم
الآثار ثم يقيس بعد ذلك فلا يقيس إلا بعد أن لم يجد ذلك الحكم في الكتاب والسنة
وأقضية الصحابة فهذا هو النقل الصحيح عن الإمام فاعتمده واحم سمعك وبصرك قال
ولا خصوصية للإمام أبي حنيفة في القياس بشرطه المذكور بل جميع العلماء يقيسون
في مضايق الأحوال إذا لم يجدوا في المسألة نصا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أقضية
الصحابة وكذلك لم يزل مقلدوهم يقيسون إلى وقتنا هذا في كل مسألة لا يجدون فيها نصا
من غير نكير فيما بينهم بل جعلوا القياس أحد الأدلة الأربعة فقالوا الكتاب والسنة
والإجماع والقياس وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول إذا لم نجد في المسألة
دليلا قسناها على غيرها انتهى فمن اعترض على الإمام أبي حنيفة في عمله بالقياس لزمه
الاعتراض على الأئمة كلهم لأنهم كلهم يشاركونه في العمل بالقياس عند فقدهم النصوص
والإجماع فعلم من جميع ما قررناه أن الإمام لا يقيس أبدا مع وجود النص كما يزعمه بعض
المتعصبين عليه وإنما يقيس عند فقد النص وإن وقع إننا وجدنا للمسألة التي قاس فيها نصا
من كتاب أو سنة فلا يقدح ذلك فيه لعدم استحضاره ذلك حال القياس ولو أنه استحضره
لما احتاج إلى قياس ثم بتقدير وقوعه رضي الله عنه في القياس مع وجود حديث فرد
لا يقدح ذلك فيه أيضا فقد قال جماعة من العلماء إن القياس الصحيح على الأصول الصحيحة
أقوى من خبر الآحاد الصحيح فكيف بخبر الآحاد الضعيف وقد كان الإمام أبو حنيفة
يشترط في الحديث المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العمل به أن يرويه
عن ذلك الصحابي جمع أتقياء عن مثلهم وهكذا * واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام
64
أبي حنيفة رضي الله عنه بقرينة ما رويناه آنفا عنه من ذم الرأي والتبري منه ومن تقديمه
النص على القياس إنه لو عاش حتى دونت أحاديث الشريعة وبعد رحيل الحافظ في جمعها
من البلاد والثغور وظفر بها لأخذ بها وترك كل قياس كان قاسه وكان القياس قل في مذهبه
كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصر مع التابعين
وتابع التابعين في المدائن والقرى والثغور كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة
ضرورة لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها بخلاف غيره من الأئمة فإن الحفاظ
كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى ودونوها فجاوبت
أحاديث الشريعة بعضها بعضا فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه وقلته في مذاهب
غيره ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على النص ظفر
بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس ويتركون
الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين وقولهم إن
إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث لا ينهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح
عنده وقد تقدم قول الأئمة كلهم إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد معه قياس
ولا حجة إلا طاعة الله ورسوله بالتسليم له انتهى وهذا الأمر الذي ذكرناه يقع فيه كثير من
الناس فإذا وجدوا عن أصحاب إمام مسألة جعلوها مذهبا لذلك الإمام وهو تهور فإن
مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله ولم يرجع عنه إلى أن مات لا ما فهمه أصحابه من كلامه
فقد لا يرضى الإمام ذلك الأمر الذي فهموه من كلامه ولا يقول به لو عرضوه عليه فعلم
أن من عزى إلى الإمام كل ما فهم من كلامه فهو جاهل بحقيقة المذهب على أن غالب
أقيسة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من القياس الجلي الذي يعرف به موافقة الفرع
للأصل بحيث ينتفى افتراقهما أو نقضه كقياس غير الفارة من الميتة إذا وقعت في السمن على
الفارة في غير السمن من سائر المائعات والجامدات عليه وكقياس الغائط على البول في الماء
الراكد ونحو ذلك فعلم مما قررناه أن كل من اعترض على شئ من أقوال الإمام أبي
حنيفة رضي الله عنه كالفخر الرازي فإنما هو لخفاء مدارك الإمام عليه وقد تتبعت أنا
بحمد الله تعالى المسائل التي قدم فيها أصحابه القياس على النص فوجدتها قليلة جدا وبقية
المذهب كله فيه تقديم النص على القياس ونقل الشيخ محيي الدين عن بعض المالكية إنه
كان يقول القياس عندي مقدم على خبر الآحاد لأنا ما أخذنا بذلك الحديث إلا بحسن الظن
برواته وقد أمرنا الشارع بضبط جوارحنا وإن لا نزكي على الله أحدا وإن وقع إننا زكينا
أحدا فلا نقطع بتزكيته وإنما نقول نظنه كذا أو نحسبه كذا بخلاف القياس على
الأصول الصحيحة انتهى قال الإمام أبو جعفر الشيزاماري رحمه الله تعالى وقد تتبعت
المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الإمام أبي حنيفة والإمام مالك رضي الله عنهما فوجدتها
يسيرة جدا نحو عشرين مسألة انتهى ولعل ذلك بحسب أصول المسائل التي نص عليها
الإمامان وكذلك القول في خلاف بعض المذاهب لبعضها بعضا في الأقيسة هي يسيرة
جدا والباقي كله مستند إلى الكتاب والسنة أو الآثار الصحيحة وقد أخذ بها الأئمة كلهم
65
وما انفرد أحدهم عن صاحبه إلا ببعض أحاديث فكلهم في فلك الشريعة يسبحون كما مر
بيانه في الفصول فالعاقل من أقبل على العمل بأقوال جميع الأئمة بانشراح صدر لأنها
كلها لا تخرج عن مرتبتي الميزان تخفيف وتشديد اللهم إني أبرأ إليك من كل من اعترض
على أقوال الأئمة وأنكر عليهم في الدنيا والآخرة والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * في تضعيف قول من قال إن أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة ضعيفة غالبا
إعلم يا أخي أنني طالعت بحمد الله تعالى أدلة المذاهب الأربعة وغيرها لا سيما أدلة مذهب
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فإني خصصته بمزيد اعتناء وطالعت عليه كتاب
تخريج أحاديث كتاب الهداية للحافظ الزيلعي وغيره من كتب الشروح فرأيت أدلته رضي
الله عنه وأدلة أصحابه ما بين صحيح أو حسن أو ضعيف كثرت طرقه حتى لحق بالحسن
أو الصحيح في صحة الاحتجاج به من ثلاثة طرق وأكثر إلى عشرة وقد احتج جمهور المحدثين
