جزية و أحكامها

علي اكبر كلانتري

نسخه متنی
نمايش فراداده
الكتاب: الجزية وأحكامها
المؤلف: علي أكبر الكلانتري
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1416
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:
الجزية وأحكامها
في
الفقه الإسلامي
تأليف
علي أكبر الكلانتري
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة

1
الجزية وأحكامها
في الفقه الإسلامي
تأليف: الشيخ على الكلانتري
الموضوع: فقه
طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1416 ه‍. ق
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

2
بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة على رسول الله وآله آل الله، واللعن الدائم على أعدائهم
أعداء الله إلى يوم لقاء الله.
وبعد فإن الغاية والغرض من التشريعات الإسلامية البيضاء هو إصلاح
الإنسان وتقويمه وإرشاده وصونه من الضياع والانحراف في سيره وسلوكياته
وتنظيم علاقاته وارتباطاته مع أبناء نوعه على اختلاف آرائهم وتعدد مذاهبهم
الفكرية والدينية.
ولما كانت الشريعة الإسلامية الغراء هي الخاتمة لما سبق من الشرائع
السماوية فرض الله على العباد اتباع الدين الإسلامي ولم يرتض لهم غيره، فقال
عز من قائل: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين " من دون اكراه لهم أو إلجاء على القبول لانبلاج الحق وتبين الرشد من
الغي، لكن هذا لا يعني ترك العاصين والرافضين للانضمام تحت لواء الإسلام من
دون تقريع وتوبيخ أو تحقير وتصغير لاستلزامه ذلك العزة في الإثم والاصرار
على الضلال، وهو خلاف اللطف الإلهي ومقتضى الحكمة الربانية.
و " الجزية " من التشريعات الإسلامية التي من جملة أهدافها هو التضيق

3
على أتباع الشرائع المنسوخة عسى أن يكون ذلك سببا في رغبتهم في الإسلام
واعتناقهم له مضافا إلى إشعارا المسلمين بحرمتهم وكرامتهم على الله.
والكتاب الماثل بين يديك - عزيزنا القارئ - من تأليف الفاضل سماحة
الحجة الشيخ علي أكبر الكلانتري دامت توفيقاته يعطيك صورة كاملة وشاملة
لهذا التشريع بجميع أبعاده وجهاده وجذوره الاستدلالية في مصادر الفقه
الإسلامي، مضافا إلى ما قيل أو كتب حوله من قبل المستشرقين وغيرهم، فجاء
بحمد الله جامعا نافعا.
ونحن في الوقت الذي نقدم على طبع هذا الكتب ونشره لا يفوتنا أن نتقدم
بخالص شكرنا وصالح دعواتنا إلى سماحة المؤلف ومن ساهم في تصحيحه
وترتيبه وإخراجه بهذه الصورة الأنيقة سائلين الله عز اسمه أن يوفقهم وإيانا لما
فيه رضاه إنه خير موفق ومعين
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

4
الاهداء
إلى محبوب القلوب ومجذوب النفوس، محيي الإسلام المحمدي الأصيل.
إلى قائد الثورة الإسلامية الكبرى، أستاذ مشايخنا الإمام الخميني قدس سره و
المؤلف

5
شكر وثناء
أقدم شكري الوافر وثنائي العاطر إلى شيخنا الأستاذ العلامة آية الله الشيخ
جعفر السبحاني دامت بركاته واستاذنا المحقق آية الله الشيخ محمد هادي معرفة
دام ظله اللذين لاحظا هذا الأثر وتفضلا علي بنقد بعض ما فيه، وإلى صديقي
الجليل العلامة الشيخ أبي حسين الربيعي دامت توفيقاته الذي بذل سعيه ومجهوده
في تصحيحه، فشكرا لهم ثم شكرا.
وأخيرا، أرجو من حضرات العلماء العظام والباحثين الكرام أن يتفضلوا علي
بارسال ملاحظاتهم على مباحث الكتاب، فإن العصمة لله تعالى ولخاصة أوليائه
من المعصومين صلى الله على نبينا وآله وعلى خاتمهم المنتظر المهدي أرواحنا له
الفداء، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
قم المقدسة
علي أكبر الكلانتري الأرسنجاني
1416 ه‍

6
تقديم
بقلم
الأستاذ آية الله
الشيخ جعفر السبحاني دامت
بركاته
الجزية هي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمة على رؤوسهم أو على
أراضيهم إذا قاموا بشرائط الذمة المقررة في موضعها.
وهي بمنزلة القريبة التي تؤخذ من المسلمين بعناوين مختلفة، فما تأخذه
الدولة الإسلامية من الأقليات ليس ضريبة قاسية، وإنما هي في مقابل الخدمات
المختلفة التي تقدمها لهم فهي إذا ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم في
حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وتوفير ضروريات الحياة فيبقى الكتابي على
دينه وشعائره وفق شروط وأحكام ويدفع شيئا إلى الحكومة الإسلامية تجاه ما
تؤمنه من ضروريات الحياة له.
وقد تجلت الجزية في الحكومة الإسلامية لدى المستشرقين بصورة الضرائب
التي يضعها الفاتحون على من يغلبون عليهم، دون أن يؤسسوا لهم مشاريع الحياة
في بلادهم أو يؤمنون حياتهم وحاجياتهم، ولكن هذا التفسير خاطئ جدا، وما
حملهم عليه إلا موقفهم المسبق الذي اتخذوه تجاه الإسلام.
ولأجل ذلك نرى أنه لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله،
ولا الصبيان، ولا النساء وذلك لأنها في مقابل الدخل وهم بعيدون عنه، وقد قال

7
الإمام الصادق عليه السلام (جرت السنة على أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، ولا من
المغلوب على عقله) (1).
هذا وقد قام ولدنا المحقق الفاضل الشيخ علي أكبر الكلانتري ببحث مفصل
حول الجزية وحقوق الأقليات الدينية، وما يرتبط بها مستمدا من الكتاب والسنة
وكلمات الفقهاء، وبدورنا نبارك له هذا الانجاز، وقد سبقه إنجاز آخر له وهو
البحث عن مسألة أصولية (أعني التسامح في أدلة السنن).
وفي الوقت الذي نبارك له هذه الخطوة، نرجو من الله سبحانه أن يجعله من
الفقهاء العظام وأن يبذل جهده في احياء السنة وإماتة البدعة. بإذن الله سبحانه.
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
في 13 صفر المظفر 1416



(1) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 11 / 100.
8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وعلم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي
الخاتم ونتيجة العالم، وعلى آله أصول الكرم وأولياء النعم ولا سيما قائمهم الحجة
ابن الحسن أرواحنا له الفداء.

9
الفصل الأول
ما هي الجزية؟
الجزية لغة واصطلاحا:
اعلم: أن لفظ (الجزية) عند أكثر اللغويين والمفسرين لفظ عربي محض،
مشتق من مادة (الجزاء) وعبارة عن مال تأخذه الحكومة الإسلامية من أهل الذمة.
قال في القاموس: (الجزية بالكسر خراج الأرض وما يؤخذ من الذمي جمعه
جزى وجزى وجزاء) (1).
وفي الصحاح: (الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة والجمع الجزى مثل لحية
ولحى) (2).
وفي المجمع للطبرسي: (الجزية فعلة من جزى يجزي مثل القعدة والجلسة) (3).
وقال القرطبي في تفسيره: (الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافأ عما
أسدي إليه فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة) (4).
وذهب بعضهم إلى أن هذا اللفظ معرب من كلمة فارسية وهي (گزيت)
أو (گزيه) أو (گزيد).



(1) القاموس المحيط: حرف الجيم.
(2) صحاح اللغة: حرف الجيم.
(3) مجمع البيان: ج 5. ص 21.
(4) الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 114
11
قال جرجي زيدان بعد بيان جملة من تاريخ الجزية: (فالظاهر أن العرب
أخذوها عن الفرس لفظا ومعنى. فعربوا لفظها حتى صار (جزية)) (1).
وقال الشيخ شبلي النعماني: (إن لفظ الجزية معرب وأصله فارسي وإن معناها
الخراج الذي يستعان به على الحرب) (2).
أقول: ويؤيد ذلك بعض الأشعار في المتون الفارسية، قال النظامي:
گهش خاقان خراج چين فرستد گهش قيصر گزيت دين فرستد
ومن أشعار سعدي:
اگر نه راعي خلق است زهر مارش باد كه هر چه ميخورد از گزيت مسلماني است (3)
ثم ذكر النعماني أن في المسألة احتمالين:
الأول: أن هذا اللفظ وجد في اللغتين، فالأولى أن يقال: إنه مما اتفقا فيه
وتوافق اللغات في الأمور التي توجد معانيها عند الأمم الناطقة بها شائع معروف.
الثاني: أن الكلمة أصيلة في الفارسية دخيلة في العربية كأمثالها مما أخذه
العرب من مجاوريهم من الفرس وهضمتها لغتهم.
واستدل على الثاني بأمور:
1 - ثبوت أخذ العرب عن العجم بعض الألفاظ كالكوز والأبريق والطست.
2 - إن العرب لم يتفق لهم وضع ألفاظ للمعاني الخاصة بالمدنية والعمران
كالوزير والصاحب والعامل والتوقيع لما كانوا عليه من البؤس وعدم الاستيلاء
والاستعباد لغيرهم من الأمم.
3 - إن الحيرة - وكانت منازل آل نعمان - كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم
الأتاوة والخراج. ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولا... يغلب
على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية، في ذلك العهد وتعاوروا اللغة العجمية
بعينها.



(1) تاريخ التمدن الإسلامي ج 1 ص 228.
(3) فرهنگ عميد ص 868. والكتاب فارسي.
12
ومن مساعدة الجد أن اللفظ كانت زنته زنة العربي، فلم يحتاجوا في تعريبه
إلى كبير مؤنة بعد ما أبدل كافها جيما صارت عربي الأصل والنجار (1).
وأنت خبير بعدم دلالة الأمرين الأولين على مدعاه، أما الأول فلثبوت عكسه
أيضا كثيرا، وأما الثاني فلأنه يظهر من بعض الآثار إن للعرب مدنيات قديمة في
جزيرتهم وفي العراق، فلا يبعد وضع الألفاظ الخاصة من قبل أنفسهم.
نعم لا يبعد صحة ما أفاده ثالثا.
غير أن البحث اللغوي حول هذه الكلمة قليل الفائدة أو عديمها بعد وضوح أن
المراد منها ما يعهد أخذه من أهل الذمة.
هذا كله بحسب اللغة.
وأما بحسب الاصطلاح الفقهي، فهو: مال يؤخذ من أهل الكتاب أعني اليهود
والنصارى، ومن له شبهة الكتاب كالصابئين، على حسب عقد الذمة.
قال العلامة الحلي قدس سره: (الجزية هي المال المأخوذ من أهل الكتاب لإقامتهم
بدار الإسلام في كل عام) (2).
وإلى ذلك ينظر ما أفاده العلامة الطباطبائي قدس سره:
(وأما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم وحسن
إدارتهم) (3).
وقريب من ذلك ما ذكره أبو القاسم الخرقي - من فقهاء الحنبلية -:
(وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر، لإقامته بدار الإسلام) (4).
ثم إنهم ذكروا في وجه تسمية هذا المال المخصوص ب‍ (الجزية) وجوها
أهمها أمران:
1 - كونها جزاء عما منحوا من الأمن والحماية لهم والدفاع عنهم من غير



(1) المنار: ج 10 ص 343 - 344.
(2) تذكرة الفقهاء: كتاب الجهاد.
(3) الميزان ج 9 ص 240.
(4) المغني لابن قدامة ج 10 ص 557.
13
تكليفهم التجند للقتال مع المسلمين. وبكلمة أخرى: جزاء اعطاء الذمي حقوق
المسلمين ومساواتهم بأنفسهم في حرية النفس والمال والعرض (1).
2 - كونها جزاء على تمسكهم بالكفر وعدم قتلهم بذلك (2).
وظاهر قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا
يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (3)، هو الوجه الثاني، حيث جعل اعطاء
الجزية غاية لقتالهم، المستفاد منه إن هذا المال عقوبة على بقائهم في الكفر، ولك
المستفاد من بعض النصوص هو الوجه الأول.
منها ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام:
(واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن
بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها
عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة (4).
وأصرح منه ما روى عنه عليه السلام أيضا:
(وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا) (5).
وفي النهج كلمات أخرى منه عليه السلام تشهد على ذلك، سيأتي عند البحث في
فلسفة تشريع الجزية.
ويشهد عليه أيضا أن الجزية - كما يأتي قريبا وتسمع تصريحات عدة من
المحققين من المسلمين وغيرهم - ليست من مخترعات الإسلام ومجعولاته،



(1) تذكرة الفقهاء، كتاب الجهاد، الأحكام السلطانية ص 153، تفسير القرطبي ج 8 ص
المنار ج 10 ص 343، الميزان ج 9 ص 240.
(2) الأحكام السلطانية ص 153، مجمع البيان ج 5 ص 21، أحكام القرآن لابن العربي ج 2
ص 920، تحرير الأحكام ج 1 ص 149، تفسير القرطبي ج 8 ص 113، مفردات الراغب،
حرف الجيم.
(3) التوبة / 29.
(4) نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 1003، صبحي صالح ص 431.
(5) آثار الحرب نقلا عن نصب الراية ج 3 ص 381.
14
لكونها معمولا بها قبل الإسلام وعند الأمم الأخرى أيضا، وإنما الإسلام أمضاها
بصورة خاصة، فاللازم التفحص عن وجه تسميتها بهذا اللفظ عند تلك الأمم.
ومن الواضح أن وجهه لم يكن كونها جزاء على تمسكهم بالكفر وعدم
التزامهم بالإسلام، ضرورة أن ذلك حدث بعد الإسلام، وإنما كانت تؤخذ من
أصناف معينة بدلا عن مدافعة الجنود عنهم، بدلالة قول أنوشروان كسرى في
توجيه أخذ الجزية عن بعض الطوائف:
(فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم
عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم....) (1).
فالأقرب بل المتعين هو الوجه الأول.
تم الكلام في بيان لفظ الجزية لغة واصطلاحا وتسمية.
مجمل من تاريخ الجزية:
الإسلام ومحدثاته، بل يوجد قبل الإسلام وعند الأمم الأخرى أيضا.
وهي وإن كانت مجهولة التاريخ من حيث مؤسسها ومبدعها، إلا أنه يعلم من
بعض التواريخ وجودها عند الفرس والروميين.
قال ابن الأثير: (كان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك
كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع، وكذلك الخمس
والسدس على قدر شربها وعمارتها، ومن الجزية شيئا معلوما، فأمر الملك قباذ
بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها، فمات قبل الفراغ من ذلك، فلما ملك أنوشروان
أمر باستتام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير والكرم والرطب
والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئا معلوما، ويؤخذ في
السنة في ثلاثة أنجم، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب ".



(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 456.
15
وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة
عليه، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته، والزموا الناس
الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة (1) والكتاب ومن في
خدمة الملك، كل انسان على قدره من اثني عشر درهما وثمانية دراهم وستة
دراهم وأربعة دراهم) (2).
ثم بين ابن الأثير قصد كسرى من هذا الاستثناء بقوله: (ومن كلام كسرى:...
فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم
عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم فإن
العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم. ورأيت أن المقاتلة لا
يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج
والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل
الجانبين. ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين
المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى) (3).
وقال الطبري: (وإن كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة، فأمرهم
بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدة النخل والزيتون ورؤوس أهل
الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أن فيه صلاح رعيته، ورفاغة
معاشهم، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم
الناس والبهائم، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم والرطاب والنخل
والزيتون...) (4)
وفي Encyciopadia of IsIam (= دائرة المعارف الإسلامية) مادة DJIZYA



(1) الهرابذة خدم نار المجوس، واحده هربذ (المنجد).
(2) الكامل في التاريخ ج 1 ص 455.
(3) الكامل في التاريخ ج 1 ص 456.
(4) تاريخ الطبري ج 1 ص 451.
16
(= الجزية) ما حاصله:
" وكانت جزية الرؤوس مشهورة قبل ظهور الإسلام في البلاد المفتوحة،
سواء كانت ساسانية أم رومية.... وكانت تفرض بطبيعة الحال على غير المسلمين
دون سواهم.
وورد في الآثار المتقدمة وفي الايصالات المصرية التي تؤخذ نظير دفع
جزية الرؤوس كلمة جالية - وجمعها جوالي - وقد أصبح هذا اللفظ مرادفا لكلمة
الجزية) (1).
وقال جرجي زيدان: (والجزية ليست من محدثات الإسلام، بل هي قديمة
من أول عهد التمدن القديم، وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا
الصغرى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين،
وفينيقية يومئذ من أعمال الفرس، فهان على سكان تلك السواحل دفع المال في
مقال حماية الرؤوس.
والرومان وضعوا الجزية على الأمم التي أخضعوها، وكانت أكثر كثيرا مما
وضعه المسلمون بعدئذ. فإن الرومان لما فتحوا غاليا - فرنسا -، وضعوا على كل
واحد من أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين 9 جنيهات و 15 جنيها في السنة، أو
نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين، ولم تكن الجزية كبيرة بهذا المقدار في كل
البلاد التي افتتحها الرومان، ولكنهم يعللون كبرها في غاليا ونحوها التي كانت
تؤخذ من الأشراف، عنهم وعن عبيدهم وخدمهم، وكان الفرس أيضا يجبون
الجزية من رعاياهم).
إلى أن قال: (فالظاهر أن العرب أخذوها عن الفرس لفظا ومعنى، فعربوا لفظها
حتى صار (جزية) وعدلوا في كيفية جمعها كما رأيت وقد رفعوها عن المسلمين
كما فعل كسرى أيضا، لأن المسلمين عندهم هم الجند والعظماء وأهل البيوتات



(1). of shorther 91. Encycclopaedia of islam p
17
الذين استثناهم كسرى من الجزية) (1).
ثم لا نعلم وقت تشريع الجزية في الإسلام، فمن المحتمل تشريعها في السنة
العاشرة من الهجرة، إذ أقر نصارى نجران بالجزية في قضية المباهلة، والمشهور
وقوعها في هذه السنة.
وقيل: شرعت في السنة التاسعة. وهذا هو الظاهر لأن سورة التوبة التي فيها
آية الجزية آية 29 نزلت قبيل غزوة تبوك في السنة التاسعة.
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى غزوة تبوك من أرض شام صالح أهل أيلة
وأذرح ومقنعا والجربا على الجزية (2).
نعم ذكر ابن الأثير في وقايع سنة سبع أن المنذر بن ساوى والي البحرين لما
أتاه العلاء بن الحضرمي يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، -
وكانت ولاية البحرين للفرس - فأسلم المنذر بن ساوى وأسلم جميع العرب
بالبحرين.
ثم أضاف: فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم صالحوا
العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار (3).
الفرق بين الجزية والخراج: الظاهر من أبي يوسف والماوردي أن هذين
اللفظين متبائنان، قال الأول:
(الجزية بمنزلة مال الخراج) (4).
وقال الثاني: (الجزية والخراج حقان أوصل الله تعالى المسلمين إليهما من
المشركين يجتمعان من ثلاثة أوجه، ويفترقان من ثلاثة أوجه، ثم تتفرع أحكامهما.
فأما الأوجه التي يجتمعان فيها:



(1) تاريخ التمدن الإسلامي ج 1 ص 227 - 228.
(2) فتوح البلدان. ص 79.
(3) الكامل في التاريخ ج 2 ص 285.
(4) الخراج ص 123.
18
فأحدهما: أن كل واحد منهما مأخوذ عن مشرك صغارا له وذلة.
والثاني: أنهما ما لا في يصرفان في أهل الفئ.
والثالث: أنهما يجبان بحلول الحول، ولا يستحقان قبله.
وأما الوجوه التي يفترقان فيها.
فأحدها: أن الجزية نص، والخراج اجتهاد.
والثاني: أن أقل الجزية مقدر بالشرع، وأكثرها مقدر بالاجتهاد.
والخراج أكثره وأقله مقدر بالاجتهاد.
والثالث: أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر، وتسقط بحدوث الإسلام والخراج
قد يؤخذ مع الكفر والاسلام (1).
ولكن الأقرب خلاف ذلك، لأن هذين الاصطلاحين كثيرا ما استعملا في
الروايات وفي كلمات الفقهاء واللغويين كل بمعنى الآخر بحيث لا يبعد أن يكونا
مترادفين في المعنى، إليك بعض من تلك الكلمات والروايات:
- عن ابن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام:... وليس للإمام أكثر من الجزية إن شاء
الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شئ، وإن شاء فعلى أموالهم
وليس على رؤوسهم شئ (2).
- وعنه أيضا قال: سألته عن أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به دمائهم
وأموالهم؟ قال: الخراج، وإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن
أخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم) (3).
ترى أن الإمام عليه السلام تارة استعمل لفظ الجزية مقام الخراج وأخرى عكس
ذلك، وتكلم في أي مورد بأحد هذين اللفظين وأراد كلا منهما، مع أن الغالب
بحسب الاصطلاح اطلاق الجزية على ما وضع على الرؤوس والخراج على



(1) الأحكام السلطانية ص 153.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 2.
(3) الوسائل، الجزء 11، أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 3.
19
ما وضع على الأراضي كما يأتي.
ومن هنا قال في الجواهر:
(ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأراضي بلا خلاف أجده فيه... ولا
يجمع بينهما.) (1).
والشاهد القوي على ذلك قول صاحب القاموس:
(الجزية بالكسر خراج الأرض وما يؤخذ من الذمي) (2).
وقال الشيخ الشبلي النعماني: إن معناها - يعني الجزية - الخراج الذي
يستعان به على الحرب) (3).
فهذان اللفظان متقاربان في المعنى بحيث يستعمل كل واحد في موضع الآخر
وأن غلب استعمال الجزية في ضريبة كانت توضع على رؤوس أهل الذمة ورقابهم
والخراج في ضريبة كانت توضع على بعض الأراضي كالأراضي المفتوحة عنوة
أو صلحا على أنها للمسلمين أو لإمام المسلمين.
فلسفة تشريع الجزية:
اعلم أن كلمات الفقهاء والمفسرين من العامة والخاصة، متشتتة جدا في بيان
فلسفة تشريع الجزية، بعضها بعيدة عن الروح الإسلامي والتعاليم القرآنية كمال
البعد، لا شاهد عليه لا من الكتاب ولا من السنة.
ومع الأسف تمسك بعض المستشرقين بهذه العبائر لغرض هدم الإسلام
واظهار أنه دين بني على السيف والاجحاف، تأتي كلمات جملة من هؤلاء في
موضعه.
فالمهم هاهنا نقل كلمات الفقهاء والمفسرين أولا ونقدها وتحليلها ثانيا.
قال المفيد قدس سره: (والجزية واجبة... عقوبة من الله تعالى لهم، لعنادهم الحق،



(1) الجواهر ج 21 ص 249.
(2) المنار ج 10 ص 343.
(3) قاموس المحيط مادة الجيم.
20
وكفرهم بما جاء من محمد النبي صلى الله عليه وآله خاتم النبيين وجحدهم الحق الواضح
باليقين... وجعلها تعالى حقنا لدمائهم، ومنعا من استرقاقهم، ووقاية لما عداها من
أموالهم) (1).
وقال العلامة في التذكرة: (الجزية هي المال المأخوذ من أهل الكتاب
لإقامتهم بدار الإسلام في كل عام) (2).
وفي الجواهر بعد نقل جملة من كلمات الفقهاء حول معنى (الصغار) المذكور
في آية الجزية: (ولعل الأولى الجميع، بل وغيره مما يتحقق به، إذ المراد اهانتهم
واذلالهم الذي هو أشد من القتل عند ذوي النفوس العالية) (3).
وقال أبو القاسم الخرقي - من فقهاء الحنبلية -: (وهي - يعني الجزية -
الوظيفة المأخوذة من الكافر، لإقامته بدار الإسلام في كل عام) (4).
وقال القرطبي في تفسيره: (أحل في هذه الآية - يعني آية الجزية، وهي قوله
تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية (5) - الجزية، وكانت لم
تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم، فقال الله
عز وجل: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية.
فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لاصفاقهم على هذا الوصف،
وخص أهل الكتاب بالذكر اكراما لكتابهم ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل
والشرائع والملل، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وآله وملته وأمته، فلما أنكروه تأكدت
عليهم الحجة، وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي
اعطاء الجزية بدلا عن القتل) (6).
وفي " أحكام القرآن " لابن العربي: " اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه،



(1) المقنعة، ص 269.
(2) تذكرة الفقهاء، كتاب الجهاد.
(3) جواهر الكلام ج 21 ص 248.
(4) المغني لابن قدامة ج 10 ص 557.
(5) التوبة / 29.
(6) الجامع لأحكام القرآن ج 8 ص 109 - 110.
21
فقال علماء المالكية: وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر، وقال بعض الحنفية بقولنا،
وقال الشافعي: بدلا عن حقن الدم وسكنى الدار، وقال بعضهم - من أهل ما وراء
النهر -: إنما وجبت بدلا عن النصرة بالجهاد) (1).
وقال السرخسي - من فقهاء الحنبلية -: (المقصود من الجزية ليس هو المال،
بل الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه، لأنه بعقد الذمة يترك القتال أصلا ولا يقاتل
من يقاتل، ثم يسكن بين المسلمين، فيرى محاسن الدين ويعظه واعظا فربما
يسلم) (2).
وقال الفخر الرازي: (هؤلاء - يعني أهل الذمة - إنما أقروا على دينهم الباطل
بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة
والإنجيل... فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وآله ونبوته، فأمهلوا لهذا
المعنى).
وقال أيضا: (ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود
منها حقن دمه وامهاله مدة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن
الإسلام وقوة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الايمان) (3).
وقال رشيد رضا في تفسيره: (إن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام
بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين لو دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع
لعفوا عن الجزية) (4).
وأخيرا قال العلامة الطباطبائي قدس سره ذيل آية الجزية: (إن المتدبر في المقاصد
العامة الإسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ليس لغرض
تمتع أولياء الإسلام ولا المسلمين من متاع الحياة الدنيا واسترسالهم وانهماكهم
في الشهوات على حد المترفين من الملوك والرؤساء المسرفين من أقوياء الأمم.
وإنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق وسنة العدل وكلمة التقوى



(1) أحكام القرآن ج 2 ص 923.
(2) المبسوط للسرخسي ج 10 ص 77.
(3) التفسير الكبير ج 16 ص 32.
(4) المنار ج 10 ص 347.
22
على الباطل والظلم والفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب والهوى، فتسلم التربية
الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب
هذه إلى جانب وتلك إلى جانب، فيتشوش أمر النظام الانساني إلا أن لا يرتضى
واحد أو جماعة التربية الإسلامية لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحرارا فيما
يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط أن يكونوا على شئ من
دين التوحيد، وهو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، وأن لا يتظاهروا
بالمزاحمة، وهذا غاية العدل والنصفة من دين الحق الظاهر على غيره).
وقال قدس سره: (وأما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ
ذمتهم وحسن إدارتهم ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو
باطلة) (1).
وقال الدكتور وهبة الزحيلي: (إن الجزية ليست نوعا من ألوان العقاب على
الكفر أو عدم الايمان بالإسلام كما يزعم المستشرقون كما أنها ليست مفروضة
لاذلال غير المسلمين وإنما هي مظهر للطاعة، ومظهر للعدالة الاجتماعية بين
المواطنين) (2).
هذه جملة من كلمات أعلام الفريقين في المقام، والمتحصل منها وجوه تالية:
1 - شرعت الجزية عقوبة من الله تعالى على أهل الذمة لعنادهم الحق
وكفرهم بما جاء به النبي الخاتم صلى الله عليه وآله.
2 - وضعت لاهانتهم واذلالهم، حتى ينتقلوا بذلك من الكفر إلى الإسلام.
3 - وجبت حقنا لدمائهم ومنعا من استرقاقهم ووقاية لأموالهم.
4 - وضعت هذه الضريبة عليهم لإقامتهم بدار الإسلام.
5 - تؤخذ الجزية من أهلها لتصرف في حفظ ذمتهم وحسن ادارتهم والقيام



(1) الميزان ج 9 ص 239 - 240.
(2) آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 692.
23
بحمايتهم والمدافعة عن حقوقهم وبدلا عن تكليفهم بأمر الدفاع والدخول في
الجند والأمور العسكرية.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المتعين من الأقوال الذي تشهد على صحته أمور
كثيرة، هو الوجه الخامس، فانتظر حتى تعرف تلك الشواهد. ويمكن ارجاع
وجهي الثالث والرابع إليه، لعدم فرق جوهري بين الوجوه الثلاثة.
وأما الوجه الأول، فلا يوجد له شاهد، لا من الكتاب ولا من السنة، بل يرده
أمور:
1 - عقد الجزية ينعقد بالتراضي، فكيف يكون عقوبة وعذابا عليهم؟
قال الشيخ قدس سره: (الجزية لا تتم إلا بالتراضي) (1).
ونقل ابن العربي عن أصحاب الشافعي أنهم قالوا: (الدليل على أنها وجبت
بدلا عن حقن الدم، وسكنى الدار، أنها تجب بالمعاقدة والتراضي، ولا تقف
العقوبات على الاتفاق والرضا) (2).
2 - أن الجزية، كما يأتي، تختلف قدرها باليسار والاعسار، ويراعى تمكن
أهل الذمة في كميتها، وهذا لا يناسب كونها عقوبة ولونا من العذاب.
3 - قدر الجزية كما يأتي قليل جدا بالنسبة إلى ما يجب على المسلمين من
الحقوق الشرعية كالزكاة، مضافا إلى أن أهل الجزية غير مكلفين بأمر الدفاع
والدخول في الجند، ويجب ذلك على المسلمين، وكل ذلك ينافي كون الجزية
عقوبة.
وأما الوجه الثاني فهو أضعف وأبعد عن الواقع وحقيقة الإسلام بمراتب ولا
يقبله المتأمل في المقاصد العالية من أحكام الشريعة النورانية، التي غايتها التربية
الصالحة لنوع البشر، والبون واسع بين هذا القصد العظيم وبين أخذ ضريبة مالية
لغرض الإهانة واذلال جمع يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية!!



(1) المبسوط ج 2 ص 38.
(2) أحكام القرآن ج 2 ص 924.
24
ألا تسمع قوله تعالى:
لا ينهيكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن
تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (1).
فالاسلام هو دين البر والقسط إلى المواطنين الذميين بمقتضى هذه الكريمة
وغير واحد من الأخبار الحاكية عن سيرة المسلمين وأئمتهم في هذا المجال.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام خطابا لرجل من ثقيف استعمله على بانقيا (2) وسواد
من سواد الكوفة:
(... إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج أو تبيع دابة
عمل في درهم فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو) (3).
وفي كتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، بإسناده عن عبد الملك بن عمير
قال: أخبرني رجل من ثقيف قال:
(استعملني علي بن أبي طالب رضي الله عنه على برزج سابور، فقال: لا تضربن رجلا
سوطا في جباية درهم ولا تبعن لهم رزقا، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة
يعتملون عليها، ولا تقيمن رجلا قائما في طلب درهم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين!
إذا ارجع إليك كما ذهبت من عندك. قال: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك، أنا أمرنا
أن نأخذ منهم العفو) (4).
وفي الخراج أيضا بإسناده عن زيد بن رفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
(من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه إلى يوم القيامة) (5).
وعن علي أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب له إلى بعض عماله:



(1) الممتحنة / 7.
(2) قال ياقوت الحموي: بانقيا بكسر النون ناحية من نواحي الكوفة. (معجم البلدان ج 1 ص
331).
(3) فروع الكافي، ج 3 ص 540، كتاب الزكاة، باب أدب المصدق. الحديث 8.
(4) الخراج ص 70، سنن البيهقي ج 9 ص 205.
(5) الخراج ص 71.
25
" واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآس في
اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس
الضعفاء من عدلك) (1).
إلى غير ذلك من القرائن التي تدل على المقصود.
ومن هنا قال الخطيب الشربيني - من علماء الشافعية -:
(هذه الهيئة - يعني هيئة الإهانة والاذلال - باطلة، لأنها لا أصل لها من السنة
ولا نقل عن فعل أحد من السلف وحينئذ دعوى استحبابها أشد خطأ من دعوى
جوازها، ودعوى وجوبها أشد خطأ من دعوى استحبابها) (2).
وأما الثالث والرابع من الوجوه، فقد عرفت امكان رجوعهما إلى الخامس
الذي هو الحق المتعين في المقام، ولا مجال لانكاره بعد ملاحظة القرائن العديدة
بنظرة الانصاف. وإليك جملة من تلك القرائن:
1 - قد عرفت في المبحث الأول من هذا الفصل أن الجزية ليست من
مخترعات الإسلام ومحدثاته، لوجودها عند الأمم السابقة أيضا. فالنظرة
الاجمالية في تاريخها يكشف عن علة وضعها. فلاحظ ما نقله ابن أثير من كلام
كسرى أنوشروان في هذا المضمار:
(... فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان
لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم
أجورهم فإن الأمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن
المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل
الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على
أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من



(1) نهج البلاغة، فيض، ص 976. الكتاب 46، صبحي ص 421.
(2) مغني المحتاج ج 4 ص 250.
26
الجانبين، ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين
المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى (1).
وقال: (إن كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة، فأمرهم بالنظر في
أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدة النخل والزيتون ورؤوس أهل الجزية،
ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أن فيه صلاح رعيته، ورفاعة معاشهم) (2).
2 - توجد في بعض كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عماله فقرات تدل صريحا
على صحة هذا الوجه.
منها قوله عليه السلام: (فالجنود بإذن الله، حصون الرعية وزين الولاة، وعز الدين،
وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم
من الخراج الذي تقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم،
ويكون من وراء حاجتهم) (3).
وأصرح منه قوله عليه السلام: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض،
ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها
عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة...) (4).
وروي عنه عليه السلام أيضا: (وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم
كدمائنا) (5).
3 - كلمات الفقهاء في بيان مصرف الجزية ترشدنا إلى هذا الوجه.
قال الشيخ في الخلاف: (ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار من
المشركين، للمقاتلة المجاهدين... دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم في أن الجزية



(1) الكامل في التاريخ ج 1 ص 455.
(2) المصدر، ص 451.
(3) نهج البلاغة، فيض، الكتاب 53، ص 1003، صبحي، ص 432.
(4) نهج البلاغة، فيض، الكتاب 53، ص 1002، صبحي، ص 431.
(5) آثار الحرب نقلا عن نصب الراية ج 3 ص 381.
27
للمجاهدين لا يشركهم فيها غيرهم " (1).
وفي الغنية: (والجزية تصرف إلى أنصار الإسلام) (2).
وفي إشارة السبق للحلبي: (وتصرف إلى أهل الجهاد) (3).
وفي مختصر النافع للمحقق: (يستحق الجزية من قام مقام المهاجرين في
الذب عن الإسلام من المسلمين (4).
إلى غير ذلك مما ذكر في المتون الفقهية.
هذه العبائر ونظائرها تشهد على أن الذميين لما لم يكونوا مكلفين بالخدمة
العسكرية والحضور في أمر الجهاد، تؤخذ الجزية منهم في قبال ذلك وتصرف في
جهته.
4 - أنا نشاهد في أوائل تاريخ الإسلام سيرة أمراء الحكومة الإسلامية في
ضمن بعض القضايا المرتبطة بمسألة الجزية، وهذه السيرة وإن لم تكن عندنا
معاشر الإمامية من مدارك الأحكام الفقهية بوجه كلي، إلا أنها تؤيد وتؤكد ما ذكرنا
وهو أن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم وللمدافعة عنهم، وأن
الذميين لو دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لسقطت عنهم الجزية. وإليك
جملة من تلك القضايا: (5)
منها: ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل
فيها وهذا نصه:
(هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، أني عاهدتكم على
الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة وما منعناكم - أي حميناكم - فلنا الجزية وإلا
فلا، كتب سنة اثنتي عشرة من صفر).
ومنها: ما كتبه نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه:



(1) الخلاف ج 2 ص 127.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153.
(3) المصدر ص 196.
(4) المصدر ص 227.
(5) وقد جمعها صاحب المنار ج 10 ص 347 - 351.
28
" براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد
والمسلمون، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم، أمانكم
أمان، وصلحكم صلح ونحن لكم على الوفاء ".
ومنها: ما كتبه أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه:
(أنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد على أن يمنعونا وأمرهم البغي من
المسلمين وغيرهم).
ومنها: المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما
وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام وكان هذا في سنة أربعة عشرة في عهد
عمر بن الخطاب وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد:
(وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم).
ومنها: كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب
لرزمان وأهل دهستان وهذا نصه:
(هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر
أهل جرجان، أن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة
على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا
عن جزائه. ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم لا يغير شيئا من
ذلك شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك ابن محزمة وعتيبة بن النهاس وكتب
في سنة 108 ه‍).
ومنها: الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه:
(هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل
أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشغارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم
وأموالهم وشرائهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ومن حشر (1) منهم في



(1) الحشر هنا بمعنى جمع الناس وسوقهم للقتال أو مساعدة المقاتلة.
29
سنة وضع عنه جزاء تلك السنة ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك.
ومنها: العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين شهر براز كتب
به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه:
(هذا ما أعطى سراقة بن عمر وعامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز
وسكان إرمينية والأرمن من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا لا
يضاروا ولا ينقضوا، وعلى إرمينية والأبواب الطراء منهم والتناء (1) ومن حولهم
فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب ولم ينب رآه الوالي
صلاحا على أن يوضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك ومن استغنى عنه منهم وقعد،
فعليه مثل ما على أهل آذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، شهد
عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله وكتب مرضى بن مقرن
وشهد).
وها هنا شواهد أخرى على أن الذميين إذا شاركوا المسلمين في الذب عن
حريم الملك الإسلامي أو لم يشترطوا عليهم المنعة والدفاع، لم يكونوا يطالبون
بالجزية أصلا.
منها ما رواه أبو يوسف عن مكحول وحاصله:
أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم، صاروا أشداء
على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة رسولهم
يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير
الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو
عبيدة إلى أبي عبيدة يخبروه بذلك.
وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو
عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم



(1) الطراء: الغرباء الذين يطرؤن جمع طارئ، والغريب خلاف الأصلي. والتناء: المقيمون
جمع تانئ.
30
ما جبي منهم من الجزية والخراج.
وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغني ما جمع لنا
من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا
عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا
عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: (ردكم الله
علينا ونصركم عليهم).
فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وخذوا كل شي بقي حتى لا يدعوا شيئا.
فانظر إلى هذه القضية حتى يتضح لك كمال الوضوح أن الجزية لم تكن تؤخذ
منهم عقوبة عليهم أو لاذلالهم واهانتهم، كيف وهم طلبوا من الله تعالى نصر
المسلمين وردهم عليهم!!.
ونظير ذلك ما ذكره البلاذري في كتابه (فتوح البلدان):
(حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين اقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج قالوا:
(قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص:
لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل
عن المدينة مع عاملكم ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة
حمص ألا نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي
صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: (إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين
صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد) (1).
وقال الأزدي، يذكر اقبال الروم على المسلمين ومسير أبي عبيدة من حمص،
ما حاصله:



(1) فتوح البلدان ص 187.
31
" دعا أبو عبيدة حبيب بن مسلمة فقال: أردد على القوم الذين كنا صالحناهم
من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذا لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئا
وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح ولا نرجع عنه إلا أن
ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع
بلادكم) (1).
وقال أيضا، يذكر دخول أبي عبيدة الشام: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين
وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين
كانوا أمنوا وصالحوا فرد عليهم ما كان أخذ منهم، وقال لهم المسلمون: نحن على
العهد الذي كان بيننا وبينكم ونحن معيدون لكم أمانا) (2).
ولقد صرح ول ديورانت أيضا إلى ما ذكرنا بقوله: (ولم تكن هذه الضريبة
تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان
والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى
والشديد الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية...
ولا تفرض عليهم الزكاة، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم) (3).
ولقد أجاد العلامة الشهيد المطهري، حيث قال في هذا المضمار ما حاصله:
(الإسلام يأخذ الجزية من أهلها على سبيل العطية والهبة ليصرفها في مصالح
الوطن الإسلامي، وللمدافعة عنهم في موارد الخطر ولعدم تكليفهم بأمر الجهاد مع
اشتراكهم المسلمين في منافعه، ولا يأخذها لمحض ترك قتالهم من دون التزام
وتعهد لهم والقيام على خدمتهم، حتى يكون هذا بأجا) (4).
فاتضح من جميع هذه الشواهد أن الحكمة في أخذ الجزية من أهل الذمة هو
الوجه الخامس، وأن يظهر من بعض عبائر الفقهاء والمفسرين، ولا سيما العامة
منهم غير ذلك من الوجوه.



