شاهد العصور (الولادة و الانبثاق)
سعید ایوب
نسخه متنی
نمايش فراداده
شاهد العصور (الولادة والانبثاق)
تأليف: جابر الناصري
تقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
تفهرست الموضوعات
1مقدّمة المركز
2الإهداء
3مدخل
4الفصل الأوّل: زواج لم يتمّ
5الفصل الثاني: أميرة في سوق النخّاسين
6الفصل الثالث: وأخيراً كان اللقاء
7الفصل الرابع: ولادة المؤمَّل
8الفصل الخامس: توجيه وتبليغ
9الفصل السادس: الشهادة بلسم الشهداء
10الفصل السابع: يهوذا العربي
11الفصل الثامن: لقاءات
12الفصل التاسع: أربع سفراء (الإعلان الأخير)
13أوّلاً: المرونة الكاملة للفقه الشيعي
14ثانياً: خاصيّة التقليد والاجتهاد
15ثالثاً: استقلالية المرجعية أو الحوزة
16مصادر التحقيق
******************
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
من منحنيات الزمن ترتسم ذاكرة الأحداث.. وترتجعُ صور الماضي بحلة الحاضر فتعتري الذاكرة بعض قسمات الأدب لتشيّد من خلالها تاريخاً.. أو قراءة الحاضر أو نفثات المستقبل من تداعيات الصورة، وتزاحم الأحداث التي راحت تدفع بالأديب ليستنهض أدبه، والمؤرّخ ليستقرأ تاريخه، والقاصّ ليستجلي الأحداث في قصص تصوغها عنفوانات الشوق، ولظى الافتراق.
و(شاهد العصور) شاهدٌ على ملحمة التاريخ، وتراث الشخوص التي ساهمت في تلك الحبكة القصصية _ ليس من مساهمات الخيال ودواعي الترويح _، بل هي صياغة أخرى من صياغات هذه الملحمة التي سجَّلها التاريخ ليقدّمها إلى أجيال الأمّة بكلّ ثقة المتطلّع لتحقيق مستقبل الأحداث.
ما أحوجنا إلى أن تساهم القريحة الأدبية في صياغة الفكرة، دون إقحام القارئ في البحث عن الدليل العلمي بقدر ما يساهم _ الآن _ الوجدان في تصديق هذه الأحداث المحاصرة بالتشكيك.
نعم.. استطاع الكاتب أن يصيغ هذه الأحداث بصياغة أدبية توفّر للقارئ سلامة الفكرة من الضياع، والرأي من التشتّت.
وتحتبس الأنفاس حتَّى تنتهي ملحمة (شاهد العصور).
وإذ يقدّم مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام) مساهمة الأستاذ جابر الناصري فهو يساهم في رفد هذه المعرفة التي احتاجت إلى حلةٍ أخرى من الأدب لتحفّز القارئ على مواصلة البحث فيخرج بنتيجةٍ قد لا يخرج في غيرها من القراءات وهي الإذعان بضرورة البحوث التي تحدَّثت عن حقبةٍ زمنية طاردتها السلطات منذ نشؤها أو قبل ذلك بكثير، وسيجد القارئ ضرورة مواصلة البحوث التي تساهم في رفد المعرفة المهدوية ليهتدي إلى ضرورة المعرفة بكلّ دواعيها.
نسأل الله أن يبارك في كلّ الجهود التي من شأنها أن تشارك في تقديم صيغ معرفية جديدة وبكلّ أبعادها.. ونسأله تعالى أن يوفّق الجميع لما فيه الخير والمعرفة والهدى.
مدير المركز
السيّد محمّد القبانجي
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي) (طه: 25 _ 28).
الإهداء
إلى السيّدة الطاهرة نرجس سيّدة الإماء.
يترنَّح القلم وتكبو الكلمات حينما تصل إلى جنابك العالي..
وكيف وأنت مستودع سرّ الله، واُمّ الإمام المهدي منقذ البشرية..
فداءٌ لمقامك كلّ غالٍ ونفيس..
هذا جهد المقلّ، ولهفة الظامي، وبضاعة مزجاة أضعها بين يديك برجاء القبول، فاقبلي من خادمك الحقير.
جابر الناصري
مدخل
بسم الله الرحمن الرحيم
لم تحض عقيدة على اهتمام أغلب الناس كعقيدة المنقذ أو المخلّص الموعود، فقد كانت ولا زالت هاجساً يخامر قلوب الملايين من البشر في كلّ العصور، ومن المؤكَّد أنَّ أصلها نابع من الأديان السماوية من عهد آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين.
ولم تخل أدبيات أو طروحات أغلب الأمم على اختلاف مشاربها وعقائدها من ذلك، فهي القاسم المشترك الذي تلتقي فيه أغلب العقائد والفلسفات _ قديماً وحديثاً _ حتَّى يمكن القول: إنَّه حتَّى بعض الفلسفات المادية نادت بها.
وقد يستغرب القارئ الكريم إقحام الفلسفات المادية في هذا الشأن، في حين أنَّها ترفض رفضاً قاطعاً كلّ ما هو غيبي من قبيل الاعتقاد بالعلّة الغائية غير المادية (الله)، والحياة ما بعد الموت، وثنائية الإنسان جسد وروح، وأخيراً القائد المخلّص وتعتبرها أفكاراً طوباوية وتصوّرات خيالية.
لذا أرجو من القارئ العزيز أن يتروّى علينا قليلاً، وأن يتّسع قلبه لما نطرحه، لكي نسير به خطوة خطوة وفكرة فكرة، حتَّى تثبت له ما أشرنا إليه آنفاً ويقتنع في الآخر بصحَّة ذلك.
ولو أنَّنا أردنا القيام بتحليل عقيدة المخلّص أو المنقذ، واستخدمنا الأسلوب الرياضي لوجدناها مركّبة وليست ذات عنصر واحد، وإنَّما هي من ثلاثة عناصر:
العنصر الأوّل هو الهدف النهائي المطلوب من وجود وحركة المنقذ (أي لماذا وجد المنقذ ولأيّ هدف؟)، أي إنَّه لا بدَّ من وجود خطّ نهاية لحركته، حيث يصل إلى حلم الإنسانية القديم والجديد (المجتمع الفاضل)، وكذلك الوسائل التي يتَّخذها للحفاظ على ذلك المجتمع بعد تحقيقه.
والمعلوم الذي لا مراء فيه أنَّ الإنسانية تتطلَّع منذ أحقابٍ طوال إلى تحقيق المجتمع الفاضل، الذي ينعدَّم فيه الفقر والمرض والجهل، وتنتفي كلّ عوامل الاحتراب والتنافس غير المشروع، وهذا التطلّع تكوّن نتيجة عاملين أساسيين:
عامل باطني نفسي لما رأته الإنسانية من كوارث ومآس وحروب وفتن خلال مسيرتها الطويلة الشاقّة، ولما تلاقيه في كلّ حقبة من ضروب الظلم والجور.
عامل خارجي ديني إلهي نابع عن طريق الوحي الإلهي منذ عهد آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين.
ومن المؤكَّد أنَّ آدم كان يحدّث أبناءه عن تجربته في الجنّة التي هي الفردوس والمجتمع الفاضل، ومن المؤكَّد أنَّه قد طرح عليه سؤال عن إمكانية التطبيق أو الوصول إلى ذلك المجتمع. ومن المؤكَّد أيضاً أنَّه تحدَّث عن وصول أبنائه في العصور القادمة إلى ذلك بقيادة إنسان منتخب من الله، وحيث إنَّ آدم كان نبيّاً مرسلاً فإنَّ ما أشار إليه شكَّل أساس عقيدة المخلّص أو المنقذ باعتبار أنَّ ذلك وحي إلهي.
ولربَّما طرح هنا السؤال: متى يتمُّ ذلك؟
لكن الوحي الإلهي يرفض التحديد، سوى أنَّ ساحة ذلك المجتمع هي الأرض التي نسكنها بالتأكيد.
أمَّا العنصر الثاني فهي الوسيلة الناجعة الموصلة لذلك المجتمع الفاضل!
والوسيلة هذه هي الأطروحة أو العقيدة الكفيلة بتحقيق ذلك، وهنا افترقت الإنسانية إلى اتّجاهات عدّة: اتّجاه إلهي سماوي، اتّجاه مادّي، اتّجاه لا أدري انهزامي.
وأخيراً العنصر الثالث ويتمثَّل بمن يقوم بتطبيق الأطروحة سواء أكانت إلهية أم مادّية، لتحقيق الهدف النهائي، أي القائد أو المخلّص أو المنقذ.
وأيضاً اختلفت البشرية في ماهية المنقذ ما بين اتّجاه إلهي سماوي، واتّجاه مادّي أرضي.
فالاتّجاه الإلهي أشار إلى وجود شخصية ربّانية ذات مواصفات خاصّة لا تتوفَّر لدى الناس، ويتمتَّع بالتأييد الإلهي، ولديه قدرة كاملة على قيادة الإنسانية.
والاتّجاه المادي هو الآخر افترق إلى اتّجاهين:
اتّجاه أشار إلى وجود شخص خارق ذي صفات أعلى من الآخرين أطلق عليه لقب: (السوبر).
واتّجاه أشار إلى وجود مجموعة (حيث لا يمكن توفّر تلك الصفات العالية في فرد واحد)، وهذه المجموعة أطلق عليها اسم طبقة العمّال أو (البروليتارية). التي ستقود الصراع للوصول إلى المجتمع الفاضل.
وهذا يعني أنَّنا سندخل في التفسير الماركسي لحركة التاريخ والإنسان أي ما يدعى بـ (المادّية التاريخية)، التي تبشّر البشرية بمرحلة قادمة (طبقاً للحتمية التاريخية) تنعدم فيها كلّ التناقضات _ بعد مرورها بمراحل: المشاعية البدائية، الرقّ، الإقطاع، الرأسمالية، الاشتراكية _ لتدخل مرحلة الشيوعية المطلقة ينتهي فيها الصراع المستديم بين قوى الإنتاج المتنامية أو المتطوّرة ووسائل الإنتاج التقليدية، أي الصراع بين طبقة العمّال (البروليتارية) وبين طبقة البرجوازية المستقلة، ويعني ذلك سقوط التفاوت الطبقي (الذي هو أساس الصراع الطبقي) واختفاؤه بحيث يصبح الجميع متساوين لا طبقات ولا صراع، وكلّ ما يملكه المجتمع من ثروات ووسائل إنتاج وأفراد مشاعة بين الجميع. وفيه يأخذ كلّ فرد حاجته وينتج حسب مقدرته أو رغبته وتنحلّ الحكومة (باعتبارها رمزاً طبقياً)، فيغدو الجميع من خلال شعورهم بالمسؤولية حاكمين ومحكومين، من غير تنافس أو احتراب أو صراع وينعم الجميع بالسلام والوئام والرخاء. وهذا هو جوهر حلم البشرية بالمجتمع الفاضل، (مع اختلاف الرؤى) إلاَّ أنَّ الفارق هو أنَّ البروليتارية هي المنقذ أو المخلّص وليس فرداً مشخَّصاً أو غير مشخَّص.
وهذه الفكرة أو (النظرية) على الرغم من مادّيتها واعتمادها على الديالكتيك المادّي التاريخي إلاَّ أنَّها طوباوية في نفس الوقت، لأنَّه من المحال عقلاً وواقعاً القضاء على التفاوت ولو في مجتمع فاضل، نعم يمكن القضاء على التفاوت الاقتصادي إلى حدّ لكن لا يمكن المساس بالتكوين البنوي للإنسان (التفاوت في الذكاء، التفاوت في القوّة البدنية، التفاوت في الإبداع، التفاوت في الأمزجة)، وهذه التفاوتات لا علاقة لها بالحالة الاقتصادية كما ترى، كما أنَّه هناك نقطة جوهرية أخرى هي أنَّ الوصول إلى هكذا مجتمع يحتاج إلى أفراد يتَّسمون بالتضحية والإيثار والتخلّي عن مصالحهم وامتيازاتهم الاقتصادية لأجل المجتمع، وهذا ما لا يمكن أن تقدّمه الفلسفة المادّية التي تتحرَّك دائماً على السلوك الخارجي للإنسان ولا تصل أو تلج للمحتوى الداخلي فتولد لديه ملكة الإيمان بضرورة التفكير بالمصلحة العليا للمجتمع دون المصلحة الفردية، أي التخلّص قدر الإمكان من ملكة (الأنانية).