بالحديث الضعيف إذا كثرت طرقه وألحقوه بالصحيح تارة وبالحسن أخرى وهذا النوع من
الضعيف يوجد كثيرا في كتاب السنن الكبرى للبيهقي التي ألفها بقصد الاحتجاج لأقوال
الأئمة وأقوال أصحابهم فإنه إذا لم يجد حديثا صحيحا أو حسنا يستدل به لقول ذلك الإمام
أو قول أحد من مقلديه يصير يروي الحديث الضعيف من كذا كذا طريقا ويكتفي
بذلك ويقول وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فبتقدير وجود ضعف في بعض أدلة أقوال
الإمام أبي حنيفة وأقوال أصحابه فلا خصوصية له في ذلك بل الأئمة كلهم يشاركونه
في ذلك ولولا لوم الأعلى من يستدل بحديث واه بمرة جاء من طريق واحدة وهذا لا يكاد
أحد يجده في أدلة أحد من المجتهدين فما منهم أحد استدل بضعيف إلا بشرط مجيئه من عدة
طرق وقد قدمنا إني لم أجب عن الإمام أبي حنيفة وغيره بالصدر وحسن الظن كما يفعل
ذلك غيري وإنما أجيب عنه بعد التتبع والفحص عن أدلة أقواله وأقوال أصحابه وكتابي
المسمى بالمنهج المبين في بيان أدلة مذاهب المجتهدين كافل بذلك فإني جمعت فيه أدلة جميع
المذاهب المستعملة والمندرسة قبل دخولي في محبة طريق القوم ووقوفي على عين الشريعة
التي يتفرع منها أقوال جميع المجتهدين ومقلديهم وقد من الله تعالى على بمطالعة مسانيد
الإمام أبي حنيفة الثلاثة من نسخة صحيحة عليها خطوط الحفاظ آخرهم الحافظ الدمياطي
فرأيته لا يروي حديثا إلا عن خيار التابعين العدول الثقات الذين هم من خير القرون بشهادة
رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأسود وعلقمة وعطاء وعكرمة ومجاهد ومكحول والحسن
البصري وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين فكل الرواة الذين بينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم عدول ثقات أعلام أخيار ليس فيهم كذاب ولا متهم بكذب وناهيك يا أخي بعدالة
من ارتضاهم الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لأن يأخذ عنهم أحكام دينه مع شدة تورعه
وتحرزه وشفقته على الأمة المحمدية * وقد بلغنا أنه سئل يوما عن الأسود وعطاء وعلقمة
أيهم أفضل فقال والله ما نحن بأهل إن نذكرهم فكيف نفاضل بينهم على أنه ما من راو من
رواة المحدثين والمجتهدين كلهم إلا وهو يقبل الجرح كما يقبل التعديل لو أضيف إليه
ما عدا الصحابة وكذا التابعون عند بعضهم لعدم العصمة أو الحفظ في بعضهم ولكن لما كان
66
العلماء رضي الله عنهم أمناء على الشريعة وقدموا الجرح أو التعديل عمل به مع قبول كل
الرواة لما وصف به الآخر احتمالا وإنما قدم جمهورهم التعديل على الجرح وقالوا الأصل
العدالة والجرح طارئ لئلا يذهب غالب أحاديث الشريعة كما قالوا أيضا إن إحسان الظن
بجميع الرواة المستورين أولى وكما قالوا إن مجرد الكلام في شخص لا يسقط مرويه فلا بد من
الفحص عن حاله وقد خرج الشيخان لخلق كثير ممن تكلم الناس فيهم إيثارا لإثبات الأدلة
الشرعية على نفيها ليحوز الناس فضل العمل بها فكان في ذلك فضل كثير للأمة أفضل من
تجريحهم كما أن في تضعيفهم للأحاديث أيضا رحمة للأمة بتخفيف الأمر بالعمل بها وإن
لم يقصد الحفاظ ذلك فإنهم لو لم يضعفوا شيئا من الأحاديث وصححوها كلها لكان العمل بها
واجبا وعجز عن ذلك غالب الناس فاعلم ذلك قال الحافظ المزني والحافظ الزيلعي رحمهما الله
تعالى وممن خرج لهم الشيخان مع كلام الناس فيهم جعفر بن سليمان الضبعي والحارث بن
عبيد وأيمن بن ثابل الحبشي وخالد بن مخلد القسواطيني وسويد بن سعيد الحدثاني ويونس
ابن أبي إسحاق السبيعي وأبي أويس لكن للشيخين شروط في الرواية عمن تكلم الناس فيه
منها أنهم لا يروون عنه إلا ما توبع عليه وظهرت شواهده وعلموا أن له أصلا فلا يروون عنه
ما انفرد به أو خالفه فيه الثقات وذلك كحديث أبي أويس الذي رواه مسلم في صحيحه مرفوعا
يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين الحديث مع أنه لم يتفرد به بل رواه
غيره من الثقات كذلك منهم الإمام مالك وشعبة وابن عيينة رضي الله عنهم وصار حديثه
متابعة قال الحافظ الزيلعي والدمياطي وهذه العلة قد راجت على كثير من الحفاظ لا سيما
من استدرك على الصحيحين كأبي عبد الله الحاكم فكثيرا ما يقول وهذا حديث صحيح على شرط
الشيخين أو أحدهما مع أن فيه هذه العلة إذ ليس كل حديث احتج برواية في الصحيح يكون
صحيحا إذ لا يلزم من كون راويه محتجا به في الصحيح أن يكون كل حديث وجدناه له يكون صحيحا
على شرط صاحب ذلك الصحيح لاحتمال فقد شرط من شروط ذلك الحافظ كما قدمناه فإن
أحدا غير أصحاب ذلك الصحيح لم يلتزم هذه الشروط في الصحيح عنده انتهى فقد بان لك أنه ليس
لنا ترك حديث كل من تكلم الناس فيه بمجرد الكلام فربما يكون قد توبع عليه وظهرت
شواهده وكان له أصل وإنما لنا ترك ما انفرد به وخالف فيه الثقات ولم يظهر له شواهد ولو أننا
فتحنا باب الترك لحديث كل راو تكلم بعض الناس فيه بمجرد الكلام لذهب معظم أحكام
الشريعة كما مر وإذا أدى الأمر إلى مثل ذلك فالواجب على جميع اتباع المجتهدين إحسان
الظن برواة جميع أدلة المذاهب المخالفة لمذاهبهم فإن جميع ما رووه لم يخرج عن مرتبتي
الشريعة اللتين هما التخفيف والتشديد وقد قال الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات
الكبرى ما نصه ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع جميع الأئمة الماضين وأن لا
تنظر إلى كلام بعض الناس فيهم إلا ببرهان واضح ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن
بحسب قدرتك فافعل وإلا فاضرب صفحا عما ترى بينهم فإنك يا أخي لم تخلق لمثل هذا وإنما
خلقت للاشتغال بما يعنيك من أمر دينك قال ولا يزال الطالب عندي نبيلا حتى يخوض
فيما جرى بين الأئمة فتلحقه الكآبة وظلمة الوجه فإياك ثم إياك أن تصغي لما وقع بين أبي حنيفة
67
وسفيان الثوري أو بين مالك وابن أبي ذئب أو بين أحمد بن صالح والشعبي أو بين أحمد بن
حنبل والحارث المحاسبي وهلم جرا إلى زمان الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي
الدين بن الصلاح فإنك إن فعلت ذلك خفت عليك الهلاك فإن القوم أئمة أعلام ولأقوالهم