(1) المنار ج 10 ص 349.
(2) المصدر ص 350.
(3) قصة الحضارة ج 13 ص 130 و 131.
(4) جهاد ص 66 - 68 والكتاب فارسي.
32
ولعل هذه العبائر - التي يأتي بعضها عند تفسير آية الجزية - كانت متأثرة من
سيرة بعض الأمويين وعمالهم، حيث كانوا يعاملون الذميين بل غير العرب معاملة
خشنة التي لم تناسب العدل الإسلامي وما نعرفه من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة
الطاهرين عليهم السلام.
المستشرقون ونظام الجزية:
اعلم أن المستشرقين في هذا المقام على صنفين: صنف منهم لم ينظروا إلى
المسألة بنظرة الانصاف، ولم يكونوا في مقام كشف الحقيقة بل ترى آثار العناد
وكتمان الحق في مطاوي مكتوباتهم.
وصنف آخر منهم حققوا المسألة بلا تعصب وعناد ونالوا الحقيقة بقدر وسعهم.
من الصنف الأول ژوليوس ولها وزن، فإنه ذكر في المقام أمورا أهمها ما يلي:
1 - العرب كانوا يعقدون على سكان فتوحاتهم بأجا وهو كان عبارة عن مبلغ
معين نقدا ومقدار من زراعتهم.
2 - كل من كلمة (الخراج) و (الجزية) كان يستعمل أكثر من قرن يعني إلى
سنة 121 ه‍ في معنى بأج (1) فإن العرب لم يكونوا يعرفون إلى هذه السنة الفرق
بين الضريبة التي توضع على الأراضي وبين ما يوضع على الرؤوس.
3 - كانت الضرائب المالية برمتها تسقط عمن أسلم.
4 - كان الخراج يسقط عن الأرض التي أسلم مالكها أو انتقلت إلى المسلم.
5 - ونتيجة ذلك أن السبب المهم في ترك الكفار دينهم وقبولهم الإسلام هو
السبب المالي - يعني سقوط جميع الحقوق المالية عمن كان يسلم -.
6 - لما كان آراء أكثر فقهاء الإسلام ومؤرخيه مباينا للأمور المذكورة،
فبطبيعة الحال ننتج أنهم كانوا كاذبين في انتساب نظرياتهم الاقتصادية إلى عصر
الفتوحات (2).



(1). tribute
(2) جزية در إسلام ص 4 - 7.
33
ومن هذا الصنف أيضا بكر (Becker) الذي أيد نظرية ولها وزن بقوله:
(الروايات العربية ليس أكثرها خال عن التعصب وهي تنسب النظامات الحديثة
إلى صدر الإسلام) (1).
ومنهم، لئون كايتاني (Leone caetani)، قال في كتابه (Annali dell Islam)
ما حاصله:
(لا يصح الاعتماد على مصادر المسلمين ومنابعهم لأن مؤلفيها وهم فقهاء
القرون الأولى وطلبة العلم، تعمدوا في تحريف الأصول والنظامات التي وصلت
إليهم من صدر الإسلام وسعوا في تطبيقها على آرائهم، وتلك الآراء لم تكن توافق
الوقايع الحادثة في زمن النبي وخلفائه، بل كانت نتيجة لمباحثاتهم المدرسية
وملاحظاتهم العلمية، هؤلاء اتخذوا من نصوص القرآن وسيرة النبي ما وافق
آرائهم وعقائدهم وردوا غيرها) (2).
ومنهم، (ادولف گروهمان)، الذي قال في أثره (Zum Steuerwesen) ما حاصله:
كلمة (الخراج) كان في الابتداء بمعنى ضريبة الأرض، ثم استعمل
بمعنى (البأج) وأخيرا استعمل في معنى (الضريبة الأرضية) (3).
هذه كلمات جملة من المستشرقين حول الجزية التي فسادها لا يحتاج إلى
مزيد بيان، وردها يظهر مما ذكرنا في وجه تشريع الجزية، ونضيف هنا:
أن اصطلاحي الخراج والجزية لم يستعملا قط في معنى البأج، لأن البأج كما
عرفت يطلق على ما تأخذه القدرة الغالبة من القوم المغلوب لمحض ترك قتالهم
ومن دون تعهد والتزام لهم والقيام بخدمتهم، وأخذ الجزية والخراج من أهل الذمة
لم يكن كذلك كما عرفت تفصيلا.
وأما ما ذكره ولها وزن، من سقوط الحقوق المالية بتمامها عمن كان يسلم،
ففسادها أظهر من أن يخفى، أولا، لعدم صحة ذلك بالنسبة إلى الخراج، فإنه كما



(1) جزية در إسلام، ص 7.
(2) المصدر، ص 9.
(3) المصدر، ص 11.
34
عرفت لا يسقط بقبول الإسلام. وثانيا، لثبوت فرائض مالية كالزكاة على من أسلم
ربما كان أدائها أشق وأثقل من دفع الجزية. فتوهم سببية سقوط الجزية في قبول
الإسلام فاسد غير معقول.
وأما ما ذكره في الأمر السادس، فهو افتراء محض، يرده ما عرفته من القضايا
الكثيرة الحادثة كلها في عصر الفتوحات المبينة لعلة تشريع الجزية.
ويرده أيضا ما يأتي في الفصول الآتية من النصوص والأدلة المبتنية عليها
آراء الفقهاء وفتاويهم، فانتظر.
وسيأتي عن قريب بيان من دانيل دنيت - مستشرق آخر - في رد ولها وزن.
وأما ما ذكره لئون كايتاني، فهو أيضا من الافتراءات المحضة، ناش من عدم
الوقوف على سيرة فقهاء الإسلام في نقل المتون والمصادر الفقهية وعدم توهم
التحريف من جانبهم لشدة أمانتهم وسعيهم في حفظ المصادر والأسناد كما هي.
فما ذكر هؤلاء، كلها دعاو بلا بينة وبرهان، ولقد أجاب عنها جمع آخر من
المستشرقين، وهم من الصنف الثاني الذي تقدم وصفهم. فالحري صرف عنان
القلم إلى نقل كلماتهم.
من هذا الصنف (توماس ارنولد) (Thomas Arnold) قال:
(لم يكن الغرض من فرض الجزية على المسيحيين، كما يريدنا بعض
الباحثين عن الظن، لونا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا
يؤدونها مع سائر أهل الذمة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت
تحول دياناتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم
سيوف المسلمين) (1).
وقال أيضا:



(1) الدعوة إلى الإسلام ص 79.
35
" وقد فرضت الجزية على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي
كانوا يطالبون بأدائها لو كانوا مسلمين، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت
تعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي. وكان الحال
على هذا النحو مع قبيلة الجراجمة، وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية،
سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونا لهم وأن تقاتل معهم في مغازيهم، على
شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم، ولما اندفعت الفتوح
الإسلامية إلى شمال فارس في سنة 22 ه‍، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل
التي تقيم على حدود هذه البلاد، وأعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة
العسكرية) (1).
ومنهم (ا. س. ترتون (Tritton. s. A)، الأستاذ بجامعة لندن، قال في كتابه
(الخلفاء وأتباعهم غير المسلمين).
(Subjects - Moslem - Caliphs And Their Non):
(أما فيما يتعلق بطريقة دفع الجزية فإننا نجد التعليمات التالية شأنها واردة
في دليل خاص عن الواجبات المفروضة على الجابي، منها عدم استعمال العنف أو
الضرب في جمعها، وألا يجبر الذمي على بيع ما لديه من الماشية والحمير والأغنام
لسدادها) (2)
وقال بعد ما نقله عن كتاب (الخراج) لأبي يوسف - يفرض على الذمي،
نصرانيا كان أو يهوديا، أن يذهب بشخصه في يوم معين إلى الأمير المخول حتى
تسلم الجزية، ثم ينصب الأمير عرشا مرتفعا يجلس عليه ويميل أمامه الذمي
ويقدم إليه الجزية على كفه وهي مبسوطة، فيتناولها الأمير بصورة تكون يد الأمير
فيها هي العليا ويد الذمي هي السفلى، وحينذاك يصفعه الأمير على عنقه، ثم
يخرجه الشخص الواقف أمام الأمير في غلظة... وكانت العامة تدعى لمشاهدة هذا
المنظر - قال:



(1) المصدر ص 79 - 80.
(2) أهل الذمة في الإسلام ص 272.
36
" ولم أستطع أن استدل على المصدر الذي استقى منه الكتاب هذه
المعلومات) (1).
ومنهم فان فلوتن، (Van vloten)، وإليك بعض كلماته المرتبطة بمسألتنا:
(ولم تكن الضرائب التي فرضها عمر فادحة على ما ذهب إليه بعض
يجعل عليهم في أبدانهم شئ من المكارة ولكن يرفق بهم ".
المؤرخين. هذا إلى ما كانت تقوم به الحكومة العربية من بناء الطرق وحفر الترع
وتوطيد الأمن وما إلى ذلك، من ضروب الاصلاح) (2).
نعم لهذا المستشرق كلام في كيفية جباية الجزية، لا مستند له في الكتاب
والسنة، بل تشهد أمور عديدة على خلافه - قد عرفت جملة من تلك الشواهد
وتسمع بعضا آخر منها -. ومن الأسف أن السبب الوحيد لهذا الكلام ونحوه، هو
ما ذكره بعض العامة، وإليك كلام هذا المستشرق:
(وكانت الطريقة التي تجبى بها هذه الأموال مخجلة على ما ذكره الفقهاء، ففي
اليوم المحدد لجباية تلك الأموال كان يذهب المطالبون بها إلى ديوان الخراج
حيث يجلس عامل الخراج على أريكة عالية، ثم يتقدم إليه هؤلاء أذلاء
خاضعين، فيمد الواحد منهم يده التي يحمل فيها الضريبة فيدفعها بحيث تكون يد
عامل الخراج فوق يده، ثم يصفعه بعض الحاضرين صفعة يشيعه بها إلى الباب.
وكان عامة الشعب يحضرون تلك المناظر التي كانوا يعتبرونها رمزا لانتصار
المسلمين على الكفار. وأما من عجز عن تأدية الخراج فكان الجباة يسلكون معه
بعض وسائل التعذيب، من ذلك تعريضه للشمس المحرقة. ذلك التعذيب الذي كان
يضاعف أحيانا بصب الزيت على الشخص المعذب) (3).



(1) أهل الذمة في الإسلام ص 273. وأني لم أجد في كتاب الخراج لأبي يوسف هذه العبارة،
بل فيه ما يخالف ذلك. قال في ص 133:
" ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها، ولا
يجعل عليهم في أبدانهم شئ من المكارة ولكن يرفق بهم ".
(2) السيادة العربية ص 20.
(3) السيادة العربية ص 33 - 34.
37
وأنت تقف بأدنى تتبع في المصادر الإسلامية على أن هذه الأمور، لم تكن
مشروعة أصلا بل هي منهية بمقتضى ما يدل على منع إيذائهم وما يأمر الجباة
بالمداراة والرفق بهم، راجع لمزيد الاطلاع الفصل السابع والمبحث الخامس من
هذا الفصل.
نعم لا ننكر صدور بعض هذه المناكير في عصر بعض الحكام والعمال
الفاسدين المنسوبين للإسلام الجاهلين بأحكامه أو اللاعبين بها، وهي ليست
مدارك لأحكام الدين الحنيف وإن ذكرت في آثار بعض العامة اعتمادا على
صدورها منهم.
ومنهم (ول ديورانت)، قال:
(ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون،
يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد
المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا
بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي لون خاص وأداء
فرضة على كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير -
من 75 / 4 إلى 19 دولارا أمريكيا - ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير
المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور
الذين هم دون البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمى والشديد الفقر.
وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية... ولا
تفرض عليهم الزكاة، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم) (1).
وقال بعد ذكر جملة من تسامح المسلمين ورفقهم لأهل الذمة ما لفظه:
(بسبب هذه الخطة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع
الزردشتيين، والوثنيين إلا عددا قليلا جدا منهم، وكثيرون من اليهود في آسيا،



(1) قصة الحضارة ج 13 ص 130 - 131.
38
ومصر وشمال أفريقيا،... وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة
على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد
والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا
بأصوله اخلاصا واستمساكا أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ
الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة، من الصين،
وأندونيسيا، والهند، إلى فارس، والشام، وجزيرة العرب، ومصر وإلى مراكش، واندلس (1).
ومنهم دانيل دنيت Daniel Dennett، فإنه ذكر أولا ايرادات ژوليوس ولها -
وزن على نظام الجزية في الإسلام - وقد تقدم نقل الايرادات - ثم أجاب عنها بما
حاصله:
ذكر ولها وزن في بدء الأمر فرضية وأقام عليها شواهد ثم رد من دون دليل
شواهد أخرى، تخالف نظريته وزعمها مجعولة.
وأنت تعلم أن محققا إذا رد كل ما ذكر في مصدر وزعمه مجعولا، فهو شئ
يقبل التوجيه، وأما إذا التزم بصحة فقرات من عبارة ورد سائر فقراتها لعدم وفاقها
لفرضيته، فهو غير موجه. فإن ولها وزن قد نقل عبارة عن ابن عساكر في تأييد
قوله ولكن حذف أكثر تلك العبارة لكونه مباينا لنظريته.
ثم قال دفاعا عن مؤرخي المسلمين ما حاصله:
(لا ينتج أحد بعد التتبع في آثار مؤرخي المسلمين أنهم كانوا في صدد نقل
ما يوافق آرائهم وحذف غيره لوضوح أنهم ذكروا كثيرا من الحقائق مع الروايات
المعارضة لها).
وقال أيضا:
(الخراج والجزية كانا مترادفين، بمعنى مطلق الضريبة، ولم يكونا بمعنى



(1) المصدر، ص 133.
39
البأج، ومضافا إلى هذا المعنى العام كان لكل من هذين الاصطلاحين مفهوم
خاص: لفظ الخراج للضريبة الأرضية، والجزية للضريبة الرؤوسية (1).
هذا ذكر جملة من المستشرقين الذين تكلموا حول الجزية، مغرضيهم
ومنصفيهم، ولا يسع المقام زائدا على ذلك. وإن شئت التفصيل فراجع المصادر
التالية: (2)
1 - مارتن هارتمان
- Litteratur, orient alische (zur wirtschaftgeschichte des altesten lslam)
Zeitung
(برلن 1904 الرقم 2 الصفحة 414 - 465).
2 - ا. س. ترتون في:
The caliphs and their non muslim subjects (الخلفاء وأتباعهم غير المسلمين)
3 - (Institute, The kurrah papyri form Aphrodito in the oriental) (شيكاگو 1938. ص 67، 75، 76، 94، 95)
4 - مارتن اشپر نگلنيگ. 1939. 56. in AJsl s (From Persian to Arabic)
ص 175 - 224 و 325 - 336
5 - تقسيم الأراضي في فقه الإسلام والاصطلاحات المرتبطة به in Ajsl. Classification of land in the Islamic Law and its Technical Terms
. 62 - 50 ص s. 75. 1940
6 - كتاب (نيكولا اغنيدس) وعنوانه:



(1) جزية در إسلام ص 14 - 22.
(2) وقد ذكرها دانيل دنيت في كتابه (lslam, Converslon and the poll tax in Ealry) (جزية در إسلام).
40
(1916. Muhammaedan Theories of finance)
تفسير آية الجزية:
قال عز شأنه:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون (1).
وهذه الآية هو الأصل في تشريع الجزية في الإسلام، بمعنى امضائها، فاللازم
ذكر جملة مما يتعلق بتفسيرها لشدة ارتباطها بمسألتنا:
سبب نزولها:
روى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن
حبان عن مجاهد أن آية الجزية نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بحرب الروم فغزا
بعد نزولها غزوة تبوك (2).
ونقل السيوطي عن أبي هريرة ما حاصله: أنزل تعالى في العام الذي نبذ فيه
أبو بكر إلى المشركين يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس (3) فكان
المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون فلما حرم الله تعالى على
المشركين أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من
التجارة، التي كان المشركون يوافون بها، فأنزل الله تعالى وإن خفتم عيلة فسوف
يغنيكم الله من فضله إن شاء فأجل في الآية الأخرى التي تتبعها الجزية ولم
تكن تؤخذ قبل ذلك فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم
فقال: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية، فلما أحق الله ذلك
للمسلمين عرفوا أنه قد عاوضهم أفضل ما كانوا وجدوا عليه مما كان المشركون



(1) التوبة / 29.
(2) المنار ج 10 ص 332.
(3) التوبة / 28.
41
يوافون به من التجارة (1).
وقد ذكر في تفسيري ابن العربي والقرطبي أيضا نظير ذلك (2).
وظاهر ذلك أنت السبب في تشريع الجزية هو الغرض الاقتصادي والغاية
المالية بنيل المسلمين إلى مال يكافئ منفعة التجارة مع المشركين. وقد عرفت
ظهور الأدلة في خلاف ذلك، وأن ما يصل بدفع الجزية إلى الذميين من المنافع أكثر
مما يصل به إلى المسلمين.
ومما يضعفه أيضا أن قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس،
نزل في سنة تسع من الهجرة، مع أن الجزية كانت تؤخذ من بعضهم قبل ذلك.
فقد ذكر ابن الأثير من وقائع سنة سبع، أن المنذر بن ساوى والي البحرين لما
أتاه العلا بن الحضرمي يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، وكانت
ولاية البحرين للفرس، فأسلم المنذر بن ساوى وأسلم جميع العرب بالبحرين (3).
قوله تعالى: الذين أوتوا الكتاب، هم اليهود والنصارى على ما يتبادر من
اللفظ ويستفاد من آيات كثيرة أخرى. وكذا المجوس، على ما يشعر به قوله
سبحانه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين
أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد (4) حيث ذكروا
مع اليهود والنصارى في قبال المشركين. ويأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني إن
شاء الله.
ثم إن هنا مسألة مهمة، وهي أنهم كيف لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر - على
ما نطقت به هذه الآية - مع أنه تعالى يعدهم في غير واحد من الآيات أهل الكتاب،
وما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عنده سبحانه على رسول من رسله ولازم



(1) الدر المنثور ج 3 ص 247.
(2) أحكام القرآن ج 2 ص 912، الجامع لأحكام القرآن ج 8 ص 109 - 110.
(3) الكامل في التاريخ ج 2 ص 285.
(4) الحج / 17.
42
ذلك كونهم قائلين بالألوهية وكذا ينسب إليهم الاعتقاد باليوم الآخر في مثل
قوله: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة (1) ومثل قوله: وقالوا لن يدخل
الجنة إلا من كان هودا أو نصارى (2)؟
وقد أجاب المفسرون عنها بوجوه، نذكر أهمها:
قال الطبرسي: (هذا يدل على صحة ما يذهب أصحابنا إليه من أنه لا يجوز أن كون في جملة الكفار من هو عارف بالله وأن ذلك اعتقادا ليس بعلم لأنه صريح في أن أهل
لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) (3).
وقال الرازي ما حاصله: أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبهة يزعم أن
لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا
فيه، فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود، ليس بجسم ولا حال في
جسم، فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله، فثبت أن اليهود منكرون لوجود
الإله.
وأما كونهم غير المؤمنين باليوم الآخر، فلأن المنقول عن اليهود والنصارى،
انكار البعث الجسماني، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني، ولا شك أن من أنكر
الحشر والبعث الجسماني، فقد أنكر صريح القرآن ولما كان اليهود والنصارى
منكرين لهذا المعنى، فثبت كونهم منكرين لليوم الآخر (4).
واعترض عليه صاحب المنار بقوله: (وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس
فيه شئ من التحقيق، ولا من العلم الصحيح، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على
اصطلاحات جماعة الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة، فالجسم في اللغة هي
الشئ الجسيم الضخم، وقال ابن دريد: (هو كل شخص مدرك) وقال أبو زيد:



(1) البقرة / 80.
(2) البقرة / 111.
(3) مجمع البيان ج 5 ص 21.
(4) التفسير الكبير ج 16 ص 28 - 29.
43
الجسم الجسد وفي التهذيب ما يوافقه. قال: (الجسم مجمع البدن وأعضاؤه من
الناس والإبل والدواب ونحو ذلك مما عظم من الخلق الجسيم)
واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشئ من هذه المعاني. وتعريفه للجسم بما
ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا، والإله في اللغة المعبود، واليهود لا تنكر وجود
المعبود، والله هو الرب الخالق لكل شئ، واليهود يثبتون هذا...) (1).
وقد أجاب العلامة الطباطبائي قدس سره عنها بجواب متين يبتني على طريقته في
التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهاك نص عبارته: (إنه تعالى لم يفرق في
كلامه بين الايمان به والايمان باليوم الآخر فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله والكفر
بالله كفر بالأمرين جميعا، وحكم فيمن فرق بين الله ورسله، فآمن ببعض دون
بعض، إنه كافر كما قال: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا (2).
فعد أهل الكتاب ممن لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله كفارا حقا وإن كان عندهم
ايمان بالله واليوم الأخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله وهي آية النبوة بل
بلسان أنهم كفروا بالايمان بالله، فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، كما أن المشركين
أرباب الأصنام، كافرون بالله إذ لم يوحدوه وإن أثبتوا إلها فوق الآلهة.
على أنهم يقررون أمر المبدء والمعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بأن
المسيح ابن الله وعزيرا ابن الله، يضاهؤون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب
الأصنام والأوثان: أن من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله. وقول اليهود في المعاد
بالكرامة وقول النصارى بالتفدية.
فالظاهر أن نفي الايمان بالله واليوم الآخر عن أهل الكتاب إنما هو لكونهم لا
يرون ما هو الحق من أمر التوحيد والمعاد وإن أثبتوا أصل القول بالألوهية. لا لأن



(1) المنار ج 10 ص 334 - 335.
(2) النساء / 151.
44
منهم من ينكر القول بألوهية الله سبحانه، أو ينكر المعاد، فإنهم قائلون بذلك، على
ما يحكيه عنهم القرآن، وإن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد
أصلا) (1).
قوله تعالى: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فيه وجوه:
الأول: أنهم لا يحرمون ما حرمه الإسلام.
الثاني: أنهم لا يحرمون ما حرمه نبيهم، موسى وعيسى عليهما السلام.
الثالث: هم لا يحرمون ما حرم في الإسلام وفي شريعتهم.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره: (وذلك كقول اليهود بإباحة أشياء عدها وذكرها
لهم القرآن في سورتي البقرة والنساء وغيرهما وقول النصارى بإباحة الخمر ولحم
الخنزير، وقد ثبت تحريمهما في شرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وأكلهم أموال
الناس بالباطل، كما سينسبه إليهم في الآية الآتية: إن كثيرا من الأحبار والرهبان
ليأكلون أموال الناس بالباطل (2) (3).
والمراد بالرسول في قوله: ما حرم الله ورسوله، أما رسول أنفسهم، الذي
قالوا بنبوته كموسى عليه السلام بالنسبة إلى اليهود، وعيسى عليه السلام بالنسبة ا
لي النصارى،
فالمعنى: لا يحرم كل أمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا بنبوته، واعترفوا
بحقانيته، وفي ذلك نهاية التجري على الله ورسوله واللعب بالحق والحقيقة.
وأما النبي محمد صلى الله عليه وآله الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل،
يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أمرهم والأغلال التي كانت
عليهم (4).
قوله سبحانه: (ولا يدينون دين الحق)، قيل: الحق هاهنا هو الله تعالى: أي



(1) الميزان ج 9 ص 238 - 239.
(2) التوبة / 35.
(3) الميزان ج 9 ص 239.
(4) المصدر.
45
دين الله والعمل بما في التوراة من اتباع نبينا عليه السلام، وقيل: الحق هو الله
ودينه
الإسلام، وقيل: معناه: أنهم لا يعترفون بالإسلام الذي هو الدين الحق (1)
قوله عز شأنه: حتى يعطوا الجزية عن يد، من المحتمل أن يكون معناه:
نقدا من يد، إلى من يدفعه إليه من غير نائب كما يقال: كلمته فما بفم.
وقيل: معناه، عن قدرة لكم عليهم وقهر لهم، كما يقال: كان اليد لفلان (2).
وفي الكشاف ما نصه: (قوله: (عن يد) إما أن يراد به يد المعطي أو يد الأخذ،
فإن كان المراد به المعطي، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد، عن يد مؤاتية
غير ممتنعة، لأن من أبى وامتنع لم يعط يد، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك يقال:
أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع
ربقة الطاعة من عنقه.
ثانيهما، أن يكون المراد، حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولا
مبعوثا عن يد أحد، بل على يد المعطي إلى يد الأخذ.
وأما إذا كان المراد يد الأخذ، ففيه أيضا وجهان:
الأول: أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين
عليهم كما تقول: اليد في هذا لفلان.
وثانيهما: أن يكون المراد عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك
أرواحهم عليهم نعمة عظيمة) (3).
وأما قوله تعالى: (وهم صاغرون)، فقد تشتت فيه أقوال المفسرين، بعضها
خال عن أي شاهد ودليل، وإن جعل - مع الأسف - معتمد بعضهم في بيان وجه
تشريع الجزية ومستمسك بعض المستشرقين في تبيين نظام الجزية برأيهم
الفاسد. فيجب تبيين المراد من هذه الجملة.



(1) مجمع البيان ج 5 ص 22.
(2) مجمع البيان ج 5 ص 22.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 262.
46
قال في كنز العرفان: (وهم صاغرون)، من الصغار وهو الذلة، والواو للحال
أي يعطونها حال ذلتهم. وقيل: هو - أي الصغار - أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلته،
وقيل: إن يجئ ماشيا ويسلمها وهو قائم والأخذ جالس، ويقال له: أد الجزية
وأنت صاغر، ويصفع على قفاه صفعة) (1).
أقول: صفعه أي ضرب قفاه أو بدنه بكفه مبسوطة.
وعن الشافعي: هو - يعني الصغار - تطأطؤ الرأس عند التسليم، فيأخذ
المستوفي بلحيته ويضرب في لهازمه (2).
أقول: اللهازم: جمع اللهزمة وهو عظم ناتئ في اللحى تحت الأذن.
وفي (الدر المنثور): (أخرج ابن أبي حاتم عن المغيرة أنه بعث إلى رستم،
فقال له رستم: إلى م (إلى ما) تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت،
فلك مالنا وعليك ما علينا، قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد وأنت
صاغر، فقال لترجمانه: قال له أما اعطاء الجزية، فقد عرفتها، فما قولك: وأنت
صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس، والسوط على رأسك) (3).
وقال ابن مفتاح - من علماء الزيدية - في شرح الأزهار: (ومن المشروع
تصغير الذمي عند أخذ الجزية، فيجلس آخذها متربعا كتربع الملك ويقوم الذي
بين يديه، ولا ينظر إليه الأخذ بكل عينيه، قابضا لها بيساره، يضعها على الأرض
ثم يقول له انصرف جاعلا ليمينه على حلقه عند أخذ الجزية، والذمي مطأطئ
على هيأة الراكع فإذا صبها دفعه بيده اليسرى في خلفه) (4).
وفي تفسير الكشاف في ذيل الآية الشريفة: (تؤخذ منهم على الصغار والذل،
وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، وأن



(1) كنز العرفان ج 1 ص 363.
(2) الجواهر ج 21 ص 248.
(3) الدر المنثور ج 3 ص 247.
(4) شرح الأزهار ج 1 ص 576.
47
يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له: أد الجزية، وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه) (1).
وقال الرازي: (لا بد معه - يعني مع دفع الجزية - من الحاق الذل والصغار
للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار، فإذا أمهل الكافر
مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ويشاهد الذل والصغار في
الكفر، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام، فهذا هو المقصود من
شرع الجزية) (2).
أقول: هذه الهيئات المذكورة في كيفية أخذ الجزية، تخالف التعاليم القرآنية
والسكينة الإسلامية، وتباين ما يدعونا إلى رعاية حال الذميين، بنحو العموم أو في
خصوص أخذ الجزية.
ومن الأول، قوله سبحانه: لا ينهيكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين
ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (3).
ومن الواضح أن البر والقسط ينافيان هذه الأعمال الخشنة.
وفي كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة
لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ
لك في الدين أو نظير لك في الخلق) (4).
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قام لجنازة يهودي، فقيل له: إنها جنازة يهودي،
فقال: (أليست نفسا) (5).
فهذا مسلك الإسلام ومنهجه في الكفار الذين يعيشون تحت لوائه وذمته حتى
بالنسبة إلى جنائزهم، فكيف يرضى بايذائهم واهانتهم بهذه الأمور الخشنة؟!



(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 184 وفي ط أخرى ج 2 ص 263.
(2) التفسير الكبير ج 16 ص 32.
(3) الممتحنة / 7.
(4) نهج البلاغة، / فيض، ص 993، صبحي ص 427، الكتاب 53.
(5) صحيح البخاري، ج 1 ص 228.
48
ولقد أجاد بعض المحققين حيث قال: (إن الهيئات المذكورة في كلماتهم لا
تناسب ثقافة الإسلام، وما نعرفه من سيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الهداة عليهم السلام ويشبه
أن تكون متخذة من سيرة الأمويين وعمالهم، حيث كانوا يعاملون غير العرب بل
من لم يكن من قومهم، معاملة خشنة، والاسلام برئ من هذه الأعمال الخشنة
ومن المميزات الطائفية والعنصرية) (1).
ومن الثاني، ما يأمرنا بعفوهم، والرفق بهم عند جباية الجزية، وقد ذكرنا بعضا
من ذلك وتأتي جملة أخرى منها في الفصل السابع.
ولعمري أن ما ذكره أمثال ابن مفتاح من الهيئات خال عن أي شاهد ودليل.
فأما صغارهم، فيحتمل أن يكون المراد منه، التزام الجزية على ما يحكم به
الإمام، من غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم، وهو مختار شيخ
الطائفة قدس سره (2).
ويؤيده، بل يدل عليه في الجملة صحيح زرارة عن الصادق عليه السلام: أن الله
عز وجل يقول: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فللإمام أن يأخذهم بما
لا يطيقون حتى يسلموا، وإلا فكيف يكون صاغرا وهو لا يكترث لما يؤخذ منه،
فيألم لذلك فيسلم (3).
قال الشيخ في الخلاف: (الصغار المذكور في آية الجزية هو التزام الجزية
على ما يحكم به الإمام من غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم. - إلى أن
قال: - دليلنا اجماع الفرقة على أن الصغار هو أن لا يقدر الجزية فيوطن نفسه
عليها، بل تكون بحسب ما يراه الإمام مما يكون معه صاغرا) (4).
وفي الجواهر: (أن المشهور في تعريفه، التزام الجزية بما يراه الإمام عليه السلام من



(1) دراسات في ولاية الفقيه، ج 3 ص 470.
(2) المبسوط ج 2 ص 38.
(3) المقنعة ص 272.
(4) الخلاف ج 2 ص 510.
49
غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم) (1).
وقال الشافعي في الأم: (سمعت عددا من أهل العلم يقولون: الصغار أن
يجري عليهم حكم الإسلام، وما أشبه ما قالوا بما قالوا، لامتناعهم من الإسلام،
فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه) (2).
هذا، ولكن المحكي عن الإسكافي، أن الصغار، هو أن يشترط عليهم وقت
العقد جريان أحكام المسلمين عليهم في الخصومات بينهم إذا تحاكموا إلينا، وفي
الخصومات بينهم وبين المسلمين، وأن تؤخذ منهم وهم قيام (3).
وقال العلامة: (اختلف في الصغار، فقال ابن الجنيد: عندي أنه مشروطا عليهم
في وقت العقد أن يكون أحكام المسلمين جارية عليهم إذا كانت الخصومات بين
المسلمين وبينهم، أو تحاكموا إلينا في خصوماتهم، وأن يؤخذ منهم قيام وهم على
الأرض) (4).
وقال ابن حزم: (والصغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم وأن لا يظهروا
شيئا من كفرهم ولا مما يحرم في دين الإسلام) (5).
أقول: التحقيق أن (الصغر)، يقابل (الكبر) (6) والصاغر يطلق على من يعترف
بالخضوع ويرضى بالصغر، ولعله لما كان في كثير من الموارد توأما مع نوع من
الذلة، صار ذلك سببا لتفسير أهل اللغة هذا اللفظ ب‍ (من يرضى بالذلة).
مع أن الذلة خارج عن المفهوم الأصيل للصاغر، وإنما هو من الخصوصيات
المنضمة إلى هذا المفهوم بمناسبة الموارد والمجالات، ومن البديهي أن التزام أهل
الذمة بجريان أحكام المسلمين عليهم حسب ما ينعقد بينهم وبين المسلمين من
عقد الجزية، الضامنة لمصالح الطرفين، لم يكن مستلزما للذلة البتة.



(1) الجواهر ج 21 ص 247.
(2) الأم ج 4 ص 99.
(3) الجواهر ج 21 ص 247.
(4) تحرير الأحكام ج 1 ص 150.
(5) المحلى ج 7 ص 346.
(6) أنظر صحاح اللغة ولسان العرب مادة (صغر).
50
والحاصل: أن (الصغر) في مقابل (الكبر)، لا في مقابل (العزة) حتى يكون
معناه (الذلة).
ويؤيد ما ذكرنا، استعمال لفظ (الصغار) في بعض الآيات خاليا عن معنى
الذلة والخفة، فهذه قوله - تعالى - في قضية سليمان عليه السلام ارجع إليهم فلنأتينهم
بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (1) حيث فكك بين الذلة
والصغار، وهي قرينة على عدم كون الذلة مأخوذة في معنى الصغار، وأن يتقارنا
أحيانا، كما في مورد هذه الآية.
ولعله لما ذكرنا قال العلامة الطباطبائي قدس سره ما حاصله:
يكون المراد بصغارهم، خضوعهم للسنة الإسلامية، والحكومة الدينية العادلة
في المجتمع الإسلامي، بأن لا يكافئوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلة
حرة في بث ما تهواه أنفسهم من العقائد والأعمال المفسدة للمجتمع الانساني،
فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا اهانتهم والسخرية بهم من جانب
المسلمين، أو أولياء الحكومة الدينية، فإن هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار
الإسلامي، وإن ذكره بعض المفسرين (2).
فالحاصل أن المراد من الصغار، ليس اذلال أهل الذمة واهانتهم، وايذائهم
عند جباية الجزية، بل المقصود منه إما التزامهم بجريان أحكام الإسلام عليهم أو
ذلك مع التزام الجزية على ما يحكم الإمام من غير أن تكون مقدرة، أو ما أشبه ذلك
مما تؤيده سيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ويناسبه الوقار الإسلامي.
هذا تمام الكلام في تفسير آية الجزية، وللمفسرين تفصيلات أخرى حول
الآية، تركناها حذرا من التطويل.



(1) النمل / 37.
(2) الميزان ج 9 ص 242.
51
الفصل الثاني
في من تؤخذ منه الجزية
اليهود والنصارى:
أجمع فقهاء الإسلام، شيعيهم وسنيهم، على قبول الجزية من أهل الكتاب
والمتقين منه اليهود والنصارى، بل في الجواهر:
(لعله - أخذ الجزية من هؤلاء - من ضروريات المذهب أو الدين) (1).
قال الشيخ في المبسوط: (الكفار على ثلاثة أضرب: أهل الكتاب، وهم
اليهود والنصارى، فهؤلاء يجوز اقرارهم على دينهم ببذل الجزية) (2).
وقال أيضا: (والكفار على ضربين: ضرب يجوز أن تؤخذ منهم الجزية،
والآخر لا يجوز ذلك، فالأول هم الثلاثة الأصناف: اليهود والنصارى
والمجوس...) (3).
وقال المفيد: (والواجب عليه الجزية من الكفار ثلاثة أصناف: اليهود على
اختلافهم، والنصارى على اختلافهم، والمجوس على اختلافهم) (4).