ولذا فقد هربت الفلسفة الماركسية من الطوباوية إلى الطوباوية واعترفت بحتمية تحقّق الفردوس الأرضي المنشود الذي اعتقدته الأديان كلّها، واعترفت أيضاً بضرورة وجود المخلّص المنقذ بالرغم من الاختلاف في ماهيته.
وفي هذا وصلنا إلى نقطة التقت فيها عقليات جميع البشر.
لكن لو ذهبنا إلى الأديان، فإنَّنا نجد أنَّ الشخصية التاريخية أو (البطل التاريخي) تحتلّ مركز الصدارة لأنَّها تؤمن بضرورة وجود القائد للجماعة الإنسانية في أيّ وقت وخصوصاً في الزمن الأخير، يتميَّز بالحنكة والحكمة.
وحتَّى في تصوّرات وعقائد الأديان الأرضية (غير السماوية) كالهندوسية والبوذية والزرادشتية والطاوية وغيرها تبرز صورة المخلّص، فالزرادشتية تؤمن بعودة زرادشت إلى الحياة في الزمن الأخير لقيادة المسيرة الإنسانية، ونفس اعتقاد البوذيين بالنسبة لبوذا، بل إنَّ بعض أديان الوثنية في الهند أشارت على لسان أحد أنبيائها (شاكموين) أنَّ المخلّص من سلالة النبيّ العربي.
إلاَّ أنَّ صورة البطل المخلّص تبرز أكثر وضوحاً في الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية، المسيحية، الإسلاميّة)، فاليهودية تؤمن بأنَّ لها مخلّصاً أو مسيحاً من نسل داود، وأنَّه سيوحّد العالم تحت راية اليهود، ويبرز المكانة السامية لشعب الله المختار، ويتمكَّن من تجميع شعبه المتفرّق في أنحاء العالم ويخلّصه من حالة الاضطهاد والتشرذم، ويخرجه من حالة الانغلاق المعنوي والمادي (الغيتوي) ليكون سيّداً للعالم وتصير شعوب العالم بأجمعها تحت راية اليهود كقطعان عبيد أو إماء أو آلات، ولا يهمّ ما يصيب شعوب الأرض من قتل ودمار حتَّى لو ذهب ثلثاها في طريق الوصول لذلك!
والواقع أنَّ بعض أسفار التوراة مثل سفر أشعيا ومزامير داود ونشيد الأنشاد لسليمان وغيرها أشارت إلى المخلّص لكن ليس بنفس التفسير التلمودي اليهودي النابع من عقدة اليهود بالشعور بالاضطهاد والانحراف العقائدي الناجم من تاريخ طويل من الاضطهادات المتكرّرة لليهود من أغلب شعوب العالم على مرّ تاريخهم، وخصوصاً بعد تدمير هيكلهم على يد أحد أباطرة الرومان وتفرّقهم في الأرض، فصاروا يكوّنون في كلّ مجتمع أقلّية منعزلة في أحياء خاصّة (غيتو)، ذات توجّهات اقتصادية ربوية استغلالية، ولتكديس الثروات بأيديهم بأيّ صورة كانت أو أيّ وسيلة ممكنة، ممَّا حفَّز الشعوب على معاداتهم والوقوف ضدّهم ثمّ محاربتهم واضطهادهم، ولعلَّ أحد أسباب إرسالهم إلى فلسطين من قبل كثير من دول العالم الغربي هو للتخلّص من شرورهم ومؤامراتهم.
وحينما تأتي إلى المسيحية نجد الصورة مختلفة، فقد ارتكزت عقيدة المخلّص والمنقذ على عقيدة الصلب والفداء، وفحواها بصورة موجزة أنَّ البشرية قد تلبَّست أو تلوَّثت بالإثم والخطيئة بسبب خطيئة آدم وحواء وإخراجهما من الفردوس (الجنّة) التي تعزَّزت بسبب ما جرى من عملية اغتيال هابيل بيد أخيه قابيل، فلكي يتمُّ تخليص البشرية أو تطهيرها من ذلك اقتضى أن تفتدى بقربان إلهي، وهذا القربان تمثَّل بشخص المسيح يسوع بن مريم، المولود من فتاة عذراء من غير أب، إلاَّ أنَّه في نفس الوقت هو ابن إله، وإله أيضاً، فقد هبط من عالم (اللاهوت) إلى (عالم الناسوت) المادّي ليرتدي ثوب التراب ويصير إنساناً ومن ثَمَّ يقوم عباده بقتله وصلبه على الصليب (ليصبح لعنة ترفع اللعنة عن بني آدم) باعتبار أنَّ كلّ من يصلب على خشبة يصبح ملعوناً كما في أحد أسفار التوراة فكانت مهمّة هذا الإنسان الإله (الابن) رفع اللعنة وقد رفعت بدمائه، ومن ثَمَّ رفع هو الآخر بعد صلبه إلى السماء بثلاثة أيّام، مبشّراً من حضر عملية خروجه من قبره بعد موته بأنَّه سيعود آخر الزمان لقيادة البشرية.
وهذه العقيدة (أي الصلب والفداء) جزء من عقيدة التثليث، (الأقانيم الثلاثة: الأب، الابن، الروح القدس)، وهي عقيدة ضبابية متناقضة في طرحها الفلسفي والعقائدي لا مجال للدخول في مناقشتها في هذا الموجز، إلاَّ أنَّه من الجدير بالذكر أنَّ الأديان الثلاثة تلتقي في نقطة الخلاص وماهية المخلّص، فاليهودية تذكر أنَّ المنقذ من ذرّية داود والإسلاميّة تؤيّد ذلك لكن عن طريق الاُمّ فقط، (كما سنرى في الفصول القادمة).
أمَّا التقاء المسيحية بالإسلاميّة، ففي هبوط المسيح من السماء آخر الزمان إلاَّ أنَّه في الإسلاميّة سيكون وزيراً ومساعداً للإمام المهدي آخر ذرّية النبيّ والمعصومين ويكون من أكبر الدعاة للإسلام.
وإذا جئنا إلى الديانة الإسلاميّة فإنَّنا نجد أنَّ عقيدة المهدي أو المخلّص تحتلُّ مركز الصدارة وتكون أكثر وضوحاً، بل إنَّها شخَّصت بالاسم والعنوان ذلك الإنسان، فهي (أي عقيدة المهدي) من أساسيات الإسلام وجاحدها مارق من الدين.
ومن العقيدة المتَّفق عليها بين جميع المسلمين، أنَّ الإسلام هو الدين الخاتم الخالد المستمرّ في الوجود إلى يوم القيامة، وأنَّه الأطروحة الإلهية المتكاملة الشاملة لشتّى مناحي الحياة، وهذه الأطروحة يجب تطبيقها وفق الآية القرآنية:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، ويعني ذلك أنَّه من الحتمي ظهور واستيلاء وتغلّب هذا الدين على كافّة الأديان والمذاهب والعقائد وسيادته كلّ الكرة الأرضية، وهي مهمّة جسيمة وصعبة للغاية.
فمن ذا يا ترى يضطلع بها؟
والجواب واضح، إنَّه النبيّ الخاتم الذي أنزلت عليه، أو من ينوب عنه، فمن أوّل مهامة تطبيق هذه الأطروحة (فهو مهدي وهو مخلّص)، إلاَّ أنَّ هذا التطبيق ليس آنيّاً مرحلياً وإنَّما يجب أن يستمرّ بعمر الرسالة أي إلى يوم القيامة، وهذا التطبيق لا يقتصر على بقعة جغرافية دون أخرى وإنَّما ينبغي أن يعمّ كافّة أجزاء المعمورة، ويستلزم ذلك مقارعة الدول والإمبراطوريات والأديان والمذاهب.
وهذه الإمكانية (الامتداد الزمني) لبقاء الرسول خالداً إلى يوم القيامة غير متوفّرة إطلاقاً لأنَّه بشر وقانون الموت ينطبق عليه، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر: 30)، فهل يترك الله الذي أنزل هذه الأطروحة الكاملة في مهبّ الريح تعصف بها الأهواء بعد انتقال نبيّه إلى جواره؟
هنا تبرز الضمانة الإلهية المطلوبة لتطبيق الأطروحة الإلهية منذ رحيل الرسول وحتَّى يوم القيامة.
فما هي هذه الضمانة؟
إنَّنا نجدها جليّة واضحة في الحديث المتواتر المتَّفق عليه بين جميع المسلمين:
(إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(1).
وبما أنَّ الرسول لا يتكلَّم إلا بوحي من ربّه، وأنَّ ذلك أمر إلهي لا دخل لعواطف الإنسان فيه حتَّى لو كان رسولاً نبيّاً، وخصوصاً رسولنا الكريم الذي يستمدّ حجّية كلامه المطلقة من قوله تعالى:
(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7).
فقد أصبحت الضمانة واضحة جليّة، ولا بدَّ من البخوع لها، ووضع العواطف والمشاعر على الرفّ، بل ينبغي تبلورها في الاتّباع المطلق لها، ومن ثَمَّ فإنَّ وجودها حتمي، واتّباعها واجب، وخصوصاً أنَّ فترة تطبيق الأطروحة في حياة الرسول كانت قصيرة للغاية لم تتجاوز العشر سنوات، تخلَّلتها حروب طاحنة وغزوات تجاوزت الثمانين غزوة، أضف إلى ذلك عدم خروج الإسلام من نطاق الجزيرة العربية إلى أجزاء العالم المختلفة وعدم وجود القاعدة الإسلاميّة الواعية الخالية من الرواسب الجاهلية والعواطف القبلية، سوى مجموعة بعدد الأصابع لا يغنون في ذلك البحر المتلاطم من المنافقين والمشركين وأتباع الأديان الأخرى.
إذن فالضمانة بالإضافة إلى القرآن هي الثقل الثاني الذي هم ورثته وعترته، ويمثّلون اثني عشر خليفة في حديث آخر(2)، وهم لا يفترقون بأيّ حالٍ عن القرآن، لذلك تقرَّرت عصمتهم كالقرآن، لأنَّ من يرتكب أو يذنب منهم فإنَّه يفترق عن القرآن، وهذا مناقض لما جاء في نصّ الحديث المزبور.
ومن الممكن تلمّس شيئاً من الحكمة _ بعقولنا القاصرة _ من اختيار هذا العدد (أعني اثني عشر) لا يختلف آخرهم عن أولاهم فكلّهم مهدي وكلّهم مخلّص، لما في ذلك من امتداد زمني طويل، إذا تولّى هؤلاء مهمّة التطبيق واحداً تلو الآخر، ممَّا يجعل الناس يعتادون ويتأقلمون كلّياً مع طروحات القرآن، بحيث تكون ضمن النسيج النفسي والعقلي لهم.
وقد خطَّط الله ورسوله ذلك، فكان أوّل الخلفاء في حضن رسول الله منذ ولادته حتَّى انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، يتلقّى الأخلاق والآداب والمعارف الإلهية، من غير اختلاط أو نزوع إلى المفاهيم الجاهلية القرشية، فكان علي بن أبي طالب ابناً لرسول الله من صلب أبي طالب، وكان معجزة الرسول الثانية بعد القرآن المعجزة الأولى، ثمّ توسَّع ذلك بانضمام فاطمة الزهراء إلى البيت النبوي بولادتها بعد البعثة بخمس سنوات، ومن ثَمَّ زواجها الإلهي بعلي بن أبي طالب لتنجب الإمامين السبطين الحسن والحسين، فيكونا ضمن منظومة أهل الكساء الخمسة المعصومين.
غير أنَّ الطغمة القرشية الطامعة أجهضت هذا المشروع، وأبعدت إمكانية تطبيق الأطروحة الإلهية بإبعاد علي بن أبي طالب، فأغرقت هذه الأمّة في الدماء والنزاعات والأحزاب والمذاهب، فتأخَّر ذلك إلى الإمام الثاني عشر من العترة النبوية الطاهرة.
ولذلك أكَّد الرسول على أهمّية الإيمان بالمهدي، وأنَّ عقيدته من أساسيات الدين، بل حتَّى ورد في أحد الأحاديث أنَّ منكره كافر(3)، وقد حدَّد اسمه وصفته وانتماءه في كثير من أحاديثه الشريفة:
(أبشّركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض)(4).
(لا تذهب الدنيا حتَّى يلي أمّتي رجل من أهل بيتي يقال له: المهدي)(5).