محامل ربما لم يفهمها غيرهم فليس لنا إلا الترضي عنهم والسكوت عما جرى بينهم كما نسكت
عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قال وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول
إذا بلغك أن أحدا من الأئمة شدد النكير على أحد من أقرانه فإنما ذلك خوفا على أحد
أن يفهم من كلامه خلاف مراده لا سيما علم العقائد فإن الكلام في ذلك أشد وقد
اختفى أحمد بن حنبل في دار إسماعيل بن إسحاق السراج وكان الحارث المحاسبي ينام عنده
هو وأصحابه فلما صلوا العشاء تذاكروا في الطريق وبكوا فبكى أحمد معهم فلما أصبح قال
ما رأيت مثل هؤلاء القوم ولا سمعت في علوم الحقائق شيئا يشبه كلام هذا الرجل ومع
هذا فلا أرى لك يا إسماعيل صحبتهم خوفا عليك أن تفهم عنهم غير مرادهم انتهى كلام ابن
السبكي فعلم أن كل دليل ورد مناقضا لدليل آخر فليس هو بمناقض حقيقة وإنما هو محمول
على حالين من وجوب وندب أو تحريم وكراهة أو أحد الحديثين منسوخ لا بد من ذلك
إذا التناقض في كلام الشارع ممنوع كما مر ومن قال إن حديث من مس ذكره فليتوضأ
يناقض حديث هل هو إلا بضعة منك فما حقق النظر لأن حديث النقض بمس الفرج خاص
بأكابر المؤمنين وحديث هل هو إلا بضعة منك خاص بالعوام كما سيأتي بسطه في توجيه كلام
الأئمة إن شاء الله تعالى فإن قيل إذا قلتم بأن أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه
ليس فيها شئ ضعيف لسلامة الرواة بينة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة
والتابعين من الجرح فما جوابكم عن قول بعض الحفاظ عن شئ من أدلة الإمام أبي حنيفة بأنه
ضعيف فالجواب يجب علينا حمل ذلك جزما على الرواة النازلين عن الإمام في السند بعد موته
رضي الله عنه إذا رووا ذلك الحديث من طريق غير طريق الإمام إذ كل حديث وجدناه
في مسانيد الإمام الثلاثة فهو صحيح لأنه لولا صح عنده ما استدل به ولا يقدح فيه وجود
كذاب أو متهم بكذب مثلا في سنده النازل عن الإمام وكفانا صحة لحديث استدلال مجتهد به
ثم يجب علينا العمل به ولو لم يروه غيره فتأمل هذه الدقيقة التي نبهتك عليها فلعلك لا تجدها في
كلام أحد من المحدثين وإياك أن تبادر إلى تضعيف شئ من أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة
إلا بعد أن تطلع مسانيده الثلاثة ولم تجد ذلك الحديث فيها ويحتمل أن يكون مراد القائل
في شئ من أدلة مذهب الإمام أنه ضعيف أدلة مذهب أصحابه الذي ولدوه بعده وفهموه من
كلامه لجهل هذا بحقيقة المذهب إذ مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله ولم يرجع عنه إلى أن
مات لا ما فهم من كلامه كما مر أوائل الفصل وهذا الجهل يقع فيه كثير من طلبة العلم فضلا
عن غيرهم فيقولون عن مذهب أصحاب الإمام أنه مذهب له مع أن ذلك الإمام ليس له في تلك
المسألة كلام وقد عدوا مثل ذلك من قلة الورع في المنطق وسوء التصريف وقالوا
من بركة العلم وقوة المعرفة به عز وجل قول إلى قائله على التعيين لينظر العلماء فيه ويكونوا
على ثقة في عزوه إليه بخلاف نحو قولهم قال بعض العلماء كذا فإنه عزو ناقص وثم من
68
العلماء من جعل الله تعالى على كلامه القبول ومنهم من لم يجعل عليه قبولا فيطعن فيه
الناس وها أنا قد أبنت لك عن صحة أدلة مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه
وإن جميع ما استدل به لمذهبه أخذه عن خيار التابعين وأنه لا يتصور في سنده شخص منهم
بكذب أبدا وإن قيل بضعف شئ من أدلة مذهبه فذلك الضعف إنما هو بالنظر للرواة
النازلين عن سنده بعد موته وذلك لا يقدح فيما أخذ به الإمام عند كل من استصحب النظر
في الرواة وهو صاعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك تقول في أدلة مذهب أصحابه فلم
يستدل أحد منهم بحديث ضعيف فرد لم يأت إلا من طريق واحدة أبدا كما تتبعنا ذلك إنما
يستدل أحدهم بحديث صحيح أو حسن أو ضعيف قد كثرت طرقه حتى ارتفع لدرجة الحسن
وذلك أمر لا يختص بأصحاب الإمام أبي حنيفة بل يشاركهم فيه جميع المذاهب كلها كما
مر إيضاحه فاترك يا أخي التعصب على الإمام أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين
وإياك وتقليد الجاهلين بأحواله وما كان عليه من الورع والزهد والاحتياط في الدين
فتقول إن أدلته ضعيفة بالتقليد فتحشر مع الخاسرين وتتبع أدلته كما تتبعناها تعرف أن
مذهبه رضي الله عنه من أصح المذاهب كبقية مذاهب المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين وإن
شئت أن يظهر لك صحة مذهبه كالشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب فاسلك طريق أهل
الله تعالى على الاخلاص في العلم والعمل حتى تقف على عين الشريعة التي قدمنا ذكرها في
أوائل الكتاب فهناك ترى جميع مذاهب العلماء وأتباعهم تتفرع منها وليس مذهب أولى
بها من مذهب ولا ترى من أقوال المذاهب قولا واحدا خارجا عن الشريعة فرحم الله
تعالى من لزم الأدب مع الأئمة كلهم وأتباعهم فإن الله تعالى جعلهم قدوة للعباد في سائر
أقطار الأرض فإنها كلها هدى من الله تعالى ونور وطريق إلى دخول الجنة وعن قريب
يقدم عليهم في الآخرة من لزم الأدب معهم وينظر ما يحصل له من الفرح والسرور حين
يأخذون بيده ويشفعون فيه ضد ما يحصل لمن أساء معهم الأدب والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * في بيان ضعف قول من قال إن مذهب الإمام أبي حنيفة أقل المذاهب
احتياطا في الدين اعلم يا أخي أن هذا قول متعصب على الإمام رضي الله عنه وليس عند
صاحبه ذوق في العلم فإني بحمد الله تتبعت مذهبه فوجدته في غاية الاحتياط والورع لأن
الكلام صفة المتكلم وقد أجمع السلف والخلف على كثرة ورع الإمام وكثرة احتياطاته
في الدين وخوفه من الله تعالى فلا ينشأ عنه من الأقوال إلا ما كان على شاكلة حاله على أنه
ما من إمام إلا وقد شدد في شئ وترك التشديد في شئ آخر توسعة للأمة كما يعرف ذلك من
سير مذاهبهم كلها مثل ما سيرناها فبتقدير وجود قلة الاحتياط في شئ من مذهب الإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه فلا خصوصية له في ذلك فامتحن يا أخي ما قلته لك في جميع أبواب