(1) الجواهر ج 21 ص 227.
(2) المبسوط ج 2 ص 9.
(3) المبسوط ج 2 ص 36.
(4) المقنعة ص 270.
52
وقال المحقق في الشرائع: (تؤخذ ممن يقر على دينه وهم اليهود والنصارى
ومن لهم شبهة كتاب وهم المجوس....) (1).
وقال ابن إدريس: (الكفار على ثلاثة أضرب: أهل الكتاب، وهم اليهود
والنصارى فهؤلاء يجوز اقرارهم على دينهم ببذل الجزية...) (2).
وقال الماوردي: (وتؤخذ الجزية ممن له كتاب أو شبهة كتاب، أما أهل
الكتاب فهم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل...) (3).
وقال ابن حزم - من علماء الظاهرية -: (ولا يقبل من كافر إلا الإسلام، أو
السيف، الرجال والنساء في ذلك سواء، حاشا أهل الكتاب خاصة، وهم اليهود
والنصارى والمجوس فقط، فإنهم إن أعطوا الجزية أقروا على ذلك) (4).
أقول: يأتي في محله أن المشهور بين فقهاء الفريقين عدم الجزية على النساء،
والقول بالجواز شاذ، لا يعتني به.
وقال في المغني: (إن الذين تقبل منهم الجزية صنفان:
أهل كتاب ومن له شبهة كتاب، فأهل الكتاب: اليهود والنصارى ومن دان
بدينهم، كالسامرة يدينون بالتوراة، ويعملون بشريعة موسى عليه السلام، وإنما خالفوهم
في فروع دينهم، وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنجة،
والروم والأرمن، وغيرهم ممن دان بالإنجيل، وانتسب إلى عيسى عليه السلام والعمل
بشريعته، فكلهم من أهل الإنجيل، ومن عدا هؤلاء من الكفار، فليس من أهل
الكتاب) (5).
وقال أيضا: (إن أخذ الجزية من أهل الكتاب، والمجوس ثابت بالاجماع، لا
نعلم في هذا خلافا، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على ذلك، وعمل به
الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى زمننا هذا، من غير نكير ولا مخالف، وبه يقول



(1) الشرائع ج 1 ص 327.
(2) السرائر ج 2 ص 6.
(3) الأحكام السلطانية ص 153.
(4) المحلى ج 7 ص 345.
(5) المغني ج 10 ص 558.
53
أهل العلم من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم) (1).
ثم إن الحكم - جواز أخذ الجزية من اليهود والنصارى حسب عقد الذمة -
وإن كان اجماعيا عند فقهاء الإسلام، كما عرفت، إلا أن جواز أخذ مال الغير لما
كان خلاف الأصل، ومشروعيته يحتاج إلى دليل. فنقول:
يدل عليه قبل الاجماع قوله سبحانه:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون (2).
فقد عرفت عند تفسير الآية أن المنساق والقدر المتيقن من قوله عز شأنه
الذين أوتوا الكتاب، اليهود والنصارى، ويدل عليه أيضا غير واحد من
الروايات.
منها: حديث حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام: قال الله تعالى: وقولوا
للناس حسنا (3)، نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله عز وجل:
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله)
الآية فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية ومالهم
فئ وذراريهم سبى وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم، حرم علينا سبيهم، وحرمت
أموالهم. الحديث (4).
ومنها: ما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل
الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا، ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا



(1) المغني ج 10 ص 560.
(2) التوبة / 29.
(3) البقرة / 83.
(4) وسائل الشيعة ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 5 الحديث 2، ص 16.
54
الأخوات. الحديث (1).
ومنها: ما رواه أبو بصير وإسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: إن رسول
الله صلى الله عليه وآله أعطى أناسا من أهل نجران الذمة على سبعين بردا، ولم يجعل لأحد
غيرهم (2).
وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد:
كتب النبي صلى الله عليه وآله إلى أهل اليمن:
(من محمد رسول الله إلى أهل اليمن - برسالة فيها - (وأنه من أسلم من
يهودي أو نصراني، فإنه من المؤمنين له مالهم وعليه ما عليهم، ومن كان على
يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يفتن عنها (3) وعليه الجزية) (4).
حكم المجوس:
المشهور بين الفقهاء - شهرة كادت تكون إجماعا - قبول الجزية من المجوس.
قال الشيخ في المبسوط: (الكفار على ثلاثة أضرب: أهل الكتاب، - إلى أن
قال: - ومن له شبهة كتاب، فهم المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب يقرون على
دينهم ببذل الجزية) (5).
وقال في الخلاف: (المجوس كان لهم كتاب، ثم رفع عنهم وهو أصح قولي
الشافعي وله قول آخر، أنه لم يكن لهم كتاب وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم، وروا عن علي عليه السلام أنه قال: كان لهم كتاب
أحرقوه ونبي قتلوه فثبت أنهم أهل الكتاب) (6).
وفي الغنية: (ومن له كتاب - وهم اليهود والنصارى والمجوس - يكف عن



(1) تهذيب الأحكام ج 6 ص 158.
(2) وسائل الشيعة ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 48 الحديث 2 ص 95.
(3) فتن عن دينه أي مد عنه.
(4) الأموال ص 16.
(5) المبسوط ج 2 ص 9.
(6) الخلاف ج 2 ص 509.
55
قتالهم إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت شروطها) (1).
وفي المنتهى: (وتعقد الجزية لكل كتابي بالغ عاقل، ونعني بالكتاب، من له
كتاب حقيقة، وهم اليهود والنصارى، ومن له شبهة كتاب، وهم المجوس، فتؤخذ
الجزية من هؤلاء الأصناف الثلاثة بلا خلاف بين علماء الإسلام في ذلك في قديم
الوقت وحديثه، فإن الصحابة أجمعوا على ذلك، وعمل به الفقهاء القدماء، ومن
بعدهم إلى زمننا هذا من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم من أهل
الأصقاع في جميع الأزمان) (2).
وقال صاحب الجواهر بعد عبارة المصنف - تؤخذ الجزية ممن يقر على دينه
وهم اليهود والنصارى ومن لهم شبهة كتاب وهم المجوس -: (بلا خلاف أجده
فيه) (3).
وقال الماوردي: (وتؤخذ الجزية ممن له كتاب أو شبهة كتاب... وأما من له
شبهة كتاب، فهم المجوس، يجرون مجرى أهل الكتاب في أخذ الجزية، وإن حرم
أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم) (4).
وفي المغني لابن قدامة: (إن الذين تقبل منهم الجزية صنفان: أهل كتاب ومن
له شبهة كتاب - ومراده من الصنف الأخير، المجوس -) (5).
وفيه أيضا: (إن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس، ثابت بالاجماع، لا
نعلم في هذا خلافا) (6).
وقال ابن القيم الجوزية: (أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب
ومن المجوس، وكان عمر بن الخطاب قد توقف في أخذ الجزية من المجوس،
حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذها من مجوس هجر " (7).



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153.
(2) المنتهى ج 2 ص 959.
(3) الجواهر ج 21 ص 228.
(4) الأحكام السلطانية ص 153.
(5) المغني ج 10 ص 558.
(6) المصدر ص 560.
(7) أحكام أهل الذمة ج 1 ص 1.
56
أقول: يمكن استفادة الحكم أولا من الكتاب، من قوله عز وجل: إن الذين
آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل
بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ قدير (1).
حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين أشركوا،
وإذا ثبت كونهم أهل الكتاب، نحكم بقبولها منهم بمقتضى آية الجزية، التي علق
الحكم فيها على عنوان (الذين أوتوا الكتاب) فتأمل.
وثانيا من غير واحد من أخبار الخاصة والعامة.
منها: ما رواه الكليني بإسناده عن أبي يحيى، عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو
عبد الله عليه السلام عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول
الله إن
أهل مكة: أسلموا وإلا نابذتكم بحرب، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله أن خذ منا الجزية
ودعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله إني لست آخذ الجزية إلا من
أهل الكتاب. فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا
من أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله ا
ألف جلد ثور (2).
ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي يحيى الواسطي، قال: سئل أبو
عبد الله عليه السلام عن المجوس، فقال: كان لهم نبي قتلوه وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم
بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور، وكان يقال له (جاماست) (3).
ومنها: ما رواه الصدوق. قال: (المجوس تؤخذ منهم الجزية، لأن النبي صلى الله عليه وآله
قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه " داماست " فقتلوه، وكتاب



(1) الحج / 7.
(2) الوسائل ج 11 ص 96 أبواب جهاد العدو الباب 49 الحديث 1.
(3) المصدر. الحديث 3.
57
يقال له: (جاماست) كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه) (1).
وقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يدل على عدم كونهم أهل الكتاب، وإنما
ألحقوا بهم في هذا الحكم. وقال في الجواهر:
(ولعل التعبير بشبهة الكتاب لعدم تحقق ما في أيديهم الآن من الكتاب بعد ما
سمعت من النصوص أنهم أحرقوه أو رفع من بين أظهرهم، كالعلم الذي كان
عندهم، وربما كان في قوله صلى الله عليه وآله سنوا بهم سنة أهل الكتاب، اشعار بذلك) (2).
ومنها: ما رواه الحسن بن محمد الطوسي في مجالسه بإسناده عن أصبغ بن
نباتة، إن عليا عليه السلام قال على المنبر:
سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث فقال: يا أمير المؤمنين! كيف
تؤخذ الجزية من المجوس، ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي؟ فقال: بلى
يا أشعث، قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم نبيا. الحديث (3).
ومنها: ما رواه أيضا في المجالس بإسناده عن علي بن دعبل عن علي ابن
موسى الرضا عليهما السلام عن أبيه عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال " سنوا بهم سنة أهل الكتاب يعني المجوس " (4)
وفي دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: (المجوس أهل الكتاب، إلا أنه
اندرس أمرهم - وذكر قصتهم فقال: - يؤخذ الجزية منهم (5).
ومن طريق العامة ما رواه الشافعي باسناده: (أن فروة بن نوفل الأشجعي قال:
علي ما تؤخذ الجزية من المجوس، وليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستورد فأخذ
بلببه فقال: يا عدو الله! تطعن على أبي بكر وعمر وعلى أمير المؤمنين يعني عليا



(1) الوسائل الجزء 11 ص 97 أبواب جهاد العدو الباب 49 الحديث 5.
(2) الجواهر الجزء 21، ص 230.
(3) الوسائل الجزء 11 ص 98 أبواب جهاد العدو الباب 49 الحديث 7.
(4) المصدر. الحديث 9.
(5) مستدرك الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو ب 42 ص 101.
58
وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي رضي الله عنه عليهما. وقال البدا
فجلسا في ظل القصر. فقال علي رضي الله عنه: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم
يعلمونه وكتاب يدرسونه، وأن ملكهم سكر، فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه
بعض أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد. فامتنع منهم، فدعا أهل
مملكته فلما أتوه قال: تعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد كان ينكح بنيه من بناته
وأنا على دين آدم، ما يرغب بكم عن دينه قال فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم
حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم
الذي في صدورهم فهم أهل كتاب. وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر و
عمر منهم
الجزية) (1).
وروى ابن عبيدة: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد
الرحمن بن عوف إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذها من مجوس هجر (2).
وروى الشافعي بسنده عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ
الجزية من مجوس البحرين، وإن عثمان بن عفان أخذها من البربر (3).
وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد: عن الحسن بن محمد قال: كتب
رسول الله صلى الله عليه وآله إلى مجوس هجر، يدعوهم إلى الإسلام، فمن أسلم قبل منه،
ومن
لا، ضربت عليه الجزية... (4).
وفيه أيضا عن عروة بن الزبير قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المنذر بن
ساوى: (سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد ذلك فإن من
صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة
الرسول. فمن أحب ذلك من المجوس، فإنه آمن، ومن أبى فإن الجزية عليه " (5).



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 188 - 189.
(2) المصدر.
(3) المصدر ص 190.
(4) الأموال ص 21.
(5) الأموال ص 16.
59
فتبين من جميع ذلك أن قبول الجزية من المجوس مما لا شبهة فيه وهو
اتفاقي بين الفقهاء العامة والخاصة.
ومع ذلك كله، فقد حكى عن العماني الحاق المجوس بعبدة الأوثان وغيرهم
الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام (1) ولم اظفر على وجهه.
وهذا غير مسموع بعد ما عرفت من الاجماع وتظافر النصوص على خلافه.
حكم من تهود أو تنصر أو تمجس بعد ظهور الإسلام:
قد تبين أن قبول الجزية من اليهود والنصارى محل وفاق بين فقهاء الفريقين.
وحينئذ يقع الكلام في شمول الحكم لمن تهود أو تنصر أو تمجس بعد ظهور
الإسلام. وليفرض الكلام تارة فيما إذا انتقل أحد من تابعي هذه الفرق الثلاث إلى
فرقة أخرى منها، كما إذا صار يهودي نصرانيا أو العكس. وأخرى فيما إذا انتقل
أحد من سائر الكفار إلى إحدى هذه الفرق، كما إذا صار وثني يهوديا أو نصرانيا.
ويمكن فرض شق ثالث، وهو ما إذا دخل مسلم في دين هؤلاء ولكنه خارج
عن محل الكلام، لأن البحث مركز على مسائل الجزية، والمتكفل لهذا الفرض،
باب الارتداد من كتاب الحدود.
إما الفرض الأول: ففيه قولان: الأول: القول بعدم الاقرار عليه وعدم قبول
الجزية منه (2) أخذا بقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه (3). وبعموم قوله صلى الله عليه وآله: (من بدل دينه فاقتلوه) (4).
قال الشيخ: (أما من كان عبدة الأوثان فدخل في دينهم فلا يخلو أن يدخل
في دينهم قبل نسخ شرعهم أو بعده، فإن كان قبل نسخ شرعهم أقروا عليه، وإن كان
بعد نسخ شرعهم لم يقروا عليه لقوله عليه السلام " من بدل دينه فاقتلوه " وهذا عام إلا من



(1) الجواهر ج 21 ص 228.
(2) المبسوط ج 3 ص 241.
(3) آل عمران / 85.
(4) مستدرك الوسائل ج 3 ص 242 ب 1 من أبواب حد المرتد ح 2.
60
خصه الدليل " (1).
وقال العلامة: (ولو دخل في دينهم بعد النسخ، فلم يقبل منهم إلا الإسلام ولا
تؤخذ منهم الجزية، عند علمائنا لقوله عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه) ولأنه ابتغى
دينا غير الإسلام فلا يقبل منه، لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه) (2).
وقال في الجواهر - بعد دعوى مفروغية عدم قبول الجزية ممن تهود أو تنصر
بعد ظهور الإسلام، وحكاية الاجماع عن المنتهى والتذكرة على ذلك ما حاصله:
لعل قولهم: (أنه لا يقبل من غير الفرق الثلاثة إلا الإسلام أو القتل) شاهد
على ذلك، ضرورة أنه لو لم يكن كذلك، لقبل منهم الدخول في اليهودية مثلا مع
أداء الجزية، بل خبر الأسياف (3) كالصريح في ذلك (4).
القول الثاني: القول بالاقرار عليه وقبول الجزية منه تمسكا بأن الكفر كالملة
الواحدة، بدلالة أنه يرث بعضهم من بعض وإن اختلفوا (5).
وبأن ظاهر الآيات والروايات. التي علق الحكم فيها على عنوان أهل الكتاب
أو اليهود والنصارى والمجوس كون القضايا على نحو القضايا الحقيقية، لا القضايا
الخارجية وكون الملاك هو الانتحال إلى الأديان الثلاثة لا النسب، فيراد
بالنصارى مثلا المنتحلون إلى النصرانية ولو بتبديل دينهم إليها في الأعصار
اللاحقة كسائر الموضوعات في الأحكام الشرعية وكون الحكم مقصورا على
السابقين وأولادهم خلاف الظاهر.
وأن قوله صلى الله عليه وآله: (من بدل دينه فاقتلوه. ينصرف إلى المسلم إذا بدل دينه
وارتد، فلا يشمل الكافر إذا بدل كفره إلى كفر آخر، كما لا يشمل الكافر إذا بدل
دينه إلى الإسلام وإلا لانتقض عمومها بالذمي الأصيل، أو يراد بالآية عدم القبول



(1) المبسوط ج 2 ص 36.
(2) تذكرة الفقهاء، كتاب الجهاد.
(3) الوسائل ج 11 ب 5 من أبواب جهاد العدو ح 2.
(4) الجواهر ج 21 ص 315.
(5) الخلاف ج 3 ص 241.
61
في الآخرة ويكون ذيلها أعني قوله: وهو في الآخرة من الخاسرين مفسرا
للصدر (1).
أقول: لا اشكال في أن العناوين التي علقت أحكام أهل الذمة عليها
نحو (الذين أوتوا الكتاب) و (أهل الكتاب) غير قاصرة - لاطلاقها - عن شمول
من تهود أو تنصر بعد نسخ دينهم بالإسلام، فيصح الأخذ بهذا الاطلاق ما لم يقم
دليل على خلافه وهو بعد لم يثبت، لما عرفت آنفا بالنسبة إلى النبوي والآية.
وما في التذكرة والمنتهى من نسبة خلاف ذلك إلى علمائنا مشعرا بالاجماع
عليه، لا يصلح مانعا عما ذكرنا بعد ذهاب الشيخ قدس سره إلى ذلك بل نسبته إلى ظاهر
المذهب.
قال في المبسوط: (من كان مقيما على دين ببذل الجزية فدخل في غير دينه
وانتقل إليه لم يخل إما أن ينتقل إلى دين يقر أهله عليه ببذل الجزية، أو دين لا يقر
عليه أهله، فإن انتقل إلى دين يقر عليه أهله كاليهودي إلى النصرانية أو المجوسية،
فظاهر المذهب يقتضي أنه يجوز أن يقر عليه لأن الكفر عندنا كالملة الواحدة) (1).
ولا شهادة في قولهم: (أنه لا يقبل من غير الفرق الثلاثة إلا الإسلام) على
مقالة صاحب الجواهر ضرورة كون من تهود أو تنصر أو تمجس، من الفرق الثلاثة
لا من غيرها.
وبعبارة واضحة: لا شبهة في إلحاقهم بهم من حيث الموضوع وإنما الكلام في
الالحاق حسب الحكم.
والحاصل أنه لا يبعد قبول الجزية من هؤلاء الطائفة واقرارهم على
ما اختاروه من الدين.
هذا كله في الفرض الأول.



(1) دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية ج 3 ص 390 - 392.
(2) المبسوط ج 2 ص 57.
62
وأما الفرض الثاني، أعني ما إذا انتقل أحد من سائر الكفار إلى دين أهل
الكتاب، كما إذا صار وثني يهوديا، فالظاهر أيضا شمول حكم أهل الكتاب له
لاطلاق الآية والروايات، وعدم قصور العناوين المتخذة فيها لشموله.
نعم قال الشيخ: (وأما من كان من عبدة الأوثان فدخل في دينهم فلا يخلو أن
يدخل في دينهم قبل نسخ شرعهم أو بعده، فإن كان قبل نسخ شرعهم أقروا عليه،
وإن كان بعد نسخ شرعهم لم يقروا عليه، لقوله عليه السلام: " من بدل دينه فاقتلوه " (1).
وقال في التذكرة: (تؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم من الكفار إن كانوا قد
دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل ومن نسله وذراريه، ويقرون بالجزية ولو ولدوا بعد
النسخ. ولو دخلوا في دينهم بعد النسخ فلم يقبل منهم إلا الإسلام ولا تؤخذ منهم
الجزية عند علمائنا، وبه قال الشافعي، لقوله عليه السلام: " من بدل دينه فاقتلوه " (2).
أقول: يقوى في الذهن انصراف هذه الرواية إلى المسلم، إذا بدل دينه وارتد
فلا يشمل الكافر إذا بدل كفره إلى كفر آخر خصوصا بعد ما اشتهر بينهم من أن
(الكفر كالملة الواحدة).
والحاصل إني لا أجد مانعا من قبول الجزية من هذه الطائفة بعد ثبوت
المقتضي أعني اطلاق الآية والروايات، وعدم احراز المانع. على أن ذلك موافق
للاحتياط في حفظ الدماء.
ومع ذلك كله، فللتوقف مجال، وذلك لخبر الأسياف الذي حاصله:
(أن أسياف النبي صلى الله عليه وآله خمسة، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب
أوزارها، وسيف منها مكفوف (ملفوف)، وسيف منها مغمود سله إلى غيرنا وحكمه
إلينا.
فأما السيوف الثلاثة المشهورة (الشاهرة)، فسيف على مشركي العرب،
فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، والسيف الثاني على أهل



(1) المبسوط ج 2 ص 36.
(2) التذكرة كتاب الجهاد.
63
الذمة، فمن كان منهم في دار الإسلام، فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل.
والسيف الثالث سيف على مشركي العجم... والسيف المكفوف سيف على
أهل البغي والتأويل، وأما السيف المغمود فالسيف الذي يقوم (يقام) به القصاص،
فهذه السيوف التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وآله فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو
شيئا من سيرها أو أحكامها فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله (1).
فإن هذا الخبر حصر أسياف النبي صلى الله عليه وآله في خمسة، ولازم القول بقبول الجزية
من وثني مثلا إذا تهود، وقوع التخصيص فيه. مع أن لسانه آب عنه، إذ كيف يصح
أن يقال: لا يقبل من مشركي العرب إلا القتل أو الدخول في الإسلام إلا إذا تهودوا
أو تنصروا أو تمجسوا؟
وعامية حفص بن غياث غير قادح بعد اتقان المتن، وكون الرواية مروية من
طرق المشايخ الثلاثة.
حكم الصابئين:
ينبغي عقد البحث ها هنا في مقامين:
المقام الأول: في حقيقة دين الصابئة.
المقام الثاني: في حكمهم من حيث قبول الجزية منهم وعدمه.
وأما المقام الأول، فاعلم أن الآراء في حقيقة دينهم متشتتة جدا بحيث صار
هذا المذهب من المبهمات والأسرار، ومن هنا يشكل الحاقهم بأهل الذمة أو
بغيرها. وإليك جملة من عبائر العلماء في هذا المضمار:
قال المفيد في المقنعة: (وقد اختلف فقهاء العامة في الصابئين ومن ضارعهم
في الكفر سوى من ذكرناه من الثلاثة الأصناف.
فقال مالك بن أنس والأوزاعي: كل دين بعد الإسلام سوى اليهودية
والنصرانية، فهو مجوسية، وحكم أهله حكم المجوس.



(1) الوسائل ج 11، أبواب جهاد العدو ب 5 ح 2.
64
وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: الصابئون مجوس. وقال الشافعي
وجماعة من أهل العراق: حكمهم حكم المجوس. وقال بعض أهل العراق: حكمهم
حكم النصارى. (إلى أن قال:)
فأما الصابئون فمنفردون بمذاهبهم عمن عددناه، لأن جمهورهم يوحد
الصانع في الأزل، ومنهم من يجعل معه هيولي في القدم، صنع منها العالم، فكانت
عندهم الأصل، ويعتقدون في الفلك وما فيه الحياة والنطق وأنه المدبر لما في هذا
العالم والدال عليه، وعظموا الكواكب وعبدوها من دون الله - عز وجل - وسماها
بعضهم ملائكة، وجعلها بعضهم آلهة وبنوا لها بيوتا للعبادات. وهؤلاء على طريق
القياس إلى مشركي العرب وعباد الأوثان أقرب من المجوس) (1).
وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي: (الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا
نصارى ولا مسلمين، وهم يعبدون الكواكب والنجوم) (2).
وفي المجمع: (والصابئون جمع صابئ، وهو من انتقل إلى دين آخر، وكل
خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، سمى في اللغة صابئا... والدين الذي
فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها.
قال قتادة: وهم قوم معروفون ولهم مذهب يتفردون به، ومن دينهم عبادة
النجوم. وهم يقرون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء. وقال مجاهد والحسن:
الصابئون بين اليهود والمجوس. لا دين لهم. وقال السدي: هم طائفة من أهل
الكتاب يقرؤون الزبور.
وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب
الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح.
وقال ابن زيد: هم أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة - جزيرة الموصل -
يقولون: لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون



(1) المقنعة ص 270.
(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي ج 1 ص 48.
65
للنبي صلى الله عليه وآله ولأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم طائفة
من أهل الكتاب) (1).
وقد روى عبد الرزاق بسنده عن قتادة: (الصابئون قوم يعبدون الملائكة
ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور، وعن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس
واليهود، ليس لهم دين، وعنه أيضا قال: سئل ابن عباس عن الصابئين فقال: هم
قوم بين اليهود والنصارى، لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم) (2).
وفي (الآثار الباقية) لأبي الريحان البيروني ما حاصله:
(نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله وينزهونه عن القبائح،
ويصفونه بالسلب لا الايجاب، كقولهم: لا يحد ولا يرى ولا يظلم ولا يجور،
ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازا إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير
إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها ويعظمون الأنوار.
ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة في جامع دمشق، وكان
مصلاهم أيام كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود،
فعملوها كنيستهم ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام
وأهله فاتخذوها مسجدا. وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة
الاشكال. ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم وعبدتها كانوا من جملتهم، وأن
اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة، ولهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة
يونان، ولهم صلوات ثلاث مكتوبات: أولها عند طلوع الشمس ثماني ركعات.
والثانية قبل زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، والثالثة عند غروب
الشمس خمس ركعات، ويصلون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا
يختتنون، وأكثر أحكامهم في المناكح والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي
التنجس عند مس الموتى وأمثال ذلك شبيهة بالتوراة، ولهم قرابين متعلقة



(1) مجمع البيان ج 1 ص 126.
(2) المصنف ج 6 ص 124.
66
بالكواكب وأصنامها وهياكلها، وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم) (1).
وقال في موضع آخر من كتابه ما حاصله:
(الصابئون يقع على من هم بالحقيقة أصحاب هذا الاسم وهم المتخلفون من
أسرى بابل الذين نقلهم بختنصر من بيت المقدس إليها، فإنهم لما تصرفوا في
الأرض واعتادوا بقعة بابل استثقلوا العود إلى الشام فآثروا المقام ببابل، ولم
يكونوا من دينهم بمكان معتمد، فسمعوا أقاويل المجوس وصبوا إلى بعضها،
فامتزجت مذاهبهم من المجوسية واليهودية، كحال المنقولين من بابل إلى الشام
أعني المعروفين بالسامرة.
ويوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، وهم الصابئون بالحقيقة، وهم متفرقون
غير مجتمعين في بلدان مخصوصة بهم وغير متفقين على حال واحدة كأنهم لا
يسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو الهام أو ما يشبههما وينتمون إلى
أنوش بن شيث بن آدم) (2).
وفي (الملل والنحل) للشهرستاني: (أن الصبوة في مقابل الحنفية، وفي اللغة:
صبأ الرجل: إذا مال وزاغ، فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق، وزيغهم عن نهج
الأنبياء، قيل لهم الصابئة. وقد يقال: صبأ الرجل إذا عشق وهوى. وهم يقولون:
الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال. وإنما مدار مذهبهم على التعصب
للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين.
والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو
الفطرة. فدعوة الصابئة إلى الاكتساب، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة) (3).
أقول: وتؤيد هذا الكلام في الجملة رواية المفضل عن الصادق عليه السلام قال
المفضل: فقلت: يا مولاي! فلم سمي الصابئون الصابئين؟ فقال: إنهم صبوا إلى



(1) الآثار الباقية ص 204 - 206.
(2) المصدر ص 318.
(3) الملل والنحل، ج 2 ص 5.
67
تعطيل الأنبياء والرسل والملل والشرائع، وقالوا: كل ما جاؤوا به باطل (1).
وفي (الملل والنحل) أيضا: (والتقسيم الضابط أن تقول:
1 - من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول، وهم السوفسطائية.
2 - ومنهم من يقول بالمحسوس، ولا يقول بالمعقول، وهم الطبيعية.
3 - ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول، ولا يقول بحدود، وأحكام وهم
الفلاسفة الدهرية.
4 - ومنهم من يقول بالمحسوس، والمعقول، والحدود، والأحكام، ولا يقول
بالشريعة والاسلام، وهم الصابئة.
5 - ومنهم من يقول بهذه كلها، وبشريعة ما، وإسلام، ولا يقول بشريعة نبينا
محمد صلى الله عليه وآله، وهم المجوس، واليهود، والنصارى.
6 - ومنهم من يقول بهذه كلها، وهم المسلمون) (2).
وفي الجواهر كتاب النكاح: (وأما الصابئون فعن أبي علي: أنهم قوم من
النصارى، وعن المبسوط أن الصحيح خلافه، لأنهم يعبدون الكواكب، وعن التبيان
ومجمع البيان أنه لا يجوز عندنا أخذ الجزية منهم، لأنهم ليسوا أهل الكتاب. وفي
المحكي عن الخلاف نقل الاجماع على أنه لا يجرى على الصابئة حكم أهل
الكتاب، وعن العين: أن دينهم يشبه دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب
حيال نصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح.
وقيل: قوم من أهل الكتاب يقرؤون الزبور. وقيل: بين اليهود والمجوس.
وقيل: قوم يوحدون ولا يؤمنون برسول. وقيل: قوم يقرون بالله - عز وجل -
ويعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون إلى الكعبة، وقيل: قوم كانوا في زمن
إبراهيم عليه السلام يقولون بأنا نحتاج في معرفة الله ومعرفة طاعته إلى متوسط روحاني
لا جسماني، ثم لما لم يمكنهم الاقتصار على الروحانيات والتوسل بها، فزعوا إلى



(1) بحار الأنوار ج 53 ص 5.
(2) الملل والنحل ج 2 ص 4 - 5.
68
الكواكب، فمنهم من عبد السيارات السبع. ومنهم من عبد الثوابت.
ثم إن منهم من اعتقد الإلهية في الكواكب، ومنهم من سماها ملائكة، ومنهم
من تنزل عنها إلى الأصنام. لكن في القواعد: الأصل في الباب أنهم أي السامرة
والصابئين إن كانوا يخالفون القبيلتين في فروع الدين فهم منهم، وإن خالفوهم في
أصله فهم ملحدة لهم حكم الحربيين.
وفي كشف اللثام: بهذا يمكن الجمع بين القولين، لجواز أن يعدوا منهم وإن
خالفوهم ببعض الأصول. كما يعد كثير من الفرق من المسلمين مع المخالفة في
الأصول، بل الأمر كذلك في غير الإمامية. وقد قيل: إنه لا كلام في عدهما من
القبيلتين وإنما الكلام في الأحكام. انتهى كلام كشف اللثام) (1).
وفي كتاب (أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان: (وفي
العراق، في الوقت الحاضر، أقلية من الصابئة، وهم يعتقدون بالخالق - عز وجل -
ويؤمنون باليوم الآخر، ويدعون أنهم يتبعون تعاليم آدم عليه السلام وأن نبيهم يحيى جاء
لينقي دين آدم مما علق به، وعندهم كتاب يسمونه (الكانزابرا) أي صحف آدم،
ومن عبادتهم الصلاة وتقتصر على الوقوف والركوع والجلوس على الأرض دون
سجود ويؤدونها في اليوم ثلاث مرات: قبل طلوع الشمس وعند نزولها وقبيل
غروبها ويتوجهون في صلاتهم إلى النجم القطبي.
فهم، وهذا هو اعتقادهم، يمكن اعتبارهم من أهل الكتاب على مقتضى
المذهب الحنفي في أهل الكتاب) (2).
وقال بعض المحققين في دراساته حول ولاية الفقيه ما نصه: (قد واجهت
عالما من علماء صابئي الأهواز فاستفسرته عن بعض عقائدهم ومراسيمهم
فأجاب وأهدى إلي نسخة من أعظم كتبهم (گنزاربا) باللغة الأرامية الذي يعتقدون
أنه صحف آدم، وكراسة بالفارسية يسمى (درفش) حاوية لبعض المراسم اليومية
الدينية.



(1) الجواهر ج 30 ص 45.
(2) أحكام الذميين والمستأمنين ص 14 - 15.
69
ومما تحصل لي من أجوبته ومن محتويات الكراسة: أنهم يعتقدون باله واحد
مجرد عن المادة أزلي أبدي جامع لصفات الكمال ليس كمثله شئ غفور رحيم لا
تراه العيون والأبصار. ويعظمون الملائكة ويسلمون عليهم بأسمائهم في الأذكار
والأدعية ويستشفعون بهم. ويعتقدون بالجنة والنار وأنه بالموت يفنى جسد
الإنسان ويبقى روحه خالدا مجزيا بأعماله. وأول الأنبياء آدم. ويؤمنون بنوح
وسام ويحيى المعمد، وهو آخرهم. وينكرون موسى وعيسى والتوراة والإنجيل،
وأنكر إيمانهم بزبور داود وكذا تعظيم النجوم وعبادتها.
وقال: إن إبراهيم كان منا ثم انعزل منا، فلا يؤمنون به.
وقال: إن كلمة الصابي من لغة آرامية بمعنى المغتسل، ويغتسلون من الجنابة
ومس الميت وللتوبة ويغسلون المحتضر. ويهتمون كثيرا بغسل التعميد في الماء
الجاري، وتأريخهم يحيائي وتعطيلهم يوم الأحد، وأعيادهم أربعة. ولهم ثلاث
صلوات في ثلاثة أوقات بالوضوء المخصوص، ولهم أذكار وأوردة عند الغسل
والوضوء والأكل والذبح يلقيها الكاهن، والذبح إلى نقطة الشمال ويستغفر الذابح
من عمله، ويستغفرون لأمواتهم ويقيمون لهم حفلات التأبين ويتصدقون لهم.
ويحرمون قتل النفوس والزنا والربا والكذب والنميمة والغش والمسكرات
بأنواعها، ولحم الخنزير والاختتان والتزوج بالأخت وبنت الأخ والأخت والعمة
والخالة وزوجة الأخ ولا يتناكحون غيرهم ويحلون تعدد الأزواج مع العدالة) (1).
هذه جملة من عبائر العلماء والمتتبعين حول مذهب الصابئين والحاصل منها
أن فيه أقوالا تالية:
1 - أنهم من المجوس أو بحكمهم.
2 - هم على طائفتين، بعضهم موحدون وبعضهم مشركون.
3 - أنهم كفار يعبدون الكواكب والنجوم أو الملائكة ويقرؤون الزبور.



(1) دراسات في ولاية الفقيه ج 3 ص 410.
70
4 - مذهب هؤلاء امتزاج من المجوسية واليهودية.
5 - أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة.
6 - هؤلاء جنس من النصارى يخالفونهم في فروع المسائل لا في أصولهم.
7 - هؤلاء جنس من اليهود كذلك.
8 - هم موحدون ويعتقدون أنهم يتبعون تعاليم آدم عليه السلام وأن نبيهم
يحيى عليه السلام.
ومرجع هذه الأقوال كلها إلى قولين:
1 - أنهم من أهل الكتاب أو بحكمهم.
2 - أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولا بحكمهم.
ولعله يستفاد من جميع العبائر المذكورة في الصابئين، أنهم على فرقتين:
فرقة ملحقة بأهل الكتاب لأنهم صنف من النصارى أو اليهود. وإن كانوا
مخالفين لهم في كثير من دياناتهم وهذا غير ضائر بالالحاق لما عرفت من أن
النصارى من أهل الكتاب، على اختلافهم في الفروع، وكذا اليهود.
ولعل الآيات القرآنية التي جعلت الصابئين في عداد اليهود والنصارى
والمجوس في قبال المشركين، مثل الآية 17 من سورة الحج، ناظرة إلى هذه الفرقة.
وفرقة أخرى. هم عبدة الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء، فهؤلاء
ليسوا بأهل الكتاب. وبهذا يمكن الجمع بين الأقوال.
المقام الثاني: في حكمهم من حيث قبول الجزية منهم وعدمه.
والمختار هاهنا يبتني على مختارنا في البحث السابق، فإن قلنا إنهم من أهل
الكتاب أو بحكمهم، نحكم بقبول الجزية منهم وإلا فلا.
والأول هو المشهور بين فقهاء العامة.
قال الماوردي: " وتؤخذ الجزية من الصابئين والسامرة إذا وافقوا اليهود

71
والنصارى في أصل معتقدهم وإن خالفوهم في فروعهم، ولا تؤخذ منهم إن خالفوا
اليهود والنصارى في أصل معتقدهم) (1).
وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد دعوى اجماع الأمة على قبولها من
الصابئين بعد النبي صلى الله عليه وآله (2).
وفي المجمع: (والفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم. وعندنا لا يجوز
ذلك، لأنهم ليسوا بأهل كتاب) (3).
وفي المغني لابن قدامة: (واختلف أهل العلم في الصابئين، فروى عن أحمد
أنهم جنس من النصارى. وقال في موضع آخر: بلغني أنهم يسبتون فهؤلاء إذا
أسبتوا فهم من اليهود. وروى عن عمر أنه قال: هم يسبتون. وقال مجاهد: هم بين
اليهود والنصارى، وقال السدي والربيع: هم من أهل الكتاب. وتوقف الشافعي في
أمرهم) (4).
والثاني هو المشهور بين أصحابنا بل صريح بعضهم تحقق الاجماع عليه.
قال الشيخ في الخلاف: (الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية ولا يقرون على دينهم،
وبه قال أبو سعيد الإصطخري، وقال باقي الفقهاء: أنه يؤخذ منهم الجزية، دليلنا
اجماع الفرقة) (5).
وقال المفيد بعد ذكر أقوال العامة في الصابئين: (فأما نحن فلا نتجاوز
بايجاب الجزية إلى غير من عددناه، لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم، والتوقيف الوارد
عنه في أحكامهم) (6).
ثم قال تعريضا على العاملين بالقياس: " فلو خلينا والقياس لكانت المانوية



(1) الأحكام السلطانية ص 154.
(2) الأموال ص 654.
(3) مجمع البيان ج 1 ص 126.
(4) المغني ج 10 ص 559.
(5) الخلاف ج 2 ص 510.
(6) المقنعة ص 270.
72
والمزدقية والديصانية (1) عندي بالمجوسية أولى من الصابئين، لأنهم يذهبون في
أصولهم إلى مذاهب تقارب المجوسية وتكاد تختلط بها) (2).
وصريح ابن زهرة أيضا الاجماع على ذلك، قال في الغنية: (ومن له كتاب،
وهم اليهود والنصارى والمجوس، يكف عن قتالهم إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت
شروطها، ولا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان سواء كانوا عجما أو عربا، ولا
من الصابئين ولا من غيرهم، بدليل الاجماع المشار إليه) (3).
وفي (فقه القرآن) للراوندي: (لا تؤخذ الجزية عندنا إلا من اليهود
والنصارى والمجوس، وأما غيرهم من الكفار على اختلاف مذاهبهم من عباد
الأصنام والأوثان والصابئة وغيرهم، فلا يقبل منهم غير الإسلام أو القتل
والسبي) (4).
نعم خالف ابن الجنيد أصحابنا بقوله: (إن الصابئين يؤخذ منهم الجزية لأنهم
من أهل الكتاب، وإنما يخالفونهم في فروع المسائل، لا في الأصول) (5).
إذا تبين لك أن المسألة اختلافية موضوعا وحكما، فعلى المفتي تحقيق حالهم
بالرجوع إلى علمائهم وكتبهم وغير ذلك، فإن ثبت أن الصابئين من أهل الكتاب أو
أنهم ليسوا من أهل الكتاب، فلا إشكال.