(يا بنيّة(6)، إنّا أعطينا أهل البيت سبعاً لم يعطها أحد قبلنا: نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصيّنا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة، ومنّا من له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنّة، وهو ابن عمّك جعفر، ومنّا سبطا هذه الأمّة، وهما ابناك الحسن والحسين، ومنّا والله الذي لا إله إلاَّ هو مهدي هذه الأمّة الذي يصلّي خلفه عيسى بن مريم) ثمّ ضرب بيده على منكب الحسين (عليه السلام) فقال: (من هذا) ثلاثا.(7)
من كلّ ذلك كانت عقيدة المهدي عقيدة جميع المسلمين، وليست لطائفة الشيعة دون السُنّة، فقد كتبت في شأنه عند مدرسة الخلفاء العشرات من الكتب والرسائل إضافة إلى ما ورد عنه في الصحاح الستّة والمسانيد والموطئات والمستدركات وغيرها.
إلاَّ أنَّ هناك اختلافاً بين بعض علماء مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت، الذين ذكروا أنَّ المهدي يولد آخر الزمان وهو من ذرّية فاطمة، وهذا الطرح يتناقض مع حديث الثقلين المتَّفق عليه بين الطرفين لأنَّه يستلزم افتراق العترة عن القرآن في الفترة ما قبل المهدي.
ولما لعقيدة المهدي من مكانة في العقيدة الإسلاميّة، فقد حاول بعض المنحرفين توظيف أو استخدام المهدوية لأغراض سياسية فظهرت أوّل عقيدة مهدوية منحرفة هي عقيدة الكيسانية التي تعتقد أنَّ السيّد محمّد بن علي بن أبي الطالب الملقَّب بـ (ابن الحنفية) لم يمتّ وإنَّما ذهب إلى ميقات ربّه، وأنَّه المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وقد جسَّد هذه العقيدة أحد الشعراء الكبار هو كثير بن عبد الرحمن الملقَّب بـ (كثير عزّة):
ألا إنَّ الأئمّة من قريش
علي والثلاثة من بنيه
فسبط سبط إيمان وبرّ
وسبط لا يذوق الموت حتَّى
تغيَّب لا يرى فيهم زماناً ولاة الحقّ أربعة سواء
هم الأسباط ليس بهم خفاء
وسبط غيبته كربلاء
يقود الخيل يقدمها اللواء
برضوى عنده عسل وماء
أمَّا الشيعة الزيدية فأشاروا إلى أنَّ كلّ رجل من ذرّية فاطمة يخرج شاهراً سيفه على أئمّة الجور والضلال ويقيم دولة الحقّ فإنَّه المهدي.
وفي مؤتمر الأبواء الذي عقد في أخريات الدولة الأموية والذي حضره الهاشميون من علويين وعبّاسيين لمناقشة الوسائل الممكنة للثورة على الدولة الأموية وإسقاطها، طلب عبد الله المحض بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب مبايعة ولده محمّد (النفس الزكية) على أنَّه المهدي الموعود، فرفض الإمام الصادق ذلك وأخبر الجميع أنَّه ليس المهدي الموعود، وأنَّه سيقتل هو وأخوه إبراهيم وقاتلهما صاحب القباء الأصفر قصد به أبا جعفر الدوانيقي.
وحينما آلت الخلافة إلى أبي جعفر بعد وفاة أخيه أبي العبّاس السفّاح أراد سرقة اسم المهدي فخلعه على ابنه الخمّار محمّد فلقبَّه بمحمّد المهدي وأجبر العلماء والفقهاء في عصره على تأييد ذلك.
وهكذا تجد في كلّ عصر ظهور شخصيات تدّعي المهدوية، مستغلّة جهل الناس وعدم درايتهم ونسبها العلوي إن كانت علوية بعض الأحيان، وقد وقف أئمّة أهل البيت أمام تيّارات الانحراف التي تدّعي المهدوية، ووضعوا ضوابط تبيّن لنا الصحيح من السقيم، والغثّ من السمين.
ولو أردنا استقصاء الأشخاص المدّعين المهدوية لطال بنا الكلام ولما وسعه هذا المدخل الموجز الذي نطوي عنه صفحاً وننطلق إلى عصرنا الحديث لكثرة دعوات المهدوية الزائفة.
ظهرت دعوة المهدوية أو البابية في إيران في القرن التاسع عشر الميلادي على يد شخص يدعى علي بن محمّد الشيرازي الذي احتضنته المخابرات الروسية للصراع الدامي آنذاك بين إيران وروسيا بشأن إقليم أذربيجان.
وهذا الشخص ادّعى في أوّل أمره أنَّه سفير أو باب خاصّ للإمام المهدي، وقد استطاع التغرير ببعض البسطاء والسذّج فاتّبعوه، ثمّ إنَّه تدرَّج في دعواه الباطلة حتَّى ادّعى أنَّه المهدي المنتظر، وأخيراً ادّعى النبوّة وانفصل عن الإسلام في ملّة دعيت فيما بعد البابية، وقد وضع لطائفته كتاباً مقدَّساً أسماه (البيان) باللغتين العربية والفارسية، وقد قاومه العلماء الأعلام في إيران والعراق وأفتوا بكفره هو ومن تابعه فتمَّ إلقاء القبض عليه ثمّ اُعدم شنقاً.
وقد طوَّر هذا الانحراف أحد أتباعه المسمّى: عبّاس البهاء، بصورة تباين الأصل البابي، فصار يطلق عليهم اسم البهائية واتّبعه مجموعة كبيرة من الناس وخصوصاً أنَّهم لقوا دعماً كبيراً من الماسونية، ثمّ إنَّهم نقلوا معبدهم إلى أحد مدن فلسطين.
وفي القارّة الهندية ظهر في منطقة قاديان شخص اسمه (أحمد) الذي هو الآخر ادّعى المهدوية وصار له أتباع ومريدون وخصوصاً وأنَّ السلطات الإنجليزية في الهند احتضنته وقدَّمت له الامتيازات وساندته كثيراً باعتباره كان يدعو للمهادنة مع الإنجليز وعدم مقاومتهم في حين أنَّ السلطات الاستعمارية في الهند قد ذاقت الويلات من جراء مقاومة المسلمين.
وفي نفس الفترة تقريباً ظهر في القارّة الأفريقية وفي السودان بالذات محمّد أحمد الذي ادّعى المهدوية وأطلق على نفسه لقب المهدي، وقد تزعَّم طائفة الدراويش والصوفية وقاتل القوّات الإنجليزية والمصرية وحقَّق انتصارات كبيرة عليها، إلاَّ أنَّ حركته سرعان ما انهارت بعد وفاته بفترة وجيزة.
وفي شمال أفريقيا ادّعى أحمد التيجاني والشريف السنوسي المهدوية.
وفي عصرنا الحديث هذا ظهر ابن جهيمان في بلاد الحجاز ودخل هو وأتباعه المسجد الحرام وأعلنوا عن حركتهم المهدوية فبادرتهم السلطات السعودية وقضت عليهم قضاءً تامّاً.
الهوامش:
(1) ورد هذا الحديث في سنن الترمذي 5: 329؛ وكذلك في الصحاح ما عدا البخاري والمستدرك على الصحيحين، ولكن بصيغ متعدّدة إلاَّ أنَّها في نفس المعنى.
(2) عن الأسود بن سعيد الهمداني، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش...) (الخصال: 472/ ح 26؛ مسند أحمد 5: 92).
(3) عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني) (كمال الدين: 412/ باب 39/ ح 8)، و في (413/ ح 12) بنفس السند، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته مات ميتة جاهلية).
(4) الغيبة للطوسي: 178/ ح 136.
(5) الغيبة للطوسي: 182/ ح 141.
(6) مخاطباً ابنته الزهراء (عليها السلام).
(7) الغيبة للطوسي: 191/ ح 154.
******************
أمَّا في العراق، فقد ظهر في البصرة من ادّعى أنَّه اليماني صاحب المهدي ناسياً أنَّ اليماني يظهر في بلاد اليمن وفي صنعاء وأنَّه سيّد من ذرّية زيد الشهيد، وأخيراً ظهر دجّال يقال له: ضياء الكرعاوي ادّعى أنَّه المهدي وأنَّه من صلب علي بن أبي طالب مباشرة وأسَّس جماعة أسماها جند السماء وقد قضي عليهم في منطقة الزرقة معقلهم قرب النجف الأشرف.
والواقع أنَّه في العقد الأخير ظهرت حركات ودعوات مشبوهة ادَّعت الارتباط بالمهدي من غير دليل ولا سند شرعي سوى الادّعاء الفارغ، والاتّكاء على بعض الأمور التي لا علاقة لها بالمهدي إلاَّ استغلال بعض أسماء الرموز الدينية أو الشخصيات العلمائية.
وأشير هنا إلى أنَّ كلّ مدّع للمهدوية من غير دليل يفتضح وينكشف زيفه وكذبه أمام الناس لأنَّه يدّعي ما ليس له، كما أنَّه من القطعي أنَّ كلّ مدّع للسفارة أو النيابة الخاصّة بعد السفراء الأربعة (عثمان بن سعيد، ومحمّد بن عثمان بن سعيد، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمّد السمري) كذّاب مفتر دجّال كائناً من يكون.
فلا عبرة بالألقاب أو الأسماء، وإنَّما العبرة بإيمان الإنسان وورعه عن محارم الله، وصدقه في حديثه، لأنَّ المؤمن لا يكذب أبداً.
لذا أدعو أبنائي الشباب أن يتَّخذوا الحيطة والحذر من كلّ دعوة. ولا يندفعوا فيها من غير تروٍ أو تحكيم العقل والشرع، والتشاور مع الأكبر والأعلم خوفاً من الانزلاق في مهاوي الانحراف، فإنَّ قوى الكفر العالمي من صهيونية وصليبية ونواصب، وحكومات مستبدّة قد شحذت سيوفها وفتحت خزائنها للقضاء على هذه الطائفة، وخصوصاً شيعة العراق، لما لهم من تأثير كبير في العالمين العربي والإسلامي، لأنَّهم على يقين أنَّ شيعة العراق هم قاعدة الإمام المهدي وهم الذين يندفعون بقيادة الإمام لتحرير العالم من أنظمته الفاسدة، فالنيل منهم نيل ٌ من الإمام المهدي نفسه. أمَّا ما يقال عن الشعب الفلاني والفلاني فإنَّما هي دعايات كدعايات (غوبلز) وزير دعاية (هتلر).
وأعود وأقول لأحبّائي الشباب:
اتّقوا الله في أنفسكم، ليس كلّ ما يلمع ذهب، وليس كلّ من يضحك في وجهك يحبّك.
اتّقوا الله في وطنكم، فإنَّه والله قد اجتمعت جميع مخابرات الدول القريبة والبعيدة فيه، ونقلوا معاركهم هنا.
اتّقوا الله والتفّوا حول مرجعيتكم فإنَّها هي التي حفظت العراق والعراقيين.
وقبل أن أختم حديثي في هذا المدخل، لا بدَّ من توضيح بعض النقاط وإلقاء الضوء على المنهج الذي اتَّخذته في هذا الكتاب:
أوّلاً: ليس هذا الكتاب كتاب تحقيق في الروايات والأحاديث، فهناك كتب مختصَّة بهذا الشأن إلاَّ أنّي أوردت الأحاديث المتَّفق عليها من الفريقين، والأحاديث التي صحَّحها علماء الاختصاص والأحاديث التي لا تتضارب مع القرآن والعقل.
ثانياً: ثمّ استخدام الأسلوب القصصي الروائي في الروايات الواردة بشأن الإمام المهدي مع استخدام لغة _ مبسّطة قدر الإمكان _ ملائمة لهذا العصر والابتعاد عن الألفاظ الغريبة لعدم اعتياد أبناء هذا العصر عليها.
ثالثاً: كما يجدر الإشارة إلاَّ أنَّني حاولت قدر الإمكان الاحتفاظ بالنصّ الأصلي من غير تغيير وخصوصاً النصوص الواردة عن المعصوم، أمَّا النصوص الواردة عن غير المعصوم فلدى الباحث مساحة واسعة إذا ضمن أنَّها تبقى ضمن دائرة المعنى المطلوب وأشرت إلى ذلك في الهامش بتصرّف.
رابعاً: استلزم استخدام الأسلوب القصصي تحويل الروايات التي تحدَّث بها أصحابها بصيغة المتكلّم إلى صيغة الغائب لتكون أوقع في النفس وأكثر تأثيراً، إضافة إلى الابتعاد عن مفرداتها اللغوية المعقَّدة والغير مستعملة لدينا حالياً.
لا أقول إنّي بلغت الغاية في هذا البحث فإنَّ ذلك محال، ولكنّي أرجو أن أكون سلَّطت بعض الضوء على الحقيقة التي توصَّلت إليها بعقلي القاصر، وبقناعتي بالروايات التي وردت في ثنايا البحث. وعذراً على الإطالة وإلى اللقاء في الفصول القادة بإذن الله تعالى.