الفقه من باب الطهارة إلى آخر الأبواب تعرف صدق قولي لا سيما في الأموال والايضاع
فإنه إن احتاط إمام للمشتري قل احتياطه للبائع وإن احتاط إمام لوقوع الطلاق من الزوج
قل احتياطه لمن يتزوجها بعده وبالعكس فقد لا يكون الطلاق وقع بذلك اللفظ الذي قاله
الحالف وقس على ذلك سائر مسائل الخلاف ثم إن ما سماه هذا المعترض قلة احتياط من
69
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ليس هو بقلة احتياط وإنما هو تيسير وتسهيل على الأمة
تبعا لما بلغه عن الشارع صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقول يسروا ولا تعسروا يعني في كل
شئ لم تصرح به شريعتي وإلا فكل شئ صرحت به الشريعة ليس فيه تضييق ولا مشقة على
أحد أبدا فرجع الأمر في مثل ذلك إلى مرتبتي الميزان تخفيف وتشديد تبعا لما ورد عن
الشارع سواء وقد كان طلحة بن مصرف ووالده وسفيان الثوري وغيرهم يكرهون لفظ
الاختلاف بين العلماء ويقولون لا تقولوا اختلاف العلماء وقولوا توسعة العلماء وقد قال
تعالى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه انتهى فيجب على كل مقلد أن لا يعترض على قول
مجتهد خفف أو شدد فإنه ما خرج عن قواعد الدين ولا عن مرتبتي الميزان السابقة الجامعة
لجميع أقوال المجتهدين وأتباعهم وكذلك يجب عليه الاعتقاد الجازم بأن ذلك الإمام
الذي خفف أو شدد على هدى من ربه في ذلك حتى يمن الله تعالى عليه بالوقوف على
عين الشريعة المطهرة التي يتفرع منها كل قول من أقوال علماء الشريعة وقد أجمع
أهل الكشف على أن الدائر مع رفع الحرج عن الأمة أولى من الدائر مع الحرج
عليهم لأن رفع الحرج هو الحال الذي ينتهي أمر الخلائق إليه في الجنة فيتبؤون منها
حيث شاءوا لا تحجير فيها على أحد عكس الحال في الدنيا والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * في بيان ذكر بعض من أطنب في الثناء على الإمام أبي حنيفة من بين الأئمة
على الخصوص وبيان توسعته على الأمة وسعة علمه وكثرة ورعه وعبادته وعفته وغير ذلك
روى الإمام أبو جعفر الشيزاماري عن شقيق البلخي إنه كان يقول كان الإمام أبو حنيفة
من أورع الناس وأعلم الناس وأعبد الناس وأكرم الناس وأكثرهم احتياطا في الدين
وأبعدهم عن القول بالرأي في دين الله عز وجل وكان لا يضع مسألة في العلم حتى يجمع
أصحابه عليها ويعقد عليها مجلسا فإذا اتفق أصحابه كلهم على موافقتها للشريعة قال لأبي
يوسف أو غيره ضعها في الباب الفلاني انتهى وقد مر ذلك في الفصول السابقة فانظر يا أخي
شدة ورع هذا الإمام وخوفه من الله أن يزيد في شرعه ما لم تقبله شريعة نبيه صلى الله عليه
وسلم وروى أيضا بسنده إلى إبراهيم بن عكرمة المخزومي رحمه الله تعالى إنه كان يقول
ما رأيت في عصري كله عالما أورع ولا أزهد ولا أعبد ولا أعلم من الإمام أبي حنيفة رضي
الله عنه وروى الشيزاماري أيضا عن عبد الله بن المبارك قال دخلت الكوفة فسألت
علماءها وقلت من أعلم الناس في بلادكم هذه فقالوا كلهم الإمام أبو حنيفة فقلت لهم من
أورع الناس فقالوا كلهم الإمام أبو حنيفة فقلت لهم من أزهد الناس فقالوا كلهم الإمام
أبو حنيفة فقلت لهم أعبد الناس وأكثرهم اشتغالا للعلم فقالوا كلهم الإمام أبو حنيفة
فما سألتهم عن خلق من الأخلاق الحسنة إلا وقالوا كلهم لا نعلم أحد تخلق بذلك غير الإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه وكان شقيق البلخي يمدح أبا حنيفة ويثني عليه كثيرا ويقول
على رؤوس الأشهاد في الملأ العظيم من مثل الإمام أبي حنيفة في الورع كان إذا اشترى
أحد منه ثوبا وخلط ثمنه على الغلة ثم رده عليه يعطي صاحب الثوب جميع الغلة التي عنده
ويقول قد اختلطت دراهمك بدارهمي فخذها كلها وسامحتك يا أخي دنيا وأخرى وهذا
70
ورع لم يبلغنا وقوعه من غيره رضي الله عنه وروى أبو جعفر الشيزاماري أيضا أن الإمام
أبا حنيفة وكل وكيلا في بيع ثياب من خز وكان فيها ثوب معيب فقال للوكيل لا تبع هذا
الثوب حتى تبين عيبه فباعه ونسي أن يبين عيبه وخلط ثمنه على ثمن بقية الثياب فلما أخبره
الوكيل بذلك تصدق بثمن الثياب كلها على الفقراء والمساكين ومحاويج أهل الذمة قال
وروينا عن شقيق البلخي أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه كان لا يجلس في ظل جدار غريمه
ويقول إن لي عنده قرضا وكل قرض جر نفعا فهو ربا وجلوسي في ظل جداره انتفاع لي بظل
جداره ومن دقيق ورعه رضي الله عنه أن أبا جعفر المنصور الخليفة لما منع الإمام أن
يفتي سألته ابنته في الليل عن الدم الخارج من لحم الأسنان هل ينقض الوضوء فقال لها
سلي عمك حمادا عن ذلك بكرة النهار فإن إمامي منعني الفتيا ولم أكن ممن يخون إمامه بالغيب
انتهى فانظر يا أخي إلى شدة مراقبته لله عز وجل وكان هذا المنع للإمام رضي الله عنه قبل
اجتماعه به ومعرفته بمقام الإمام في العلم وروى أبو نعيم وغيره عن الإمام أبي حنيفة
رضي الله عنه أنه صلى الصبح بوضوء العشاء أكثر من خمسين سنة ولم يكن يضع جنبه إلى
الأرض في الليل أبدا وإنما كان ينام لحظة بعد صلاة الظهر وهو جالس ويقول قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم استعينوا على قيام الليل بالقيلولة يعني النوم بعد الظهر وروى
الثقات عنه أنه رضي الله عنه ضرب وحبس ليلى القضاء فصبر على ذلك ولم يل وكان سبب
إكراهه على القضاء أنه لما مات القاضي الذي كان في عصره فتش الخليفة في بلاده عن أحد
يكون مكان القاضي الذي مات فلم يجدوا أحدا يصلح لذلك غير الإمام لكثرة علمه وورعه
وعفته وخوفه من الله تعالى وقيل إنه مات في السجن وبلغ الإمام أبا حنيفة أنهم قالوا
للخليفة قد فتشنا العلماء فما وجدنا أحدا أفقه ولا أورع من الإمام أبي حنيفة ويليه
سفيان الثوري وصلة بن اشيم وشريك فقال الإمام أبو حنيفة أنا أخمن لكم تخمينا أما أنا
فأضرب وأحبس ولا ألي وأما سفيان فيهرب وأما صلة بن أشيم فيتحامق ويتخلص وأما
شريك فيقع فكان الأمر كما قال الإمام فإن سفيان لبس ثياب الفتيان وأخذ بيده عصا وخرج
إلى بلاد اليمن فلم يعرفه أحد حين خرج وأما شريك فتولى وأما صله فدخل على الخليفة
وقال له كم عندك من الحمير والبراذين وايش طبخت اليوم فقال الخليفة أخرجوه عني هذا