(1) المانوية: أصحاب ماني بن فاتك الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام ابن
هرمز بن سابور، وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية،
وكأن يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام.
المزدقية أو المزدكية: أصحاب مزدك، ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان،
ودعا قباذ إلى مذهبه فأجابه، وهذه الطائفة تشارك المانوية في كثير من العقائد.
الديصانية: هم أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين: نورا، وظلاما. فالنور يفعل الخير قصدا
واختيارا والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن، فمن
النور، وما كان من شر وضرر ونتن وقبح، فمن الظلام. (الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص
244 - 250).
(2) المقنعة ص 270.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153.
(4) المصدر. ص 121.
(5) تحرير الأحكام ج 1 ص 148.
73
وأما في صورة الشك وعدم تبين الحال، فهل لا تقبل منهم الجزية، أو تقبل
الحاقا لهم بأهل الذمة، احتمالان.
وجه الأول: العمومات الآمرة بقتل المشركين مثل قوله تعالى: فإذا لقيتم
الذين كفروا فضرب الرقاب (1) وقوله سبحانه: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم (2)، المقتصر في الخروج منها على اليهود
والنصارى والمجوس للدليل، وأما غيرهم فيبقى تحت العموم.
أو أن الكفر مقتض لجواز القتل، وكونهم من أهل الكتاب مع اعطاء الجزية
مانع من ذلك، فمع الشك في وجود المانع، يؤثر المقتضي أثره.
أو لأنه قبل صيرورته مميزا لم يكن كتابيا، فيستصحب ذلك، أو لاستصحاب
العدم الأزلي، نظير استصحاب عدم كون المرأة قرشية قبل ولادتها.
ووجه الثاني: عدم جواز التمسك بالعام في المقام، لأنه من قبيل التمسك به
في الشبهة المصداقية للمخصص اللفظي لأن المفروض احتمال كونهم من أهل
الكتاب، وهو ممنوع كما قرر في الأصول.
لا يقال: ترجع الشبهة إلى أن المقصود بالكتاب في أدلة الجزية، هل هو مطلق
الكتاب السماوي حتى ما اشتمل على مواعظ فقط، أو أن المراد به خصوص
ما اشتمل على دين جديد وشريعة حديثة.
فإنه يقال: هذا يبتني على ثبوت كتاب سماوي لهم، وهو أول الكلام كما
عرفت في المقام الأول.
ولمنع قاعدة المقتضي والمانع، كما قرر في الأصول، ومنع الاستصحاب
الأزلي لأن قولنا: إن هذا الصابي لم يكن موجودا في زمان، أو لم يكن مميزا في
وقت، فلم يكن كتابيا، والأصل بقاء ذلك بعد صيرورته مميزا، من قبيل استصحاب
السالبة بانتفاء الموضوع واثبات السالبة بانتفاء المحمول، وهو من مصاديق



(1) محمد / 4.
(2) التوبة / 5.
74
الأصل المثبت. ولأن السالبة بانتفاء الموضوع لا عرفية لها عند العقلاء ولا هذية
للمعدوم حتى يشار إليه ويستصحب.
أضف إلى ذلك أن هذا الاستصحاب على فرض جريانه، يعارضه استصحاب
عدم جواز قتله قبل تولده أو في حال صغره.
وربما يؤيد الاحتمال الثاني صريح غير واحدة من آيات الكتاب العزيز،
حيث ذكر الصابئون فيها في عداد اليهود والنصارى والمجوس، في قبال
المشركين مثل قوله جل وعلى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين
والنصارى والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على
كل شئ شهيد (1).
وقوله سبحانه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن
بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون (2).
وقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن
بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (3).
ولعل السر في هذا التمايز - كما قيل - إنه كان يوجد لديهم وجهة حق
وارتباط بالوحي السماوي أما لارتباطهم بأحد الأنبياء السالفين ويعدون لذلك
من أهل الكتاب، أو لكونهم من إحدى الفرق الثلاث، وإنما ذكروا بالخصوص من
باب ذكر الخاص بعد العام لرفع الشبهة.
نعم قد يدعى أن قوله عليه السلام: (المجوس إنما ألحقوا باليهود والنصارى في
الجزية والديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى كتاب) يقتضي اسراء الحكم إلى كل
من لهم نبي وكتاب سماوي وإن لم يكونوا من الفرق الثلاث.
وأنت خبير بأن هذا الأسراء صحيح بالنسبة إلى من ثبت لهم نبي وكتاب سماوي



(1) الحج / 17.
(2) البقرة / 62.
(3) المائدة / 69
75
ولو فيما مضى وعلى وجه الابهام كالمجوس - كما نطقت به روايات - لا بالنسبة
إلى غيرهم كالصابئين، الذين أصل وجود كتاب سماوي أو نبي لهم أول الكلام.
وبعد ذلك كله، فالحق هو التفصيل بين فرقة منهم يدعون أنهم من النصارى أو
اليهود أو المجوس، أو تشهد أعمالهم وعاداتهم على أنهم منهم وإن خالفوهم في
الفروع، فتقبل الجزية منهم.
وبين طائفة منهم يدعون أو يظهر من ظاهر أعمالهم وأقوالهم أنهم عبدة -
الأوثان والأصنام، غير معتقدين بنبوة عيسى وموسى عليهما السلام، فلا تقبل منهم.
إلى هنا تم الكلام في الصابئين، وإنما أطلنا البحث فيهم لتشتت الأقوال
والأنظار فيهم ولابتلاء مجتمع المسلمين والحكومة الإسلامية بهم.
حكم سائر الكفار:
قد تحصل إلى هنا، أنه لا إشكال عند فقهاء الأمة في قبول الجزية من اليهود،
والنصارى، والمجوس، والمشهور بين أصحابنا عدم قبولها من الصابئين، وأكثر
العامة على خلاف ذلك.
وأما غير هذه النحل من سائر الكفار، فقد ذهب الأصحاب إلى عدم قبولها
منهم، والحكم بين العامة خلافي، فلنذكر أولا المهام من عبائرهم.
قال الشيخ في الخلاف: (لا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان، سواء كانوا
من العجم أو من العرب، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم ولا
تؤخذ من العرب. وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش) (1).
وقال في النهاية: (كل من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفار، يجب
مجاهدتهم وقتالهم، غير أنهم ينقسمون قسمين: قسم لا يقبل منهم إلا الإسلام،
والدخول فيه، أو يقتلون وتسبي ذراريهم وتؤخذ أموالهم، وهم جميع أصناف



(1) الخلاف ج 2 ص 509 مسألة 1.
76
الكفار، إلا اليهود والنصارى والمجوس.
والقسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية، وهم الأجناس الثلاثة الذين
ذكرناهم) (1).
وفي (المهذب البارع) لابن البراج: (من يجب جهاده على ثلاثة أضرب:
أحدها ضرب لا يقبل منهم إلا الدخول في الإسلام حسب، فإن لم يجيبوا إلى
الدخول، قتلوا وسبي ذراريهم وصار أموالهم غنيمة.
وثانيها ضرب لا يقبل منهم إلا الدخول في الإسلام أو أداء الجزية عن يد
وهم صاغرون والقيام بشرائط الذمة...
وثالثها على ضربين: أحدهما له فئة يرجع إليها والآخر لا فئة له. والذي له فئة
يرجع إليها يجاز على جريحهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم ويغنم أموالهم التي
يحويها العسكر فقط. ولا يجوز سبي ذراريهم ولا أخذ شئ من أموالهم التي
يحويها العسكر، والذي له فئة له لا يجاز على جريحهم ولا يتبع مدبرهم ولا يسبى
ذراريهم بل يغنم أموالهم التي في العسكر دون غيرها.
والضرب الأول - من القسمة المتقدمة - هم جميع من خالف الإسلام، وليس
لهم كتاب ولا شبهة كتاب، كعباد الأوثان والكواكب، ومن جرى مجراهم.
والضرب الثاني هم اليهود والنصارى والمجوس.
والضرب الثالث، الذي هو على ضربين هو جميع من انتمى إلى الإسلام من
البغاة وهم الذين يبغون على الإمام العادل وينكثون بيعته ويفعلون ذلك مع نصبه
الإمام للنظر في أمور المسلمين، ويجري مجرى أصحاب الجمل وصفين) (2).
وفي " الوسيلة " لابن حمزة: (الكفار ضربان: فضرب يجوز اقراره على دينه
وهم اليهود والنصارى والمجوس... والضرب الآخر لا يجوز اقراره على دينه
وهو من عدا هؤلاء من الكفار ولا يقبل منهم غير الإسلام " (3).



(1) النهاية ص 291.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 81.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 159 - 160.
77
وفي " الغنية " لابن زهرة: " ومن له كتاب - وهم اليهود والنصارى والمجوس -
يكف عن قتالهم، إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت شروطها، ولا يجوز أخذ الجزية
من عباد الأوثان سواء كانوا عجما أو عربا ولا من الصابئين ولا من غيرهم بدليل
الاجماع المشار إليه) (1).
وفي السرائر: (ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب، وهم من عدا هؤلاء الثلاثة
الأصناف، من عباد الأصنام والأوثان والكواكب وغيرهم، فلا يقرون على دينهم
ببذل الجزية) (2).
وفي الشرائع: (تؤخذ ممن يقر على دينه، وهم اليهود والنصارى، ومن لهم
شبهة كتاب وهم المجوس، ولا يقبل من غيرهم إلا الإسلام) (3).
وفي التذكرة: (من عدا اليهود والنصارى والمجوس، لا يقرون بالجزية، بل لا
يقبل منهم إلا الإسلام وإن كان لهم كتاب كصحف إبراهيم وصحف آدم وإدريس
وشيث وزبور داود، وهو أحد قولي الشافعي لأنها ليست كتبا منزلة، على ما قيل،
بل هي وحي يوحى، ولأنها مشتملة على مواعظ لا على أحكام مشروعة والقول
الثاني للشافعي يقرون بالجزية) (4).
وفي الجواهر: لا يقبل من غيرهم أي اليهود والنصارى والمجوس إلا الإسلام
بلا خلاف أجده فيه، بل في الغنية وغيرها الاجماع عليه) (5).
فقد ظهر من هذه العبائر، إن الحكم اتفاقي بين الأصحاب.
نعم للشيخ كلام ربما يتوهم منه خلاف ذلك. قال في الخلاف:
(إذا صالح الإمام قوما من المشركين على أن يفتحوا الأرض ويقرهم فيها
ويضرب على أرضهم خراجا بدلا عن الجزية، كان ذلك جائزا على حسب
ما يعلمه من المصلحة ويكون جزية " (6).



(1) المصدر ص 153.
(2) السرائر ج 2 ص 6.
(3) الشرائع ج 1 ص 327.
(4) التذكرة كتاب الجهاد.
(5) الجواهر ج 21 ص 231.
(6) الخلاف ج 3 ص 235.
78
ولكن الظاهران مراده من المشركين، أهل الذمة، بقرينة قوله: " بدلا عن
الجزية " المستفاد منه أن كلامه في من يكون قبول الجزية منهم مفروغا عنه، وإنما
للإمام أخذ الخراج بدلا عنها للمصلحة.
وأما العامة، فقد اختلفوا في المسألة اختلافا فاحشا.
ففي (الأموال) لأبي عبيد: (تتابعت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده
في العرب من أهل الشرك: إن من كان منهم ليس من أهل الكتاب، فإنه لا يقبل
منهم إلا الإسلام، أو القتل، كما قال الحسن، وأما العجم فتقبل منهم الجزية وإن لم
يكونوا أهل كتاب، للسنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله في المجوس وليسوا
بأهل كتاب، وقبلت بعده من الصابئين فأمر المسلمين على هذين الحكمين من
العرب والعجم، وبذلك جاء التأويل أيضا مع السنة) (1).
وفي (الخراج) لأبي يوسف: (وجميع أهل الشرك من المجوس وعبدة
الأوثان وعبدة النيران والحجارة والصابئين والسامرة تؤخذ منهم الجزية ما خلا
أهل الردة من أهل الإسلام وأهل الأوثان من العرب، فإن الحكم فيهم أن يعرض
عليهم الإسلام، فإن أسلموا، وإلا قتل الرجال منهم وسبي النساء والصبيان) (2).
وقال الشافعي: (ولم أعلم ممن سلف من المسلمين أحدا أجاز أن تؤخذ
الجزية من غير أهل الكتاب) (3).
وفي (بداية المجتهد) لابن رشد: (واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من
المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك وبه
قال مالك " (4).



(1) الأموال ص 39.
(2) الخراج ص 128.
(3) الأم ج 4 ص 174.
(4) بداية المجتهد ج 1 ص 376 ط أخرى ج 1 ص 331.
79
وقال في المغني: " وروى عنه - يعني أحمد - الحسن بن ثواب أنها تقبل من
جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب " (1).
وفيه أيضا: (في أهل الكتاب غير اليهود والنصارى، مثل أهل صحف إبراهيم
وشيث وزبور داود، ومن تمسك بدين آدم وإدريس وجهان:
أحدهما: يقرون بالجزية، لأنهم من أهل الكتاب، فأشبهوا اليهود والنصارى،
وقال أبو حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب، لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وآله
فلا يقرون
على غير دينه، وغيرهم يقر بالجزية، لأنه يقر بالاسترقاق، فأقروا بالجزية
كالمجوس.
وعن مالك أنها تقبل من جميعهم، إلا مشركي قريش لأنهم ارتدوا، وعن
الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن بن
يزيد بن جابر لحديث بريدة، ولأنه كافر فيقر بالجزية كأهل الكتاب) (2).
وقال ابن الجهم: (تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام، إلا ما أجمع عليه
من كفار قريش) (3).
وفي المحلى لابن حزم وهو من علماء الظاهرية: (ولا يقبل من كافر إلا
الإسلام، أو السيف، الرجال والنساء في ذلك سواء، حاشا أهل الكتاب خاصة " (4).
وفي تفسير ابن العربي: " والصحيح قبولها من كل أمة وفي كل حال عند
الدعاء إليها والإجابة بها " (5).
إذا أشرفت على الأقوال وعبائر الفقهاء، فلنشرع في بيان أدلتهم ونقدها.
فأما الأصحاب، فاستدلوا على عدم قبول الجزية منهم بوجوه:
1 - دعوى الاجماع صريحا في الخلاف والغنية، وفي التذكرة: " عند علمائنا



(1) المغني ج 10 ص 573.
(2) المغني ج 10 ص 564.
(3) تفسير القرطبي ج 8 ص 111.
(4) المحلى ج 7 ص 345.
(5) أحكام القرآن ج 2 ص 922.
80
كافة " وفي الجواهر: " بلا خلاف أجده فيه " (1).
2 - عمومات الكتاب مثل قوله تعالى: اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم (2) وقوله سبحانه: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب (3)
وقوله عز شأنه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (4) وغير
ذلك من الآيات.
3 - عموم قوله صلى الله عليه وآله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن
قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) (5).
وعن أبي حفص الكلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله عز وجل بعث
رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير
في السيف وتحت السيف...) (6).
والكلبي وهو الحسين بن علوان، عامي لم يوثق.
وأصرح منه خبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام الوارد في الأسياف
الخمسة (7). وقد تقدم حاصله في المبحث الثالث من الفصل الثاني.
فإن المستفاد من هذا الآيات والأخبار أن الكافر يدعى إلى الإسلام، فإن قبل
تجرى عليه أحكام الإسلام، وإلا قتل. وعليه فيكون قبول الجزية على خلاف
الأصل، لا نلتزم به إلا بدليل، والأدلة المخصصة لهذه العمومات - أعني آية الجزية
والأخبار - موردها أهل الكتاب، ومن له شبهة الكتاب، وهو المجوسي، فغيرهم
باق تحت العموم.
وتؤيد ما ذكرنا صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال:



(1) الخلاف ج 3 ص 237، سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153، التذكرة كتاب الجهاد،
الجواهر ج 21 ص 231.
(2) التوبة / 5.
(3) محمد / 4.
(4) الأنفال / 39.
(5) الخلاف ج 2 ص 509.
(6) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو ب 1 ح 14.
(7) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو ب 1 ح 2.
81
" كنت قائدا عند أبي عبد الله عليه السلام بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة، فيهم
عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة، وناس من
رؤسائهم، وذلك حدثان قتل الوليد - إلى أن قال: - فاسندوا أمرهم إلى عمرو بن
عبيد، فتكلم فأبلغ وأطال، فكان فيما قال إن قال:
قد قتل أهل الشام خليفتهم وضرب الله بعضهم ببعض، وشتت أمرهم، فنظرنا
فوجدنا رجلا له عقل ودين ومروة وموضع ومعدن للخلافة وهو محمد بن عبد الله
ابن الحسن، فأردنا أن نجتمع عليه، فنبايعه - إلى أن قال: - وقد أحببنا أن نعرض
ذلك عليك فتدخل معنا فإنه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك، فلما
فرغ قال أبو عبد الله عليه السلام:
أكلكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا: نعم، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على
النبي ثم قال: إنما نسخط إذا عصى الله، فأما إذا أطيع رضينا - إلى أن قال: -
يا عمرو أرأيت لو بايعك صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته، ثم اجتمعت لكم
الأمة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضيتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا
يؤدون الجزية، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيه بسيرة
رسول الله صلى الله عليه وآله في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ماذا؟ قال،
ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعوناهم الجزية.
قال: إن كانوا مجوسا ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء، قال: وإن كانوا العرب
وعبدة الأوثان؟ قال: سواء. قال: أخبرني عن القرآن تقرأه؟ قال: نعم، قال: اقرأ
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية، فاستثناء الله تعالى
واشتراطه من أهل الكتاب، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم، قال:
عمن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون؟ قال، فدع ذا. الحديث) (1).
فإن المستفاد منها أن سائر الكفار يغاير أهل الكتاب في هذا الحكم أعني



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو ب 9 ح 2.
82
قبول الجزية منهم، بل ربما يتوهم منه أن المجوس أيضا، لا يقبل منهم الجزية وإن
عرفت الحاقهم بأهل الكتاب في هذا الحكم.
والحاصل أن المستفاد من كثير من الآيات والروايات، أن المقصود الأصيل
والغرض النهائي للإسلام رفع علم التوحيد وبسط العدالة في جميع أقطار الأرض،
وهدم مظاهر الكفر والشرك بألوانها بالتبليغ والدعوة أولا والقتال ثانيا.
فكان العدول من القتال إلى قبول الجزية يكون خلاف القاعدة، يحتاج في
كل صنف من الكفار إلى دليل بخصوصه، ولم يثبت إلا في الموارد التي عرفت.
نعم روى أبو البختري عن جعفر عن أبيه قال: قال علي عليه السلام:
(القتال قتالان: قتال أهل الشرك لا ينفر عنهم حتى يسلموا أو يؤتوا الجزية
عن يد وهم صاغرون. وقتال لأهل الزيغ لا ينفر عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله أو
يقتلوا) (1).
وفي كتاب (الغارات) عن الحارث بن كعب عن أبيه، قال: (بعث علي عليه السلام
محمد بن أبي بكر أميرا على مثر فكتب إلى علي عليه السلام يسأله عن رجل مسلم فجر
بامرأة نصرانية وعن زنادقة فيهم من يعبد الشمس والقمر، وفيهم من يعبد غير
ذلك، وفيهم مرتد عن الإسلام، وكتب يسأله من مكاتب مات وترك مالا وولدا.
فكتب إليه علي عليه السلام: أن أقم الحد على المسلم الذي فجر بالنصرانية، وادفع
النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا، وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان
يدعي الإسلام، ويترك سائرهم يعبدون ما شاؤوا. الحديث) (2).
هذان الخبران وما أشبهما أوقعت بعض المحققين في الشبهة حيث قال:
(وكيف كان فالحكم بوجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب بنحو
الاطلاق مشكل بل ممنوع). وقال أيضا:
" ولا أظن أن يلتزم أحد بوجوب قتل ما يقرب من نصف سكان الأرض أعني



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو ب 5 ح 3.
(2) الغارات ج 1 ص 230 - 231.
83
مليارات من البشر إذا فرض القدرة عليهم، مع أن استقاءهم والنشاط الثقافي فيهم
ربما يوجب تنبه كثير منهم تدريجا وانجذابهم يوما فيوما إلى الإسلام) (1).
أقول: لعل المراد من أهل الشرك في خبر أبي البختري، أهل الكتاب، مضافا
إلى ضعف بعض رجاله كالسندي بن الربيع فإنه مجهول وثاقته. وحديث الغارات
أيضا ضعيف لجهالة الحارث بن كعب وأبيه كليهما.
ويمكن أن يقال: إن حكمه عليه السلام بترك قتال الزنادقة في مصر، حكم ولائي،
اقتضته مصلحة النظام الإسلامي في زمانه عليه السلام.
وبالجملة، يشكل مخالفة الاجماع واطلاقات كثيرة من الآيات والروايات،
تمسكا بهذه الرواية التي كأنها قضية في واقعة.
بل قد عرفت أن بعض أخبار الباب - كصحيحة عبد الكريم - يكون كالنص
في المسألة.
إلى هنا فرغنا عن بيان أدلة الأصحاب.
وأما العامة فقد عرفت أن كلماتهم متشتة جدا والمتحصل منها أن لهم في
المسألة أقوالا تالية:
الأول: عدم قبول الجزية منهم مطلقا، وهو قول الشافعي وقول أحمد في
إحدى الروايتين.
الثاني: قبولها منهم مطلقا وهو قول الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز.
الثالث: قبولها منهم ما عدا أهل الأوثان من العرب، وهو قول أبي يوسف
والحسن وأبي حنيفة.
الرابع: قبولها من جميعهم إلا مشركي قريش، وهو المروي عن مالك.
والظاهر أنهم متفقون على عدم قبولها من أهل الردة من أهل الإسلام، وإن لم



(1) دراسات في ولاية الفقيه ج 3 ص 388 - 389.
84
يصرح بعضهم بذلك، لأن حكمهم القتل عند الجميع.
وأما القول الأول، فاستدلوا عليه بوجوه:
1 - اطلاقات الكتاب الآمرة بقتل الكفار، وقد عرفت نماذج منها.
2 - قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله. الآية (1) فالله سبحانه أباح
أخذ الجزية من أهل الكتاب، فليس لأحد أخذها من غيرهم كعبدة الأوثان لعموم
الأمر بالقتال إلى أن يسلم المشركون، فلا يجوز إذن في حق غير أهل الكتاب أو
شبههم إلا الإسلام أو القتل.
وقد نوقش هذا الدليل بأنه تمسك بمفهوم الصفة، وهو غير حجة.
وعلى تسليم القول بحجيته، فإن القائلين به ذكروا أن الاحتجاج به لنفي
الحكم عما عدا المذكور في الكلام، يكون فيما إذا لم يظهر لتخصيص تلك الصفة
بالذكر، فائدة أخرى، وذكر أهل الكتاب في الآية له فائدة، وهي بيان الواقع وهو
مقابلة هؤلاء مع أهل الأوثان، فإن الرسول صلى الله عليه وآله بعد ما قضى على أهل الأوثان من
العرب لم يبق أمامه إلا أهل الكتاب المجاورون لبلاد العرب، فالآية تفيد أخذ
الجزية من أهل الكتاب، ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها.
3 - اطلاقات جملة من الأحاديث مثل ما رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن
قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله (2).
4 - أن صحف إبراهيم وشيث وزبور داود لم تكن فيها شرائع، إنما هي
مواعظ وأمثال، فلا تقبل الجزية من أهل هذه الصحف.
أقول: المستفاد من هذا الدليل، دوران أخذ الجزية مدار كون الكتاب كتاب
التشريع والأحكام. وفيه تأمل خصوصا مع قول أمير المؤمنين عليه السلام في المجوس:
" كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه " (3)، المستفاد منه كفاية مطلق الكتاب في
الحكم.



(1) التوبة / 29.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 182.
(3) المصدر ج 9 ص 188.
85
وأما القول الثاني فالقائل به استدل بحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في
خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا، قال: (إذا لقيت عدوك من المشركين
فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف
عنهم: أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى
التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم
ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم
أنهم يكونون مثل أعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الذي كان يجري على
المؤمنين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.
فإن هم أبوا فادعهم إلى اعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن
أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. الحديث) (1).
قال الكحلاني: (في الحديث دليل على أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو
غير كتابي عربي أو غير عربي لقوله (عدوك) وهو عام) (2).
قال الشوكاني بعد نقل الحديث: (ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي
والعربي والكتابي وغير الكتابي) (3).
ونوقش هذا الحديث بأنه وارد قبل فتح مكة، بدليل الأمر بالتحول والهجرة
من دارهم إلى دار المهاجرين. وآية الأمر بقتال المشركين العامة فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم (4) نزلت بعد الهجرة، فالحديث منسوخ بالآية
المذكورة، أو متأول بأن المراد بكلمة (عدوك) من كان من أهل الكتاب.
وأجيب بأن الحديث كان بعد نزول فرض الجزية، وفرض الجزية كان بعد
فتح مكة، إذ كيف يذكر فيه جواز أخذ الجزية مع أن مشروعية أخذها من غير



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 184، كتاب الجزية باب من يؤخذ منه الجزية من أهل الكتاب.
(2) سبل السلام ج 4 ص 47.
(3) نيل الأوطار ج 7 ص 232.
(4) التوبة / 5.
86
المسلمين كان في السنة الثامنة، أو التاسعة بعد الهجرة، وآية الجزية وآية القتال
موجودتان في سورة واحدة وهي سورة التوبة التي هي آخر القرآن نزولا، وإذن
فلا نسخ بين الحديث وآية القتال.
واستدلوا أيضا بالاجماع المنعقد على جواز أخذ الجزية من المجوس ولم
يثبت لهم كتاب، فيدل ذلك على جواز أخذ الجزية من كافة الكفار.
وأنت خبير بأن هذا الاجماع مستند إلى مثل قوله صلى الله عليه وآله (سنوا بهم سنة أهل
الكتاب) (1) الوارد في المجوس، وواضح أن هذا التعبير يكون كالصريح في الحاق
خصوص المجوس بأهل الكتاب، وإلا كان المناسب أن يقول: (سنوا بكافة الكفار
سنة أهل الكتاب).
ومستند القول الثالث أن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل
كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم من وجهين:
1 - ما يدينون به من عبادة الأوثان وما ينشأ عنها من الفساد.
2 - كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وآله الذي نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم،
فالمعجزة في حقهم أظهر، مما يستدعي عدم اقرارهم على الجزية ومطالبتهم
بالإسلام أو الحرب حتى تجعل جزيرة العرب خاصة بالمسلمين (2).
وأجيب عنه بأنا لا نجد في فتوحات الصحابة في الشام والعراق وبلاد فارس
والروم أثرا للتفرقة بين العرب وغيرهم في حكم السبي والجزية.
وأما القول الرابع، فلم أجد له وجها إلا ما ذكره ابن الجهم في استثناء كفار
قريش بقوله: " ذلك أنه اكرام لهم عن الذلة والصغار لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وآله (3).



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 189.
(2) المنار ج 10 ص 359، آثار الحرب ص 712 - 724.
(3) تفسير القرطبي ج 8 ص 111.
87
وفيه من الغرابة ما لا يخفى.
أولا لأن قتلهم بعد عدم قبول الجزية منهم أشد حالا من قبول الجزية منهم،
فأين الاكرام لهم عن الذلة؟
وثانيا أن الإسلام دين عالمي، لا تختص أحكامه بقوم دون قوم، العرب
والعجم فيها سواسية، وهذا واضح لمن كان صافيا من التعصبات القومية.
نعم يحتمل قويا وحدة قولي الثالث والرابع، بأن يكون المراد من قولهم:
(أهل الأوثان من العرب) هو (مشركو قريش) وحينئذ فوجه هذا القول واضح
مما عرفت.
كفار العرب ومسألة الجزية:
اعلم أن أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - لم يفرقوا بين العرب والعجم
في مسألة أخذ الجزية من أهل الكتاب.
قال الشيخ في الخلاف: (يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب) (1).
وفي التحرير للعلامة: (تؤخذ الجزية من هؤلاء الثلاثة... سواء كانوا عربا أو
عجما) (2).
وفي التذكرة: (والعرب قد بينا أنهم إن كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا،
قبلت منهم الجزية، وإلا فلا، ولا فرق بين العرب والعجم، لأن الجزية تؤخذ
بالدين لا بالنسب) (3).
وفي الشرائع: (والفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقروا، سواء كانوا عربا
أو عجما) (4).
ومستند قولهم، العمومات والاطلاقات الماضية التي لا تفرقة فيها بين العرب
والعجم. نعم في دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:



(1) الخلاف ج 2 ص 509.
(2) تحرير الأحكام ج 1 ص 148.
(3) التذكرة، كتاب الجهاد.
(4) الشرائع ج 1 ص 327.
88
" لا يقبل من عربي جزية، وإن لم يسلموا جوهدوا " (1).
ولكن هذا الخبر مع كونه مرسلا غير مذكور في كتب المشايخ، يمكن توجيهه
بأن الجزية لا تؤخذ من العرب لأنها لم تشرع إلا بعد فتح الجزيرة ودخول عامة
العرب في الإسلام، فلم يبق فيهم بعد ذلك من يقاتل ولا من تضرب عليه الجزية،
نعم من خرج بعد ذلك عن الإسلام منهم، فتجري عليه أحكام المرتد، ومنها عدم
قبول الجزية منه ونحن لا ننكر ذلك.
وأما العامة، فاختلفوا في ذلك، فعن بعضهم كأبي حنيفة وأحمد ومالك في
رواية عنهما القول بالعدم مستدلا بوجوه:
1 - أن العرب رهط النبي صلى الله عليه وآله فلا يقرون على غير دينه (2).
2 - ما في مسند أحمد والترمذي عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب،
فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وآله وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا بن أخي ما تريد
من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم
الجزية. قال: كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة، لا إله إلا الله الحديث (3).
وأجاب ابن حزم عن الحديث بعدم دلالته على المطلوب لأنهم لا يختلفون
في أن أهل الكتاب من العرب يؤدون الجزية وأن من أسلم من العجم لا يؤدون
الجزية، فصح أن هذا الخبر ليس على عمومه وأنه عليه السلام إنما عنى بأداء الجزية بعض
العجم لا كلهم (4).
3 - لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذه الجزية من عبدة الأوثان من العرب.
وأجيب بأن عدم أخذها منهم ليس لأنهم غير أهل لها، وإنما لأن الجزية لم
تكن شرعت بعد، فإنها شرعت بعد فتح مكة وحينئذ كان العرب قد اعتنقوا الإسلام
ولم يبق منهم محارب حتى تؤخذ منه الجزية، ومن ارتد بعد ذلك، فليس له



(1) دعائم الإسلام ج 1 ص 380.
(2) المنار ج 10 ص 359.
(3) أحكام أهل الذمة ج 1 ص 3.
(4) المحلى ج 7 ص 346.
89
الإسلام أو القتل (1).
وفي قبال هذا القول، الأوزاعي، والثوري، وفقهاء الشام، والمالكية، على
المشهور في مذهبهم، لم يفرقوا بين العرب والعجم في الحكم (2).
ومستند هذا القول، بعد دعواهم الاجماع، وجوه: (3)
1 - أن النبي صلى الله عليه وآله بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، فأخذ أكيدر دومة،
فصالحه على الجزية، وهو من العرب، رواه أبو داود.
2 - الاتفاق على أخذ الجزية من نصارى نجران، وهم عرب.
3 - بعث معاذ إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم (4) دينارا، وكانوا عربا.
قال ابن المنذر: ولم يبلغنا أن قوما من العجم كانوا سكانا باليمن حيث وجه
معاذا، ولو كان لكان في أمره أن يأخذ من جميعهم من كل حالم دينارا دليل على أن العرب تؤخذ منهم الجزية (5).
4 - حديث بريدة فيه (أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأمر من بعثه على سرية أن يدعو
عدوه إلى أداء الجزية) ولم يخص بها عجميا دون غيره.
5 - أن عمر أراد أخذ الجزية من نصارى بني تغلب، فأبوا ذلك وسألوه أن
يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين، فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم، ثم
صالحهم على ما يأخذه منهم عوضا عن الجزية، فالمأخوذ منهم جزية، غير أنه
على غير صفة جزية غيرهم، وما أنكر أخذ الجزية منهم أحد.
6 - قد ثبت بالقطع واليقين أن كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في
عصر الصحابة في بلاد الإسلام، ولا يجوز اقرارهم فيها بغير الجزية.



(1) آثار الحرب ص 712 - 724.
(2) آثار الحرب ص 712 - 715.
(3) وقد ذكر أكثرها في المغني ج 10 ص 561.
(4) حلم الصبي واحتلم، أدرك وبلغ مبالغ الرجال. (أقرب الموارد).
(5) المنار ج 10 ص 358.
90
7 - ما رواه أبو عبيد في " الأموال " عن يونس بن يزيد الأيلي قال: سألت ابن
شهاب، هل قبل رسول الله صلى الله عليه وآله من أحد من أهل الأوثان من العرب الجزية؟ فقال:
مضت السنة أن يقبل ممن كان من أهل الكتاب من اليهود والنصارى من العرب
الجزية، وذلك لأنهم منهم وإليهم (1).
نعم في آثارهم ما يعارض هذا القول.
منها: ما روي الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وآله صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا
من كان من العرب (2).
ومنها ما في الأموال لأبي عبيد عن الحسن قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقاتل
العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون (3).
وأجاب أبو عبيد عن الأخير بقوله: (وإنما نرى الحسن أراد بالعرب ها هنا
أهل الأوثان منهم الذين ليسوا بأهل كتاب، فأما من كان من أهل الكتاب فقد قبلها
رسول الله صلى الله عليه وآله منهم، وذلك بين في الأحاديث) (4).
مسألة بني تغلب:
اعلم أن المشهور بين العامة عدم أخذ الجزية من نصارى بني تغلب، بل تؤخذ
منهم الصدقة مضاعفة، ومستندهم في ذلك ما صدر عن عمر بن الخطاب فيهم
سيأتي ذكره.
وأما الأصحاب - رضوان الله عليهم - المقتفون في الافتاء أثر النبي صلى الله عليه وآله عليهم السلام و
قال العلامة في التذكرة: (بنو تغلب بن وايل من العرب من ربيعة بن نزار
انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، وانتقل أيضا من العرب قبيلتان أخريان، وهم



(1) الأموال ص 19.
(2) الكشاف ج 2 ص 263.
(3) الأموال ص 19.
(4) المصدر.
91
تنوخ ومهرا، فصارت القبايل الثلاثة من أهل الكتاب، فيؤخذ منهم الجزية كافة
كما تؤخذ من غيرهم، وبه قال علي عليه السلام وعمر بن عبد العزيز، لأنهم أهل كتاب،
فيدخلون تحت عموم الأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة:
لا تؤخذ منهم الجزية بل تؤخذ منهم الصدقة مضاعفة، فيؤخذ من كل خمس من
الإبل شاتان ويؤخذ من كل عشرين دينارا دينار، ومن كل مأتي درهم عشرة
دراهم، ومن كل ما يجب فيه نصف العشر، العشر، وما يجب فيه العشر، الخمس،
وبه قال الشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأحمد بن حنبل) (1).
وفي المغني لابن قدامة: (بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار،
انقلبوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر إلى بذل الجزية، فأبوا وأنفوا،
وقالوا: نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا
آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة:
يا أمير المؤمنين! إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن
عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فزدهم
وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن
كل عشرين دينارا دينارا، ومن كل مأتي درهم عشرة دراهم، وفيما سقت السماء
الخمس، وفيما سقى بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر،
ولم يخالفه أحد من الصحابة، فصار اجماعا. وقال به الفقهاء بعد الصحابة، منهم ابن
أبي ليلى والحسن بن صالح، وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي، ويروى عن
عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب إلا الجزية، وقال: لا والله إلا
الجزية، وإلا فقد آذنتكم بالحرب. - إلى أن قال ابن قدامة: - والعمل على الأول لما
ذكرنا من الاجماع) (2).
ولاحظ العلامة عليهم بما حاصله: قضية عمر حكاية حال لا عموم لها،



(1) التذكرة، كتاب الجهاد.
(2) المغني ج 10 ص 581 - 582.
92
فجاز أن تكون المصلحة للمسلمين في كف أذاهم بذلك، ولأنه كان يأخذ جزية لا
صدقة وزكاة، ولأنه يؤدي إلى أن يأخذ أقل من دينار بأن تكون صدقته أقل من
ذلك - وهذا لا يجوز بناء على أن أقل الجزية دينار - ولأنه يلزم أن يقيم بعض أهل
الكتاب في بلد الإسلام مؤبدا بغير عوض وهو ما إذا لا يكون له زرع ولا
ماشية) (1).
أقول: الشاهد على مختار الأصحاب مضافا إلى ما ذكره العلامة، ما رواه
الصدوق في الفقيه عن الرضا عليه السلام أن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا عمر أن
يعفيهم فخشى أن يلحقوا بالروم، فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم،
وضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر الحق (2).
فإن الظاهر من قوله عليه السلام: (فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به) وإن كان تقرير
ما صنعه عمر، إلا أن المستفاد من قوله: (إلى أن يظهر الحق) أن ما فعله عمر على
فرض حجيته كان حسب ما اقتضته مصلحة وقتية، فلا موجب له بعد انتفاء تلك
المصلحة بصيرورة المسلمين ذا قوة وشوكة.
أضف إلى ذلك: إذا كان الموجب لما صنعه عمر هو مصلحة المسلمين، كما
اعترفوا به، فلا يختص ذلك ببني تغلب لما يأتي من أن أمر الجزية كما وكيفا بيد
الإمام حسب ما يراه من المصلحة.
وروى من طريق العامة ما يؤيد ويؤكد مختار الأصحاب وهو قول أمير
المؤمنين عليه السلام: لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلتهم،
ولأسبين ذراريهم، قد نقضوا العهد، وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم) (3)
فإنه كالصريح في عدم الفرق بين بني تغلب وغيرهم في حكم الجزية وإن صاروا
مستحقي القتل بسبب نقضهم العهد.



(1) التذكرة، كتاب الجهاد.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 6.
(3) الأموال ص 20، كنز العمال ج 4 ص 510.
93
وثمرة الخلاف بين الأصحاب وبين العامة تظهر في نساء بني تغلب، إذ على
رأي الأصحاب، لا جزية عليهن وإن كن ذوات أموال زكوية، لما يأتي من سقوط
الجزية عن نساء أهل الذمة، وهذا بخلاف رأيهم من أنها صدقة تؤخذ مضاعفة من
مال من يؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما.
قال في الأموال:
(سمعت محمد بن الحسن يخبر عن أبي حنيفة، قال: أما نساؤهم فهن بمنزلة
رجالهم في كل شئ) (1).
نعم خالفهم في ذلك الشافعي (2). ولعله يرى أن ما يؤخذ منهم تكون جزية وإن
كانت باسم الصدقة.
من ادعى أنه من أهل الكتاب:
تسالم الأصحاب على أنه لو ادعى شخص أنه من أهل الكتاب وبذل الجزية،
لا يكلف البينة.
قال الشيخ في المبسوط: (وإذا أحاط المسلمون بقوم من المشركين فذكروا
أنهم أهل كتاب، وبذلوا الجزية، فإنه تقبل منهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة دينهم إلا
من جهتهم فيعقد لهم الجزية) (3).
وفي قواعد العلامة: (ولو ادعى أهل حرب أنهم منهم، قبل بذلهم للجزية، ولم
يكلفوا البينة، فإن ظهر كذبهم، انتقض العهد وجاز اغتيالهم لتلبيسهم) (4).
وفي تذكرته: (ولو غزا الإمام قوما فادعوا أنهم أهل كتاب، سألهم، فإن قالوا:
دخلنا أو دخل آباؤنا قبل نزول القرآن في دينهم، أخذ منهم الجزية وشرط عليهم
نبذ العهد والمقاتلة لهم إن بان كذبهم ولا يكلفون البينة على ذلك ويقرون بأخذ
الجزية، فإن بان كذبهم انتقض عهدهم ووجب قتالهم، ويظهر كذبهم باعترافهم



(1) الأموال ص 20.
(2) التذكرة كتاب الجهاد.
(3) المبسوط ج 2 ص 37.
(4) القواعد ج 1 ص 508.
94
بأجمعهم بأنهم عباد وثن، فإن اعترف بعضهم وأنكر الآخرون، انتقض عهد
المعترف خاصة دون غيره ولا تقبل شهادتهم على الآخرين، فإن أسلم منهم اثنان
عدلا ثم شهدا أنهم ليسوا أهل الذمة. انتقض العهد) (1).
وفي الجواهر بعد قول المصنف: (ولو ادعى أهل حرب أنهم منهم وبذلوا
الجزية لم يكلفوا البينة وأقروا): (لا أجد فيه خلافا) (2).
أقول: لم أجد في النصوص ما دل على ذلك ولعل وجهه بعد ما عرفت من
تسالم الأصحاب عليه، ما ذكره الشهيد في المسالك بقوله:
(إنما لم يكلفوا البينة لأن الدين أمر قلبي وشعاراته الظاهرة ليست جزء منه
فربما تعذر إقامة البينة ولقبول قولهم في دينهم الذين يدينون به) (3).
ويؤيد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله أمراء السرايا بقبول الجزية ممن يبذلها (
تكن بينة عادلة منهم تشهد على أنهم من أهلها ولم تكن في البين إلا دعواهم.
وأما العامة، فلم أجد في كلماتهم شيئا في المقام إلا ما ذكره الماوردي بقوله:
" ومن جهلت حاله، أخذت جزيته، ولم تؤكل ذبيحته ولم تنكح نساؤه " (5).



(1) التذكرة كتاب الجهاد.
(2) الجواهر ج 21 ص 235.
(3) المسالك ج 1 ص 157.
4). مع أنه لم (4) تهذيب الأحكام ج 6 ص 138.
(5) الأحكام السلطانية ص 154.
95
الفصل الثالث
في من تسقط عنه الجزية
قد عرفت أن المقصود الأولي للإسلام هدم أساس الكفر والشرك من ساحة
الأرض واستقرار التوحيد عليها وبسط العدالة فيها وهذه الأغراض العالية لا
تتحقق إلا باعتناق جميع الملل للدين الحنيف، والالتزام بتعاليمه النورانية
وأحكامه المقدسة.
وعليه فقبول الجزية من طائفة من الكفار واقرارهم على دينهم، يكون على
خلاف الأصل، يحتاج في كل مورد إلى دليل.
وقد دل الدليل على قبولها من أهل الكتاب، ومن له شبهة الكتاب، فالحكم
بسقوط الجزية من صنف من هؤلاء أيضا يحتاج إلى دليل، واللازم في فرض
الشك الحكم بثبوتها.
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في موارد:
حكم النساء والصبيان والمجانين:
لا خلاف بين أصحابنا في سقوط الجزية عن النساء والصبيان والمجانين
وهو المشهور بين فقهاء العامة.