* * *
الفصل الأوّل: زواج لم يتمّ
القسطنطينية عروس الأناضول..
الحسناء التي تغفو على ضفاف البسفور، تاج آسيا، درّة أوربا..
تمدّ ذراعيها البضتين فتتوسَّد بإحداهما الساحل الآسيوي، وتتوسَّد بالأخرى الساحل الأوربي..
مدينة تحمل عبق التاريخ..
تعتصب بعصابة الحضارة، وتجلس على كرسي المدنية..
المدنية التي بناها أحد أباطرة الرومان المسمّى بقسطنطين فجاء اسمها على اسمه، وبقيت هكذا قروناً عديدة، حتَّى جاء السلطان العثماني محمّد الثاني الملقَّب بالفاتح في القرن الخامس عشر الميلادي، لتدخلها جيوشه الظافرة بعد صراع مرير مع المسلمين دام قروناً، فحوَّل اسمها إلى إسلامبول أو الإستانة.
هذه المدينة حاضرة الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي بقيت تحمل لواء الحضارة الرومانية اللاتينية بعد سقوط شقيقتها الغربية _ روما _ بأيدي القبائل الجرمانية المتوحّشة، فتميَّزت عنها باسم بيزنطة.
إنَّها برزخ التقاء الشرق بالغرب، برزخ العناق الأسيوي الأوربي.
محطّة تجارية كبرى، يدخلها الألوف من البشر كلّ عام من مختلف البلدان والأصقاع، منهم التاجر، منهم الزائر، منهم المغامر، منهم الباحث عن الكنوز الدفينة والطلاسم القديمة، وغيرهم وغيرهم.
نحن الآن في القرن الثالث الهجري، أي في القرن التاسع الميلادي، حيث حقبة أحداثنا ومسرحها، نجوب بأرواحنا وأفكارنا في شوارع هذه المدينة، وأزقَّتها وباحاتها الواسعة، وساحاتها الكبيرة، فنلاحظ حركة دائبة، وجلبة عالية ونشاطاً غير اعتيادي، يختلف عن كلّ يوم.
أمواج من البشر يعلو وجوههم الفرح والسرور تتحرَّك من هنا وهناك.
أصوات تعلو من هذي الجهة وأخرى من تلك الجهة.
الأناشيد والمنشدون، الشعراء وقصائدهم، المغنّون الذين تعلو أصواتهم بالغناء بينما أصابعهم تتلاعب على أوتار قيثاراتهم.
القساوسة والرهبان، بأرديتهم الكهنوتية وصلبانهم الصغيرة الذهبية المتدلية على صدورهم، وهم يرفعون الصلبان الكبيرة المزخرفة على أكتافهم.
الفتيات الجميلات ذوات الأردية الملوَّنة، العذراوات بنات القادة والأشراف ذوات الحسن والبهاء، نساء زعماء القبائل يتهادين بثياب الحرير والأطلس الفضفاضة.
الأعلام، الرايات الملوَّنة، ترفع من هذا الشبّاك، وتلوح من ذاك الشبّاك.
الستور الملوَّنة تغطّي الكثير من الجدران..
الجميع يتَّجه في إيقاع متناسق إلى القصر الملكي..
القصر الملكي الذي يجثم في وسط المدينة ويطلّ من أحد جهاته على ساحل البحر الأزرق اللازوردي، هو الآخر يزهو بشتّى الألوان، فيبدو كأنَّه حمامة بيضاء في غابة خضراء، وتتقاطع منه الألوان كأنَّه لوحة سريالية، ما بين الأحمر بالأخضر والبنفسجي بالأصفر، والأزرق بالأبيض، موزّعة بين أكناف أشجار الصنوبر والسرو، وقد فرشت أرضه الواسعة بسجّادة خضراء سندسية.
أكاليل الورود تغطّي الكثير من المساند، وأريج الأزهار يملأ الجوّ بروائحه الذكية.
الأجراس تقرع في الكنائس، فيتجاوب صداها من كنيسة لأخرى..
ما الذي حدث؟
ما الذي جرى حتَّى ترتدي عروس الشرق حلّتها النفيسة؟
أيمكن أن تكون الجيوش الرومانية حقَّقت انتصارات باهرة على خصومها التاريخيين (العرب)، فجاءت بأكاليل الغار وأعادت ماء وجهها المراق منذ قرنين ونيف في هزائم متكرّرة أمام بدو الصحراء؟
لو كان كذلك لقرعت العشرات من الطبول، ونفخت الأبواق، ولرأيت بعض الكراديس العسكرية تمرّ وهي تضرب بقوّة أرضية الشوارع تجرّ خلفها نماذج من أسرى الانتصارات تلك.
أو أنَّ إمبراطورها المبجَّل (القيصر) قرَّر في لحظة من لحظات مراجعة النفس والانزواء في أحد الأديرة لتكفير ذنوبه في البقية الباقية من حياته، فينزع قميص السلطنة ويتخلّى عن الحكم ويسلّم صولجانه إلى خليفته من غير أن يحمل _ وتاج الملك على رأسه _ إلى مثواه الأخير؟
لم يحصل هذا، فلا زال جالساً على كرسي ملكه ملتصقاً به بفراء عربي..
إذن، ماذا هناك؟
هل هناك سرّ يخفيه أهل المدينة انطوى معهم فلم تعرفه الأجيال اللاحقة؟
الجواب: لا يوجد سرّ، ولا لغز ولا طلسم..
إنَّ الإمبراطور قد دعى الكثير من أبناء شعبه للاحتفال بزواج حفيدته في ساحات القصر.
والمدينة لا تشهد كلّ يوم احتفالاً بزواج أميرة من البيت المالك.
فهو زواج ليس كأيّ زواج..
زواج حفيدة القيصر، الغالية ذات الحسب والنسب، الضارب في أعماق التاريخ من أكرم الأرومات.
أبوها يشوعا بن القيصر الذي ينحدر من عيصو بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، وعيصو الملقَّب بأدوم شقيق يعقوب نبي الله والد الأسباط الاثني عشر.
اُمّها من أحفاد شمعون بن حمون الصفا وصيّ المسيح وأقرب حواريه إلى قلبه، ومن أحفاد نبيّ الله داود.
إنَّها النفحة العطرية، اللمسة الساحرة ذات الدلال ذات الثلاث عشر ربيعاً ربّة الحسن والبهاء والعفّة والأدب، بنت الملوك، أميرة من الأميرات، سلالة الحواريين، ذرّية سليمان، وردة حمراء في أيكة خضراء.
الحفيدة التي أولع جدّها بها فجلب لها معلّمة (ترجمانة) تعلّمها لغة العصر، لغة الحضارة، اللغة العربية صباحاً ومساءً، حتَّى استقام لسانها فأخذت تنطقها بطلاقة وبلاغة، وحتَّى أنَّه أسماها عند مولدها (مليكة).
إذن فالحدث كبير والمدعوون أكبر..
رئيس أساقفة عاصمة الإمبراطورية، ومعه ثلاثمائة من أبناء الحواريين والقساوسة والرهبان.
سبعمائة من أمراء الجيوش وقادة الأجناد.
أربعة آلاف من رؤساء وملوك العشائر الرومانية وغيرها.
أفراد العائلة المالكة ومن يتَّصل بهم بنسب.
والد العروس، ابن القيصر يشوعا وزوجه..
تجمَّع هؤلاء في ذلك المكان (القصر الملكي)، وملأوا ساحاته والشوارع المحيطة.
نصبت منصّة عالية يراها الجميع، يتمُّ الصعود إليها بدرج، وفوقها نصب عرش مكلَّلاً بالجواهر ومكسوَّاً بالأطلس والحرير.
هناك وقف العريس أسفل المذبح بملابسه الزاهية ينتظر قدوم العروس، ومظاهر الفرح والسرور تلوح على وجهه، وهو يمسك بإحدى يديه صليباً مكسوَّاً بالذهب.
العريس فتىً من البيت المالك، من أقارب القيصر جدّ العروس..
كانت الصلبان الذهبية والمزخرفة تحيط بالعرش، وقد أقيمت إضافة إلى ذلك الأعمدة الملوَّنة.. مع باقات الورود..
وقف رئيس الأساقفة على المنصّة تلك، وفتح أسفار الإنجيل وبدأ يرتّل فيها، ويقرأ القداس، والجميع يردّد ذلك معه.
جاءت العروس لابسة الحرير والديباج وعليها ملاءة بيضاء شفّافة، تحيط بها مجموعة من وصائف الشرف من بنات القادة والأشراف كأنَّها القمر تحيط به النجوم..
كانت تتقدَّم بجلال وشموخ نحو المذبح ويدها على يد جدّها وهو لابس أزهى ملابسه، وكلَّما مرَّ بفئة أحنوا رؤوسهم إجلالاً واحتراماً.
صعدت العروس المنصّة لتركع أمام المذبح المنصوب فوقها، وحينما صعد العريس وراءها لملاقاتها ليركع أمام رئيس الأساقفة لإتمام مراسيم الزواج، حدثت هزّة عنيفة تساقطت الأعمدة الملوَّنة ووقعت الصلبان من الأعالي والتصقت بالأرض وخرَّ العريس الصاعد إلى العرش مغشياً عليه.
خاف الجميع خوفاً شديداً، وحدث اضطراب ولغط، وتغيَّرت ألوان القساوسة والرهبان وارتعدت فرائصهم من هول ما رأوا..
قال رئيس الأساقفة مخاطباً القيصر (بصوت متقطّع): أيّها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
تطيَّر القيصر من ذلك، إلاَّ أنَّه لم يظهر ذلك فصاح بالأساقفة والرهبان: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا هذه الصلبان، وليذهب هذا المنحوس إلى الجحيم..
ثمّ قال مخاطباً حاشيته: أحضروا أخا هذا المنحوس، فلعلَّه أفضل من أخيه فيدفع بسعده نحس أخيه حتَّى أزوّجه بهذه الصبية.
فأقام القساوسة والرهبان وبعض حاشية القصر الأعمدة والصلبان، ثمّ جيء بأخ العريس وحينما وضع قدمه على السلالم للصعود على العرش، حدثت هزّة أخرى وسقطت الأعمدة والصلبان.
عندئذٍ صاح رئيس الأساقفة: ألم أقل لكم إنَّه زواج مشؤوم وكارثة على النصرانية، وما هو بتامّ أبداً؟
فتطيَّر القيصر من ذلك وركبه همٌّ كبير، فدخل غرفته وأغلق بابها عليه، فتفرَّق المدعوون، وذهب الجميع يتحدَّثون عمَّا جرى.
أغلقت الفتاة (مليكة) باب غرفتها عليها، واعتزلت الجميع، جلست على طرف فراشها الوثير تراجع الأحداث خطوة خطوة، وذهبت في دوامة الأفكار تتقاذفها من هنا وهناك كانت مأخوذة بما حدث..
ما الذي جرى؟
مرَّتان.. وفي كلّ مرَّة تتساقط الصلبان إلى الأسفل وتلتصق بالأرض ذلاً.
كانت غير حزينة لفشل ذلك الزواج لأنَّها لم تكن سوى امرأة خرجت توّاً من مرحلة الطفولة.
أنهكتها كثرة الأفكار، شعرت بالنعاس، خلعت ملابسها ودلفت تحت الغطاء السميك ولاسيّما أنَّ الجوّ فيه لذعة برد.. سرعان ما ذهبت في نوم عميق بعدما حصلت على دفءٍ في فراشها..
ومع مرور الوقت بدأت الأحلام تراود روحها الشفّافة.. وبدأت بالتنقّل من حلم إلى آخر، ثمّ دخلت في حلم غريب، فقد تراءى لها قصر جدّها القيصر في غير صورته تلك، فهو في حلّة بديعة، وجمال أخّاذ، رأت مجموعة من الناس ترتدي ملابس بيضاء، يلوح الطهر والبهاء عليهم، منهمكين في عمل منبر عالٍ يطاول السماء علوَّاً، في الموضع الذي كان فيه العرش والمنصّة.. وقد فرغ هؤلاء منه، ووقفوا يحيطون به من كلّ جهاته، وفي وسطهم شخص يشعُّ نوراً عرفت أنَّه المسيح يسوع بن مريم ومعه وصيّه جدّها شمعون، وبرفقتهما الحواريون الآخرون، وقد اجتمعوا منتظرين شخصية عظيمة.