مجنون قال الشيزاماري وبلغنا عن الإمام أبي حنيفة وسفيان وصلة إنهم هجروا شريكا
حتى ماتوا وقالوا كان يمكنه عمل الحيلة ويتخلص من هذه الورطة فلم يفعل رضي الله عنهم
أجمعين وأما توسعة الإمام رضي الله عنه على الأمة فكثيرة لمن تتبع أقواله وسيأتي غالبها
في توجيه أقوال الأئمة إن شاء الله تعالى فمن ذلك قوله رضي الله عنه بصحة الطهارة من ماء
الحمامات المسخنة بالسرجين وعظام الميتة فإنه في غاية التوسعة على الأمة عكس من قال
بمنع الطهارة من ذلك الماء ومنع أكل الخبز المخبوز بالنجاسة وإن كان كل من المذهبين
يرجع إلى مرتبتي الميزان من تخفيف وتشديد ومن ذلك قوله رضي الله عنه بطهارة الفخار
الذي خلط بالنجاسة وقوله إن النار تطهر ذلك فإن ذلك في غاية التوسعة على الأمة فلولا هذا
القول ما كان يجوز لنا استعمال شئ من الازيار والأباريق والشقف والزبادي والقلل
71
والكيزان والطواجن والخوابي ورماد النجاسة الذي يبني به وقد بلغنا أن جميع ما ذكر
لا بد من خلطه بالسرجين ليتم تماسكه بل رأينا ذلك وشاهدناه من صانع الفخار والشقف
ولولا تقليد الناس للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في قوله يحل استعمال الفخار المذكور
لتكدر عيش الناس وضاعت مصالحهم وقد استنبطت لقوله رضي الله عنه في ذلك دليلا
وهو ما ورد من تطهير عصاة المسلمين بالنار ثم بعد ذلك يدخلون الجنة لأن من شأن الجنة أن لا
يدخلها إلا المطهرون من الدنس الظاهر والباطن فكما كانت النار مطهرة من الذنوب
المعنوية فكذلك تكون مطهرة من الأمور المحسوسة كالسرجين الذي يعجن به الفخار
فإن قلت فما تقولون فيما كان نجسا من أصل خلقته كعظام الخنزير وبقية أجزائه إذا
أحرقت عند من يقول بنجاسته من أصل الخلقة ذاتا وصفة فالجواب مثل ذلك لا ينبغي
إضافته إلى الإمام أبي حنيفة لأنه نظير أجسام الكفار فلا يطهره إحراقه بالنار كما سيأتي
بسطه في توجيه أقوال العلماء إن شاء الله تعالى فعلم أنه يجب على كل مكلف أن يشكر الله
تعالى على إيجاده مثل الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الدنيا ليوسع على الناس تبعا
لتيسير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع ما سكت الشرع عنه ولم يتعرض فيه
لأمر ولا نهي فهو عافية وتوسعة على الأمة فليس لأحد أن يحجره عليهم ثم إن وقع من عالم
تحجير في مثل ذلك كان على سبيل التنزه والتورع كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته
عن لبس الحرير مع قوله صلى الله عليه وسلم بحله للإناث دون الرجال والعلماء أمناء الشارع
على شريعته من بعده فلا اعتراض عليهم فيما بينوه للخلق واستنبطوه من الشريعة لا سيما
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه فلا ينبغي لأحد الاعتراض عليه لكونه من أجل الأئمة
وأقدمهم تدوينا للمذهب وأقربهم سند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدا لفعل
أكابر التابعين من الأئمة رضي الله عنهم أجمعين وكيف يليق بأمثالنا الاعتراض على إمام
عظيم أجمع الناس على جلالته وعلمه وورعه وزهده وعفته وعبادته وكثرة مراقبته لله عز
وجل وخوفه منه طول عمره ما هذا والله إلا عمي في البصيرة لأن جميع ما وسع به علينا إنما
هو من توسعة الشارع ثم بتقدير عدم تصريح الشريعة بذلك فهو من باب اجتهاده ونور قلبه
وإمام عظيم يوسع علينا باجتهاده مع شدة ورعه واحتياطه في دينه وشدة احتياجنا إلى
ما وسع به علينا كيف يسوغ لمسلم عاقل أن يفترض عليه مع شدة احتياجه هو إلى ما وسع
به الإمام عليه ليلا ونهارا فاعلم ذلك وتأمله فإنه نفيس وإياك أن تخوض مع الخائضين
في أعراض الأئمة بغير علم فتخسر في الدنيا والآخرة فإن الإمام رضي الله عنه كان متقيدا
بالكتاب والسنة متبرئا من الرأي كما قدمناه لك في عدة مواضع من هذا الكتاب ومن فتش
مذهبه رضي الله عنه وجده من أكثر المذاهب احتياطا في الدين ومن قال غير ذلك فهو
من جملة الجاهلين المتعصبين المنكرين على أئمة الهدى بفهمه السقيم وحاشى ذلك الإمام
الأعظم من مثل ذلك حاشاه بل هو إمام عظيم متبع إلى انقراض المذاهب كلها كما أخبرني به
بعض أهل الكشف الصحيح وأتباعه لن يزالوا في ازدياد كلما تقارب الزمان وفي مزيد اعتقاد
في أقواله وأقوال أتباعه وقد قدمنا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه الناس كلهم عيال
72
في الفقه على أبي حنيفة رضي الله عنه وقد ضرب بعض أتباعه وحبس ليقلد غيره من الأئمة
فلم يفعل وما ذلك والله سدى ولا عبرة بكلام بعض المتعصبين في حق الإمام ولا بقولهم إنه
من جملة أهل الرأي بل كلام من يطعن في هذا الإمام عند المحققين يشبه الهذيانات ولو أن
هذا الذي طعن في الإمام كان له قدم في معرفة منازع المجتهدين ودقة استنباطاتهم لقدم
الإمام أبا حنيفة في ذلك على غالب المجتهدين لخفاء مدركه رضي الله عنه واعلم يا أخي أنني
ما بسطت لك الكلام على مناقب الإمام أبي حنيفة أكثر من غيره إلا رحمة بالمتهورين في
دينهم من بعض طلبة المذاهب المخالفة له فإنهم ربما وقعوا في تضعيف شئ من أقواله لخفاء
مدركه عليهم بخلاف غيره من الأئمة فإن وجوه استنباطاتهم من الكتاب والسنة ظاهرة
لغالب طلبة العلم الذين لهم قدم في الفهم ومعرفة المدارك وإذ بان لك تبري الأئمة كلهم
من الرأي فاعمل بكل ما تجده من كلام الأئمة بانشراح صدر ولو لم تعرف مدركه فإنه لا يخرج
عن إحدى مرتبتي الميزان ولا يخلو أن تكون أنت من أهل مرتبة منهما وإياك والتوقف
عن العمل بكلام أحد من الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم فإنهم ما وضعوا قولا من أقوالهم
إلا بعد المبالغة في الاحتياط لأنفسهم وللأمة ولا تفرق بين أئمة المذاهب بالجهل والتعصب
فإن من فرق بين الأئمة فكأنه فرق بين الرسل كما مر بيانه في الفصول قبله وإن تفاوت المقام
فإن العلماء ورثة الرسل وعلى مدرجتهم سلكوا في مذاهبهم وكل من اتسع نظره وأشرف على
عين الشريعة الأولى وعرف منازع أقوال الأئمة ورآهم كلهم يغترفون أقوالهم من عين
الشريعة لم يبق عنده توقف في العمل بقول إمام منهم كائنا من كان بشرطه السابق