96
قال الشيخ في المبسوط: " وأما النساء والصبيان والبله والمجانين، فلا جزية
عليهم بحال " (1).
أقول: البله جمع بلهاء من بله، بمعنى ضعف عقله وعجز رأيه.
وقال في الجمل والعقود: (ولا تؤخذ الجزية من أربعة: الصبيان والمجانين
والبله والنساء (2).
وقال المفيد: (الجزية واجبة على جميع كفار أهل الكتاب من الرجال البالغين
إلا من خرج عن وجوبها منهم بخروجه عن اعتقاد الكفر وإن دخل معهم في بعض
أحكامهم من مجانينهم ونواقص العقول منهم) (3).
وفي الكافي لأبي الصلاح: (وجزية الرؤوس مختصة بأحرار رجالهم العقلاء
البالغين السليمين دون النساء والعبيد والأطفال والمجانين وذوي العاهات من
فقرائهم) (4).
وقال المحقق في الشرائع: (ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين
والنساء) (5).
وقال في الجواهر بعد العبارة المذكورة عن المحقق: (لا أجد فيه خلافا، بل
في المنتهى ومحكي الغنية والتذكرة، الاجماع عليه) (6).
وقال الماوردي: (ولا تجب الجزية إلا على الرجال الأحرار العقلاء ولا
تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون) (7).
وقال في المغني بعد عبارة الخرقي - ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا
امرأة - ما لفظه: " لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا، وبه قال مالك وأبو حنيفة
وأصحابه، والشافعي، وأبو ثور، وقال ابن المنذر: ولا أعلم عن غيرهم



(1) المبسوط ج 2 ص 38.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 61.
(3) المقنعة ص 269.
(4) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 33.
(5) الشرائع ج 1 ص 327.
(6) الجواهر ج 21 ص 236.
(7) الأحكام السلطانية ص 154.
97
خلافهم " (1).
نعم خالفهم ابن الحزم في حكم النساء، حيث قال: " والجزية لازمة للحر منهم
والعبد والذكر والأنثى " (2).
هذا ما قاله الفقهاء في المسألة، ويمكن أن يكون مستندهم في ذلك الروايات
التالية:
1 - خبر حفص بن غياث: (أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النساء كيف سقطت
الجزية عنهن ورفعت عنهن؟
قال: فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب
إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن (قاتلت) أيضا فأمسك عنها ما أمكنك، ولم تخف خللا،
فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان (ذلك) في دار الإسلام أولى، ولو امتنعت
أن تؤدى الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يكن قتلها رفعت الجزية عنها، ولو امتنع
الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل
الرجال مباح في دار الشرك، وكذلك المقعد من أهل الذمة، والأعمى، والشيخ
الفاني، والمرأة والولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية) (3).
ويستفاد من الرواية أن سقوط الجزية دائر مدار حرمة القتل، وأن كل كتابي
يحرم قتله في دار الحرب تسقط عنه الجزية، ولو تم ذلك لتبين حكم أصناف أخر
أيضا، ممن حكموا بسقوط الجزية عنهم، أعني المقعد والأعمى والشيخ الفاني،
وسيأتي الكلام فيهم.
وضعف سندها بعامية حفص منجبر بعمل الأصحاب، والاجماع المدعى من
بعضهم، مضافا إلى أن الرواية مروية في المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي أيوب
وحفص بن غياث.
2 - وفي الدعائم عن علي عليه السلام أنه قال: الجزية على أحرار أهل الذمة الرجال



(1) المغني لابن قدامة ج 10 ص 572.
(2) المحلى ج 7 ص 347.
(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
98
البالغين وليس على العبيد منهم ولا على الأطفال ولا على النساء جزية (1).
3 - ويدل على حكم المسألة في الجملة خبر طلحة عن الصادق عليه السلام:
(جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، ولا من المغلوب عقله) (2).
وسند الخبر صحيح إلى طلحة وهو عامي على ما ذكره النجاشي.
وقال في الصحاح: (المعتوه: الناقص العقل) (3).
وقال في الجواهر بعد نقل الخبر: (ولعل المراد من المعتوه فيه ما عن المبسوط
والنهاية والوسيلة والسرائر من زيادة البله) (4).
4 - أن اعطاء الجزية تكليف، وهو مرفوع عن الصبيان والمجانين بمقتضى
حديث رفع القلم.
قال الشيخ في المبسوط: (وأما المجنون فلا جزية عليه، لأنه غير مكلف) (5).
5 - قال العلامة: (وتسقط الجزية عن الصبي اجماعا لقوله عليه السلام - لمعاذ: (خذ
من كل حالم دينارا، دل بمفهومه على سقوط الجزية عن غير البالغ).
وأنت خبير بأن الاستدلال به يبتني على ثبوت مفهوم الوصف، وهو غير ثابت
بل من المحتمل اشتراك لفظ (الحالم) بين الذكر والأنثى، ويؤيده أن هذا الخبر قد
روي بسند آخر هكذا:
(فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر، ذكرا أو أنثى) (6).
وعليه فيكون استعمال لفظ الحالم لاخراج غير الحالم لا لاخراج الحالمة.
6 - إن الجزية تؤخذ لحقن الدم، وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها.
وفيه أن هذا يبتني على القول بأن الجزية إنما شرعت لحقن دماء أهل الذمة،
وقد عرفت في الفصل الأول خلاف ذلك وذكرنا هناك وجوها خمسة في فلسفة



(1) جامع أحاديث الشيعة ج 13 ص 218 ح 2.
(2) الوسائل ج 11 الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(3) صحاح اللغة ج 6 ص 2239.
(4) الجواهر ج 21 ص 237.
(5) المبسوط ج 2 ص 41.
(6) سنن البيهقي ج 9 ص 194.
99
تشريع الجزية، وقلنا: إن المتعين منها الوجه الخامس، وقد عرفت أدلتها.
وأما العامة فهم أيضا استدلوا بوجوه نذكر أهمها:
1 - أن الله تعالى أوجب الجزية على من هو من أهل القتال لقوله - سبحانه -:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية (1).
والمقاتلة مفاعلة من القتال، فتستدعي أهلية القتال من الجانبين، فلا تجب
على من ليس من هو من أهل القتال، وهؤلاء ليسوا من أهله، فلا تجب عليهم.
أقول: هذا الاستدلال وجيه ويؤيده خبر حفص بن غياث الذي تمسك به
الأصحاب.
2 - قول النبي صلى الله عليه وآله لمعاذ: (خذ من كل حالم دينارا) دليل على أنها لا
تجب
على غير بالغ (2).
وقد عرفت ما في هذا الاستدلال من الخدشة.
3 - أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد، أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على
النساء والصبيان (3).
وأما ابن الحزم الذي خالف القوم وذهب إلى عدم سقوط الجزية عن النساء،
فاستدل على قوله ببعض أخبارهم.
منها: ما عن سلمة بن مسروق قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله معاذ بن جبل إلى
اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم وحالمة من أهل الذمة دينارا، أو قيمته من
المعافر) (4).
ومنها ما عن عبد الرزاق عن ابن جريح، قال: في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
أهل يمن: " من كره الإسلام من يهودي، أو نصراني، فإنه لا يحول عن دينه، وعليه



(1) التوبة / 29.
(2) المغني ج 10 ص 572.
(3) الأموال ص 23.
(4) المحلى ج 7 ص 347.
100
الجزية على كل حالم ذكر، أو أنثى، حر أو عبد دينار " (1).
ونظير هذين الخبرين، ما نقله البيهقي في سننه بسنده عن أبي زرعة بن سيف
ابن ذي يزن قال: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله كتابا هذا نسخته - فذكرها - وفيها
(ومن يكن على يهوديته أو على نصرانيته، فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية على
كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد دينار أو قيمته من المعافر) (1).
ولكن هذه الأخبار أعرض عنها علماء العامة أيضا، وناقشوا في أسانيدها.
قال البيهقي نفسه بعد نقل رواية أبي زرعة: (وهذه الرواية في رواتها من
يجهل ولم يثبت بمثلها عند أهل العلم حديث).
أضف إلى ذلك ما ذكره أبو عبيد في أمواله: (فإن يكن الذي ذكر الحالمة
محفوظا فإن وجهه عندي - والله أعلم - أن يكون ذلك كان في أول الإسلام إذ كان
نساء المشركين وولدانهم يقتلون مع رجالهم وقد كان ذلك ثم نسخ) (2).
حكم المجنون غير المطبق: لا خلاف في سقوط الجزية عن المجنون
المطبق، وإنما الكلام في غير المطبق أعني من يجن ويفيق، فاعلم أن له ثلاثة صور:
الصورة الأولى: أن يكون جنونه غير مضبوط مثل من يجن ساعة غير معينة
من اليوم أو أياما من الحول.
الصورة الثانية: أن يكون جنونه مضبوطا، مثل من يجن يوما ويفيق يومين.
الصورة الثالثة: أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم
يجن جنونا مستمرا.
أما الصورة الأولى، فعن الشيخ في المبسوط أنه يعمل بالأغلب، فتؤخذ
الجزية منه إن كانت الإفاقة أغلب وتسقط عنه مع العكس (4).
وقال في الجواهر: وهو مع عدم نقل الحكم عنه حال التساوي لم نعرف له



(1) المحلى ج 7 ص 348.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 194.
(3) الأموال ص 23.
(4) المبسوط ج 2 ص 41.
101
مستندا ينطبق على مذهب الإمامية (1).
وأما الصورة الثانية، ففي المنتهى: فيه احتمالان: أحدهما: الاعتبار بالأغلب
أيضا، والثاني: تلفيق أيام إفاقته (2) (3).
وأما الصورة الثالثة، ففي المنتهى أيضا: عليه في الأول من الجزية بقدر
ما أفاق من الحول إذا استمرت الإفاقة بعد الحول، وفي الثاني لا جزية عليه، لأنه
لم يتم الحول مفيقا (4).
قال في الجواهر بعد نقل هذه الكلمات: (وجميعه كما ترى لا يرجع إلى
محصل ولا قاعدة يركن إليها) (5).
أقول: يستفاد من آية الجزية (6) ومن بعض الأخبار كخبر حفص بن غياث (7)
أنها تؤخذ ممن يصدق عليه عنوان (المقاتل)، ومن المعلوم انطباق هذا العنوان
على المجنون في حال إفاقته، لا في حال جنونه وقد عرفت أن المستفاد من خبر
حفص أن سقوط الجزية يدور مدار حرمة القتل، وهذا المعيار متحقق في المجنون
في حال جنونه، لا في حال إفاقته، ومقتضى ذلك تلفيق أيام الإفاقة في جميع
الصور، وأخذ الجزية منه بقدر أيام إفاقته وسقوطها عنه بقدر أيام جنونه ولا وجه
لاعتبار الأغلب.
وتعذر ضبط أيام الإفاقة والجنون لا يوجب الحكم باعتبار الأغلب لاحتمال
سقوط الجزية حينئذ رأسا، ولعله لذا قال في المسالك:
" الأقوى أن المجنون لا جزية عليه مطلقا إلى أن يتفق له إفاقة سنة متوالية " (8).



(1) الجواهر ج 21 ص 243.
(2) منتهى المطلب ج 2 ص 964.
(3) وفي كيفية التلفيق أيضا احتمالان: أحدهما: تلفيقها حولا وتؤخذ منه لعدم جواز أخذها
قبل الحول. والثاني: أخذها منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق.
(4) منتهى المطلب ج 2 ص 964.
(5) الجواهر ج 21 ص 243.
(6) التوبة / 29.
(7) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
(8) المسالك ج 1 ص 157.
102
فالأقرب أما الحكم بالتلفيق مطلقا إذا لم يتعذر ذلك، وأما الحكم بالسقوط
مطلقا، والأول أوفق بالقاعدة.
حكم العبيد:
المشهور بين الأصحاب والعامة عدم وجوب الجزية على المملوك.
قال الشيخ في المبسوط: (إن الجزية لا تؤخذ من المرأة ولا مجنون حتى
يفيق ولا مملوك حتى يعتق) (1).
وقال العلامة: اختلف علماؤنا في ايجاب الجزية على المملوك، فالمشهور
عدم وجوبها عليه، ذهب إليه الشيخ، وهو قول الجمهور كافة، وقال آخرون: (لا
تسقط عنهم الجزية) (2).
وقال في التحرير: (الأقرب عدم سقوط الجزية عن العبد، واختار الشيخ
سقوطها، ولا فرق بين أن يكون لذمي أو لمسلم، ويؤديها مولاه عنه) (3).
وفي المغني بعد قول الخرقي - ولا على سيد عن عبده إذا كان السيد مسلما -
ما لفظه: (لا خلاف في هذا نعلمه) - إلى أن قال -: (قال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد) (4).
والمخالف من العامة ابن الحزم، فإنه قال: (والجزية لازمة للحر منهم
والعبد) (5).
فالمتحصل من هذه الكلمات أن المسألة ذات قولين.
استدل على عدم الوجوب بوجوه:
1 - ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من أن (لا جزية على العبيد) (6).
2 - أنه مال، فلا معنى لضرب مال، وهو الجزية عليه.
3 - أنه لا يقتل فلا جزية عليه.



(1) المبسوط ج 2 ص 40.
(2) المنتهى ج 2 ص 965.
(3) التحرير ج 1 ص 149.
(4) المغني ج 10 ص 587.
(5) المحلى ج 7 ص 347.
(6) المبسوط ج 2 ص 40.
103
4 - أنه كل على مولاه، لا يقدر على شئ.
5 - أنه لا مال له، فأشبه الفقير العاجز.
6 - أنه تعالى قال في آية الجزية: حتى يعطوا (1) ولا يقال لمن لا يملك:
حتى يعطي.
واستدل على الوجوب أيضا بوجوه:
1 - عموم آية الجزية والروايات لأحرار أهل الذمة وعبيدهم.
2 - روي من طرق الجمهور عن علي عليه السلام أنه قال: (لا تشتروا رقيق أهل
الذمة ولا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج فيبيع بعضهم بعضا، ولا يقرن أحدكم
بالصغار بعد أن أنقذه الله منه) (2). الظاهر في ثبوت الجزية التي يؤديها سيده عنه.
3 - أنه مشرك فلا يستوطن دار الإسلام بغير عوض كالحر.
4 - إذا وجبت الجزية على سيده، وجبت عليه بالأولوية.
5 - أنه ذكر مكلف قوي مكتسب، فوجبت عليه كالحر.
وأنت خبير بضعف أدلة الطرفين.
أما أدلة السقوط، فلأن غاية ما يثبت بها عدم الجزية على نفس العبد، وهو
لا ينافي فوجوب دفعها على سيده، خصوصا مع صدق عنوان (المقاتل) عليه
عند الحرب.
واضعف منها أدلة القول الثاني، أما العموم فلامكان تخصيصها بأدلة النافين
خصوصا النبوي.
وأما العلوي، فهو مضافا إلى ضعف سنده، يدل على ثبوت الخراج عليه، لا
الجزية، اللهم إلا أن يقال إن لفظي الخراج والجزية كلفظي الفقير والمسكين إذا
افترقا اجتمعا في المعنى، أو يقال بكونهما مترادفين في المعنى، أو يقال بعدم القول
بالفصل في حكم الجزية والخراج بالنسبة إلى العبيد.



(1) التوبة / 29.
(2) الجواهر ج 21 ص 238.
104
ويؤكد احتمال الترادف أن لفظ " الصغار " الوارد في الحديث لا يستعمل غالبا
إلا مشعرا بالجزية، وهو مأخوذ من آية الجزية (1).
وأما سائر الوجوه فبطلانها غني عن البيان.
نعم روى الصدوق بإسناده عن أبي الورد أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن مملوك
نصراني لرجل مسلم عليه جزية؟ قال: نعم، قال: فيؤدي عنه مولاه المسلم
الجزية؟ قال: نعم، إنما هو ماله يفتديه إذا أخذ يؤدي عنه (2).
ولا بأس بسند الرواية.
هذه أدلة القولين ونقدها.
ولعل الأقرب هو التفصيل بين عبد المسلم وبين عبد الكافر، والقول بعدم
الوجوب في الأول، ووجوبه في الثاني.
أما الأول فلأن وجوب الجزية على العبد ينتهي إلى وجوب دفعها على مولاه
المسلم، والمسلم لا جزية عليه.
وأما الثاني، فلأن مقتضاه وجوب دفعها على مولاه الكافر ولا ضير في ذلك،
خصوصا مع الأصل والمطلقات وعدم ثبوت ما يقتضي تقييدها.
وعلى كل حال فلا ثمرة عملية لهذا البحث لأن موضوعه منتف في عصرنا،
وإنما تعرضنا له اتماما للرسالة.
حكم الأعمى والشيخ الفاني والمقعد:
المشهور بين الأصحاب ثبوت الجزية على الشيخ الفاني - المعبر عنه بالهم -
والأعمى والمقعد. قال الشيخ في الخلاف:
(الشيوخ الهرمي... يؤخذ منهم الجزية، وللشافعي فيه قولان) (3).
وقال العلامة: " يؤخذ الجزية من الشيخ الفاني والزمن، والأقرب مساواة



(1) التوبة / 29.
(2) الوسائل، ج 11 كتاب الجهاد، الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
(3) الخلاف ج 2 ص 510.
105
الأعمى لهما " (1).
ومن الأصحاب من تردد في المسألة، قال المحقق:
" وهل تسقط عن الهم؟ قيل: نعم، وهو المروي، وقيل: لا " (2).
وقال الشهيد: (وفصل بعضهم بأنه إذا كان - الهم ومثله الأعمى والراهب - ذا
رأي وقتال، أخذت منه، وإلا فلا، والأقوى الوجوب مطلقا) (3).
أقول: ويستفاد هذا التفصيل من كلام الشيخ أيضا في المبسوط، قال:
(والشيخ الفاني والزمن وأهل الصوامع والرهبان الذين لا قتال فيهم ولا رأي
لهم تؤخذ منهم الجزية) (4).
وفي الجواهر عن الإسكافي والنافع والقواعد السقوط عن الشيخ الفاني (5).
وأما العامة فهم اختلفوا على قولين، قال أبو يوسف: (ولا تؤخذ الجزية... من
أعمى لا حرفة له، ولا عمل... ولا من مقعد).
وقال:
(ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شئ له) (6).
وفي المغني لابن قدامة بعد قول الخرقي - ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى -
ما حاصله:
(هؤلاء الثلاثة ومن في معناهم، ممن به داء لا يستطيع معه القتال، ولا يرجى
برؤه، لا جزية عليهم، وهو قول أصحاب الرأي.
وقال الشافعي في أحد قوليه: عليهم الجزية " (7).



(1) التحرير ج 1 ص 149.
(2) الشرائع ج 1 ص 327.
(3) المسالك ج 1 ص 157.
(4) المبسوط ج 2 ص 42.
(5) الجواهر ج 21 ص 237.
(6) الخراج ص 122 و 123.
(7) المغني ج 10 ص 577.
106
استدل الأصحاب بالعمومات وعدم ثبوت المخصص لها في المقام، وأما
الشافعية فاستدلوا على الثبوت بأن الجزية كأجرة الدار، فيستوي فيها أرباب
الأعذار وغيرهم.
وأما النافين من العامة فتارة استدلوا على مختارهم بأن هؤلاء لا يلزمهم
أصل النصرة بأبدانهم لدار الإسلام لو كانوا مسلمين، فكذلك لا يؤخذ منهم ما هو
خلف عن النصرة وهو الجزية، وأخرى بأنهم ليسوا من أهل القتال فلا تجب عليهم
الجزية، لأنها بدل عن قتلهم (1).
أقول: قد عرفت أن مقتضى رواية حفص بن غياث (2) أن سقوط الجزية دائر
مدار حرمة القتل وأن كل كتابي يحرم قتله عند الحرب تسقط عنه الجزية، ولا يبعد
اتخاذ هذا المفاد ضابطة في الباب والحكم بأن الجزية تسقط عن هؤلاء، وقد قلنا
إن ضعف الرواية بعامية حفص منجبر بعمل الأصحاب في غير هذه المسألة مع أنها
مروية في المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي أيوب وحفص بن غياث.
وروى الشيخ بسند صحيح عن السكوني عن جعفر عن آبائه عليهم السلام أن
النبي صلى الله عليه وآله قال: اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم (3).
هذا مضافا إلى أن الاحتياط حسن على كل حال.
وملاحظة جميع ذلك يقوى القول بالتفصيل بين من كان أهل قتال أو كان ذا
رأي وتدبير في المسائل الحربية، فيؤخذ منه الجزية، وبين من لا رأي له في ذلك،
أو لم يكن من أهل القتال، فلا تؤخذ منه، وقد عرفت ظهور كلام المبسوط أيضا
في هذا التفصيل.
وفي التذكرة أيضا عبارة يمكن استفادة هذا التفصيل منها، قال: " الشيخ من
المحاربين إن كان ذا رأي وقتال جاز قتله اجماعا وكذا إن كان فيه قتال ولا



(1) أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 140.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 2.
107
رأي له أو كان له رأي ولا قتال فيه، لأن دريد بن الصمة قتل يوم بدر، وكان له مائة
وخمسون سنة وكان له معرفة بالحرب، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص
حديد ليعرفهم كيفية القتال فقتله المسلمون ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وإن لم يكن
له رأي ولا قتال لم يجز قتله عندنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، ومالك والليث،
والأوزاعي، وأبو ثور...) (1).
حكم الفقير:
اختلف الفقهاء في وجوب الجزية على فقراء أهل الذمة وعدمه، فذهب الشيخ
في أحد قوليه وابن حمزة وابن زهرة والديلمي والمحقق، والحلي، وصاحب
الجواهر والشافعي في أحد قوليه وابن مفتاح - من الزيدية - والمزني إلى الأول.
وذهب الشيخ في الخلاف والمفيد والإسكافي والحنفية والحنابلة والشافعي
في أحد قوليه إلى الثاني.
وللشافعي قول ثالث وهو أنه يخرج من دار الإسلام.
قال الشيخ: (من لا كسب له ولا مال، لا يجب عليه الجزية، وبه قال أبو
حنيفة، وللشافعي فيه قولان، أحدهما مثل ما قلناه والآخر، وهو أصحهما أنها تجب
عليه) (2).
ولكن في المبسوط: (والفقير الذي لا شئ معه تجب عليه الجزية) (3).
وقال العلامة: (في سقوط الجزية عن الفقير من أهل الكتاب قولان: أشهرهما
أنه لا يسقط بل ينظر بها إلى وقت يساره ويؤخذ منه ما قرر عليه في كل عام حال
فقره اختاره الشيخ وأسقط الجزية المفيد) (4).
وفي الجواهر بعد عبارة الشرائع (وتجب على الفقير) ما لفظه: (كما هو صريح
الشيخ والفاضل وظاهر ابني حمزة وزهرة، والديلمي والحلي على ما حكي عن



(1) التذكرة كتاب الجهاد.
(2) الخلاف ج 2 ص 511.
(3) المبسوط ج 2 ص 38.
(4) التحرير ج 1 ص 149.
108
بعضهم، بل هو المشهور... لكن عن الإسكافي والمفيد والشيخ في الخلاف عدمها،
بل في الأخير الاجماع عليه " (1).
وفي المغني لابن قدامة: (ولا تجب على فقير عاجز عنها، وهذا أحد قولي
الشافعي، وله قول أنها تجب عليه) (2).
احتج المثبتون بعموم قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية (3) وعموم قوله صلى الله عليه وآله:
(خذ من كل حالم دينارا) (4).
واحتج النافون بوجوه:
1 - قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (5).
أقول: إن القائلين بالوجوب لم يقولوا بوجوب دفعها عليه في أول السنة أو
في آخرها - على اختلاف القولين في زمان دفع الجزية - من دون قيد حتى
يوجب ذلك التكليف بغير الوسع المنقى بالآية، بل صريح كلماتهم أنه على القول
بالوجوب ينتظر بها حتى يوسر ويقدر على دفعها (6).
2 - قوله - سبحانه -: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها (7).
والكلام في هذه الآية نظير الكلام في الآية السابقة.
3 - دعوى الاجماع (8).
وهو موهون بعد ذهاب جمع كثير من الأصحاب، بل مشهورهم إلى الوجوب،
بل حاكي الاجماع، وهو الشيخ في الخلاف، ذهب نفسه في المبسوط إلى
الوجوب (9).



(1) الجواهر ج 21 ص 239.
(2) المغني ج 10 ص 589.
(3) التوبة / 29.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 187.
(5) البقرة / 286.
(6) راجع الشرائع ج 1 ص 327 والتحرير ج 1 ص 149 والجواهر ج 21 ص 240.
(7) الطلاق / 7.
(8) الخلاف ج 2 ص 511.
(9) المبسوط ج 2 ص 38.
109
والحاصل أن مستند النافين ضعيف جدا لا يكفي لاثبات دعواهم وحينئذ
فلا مانع من التمسك بالعمومات، خصوصا مع خبر مصعب (1) الوارد في بيان كمية
جزية أهل المداين: "... وعلى سفلتهم وفقرائهم اثنا عشر درهما) الذي صريح في
مفروغية ثبوت الجزية على الفقراء، ومثله ما في المقنعة عن أمير المؤمنين عليه السلام:...
وجعل على فقرائهم اثني عشر درهما) (2).
ثم إن بعض العامة تمسك لنفي الوجوب بقوله - سبحانه (3) وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة (4).
وأنت خبير بأن الآية واردة في أداء الدين ومفاده مطلوبية الامهال، لا
السقوط رأسا، فالآية أجنبية عن المقام، وعلى فرض شمولها له، شاهدة على
الثبوت لا على النفي، كما هو واضح جدا.
وللنافين من العامة وجوه أخر، تبتني على طريقتهم في الاستنباط، كالعمل
بالقياس، والاعتماد على عمل الأصحاب.
منها: أن الخراج كما لا يوظف على أرض لا يمكن استغلالها، فكذلك الجزية
لا توضع على الذمي العاجز بجامع عدم القدرة والطاقة.
حكم الرهبان وأصحاب الصوامع:
المشهور بين الأصحاب وجوب الجزية على الرهبان وأصحاب الصوامع،
قال الشيخ في الخلاف: (الشيوخ الهرمي وأصحاب الصوامع والرهبان يؤخذ
منهم الجزية، وللشافعي فيه قولان بناء على القولين إذا وقعوا في الأسر هل يجوز
قتلهم أم لا، وفي أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية.
دليلنا على الأول قوله تعالى: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (5)



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 8.
(3) البقرة / 280.
(4) أحكام الذميين والمستأمنين ص 141.
(5) التوبة / 29.
110
ولم يفصل " (1).
وفي التحرير: " ويؤخذ من أهل الصوامع والرهبان " (2).
وفي الجواهر بعد عبارة المحقق (وتؤخذ ممن عدا هؤلاء ولو كانوا رهبانا أو
مقعدين): (بلا خلاف أجده فيه بيننا إلا ما سمعته من الإسكافي) (3).
وأما العامة فقد اختلفوا في ذلك، ففي المغني لابن قدامة: (ولا جزية على أهل
الصوامع من الرهبان، ويحتمل وجوبها عليهم، وهذا أحد قولي الشافعي، وروي
عن عمر بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية، على كل راهب
دينارين، ووجه ذلك عموم النص، ولأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية،
فأشبه الشماس، ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية، فلم تجب عليهم
كالنساء. وقد ذكرنا أنه يحرم قتلهم، والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في
معناهن، ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير) (4).
أقول: الشماس خادم الكنيسة، جمعه شمامسة. قال في المنجد: (والكلمة من
السريانية معناها الخادم).
وقال القرطبي: (واختلف في الرهبان: فروى ابن وهب عن مالك أنها تؤخذ
منهم، قال مطرف وابن الماجشون هذا إذا لم يترهب بعد فرضها، فإن فرضت ثم
ترهب لم يسقطها ترهبه) (5).
ومستند الأصحاب كما عرفت في كلام الشيخ عموم قوله - سبحانه - في آية
الجزية: حتى يعطوا الجزية (6) أو عموم (كل حالم) في خبر معاذ (7).
نعم قد عرفت أن مقتضى التعليل الوارد في رواية حفص بن غياث (8)، أن كل



(1) الخلاف ج 2 ص 510.
(2) التحرير ج 1 ص 149.
(3) الجواهر ج 21 ص 239.
(4) المغني ج 10 ص 578.
(5) تفسير القرطبي ج 8 ص 112.
(6) التوبة / 29.
(7) سنن البيهقي ج 9 ص 187.
(8) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
111
كتابي يحرم قتله عند الحرب تسقط عنه الجزية، ولا يبعد جريان هذا المناط في
المقام أيضا، لأن هؤلاء لا يقتلون، لقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا (1)، وفي خبر ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله: (لا تقتلوا الولدان ولا
أصحاب الصوامع) (2).
اللهم إلا أن يقال: إن الجزية - كما عرفت في الفصل الأول - تؤخذ من أهل
الذمة لتصرف في حسن إدارتهم والمدافعة عن حقوقهم والقيام بحمايتهم وبدلا
عن تكليفهم بالخدمة العسكرية، والرهبان وأرباب الصوامع يتمتعون كغيرهم من
مزايا الدولة الإسلامية، فللحاكم الإسلامي أن يضع عليهم الجزية بقدر وسعهم،
وهذا أقرب إلى الصواب، والله عالم.
حكم ما إذا أسلم الذمي:
وللمسألة صورتان:
1 - ما إذا أسلم في أثناء الحول.
2 - ما إذا أسلم بعد الحول.
وأما الصورة الأولى فالظاهر اتفاق الأصحاب على سقوط الجزية حينئذ.
قال الشيخ في المبسوط: (... وإن أسلم وقد مضى بعض الحول فلا يلزمه
شئ) (3).
وفي الكافي لأبي الصلاح: (فمن أسلم قبل حلول الأجل سقطت عنه
الجزية) (4).
وفي المختصر النافع للمحقق: (وإذا أسلم الذمي قبل الحلول سقطت الجزية) (5).
وفي القواعد: (فإن أسلم قبل الأداء سقطت وإن كان بعد الحول) (6).
وأما العامة فاختلفوا في حكم هذه الصورة، فذهب المشهور منهم إلى



(1) البقرة / 190.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 90.
(3) المبسوط ج 2 ص 42.
(4) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 33.
(5) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 226.
(6) قواعد الأحكام ج 1 ص 510.
112
السقوط. قال أبو يوسف:
" ولا تؤخذ من مسلم جزية رأسه، إلا أن يكون أسلم بعد خروج السنة " (1).
وفي المغني لابن قدامة:
(إن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول، لم تجب عليه الجزية... وهذا قول مالك
والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي... وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول
قولان:
أحدهما عليه من الجزية بالقسط، كما لو أفاق بعد الحول) (2).
ومستند الحكم وجوه:
1 - قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (3) لأن الصغار
بأي معنى فسر - وقد تقدم ذكر الاحتمالات فيه - لا يمكن مع قبول الإسلام،
ولازم ذلك سقوط الجزية عمن أسلم، وهذا واضح.
2 - عموم قوله صلى الله عليه وآله: (الإسلام يجب ما قبله) (4) يفيد السقوط.
لا يقال: إن الجزية من الديون التي لا يجبها الإسلام.
فإنه يقال - كما في الجواهر -: إنها وإن كانت كالدين إلا أنها من مقتضيات
الكفر الذي يجبه الإسلام.
3 - قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: أنه (لا جزية على مسلم) (5).
نعم الخبر عامي غير موجود في مصادر الشيعة، إلا أن الأصحاب استدلوا به
في المقام وتلقوه بالقبول ولعل هذا يكفي في انجباره. وورد في المستدرك: (ليس
على المسلم جزية (6).



(1) الخراج ص 122.
(2) المغني ج 10 ص 579.
(3) التوبة / 29.
(4) المستدرك ج 7 الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2 والجامع الصغير ج 1
ص 123.
(5) الخلاف ج 2 ص 511.
(6) المستدرك الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 34.
113
ومقتضى عموم الخبر عدم الفرق بين من كان مسلما من أول الأمر وبين من
كان كافرا فأسلم.
وفي كلمات العامة أيضا وجوه من الاستدلال:
1 - التمسك بقوله - عز شأنه -: قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف (1).
2 - قال في المغني: (روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا ينبغي للمسلم أن يؤدي
الخراج، يعني الجزية... (2)
3 - أن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام كالقتل.
وفيه ما عرفت من أن الجزية لا تؤخذ من أهلها عقوبة، بل تؤخذ لتصرف في
حسن إدارتهم وبدلا عن تكليفهم بالخدمة العسكرية وغير ذلك.
4 - روى أبو عبيد بإسناده عن الزبير بن عدي قال: (أسلم دهقان على عهد
علي، فقال له علي: إن أقمت في أرضك رفعنا عنك جزية رأسك، وأخذناها من
أرضك الحديث) (3).
أقول: قوله: (وأخذناها من أرضك) معناه ثبوت الخراج على الأرض بعد
سقوط الجزية عن صاحبها، إذ قد عرفت أنه لا فرق في أخذ الخراج من الأرض
بين كون صاحبها مسلما وبين كونه كافرا.
وأما مخالفة الشافعي، فوجهها أن الجزية عنده دين مستقر في الذمة، فلا
يسقطه الإسلام كأجرة الدار (4).
وأما الصورة الثانية فحكمها حكم الصورة الأولى على المشهور بين
الأصحاب، قال الشيخ في الخلاف: (إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول
ثم مات أو أسلم قال الشافعي لم تسقط، وقال أبو حنيفة تسقط، وقال أصحابنا: إن



(1) الأنفال / 38.
(2) المغني ج 10 ص 579.
(3) الأموال ص 28.
(4) تفسير القرطبي ج 8 ص 112.
114
أسلم سقطت ولم يذكروا الموت، والذي يقتضيه المذهب أنه إذا مات لا تسقط عنه
لأن الحق واجب عليه يؤخذ من تركته " (1).
وفي الغنية: (وإذا أسلم الذمي وقد وجبت عليه الجزية بحول الحول، سقطت
عنه بالإسلام، بدليل الاجماع المشار إليه، ويعارض المخالف بقوله: الإسلام يجب
ما قبله، وبقوله: لا جزية على مسلم) (2).
وفي الشرائع: (وإذا أسلم قبل الحول، أو بعده قبل الأداء، سقطت الجزية على
الأظهر) (3).
وفي التحرير: (لو أسلم الذمي قبل أدائها، فإن كان قبل الحول، سقطت ولا
يؤخذ منه القسط، وإن كان بعده فقولان: أحدهما السقوط، والثاني عدمه، والأول
أقوى، ولا فرق بين أن يسلم ليسقط عنه الجزية أو يسلم لا لذلك) (4).
أقول: مستند الأصحاب هنا هو ما عرفت في الصورة الأولى بلا تفاوت.
ثم إن مقتضى عبارة الشرائع والتحرير أن الحكم بالسقوط بعد الحول، يختص
بما إذا أسلم قبل الأداء. وهذا هو الصحيح لعدم موجب لرد الجزية إليه بعد دفعها.
وأما العامة فلهم في هذه الصورة قولان، ذهب مالك والثوري وأبو عبيد إلى
السقوط أخذا بما عرفت في الصورة السابقة من الوجوه، وذهب الشافعي وأبو ثور
وابن المنذر إلى عدمه (5).
قائلا بأن الجزية دين يستحقه صاحبه، واستحق المطالبة به في حال الكفر،
فلم يسقط بالإسلام كالخراج وسائر الديون.
وأنت خبير بأن هذا لو كان صحيحا، لزم عدم السقوط في الصورة الأولى
أيضا مع أنهم - غير الشافعي - ذهبوا فيها إلى السقوط.
قال أبو يوسف: " ولا يؤخذ من مسلم جزية رأسه إلا أن يكون أسلم بعد



(1) الخلاف ج 2 ص 329.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153.
(3) الشرائع ج 2 ص 329.
(4) التحرير ج 1 ص 150.
(5) المغني ج 10 ص 579.
115
خروج السنة، فإنه إذا أسلم بعد خروجها فقد كانت الجزية وجبت عليه وصارت
خراجا لجميع المسلمين، فتؤخذ منه) (1).
حكم ما إذا مات الذمي:
ولهذا الفرع أيضا موردان:
1 - ما إذا مات بعد الحول
2 - ما إذا مات في أثناء الحول
وأما المورد الأول فيظهر من عبائر الأصحاب اتفاقهم على عدم سقوط
الجزية حينئذ، بل تؤخذ من تركته. قال الشيخ:
(وإن مات لم تسقط عنه وتؤخذ من تركته، فإن لم يترك شيئا فلا شئ على
ورثته) (2).
وفي الشرائع: (ولو مات بعد الحول، لم تسقط، وأخذ من تركته كالدين) (3).
وقال العلامة في قواعده: (ولو مات بعد الحول قبل الأداء أخذت من صلب
تركته) (4).
وقال في الجواهر بعد عبارة الشرائع المذكورة آنفا: (بلا خلاف أجده فيه كما
اعترف به غير واحد ولا اشكال) (5).
ووجه الحكم واضح وهو أن الجزية تجب - على المشهور بين الأصحاب -
في آخر الحول، فإذا حال الحول صارت مستقرة عليه كالدين ولا وجه لسقوطها
حينئذ.
وأما العامة فاختلفوا ها هنا، فذهب القاضي وأبو يوسف وأبو حنيفة إلى
السقوط وصار أحمد والشافعي إلى عدمه. قال أبو يوسف:
" وإن وجبت عليه الجزية فمات قبل أن تؤخذ منه، أو أخذ بعضها وبقي



(1) الخراج ص 122.
(2) المبسوط ج 2 ص 42.
(3) الشرائع ج 1 ص 329.
(4) القواعد ج 1 ص 510.
(5) الجواهر ج 21 ص 259.
116
البعض، لم يؤخذ بذلك ورثته ولم تؤخذ من تركته " (1).
وفي المغني لابن قدامة: (وإن مات الذمي بعد الحول، لم تسقط الجزية عنه
في ظاهر كلام أحمد، وهو مذهب الشافعي، وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنها
تسقط بالموت، وهو قول أبي حنيفة، ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز) (2).
ثم إن دليل النافين من العامة، هو دليل الأصحاب على عدم السقوط وقد
عرفته. وأما القائلين بالسقوط منهم فاحتجوا عليه بأن الجزية عقوبة على الذميين
فتسقط بالموت كالحدود، ولأنها تسقط بالإسلام، فتسقط بالموت أيضا.
وفيه أولا: أن الجزية لا تؤخذ منهم عقوبة، بل تؤخذ بدلا عن تكليفهم
بالخدمة العسكرية ولغرض المدافعة عن حقوقهم وغير ذلك من المصالح وقد
عرفت في الفصل الأول شواهد كثيرة على ذلك.
وثانيا أن الحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية فإنها ضريبة
مالية يمكن تعلقها بالتركة، فالقياس مع الفارق.
وثالثا قياس الموت بالإسلام أيضا مع الفارق لأن الجزية بدل عن الإسلام
فإذا أتى بالمبدل منه استغنى عن البدل كمن وجد الماء الذي لا يحتاج معه إلى
التيمم وهذا المناط مفقود في الموت.
وأما إذا مات الذمي في أثناء الحول، فهل تسقط جزيته أو تؤخذ من تركته
بقدر قسطها ذهب الشيخ إلى الأول قائلا:
(لا يجب أخذها من تركته لأنها إنما تجب بحؤول الحول وما حال) (3).
وذهب كثير من الأصحاب إلى الثاني. قال العلامة: (ولو مات في أثنائه ففي
مطالبته بالقسط نظر، أقربه المطالبة وتقدم الجزية على الوصايا، والوجه مساواتها
للدين، ولو لم يخلف شيئا لم يطالب الورثة شئ ولو أفلس كان الإمام