في هذه الأثناء ظهر نورٌ عظيم في السماء يفوق نور الشمس غشي الأبصار، يرافقه تسبيح وتهليل وتكبير، هرع المسيح وحواريوه مسرعين لاستقبال القادم العظيم، الذي جاء ومعه مجموعة ذوو أنوار، فعرفت أنَّ هذا القادم هو محمّد رسول الله، نبيّ الإسلام ومعه أخوه ووصيه وابن عمّه وسبطاه السيّدان العظيمان ولدا ابنته فاطمة سيّدة نساء العالمين، ومعهم أبناؤهم الأئمّة الأبرار ومن جملتهم شاب جميل الطلعة يبدو أنَّه أصغرهم سنَّاً.
تقدَّم المسيح فرحاً إلى رسول الله وعانقه فقال له محمّد: يا روح الله إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا..
وأومأ بيده إلى ابنه أبي محمّد ذلك الشاب الذي كان معهم.
فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله.
قال شمعون: قد فعلت.
صعد محمّد ذلك المنبر وخطب خطبة بليغة، ثمّ زوَّج المسيح مليكة لأبي محمّد حفيد رسول الله وشهد على ذلك رسول الله ووصيّه وبنوه والحواريون.
استيقظت مليكة من نومها، مذهولة.. لم ترَ طول حياتها مثل هكذا حلم، إنَّه لأمر عظيم خطير، إنَّها لا يمكن أن تكون زوجة لذلك الروماني، وإلاَّ كيف يراد لها أن تكون زوجة لسليل خاتم الأنبياء، وسيّد المرسلين، قطب الوجود محمّد رسول الله.
عرفت أنَّها مسوقة لغاية عظمى، وهدف كبير، تعلَّق قلبها بذلك الشاب الجميل البهي المنير كالشمس الطالعة في الضحى، ملأ كيانها، واستولى على كلّ جارحة في وجودها.. فلم تعد ترَ إلاَّ تلك الصورة..
ما أبهاه لقد ضرب حبّه على قلبها، لم تعد ترَ إلاَّه، تمنَّت أنَّها لو لم تفق من ذلك الحلم، وأنَّها ذهبت مع ذلك الحبيب أينما ذهب.
لم تبح بحلمها إلى أحد، حتَّى اُمّها، فهي تعلم أنَّها لو أخبرت أهلها به، فمن الأكيد أنَّهم يقتلونها برغم حبّهم، وذلك لما يوجد في نفوسهم من حقد على الإسلام والمسلمين، وخصوصاً صاحب الرسالة الخاتمة، الذي يعتبرونه المسؤول الأوّل عن أخذ التاج الروماني من أسلافهم، الشام ومصر.
بقيت تلك الصورة المشرقة في عقلها وروحها، ولاسيّما ذلك النور الذي قد خطبت وزوّجت به، إنَّه يحتلّ قلبها ويتربَّع على عرشه، فذابت عشقاً فيه، ذهلت عن كلّ شيء، ذهلت عن الأكل والشرب، فلم تعد تتناول شيئاً، ضعفت، مرضت، وأصابها هزال شديد، وتفاقم مرضها.
أخذت تذوي كالوردة المقطوعة من غصنها، أصاب القلق جدّها وأبويها، وغزا الحزن الشديد قلوبهم، كيف يمكن لهذه الزهرة اليانعة أن تذبل في هذه السرعة.. فتاة في الثلاث عشر من العمر..
جُلِبَ الأطبّاء والنطاسيون لعلاجها، فحصوها، جسوا نبضها، وكلّ يهزُّ رأسه، علامة على أنَّها سليمة من الناحية العضوية، لم يترك جدّها طبيباً حاذقاً لم يجلبه إليها..
حسب جدّها بعدما رأى عدم جدوى الأطبّاء، أنَّها مصابة بمسّ، ولاسيّما أنَّ ذلك حدث لها بعد حادثة الزواج المشؤوم، فجلب لها القساوسة والرهبان، وقرأوا عليها من الإنجيل فلم يفلح ذلك، وهي كالشمعة تذوب شيئاً فشيئاً.
قنط الجميع من بقائها على قيد الحياة، اُمّها تبكي عليها بحرقة، أخذوا يعدّون الساعات، قال لها جدّها بلوعة: يا قرَّة عيني هل يخطر ببالك شيء تشتهينه، قولي فأعطيه لك في هذه الدنيا؟
قالت (بصوت خفيض يشوبه الضعف): يا جدّي أرى أبواب الفرج دوني مغلقة، فلو كشفت العذاب عمَّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال وتصدَّقت عليهم ومنَّيتهم بالخلاص لرجوت أن يهب لي المسيح واُمّه عافية وشفاء.
استجاب القيصر لطلب حفيدته، أخرج بعض الأسرى المسلمين من سجونه وأكرم البعض منهم.
أظهرت مليكة الصحَّة، وبدأت تتناول القليل من الطعام.. فرح القيصر ووالداها بذلك.
وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، وأطلق المزيد منهم من سجونه..
أخذت تتماثل للشفاء شيئاً فشيئاً، أخذت السكينة تحلُّ عليها، عاد الاطمئنان إلى قلبها، وأمست تخلد للنوم بعدما هجرته لفترة طويلة، إلاَّ أنَّ صورة أبي محمّد وأحداث ذلك الحلم لا تفارق عقلها وروحها.
الشوق يضربها بسياطه اللاهبة..
التجأت إلى الصلاة على طريقتها الساذجة البريئة..
أخذت تتوجَّه بقلبها البريء، وتجثو كلّ ليلة على ركبتيها تناجي الله وتدعوه وتطلب عونه، لرؤية الحبيب الغالي..
يا له من عشق جارف، وحبًّ عظيم..
كانت تذرف الدموع الساخنة كلّ ليلة شوقاً وحزناً.
رقدت في إحدى الليالي، بعدما جثت على ركبتيها، وصلَّت ودعت بحرارة، وسكبت قطرات من الدموع الساخنة البريئة، أحسَّت بتعب شديد، ونعاس قوي، فألقت بنفسها على فراشها الوثير وذهبت في نوم عميق.. أحسَّت أنَّها دخلت في عالم آخر، عالم نوراني طاهر، شفّاف، رأت امرأة جليلة ترتدي ثياباً بيضاء، ذات بهاء، تشعُّ نوراً من كلّ جوانبها، كان النور ينبعث من وجهها أعظم من نور الشمس، بالرغم من وضعها لنقاب عليه، حتَّى أنَّها لم تستطع النظر إليها، وكانت واقفة ومعها مجموعة كبيرة لا تعد من الفتيات الجميلات البهيّات في روضة خضراء، تحفُّ بهنَّ أشجار لم ترَ مثلها أبداً.
ورأت امرأة أخرى برفقتها ذات نور وبهاء، إلاَّ أنَّها ليست كتلك المرأة، أحسَّت أنَّ هذه المرأة الثانية هي مريم العذراء اُمّ المسيح، لم تعرف المرأة الأولى التي يبدو أنَّ الجميع رهن إشارتها، قالت لها مريم بنت عمران وهي تشير بيدها إلى تلك المرأة النورانية: أتعرفين هذه المرأة.. إنَّها سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت محمّد اُمّ زوجك أبي محمّد..
عندئذٍ تعلَّقت مليكة بسيّدة النساء وأخذت تبكي بحرقة وتشكو لها عدم رؤية أبي محمّد وامتناعه عن زيارتها..
قالت لها سيّدة النساء: إنَّ ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة بالله على مذهب النصارى(1)، وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد إيّاك فقولي: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
فسارعت مليكة إلى النطق بالشهادتين بفرح، فضمَّتها سيّدة النساء إلى صدرها، فطابت نفسها وشعرت بسرور كبير وفرح غامر. وأردفت سيّدة النساء قائلة: توقَّعي زيارة أبي محمّد فإنّي سأرسله إليك.
استيقظت مليكة من نومها والفرحة تغمرها وهي تقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمّد.
كتمت مليكة ما رأته في ليلتها تلك، إلاَّ أنَّ الفرحة تكاد تفضحها، فلم تبد شيئاً ولم تطلع أحداً على سرّها العجيب هذا..
كانت على أشد من نار الغضا لرؤية أبي محمّد وللقائه ولو كان ذلك في الحلم.
في الليلة التالية أيضاً جثت على ركبتيها وأخذت تصلّي بحرارة وتطلب من الله أن يحقّق لها ما تريده، فرأت سيّدها وزوجها وقد جاء إليها زائراً، فقالت له: جفوتني يا حبيبي بعدما شغلت قلبي بجوامع حبّك.
قال: ما كان تأخيري عنك إلاَّ لشركك، وإذ قد أسلمت فإنّي زائرك كلّ ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان.
واستمرَّت لقاءاتها بأبي محمّد كلّ ليلة، وفي أحد الليالي شكت له طول الفراق، وبعد اللقاء.
فقال لها: إنَّ جدّك سيرسل جيوشاً لقتال المسلمين في يوم كذا، ثم يتبعهم فعليك اللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف في طريق كذا، عندئذٍ تقع عليكم إحدى طلائع المسلمين فيأسرونكنَّ..
أخذت مليكة تعد عدَّتها لليوم الموعود، وحينما خرج جدّها بجيشه، أخبرت أهلها وذويها بأنَّها ستذهب خلف جيش جدّها لمعاونة وتمريض الجرحى، ومساعدة من يحتاج المساعدة، مع مجموعة من وصائف القصر، فنال ذلك رضا وقبول منهم، وأوصوها اتّخاذ الحيطة والحذر..
خرجت مع مجموعة من الوصائف والخادمات متنكّرات بثيات الخدم، في مؤخّرة الجيش.
كانت المعارك بين الروم والمسلمين قائمة على قدم وساق في الجنوب الشرقي من أوربا، وكانت تقوم هي ووصائفها بتضميد الجرحى، وإسعاف المصابين، والتنقّل مع حركات الجيش..
وفي إحدى المرَّات وحينما كانت مع مجموعتها في مؤخّرة الجيش خرجت عليهم كتيبة استطلاع جيش المسلمين، فوقعن أسيرات، وسرعان ما تمَّ توزيعهنَّ على المقاتلين بعد وصولهنَّ إلى معسكر المسلمين، فكانت من نصيب أحد الشيوخ الكبار من المجاهدين..
سألها: ما اسمك؟
قالت: نرجس.
لم تبح باسمها الحقيقي واسم عائلتها، بتوجيه من الإمام..
قال: إنَّه اسم الجواري..
لم تلبث عند ذلك الشيخ إلاَّ قليلاً حتَّى باعها إلى أحد النخّاسين الذي نقلها من بلد إلى بلد، وأخذت تتنقَّل من نخّاس إلى آخر، حتَّى اشتراها نخّاس اسمه عمر بن يزيد..
وخلال هذه الفترة حافظت بشدّة على نفسها، وكانت عصيّة على كلّ طالب، ولم تسمح لأيّ شخص من الاقتراب إليها، فكانت تتعرَّض للضرب بالسياط، حتَّى ملَّ منها النخّاسون، وكانت في كلّ مرَّة تشهر مديتها وتضعها على صدرها مهدّدة بقتل نفسها إذا حاول أحد المساس بها، حتَّى لم يعد يطيقونها فباعوها من النخّاس المذكور(2).
* * *
الفصل الثاني: أميرة في سوق النخّاسين
خرج بشر بن سليمان النخّاس أحد أحفاد أبي أيّوب الأنصاري، صاحب رسول الله، من مدينة سُرَّ من رأى، متوجّهاً إلى بغداد راكباً على راحلته، ومعه راحلة أخرى تحمل متاعه..
وسُرَّ من رأى مدينة بناها المعتصم بن هارون العبّاسي ثامن خلفاء الدولة العبّاسية، لتكون معسكراً لجنده الأتراك الذين جلبهم بالآلاف من الآفاق، ليكونوا له ردءاً وعوناً، تعصّباً منه لخؤولتهم له.
وهؤلاء الجند أغلبهم من الرعاع والأجلاف لم يعرفوا حضارة أو مدنية، ولهذا عاثوا في الأرض فساداً وأساؤوا كثيراً لأهل بغداد لما عندهم من عنجهية وهمجية وجنوح للعنف، وعدم احترام للصغير والكبير، والمرأة والشيخ، فضجَّ أهل بغداد منهم وضاقوا بهم ذرعاً، وشكوهم إلى الخليفة عدّة مرَّات.. فوجد أنَّ نقلهم من بغداد أجدى وأنفع لما لمسه من بوادر الثورة، وقديماً انتفض البغداديون على أخيه المأمون. فأرسل مهندسيه وبنّائيه ليختاروا له موقعاً مناسباً وأرضاً جديدة تبعد كثيراً من بغداد.. فوقع اختيارهم على هذا الموقع، فاستقرَّ فيه وجنده ويسمّى حينئذٍ بالعسكر وأصبح محلّة كبيرة. ثمّ نقل ديوان الخلافة من بغداد إليه، وعلى إثر ذلك ازدهرت المدينة، وبنيت فيها الأحياء والمساكن، وانتقل إليها العلماء والأدباء والشعراء والتجّار وعلية الناس.