في الميزان وقد تحققنا بذلك ولله الحمد فليس عندي توقف في العمل برخصة قال بها إمام إذا
حصل شرطها أبدا ومن لم يصل إلى هذا المقام من طريق الكشف وجب عليه اعتقاد
ذلك في الأئمة من طريق الإيمان والتسليم ومن فهم ما ذكرناه من هذا البيان العظيم لم يبق
له عذر في التخلف عن اعتقاده أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم أبدا ويقال لكل من
توقف عن ذلك الاعتقاد أن هؤلاء الأئمة الذين توقفت عن العمل بكلامهم كانوا أعلم منك
وأورع بيقين في جميع ما دونوه في كتبهم لأتباعهم وإن ادعيت أنك أعلم منهم نسبك الناس
إلى الجنون أو الكذب جحدا وعنادا وقد أفتى علماء سلفك بتلك الأقوال التي تراها أنت
ضعيفة ودانوا الله تعالى بها حتى ماتوا فلا يقدح في علمهم وورعهم جهل مثلك بمنازعهم
وخفاء مداركهم ومعلوم بل مشاهد أن كل عالم لا يضع في مؤلفه عادة إلا ما تعب في تحريره
ووزنه بميزان الأدلة وقواعد الشريعة وحرره تحرير الذهب والجوهر فإياك أن تنقبض
نفسك من العمل بقول من أقوالهم إذا لم تعرف منزعه فإنك عامي بالنسبة إليهم والعامي
ليس من مرتبته الانكار على العلماء لأنه جاهل بل اعمل يا أخي بجميع أقوال العلماء ولو
مرجوحة أو رخصة بشرطها المعروف بين العلماء وشاكل بعضك بعضا وفتش نفسك فربما
رأيتها تقع في الكبائر من غل وحسد وكبر ومكر واستهزاء بالناس وغيبة فيهم وأكل حرام
فضلا عن الشبهات وغير ذلك من الكبائر فضلا عن الصغائر والمكروهات ومن يقع في مثل
ذلك فأين دعواه الورع وصدقه فيه حتى يتورع عن العمل بقول مجتهد لا يعرف دليله ما هذا
73
والله إلا جهل أو حمية الجاهلية كيف يقع فيما عرف دليل تحريمه من الكتاب والسنة
وإجماع الأمة ويتورع عما يراه من كلام أئمة الهدى فليتنا يا أخي نراك تتكدر من وقوعك
في هذه الكبائر كما نراك تتكدر من تقليد غير إمامك أو ممن أمرك بالانتقال من مذهبك
إلى غيره ويا ليت ذنوبك كلها مثل ذنوب انتقالك من مذهب إلى مذهب أو مثل عملك بقول
إمام لم تعرف دليله أو عمل بقول ضعيف فاعتقادك يا أخي الصحة في كلام أئمة الهدى
واجب عليك ما دمت لم ينكشف لك الحجاب ولم تقف على عين الشريعة الأولى التي يتفرع
منها قول كل عالم كما تقدم بيانه في فصل الأمثلة المحسوسة وكل من نظر بعين الإنصاف
وصحة الاعتقاد وجد جميع مذاهب الأئمة كأنها نسجت من الكتاب والسنة سداها ولحمتها
منهما والحمد لله رب العالمين
* (فصل) * قال المحققون إن للعلماء وضع الأحكام حيث شاؤوا بالاجتهاد بحكم الإرث
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكما أن للشارع صلى الله عليه وسلم أن يبيح ما شاء لقوم
ويحرمه على قوم آخرين فكذلك للعلماء أن يفعلوا مثل ذلك فيمنعوا صحة الصلاة أو البيع
أو غيرهما في باب ويصححوا ذلك في باب آخر مع اتحاد التعليل في البابين نظير ذلك قولهم
بوجوب الغسل على النفساء لكون الولد منيا منعقدا وعدم قولهم بوجوبه إذا ألقت المرأة
يدا أو رجلا فقط مع أن اليد أو الرجل مني منعقد بلا شك فمن اعترض عليهم في ذلك
قلنا له إن العلماء تابعون للشارع في ذلك بدليل ما نقل إلينا في الخصائص النبوية من أنه صلى
الله عليه وسلم أوجب على نفسه ما أباحه لأمته وحرم عليهم ما أباحه لنفسه بإذن
من ربه عز وجل إذ العلماء أمناؤه صلى الله عليه وسلم على شريعته من بعده فلا ينبغي
لأحد أن يعترض عليهم إذا تناقض كلامهم في أبواب الفقه مع اتحاد العلل والحمد لله رب
العالمين
* (فصل) * في بيان بعض ما اطلعت عليه من كتب الشريعة قبل وضعي هذه الميزان
الشريفة لتقتدي بي يا أخي في ذلك إن طلبت الإحاطة بها ذوقا إذ العلم قد يتخلف عن صاحبه
ويحجب عنه بخلاف الذوق ولعل قائلا يقول من أين اطلع صاحب هذه الميزان على جميع
ما دونه المحدثون من الأحاديث والفقهاء من المذاهب في سائر أقطار الأرض حتى قدر
أن يردها كلها إلى مرتبتي تخفيف وتشديد فإذا اطلع على الكتب التي طالعتها وحفظتها
وشرحتها على مشايخ الإسلام من الشريعة فربما سلم لي واقتدى بي في مطالعة هذه الكتب
التي أذكرها إن شاء الله تعالى وكلها ترجع إلى ثلاثة أقسام حفظ متون وشرح لها ومطالعة
لنفسي مع مراجعة العلماء في المشكلات منها * (القسم الأول) في ذكر الكتب التي
حفظتها عن ظهر قلب وعرضتها على العلماء فمن ذلك كتاب المنهاج للنووي وكتاب الروض
لابن المقري ومختصر الروضة إلى باب القضاء على الغائب وكتاب جمع الجوامع في أصول
الفقه والدين وكتاب ألفية ابن مالك في النحو وكتاب تلخيص المفتاح في المعاني والبيان وكتاب
ألفية العراقي في علم الحديث وكتاب التوضيح في النحو لابن هشام وكتاب الشاطبية في علم
القراءات وغير ذلك من المختصرات * (القسم الثاني) ما شرحته على العلماء فقرأت
74
بحمد الله شروح جميع هذه الكتب على العلماء رضي الله عنهم مرارا قراءة بحث وتحقيق
حسب طاقتي ومرتبتي فقرأت شرح المنهاج للشيخ جلال الدين المحلي على الأشياخ مع
تصحيح ابن قاضي عجلون مع مطالعة شروحه الموجودة في مصر عشر مرات وقرأت شرح
الروض على مؤلفه سيدنا ومولانا شيخ الإسلام زكريا كاملا وقرأت عليه شرح المنهج
له أيضا وشرح البهجة الكبير وشرح التحرير وشرح التنقيح وشرح رسالة القشيري
وشرح آداب البحث وآداب القضاء وشرح البخاري للمؤلف وشرحه للشيخ شمس الدين
الجوجري وكتاب القوت للأذرعي والقطعة والتكملة للزركشي وقطعة السبكي
على المنهاج وكتاب التوشيح لولده وشرح ابن الملقن على المنهاج والتنبيه وشرح ابن قاضي
شهبة الكبير والصغير وقرأت شرح الروض على الشيخ شهاب الدين الرملي وكنت
أكتب على كل درس منها زوائد شرح الروض وزوائد الخادم وزوائد المهمات وزوائد
شرح المهذب وغير ذلك حتى كان الشيخ يتعجب من سرعة مطالعتي لهذه الكتب ويقول لي
لولا كتابتك زوائد هذه الكتب لما كننت أظن أنك طالعت كتابا واحدا من هذه الكتب
ولما قرأت شرح الروض على مؤلفه شيخ الإسلام زكريا كنت أطالع عليه جميع المواد
التي تيسرت لي زمن القراءة وتحرير جميع عباراته من أصولها كلها حتى أحطت علما
بأصول الكتاب التي استمد منها في الشرح كالمهمات والخادم وشرح المهذب والقطعة
والتكملة وشرح ابن قاضي شهبة والرافعي الكبير والبسيط والوسيط والوجيز وفتاوي