(1) الخراج ص 123.
(2) المغني ج 10 ص 580.
(3) المبسوط ج 2 ص 42.
117
غريما يضرب مع الغرماء بقدر الجزية ولو سلفها الإمام رد على ورثته بقدر ما بقي
من السنة " (1).
وفي الجواهر: (لو مات في أثناء الحول أخذ القسط من تركته كما صرح به
الفاضل والإسكافي فيما حكي عنه، وإن كان لو لم يمت لم يطالب بها في الأثناء
على ما صرح به في المنتهى) (2).
أقول: قد مر أن الجزية ضريبة مالية تؤخذ من أهل الذمة لتصرف في حفظ
ذمتهم والقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم وسائر مصالحهم. فمقتضى القاعدة أخذ
الجزية من تركته بقدر استفادته من هذه المزايا ولا وجه للسقوط كما لا يخفى.
وأما الإسلام في الأثناء، فهو وإن كان كالموت في الأثناء من حيث القاعدة،
إلا أنا حكمنا بالسقوط هناك لحديث الجب واتفاق الأصحاب، وهذان مفقودان
في المقام، فاللازم العمل بمقتضى القاعدة، فالأقرب هو القول الثاني.
إن قلت: فما معنى قول المشهور: (أن الجزية تجب آخر الحول)؟
قلت: يأتي في موضعه أن المراد من ذلك تعيين وقت المطالبة وتحديده بآخر
الحول، وهو لا ينافي تقسيطها بحسب أيام السنة بمقتضى كونها ضريبة سنوية
تؤخذ منهم لتصرف في مصالحهم في جميع أيام السنة.
وبالجملة كون وقت المطالبة آخر الحول شئ وتقسيطها بحسب أيام السنة
شئ آخر لا منافاة بينهما.
حكم صبيان أهل الذمة بعد بلوغهم:
قد عرفت أن الصبي من أهل الذمة لا جزية عليه، فإذا بلغ ولم يدخل في
الإسلام تجب عليه الجزية، هذا لا اشكال فيه، إنما الكلام في أن أخذ الجزية منه
هل يحتاج إلى عقد جديد أو يكفي عقد أبيه في ذلك؟
صريح كثير من الأصحاب هو الأول بل لم أجد فيه خلافا. قال الشيخ:



(1) التحرير ج 1 ص 150.
(2) الجواهر ج 21 ص 260.
118
" المولود إذا بلغ في دار الإسلام وأبواه كافران، نظر فإن كانا من أهل الذمة أو
أحدهما يخالف الآخر في دينه فإنه يستأنف عقد الجزية والأمان، ولا يحمل على
جزية أبيه فيقال له: أنت بالخيار بين أن يعقد أمانا على جزية ينفق عليها أو
ينصرف إلى دار الحرب، فإن انصرف إلى دار الحرب، فلا كلام وإن رضي بعقد
الجزية عقد معه على ما يراه في الحال، ولا اعتبار بجزية أبيه لأن له حكم نفسه...
وأما أن كان أحد الأبوين يقر على دينه ببذل الجزية والآخر لا يقر مثل أن يكون
وثني وكتابي أو مجوسي، الحق بأبيه، وإن كان وثنيا لم تقبل منه الجزية، وإن كان
كتابيا أو مجوسيا أخذ من الابن الجزية) (1).
وفي الشرائع: (وكل من بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام، أو ببذل الجزية، فإن
امتنع، صار حربيا) (2).
وقال العلامة: (يسقط الجزية عن الصبي فإذا بلغ طولب بالإسلام أو بذل
الجزية فإن امتنع منهما صار حربا فإن اختار الجزية عقدها الإمام بحسب ما يراه،
ولا اعتبار بجزية أبيه ولو كان الصبي ابن عابد وثن وبلغ طولب بالإسلام خاصة
فإن امتنع صار حربا) (3). ووجه فتوى الأصحاب بلزوم استئناف العقد أن الأب لم
يعقد عقد الذمة إلا لنفسه وإنما دخل أولاده الصغار في عقده لصغرهم وكونهم
تابعين له، فإذا زال هذا المقتضي للدخول، فلا محيص عن الاستئناف.
ويؤيد ذلك ما ذكرناه في حكمة أخذ الجزية من أنها تؤخذ لتصرف في مصالح
أهل الذمة وحسن ادارتهم، ولا شبهة في أن مؤنة ذلك تختلف باختلاف الصغر
والكبر، وهذا يناسب استيناف العقد وملاحظة المقتضيات الحديثة.
وأما العامة فالمشهور بينهم خلاف ذلك. قال في المغني: (ومن بلغ من أولاد
أهل الذمة، أو أفاق من مجانينهم، فهو من أهلها بالعقد الأول، لا يحتاج إلى
استئناف عقد له، وقال القاضي في موضع: هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد



(1) المبسوط ج 2 ص 42.
(2) الشرائع ج 1 ص 328.
(3) التحرير ج 1 ص 149.
119
إلى مأمنه، فإن اختار الذمة، عقدت له، وإلا ألحق بمأمنه، وهو قول الشافعي " (1).
وذهبوا إلى ذلك لوجوه غير تامة:
1 - أن العقد يكون مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم.
2 - أنه عقد عهد مع الكفار، فلم يحتج إلى استئنافه لذلك كالهدنة.
3 - أن الصغار والمجانين دخلوا في العقد، فلم يحتج إلى تجديده لهم عند
تغير أحوالهم كغيرهم.
4 - أنه عقد دخلوا فيه فيلزمهم بعد البلوغ والإفاقة كالإسلام.
وضعف هذه الوجوه ظاهرة بعد التأمل فيما ذكرناه في وجه كلام الأصحاب
مضافا إلى أن الوجه الأول أشبه بالمصادرة كوجهي الثالث والرابع، مع وجود فرق
واضح بين عقدي الجزية والهدنة، فإن الجزية ضريبة مالية تلاحظ فيها مؤنة إدارة
الذميين بحسب الزمان والمكان وهذا بخلاف عقد الهدنة وأن تلاحظ فيه أيضا
مصلحة المسلمين.
ثم لو بلغ سفيها على وجه يحجر عليه في المال واختاره عقد الجزية، صح اختياره، وليس للولي المنع، لا لأن الحجر لا يتعلق بحقن دمه وإباحته كما عن
بعضهم، فإن حكمة تشريع الجزية ليست ذلك، بل لأن الحاكم الإسلامي يأخذها
ليصرفها في حسن إدارته وتأمين أمنيته وسائر مصالحه التي تتوقف تحصيلها
على أخذ هذه الضريبة، ومن الواضح أن هذا لا يتوقف على جلب نظر الولي.
نعم لو ضرب الحاكم قدرا معينا من الجزية عليه، ولكن دفع الصبي أكثر منه
فللولي حينئذ المنع ووجهه واضح.
وقد اتضح بما ذكرنا ضعف ما في الجواهر من عدم نفوذ عقد الجزية إلا بإذن
الولي قائلا بكونه عقدا بمال، والغرض الحجر عليه فيه (2).



(1) المغني ج 10 ص 574.
(2) الجواهر ج 21 ص 245.
120
فإن صرف كون هذا العقد عقدا بمال لا يقتضي محجورية الصبي فيه.
ثم لو صالح الحاكم قوما من الذميين على أن يؤدوا الجزية عن أولادهم غير
البالغين، فإن كان المراد الزيادة في جزية الآباء على وجه تكون من أموالهم، صح
ذلك لما يأتي من أن تعيين كمية الجزية بيد الإمام، وإن كانت الزيادة من أموال
الأولاد، كان الصلح باطلا، لعدم مشروعية أخذ الجزية من الصبيان.
ومن هنا قال العلامة:
(لو صالح الإمام قوما على أن يؤدوا الجزية عن أبنائهم غير ما يدفعون عن
أنفسهم، فإن كانوا يؤدون الزايد من أموالهم جاز، ويكون زيادة في جزيتهم وإن
كان من أموال أولادهم لم يجز) (2).
ويأتي نظير هذا الكلام فيما إذا صالح الحاكم قومن على أن يؤدوا الجزية عن نساءهم أو مجانينهم، لوحدة الملاك.
قال العلامة: " ولو حاصرنا بلدا، فسأل أهله الصلح بوضع الجزية على النساء
والصبيان لم يصح... فإن طلبت النساء أن يبذلن الجزية ليكون الرجال في أمان لم
يصح، ولو قتلنا الرجال وسألت النساء أن يعقد لهن الأمان ليقمن في دار الإسلام،
عقد لهن بشرط أن يجري عليهن أحكامنا، ولو بذلن الجزية لم يصح أخذها
جزية " (1)
وفي المغني لابن قدامة: (وإن بذلت المرأة الجزية، أخبرت أنها لا جزية
عليها، فإن قالت: فأنا أتبرع بها، أو أنا أؤديها، قبلت منها ولم تكن جزية، بل هبة
تلزم بالقبض... ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد
لهن الذمة، عقدت لهن بغير شئ، وحرم استرقاقهن، كالتي قبلها سواء، فإن كان
في الحصن معهن رجال، فسألوا الصلح، لتكون الجزية على النساء والصبيان دون



(1) التحرير ج 1 ص 149.
(2) القواعد ج 1 ص 508.
121
الرجال لم تصح، لأنهن جعلوها على غير من هي عليه، وبرأوا من تجب عليه " (1).
حكم ما إذا عجزت الحكومة الإسلامية عن العمل بمقتضى عقد الذمة:
قد عرفت في محله أن الجزية ضريبة مالية تؤخذ من أهل الذمة لتصرف في
حفظ ذمتهم، وحسن ادارتهم، والقيام بحمايتهم وبدلا عن تكليفهم بأمر الدفاع
والخدمة العسكرية. وقد عرفت شواهد كثيرة على هذا المعنى.
ومقتضى ذلك سقوط الجزية عنهم فيما إذا فرض عدم قدرة الحكومة
الإسلامية على تحصيل هذه الأغراض، أو فرض دخول الذميين في الجنود
ومشاركتهم في أمر الدفاع، لو رأى الحاكم الإسلامي هذا صلاحا.
نعم لو قلنا إن الجزية شرعت عقوبة من الله - تعالى - عليهم لكفرهم بدين
الحق، أو وضعت لاهانتهم واذلالهم أو بدلا من استرقاقهم، لا يبقى وجه لسقوطها
حينئذ، ولكن عرفت بطلان هذه الوجوه تفصيلا.



(1) المغني ج 10 ص 573.
122
الفصل الرابع
في كمية الجزية وكيفية وضعها
كمية الجزية:
وهاهنا مقامان من البحث:
المقام الأول: هل الجزية مقدرة بمقدار معين لا يزاد عليه ولا ينقص منه أو
هي غير مقدرة، يرجع فيه إلى رأي الإمام واجتهاده في الزيادة والنقصان؟
المقام الثاني: على الأول أعني كونها مقدرة فكم هو مقدارها؟
أما المقام الأول
فاعلم أن المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أن الجزية لا حد لها بل
تقديرها إلى الإمام.
قال الشيخ في المبسوط:
(وليس للجزية حد محدود ولا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم
أو على رؤوسهم على قدر أحوالهم من الضعف والقوة) (1).
وقال في الجمل والعقود: " وإذا قبلوا الجزية فليس لها حد محدود بل يأخذها



(1) المبسوط ج 2 ص 38.
123
الإمام على حسب ما يراه " (1). وقال المفيد: " وليس في الجزية حد مرسوم لا يجوز تجاوزه إلى ما زاد عليه
ولا حطة عما نقص عنه، وإنما هي على ما يراه الإمام في أموالهم، ويضعه على
رقابهم على قدر غناهم وفقرهم " (2).
وفي الوسيلة لابن حمزة: (قدر الجزية ما يكون به الذمي صاغرا، وقدره
موكول إلى رأي الإمام، ويجوز له الزيادة فيه والنقصان عنه) (3).
وفي الغنية والمختصر النافع والجامع والمراسم واللمعة مثل ذلك (4).
وقال العلامة: " اختلف علماؤنا فقال بعضهم: إن لها قدرا موقتا وهو ما قدره
علي عليه السلام الفقير اثنا عشر درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الغني
ثمانية وأربعون درهما في كل سنة، وقال آخرون: إنها مقدرة في طرف القلة دون
الكثرة فلا يؤخذ من كل كتابي أقل من دينار واحد ولا يقدر في طرف الزيادة قاله
ابن الجنيد. الثالث: ما ذهب إليه الشيخان إنها غير مقدرة لا في طرف القلة ولا في
طرف الكثرة بل هي منوطة بنظر الإمام وهو الأقوى) (5).
وفي الجواهر بعد عبارة المحقق (ولا حد لها بل تقديرها إلى الإمام عليه السلام ب‍
البيت عليهم السلام (6).
وأما العامة فهم اختلفوا في المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: إنها مقدرة الأقل والأكثر فيؤخذ من الفقير اثنا عشر درهما ومن
المتوسط أربعة وعشرون، ومن الموسر ثمانية وأربعون وهو قول الشافعي في



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162.
(2) المقنعة ص 272.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162.
(4) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153 و 226، اللمعة كتاب الجهاد، الجامع للشرائع ص
234، المراسم ص 141.
(5) التحرير ج 1 ص 149.
(6) الجواهر ج 21 ص 245.
124
إحدى الروايتين وأبي حنيفة والخرقي.
الثاني: أنها غير مقدرة الأقل والأكثر وهي إلى اجتهاد الإمام في الزيادة
والنقصان وهو قول الثوري وأبي عبيد ومالك والأثرم وعطاء بن أبي رباح ويحيى
ابن آدم.
الثالث: أنها مقدرة الأقل غير مقدرة الأكثر، فيجوز للإمام أن يزيد على ما قدر
عمر ولا يجوز أن ينقص منه، وهذا منقول من يعقوب بن بختان والشافعي في
إحدى الروايتين والطبري (1).
الرابع: أقلها دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضوا والتزموا
الزيادة ضرب على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير وهو قول
الرازي (2).
إذا عرفت الأقوال فلنبحث عن أدلتها. فنقول:
يدل على مختار الأصحاب وهو أن تقدير الجزية إلى الإمام وليس لها حد
مقدر ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما حد
الجزية على أهل الكتاب وهل عليهم في ذلك شئ موظف لا ينبغي أن يجوز إلى
غيره؟ فقال: ذلك إلى الإمام يأخذ من كل انسان منهم ما شاء على قدر ماله، وما
يطيق، إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا. فالجزية تؤخذ منهم
على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى يسلموا) (3).
ويدل عليه أيضا أن عليا عليه السلام جعل على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهما،
وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهما، وعلى فقرائهم اثني عشر درهما (4).



(1) الأحكام السلطانية ص 155، تفسير القرطبي ج 8 ص 111، المغني ج 10 ص 567.
(2) التفسير الكبير ج 16 ص 31.
(3) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 1.
(4) المقنعة ص 44.
125
وقدرها على أهل بعض الديارات بغير ذلك (1) مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمر معاذا أن يأخذ
من كل حالم دينارا، وصالح نصارى نجران على سبعين بردا، وهذا الاختلاف في
التقدير يدل على موكولية الأمر إلى رأي الإمام.
وقد عرفت أن المشهور في تعريف (الصغار) في آية الجزية (2) الالتزام
بالجزية بحسب ما يراه الإمام من غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم. بل
لا يبعد دلالة قوله - تعالى - (في الآية) أيضا على المقصود بأن يكون معناه
التمكن والقدرة المالية بشهادة استعمال كلمة اليد في كثير من الموارد بمعنى
القدرة والاستيلاء، ولعل منها قوله - سبحانه - واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق
ويعقوب أولي الأيدي (3) وقوله - تعالى -: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم (4).
ويؤيد ذلك قوله - سبحانه - في الآية (حتى يعطوا) فإن المراد بالاعطاء هو
الالتزام به واعلام التهيؤ له، ضرورة أن القتال يترك به لا بالاعطاء الفعلي الذي
يتحقق آخر الحول كما يأتي.
ومن الواضح حينئذ أن المناسب في معنى (عن يد) كونه بمعنى التمكن
والقدرة المالية، ويؤيد ذلك أيضا أنه إن كان المراد الاعطاء الفعلي باليد كان
المناسب التعبير ب‍ (بأيديهم) المفيد لهذا المقصود ولازم هذا المعنى الحكم بأن
الجزية لا مقدر لها لاختلاف تمكن الأفراد وتمولهم بحسب الأمكنة والأزمنة.
نعم في المقام روايات ربما يستدل بها على كون الجزية مقدرة.
منها ما في الوسائل بسنده عن مصعب بن يزيد الأنصاري قال:
(استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على أربعة رساتيق
المدائن: البهقياذات، ونهر سير (شير خ ل) ونهر جوير، ونهر الملك، وأمرني أن
أضع على كل جريب زرع غليظ درهما ونصفا، وعلى كل جريب كرم عشرة



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 5.
(2) التوبة / 29.
(4) ص / 45.
(4) التوبة / 14.
126
دراهم، وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم، وعلى كل جريب البساتين التي
تجمع النخل والشجر عشرة دراهم، وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى لمارة
الطريق وابن (أبناء) السبيل. ولا آخذ منه شيئا وأمرني أن أضع على الدهاقين
الذين يركبون البزازين ويتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية وأربعين
درهما وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل رجل منهم أربعة وعشرين درهما،
وعلى سفلتهم وفقرائهم اثني عشر درهما على كل انسان منهم، قال: فجبيتها ثمانية
عشر ألف ألف درهم في سنة) (1).
ومنها ما فيه عن المفيد في المقنعة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه جعل على
أغنيائهم ثمانية وأربعين درهما، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهما، وعلى
فقرائهم اثني عشر درهما وكذلك صنع عمر بن الخطاب قبله، وإنما صنعه
بمشورته عليه السلام (2).
أقول: هذه الأخبار لو لم تدل على مختار الأصحاب - لما ذكرنا آنفا - لم تدل
على كون الجزية مقدرة، لأن ما صدر عنه عليه السلام قضية في واقعة لما رآه من
المصلحة. قال في المختلف بعد نقل الرواية الأخيرة بمضمونها: (أن ذلك على
سبيل الاتفاق ولمصلحة رآها عليه السلام لا أنه شئ لازم موظف لا يتجاوز قلة
وكثرة...) (3)
هذا كله حول مختار الأصحاب.
وأما العامة فقد عرفت أن لهم أقوالا أربعة.
استدل على القول الأول بأن النبي صلى الله عليه وآله فرضها مقدرة بقوله لمعاذ: (خذ من
كل حالم دينارا، أو عدله معافر) وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة، فلم
ينكر فكان اجماعا (4).



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 8.
(3) المختلف ج 4 ص 437.
(4) المغني لابن قدامة ج 10 ص 566.
127
أقول: تقدير عمر غير تقدير النبي، فإن عمر جعل الجزية على ثلاث طبقات:
على الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى
الفقير اثني عشر درهما، وصالح بن تغلب على مثلي ما على المسلمين من
الزكاة (1) فهذا الاستدلال غريب جدا.
واستدل على القول الثاني بأن النبي صلى الله عليه وآله أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم
دينارا، وصالح أهل نجران على الفئ حلة، النصف في صفر والنصف في رجب،
رواهما أبو داود، وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات الخ (2).
واستدل على القول الثالث بأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ينقص منه (3) وبأخبار مضمونها أن أقل مقدار الجزية دينار.
منها: ما في سنن البيهقي بسنده عن عمر بن عبد العزيز: أن النبي صلى الله عليه وآله كتب إلى
أهل اليمن: (أن على كل انسان منكم دينارا كل سنة، أو قيمته من المعافر) (4).
أقول: المعافر نوع من الثياب.
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن معاذ بن جبل: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه إلى اليمن
وأمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل
حالم دينارا أو عدله ثوب معافر) (5).
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن أبي الحويرث، قال: " ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على نصارى بمكة دينارا لكل سنة " (6)
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن أبي الحويرث: أن النبي صلى الله عليه وآله ضرب على
نصراني بمكة يقال له موهب دينارا كل سنة، وأن النبي صلى الله عليه وآله ضرب على نصارى
أيلة ثلاثمائة دينار كل سنة).
قال: وأخبرنا إبراهيم، أنبأ إسحاق بن عبد الله أنهم كانوا ثلاثمائة فضرب



(1) المغني ج 10 ص 567.
(2) المغني ج 10 ص 567.
(3) المغني ج 10 ص 567.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 193.
(5) سنن البيهقي ج 9 ص 193.
(6) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
128
عليهم النبي صلى الله عليه وآله يومئذ ثلاثمائة دينار كل سنة (1).
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن ابن عباس " قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله ا هل
نجران على الفئ حلة: النصف في صفر، والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين،
وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من
أصناف السلاح يغزون بها المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان
باليمن كيد).
وقال الشافعي: وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من
أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار (2).
وبملاحظة هذه الأخبار قال الشافعي في الأم:
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله المبين عن الله - عز وجل معنى ما أراد، فأخذ
رسول الله صلى الله عليه وآله جزية أهل اليمن دينارا في كل سنة أو قيمته من المعافري وهي
الثياب.
وكذلك روي أنه أخذ من أهل آيلة ومن نصارى مكة دينارا عن كل انسان،
وأخذ الجزية من أهل نجران فيها كسوة، ولا أدري ما غاية ما أخذ منهم، وقد
سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة
ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار، وأخذها من أكيدر ومن مجوس البحرين لا
أدري كم غاية ما أخذ منهم، ولم أعلم أحدا قط حكى عنه أنه أخذ من أحد أقل من
دينار) (3).
واستدل الرازي على قوله - وهو قول الرابع - بأن الأصل تحريم أخذ مال
المكلف إلا أن قوله: حتى يعطوا الجزية (4) يدل على أخذ شئ، فهذا الذي قلناه
هو القدر الأقل، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية، والأصل فيه



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
(3) الأم ج 4 ص 179.
(4) التوبة / 29.
129
الحرمة، فوجب أن يبقى عليها (1).
وأنت خبير بضعف هذا المقال فإن قوله - سبحانه -: حتى يعطوا الجزية و
ولا في جانب الأكثر، بل ساكت من هذه الجهة، مع أن الشئ يصدق على أقل من
دينار أيضا. وإن قال: قدر الأقل مستفاد من الأخبار، فالزائد عليه متوقف على
التراضي.
قلنا: لا دلالة في الأخبار على توقف جانب الزيادة فقط على التراضي بل
يستفاد من بعض الكلمات أن الجزية مطلقا تؤخذ بالتراضي.
هذا كله بحسب المقام الأول.
وأما المقام الثاني
فاعلم أنه على القول بأن الجزية مقدرة يقع الكلام في أن مقدارها كم هو؟
فلا موضوع لهذا البحث عند الأصحاب القائلين بأن الجزية لأحد لها بل
تقديرها إلى الإمام.
نعم ذهب الإسكافي منا - على ما في الجواهر - إلى أن الجزية تقدر في جانب
الأقل بدينار، أما جانب الأكثر فأمره إلى الإمام عليه السلام.
ولكن قال صاحب الجواهر:
(ولم نجد ما يشهد له إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له - يعني لمعاذ -: (خذ
من كل حالم دينارا) (2) وهو مع أنه قضية في واقعة، ولا دلالة فيه على كون الأقل
ذلك، لا يصلح معارضا لما سمعته من الأدلة) (3).
فأما العامة فاختلف القائلون بالتقدير منهم على أقوال:
1 - أنها في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير، وفي حق الفقير عشرة



(1) التفسير الكبير ج 16 ص 31.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 193.
(3) الجواهر ج 21 ص 245.
130
دراهم أو دينار، وهو قول مالك، ولم يعلم وجهه.
2 - الواجب دينار في حق كل أحد، لحديث معاذ المذكور آنفا إلا أن
المستحب جعلها على ثلاث طبقات للخروج من الخلاف، وهو قول الشافعي (1).
3 - قال في المغني:
(إذا قلنا بالرواية الأولى وأنها مقدرة. فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون
درهما، وفي حق المتوسط أربعة وعشرون، وفي حق الفقير اثنا عشر. وهذا قول
أبي حنيفة. ثم قال:
ولنا حديث عمر وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة ولم
ينكره منكر، ولا خلاف فيه وعمل من بعده من الخلفاء فصار اجماعا لا يجوز
الخطاء عليه...
وأما حديث معاذ فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم.
ثانيهما: أن يكون التقدير غير واجب، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام) (2).
ثم لا بأس بأن نذكر في ختام هذا البحث كلمات بعض المؤرخين في المقام
فإنها لا تخلو من فوائد وتؤيد كثيرا مما ذكرنا:
قال جرجي زيدان:
(أما الجزية في الإسلام فقد كان النبي يقدرها بحسب الأحوال، وعلى
مقتضى التراضي الذي كان يقع بين المسلمين وأعدائهم، فلما صالح أهل نجران
تراضوا على جزية مقدارها 2000 حلة - الحلة وزن من أوزان النقود كان
مستعملا في نجران - في صفر، و 1000 في رجب، ثمن كل حلة أوقية والأوقية
أربعون درهما. وصالح أهل أذرح على مائة دينار كل رجب. وصالح أهل مقنا
على ربع أخشابهم وغزوهم وكراعهم ودروعهم وثمارهم، وصالح غيرهم من



(1) المغني ج 10 ص 567.
(2) المغني ج 10 ص 567.
131
يهود جزيرة العرب على نحو ذلك. وما زالت الجزية بلا تعيين إلى آخر أيام أبي
بكر، فلما تولى عمر وكثرت الفتوح عين مقدارها، فكتب إلى أمراء الأجناد
يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه المواسي، وأن يجعلوها على
أهل الفضة كل رجل أربعين درهما، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير، وعليهم من
أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان حنطة، وثلاثة أقساط زيتا كل شهر لكل
انسان في الشام والجزيرة.
ثم تعدلت فتعينت باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، فوضعوا على الظاهر
الغني 48 درهما تدفع أقساطا 4 دراهم في كل ا شهر، وعلى أوسط الحال 24
درهما كل شهر درهمان، وعلى الفقير 12 درهما كل شهر درهم، ولا يؤخذ شئ
من النساء والصبيان ولا من أهل العاهات ولا من الرهبان الذين لا يخالطون
الناس، إلا البلاد التي عقدت شروط الجزية عليها باتفاق خاص.
كما عقد صلح مصر مع عمرو بن العاص، على أن يدفع القبط دينارين عن كل
نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على
الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شئ، وعليهم إضافة من ينزل عليهم من
المسلمين ثلاثة أيام وغير ذلك.
وكثيرا ما يقدرون الجزية باعتبار ما يبقى في أيدي الناس من دخلهم بعد
نفقاتهم، كما وقع لأهل الجزيرة بالعراق، فقد كان الذي فتحها عين جزيتهم دينارا
على كل رأس، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك، فبعث إلى عامله هناك
فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم. وحسب ما يكسب العامل
سنته كلها، وطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في
السنة كلها، فوجد الذي يحصل بعد ذلك أربعة دنانير لكل واحد، فألزمهم دفعها
وجعل الناس طبقة واحدة) (1).



(1) تاريخ التمدن الإسلامي ج 1 ص 228 - 229.
132
كيفية وضع الجزية:
لا اشكال في جواز وضع الجزية على الرؤوس أو الأراضي على وجه
التخيير، وهذا اتفاقي بين الأصحاب، وإليك جملة من كلماتهم:
قال الشيخ في الجمل والعقود: " يأخذها الإمام على حسب ما يراه، إما أن
يضعها على رؤوسهم أو أراضيهم) (1).
وفي الوسيلة لابن حمزة: (ويضع على الرؤوس أو على أراضيهم) (2).
وقال الحلبي في إشارة السبق: (وتوضع الجزية على رؤوسهم وأراضيهم
بحسب ما يراه الإمام) (3).
وقال في الجواهر بعد عبارة المحقق - يجوز وضعها على الرؤوس أو على
الأراضي -:
(بلا خلاف أجده فيه بل ولا اشكال بعد الأصل والعمومات كتابا وسنة) (4).
إنما الكلام في جواز الجمع بينهما وعدمه، فذهب بعضهم إلى الأول.
قال المحقق في الشرائع: (ولا يجمع بينهما وقيل بجوازه ابتداء (5) وهو
الأشبه) (6).
وقال العلامة: (يتخير الإمام في وضع الجزية إن شاء على رؤوسهم وإن شاء
على أرضهم، وهل يجوز أن يجمع بينهما، فيأخذ عن رؤوسهم شيئا وعن أرضهم
شيئا منع الشيخان من ذلك وقال أبو الصلاح يجوز وهو الأقوى) (7).
وفي التذكرة: (قال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما لعدم تقدر الجزية قلة



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 61.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 196.
(4) الجواهر ج 21 ص 249.
(5) قال في المسالك: احترز بقوله: " ابتداء " عما لو وضعها على رأس بعض منهم، وعلى أرض
بعض آخر، فانتقلت الأرض التي وضعت عليها إلى من وضعت على رأسه، فإنه يجتمع عليه
الأمر لكن ذلك ليس ابتداء بل بحسب انتقال الأرض إليه. (ج 1 ص 157) وصاحب الجواهر
لم يرتض بهذا التفسير فراجع (الجواهر ج 21 ص 253).
(6) الشرائع ج 1 ص 328.
(7) التحرير ج 1 ص 149.
133
وكثرة فجاز أن يأخذ من أراضيهم ورؤوسهم، كما يجوز أن يضعها على
رؤوسهم " (1).
وذهب بعض آخر إلى الثاني، قال الشيخ في الجمل والعقود:
(ولا يجمع بينهما) (2).
وقال ابن حمزة في وسيلته: (ويضع على الرؤوس أو على أراضيهم ولا يجمع
بينهما) (3).
أقول: لا يخفى أن الجمع بين وضع الجزية على الرؤوس ووضعها على
الأراضي يتصور على وجهين:
الأول: أن تقسط الجزية على الرأس والأرض، بأن توضع جزية واحدة
بعضها على الرأس وبعضها على الأرض.
والظاهر أن هذا جائز لا اشكال فيه، فإنه مقتضى العمومات والأصل، بل
ظاهر بعض العبائر مفروغية جوازه. قال في المختلف:
(ليس النزاع في تقسيط جزية على الرؤوس والأرض، بل في وضع جزيتين
عليهما) (4).
نعم يظهر من عبارة المنتهى أن هذا الوجه أيضا محل نزاع بين الأصحاب،
قال: (ويتخير الإمام عليه السلام في وضع الجزية إن شاء على رؤوسهم، وإن شاء على
أرضهم، وهل يجوز أن يجمع بينهما فيأخذ منهم عن رؤوسهم شيئا وعن أرضهم
شيئا؟ قال الشيخان وابن إدريس: لا يجوز ذلك، وقال أبو صلاح: يجوز الجمع
بينهما. وهو الأقوى عندي) (5).
ولكن يمكن حمل هذه العبارة على الوجه الآتي، بقرينة أن الشيخ قال في



(1) التذكرة كتاب الجهاد.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 61.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162.
(4) المختلف ج 4 ص 436.
(5) المنتهى ج 2 ص 966.
134
الجمل والعقود: " أما أن يضعها على رؤوسهم أو أراضيهم، ولا يجمع بينهما " (1).
فإنها ظاهرة في أن محل النزاع وضع الجزيتين، إحداهما على الرؤوس،
وأخراهما على الأراضي وليس فيها تصريح بعدم جواز الجمع ابتداء، والمفيد في
المقنعة لم يفت بشئ وإنما نقل أخبار الباب فقط (2).
الوجه الثاني: أن توضع عليهم جزيتان، إحداها على رؤوسهم والأخرى على
أراضيهم، والظاهر أن منع هذا الوجه هو المقصود في كلمات المانعين ويدل ا عليه
ما رواه في الوسائل بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال: (سألته عن أهل الذمة
ماذا عليهم مما يحقنون به دمائهم وأموالهم؟ قال: الخراج، وإن أخذ من رؤوسهم
الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم) (3).
والظاهر أن الضمير في (سألته) يرجع إلى أبي عبد الله عليه السلام بقرينة الرواية
السابقة عليه واللاحقة به في الوسائل، ولأن شأن هذا الراوي أجل من أن يروي
من غير الإمام عليه السلام.
والظاهر أن المراد منه الجمع بين الجزيتين بأن تضرب على رؤوسهم جزية
بحسب عقد الذمة، ثم تعدي عن مقتضاه وأخذ من أراضيهم أيضا، وهو لا ينافي
جواز الجمع بينهما ابتداء في متن العقد.
وفي صحيحة أخرى له: قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أرأيت ما يأخذ هؤلاء
من هذا الخمس من أرض الجزية ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم أما عليهم
في ذلك شئ موظف؟ فقال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر
من الجزية إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شئ، وإن
شاء فعلى أموالهم، وليس على رؤوسهم شئ، فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: إنما هذا
شئ كان صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله " (4).



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 61.
(2) المقنعة ص 275.
(3) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 3.
(4) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 2.
135
ورواه في الفقيه بأدنى تفاوت في اللفظ (1).
وهذا كالصريح في أن المنهي هو الجمع بين الجزيتين لا وضع جزية واحدة
على الرؤوس والأراضي، فإن هذا ليس ممنوعا بعد تسلم أن الجزية لا حد لها بل
هو موكول إلى رأي الإمام، إذ أي فرق بين أن توضع الجزية على رؤوسهم فقط،
وبين أن توزع هذه الجزية على رؤوسهم وأراضيهم معا؟
ومن هنا قال في الجواهر بعد نقل الرواية ما حاصله:
(إن المراد عدم جواز أخذ الإمام عليه السلام من الرؤوس أو الأرض بعد العقد منهم
على أحدهما المجمع عليه نقلا وتحصيلا، بل هو مقتضى الوفاء بالعقد
والشرط) (2).
وقال أيضا بعد عبارة المحقق - وقيل بجوازه ابتداء وهو الأشبه -:
(بأصول المذهب وقواعده التي منها ما سمعته من عدم موظف للجزية، وأن
تقديرها إلى الإمام عليه السلام كما وكيفا كما هو مقتضى الأصل وغيره، بل هو المناسب
للصغار، ولما دل على مشروعية العقود بالتراضي ولغير ذلك) (3).
والحاصل أنه لا مانع من توزيع الجزية وتقسيطها على الرؤوس والأراضي،
ولا نهي عن الجمع بهذا المعنى، وإنما الممنوع الجمع بين الجزيتين بعد انعقاد العقد
على جزية واحدة، ولعله بهذا يمكن الجمع بين القولين، ولذا ذهب بعضهم إلى أن
النزاع لفظي، قائلا بأن العقد إن تضمن تعيين أحدهما لم يجز تعديته إلى غيره
اجماعا وإن لم يتضمن التعيين جاز للإمام أن يأخذ منهما، ومن أحدهما لعدم
المانع، ولأن الجزية إذا لم تكن مقدرة لم يكن لقصرها على أحد المذكورين معنى،
لأنه جاز أن يأخذ من الرؤوس بقدر ما يمكن أن يأخذ منهما، ويزيد عليه، إذ ليس
لها قدر معين لا يجوز تخطيه (4).



(1) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 51.
(2) الجواهر ج 21 ص 250.
(3) الجواهر ج 21 ص 249.
(4) نقل صاحب الجواهر هذا الكلام عن ابن فهد، الجواهر ج 21 ص 251.
136
ومع ذلك كله ففي النفس من الشبهة شئ لأن عدم مشروعية جزية أخرى بعد
العقد على أحدهما معلوم جدا لوجوب الوفاء بمقتضى العقد وحرمة أكل المال
بالباطل ولا معنى لنزاعهم في مثل ذلك، كما أن جواز تقسيط الجزية على الرؤوس
والأراضي أيضا واضح، وكلمات الأصحاب في المقام مجملة.
وعلى كل حال فإن قلنا بجواز الجمع بين الأمرين بمعنى توزيع الجزية على
الرؤوس والأراضي، لا وجه لتخصيص ذلك بالأراضي، بل يجوز للإمام تقسيطها
على الرؤوس وغير الأراضي من الأموال كالمواشي ومنافع الكسب والسيارات
وغيرها من الممتلكات لوضوح أن الأرض لا خصوصية لها في المسألة ولأن أمر
الجزية كما وكيفا بيد الإمام كما عرفت.
هذا كله بيان المسألة وتحليلها بحسب كلمات الأصحاب، وأما العامة فلم
أجد فيهم من تعرض لهذه المسألة.

137
الفصل الخامس
في مصرف الجزية
المشهور بين الأصحاب أن مصرف الجزية مصرف الغنيمة، فيستحقها
المجاهدون والمدافعون عن الإسلام. قال الشيخ:
(ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار من المشركين، للمقاتلة المجاهدين،
وللشافعي فيه قولان: أحدهما أن جميعه لمصالح المسلمين ويبدأ بالأهم فالأهم،
والاهم هم الغزاة والباقي للمقاتلة، كما قلناه.
هذا إذا قال: إنه لا يخمس. وأما إذا قال يخمس، فأربعة أخماسه تصرف إلى
أحد هذين النوعين على القولين، والمصالح مقدمة عندهم) (1).
قال بعض المحققين: (المراد بقوله: (والباقي) القول الآخر للشافعي، ويمكن
أن تكون مصحفة (والثاني)) (2).
وقال في النهاية: (وكان المستحق للجزية في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله المهاجرين
دون غيرهم، وهي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذب من سائر
المسلمين " (3).



(1) الخلاف ج 2 ص 127.
(2) دراسات في ولاية الفقيه ج 3 ص 461.
(3) النهاية ص 193.
138
وفي الغنية: " والجزية تصرف إلى أنصار الإسلام خاصة على ما جرت به
السنة من النبي صلى الله عليه وآله " (1).
وفي إشارة السبق والجامع والمراسم والمختصر النافع والمسالك مثل ذلك (2).
والمخالف للمشهور هو المفيد وابن إدريس.
قال في المقنعة: (وكانت الجزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله عطاء المهاجرين،
وهي من بعده لمن قام مع الإمام مقام المهاجرين، وفيما يراه الإمام من مصالح
المسلمين " (3).
وقال في السرائر: (وكان المستحق للجزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ا
نصرة الإسلام، والذب عنه، ولمن يراه الإمام من الفقراء والمساكين من سائر
المسلمين " (4).
واستدل على المشهور بوجوه:
1 - الاجماع (5). وهو موهون بعد مخالفة مثل المفيد.
2 - أنه مال أخذ بالقهر والغلبة فكان مصرفه المجاهدين كغنيمة دار
الحرب (6). وهو مخدوش صغرى وكبرى، أما الأول فلأنها تؤخذ أخذ سائر
الضرائب المالية لتصرف في حسن إدارة المجتمع، وليس فيها لون القهر والغلبة،
وقد سمعت عبارة الشيخ في المبسوط: (الجزية لا تتم إلا بالتراضي) (7).
وأما الثاني فلأن أخذها بالقهر والغلبة لا يستلزم اختصاص مصرفها
بالمجاهدين ويأتي هذا الكلام في الغنيمة أيضا.