وفي تلك الفترة نقل الإمام الهادي علي بن محمّد من مدينة جدّه (المدينة المنوَّرة) إلى سُرَّ من رأى بأمر المتوكّل بن المعتصم ليكون على مرأى منه، فسكن في حيّ العسكر فلقّب به هو وولده الحسن.
وسُرَّ من رأى مدينة رابضة على نهر دجلة الخالد، وهي ذات مناخ صحراوي لوقوعها على حافّة صحراء ما بين النهرين، وهي محاطة من بعض جوانبها بالمزارع والمراعي الخضراء.
كان بشر فرحاً لتكليفه بهذه المهمّة وخصوصاً أنَّها من قبل الإمام الهادي الذي اختاره من بين الكثير من أصحابه المقرَّبين.
إنَّها مهمّة خطيرة وسرّية في نفس الوقت، لا يضطلع بها كلّ من هبَّ ودبَّ، وإنَّما شخص منتخب من إمام معصوم.. وقد وقع الاختيار عليه.
والإمام الذي أرسل بطلبه وكلَّفه بها ليس كباقي الناس هؤلاء، صحيح أنَّه من لحم ودم، يمرض ويموت، ويفرح ويحزن، ويحمل في الأرحام.. إلاَّ أنَّه خليفة رسول الله، ورسول الله خير خلق الله من آدم إلى قيام الساعة.. والذي يقوم مقامه لا بدَّ أن يكون من سنخه باستثناء النبوّة.
وإمام عصره كان علي بن محمّد الذي كان معجزة عصره كأبيه التقي الجواد، كلاهما قد تقلَّد مقاليد الإمامة والخلافة في عمر مبكر، فبزا العلماء والفقهاء بالعلوم الإلهية وغيرها.
الهوامش:
(1) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: 73).
(2) كمال الدين: 420 - 422/ باب 41/ ح 1؛ الغيبة للشيخ الطوسي: 210 - 213/ ح 178؛ بتصرّف.
******************
إنَّه شخصية لا كالشخصيات..
وعظيم لا كالعظماء..
وكريم لا كالكرماء..
هو من الدوحة الهاشمية المحمّدية العلوية، جمع ولادة بني هاشم شموس الورى، وأندى الكفوف إذا أجدبت الأرض وضرب الفقر بجرانه على الأرض..
فالعظمة حينما تصل إليه تتصاغر حتَّى تصبح ضعة..
والكرم أمام بحر جوده يصير شاطئاً جدباً.
فهو من، وابن من؟
ويكفيه عزّاً وفخاراً أنَّه من سلالة سيّد الكائنات محمّد، وصل إليه كابراً عن كابر، عن آبائه أبناء البتول فاطمة الحوراء الإنسية، ومن له جدّ كرسول الله وأب كعلي بن أبي طالب واُمّ كفاطمة لا يشار إليه بالبنان، لأنَّ الرؤوس والأنظار ترجع خاسئة ذليلة لا يمكنها النظر إلى ذلك العلو السامي، ولذلك أصبح هؤلاء محطّ أنظار الحاسدين والحاقدين، فما في قريش من مكرمة أو عظمة إلاَّ ودون عظمتهم بكثير حتَّى لا يمكن المقارنة أو المماثلة.
وكيف يمكن مساواة الثرى بالثريا؟
أو كيف يمكن مقارنة الشمعة المشرقة بالفحمة المنطفئة؟
أو كيف يمكن مضاهاة الطود الشامخ بالحفرة العميقة؟
ولهذا ناصبت قريش العداء لهذا البيت، حسداً وحقداً وكفراً بما أنزل الله على رسوله من فضل وسؤدد هو ورهطه الأدنين (أهل البيت).
إن يحسدوك على علاك فإنَّما متسافل الدرجات يحسد من علا
ولذلك تجد في كلّ عصر طاغوتاً مقابل إمام معصوم يناصبه العداء، منذ السقيفة المشؤومة، فليس بدعاً أن يستقدم طاغوت سُرَّ من رأى متوكّل بني العبّاس الإمام الهادي من مدينة جدّه إلى عاصمته، لأنَّه لا يطيق التفاف الناس حول الإمام بالرغم من أنَّ الإمام لم يدع إلى عمل مسلَّح ضدّ السلطة القائمة، لكنَّه يتوجَّس من منزلته، ومكانته بين الناس بالرغم ممَّا بذله هو وآباؤه من أموالٍ في سبيل الصدّ عن أهل البيت وإبعاد الناس عن أنوارهم القدسية.
والمتوكّل هذا نسيج فريد من بني العبّاس، يجمع الدناءة والحقارة واللؤم والسفالة، والحقد والنصب لأهل البيت بحيث فاق من سبقوه من خلفاء بني أميّة وبني العبّاس في ذلك.
فهو طاغوت أسود وفرعون قرشي..
صاحب الليالي الحمراء، ودنان الخمور، الذي يتقلَّب في أحضان الجواري والقيان، ويتَّخذ من عبادة المخنَّث صاحباً ونديماً وخديناً.
أيّ سخرية هذه، وأيّ إسفاف تراه وتلمسه حينما يقفز هذا الخمّار في لحظة من اللحظات وفترة من الفترات من أحضان الراقصات، ومجالس الخمر، وطنطنة القيان والمغنين، ليرتدي جبّة الخلافة وينادي باسمه (أمير المؤمنين)، خليفة رسول الله، محي السُنّة ومجدّد الشريعة؟
يا لله وأفواه التاريخ الدرداء!!
ويا للعجب ممَّا تراه مرقوماً في تلكم الصحائف من مديح جزافي، وألقاب جوفاء تخلو من أيّ معنى سوى ما حصل عليه مطلقوها من صرار الذهب وأجربة الأراضي الغامرة وغير الغامرة.
لقد أحيا هذا الأموي العبّاسي السُنّة المزيَّفة، سُنّة الضلال، فطفق يسبُّ علياً ويسخر منه في كلّ محفل ونادٍ، ويأتي بعبادة المخنَّث ويربط على بطنه وسادة ثمّ يطلب منه أن يحسر عن رأسه الأصلع وينشد هو وجوقته:
جاءكم الأنزع البطين جاءكم أمير المؤمنين
وهذا الأفّاك يرسل يهودياً فاجراً (الديزج) لتهديم قبر ريحانة رسول الله الحسين، فأعمل فيه معاوله وفؤوسه ومساحيه وساواه بالأرض وأجرى الماء عليه، ولربَّما تأسَّف كثيراً أن لم يكن حاضراً في معركة الطفّ فيرمي الحسين بسهامه أو رماحه مع شيعة آل أبي سفيان.
لقد سوَّد هذا الفاجر وجه التاريخ بمخازيه، ولم يدع منكراً إلاَّ وارتكبه، فكم من مرَّةٍ أرسل جلاوزته في الليل البهيم لمداهمة بيت ابن رسول الله إمام العصر، انتهاكاً لحرمة رسول الله واستخفافاً بآية المودّة(1).
وحينما نأتي إلى التاريخ المكتوب، نجده يصفه بالخليفة الذي ضرب بقوّة البدع وأحيى السُنّة، ولاسيّما أنَّه في الصباح بعد ليلة حافلة بكؤوس الخندريس يرتدي بردة (يقال: إنَّها لرسول الله)، ويأتي بعصا مزعومة، ويذهب لصلاة الجمعة أو العيد.
فالدين في عرف بني العبّاس بردة وعصا رسول الله!!
يا لله وللتاريخ الأسود!!
تاريخ الطغمة القرشية حزب إبليس، وحزب إبليس هو الذي جلب هذا المتحدّر من أصلاب الخمّارين وبطون القيان إلى منصَّة الخلافة.
جلب جلاوزة هذا الخمّار إمام العصر (الهادي بن محمّد) في منتصف الليل لابساً سروالاً وقميصاً، معتمراً طاقية، وأدخلوه على ذلك الآثم الذي كان في حفلة عامرة بالقيان والراقصات والسكارى من البوّاب إلى القائد أو الوزير، وهو في ذروة النشوة، كيف وهو يحكم على إمبراطورية شاسعة ودولة عظمى، وأوقفوه أمامه، كان السكر يلعب برأسه، فأراد أن يشرك الإمام في إثمه وحسب أنَّ كأس خمره شرف وما بعده شرف، وهو تكريم لمن يقدّمه له، فقدَّمه له، فلم تفلح مؤامرته الدنيئة أمام رفض الإمام القاطع الذي مدَّ رقبته للسيف والنطع.
أراد أن يدخله في إثم آخر، لهو الحديث، أراده للغناء، ليضمّه إلى جوقته المتردّية، فصفع مرَّةً أخرى بالرفض القاطع أيضاً.
عندئذٍ طلب منه أن ينشده الشعر، فليس في الشعر غضاضة، ولاسيّما في مثل هكذا مجلس عامر بالراقصات الجميلات والسكارى.
أخبره أنَّه لا يقبل عذراً هذه المرَّة، وحسب أنَّ الإمام ينشده عن العيون الناعسة والخدود الناعمة وعن الهوى المحموم بين الرصافة والجسر، وعن بنت الكروم إن كانت من عهد عادٍ أو ثمود.
استجاب ذلك السيّد الثائر فصبَّ قطرات من السُمّ الزعاف في كأس الخليفة المخمور، وسكب جرعات من الحنظل في عسله، وألقى في وجهه قنبلة فرَّقت أحلامه وأطارت السكرة من رأسه وحوَّلت ليلته الحمراء إلى ليلة سوداء:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم
ناداهم صارخ من بعد دفنهم
أين الوجوه التي كانت منعَّمة
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا
وطالما عمَّروا دوراً لتحصنهم
وطالما كنزوا الأموال وادَّخروا
أضحت منازلهم قفراً معطّلة غلب الرجال فلم تنفعهم القُلَلُ
وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
أين الأساور والتيجان والحللُ
من دونها تضرب الأستار والكللُ
تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ
فأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا
ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
ففرَّقوها على الأعداء وارتحلوا
وساكنوها إلى الأجداث قد نزلوا
فوقع ذلك الأثيم على وجهه، وانقلب في بكاء مرير، وحزن عميق، ذهبت كؤوس السلاف هباءً وضاعت في رنّات البكاء نغمات الأوتار وغناء القيان.
ولكن أترى أنَّ ذلك الطاغوت يرعوي عن غيّه؟
عاد ليلة وليلة أخرى لمعاقرة بنت الحان، وإحياء الليالي الحمراء حتَّى دخل عليه ابنه لصلبه مع الأتراك فحوَّلوا ليلته الحمراء إلى جحيم أحمر، فقطَّعوه وهامانه الفتح بن خاقان إرباً إرباً، وخلطوا دماءهما بكؤوس الخمر المراقة، ورفعوا لحومهما بحيث لا تعرف رجل أو يد الخليفة من رجل أو يد خادمه أو وزيره.
هكذا كانت الأفكار والخواطر تتوارد على ذهن بشر بن سليمان، وهو متوجّه في مهمّته تلك، لم ينسَ تلك الكلمات الذهبية من سيّده الإمام، التي توجَّه بها فإنَّها ما تزال تقرع أذنيه:
(يا بشر إنَّك من ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف فأنتم ثقاتنا أهل البيت).
ثقة أهل البيت المعصومين، كلمة ثقيلة جدَّاً.
يا لها كلمة ما أعظمها، فلو أنَّها وزنت بكلّ ما في الدنيا من كنوز وجواهر وأموال وشرف وجاه لوزنتها.
لذا انطلق بهمّة وحماس لأدائها، مسترشداً بتوجيهات الإمام في مسيرته المباركة إلى بغداد.
لقد خطَّ الإمام مساره الذي ينبغي أن يسلكه، مسار الرحلة المباركة ذي البعدين..
بعد مكاني أوّله من سُرَّ من رأى وآخره سوق النخّاسين في بغداد.
بعد زماني بدايته من وقت خروجه من بيت الإمام حتَّى وصوله ضحى يوم الجمعة، حيث يجتمع الناس لشراء الإمام والرقيق المجلوبين من الآفاق.
كان يحمل معه ثمن جارية مئتي دينار وعشريناً في صرَّة صفراء.