القفال وفتاوي القاضي حسين وفتاوي ابن الصلاح وفتاوي الغزالي وغير ذلك وكنت أنبه
الشيخ على كل عبارة نقلها مع إسقاط شئ منها واطلعته على اثنتي عشرة مسألة ذكر أنها من
زيادة الروض على الروضة والحال أنها مذكورة في الروضة في غير أبوابها وألحقها الشيخ
بشرحه وأطلعته على مواضع كثيرة ذكر أنها من أبحاث الزركشي وغيره في الخادم والحال
أنها من أقوال الأصحاب فأصلحها في الشرح وقرأت شروح ألفيه ابن مالك كابن
المصنف والأعمى والبصير وابن أم قاسم والمكودي وابن عقيل والأشموني مرارا على
الشيخ شهاب الدين الحامي وغيره وقرأت عليه شرح التوضيح للشيخ خالد وكتاب المغني
وحواشيه وغير ذلك وقرأت شرح ألفية العراقي مرارا فقرأت شرحها للمؤلف على
الشيخ شهاب الدين الرملي وشرحها للسخاوي على الشيخ أمين الدين الإمام بجامع
الغمري ثم اختصرته وقرأت شرحها للجلال السيوطي وشرحها للشيخ زكريا عليه مرة
واحدة وكذلك علوم الحديث لابن الصلاح ومختصر النووي وقرأت شرح جمع الجوامع
للشيخ جلال الدين المحلي وحاشيته لابن أبي شريف على الشيخ نور الدين المحلي وكنت
أقرأ الحاشية والشرح عليه على ظهر قلبي إذا نسيت انكراس في البيت والشيخ
نور الدين ماسك الحاشية وكان يتعجب من سرعة حفظي لذلك وحسن مطالعتي وقرأت
العضد وحواشيه على الشيخ عبد الحق السنباطي وقرأت المطول ومختصره على الشيخ
العلامة ملا على العجمي بباب القرافة وحواشيه وقرأت شرح الشاطبية للسخاوي ولابن
القاصح وغيرهما على الشيخ نور الدين الجارحي وغيره وقرأت من كتب التفسير وموادها
75
تفسير الإمام البغوي على شيخ الإسلام الشيخ شهاب الدين الشيشيني الحنبلي وقرأت
الكشاف وحواشيه وتفسير البيضاوي وحاشيته للشيخ جلال الدين السيوطي على شيخ
الإسلام زكريا مرة واحدة وكنت أطالع على ذلك تفسير ابن زهرة وتفسير ابن عادل وتفسير
الكواشي وتفاسير الواحدي الثلاثة وتفاسير الشيخ عبد العزيز الديريني الثلاثة وتفسير
الثعلبي وتفسير الجلالي السيوطي المسمى بالدر المنثور وغير ذلك ونشأ من قراءتي الحاشية
التي وضعها شيخ الإسلام المذكور على تفسير البيضاوي وقرأت شرح البخاري للشيخ
شهاب الدين القسطلاني على مؤلفه المذكور وكنت أطالع عليه تفسير القرآن العظيم
لأجل ما في البخاري من الآيات لأعرف مقالات المفسرين فيها وأطلع عليه أيضا شرح
البخاري للحافظ ابن حجر وشرحه للكرماني وشرحه للعيني وشرحه للبرماوي وغير ذلك
وقرأت عليه شرح مسلم للإمام النووي وشرحه للقاضي عياض والقطعة التي شرحها
الشيخ شهاب الدين المذكور على مسلم وقرأت كتاب الأحوذي على شرح الترمذي لأبي
بكر بن العربي المالكي وكذلك قرأت عليه كتاب الشفا للقاضي عياض وكتاب المواهب
اللدنية في المنح المحمدية وغير ذلك * (القسم الثالث) فيما طالعته لنفسي وكنت أراجع
الأشياخ في مشكلاته بعد قراءتي على الأشياخ جميع الكتب المتقدمة كلها طالعت
شرح الروض نحو خمس عشرة مرة وطالعت كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه
ثلاث مرات وكنت أطالع عليه استدراكات الأصحاب وتقييداتهم عليه في شروحهم
وتعاليقهم وطالعت مختصر المزني وشرحه الذي وضعه عليه شيخ الإسلام زكريا كذا كذا
مرة وطالعت مسند الإمام الشافعي رضي الله عنه مرات والحاوي مرة واحدة وطالعت
كتاب المجلي لابن حزم في الخلاف العالي وهو ثلاثون مجلدا وكتاب الملل والنحل له وكتاب
المعلى مختصر المجلى للشيخ محيي الدين بن العربي وطالعت الحاوي للماوردي وهو عشر
مجلدات وكذلك الأحكام السلطانية له مرة واحدة وطالعت فروع ابن الحداد وكتاب
الشامل لابن الصباغ وكتاب العدة لأبي محمد الجويني وكتاب المحيط والفروق له مرة واحدة
وطالعت الرافعي الكبير والصغير مرة واحدة وطالعت شرح المهذب للنووي
والقطعة للسبكي عليه نحو خمسين مرة وطالعت شرح مسلم للنووي خمس مرات وطالعت
المهمات والتعقبات عليها مرتين وطالعت الخادم مرتين ونصفا وطالعت القوت للأذرعي
والتوسط والفتح له مرة واحدة وطالعت كتاب العمدة لابن الملقن والعجالة وشرح
التنبيه له مرة واحدة طالعت تفسير الجلالين نحو ثلاثين مرة وشرح المنهاج للجلال
المحلي نحو عشر مرات وطالعت فتح الباري على البخاري مرة وشرح العيني مرة وشرح
الكرماني ثلاث مرات وشرح البرماوي مرتين والتنقيح للزركشي ثلاث مرات
وطالعت شرح القسطلاني ثلاث مرات وشرح مسلم للقاضي عياض مرة وللفارسي
مرة وطالعت تفسير البغوي ثلاث مرات والخازن خمس مرات وابن عادل مرة والكواشي
ثلاث مرات وتفسير ابن زهرة ومكي مرة واحدة وتفسير الجلال السيوطي المأثور نحو
ثلاث مرات وطالعت الكشاف بحواشيه نحو حاشية الطيبي وحاشية التفتازاني
76
وحاشية ابن المنير عليه ثلاث مرات وعرفت جميع المواضع التي وافق عليها أهل الاعتزال
وجمعتها في جزء وطالعت على الكشاف أيضا البحر لأبي حيان واعراب السمين واعراب
السفاقسي وطالعت تفسير البيضاوي مع حاشية الشيخ زكريا عليه ثلاث مرات وطالعت
تفسير ابن النقيب المقدسي وهو مائة مجلد وطالعت تفاسير الواحدي الثلاثة وتفاسير
عبد العز الديريني الثلاثة كلا منها مرات وطالعت من كتب الحديث ما لا أحصي له عددا
في هذا الوقت من المسانيد والأجزاء كموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد ومسانيد
الإمام أبي حنيفة الثلاثة وكتاب البخاري وكتاب مسلم وكتاب أبي داود وكتاب الترمذي
وكتاب النسائي وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومسند الإمام سعيد بن
عبد الله الأزدي ومسند عبد الله بن حميد والغيلانيات ومسند الفردوس الكبير
وطالعت معاجم الطبراني الثلاثة وطالعت من الجوامع للأصول كتاب ابن الأثير وجوامع
الشيخ جلال الدين السيوطي الثلاثة وكتاب السنن الكبرى للبيهقي ثم اختصرتها وقد
قال ابن الصلاح ما ثم كتاب في السنة أجمع الأدلة من كتاب السنن الكبرى للبيهقي وكأنه لم يترك
في سائر أقطار الأرض حديثا إلا وقد وضعه في كتابه انتهى وهو من أعظم أصولي التي
استمديت منها في الجمع بين الأحاديث في هذه الميزان كما سبق في الفصول وطالعت من
كتب اللغة صحاح الجوهري وكتاب النهاية لابن الأثير وكتاب القاموس وكتاب تهذيب