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 153.
(2) الجامع للشرايع ص 235، المراسم ص 141، سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 196 و
227، المسالك ج 1 ص 158.
(3) المقنعة ص 274.
(4) السرائر ج 1 ص 474.
(5) الخلاف ج 2 ص 127.
(6) التذكرة كتاب الجهاد.
(7) المبسوط ج 2 ص 38.
139
3 - الأخبار
منها: ما رواه في التهذيب بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال
" سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إن
أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله قد سار في أهل العراق بسيرة فهي إمام لسائر الأرضين، وقال:
إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية وإنما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقات
لأهلها الذين سمى الله في كتابه ليس لهم في الجزية شئ، ثم قال:
ما أوسع العدل إن الناس يتسعون إذا عدل فيهم وتنزل السماء رزقها وتخرج
الأرض بركتها بإذن الله) (1).
وهكذا ورد في الفقيه، ولكن فيه (عطاء المجاهدين) و (يستغنون) بدل
" يتسعون " (2)
ومنها: ما في المستدرك عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام أنه قال: (الجزية
عطاء المجاهدين والصدقة لأهلها الذين سماهم الله - تعالى - في كتابه ليس من
الجزية) (3).
ومنها: ما رواه في الوسائل عن الكليني بسند فيه سهل بن زياد عن ابن أبي
يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنما الجزية عطاء المهاجرين،
والصدقة لأهلها الذين سمى الله في كتابه، فليس لهم من الجزية شئ الحديث) (4).
وهذه الأخبار صريحة في اختصاص الجزية بالمدافعين والمجاهدين في
العساكر. ونحن لا نقول: مصرف الجزية مصرف الغنيمة حتى يقال: الغنيمة لا
تختص بالمقاتلين لأنها تكون تحت اختيار الإمام، فله أن يصرفها فيما يراه



(1) تهذيب الأحكام ج 4 ص 118.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 53.
(3) المستدرك ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 57 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 69 الحديث 1.
140
صلاحا، ولا يتعين فيها التقسيم بين المقاتلين لبعض الأخبار، بل نقول
بالاختصاص لصراحة الأخبار المذكورة في ذلك.
لا يقال: حيث إن مصارف الصدقة سبيل الله ومن أظهر مصاديقه الجهاد بلا
إشكال، فلا محالة لا يمكن الحكم بتباين المصرفين بالكلية كما يتوهم من ظاهر
الأخبار المذكورة.
فإنه يقال: نعم ولكن ذلك لا ينافي اختصاص الجزية بالمجاهدين لاحتمال
أن تكون النسبة بين المصرفين العموم والخصوص المطلق بأن تصرف الصدقة في
سبيل الله الشامل لجميع سبل الخير ومصالح المجتمع، ومنها رفع حوائج
المجاهدين وتختص الجزية بالمجاهدين لأهمية أمرهم وعظمة شأنهم.
ويؤيد ذلك ما في النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
(فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن،
وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج
الذي تقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء
حاجتهم) (1).
فالأقوى حينئذ ما هو المشهور بين الأصحاب من أن الجزية تختص
بالمجاهدين أو من يقوم مقامهم في أمر الجهاد خلافا للمفيد وابن إدريس.
وهذا لا ينافي ما ذكرنا سابقا من أن الجزية تؤخذ لغرض المدافعة عن الذميين
وحسن ادارتهم والقيام بمصالحهم، لأن هذه الأغراض تحصل بعد تحكيم الثغور
وتقوية العساكر وتحقق الأمن.
ثم إن المراد بالمهاجرين في الخبر الأول والثالث ليس خصوص من هاجر
في عصر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة، لأنهم لم يبقوا إلى عصر الصادق عليه السلام،
فالمراد بهم المجاهدون المهاجرون من بلادهم إلى صفوف القتال أو إلى الثغور.



(1) نهج البلاغة، الكتاب 53 فيض ص 1003 صبحي صالح ص 432.
141
هذا كله بحسب فقه أهل البيت عليهم السلام.
وأما العامة فهم أيضا اختلفوا في المسألة على قولين:
الأول: أنها للجيش خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم.
الثاني: أنها تصرف في المصالح التي منها أرزاق الجيش.
قال الماوردي: (إن كل ما وصل من المشركين عفوا من غير قتال ولا ايجاف
خيل ولا ركاب كمال الهدنة والجزية وأعشار متاجرهم، أو كان واصلا من جهتهم
كمال الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس مقسوما على خمسة،
وقال أبو حنيفة: لا خمس في الفئ... (2)
وأما أربعة أخماسه ففيه قولان:
أحدهما أنه للجيش خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم ليكون معدا لأرزاقهم.
والقول الثاني أنه مصروف في المصالح التي منها أرزاق الجيش وما لا غنى
للمسلمين عنه ولا يجوز أن يصرف الفئ في أهل الصدقات، ولا تصرف الصدقات
في أهل الفئ ويصرف كل واحد من المالين في أهله. وأهل الصدقة من لا هجرة له
وليس من المقاتلة عن المسلمين ولا من حماة البيضة.
وأهل الفئ هم ذوو الهجرة الذابون عن البيضة والمانعون عن الحريم
والمجاهدون للعدو) (1).
وفي المغني لابن قدامة: (وأما مصرف المأخوذ منهم، فاختار القاضي أن
مصرفه مصرف الفئ، لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة، وقال أبو
الخطاب: مصرفه إلى أهل الصدقات، لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به - فيمن



(1) قال ابن الأثير: " قد تكرر ذكر الفئ في الحديث على اختلاف تصرفه، وهو ما حصل
للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وأصل الفئ: الرجوع، يقال: فاء يفئ فئة
وفيوء، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فئ، لأنه
يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق ".
(النهاية ج 3 ص 482).
(1) الأحكام السلطانية ص 126 - 127.
142
يؤخذ منه - مسلك الصدقة. فيكون مصرفه مصرفها.
والأول أقيس وأصح، لأن معنى الشئ أخص من اسمه، ولهذا لو سمي رجل
أسدا، أو نمرا، أو أسود، أو أحمر، لم يصر له حكم المسمى بذلك، ولأن هذا لو كان
صدقة على الحقيقة، لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم، لقول النبي صلى الله عليه وآله
" أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " (1).



(1) المغني لابن قدامة ج 10 ص 583.
143
الفصل السادس
نظام الجزية في عصرنا
والمناسب أن نبحث هنا مقامين:
ألف - نظام الجزية والأقليات الدينية
أنا نجد اليوم في جميع الممالك الإسلامية طوائف من الناس نعبر عنهم
بالأقليات الدينية، وكان يعبر عنهم في سالف الزمان بأهل الذمة، يعيشون معنا،
يشاركون في أمورنا، ويكونون مواطنينا، فيجب أن نبحث عن حكمهم، وأنه هل
يجري نظام الجزية في حقهم كجريانه في حق السالفين، أو أنه نظام بدائي قد
مضى أجله، لا يمكن اجراءه في عصرنا هذا لعروض التحولات الأساسية في
المناسبات البشرية تطلب نظامات جديدة؟
إنا إذا تأملنا في حكمة تشريع الجزية وأدلة مشروعيتها وكيفية أخذها وسبيل
مصرفها وغير ذلك مما تتعلق بها، لا يبقى لنا شك في صحة هذا النظام ومعقوليته
بل مطلوبيته في هذا العصر أيضا.
فقد عرفت تفصيلا أنها لا تؤخذ إلا للقيام بحمايتهم وحفظ ذمتهم والمدافعة
عن حقوقهم، وبدلا عن تكليفهم بأمر الدفاع والدخول في الجند والأمور

144
العسكرية، فالجزية ضريبة مالية كسائر الضرائب، ليس المجتمع الإسلامي في
غنى عنها، وقد عرفت أنها ليست عقوبة ولونا من العذاب لأنها تجب بالمعاقدة
والتراضي والعقوبات لا تكون كذلك، مضافا إلى أن قدرها قليل جدا بالنسبة إلى
ما يجب على المسلمين من الوظائف الشرعية كالزكاة، وهذا القليل أيضا يختلف
باليسار والاعسار ويراعى تمكن الذميين في كميتها ويسقط عن أصناف منهم
كنسائهم وصبيانهم هذا مع استفادتهم من مزايا الحكومة الإسلامية بلا فرق بينهم
وبين المسلمين، فأي عقوبة في ذلك؟
ومن هنا قال العلامة الطباطبائي: (وأما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم
مصروفة في حفظ ذمتهم وحسن ادارتهم، ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على
ساقها حقة أو باطلة) (1).
وقال الشهيد المطهري في هذا المجال ما حاصله: (الإسلام يأخذ الجزية من
أهلها على سبيل العطية والهبة ليصرفها في مصالح الوطن الإسلامي، وللمدافعة
عنهم في مواقع الخطر، ولعدم تكليفهم بأمر الدفاع والجهاد مع اشتراك المسلمين
في منافعه ومزاياه، ولا يأخذها لمحض ترك القتال معهم من دون التزام وتعهد لهم
والقيام على خدمتهم حتى يكون ذلك بأجا) (2).
فعلم من جميع ذلك أمران رئيسيان:
الأول: أن الجزية ضريبة مالية تصرف في حسن إدارة المجتمع شأن الزكاة
وسائر الضرائب المالية.
الثاني: بذل الجزية يكون بدلا عن الخدمة العسكرية والمعاونة على أمر
الدفاع.
إذا عرفت ذلك فنستنتج منه نتيجة مهمة، وهي أنه مهما فرض مشاركة
الأقليات الدينية في إدارة المجتمع الإسلامي ببذلهم الضرائب المالية المقررة



(1) الميزان ج 9 ص 240.
(2) جهاد ص 66 - 68 والكتاب فارسي
145
عليهم وعلى المسلمين من ناحية الدولة الإسلامية، وفرض أيضا مشاركتهم في
أمر الدفاع عن ثغور الوطن الإسلامي والحرب ضد الأعداء - كما نجد تحقق
هذين الأمرين في زماننا هذا - يوجب ذلك اسقاط الجزية عن ذمتهم، وليس هذا
بمعنى عدم امكان اجراء هذا النظام في هذا العصر كما هو واضح.
وقد عرفت في الفصل الأول من الكتاب شواهد كثيرة على أن المسلمين كانوا
يسقطون الجزية عنهم إذا كانوا يشاركون في أمر الدفاع فراجع.
وفي المستدرك عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ومن أستعين به من أهل الذمة
على حرب المشركين، طرحت عنه الجزية) (1).
قال الدكتور وهبه الزحيلي: (وإذا رضي أهل الذمة الاشتراك في الدفاع
الوطني، والانخراط في صفوف الجهاد، فتسقط عنهم الجزية بدليل ما أثر عن
الصحابة... وبهذا يظهر أن الذميين القانطين اليوم في بلاد الإسلام والذين يلتزمون
بالخدمة العسكرية، ويشتركون في الحرب ضد الأعداء، أو يكونون عرضة لذلك،
لا يجب عليهم الجزية) (2).
وتشهد على ذلك ما ذكره الأصحاب في بيان مصرف الجزية من أنها للمقاتلة
المجاهدين، فإنها قرينة على أن الذميين لما لا يكونون مكلفين بالخدمة العسكرية
والحضور في صفوف الدفاع، أخذت الجزية منهم في قبال ذلك وتصرف في سبيل
الحرب والدفاع، فإذا فرض مشاركتهم في أمر الدفاع مباشرة لم يبق وجه حينئذ
لأخذ الجزية منهم.
ب - نظام الجزية والعلاقات الخارجية مع الأمم غير المسلمة
يظهر من بعض أخبار الباب وكلمات الفقهاء في المقام أن نظام الجزية مختص
اجراءه بالأقليات الدينية الساكنات في حوزة الأمة الإسلامية.



(1) المستدرك ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 56 الحديث 2.
(2) آثار الحرب ص 698.
146
ففي خبر حفص بن غياث المذكور سابقا، علل أبو عبد الله عليه السلام سقوط الجزية
عن النساء والولدان بقوله:
(لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب... فلما نهى
عن قتلهن في دار الحرب كان في دار الإسلام أولى) (1).
فيستفاد منه أن مورد ثبوت الجزية على الرجال وسقوطها عن النساء
والولدان هو دار الإسلام.
وقال العلامة في تعريف الجزية: (الجزية هي المال المأخوذ من أهل الكتاب
لإقامتهم بدار الإسلام في كل عام) (2).
وفي الجواهر: (هي الوظيفة المأخوذة من أهل الكتاب لإقامتهم بدار الإسلام
وكف القتال عنهم) (3).
وفي أحكام السلطانية للماوردي: (فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية
على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار الإسلام) (4).
وقد عرفت كون الجزية عند الشافعي كأجرة الدار ولذا حكم في أحد قوليه
بعدم سقوطها عن الشيخ الفاني والزمن والأعمى.
وقال أبو القاسم الخرقي - من الحنبلية -: (وهي - يعني الجزية - الوظيفة
المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام) (5).
فترى أن مورد الرواية وكلمات القوم هو من يعيش من الكفار في دار الإسلام
وهذا لا ينطبق إلا على الأقليات الدينية.
نعم في رواية أخرى عن حفص - المشهور بخبر الأسياف - عن أبي
عبد الله عليه السلام: (... فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل،
ومالهم فئ وذراريهم سبي وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم،



(1) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
(2) التذكرة كتاب الجهاد.
(3) الجواهر ج 21 ص 227.
(4) الأحكام السلطانية ص 143.
(5) المغني لابن قدامة ج 10 ص 557.
147
وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم، ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا
سبيهم، ولم تحل لنا مناكحتهم، ولم يقبل منهم إلا الدخول في دار الإسلام أو
الجزية أو القتل) (1).
فإن المستفاد منها أن الجزية تؤخذ ممن كان في دار الحرب أيضا.
إلا أنه من المحتمل وقوع التصحيف في الرواية بأن كان الصحيح: (ولم يقبل
منهم إلا الدخول في دار الإسلام والجزية أو القتل) لأنهم إذا دخلوا في دار
الإسلام لم يقروا على دينهم إلا باعطاء الجزية، وإذا دخلوا فيه صاروا بطبيعة
الحال من الأقليات الدينية، هذا مضافا إلى ضعف سند الرواية.
وفي التهذيب نقل الرواية هكذا: (والسيف الثاني على أهل الذمة... فهؤلاء لا
يقبل منهم إلا الجزية أو القتل) (2).
وعلى أي تقدير ظاهر كلمات الفقهاء في بيان ماهية الجزية وأحكامها يوجب
الاطمئنان بأن مورد الجزية الأقليات الساكنة في دار الإسلام.
ويؤيد ذلك أيضا أنهم ذكروا أن من شروط الذمة، التزامهم بأحكام الإسلام
وأن لا يتظاهروا بالمناكير كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، وأن لا يطيلوا بنائهم
على بناء المسلمين، وأن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا.
وذكروا أيضا: إذا نقضوا الذمة في دار الإسلام كان للإمام ردهم إلى مأمنهم،
ومن الواضح أن مورد جميع ذلك أو أكثرها هو دار الإسلام.
نعم يجوز للحكومة الإسلامية عقد المعاهدات المالية وغير المالية مع الأمم
الخارجية الكافرة بحسب ما تراه من المصالح كان يتعهد قوم اعطاء مال إلى
الحكومة الإسلامية في قبال تقبل النظام الإسلامي الدفاع عن ثغورهم وحوزتهم
في مواقع الخطر أو التزامات أخرى، ولا مانع من شمول عمومات الوفاء بالعقود
والعهود لهذا النحو من المعاهدات التي ينعقد مع تراضي الطرفين، إلا أن هذا غير



(1) الوسائل أبواب جهاد العدو الباب 5 الحديث 2.
(2) التهذيب ج 6 باب أصناف من يجب جهاده الحديث 1.
148
عقد الجزية المصطلح في الفقه كما لا يخفي، فإنه كما عرفت يكون أحد شرائط
عقد الذمة ومورد هذا العقد وشرائطه هو دار الإسلام.
وبمثل ما ذكرنا قال الدكتور وهبه الزحيلي: (الواقع أنه يجب أن يفرق بين
معاهدة الذمة كوضع داخلي وكون المعاهدة وسيلة لتنظيم العلاقات الخارجية مع
الأمم الأخرى، ففي الحالة الأولى لا انتقاد على نظام الذمة ما دام أن الجزية ما هي
إلا ضريبة من الضرائب المفروضة على المواطنين يقابلها التزامات أخرى كثيرة
على المسلمين.
أما في الحالة الثانية فليس نظام الجزية من النظام العام في تأصيل المعاهدات
كما حققنا في الباب التمهيدي، وإنما يجوز عقد معاهدات على أساس آخر بحسب
ما يرى ولاة الأمور كما قلنا في مبدأ الكلام عن الذمة، وقد أجاز الفقهاء عقد هدنة
لمدة مطلقة دون أن تكون بدفع مال من المسلمين عند الحاجة كما عرفنا في
الصلح المؤقت) (1).
نعم يستفاد من هذا الكلام امكان اجراء عقد الذمة بالنسبة إلى الملل الخارجة
من دار الإسلام أيضا من دون أن يكون على أساس دفع مال منهم لنا، وهو مردود
لما عرفت من أن هذا العقد لا يتم إلا بقبول دفع الجزية، ولعله كان اجماعيا بين
فقهاء الفريقين ويأتي تصريح غير واحد منهم بانتقاض عقد الذمة لو أخل بهذا
الشرط فانتظر.



(1) آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 694.
149
الفصل السابع
بحوث متفرقة حول الجزية
زمان أخذ الجزية:
صريح كلمات بعض الأصحاب أن الجزية تؤخذ من أهلها في آخر كل سنة.
قال العلامة: (وتؤخذ عند انتهاء كل حول) (1).
وقال في التحرير: (يجب الجزية بآخر الحول ويجوز أخذها سلفا، ولا يجب
بأوله) (2).
وفي الجواهر: (أن ظاهر النصوص والفتاوى تكرار الجزية في كل حول، وأن
حالها حال الزكاة والخراج الذي على الأرض، بل هو في أرضهم ضرب منها، بل
لعل المنساق منها أنها تجب في آخر الحول كما صرح به الفاضل في المنتهى) (3).
أقول: لم أجد في المتون الروائية والفقهية مستندا لهذا الحكم. نعم في رواية
مصعب بن يزيد التي نقلتها عند البحث عن كمية الجزية، قوله: " فجبيتها ثمانية
عشر ألف ألف درهم في سنة " (4).



(1) القواعد ج 1 ص 510.
(2) التحرير ج 1 ص 149.
(3) الجواهر ج 21 ص 257.
(4) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 5.
150
ولا ذكر لآخر الحول فيها وفي سائر النصوص، والمذكور في أخبار العامة
أيضا كلمة (السنة) فقط (1). ومن الواضح أن هذا التعبير يعم أخذها جملة في آخر
السنة، وأخذها أقساطا بحسب الشهور مثلا، خصوصا على مسلك المشهور بين
الأصحاب من أن أمر الجزية كما وكيفا بيد الإمام، فإذا كان أمر الزيادة والنقيصة
بيده فله تعيين وقت الجباية بالأولوية، فللإمام أخذها بأي نحو رأى فيه المصلحة،
ولا تعين لأخذها في آخر الحول.
ويؤيد ذلك ما سمعته من سنن البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله صالح أهل نجران
على جزية مقدارها 2000 حلة 1000 في صفر و 1000 في رجب، وصالح أهل
أذرح على مائة دينار كل رجب (2).
وأما العامة فهم اختلفوا على قولين،
قال في المغني: (وتجب الجزية في آخر كل حول، وبه قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة: تجب بأوله، ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول
الثاني، لقوله تعالى حتى يعطوا الجزية (3).
ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول، أو يؤخذ في آخر كل حول، فلم يجب بأوله
كالزكاة، ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها) (4).
ولا يخفي غرابة رأي أبي حنيفة، وأغرب منها ما ذكره ابن مفتاح - من علماء
الزيدية - في شرح الأزهار:
(وتجوز المطالبة من أول الحول، فإذا مات أو أسلم قبل تمام الحول طاب
ما أخذه، ولو شرط رده، لأنه عوض عن الأمان وقد حصل) (5).
جواز أخذ الجزية من ثمن الخمور والخنازير ونحوهما من المحرمات:
اتفق فقهاء الإسلام على جواز استيفاء الجزية من ثمن المحرمات كالخمر



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 193 - 195.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
(3) التوبة / 29.
(4) المغني ج 10 ص 568.
(5) شرح الأزهار ج 1 ص 577.
151
والخنزير.
قال الشيخ في النهاية: (ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب مما أخذوه
من ثمن الخمور والخنازير والأشياء التي لا يحل للمسلمين بيعها والتصرف
فيها) (1).
وفي المختصر النافع للمحقق: (يجوز أخذ الجزية من أثمان المحرمات
كالخمر) (2).
وقال العلامة: (يؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم من الأثمان والعروض
على قدر تمكنهم ولا يلزمهم الإمام بعين من ذهب أو فضة) (3).
وفي المختلف: (لا بأس بأخذ الجزية من ثمن المحرمات وعليه علماؤنا، وبه
قال ابن الجنيد ولكنه قال: ولو علم المسلمون بأن الذمي أداها من ثمن الخمر جاز
ذلك منه، لا من حوالة على المبتاع للخمر منه، والأقرب أنه لا فرق بين الحوالة
وبين قبضه منه، عملا بالعموم الدال على جواز الأخذ من ثمن المحرمات) (4).
وقال في الجواهر: (ويجوز أخذ الجزية من أثمان المحرمات كالخمر
والخنزير وغيرهما بلا خلاف معتد به أجده فيه) (5).
أقول: مراده من المخالف ابن الجنيد مع أنه لم يخالف في أصل المسألة كما
صرح به في المختلف.
وفي الأموال لأبي عبيد بإسناده عن سويد بن غفلة قال: (بلغ عمر بن
الخطاب أن ناسا يأخذون الجزية من الخنازير وقال بلال فقال: إنهم ليفعلون، فقال
عمر: لا تفعلوا، ولو هم بيعها.
ثم قال أبو عبيد: " يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر
والخنزير، من جزية رؤوسهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولى المسلمون بيعها،



(1) النهاية ص 194.
(2) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 226.
(3) التحرير ج 1 ص 149.
(4) المختلف ج 4 ص 442.
(5) الجواهر ج 21 ص 261.
152
فهذا الذي أنكره بلال، ونهى عنه عمر، ثم رخص لهم أن يأخذوها ذلك من أثمانها،
إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة
ولا تكون مالا للمسلمين) (1).
وفي المغني لابن قدامة نقلا عن ابن عبيد: (أن المسلمين كانوا يأخذون من
أهل الذمة الخمر والخنازير، من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولى
المسلمون بيعها، فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل
الذمة المتولين بيعها، وروى بإسناده عن سويد بن غفلة، أن بلالا قال لعمر: إن
عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن
ولو هم بيعها وخذوا أنتم من الثمن) (2).
وفيه أيضا: (ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم، على جزية رؤوسهم،
وخراج أرضهم، احتجاجا بقول عمر هذا، ولأنها من أموالهم التي نقرهم على
اقتنائها والتصرف فيها، فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم) (3).
أقول: تدل على الحكم طائفة من الأخبار:
1 - ما رواه في الوسائل بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن صدقات أهل الذمة وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم
وخنازيرهم وميتتهم، قال: عليهم الجزية في أموالهم تؤخذ من ثمن لحم الخنزير
أو خمر، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم وثمنه للمسلمين حلال،
يأخذونه في جزيتهم (4).
ورواه في الفقيه مع تفاوت قليل في الألفاظ (5).
2 - ما رواه المفيد في المقنعة، قال:



(1) الأموال ص 28 - 29.
(2) المغني ج 10 ص 592.
(3) المغني ج 10 ص 592.
(4) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 7 الحديث 1.
(5) الفقيه ج 2 ص 52.
153
روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأله عن خراج أهل الذمة
وجزيتهم إذا أدوها من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم، أيحل للإمام أن
يأخذها ويطيب ذلك للمسلمين؟ فقال: ذلك للإمام والمسلمين حلال، وهي على
أهل الذمة حرام، وهم المحتملون لوزره (1).
ويحتمل قويا اتحاد الروايتين لاتحاد الراوي والمروي عنه والمضمون.
3 - ما رواه في الدعائم عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه رخص في أخذ الجزية
من أهل الذمة من ثمن الخمر والخنزير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام
والربا (2).
ويستفاد من الخبر الأخير أن الجواز لا يختص بأثمان الخمر والخنزير
والميتة كما هو مورد سؤال الراوي في الأوليين، بل يجري بالنسبة إلى سائر
المحرمات أيضا كالربا، ومقتضى اطلاق هذه الأخبار عدم الفرق بين صورة
الإحالة وبين غيرها خلافا للأسكافي، والمراد من الإحالة أن يحيل الذمي المسلم
بأخذ الثمن ممن اشترى الخمر منه مثلا.
جواز اشتراط الضيافة على أهل الذمة:
يجوز عند الأصحاب والعامة أن يشرط على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم
من المجاهدين، ومن العامة من قال بالوجوب، فحينئذ يقع الكلام في أمور:
1 - الدليل على جوازه أو وجوبه.
2 - قدر الضيافة.
3 - شرائطه.
4 - اختصاص الحكم بالمجاهدين أو شموله لمطلق المارة من المسلمين.
وقبل أن نبحث عن هذه الأمور نذكر جملة من كلمات الأصحاب والعامة في
المسألة.



(1) المقنعة ص 279.
(2) دعائم الإسلام ج 1 ص 381.
154
قال الشيخ في المبسوط: " يجوز أن يشرط عليهم ضيافة من يمر بهم من
المسلمين مجاهدين وغير مجاهدين لأن النبي صلى الله عليه وآله ضرب على نصارى أيلة
ثلاث مائة دينار، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا ولا يغشوا، فإذا ثبت
ذلك احتاج إلى شرطين:
أحدهما: أن يكون ذلك زايدا على أقل ما يجب عليهم من الجزية، وأن يكون
معلوم المقدار، وإنما قلنا ذلك لأن الضيافة ربما لا يتفق فيحصل الجزية أقل
ما يجب عليهم، ولا يضرب الضيافة عليهم إلا برضاهم، لأن أصل الجزية لا تتم إلا
بالتراضي.
والشرط الثاني: أن يكون معلوما لأنه لا يصح العقد على مجهول ويصير
معلوما بأن يكون عدد أيام الضيافة من الحول معلومة، فيقال لهم: يضيفون من
السنة خمسين يوما أو أقل أو أكثر، ويكون عدد من يضاف معلوما، فيقال كذا وكذا
نفسا من الرجال ومن الفرسان كذا وكذا، ويكون القوت معلوما، ولكل رجل كذا
وكذا رطلا من الخبز، وكذا من الأدم من لحم وجبن وسمن وزيت وشيرج، ويكون
مبلغ الأدم معلوما...
ثم ينظر في حالهم فإن كانوا متساويين في قدر الجزية لم يفضل بعضهم على
بعض في الضيافة أيضا بل ينزل على كل واحد مثل ما ينزل على الآخر، وإن كانوا
متفاضلين في الجزية كانت الضيافة أيضا مثل ذلك، ومبلغ الضيافة ثلاثة أيام لما
تضمنه الخبر وما زاد عليه فهو مكروه (1).
وفي الوسيلة لابن حمزة: (وإن شرط عليهم الضيافة ورضوا جاز بعد استقرار
الجزية بشرطين:
أحدهما: أن لا يبلغ قدرا يزيد على أقل ما يجب عليهم من الجزية.
والثاني: أن تكون معلومة المقدار في أربعة أشياء: الأيام، وعدد المارة بهم من



(1) المبسوط ج 2 ص 38 - 39.
155
الرجال والفرسان، وقدر القوت من الخبز والأدام، وقدر علف الدواب " (1).
وفي التذكرة: " يجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من
المسلمين اجماعا، بل يستحب) (2).
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: (وإذا صولحوا على ضيافة من يمر بهم
من المسلمين قدرت عليهم ثلاثة أيام، وأخذوا بها ثلاثة أيام لا يزادون عليها، كما
صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما
يأكلون، لا يكلفونهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبن دوابهم من غير شعير، وجعل ذلك
على أهل السواد دون المدن...
وقد روي عن أحمد كلام يدل على أن الذي شرط عليهم يوم وليلة، فقال
حمدان بن علي: قلت لأحمد: (عمر بن الخطاب جعل على أهل السواد يوما
وليلة؟ قال: كنا إذا تولينا عليهم قالوا: شبا شبا، قلت لأحمد: ما يوم وليلة؟ قال:
يضيفونهم. قلت: ما قولهم: شبا شبا؟؟ قال أحمد: هو بالفارسية ليلة ليلة.
وقد رواه أبو بكر الخلال بإسناده عن الأحنف بن قيس (أن عمر اشترط على
أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وأن قتل رجل من المسلمين
بأرضهم فعليهم ديته).
وفي لفظ آخر (أن عمر اشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، فإن حبسهم
مطر أو مرض فيومين، فإن مكثوا أكثر من ذلك أنفقوا من أموالهم ويكلفوا
ما يطيقون، وكذلك الضيافة في حق المسلمين الواجب يوم وليلة.
قال في رواية حنبل (قد أمر النبي صلى الله عليه وآله بذلك وهو دين له، قلت: كم مقدار
ما يقدر له؟ قال: ما يمونه في الثلاثة أيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله واليوم والليلة هو
حق واجب " فقد بين أن المستحب ثلاثة أيام والواجب يوم وليلة " (3).
وفي المغني لابن قدامة: " ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من



(1) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162.
(2) التذكرة كتاب الجهاد.
(3) الأحكام السلطانية ص 156.
156
يمر بهم من المسلمين، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الأحنف بن قيس، أن
عمر شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، وعلف دوابهم وما
يصلحهم... ومن أصحابنا من قال: تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين،
والأول أصح) (1).
هذه جملة من عبائر القوم، وقد ظهر منها أن فيها أقوالا:
الأول: جواز اشتراط الضيافة عليهم مطلقا، وهو خيرة مشهور الأصحاب
والعامة، نعم ذهب الشيخ إلى كراهة ما زاد على ثلاثة أيام.
الثاني: وجوب اشتراط يوم وليلة، ويستحب اشتراط ثلاثة أيام. وهو قول
الماوردي. وقال بعض العامة: تجب بغير شرط.
الثالث: استحباب الاشتراط مطلقا وهو ظاهر العلامة في التذكرة.
أقول: يدل على أصل الجواز أمور:
1 - أن النبي صلى الله عليه وآله ضرب على نصارى أيلة ثلاثة مائة دينار، وأن يضيفوا من
مر بهم من المسلمين ثلاثا ولا يغشوا (2).
2 - وفي قرب الإسناد، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه:
(أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بالنزول على أهل الذمة ثلاثة أيام) (3).
أقول: ظاهر هذا الخبر وجوب النزول والضيافة، ولكن لم يعمل به الأصحاب.
3 - وفيه أيضا، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال:
(فينزل المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم وحاجاتهم، ولا ينزل المسلم على
المسلم إلا بإذنه) (4).
ويدل عليه أيضا على مسلك العامة أمور:
1 - ما في سنن البيهقي بسنده عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: حق



(1) المغني ج 10 ص 569.
(2) المبسوط ج 2 ص 38 وسنن البيهقي ج 9 ص 195.
(3) قرب الإسناد ص 39.
(4) قرب الإسناد ص 62.
157
الضيافة
ثلاثة أيام، فما زاد على ذلك فهو صدقة.
وروى نحو ذلك بسنده عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله أيضا (1).
2 - وفيه أيضا بسنده عن أسلم: (أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل
الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين
وضيافة ثلاثة أيام) (2).
3 - وفيه أيضا بسنده، عن الأحنف بن قيس: (أن عمر بن الخطاب كان
يشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا قناطر، وأن قتل بينهم قتيل،
فعليهم ديته) (3).
وأما ذهاب بعض العامة إلى الوجوب فلظاهر بعض أخبارهم في الباب:
1 - في سنن البيهقي عن عقبة بن عامر، قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا
فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم
بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)
رواه البخاري والمسلم (4).
2 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي كريمة، سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: (ليلة الضيف
حق على كل مسلم، من أصبح الضيف بفنائه فهو عليه حق، أو قال: دين، إن شاء
اقتضاه وإن شاء تركه) (5).
وظاهر هذين الخبرين ثبوت حق النزول والضيافة للمسلمين، وأن لم
يشرطوا ذلك عليهم. وأجاب العلامة عن هذا القائل بقوله:
" إن أصل الجزية إنما تثبت بالتراضي، فالضيافة أولى " (6) وفي المغني: " إنه
أداء مال، فلم يجب بغير رضاهم كالجزية " (7).



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 197.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 196.
(3) سنن البيهقي ج 9 ص 196.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 197.
(5) سنن البيهقي ج 9 ص 197.
(6) التذكرة كتاب الجهاد.
(7) المغني ج 10 ص 570.
158
هذا كله بالنسبة إلى أصل حكم المسألة، فقد ظهر مما ذكرنا أن الحق فيها هو
القول بالجواز.
وأما قدر الضيافة، ففي التذكرة: (يجب أن تكون الضيافة زايدة على أقل
ما يجب عليهم من الجزية، وهو أحد قولي الشافعي) (1).
وفي المسالك: (ويجب كونها زائدة على أقل ما يمكن فرضه جزية كدينار
مثلا فإنه أقل ما يوضع على الفقير بناء على ما ورد في بعض الأخبار من التقدير،
وعلى القول بعدمه تكون الضيافة زائدة على أقل ما تقتضي المصلحة وضعه عليهم
من الجزية) (2).
وفي الوسيلة لابن حمزة، والقواعد مثل ذلك (3).
أقول: الضيافة تارة تشترط عليهم مضافة إلى الجزية وأخرى تشترط على أنها نفس الجزية، ولا يخفى أن هذه العبائر ناظرة إلى الصورة الثانية، ولما كان
مسلك الأصحاب في كمية الجزية أنه ليس لها حد مقدر، بل تقديرها إلى الإمام،
فلازمه ايكال تقدير الضيافة أيضا إلى رأيه ونظره، بل اللازم في الصورة الأولى
أيضا ايكال الأمر إلى الإمام لأنها ترجع بالمال إلى تعيين كمية الجزية.
ومن هنا يعلم أنه لا وجه للقول بوجوب كون الضيافة زايدة على أقل ما يجب
عليهم من الجزية، وإن وجد ذلك في كلمات كثير من الأصحاب إلا على القول
بكون الجزية مقدرة، وهو خلاف مسلكهم كما عرفت.
وأما ما في عبائر الشيخ من أن مقدار الضيافة ثلاثة أيام، فهو للاتكال إلى
بعض الأخبار المذكورة آنفا، والأقرب ما ذكرنا من أن تعيين مبلغ الضيافة موكول
إلى نظر الإمام، وأما ذكر العدد في تلك الأخبار فلعله لا خصوصية له وكان
لمصلحة اقتضت ذلك، مضافا إلى ضعف أكثر تلك الأخبار سندا، وليس في خبر



(1) التذكرة كتاب الجهاد.
(2) المسالك ج 1 ص 158.
(3) سلسلة الينابيع الفقهية ج 9 ص 162 والقواعد ج 1 ص 511.
159
قرب الإسناد أكثر من أمره صلى الله عليه وآله بالنزول ثلاثة أيام، وهو لا يثبت المطلوب.
ولعله لما ذكرنا قال في الجواهر:
(والأقرب عندي جواز الزيادة على ذلك مع الشرط والتراضي) (1).
وظاهره عدم اعتبار التراضي إلى ثلاثة أيام واعتباره في الزيادة، وهذا هو
الأقرب نظرا إلى بعض الأخبار المذكورة.
وأما شرائط الضيافة فالمذكور في عبائر الأصحاب والعامة التي نقلنا جملة
منها أن لها شرطين:
الأول: أن يكون قدرها زائدا على أقل ما يجب عليهم من الجزية. وقد عرفت
ما فيه.
الثاني: أن تكون معلومة المقدار في عدد الأيام وعدد المارة بهم من الرجال
والفرسان - وفي زماننا هذا عدد السيارات التي يستعمله المسلمون في الحرب أو
غيره -، وقدر القوت من الخبز والأدام وقدر علف الدواب - وفي عصرنا هذا
ما يستعمل لوقود السيارات كالبنزين - وغير ذلك مما يرتفع به الجهالة.
ووجه هذا الشرط - كما عرفت من عبارة الشيخ - عدم صحة العقد على
المجهول، وهو يبتني على اعتبار المعلومية في كل عقد حتى عقد الذمة وهو محل
تأمل.
ومن هنا قال في الجواهر: (لا يبعد الاكتفاء بما تقتضيه العادة في المقدار
والجنس والوصف وغيرهما) (2).
ثم إن الحكم هل يختص بعساكر المسلمين فقط، أو يعم مطلق المارة منهم؟
صريح كثير من العبائر هو الثاني. قال الشيخ:



(1) الجواهر ج 21 ص 254.
(2) الجواهر ج 21 ص 254.
160
" يجوز أن يشرط عليهم ضيافة من مر بهم من المسلمين مجاهدين وغير
مجاهدين) (1).
وقال العلامة: (ويجوز أن يشرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين) (2).
وأصرح منها عبارة الشهيد في المسالك: (وكما يجوز اشتراط ضيافة مارة
العساكر يجوز اشتراط ضيافة مطلق المارة من المسلمين بل هذا هو المشهور في
الأخبار والفتاوى وهو الذي شرطه النبي صلى الله عليه وآله) (3).
وفي المغني لابن قدامة: (ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من
يمر بهم من المسلمين) (4).
أقول: ويدل على العموم رواية قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن
محمد عن أبيه عليهما السلام قال: (ينزل المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم
وحاجاتهم. الحديث) (5).
ثم لا يبعد - كما قيل - أن نستكشف من حكم هذه المسألة طهارة أهل الذمة
أيضا ضرورة أن مثل الضيافة والتصرف في مثل الزيت والعسل وسائر المائعات
يستلزم عادة المس بالأيادي، ولا دلالة لهذه الأخبار على اقتصار المسلمين على
الأطعمة الجامدة، والمائعات التي لم يعلم مباشرتهم لها، وإلا كان المتجه أن
يشرط عليهم الضيافة بالأطعمة الجامدة مثلا ولا أثر له في تلك الأخبار كما
لاحظت.
لا يؤخذ من أهل الذمة سوى الجزية وما اشترط عليهم في عقد الذمة شئ آخر
صريح كثير من عبائر الأصحاب والعامة أن ضريبة أهل الذمة تنحصر في
الجزية وما اشترط عليهم في عقد الذمة، ولا يجب عليهم غيرها.
قال الشيخ: " وينبغي أن تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤخذ منهم الزكاة، لأن الزكاة



(1) المبسوط ج 2 ص 38.
(2) القواعد ج 1 ص 511.
(3) المسالك ج 1 ص 158.
(4) المغني ج 10 ص 569.
(5) قرب الإسناد ص 62.
161
لا تؤخذ إلا من مسلم " (1).
وفي النهاية: (كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم ما
يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الربع، وليس عليهم غير ذلك) (2).
وقال العلامة: " مع أداء الجزية لا يؤخذ سواها سواء أتجر في بلاد الإسلام أو
لم يتجروا) (3).
أقول: ويدل على ذلك غير واحد من الأخبار:
1 - صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في أهل الجزية يؤخذ من
أموالهم ومواشيهم شئ سوى الجزية؟ قال: لا. (4)
2 - وفي الوسائل عن المفيد في المقنعة عن محمد بن مسلم عن أبي
جعفر عليه السلام قال: إذا أخذت الجزية من أهل الكتاب فليس على أموالهم ومواشيهم
شئ بعدها. (5)
3 - صحيحة أخرى لمحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قوله:
(وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء فعلى أموالهم، وليس على رؤوسهم
شئ الحديث) (6).
4 - وفي المستدرك: (عنه صلى الله عليه وآله أنه نهى عن التعدي على المعاهدين) (7).
هذه كلمات الأصحاب وما يمكن أن يكون مستندهم.
وإليك كلمات عدة من العامة وأدلتهم:
قال أبو عبيد: (ليس على أهل الذمة صدقة في أموالهم، وليس عليهم إلا
الجزية " (8).