وكان يحمل أيضاً رسالة غريبة عجيبة لا تخطر على بال بشر.
رسالة بخطّ رومي بلغة رومية، من رجل عاش عمره في الحجاز البلد الصحراوي القاحل منذ مولده وحتَّى انتقاله إلى سُرَّ من رأى. والأعجب من ذلك أنَّها موجَّهة لفتاة مجهولة، محبوسة في أقفاص الأسر، والله يعلم الوسيلة التي استلبت فيها، وكم من أولئك الذين ساقهم الحظّ العاثر للوقوع في هذه الأقفاص والعجائب من هذا الإنسان القابع تحت الإقامة الجبرية لا تنتهي، ممَّا تجعل بشراً يقف أمامها مذهولاً:
(واحضر معبر الفرات في ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشراذم من فتيان العراق).
ثمّ تتكشَّف الصورة أمامه أكثر وأكثر وتذهب إلى ذكر الأسماء:
(فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس).
وفعلاً وصل بشر بن سليمان النخّاس إلى وجهته، وعبر معبر الفرات ووصل سوق النخّاسين الذي يقع على ساحل نهر دجلة، ضحى يوم الجمعة، حيث يكون الحشد كبيراً وعرض السبايا أكثر.
جاءت زوارق السبايا والعبيد، تمخر عباب نهر دجلة، وهي تضمُّ الكثير من الجواري والرقيق، وبدأ هؤلاء بالنزول إلى البرّ، وأخذ كلّ نخّاس طائفته من العبيد.
كانت هناك قباب وأخبية مضروبة على ساحل النهر، يتمُّ إدخال السبايا فيها بعد إنزالهم من الزوارق من شتّى الألوان واللغات، مختلطة ما بين نشيج السبايا وضحكات وأصوات المتفرّجين، فكم من لوعة ودمعة سكبت في ذلك المكان من أولئك المساكين الذي يدفعون ثمناً غالياً لحروب ما لهم فيها ناقة ولا جمل سوى أنَّها أطماع بين الدول المتحاربة.
هؤلاء جميعاً وقعوا في أسر جيوش المسلمين في حروب دامية وغزوات لا عدد لها، سفكت فيها دماءٌ غزيرة لأجل جلب ما أمكن من أبناء الشعوب المقهورة إلى قصور الخلفاء القابعين في دمشق وبغداد..
استلب هؤلاء من أحضان عوائلهم واُمّهاتهم، من أطفال صغار لم يبلغوا سنّ الرشد، إلى فتيان وفتيات في شرخ الصبا وميعة الشباب.
إنَّه الاستعباد البشري القائم على قدم وساق الذي يقع على الجميع من مسلمين وغيرهم.
لم يذهب بشر إلى أيّ نخّاس من أولئك فإنَّ صاحبه محدَّد المعالم، محدَّد الصفة والاسم، والجارية موجودة وثمنها محدَّد سلفاً، لا يمكن أن ينخرم من ذلك شيء، إنَّه عمر بن يزيد النخّاس.
عند ارتفاع الشمس، أخرج عمر بن يزيد النخّاس تلك الجارية من الخباء وأوقفها على الدكّة أمام الجميع، وهي في أشدّ الضيق والألم، وكانت تضع برقعاً على وجهها لا يبرز منه إلاَّ عيونها الذابلة من السهر والبكاء وكانت تلبس ثوبين من الحرير يستران بدنها ستراً كاملاً ولكنَّها لم تنسَ أنَّها أميرة فوقفت بعزّة وشموخ ولم تسمح لأيّ شخص بالتقرّب منها أو لمسها أو كشف قناعها ولا الانقياد لمن يحاول لمسها كما يفعل بالجواري والإماء الأخريات، وكانت تدفع بعنف كلّ يد تحاول كشف سترها، ممَّا أغضب عمر بن يزيد النخّاس فقام وضربها بالسوط فعلا صوتها بالبكاء وهي تقول بلغتها الرومية: وا هتك ستراه.
تقدَّم أحد الفتيان من النخّاس وقد أعجبه تمنّعها وعفافها فقال له: قد أعجبتني هذه الجارية كثيراً فعليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني عفافها فيها رغبة.
فقالت له بلغة عربية فصيحة: لو برزت في زيّ سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك.
قال النخّاس (منزعجاً): وما الحيلة ولا بدَّ من بيعك؟
قالت الجارية: وما العجلة ولا بدَّ من مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته.
عندئذٍ تقدَّم بشر بن سليمان إلى عمر بن يزيد وقال له: إنَّ معي كتاباً مختوماً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وبخطّ رومي إلى هذه الجارية، ثمّ سكت قليلاً وقال:
لعلَّ الله يجعلها من نصيبنا.
أثار هذا الكلام اهتمام الجارية، وأخذت تصغي إلى حديث بشر بكلّ مجامعها، وقد أثار اهتمامها إطناب بشر في التحدّث عن مرسله، وعن أخلاقه وكرمه ونبله وسخائه.
لم يجد عمر بن يزيد بدَّاً من الاستماع إليه الذي بادره بالقول: اعط هذا الكتاب لهذه الجارية فإن رضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
أخذ عمر بن يزيد الكتاب بشيء من التردّد ثمّ حزم أمره وسلَّمه لتلك الجارية..
أخذت الجارية كتاب الإمام وفتحته وقرأته، وإذا بالدموع تتساقط كالمطر من عينيها، وأخذ صوتها يعلو بالبكاء الشديد، (إنَّه هو هو)، قالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب.
ثمّ حلفت وأقسمت قسماً قاطعاً أنَّه إن لم يبعها فإنَّها تقتل نفسها ويقع دمها في رقبته وتذهب أمواله هباءً.
انصاع عمر النخّاس لإلحاحها، وبدأ يماكس بشراً في ثمنها حتَّى استقرَّ أخيراً على مقدار ما موجود في الصرَّة الصفراء _ أي المئتين والعشرين ديناراً _.
استوفى عمر بن يزيد النخّاس ثمنها وسلَّمها لبشر..
انصرف بشر وبصحبته الجارية التي تكاد تطير من الفرح، إلى حجرة له في بغداد، وبعدما استقرَّ أخرجت الجارية كتاب الإمام من جيبها وأخذت تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، وهي فرحة أشدّ الفرح، والدموع تتساقط من عينيها كاللؤلؤ.
قال لها بشر متعجّباً: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، اعلم أنّي مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، واُمّي من ولد الحواريين تنتسب إلى وصي المسيح شمعون.
ثمّ أخذت تسرد عليه قصَّتها كما مرَّ بنا في الفصل السابق إلى حين أسرها.(2)
* * *
الفصل الثالث: وأخيراً كان اللقاء
وصلت إلى المحطّة الأخيرة _ بعد تجوال مضن _ وانتقال من بلد إلى بلد، ومن نخّاس إلى نخّاس، وقد لقيت في هذه الرحلة الطويلة القاسية صنوفاً من الأذى والضرّ والامتهان..
لم تستطع مليكة (نرجس) أن تخلد للنوم، ولم يداعب الوسن عينيها، فالفرح قد تملَّكها حتَّى تكاد تطير، لقد تكلَّلت رحلة الدموع والعذاب بما كانت تريده، إنَّه اللقاء والدخول إلى بيت ذلك السيّد ابن السيّدة الفاضلة سيّدة النساء.
لقد رأت مريم العذراء تقف أمام سيّدة النساء كالتلميذ بين يدي أستاذه، فإذا بعظمة مريم تصبح لا شيء أمام فاطمة بنت محمّد، فأصبحت على إدراك أنَّ لهذا البيت بيت محمّد منزلة لا تدانيها أيّ منزلة حتَّى للأنبياء العظماء، وأنَّ أهل هذا البيت يقفون على قمّة العالم.
كانت تتصوَّر أنَّها بعد أيّام ستلتقي وجهاً لوجه بالزوج والحبيب، ذلك الذي طالما التقت به في عالم الرؤيا، وطالما ضمَّت وجهه المشرق بين حنايا قلبها الواله. وكانت تغترف من حوض نوره ما يجعل روحها مشرقة، وتستمدُّ العزيمة والقوّة في مواجهة الخطوب من روحيته، وإلاَّ فكيف أمكنها الصمود أمام تلك الأعاصير والأخطار التي مرَّت بها منذ أسرها؟
كان اللقاء هو الأمل المرجو، والثمرة اليانعة لتضحيتها الجسيمة.
كانت أميرة، فصارت أسيرة..
كانت حرّة فغدت أمَة..
كانت عزيزة، فأصبحت تذلُّ وتهان وتضرب بالسياط من قبل الأجلاف والنخّاسين.
إلاَّ أنَّها بقيت هي هي، ذات الشموخ والإباء، والنفس الكبيرة التي لم تستطع حدّة الأيّام من كسرها، وهي على يقين قاطع أنَّها مسوقة لغاية عظمى، مهمّة كبرى، تتوقَّف عليها حركة التاريخ والأحداث.
وكيف لا تكون كذلك وهي زوج لإمام من بني أحمد سيّد الأصفياء والأنبياء، وكنّة لسيّدة نساء العالمين؟
وهذه المنزلة الرفيعة، لا بدَّ من قربان رفيع.. عليها أن تدفعه بكلّ رضا واستسلام وتسليم..
هذا القربان، هو التنازل عن حرّيتها، التنازل عن عرش مجدها، التنازل عن عضويتها في البيت المالك الروماني.
فعلت ذلك.. تركت كلّ شيء وراءها، أهلها، اُمّها، أباها، جدّها القيصر، قومها، لغتها، حضارتها، مدارج صباها، موضع ولادتها، لأجل هدف آمنت به، إيماناً تملَّك كلّ شيء فيها، فمضت ولم تنظر إلى ورائها أسفة..
من مثلها من النساء (وليس كأميرات) تقدم على مثل هكذا تنازل..
تنازل لمجرَّد حلم أو رؤيا في منام يظنُّ البعض ممَّن غمرتهم المادّة بأكداسها الثقيلة أنَّها عبث ما بعده عبث.
أليس هذا إيمان قوي لا حدود له، وعشق ووله جارف لا تقف أمامه السدود والموانع؟
هذه السيّدة، بحقّ سيّدة ولكن لمن؟
إنَّها سيّدة الإماء، الامرأة التي خلع عليها هذا اللقب سيّد شباب أهل الجنّة الحسن السبط، قبل ولادتها وولادة زوجها أبي محمّد بأكثر من قرنين..
سيّدة الإماء، لا ككلّ الإماء..
فإنَّ من الإماء من لا يرغب فيها حتَّى الكلب الأجرب، لقذارة نفسها وضعتها كإماء بني العبّاس اللائي قضين لياليهنَّ بالخمر والرقص والغناء والفسق والفجور.
إنَّها سيّدة الإماء المؤمنات العابدات الزاهدات..
وهذا اللقب تقرير خفي من السبط الشهيد الزكي، وإشارة إلى تربّعها ذلك بجدارة وبدون استثناء حتَّى على اُمّهات الأئمّة الأطهار، ابتداءً من اُمّ الإمام موسى بن جعفر وانتهاءً باُمّ زوجها أبي محمّد الحسن الزكي العسكري.
كانت تلكم النساء الفضليات سيّدات نساء عصورهنَّ (وهنَّ إماء)، وجميعهنَّ من بنات ذوي الأخطار في أقوامهنَّ، غير أنَّ مليكة تقف على القمّة، وتعلو عليهنَّ..
إنَّها أمَةٌ مثلهنَّ، غير أنَّها سيّدتهنَّ.
إنَّهنَّ خيرات جدَّاً، إلاَّ أنَّها خيرتهنَّ.
هي سيّدة حميدة المصفاة، وتكتم، وسمانة المغربية، وحديث وسوسن... الخ.
ولعلَّ من جملة الأسرار في ذلك أنَّها ارتضت بمحض إرادتها التضحية بكلّ شيء، حرّيتها، عزَّتها، مملكتها، قومها، أهلها، ورضيت بالأسر والسبي، لكي تدخل بيت الإمام حتَّى تكون أمَةً مطيعة تحت قدميه..
ومن المحتمل القوي وجود أسرار أعظم لم تنكشف لعقولنا هذه، وما أكثر أسرار الله، وخصوصاً فيما يتعلَّق بأهل هذا البيت، البيت النبوي الطاهر.
وهنا يقف الإنسان متصاغراً أمام هذه العظمة، وهذا الشموخ، وهذه التضحية..
فتاة في الثلاث عشر، نشأت وشبت على عقيدة التثليث، وتجذّر الحقد والبغض للإسلام وبني الإسلام منذ نعومة أظفارها.. تضع على كلّ ذلك علامة الإهمال..