الأسماء واللغات للنووي ثلاث مرات وطالعت من كتب أصول الفقه والدين نحو سبعين
مؤلفا وأحطت علما بما عليه أهل السنة والجماعة وبما عليه المعتزلة والقدرية وأهل الشطح
من غلات المتصوفة المتفعلين في الطريق وطالعت من فتاوي المتقدمين والمتأخرين ما لا
أحصي له عددا كفتاوي القفال وفتاوي القاضي حسين وفتاوي الماوردي وفتاوي
الغزالي وفتاوي ابن الحداد وفتاوي ابن الصلاح وفتاوي ابن عبد السلام وفتاوي
السبكي وفتاوي البلقيني وكل من هاتين الأخيرتين مجلدات وطالعت فتاوي
شيخنا الشيخ زكريا وشيخنا الشيخ شهاب الدين وغير ذلك كفتاوي النووي الكبرى
والصغرى وفتاوي ابن الفركاح وفتاوي ابن أبي شريف وغير ذلك ثم جمعتها كلها في مجلد
بإسقاط المتداخل منها وطالعت من كتب القواعد قواعد ابن عبد السلام الكبرى
والصغرى وقواعد العلائي وقواعد ابن السبكي وقواعد الزركشي ثم اختصرتها
أعني الأخيرة وطالعت من كتب السير كثيرا كسيرة ابن هشام وسيرة الكلاعي وسيرة
ابن سيد الناس وسيرة الشيخ محمد الشامي وهي أجمع كتاب في السير وطالعت كتاب المعجزات
والخصائص للجلال السيوطي ثم اختصرته وطالعت من كتب التصوف ما لا أحصي له
عدا الآن كالقوت لأبي طالب المكي والرعاية للحارث المحاسبي ورسالة القشيري والإحياء
للغزالي وعوارف المعارف للسهروردي ورسالة النور لسيدي أحمد الزاهد وهي مجلدان
وكتاب منح المنة لسيدي محمد الغمري وهو ست مجلدات وكتاب الفتوحات المكية وهي
عشر مجلدات ثم اختصرتها وطالعت كتاب الملل والنحل لابن حزم كذا كذا مرة وعرفت
جميع العقائد الصحيحة والفاسدة ثم ترقت الهمة إلى مطالعة بقية كتب المذاهب الأربعة
77
فطالعت من كتب المالكية التي عليها العمل كتاب المدونة الكبرى ثم اختصرتها ثم
طالعت الصغرى وكتاب ابن عرفة وابن رشد وكتاب شرح رسالة ابن أبي زيد للتتاءي وللشيخ
جلال الدين قاسم وطالعت شرح المختصر لبهرام وللتتاءي وغيره وابن الحاجب وكنت
أراجع في مشكلاتها ابن قاسم والشيخ شمس الدين اللقاني وأخاه الشيخ ناصر الدين
وأحطت علما بما عليه الفتوى في مذهبهم وما انفرد به الإمام مالك عن بقية الأئمة من مسائل
الاستنباط وطالعت من كتب الحنفية شرح القدوري وشرح مجمع البحرين وشرح الكنز
وفتاوي قاضي خان ومنظومة النسفي وشرح الهداية وتخريج أحاديثها للحافظ الزيلعي
وكنت أراجع في مشكلاتها الشيخ نور الدين الطرابلسي والشيخ شهاب الدين بن الشلبي
والشيخ شمس الدين الغزي وغيرهم وطالعت من كتب الحنابلة شرح الخرقي وابن بطة
وغيرهما من الكتب وكنت أراجع في مشكلاتها شيخ الإسلام الشيشيني الحنبلي وشيخ
الإسلام شهاب الدين الفتوحي وغيرهما كل هذه المطالعة كانت بيني وبين الله تعالى وبارك
الله تعالى في وقتي فهذا ما استحضرته في هذا الوقت من الكتب التي طالعتها ومن شك في
مطالعتي لها من الأقران فليأتني بأي كتاب شاء من هذه الكتب ويقرؤه على وأنا أحله له
بغير مطالعة فإن الله تعالى على كل شئ قدير
وقد تم بحمد الله طبع هذا الكتاب * العذب المنهل للواردين من الطلاب * المستغنى 4
فضله عن البيان * وحسبك أنه لمدارك الأئمة ميزان * فطبعه لا شك معدود من
المآثر الجميلة * والمفاخر الفائقة الجليلة * التي ظهرت في الأيام السعيدية * والدولة
الخديوية الداورية * لا زالت مصر بهمتها ترفل في حلل الفخار * ويطير جميل ذكرها
في سائر الأقطار * ولا برحت تهمى عليها سحائب مراحمها * وتغرد في رياضها حمائم
مآثرها ومكارمها * وكان طبعه على هذا الوجه الحسن * ونسيجه على هذا المنوال
المستحسن * ملحوظا بنظرنا ناطر الطباعة * رب البراعة والبراعة * من عليه في إرادتها
المعول والعمدة * حضرة على أفندي جوده * ومصححا بمعرفة ملتزم طبعه *
لأجل نشره وعموم نفعه * من هو لأنواع المزايا حاوي * جناب العلامة الفاضل
الشيخ حسن العدوي الحمزاوي * أحد علماء الأزهر * هيأ الله له الأسباب ويسر *
ولما وافى طبعه حد التمام * وعبقت منه روائح مسك الختام * في أواخر شهر رمضان *
من سنة 1275 ألف ومائتين وخمس وسبعين من هجرة سيد ولد عدنان * عليه
أفضل الصلاة والسلام * وعلى آله وصحبه الكرام * أرخه الفاضل النجيب *
والشاعر الأديب * من لعفو مولاه ارتجى * السيد عبد الهادي نجا * بقوله
78
الشعراني - عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد ابن
محمد بن زرقا بن موسى بن السلطان أحمد التلمساني الفقيه
المحدث الشعراني المصري الصوفي توفي في جمادى الأول من
سنة 973 ثلاث وسبعين وتسعمائة له الأجوبة المرضية عن أئمة
الفقهاء والصوفية. الأخلاق الزكية والعلوم اللدنية. الأخلاق
المتبولية المفاضة من الحضرة المحمدية. إرشاد المغفلين من الفقهاء
والفقراء إلى شروط صحبة الأمراء. الأنوار القدسية في ملزمة آداب
العبودية. البحر المورود في المواثيق والعهود. البروق الخواطف.
تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء. تنبيه المغترين في
القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر. الجواهر والدرر.
الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار
والعلوم حقوق إخوة الإسلام. درر الغواص في فتاوي
سيدي على الخواص. الدرر المنثور في بيان زبد العلوم المشهورة.
ردع الفقراء عن دعوى الولاية الكبرى. الدرر واللمع في
الصدق والورع. السراج المنير في غرائب أحاديث البشير
النذير. سر المسير والتزويد ليوم المصير. السر المرقوم فيما
اختص به أهل الله من العلوم. شرح جمع الجوامع للسبكي
في الفروع. الطراز الأبهج على خطبة المنهج. طهارة
الجسم والفؤاد من سوء الظن بالله تعالى والعباد. علامات
الخذلان على من لم يعمل بالقرآن. الفتح المبين في ذكر
جملة من أسرار الدين. فتح الوهاب في فضائل الآل
والأصحاب. فرائد القلائد في علم العقائد. القواعد الكشفية
الموضحات لمعاني صفات الآلهية. القول المبين في بيان آداب
الطالبين. القول المبين في الرد على الشيخ محيي الدين.
الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر. كتاب المنن والأخلاق
في بيان وجوب التحدث بنعمة الله. كشف الحجاب والران
عن وجه أسئلة الحان. كشف الغمة عن جميع الأمة في الحديث.
79