(1) المبسوط ج 2 ص 50.
(2) النهاية ص 195.
(3) التذكرة، كتاب الجهاد.
(4) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 4.
(5) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 7.
(6) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 68 الحديث 2.
(7) المستدرك ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 56 الحديث 5.
(8) الأموال ص 119.
162
وفي موطأ مالك: (ولا صدقة على أهل الكتاب ولا المجوس في شئ من
أموالهم ولا من مواشيهم ولا ثمارهم ولا زروعهم، مضت بذلك السنة " (1).
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: (فإن لم يشترط عليهم الضيافة
ومضاعفة الصدقة، فلا صدقة عليهم في زرع ولا ثمر، ولا يلزمهم إضافة سائل ولا
سابل) (2).
أقول: وما يمكن أن يكون مستندهم أمور:
1 - ما في سنن البيهقي بسنده عن العرباض بن سارية السلمي، قال: نزلنا مع
النبي صلى الله عليه وآله خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلا ما ردا
منكرا، فأقبل إلى النبي فقال: يا محمد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمارنا
وتضربوا نساءنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال: (يا عوف، اركب فرسك ثم ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وإن اجتمعوا للصلاة).
قال: فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وآله ثم قام فقال:
(أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله - عز وجل - لم يحرم شيئا
إلا ما في هذا القرآن؟
ألا وأني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر،
وأن الله - عز وجل - لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب
نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم) (3).
2 - وفيه أيضا بسنده عن رجل من جهينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله إنكم لعلكم تقاتلون قوما وتظهرون عليهم فيفادونكم بأموالهم
دون أنفسهم وأبنائهم وتصالحوهم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا
يحل لكم) (4).
3 - وفيه أيضا بسنده، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ألا من ظلم معاهدا وانتقصه



(1) الموطأ ج 1 ص 280.
(2) الأحكام السلطانية ص 145.
(3) سنن البيهقي ج 9 ص 204.
(4) سنن البهيقي ج 9 ص 204.
163
وكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة " (1).
4 - وقال أبو يوسف في خراجه: (وحدثني بعض المشايخ المتقدمين يرفع
الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى من
عنده ناداه فقال: (ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئا
بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة) (2).
حرمة ايذاء أهل الذمة واهانتهم واستحباب الرفق بهم عند جباية الجزية:
إن الجزية ضريبة مالية تؤخذ من الذميين برفق ولطف، ولا يجوز تعذيبهم
والتضييق عليهم في أمرها، وما في بعض كتب العامة والخاصة من جواز اهانتهم
واذلالهم عند جباية الجزية لا يعتمد على أصل ولا مستند. فهذا كتابه - عز شأنه -
يقول:
لا ينهيكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم
أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (3).
فالاسلام دين البر والقسط إلى المواطنين الذميين حسب هذه الآية الكريمة.
وفي المصادر الخاصة والعامة شواهد كثيرة تدل على ما ذكرناه أو تؤيده
وإليك جملة منها:
1 - في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك لما ولاه على مصر:
(واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم
سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في
الخلق... فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من
عفوه وصفحه) (4).
2 - وفيه أيضا: " وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 205.
(2) الخراج ص 125.
(3) الممتحنة / 7.
(4) نهج البلاغة الكتاب 53 فيض: ص 993 صبحي صالح: ص 427.
164
وصلاحهم صلاحا لما سواهم، ولا صلاح من سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم
عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في
استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة
أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا فإن شكوا ثقلا
أو علة أو
انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت
عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم،
فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك
حسن ثنائهم وتبججك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت
عندهم من اجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم،
فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به،
فإن العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها، وإنما
يعوز أهلها لاشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم
بالعبر) (1).
وقد عرفت سابقا اطلاق لفظ الخراج في صدر الإسلام على الجزية كثيرا
والعكس وقلنا إنهما متقاربان في المعنى، شأنهما شأن لفظي الفقير والمسكين إذا
افترقا اجتمعا، وإن شككت في ذلك فلا شبهة في تساوي حكمهما في المقام.
وقوله عليه السلام: (علة) أي علة سماوية أضرت بثمرات الأرض، وقوله: (بالة) أي
ما يبل الأرض من ندى ومطر، وقوله (إحالة أرض) أي تحويلها البذور إلى الفساد
بالتعفن، وقوله: (اغتمرها) أي عمها من الغرق فغلبت عليها والرطوبة حتى صار
البذر فيها ذا رائحة خمة وفساد.
وقوله " أجحف العطش " أي أتلفها وذهب بمادة الغذاء من الأرض فلم ينبت.
والتبجج: السرور بما يرى من حسن عمله في العدل. والاعواز: الفقر والحاجة (2).



(1) نهج البلاغة الكتاب 53 فيض: ص 1013 صبحي صالح: ص 436.
(2) راجع شرح صبحي صالح ص 699.
165
3 - وفيه أيضا في كتاب له عليه السلام إلى عماله في أمر الخراج:
(فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم. فإنكم خزان الرعية،
ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة ولا تحشموا أحدا عن حاجته، ولا تحبسوه عن
طلبته، ولا تبيعن للناس في أمر الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون
عليها، ولا عبدا ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من
الناس مصل ولا معاهد إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام
فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه، ولا
تدخروا أنفسكم نصيحة، ولا الجند حسن سيرة ولا الرعية معونة...) (1).
4 - وفيه أيضا في كتابه إلى بعض عماله: (واخفض للرعية جناحك والنظرة
والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من
عدلك) (2).
5 - وفي الكافي بسنده عن مهاجر عن رجل من ثقيف قال:
استعملني علي بن أبي طالب عليه السلام على بانقيا (3) وسواد من سواد الكوفة، فقال
لي، والناس حضور:
(أنظر خراجك فجد فيه ولا تترك منه درهما فإذا أردت أن تتوجه إلى عملك
فمر بي، قال، فأتيته فقال لي: إن الذي سمعت مني خدعة إياك أن تضرب مسلما أو
يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم فإنما أمرنا أن نأخذ



(1) نهج البلاغة الكتاب 51 فيض: ص 984 صبحي صالح: ص 425.
(2) نهج البلاغة الكتاب 46 فيض: ص 976 صبحي صالح: 421.
(3) قال في معجم البلدان: بانقيا بكسر النون ناحية من نواحي الكوفة. وفي حاشية الكافي عن
الوافي: بانقيا: هي القادسية وما والاها من أعمالها، وإنما سميت القادسية بدعوة إبراهيم
الخليل عليه السلام لأنه قال لها: كوني مقدسة أي مطهرة من التقديس وإنما سميت بانقيالان
إبراهيم عليه السلام اشتراها بمائة نعجة من غنمه لأن (با) مائة، و (نقيا) شاة بلغة نبط كذا في السرائر
نقلا عن علماء اللغة، وقوله: (خدعة) أي تقية، والعفو ما جاء بسهولة. (فروع الكافي ج 3 ص
540).
166
منهم العفو " (1)
6 - وفي سنن البيهقي بسنده عن رجل من ثقيف قال:
استعملني علي بن أبي طالب على برزج سابور، فقال: لا تضربن رجلا سوطا
في جباية درهم ولا تبيعن لهم رزقا، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون
عليها، ولا تقيمن رجلا قائما في طلب درهم.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذا أرجع إليك كما ذهبت من عندك، قال: وإن
رجعت كما ذهبت، ويحك، أنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل (2).
أقول: برزج سابور معرب عن وزرك شافور وهي المسماة بالسريانية
عكبرى وهو اسم بليدة من نواحي دجيل بينها وبين بغداد عشرة فراسخ.
هكذا جاء في معجم البلدان (3).
7 - وفي الخراج ليحيى بن آدم القرشي بإسناده عن زيد بن رفيع قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة (4).
8 - وفيه أيضا بإسناده عن سعيد بن زيد أنه مر على قوم قد أقيموا في
الشمس في بعض أرض الشام، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له: أقيموا في الشمس
في الجزية. قال: فكره ذلك ودخل على أميرهم وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول " من عذاب الناس عذاب الله " (5)
9 - وفيه أيضا بإسناده عن هشام بن حكيم بن حزام أنه وجد عياض بن غنم
قد أقام أهل الذمة في الشمس في الجزية فقال: يا عياض ما هذا؟ فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبون في الآخرة) (6).
10 - وفيه أيضا: وحدثني بعض المشايخ المتقدمين يرفع الحديث إلى



(1) فروع الكافي ج 3 كتاب الزكاة باب أدب المصداق الحديث 8 ص 540.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 205.
(3) معجم البلدان ج 4 ص 331.
(4) الخراج ص 71.
(5) الخراج ص 125.
(6) الخراج ص 125.
167
النبي صلى الله عليه وآله أنه ولى عبد الله بن أرقم في جزية أهل الذمة، فلما ولى من عنده ناداه
فقال: (ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب
نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة) (1).
11 - وفي الأموال لأبي عبيد: قال هشام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن
الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا) (2).
12 - وفيه أيضا عن رجل من آل أبي المهاجر قال: استعمل علي بن أبي
طالب رجلا على عكبرى، فقال له على رؤوس الناس: لا تدعن لهم درهما من
الخراج، قال: وشدد عليه القول ثم قال له: القنى عند انتصاف النهار، فأتاه فقال:
إني كنت قد أمرتك بأمر، وإني أتقدم إليك الآن، فإن عصيتني نزعتك: لا تبيعن لهم
في خراج حمارا ولا بقرة، ولا كسوة شتاء ولا صيف، وأرفق بهم الحديث. (3)
أقول: العكبري اسم بليدة من نواحي دجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ
والظاهر اتحادها مع برزج سابور التي تقدم ذكرها في رواية الكافي (الرقم 5).
13 - وفيه أيضا: وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله حين كتب إلى أهل اليمن: (إن
على كل حالم دينارا أو عدله من المعافر) ثم قال: ألا تراه قد أخذ منهم الثياب -
وهي المعافر - مكان الدنانير؟ وإنما يراد بهذا الرفق بأهل الذمة) (4)
14 - وفي صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم وجد
رجلا وهو على حمص شمس ناسا من النبط في أداء الجزية فقال: ما هذا إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في
الدنيا (5).
15 - وفيه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام، قال مر بالشام على أناس
وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت فقال: ما هذا؟ قيل يعذبون في
الخراج فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون في



(1) الخراج ص 125.
(2) الأموال ص 26.
(3) الأموال ص 26.
(4) الأموال ص 27.
(5) صحيح مسلم ج 16 كتاب البر والصلة والآداب ص 168.
168
الدنيا (1).
16 - وفيه أيضا عن هشام عن أبيه قال: مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا حبسوا في
الجزية فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله يعذب
الذين يعذبون
الناس في الدنيا (2).
17 - وفي خراج أبي يوسف خطابا لحاكم وقته:
(وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك
وابن عمك محمد صلى الله عليه وآله والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق
طاقتهم ولا يؤخذ شئ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم فقد روي عن
رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه) (3).
هذا كله مضافا إلى دلالة غير واحد من الروايات على حرمة ضرب الناس
بغير حق، وهذه الروايات وإن لم ترد في خصوص مورد الجزية، إلا أن اطلاقها
يشمل هذا المورد أيضا، وقد جمعها صاحب الوسائل في كتاب القصاص. وإليك
نقلها:
18 - عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أعتى
الناس على الله - عز وجل - من قتل غير قاتله، ومن ضرب من لم يضربه (4).
19 - عن الوشا قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لعن الله
من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه الحديث (5).
20 - عن الثمالي قال: قال لو أن رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه الله سوطا



(1) صحيح مسلم ج 16 كتاب البر والصلة والآداب ص 167.
(2) صحيح مسلم ج 16 كتاب البر والصلة والآداب ص 167.
(3) الخراج ص 124.
(4) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 1.
(5) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 3.
169
من النار (1).
21 - عن الفضيل بن سعدان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كانت في
ذوابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة مكتوب فيها: لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين على من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه الحديث (2).
22 - عن جابر بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو أن رجلا ضرب رجلا
سوطا لضربه الله سوطا من نار (3).
23 - في عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام قال: ورثت
عن رسول الله صلى الله عليه وآله كتابين: كتاب الله وكتاب في قراب سيفي، قيل
يا أمير المؤمنين، وما الكتاب الذي في قراب سيفك؟ قال: من قتل غير قاتله، أو
ضرب غير ضاربه فعليه لعنة الله (4).
24 - عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: ابتدر الناس إلى
قراب سيف رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موته فإذا صحيفة صغيرة وجدوا فيها: من آوى
محدثا فهو كافر ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله وأعتى الناس على الله من قتل
غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه (5).
وفي المستدرك أيضا أخبار تدل على مطلوبية الرفق في الأمور يشمل
اطلاقها أو عمومها المقام، ونذكر بعضها:
25 - أبو القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق: قال رسول الله صلى الله عليه وآله (إن الله
رفيق يحب الرفق في الأمور كلها) (6).



(1) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 6.
(3) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 7.
(4) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 9.
(5) الوسائل ج 19 أبواب قصاص النفس الباب 4 الحديث 10.
(6) المستدرك أبواب جهاد النفس الباب 27 الحديث 9.
170
26 - الجعفريات بإسناده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله
ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له " (1)
27 - الجعفريات أيضا بإسناده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله
يحب الرفق ويعين عليه (2).
إشارة اجمالية إلى شرائط الذمة:
شرائط الذمة على ما ذكره الفقهاء:
الأول: قبول الجزية.
وقد تقدم مباحثه تفصيلا.
الثاني: ألا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين وامداد
المشركين بالمعاونة لهم على حرب المسلمين، ويخرجون عن الذمة بمخالفة
هذين الشرطين.
أما الخروج بمخالفة الشرط الأول فلدلالة الكتاب والسنة والاجماع على
عدم اقرارهم على دينهم إلا ببذل الجزية.
ومن السنة ما رواه الكليني بسنده عن حفص بن غياث أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن، ورفعت عنهن؟
قال: (فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء - إلى أن قال -: ولو امتنع
الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم) (3).
وأما الخروج بمخالفة الشرط الثاني فلأنه مقتضى الأمان، فإذا فعلوا ما ينافي
الأمان نقضوا الأمان. وبكلمة أخرى: أنهم إذا قاتلونا وجب قتالهم وهو ضد
الأمان.



(1) المستدرك ج 11 أبواب جهاد النفس الباب 27 الحديث 3.
(2) المستدرك ج 11 أبواب جهاد النفس الباب 27 الحديث 4.
(3) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 18 الحديث 1.
171
الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين كسرقة أموالهم والزنا بنسائهم واللواط
بصبيانهم، وايواء عين المشركين والتجسس لهم، فإن فعلوا شيئا وكان تركه
مشترطا في الهدنة كان نقضا، وإن لم يكن مشترطا كانوا على عهدهم ويجري
عليهم ما تقتضيه جنايتهم من حد أو تعزير أو سجن. قال في الجواهر ما حاصله:
(صرح بذلك غير واحد، بل صرح بعضهم بعدم لزوم ذكر هذا الشرط في عقد
الذمة، وأنه مما ينبغي للإمام عليه السلام اشتراطه، بل قد سمعت تصريح الدروس
بانتقاض العهد به، وإن لم يشترط كما هو ظاهر اللمعة بل هو ظاهر النافع أيضا " (1).
الرابع: أن لا يتظاهروا بما هو منكر عند المسلمين كشرب الخمر وأكل لحم
الخنزير والزنا ونكاح المحرمات ونحوها، وإن كانت جائزة في معتقدهم، ولو
تظاهروا بذلك نقض العهد وإن لم يذكر اشتراطه في عقد الذمة.
ويدل عليه صحيح زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل
الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا، ولا يأكلوا لحم الخنزير، ولا ينكحوا
الأخوات، ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة الله
وذمة رسوله صلى الله عليه وآله، قال: وليست لهم اليوم ذمة.
أقول: ولعل وجه قوله عليه السلام: (وليست لهم اليوم ذمة) أن العاقد لعقد الذمة هو
الإمام الصالح للمسلمين وخلفاء عصره لم يكونوا صالحين، أو لأن أهل الذمة لم
يعملوا بمقتضى عقد الذمة كما يؤيد ذلك رواية الأعور عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه،
وإنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن
لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا، وأما أولاد أهل الذمة اليوم، فلا ذمة لهم (2).
وفي الوسائل روايات أخرى تدل على هذا الشرط.



(1) الجواهر ج 21 ص 268.
(2) الوسائل ج 11 أبواب جهاد العدو الباب 48 الحديث 1.
172
منها: ما فيه بسنده عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان علي عليه السلام يضرب
في الخمر والنبيذ ثمانين: الحر والعبد واليهودي والنصراني، قلت: ما شأن اليهودي
والنصراني؟ قال: (ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم) (1).
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن أبي بصير، قال: (كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد
الحر والعبد واليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ ثمانين، قلت: ما بال اليهودي
والنصراني؟ فقال: (إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار، لأنهم ليس أن يظهروا
شربها) (2).
ومنها: ما فيه أيضا بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر، قال: (قضى أمير
المؤمنين عليه السلام أن يجلد اليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ والمسكر ثمانين
جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين، وكذلك المجوسي، ولم
يعرض لهم إذا شربوا في منازلهم وكنائسهم حتى يصيروا بين المسلمين) (3).
الخامس: أن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يطيلوا بناء ويعزرون لو
خالفوا ذلك.
وهذا الشرط مذكور في كلمات غير واحد من الأصحاب ولكن لم أجد نصا
أو ظاهرا دل عليه، بل قال في الجواهر:
(كان مقتضى الأصل والاطلاق جواز ما كان جائزا في شرعهم الذي أمرنا
باقرارهم عليه بل عقد الذمة يقتضيه) (4).
السادس: أن تجري عليهم أحكام المسلمين، بمعنى أن يقبلوا ما يحكم به
المسلمون عليهم في المنازعات أو في ارتكاب الجرائم، وقد تقدم عند بيان آية
الجزية أن بعضهم فسر " الصغار " في الآية بهذا المعنى، وعليه يكون الدليل على



(1) الوسائل ج 18 أبواب حد المسكر الباب 6 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 18 أبواب حد المسكر الباب 6 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 18 أبواب حد المسكر الباب 6 الحديث 3.
(4) الجواهر ج 21 ص 270.
173
هذا الشرط نفس آية الجزية (1).
وما ذكرنا من الشرائط هو المعروف في كلمات الأصحاب، وإن اختلفوا في
بيانها وذكر عددها وبعض أحكامها.
قال الشيخ في المبسوط: (ومن تقبل منه الجزية إنما تقبل منه إذا التزم شرائط
الذمة، وهي الامتناع عن مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل
الربا ونكاح المحرمات في شرع الإسلام، فمتى لم يقبلوا ذلك أو شيئا منه لا تقبل
منهم الجزية. وإن قبلوا ذلك ثم فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة وجرى
عليهم أحكام الكفار) (2).
وفيه أيضا: (وأما عقد الجزية فهو الذمة، ولا يصح إلا بشرطين: التزام الجزية
وأن يجري عليهم أحكام المسلمين مطلقا من غير استثناء. فالتزام الجزية
وضمانها لا بد منه لقوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون إلى قوله: حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون (3) وحقيقة الاعطاء هو الدفع غير أن المراد هاهنا
الضمان وإن لم يحصل الدفع.
وأما التزام أحكامنا وجريانها عليهم فلا بد منه أيضا وهو الصغار المذكور في
الآية) (4).
وفيه أيضا: (المشروط في عقد الذمة ضربان:
أحدهما يجب عليهم فعله، والآخر يجب عليهم الكف عنه. فما يجب عليهم
فعله على ضربين: أحدهما بذل الجزية والآخر التزام أحكام المسلمين، ولا بد من
ذكر هذين الشرطين في عقد الجزية لفظا ونطقا، فإن أغفل ذكرهما أو ذكر أحدهما
لم ينعقد لقوله تعالى: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " والصغار التزام



(1) التوبة / 29.
(2) المبسوط ج 2 ص 13.
(3) التوبة / 29.
(4) المبسوط ج 2 ص 38.
174
أحكام المسلمين واجراؤها عليهم.
وأما ما يجب الكف عنه فعلى ثلاثة أضرب: ضرب فيه منافاة الأمان، وضرب
فيه ضرر على المسلمين، وضرب فيه اظهار منكر في دار الإسلام.
فذكر هذه الأشياء كلها تأكيد وليس بشرط في صحة العقد. فأما ما فيه منافاة
الأمان فهو أن يجتمعوا على قتال المسلمين، فمتى فعلوا ذلك نقضوا العهد، وسواء
شرط ذلك في عقد الذمة أو لم يشرط لأن شرط الذمة يقتضي أن يكونوا في أمان
من المسلمين والمسلمين في أمان منهم.
وأما ما فيه ضرر على المسلمين يذكر فيه ستة أشياء:
ألا يزني بمسلمة ولا يصيبها باسم نكاح، ولا يفتن مسلما عن دينه، ولا يقطع
عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عينا، ولا يعين على المسلمين بدلالة أو بكتب
كتاب إلى أهل الحرب بأخبار المسلمين ويطلعهم على عوراتهم، فإن خالفوا
شرطا من هذه الشروط، نظر فإن لم يكن مشروطا في عقد الذمة لم ينقض العهد
لكن إن كان ما فعله يوجب حدا أقيم عليه الحد فإن لم يوجبه عزر، وإن كان
مشروطا عليه في عقد الذمة كان نقضا للعهد لأنه فعل ما ينافي الأمان.
وأما ما فيه اظهار منكر في دار الإسلام ولا ضرر على المسلمين فيه فهو
احداث البيع والكنائس وإطالة البنيان وضرب النواقيس وادخال الخنازير
واظهار الخمر في دار الإسلام فكل هذه عليه الكف عنه، سواء كان مشروطا أو
غير مشروطا فإن عقد الذمة يقتضيه، وإن خالفوا ذلك لم ينتقض ذمته، سواء كان
مشروطا عليه أو لم يكن لكن يعزر فاعله أو يحد إن كان مما يوجب الحد) (1).
وقال العلامة في المنتهى ما حاصله: (لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
أحدهما: أن يلتزموا اعطاء الجزية، والثاني: التزام أحكام الإسلام على معنى
وجوب القبول لما يحكم به المسلمون من أداء حق أو ترك محرم... ولا نعلم في



(1) المبسوط ج 2 ص 43.
175
ذلك خلافا ".
ثم قال أيضا: " جملة ما يشترط على أهل الذمة ينقسم ستة أقسام:
أحدها: ما يجب شرطه ولا يجوز تركه وهو أمران: أحدهما ثبوت الجزية
عليهم والثاني: التزام أحكام الإسلام، ولا بد من ذكر هذين الأمرين معا لفظا
ونطقا، ولا يجوز الاخلال بهما، ولا بأحدهما، فإن أغفل أحدهما لم تنعقد الجزية،
ولا نعلم فيه خلافا.
الثاني: ما لا يجب شرطه، لكن الاطلاق يقتضيه، وهو أن لا يفعلوا ما ينافي
الأمان من العزم على حرب المسلمين وامداد المشركين بالمعاونة لهم على حرب
المسلمين، لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان، لأنهم إذا
قاتلونا وجب علينا قتالهم وهو ضد الأمان، وهذان القسمان ينتقض العهد
بمخالفتهما سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشترط.
الثالث: ما ينبغي اشتراطه مما يجب عليهم الكف عنه، وهو سبعة أشياء:
ترك الزنا بالمسلمة وعدم اصابتها باسم النكاح، وأن لا يفتنوا مسلما عن دينه،
ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عينا، ولا يعين على المسلم بدلالة أو
بكتبه كتاب إلى أهل الحرب بأخبار المسلمين، ويطلعهم على عوراتهم، ولا يقتلوا
مسلما ولا مسلمة، فإن فعلوا شيئا من ذلك وكان تركه مشروطا في العقد نقضوا
العهد، وإلا فلا.
الرابع: ما فيه غضاضة على المسلمين، وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو نبيهم أو
دينهم بسوء، فلا يخلو إما أن ينالوا بالسب أو بدونه، فإن سبوا الله - تعالى - أو
رسوله صلى الله عليه وآله وجب قتلهم، وكان ذلك نقضا للعهد، وإن ذكروهما بما دون، أو ذكروا
دين الإسلام أو كتاب الله بما لا ينبغي، فإن كان قد شرط عليهم الكف عن ذلك،
كان ذلك نقضا للعهد، وإلا فلا.
الخامس: ما يتضمن المنكر ولا ضرر على المشركين فيه، وهو أن لا يحدثوا
كنيسة ولا بيعة في دار الإسلام، ولا يرفعوا أصواتهم بكتبهم، وأن لا يضربوا

176
الناقوس، ولا يطيلوا أبنيتهم على بناء المسلمين، وأن لا يظهروا الخمر والخنزير
في دار الإسلام، فهذا كله يجب عليهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشترط،
فإن عقد الذمة يقتضيه، فإن خالفوا ذلك لم يخل إما أن يكون مشروطا عليهم أو لم
يكن، فإن كان مشروطا عليهم انتقض ذمامهم وإن لم يكن مشروطا عليهم لم
ينتقض ذمامهم بل يجب عليهم بما يقابل جنايتهم من حد أو تعزير، وقال
الشيخ رحمه الله: لا يكون نقضا للعهد سواء شرط عليهم أو لم يكن، وبه قال الشافعي.
السادس: التمييز عن المسلمين وينبغي للإمام عليه السلام أن يشترط عليهم في عقد
الذمة التميز عن المسلمين في أربعة أشياء:
في لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم) (1).
وقال الشهيد في الدروس ما حاصله: (شرائط الذمة قبول الجزية والتزام
أحكام الإسلام، وإن لا يفعلوا ما ينافي الأمان كمعاونة الكفار وايواء عينهم، وأن لا
يتجاهروا بالمحرمات في شريعة الإسلام كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل
الربا ونكاح المحارم، فيخرجون عن الذمة بترك هذه أو بعضها، ويجب أن يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون... ويمنعون من أن يحدثوا كنيسة أو بيعة أو يضربوا
ناقوسا أو يطيلوا بناء على جارهم المسلم أو يساووه، بل ينخفضون عنه) (2).
هذه جملة من كلمات الأصحاب - قدس الله أسرارهم - وفي كتب العامة
أيضا نظير هذه الشرائط مع اختلاف ما نذكر بعض كلماتهم في المقام.
قال الماوردي: (ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب.
أما المستحق فستة شروط: أحدهما: أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله بتكذيب له
ولا ازدراء.
والثالث: أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.
والرابع: أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.



(1) المنتهى ج 2 ص 968 - 969.
(2) الدروس، كتاب الجهاد.
177
والخامس: أن لا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.
والسادس: أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يؤدوا أغنيائهم.
فهذه الستة حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط. وإنما تشترط اشعارا لهم
وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم.
وأما المستحب فستة أشياء:
أحدها: تغير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.
والثاني: أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية ويكونوا أن لم ينقصوا مساوين
لهم.
والثالث: أن لا يسمعوا أصوات نواقيسهم ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في عزير
والمسيح.
والرابع: أن لا يجاهروهم بشرب خمورهم ولا باظهار صلبانهم وخنازيرهم.
والخامس: أن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.
والسادس: أن يمنعوا من ركوب الخيل عتافا وهجانا ولا يمنعوا من ركوب
البغال والحمير. وهذه الستة المستحبة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط فتصير
بالشرط ملتزمة، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم لكن يؤخذون بها
اجبارا ويؤدبون عليها زجرا ولا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم) (1).
أقول: الزنار والزنارة: ما يشد على الوسط، والغيار بالكسر علامة أهل الذمة
كالزنار للمجوس ونحوه. و (فتن فلانا): أضله. و (الهجان) من كل شئ: خياره
وخالصه، ومن الإبل: البيض الكرام.
وفي سنن البيهقي بسنده عن عبد الرحمان بن غنم قال: كتبت لعمر بن
الخطاب حين صالح أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر
أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا.



(1) الأحكام السلطانية ص 145.
178
إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا،
وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة
ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحي ما كان منها في خطط
المسلمين. وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن
نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام
ونطعمهم، وأن لا نؤمن في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين،
ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعوا إليه أحدا ولا نمنع أحدا من
قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده، وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من
مجالسنا إن أرادوا جلوسا، ولا نتشبه بهم في شئ من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة
ولا نفلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج
ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا
بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلتزم زينا حيث ما كنا وأن
نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شئ من طريق المسلمين
ولا أسواقهم وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نضرب بناقوس في كنائسنا
بين حضرة المسلمين، وأن لا نخرج سعانين ولا باعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع
أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في شئ من طريق المسلمين ولا نجاورهم موتانا،
ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع
عليهم في منازلنا.
فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه:
وأن لا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لهم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا
وقبلنا منهم الأمان، فإن نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم فضمناه على أنفسهم فلا
ذمة لنا، وقد حل لكم ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاوة (1).



(1) سنن البيهقي ج 9 ص 202.
179
أقول: القلاية: مسكن الأسقف، وسعانين: عيد الأحد والمشهور الشعانين.
وهذه الكلمة عبرانية كسابقتها، وباعوث: صلاة ثاني عيد الفصح.
وفي المغني لابن قدامة: (ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
أحدهما: أن يلتزموا اعطاء الجزية في كل حول.
والثاني: التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو
ترك محرم، لقول الله - تعالى - حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (1)
وقول النبي صلى الله عليه وآله في حديث بريدة: (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل
منهم وكف عنهم) (2).
وفيه أيضا: (وذكر القاضي والشريف أبو جعفر أن الشروط قسمان:
أحدهما: ينتقض العهد بمخالفته، وهو أحد عشر شيئا:
الامتناع عن بذل الجزية وجرى أحكامنا عليهم، إذا حكم بها حاكم،
والاجتماع على قتال المسلمين، والزنا بمسلمة، واصابتها باسم نكاح، وفتن مسلم
عن دينه، وقطع الطريق عليه وقتله، وايواء جاسوس المشركين، والمعاونة على
المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم، أو مكاتبتهم، وذكر الله - تعالى - أو
كتابه، أو دينه، أو رسوله بسوء، فالخصلتان الأوليان ينتقض العهد بهما بلا خلاف
في المذهب، وهو مذهب الشافعي، وفي معناهما قتالهم للمسلمين، منفردين أو مع
أهل الحرب، لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان، لأنهم إذا
قاتلونا لزمنا قتالهم، وذلك ضد الأمان.
وسائر الخصال فيها روايتان: أحدهما: أن العهد ينتقض بها سواء شرط عليهم
ذلك أو لم يشترط، وظاهر مذهب الشافعي قريب من هذا، إلا أن ما لم يشترط
عليهم، لا ينتقض العهد بتركه ما خلا الخصال الثلاث الأولى، فإنه يتعين شرطها،
وينتقض العهد بتركها بكل حال، وقال أبو حنيفة:



(1) التوبة / 29.
(2) المغني ج 10 ص 563.
180
لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية
منهم) (1).
هذا جملة من كلمات فقهاء الإسلام حول شرائط الذمة، أوردتها مناسبة
للمقام، واقتصرت على نقلها بلا نقد ولا تحليل لأن لهذا البحث محلا آخر وهو
يطلب أثرا مستقلا.
والحمد لله أولا وآخرا.



(1) المغني ج 10 ص 597.
181
فهرس المصادر
أ - المصادر العربية:
- القرآن الكريم
- نهج البلاغة شرح فيض الإسلام، إيران
وشرح صبحي صالح، مؤسسة دار الهجرة
3 - الأم محمد بن إدريس الشافعي،
دار المعرفة، بيروت
4 - آثار الحرب في الفقه الإسلامي الدكتور وهبة الزحيلي،
دار الفكر، بيروت
5 - الآثار الباقية أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني،
مكتبة المثنى، بغداد
6 - أحكام القرآن محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي،
دار المعرفة، بيروت
7 - أحكام الذميين والمستأمنين الدكتور عبد الكريم زيدان، بغداد
8 - الأحكام السلطانية علي بن محمد الماوردي،

182
مطبعة مصطفى البابي، مصر
9 - أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية،
دار العلم للملايين، بيروت
10 - إشارة السبق علي بن أبي الفضل الحلبي،
المطبوع في مجموعة سلسلة الينابيع الفقهية
11 - إيضاح الفوائد، محمد بن العلامة الحلي (فخر المحققين)
المطبعة العلمية، قم
12 - أقرب الموارد سعيد الخوري الشرتوني
13 - الأموال أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم،
المطبعة السلفية، القاهرة
14 - أهل الذمة في الإسلام الدكتور ا. س. ترتون،
ترجمة الدكتور حسن حبشي، دار المعارف
15 - بحار الأنوار محمد باقر المجلسي،
مؤسسة الوفاء، بيروت
16 - بداية المجتهد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي،
مطبعة المعاهد، القاهرة
17 - تفسير الكشاف محمود بن عمر الزمخشري،
دار الكتاب العربي، بيروت
18 - تحرير الأحكام الحسن بن يوسف المطهر العلامة الحلي،
مؤسسة طوس، مشهد
19 - تهذيب الأحكام محمد بن الحسن الطوسي،
دار الكتب الإسلامية، طهران
20 - تفسير القمي علي بن إبراهيم القمي، دار الكتاب، قم

183
21 - تاريخ التمدن الإسلامي جرجي زيدان، مصر
22 - تذكرة الفقهاء الحسن بن يوسف المطهر الحلي،
الطبع الحجري، إيران
23 - تاريخ الطبري محمد بن جرير الطبري،
دار الكتب العلمية، بيروت
24 - التفسير الكبير الفخر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران
25 - الجامع للشرايع ابن سعيد الهزلي،
المطبوع في مجموعة سلسلة الينابيع الفقهية
26 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير جلال الدين السيوطي،
مصر
27 - الجامع لأحكام القرآن محمد بن أحمد القرطبي،
دار الكتب العلمية، بيروت
28 - الجمل والعقود محمد بن الحسن الشيخ الطوسي،
المطبوع في سلسلة الينابيع الفقهية.
29 - جواهر الكلام الشيخ محمد الحسن النجفي،
دار الكتب الإسلامية، طهران
30 - الخلاف في الفقه محمد بن الحسن الشيخ الطوسي،
مطبعة رنگين، طهران
31 - الخراج أبو يوسف، دار المعرفة، بيروت
32 - الخراج يحيى بن آدم القرشي، المطبعة السلفية
33 - الدر المنثور جلال الدين السيوطي، مطبعة الأنوار المحمدية
34 - الدعوة إلى الإسلام سير توماس،
ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن، القاهرة
35 - الدروس الشهيد الأول، الطبع الحجري

184
36 - دعائم الإسلام، النعمان بن محمد المغربي، مؤسسة الرسالة، بيروت
37 - دراسات في ولاية الفقيه الشيخ حسين علي المنتظري
مطبعة القدس، قم
38 - سبل السلام محمد بن إسماعيل الكحلاني،
دار احياء التراث العربي، بيروت
39 - السرائر ابن إدريس الحلي، طبع جماعة المدرسين، قم
40 - السنن الكبرى أحمد بن الحسين البيهقي، دار المعرفة، بيروت
41 - السيادة العربية فان فلوتن،
ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي، مصر
42 - شرايع الإسلام المحقق الحلي، مؤسسة اسماعيليان، قم
43 - شرح الأزهار عبد الله بن مفتاح، مطبعة حجازي، القاهرة
44 - الصحاح إسماعيل بن حماد الجوهري، دار الكتاب العربي، مصر
45 - صحيح البخاري محمد بن إسماعيل البخاري، دار المعرفة، بيروت
46 - الغارات إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي،
انتشارات انجمن آثار ملى، إيران
47 - الغنية السيد ابن زهرة الحلبي،
المطبوع في مجموعة سلسلة الينابيع الفقهية.
48 - فتوح البلدان أحمد بن يحيى البلاذري،
دار الكتب العلمية، بيروت، مطبعة الموسوعات، القاهرة
49 - فروع الكافي محمد بن يعقوب الكليني،
دار الكتب الإسلامية، طهران
50 - قرب الإسناد عبد الله بن جعفر الحميري،
مكتبة نينوى، طهران
51 - قواعد الأحكام الحسن بن يوسف المطهر الحلي، إيران

185
52 - قاموس المحيط مجد الدين الفيروزآبادي،
مؤسسة فن الطباعة، مصر
53 - كنز العرفان المقداد بن عبد الله السيوري،
المكتبة المرتضوية، طهران
54 - الكامل في التاريخ ابن الأثير، دار الكتب العلمية، بيروت
55 - الكافي في الفقه أبو الصلاح الحلبي، المطبوع في سلسلة الينابيع الفقهية.
56 - كنز العمال علي المتقي بن حسام الدين الهندي،
مؤسسة الرسالة، بيروت
57 - اللمعة الدمشقية الشهيد الأول، الطبع الحجري، إيران
58 - مسالك الأفهام الشهيد زين الدين بن علي العاملي
59 - المهذب القاضي عبد العزيز بن البراج،
المطبوع في سلسلة الينابيع الفقهية
60 - مختلف الشيعة الحسن بن يوسف المطهر العلامة الحلي،
مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية
61 - المراسم حمزة بن عبد العزيز الديلمي، منشورات الحرمين، قم
62 - المختصر النافع المحقق الحلي، المطبوع في سلسلة الينابيع الفقهية
63 - المنجد يونس معلوف اليسوعي، دار المشرق، بيروت
64 - الموطأ مالك بن أنس، دار إحياء التراث العربي، بيروت
65 - من لا يحضره الفقيه محمد بن علي بن الحسين القمي،
مكتبة الصدوق، طهران
66 - المقنعة محمد بن النعمان المفيد، طبع جماعة المدرسين، قم
67 - معجم البلدان ياقوت بن عبد الله الحموي، بيروت
68 - المبسوط في فقه الإمامية محمد بن الحسن الطوسي،
المكتبة المرتضوية، طهران

186
69 - المبسوط شمس الدين السرخسي، دار المعرفة، بيروت
70 - المغني عبد الله بن أحمد بن قدامة، دار الفكر، بيروت
71 - الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي،
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت
72 - المنار محمد رشيد رضا، مكتبة القاهر، مصر
73 - مجمع البيان أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي،
المكتبة الإسلامية، طهران
74 - المحلى علي بن أحمد بن سعيد بن حزم،
المكتب التجاري للطباعة، بيروت
75 - منتهى المطلب الحسن بن يوسف المطهر العلامة الحلي، إيران
76 - مستدرك الوسائل حسين النوري، مؤسسة آل البيت، قم
77 - المصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المجلس العلمي، بيروت
78 - الملل والنحل محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، دار المعرفة، بيروت
79 - مغني المحتاج محمد الخطيب الشربيني شركة سابى، مصر
80 - النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير
مؤسسة اسماعيليان قم
81 - النهاية محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب العربي، بيروت
82 - نيل الأوطار محمد بن علي الشوكاني،
دار إحياء التراث العربي، بيروت
83 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة محمد بن علي بن حمزة،
المطبوع في سلسلة الينابيع الفقهية
84 - وسائل الشيعة محمد بن الحسن الحر،
دار إحياء التراث العربي، بيروت

187
ب - المصادر الفارسية:
85 - جزيه در اسلام دانيل دنت،
ترجمه دكتر محمد على موحد، سروش، تبريز
86 - جهاد شهيد مرتضى مطهرى، انتشارات اسلامي، قم
87 - فرهنگ عميد حسن حميد نشر أمير كبير، تهران
ج - المصدر الإفرنجي:
88 - encyclopaedia of Islam of shocther

188