ما أعظمك يا سيّدة الإماء.
ما أكرمك يا زوج الحسن الزكي ابن رسول الله.
ما أرفعك يا اُمّ سيّد الوجود، أمل الإنسانية المرتقب، محطّ قلوب الألوف الألوف الألوف من بني آدم الرازحين تحت سياط الجلاّدين.
ما أزكاك يا اُمّ راية المستضعفين وقامع المستكبرين.
ما أسناك يا مستودع سرّ الله الأعظم.
كانت بين لحظة وأخرى تخرج تلك الرسالة وتنظر فيها، وتقرأها بشغف، تقبّلها، تمسح بها وجهها، عيونها، بدنها..
رسالة لا كالرسائل، وكتاب لا كالكتب.
من أعظم مخلوق على وجه البسيطة وريث سيّد الكائنات، حميها، أبي زوجها.
خرجت القافلة الصغيرة من بغداد متوجّهة إلى سُرَّ من رأى، وكانت السيّدة مليكة (الذي سندعوها بالسيّدة نرجس) في هودج راحلتها.. ومع كلّ خطوة يعلو وجيب قلبها، وكانت تودُّ لو أنَّ لها أجنحة فتطير بها مسرعة للقاء.
وأخذت هذه العبارة (وأخيراً سيكون اللقاء) تقرع رأسها وقلبها بقوّة.
بعد مضي فترة من الزمن، لاحت أسوار سامراء من بعيد للأنظار، وقد أشار بشر بن سليمان بإصبعه وقال: ها هي ذي سُرَّ من رأى، محطّ الرحال، حيث الأمل، حيث الإمام.
دخلت القافلة من أحد أبواب المدينة الذي يطلُّ على طريق بغداد، واخترقت شوارع المدينة وأزقَّتها حتَّى وصلت إلى باب بيت الإمام أبي الحسن الهادي.
أنيخت الجمال، ونزلت ودلفت إلى داخل الدار، وكان كافور الخادم في استقبالهما، حيث أدخل الاثنين على الإمام الهادي فقال لها: كيف أراك الله عزّ الإسلام وذلّ النصرانية وشرف أهل بيت محمّد؟
قالت وهي مطرقة إلى الأرض هيبةً وإجلالاً للإمام: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به منّي؟
قال: فإنّي أريد أن أكرمك، فأيّما أحبُّ إليك عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟
كان الإمام يعلم أنَّها فوق الدنانير والدراهم والجواهر وكلّ زبارج الحياة، وإنَّما أراد أن يبيّن فضلها أمام الأجيال، ولاسيّما أنَّها تنال حرّيتها مع مبلغ يعتبر ثروة طائلة آنذاك.
قالت: بل البشرى..
قال: فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
قالت: ممَّن؟
قال: ممَّن خطبك رسول الله في ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية؟
قالت: من المسيح ووصيّه.
قال: فمن زوَّجك المسيح ووصيّه؟
قالت: من ابنك أبي محمّد.
قال: فهل تعرفينه؟
قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إيّاي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيّدة النساء اُمّه.
عندئذٍ نادى الإمام خادمه كافور: يا كافور ادعُ لي أختي حكيمة.
فلمَّا دخلت عليه قال: ها هيه.
فاعتنقتها السيّدة حكيمة طويلاً وسرَّت بها، وأخذت تقبّلها بشغف، وكأنَّها بانتظارها منذ أمد بعيد لما سمعت عنها من أبيها الجواد وأخيها الهادي.
قال لها الإمام: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فإنَّها زوجة أبي محمّد واُمّ القائم.
أخذت السيّدة حكيمة بيد السيّدة نرجس بحنان وانصرفتا إلى منزلها، لتكون ابنة مطيعة لها.
فقد غمرها الله بنعمة كبرى إذ قيَّض لها هذه السيّدة الفاضلة بنت الإمام وأخت الإمام وعمّة الإمام لتكون أستاذة مربّية لها، بدلاً من أولئك القساوسة الذين يخطأون في كلّ يوم في الحساب، فيجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً، في عملية حسابية داخ أحدث الكومبيوترات في حلّها.(3)
والسيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد سيّدة نساء عصرها، أدباً وكمالاً وخلقاً وعفّةً وعلماً، وكيف لا تكون كذلك وأبوها الإمام المعجزة الذي أعجز العقول والنفوس في عصره أن يبلغوا شأوه، أو يصلوا إلى أدنى مراقيه؟
هذه السيّدة خرّيجة مدرسة أبيها وأخيها، وهي من ذلك الأصل الهاشمي الرفيع الذي قصرت العقول والنفوس والأنظار للتطاول إليه.
فهم أحكم الناس صغاراً وحججاً على العباد كباراً.
إذن، دخلت هذه السبية إلى مدرسة الإمامة، لتنهل من علومها، ولتأخذ من فيض أخلاقها وأدبها وكمالها، ومن أجدر من كون السيّدة حكيمة هي المعلّمة وهي المربّية لاُمّ منقذ البشرية؟
لله درّك يا سيّدتي يا اُمّ الإمام، لقد نلت ما لم ينله غيرك، وصعدت إلى قمّة العالم لتنظري إلى نسائه ورجاله في شرقه وغربه، بشموخ وعزّة، فترينهنَّ أقزاماً صغاراً بالرغم من عظمة الكثير منهم.
في هذه المدرسة تقابلت السيّدتان..
هذه سيّدة نساء عصرها، وهذه سيّدة الإماء..
معادلة ما مثلها معادلة، الأستاذة والتلميذة سيّدتان، ما أكرمهما من سيّدتين على الله.
إحداهما ستحمل خاتم الأوصياء في بطنها في سرّ مسرور، فيما بعد.
والأخرى ستضعه على كفّيها مشرقاً بالأنوار ومحاطاً بالتسبيح والتهليل.
استسلمت السيّدة نرجس لقدرها المرسوم، فعليها الارتقاء في سلّم المعرفة والإيمان والسلوك لكي تكون أهلاً للمشاهدة وللقاء الحبيب.
عليها التخلّص من أدران التثليث، وما علق في ذهنها من لعنة الناموس، وفرية الصلب والفداء، ومعادلة الثلاثة في واحد وواحد في الثلاثة، لتتلقّى أنوار الحقيقة الإلهية العظمى.
الهوامش:
(1) (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: 23).
(2) كمال الدين: 418 - 420/ باب 41/ ح 1، بتصرّف.
(3) يقصد عقيدة التثليث المسيحية.
******************
فأمامها مهمّة جسيمة عظيمة، وهذه تقتضي تخلية القلب ممَّا علق به، وغسله من تلكم الأدران، ومن أجدر من القرآن الوحي الإلهي الخالد بذلك؟
ومن هو الذي يعلمه ويغسل بنوره القلوب المتربة؟
أليس هم أهل الذكر الذي نزل الكتاب في أبياتهم؟
أليست السيّدة حكيمة بنت أهل الذكر، أهل القرآن، أهل البيت؟
لذا شمَّرت السيّدتان عن ساعد الجدّ..
السيّدة حكيمة للتعليم والتأديب..
السيّدة نرجس للتعلّم والتأدّب والسلوك.
وهكذا كان، وهكذا جرى، لا بدَّ لكلّ شيء من مقدّمة، ومقدّمة مهمّتها الإلهية الكبرى أن تتفاعل مع الأطروحة الإلهية الكبرى، أن تعرفها وأن تؤمن بها، وأن تسلكها وتمارسها ليلاً ونهاراً.
عليها التخلّي عن كلّ ما يشدّها إلى أدران المادّة الثقيلة.
نعم إنَّها تعشق زوجها الإمام، ومن حقّها ذلك، فليس كلّ معشوق معشوق كأبي محمّد، وليس كلّ قلب مثل قلب الإمام، فهو موضع الحبّ الإلهي، الرضا الإلهي، لكي تحوز رضا ذلك القلب، عليها أن تطهّر عندها القلب.
لقد اجتازت السيّدة نرجس جميع الجسور، وعبرت أغلب القناطر، لكن بقيت قنطرة واحدة للعبور لأبي محمّد، إنَّها قنطرة المعرفة والسلوك..
صحيح أنَّها ذابت في أبي محمّد ذوباناً إلى حدّ التلاشي أو وصلت إلى حالة (النرفانا) حسب التعبير الهندي، إلاَّ أنَّها في نفس الوقت عرفت أنَّها لم تكن مؤهّلة للقاء المرتقب، إذ عليها عبور قنطرة المعرفة، وهذه المعرفة لا تأتي من فراغ، فلا بدَّ من أداة الوصول إليها، وهي معرفة ليست كأيّ معرفة، إنَّها معرفة تقترب من (العلم اللدنّي)، وليست هذه ميسَّرة عند كلّ إنسان، وإنَّما توجد فقط في البيت النبوي، بيت الإمام عند السيّدة الفاضلة حكيمة.
وهكذا تفاعلت السيّدتان..
سليلة النبوّة والإمامة..
سليلة حواري المسيح عيسى، شمعون المتحدّر من داود خليفة الله (في زمانه).
فأصبحت الأولى الاُمّ الرؤوم، المعلّمة، المؤدّبة.
وأصبحت الثانية البنت المطيعة، التلميذة النجيبة.
أخذت السيّدة نرجس تتلقَّف المعارف الإلهية بسرعة، وتتفاعل معها وبدأت الصعود في قوس الصعود الإلهي فتخلَّت وتحلَّت.
تخلَّت عن أدران المادّة، شهوات الدنيا، وكلّ ما يشدّها إلى التراب.
وتحلَّت بما يرفعها، المعرفة، السلوك، الأخلاق، الحبّ لله، الحبّ لوليّ الله.
وارتفعت وارتفعت حتَّى وصلت مرتبة التجلّي، مرحلة الشهود، مرحلة الكشف.
عندئذٍ أصبحت جديرة بسيّدها وجديرة باللقاء، وجديرة بأن تكون وعاءً للإمامة.
عبرت إذن قنطرة المعرفة، واجتازت العقبة الكأداء، وأصبحت في درجة القبول عند الإمام المعصوم.
جاء أبو محمّد إلى بيت عمَّته السيّدة الفاضلة لزيارتها ظاهراً، إلاَّ أنَّ الغرض الأساس يكمن في ماهية السيّدة نرجس، وهذه الزيارة بتوجيه الإمام الهادي أبيه.
أخذ يحدق النظر إلى السيّدة نرجس بصورة تجلب الاهتمام، لاحظت عمَّته ذلك فقال له:
يا سيّدي لعلَّك هويتها فأرسلها إليك؟
لم يدر في ذهن السيّدة الفاضلة حكيمة أيّ شيء خارج الطهر والعفاف والنقاء، بالنسبة لنظر ابن أخيها لنرجس (فهي تعلم أنَّها زوجته)، وهي تعلم أنَّه إمام معصوم غير أنَّه صامت ما دام أبوه موجوداً فكانت تناديه بـ (يا سيّدي). وكذلك تعرف السيّدة حكيمة أنَّ بقاء السيّدة نرجس عندها وقتي، لأنَّ أخاها طلب تأديبها وتعليمها، وأخبرها أنَّها زوج أبي محمّد ابنه، وأنَّها اُمّ مهدي هذه الأمّة.
إذن فقد عرفت بحصافتها وشدّة ذكائها أنَّ السيّدة نرجس قد اجتازت مرحلة التعليم، وأنَّها بصدد العودة إلى بيت بعلها.
ولكي ينفي الإمام أبو محمّد أيّ تلميح لأيّ نزوع جنسي ردَّ قائلاً: لا يا عمّة ولكنَّني أتعجَّب منها.
قالت: وما أعجبك فيها؟
فقال: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وهذه إشارة خفيّة من الإمام لإرسالها إلى بيت زوجها.
قالت: فأرسلها إليك يا سيّدي؟
فقال: استأذني في ذلك أبي.
لبست السيّدة حكيمة ثيابها وذهبت إلى منزل أخيها أبي الحسن فسلَّمت عليه وجلست عنده فابتدأها بقوله: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد..
قالت: يا سيّدي على هذا قصدتك، عليَّ أن أستأذنك في ذلك.
فقال لها: _ يا مباركة _ إنَّ الله تبارك وتعالى أحبَّ أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا.(1)
وهكذا تحقَّق اللقاء المقدَّس..
ودخلت سيّدة الإماء إلى بيت سيّد الأصفياء..
* * *
الفصل الرابع: ولادة المؤمَّل
رحل الإمام الهادي علي بن محمّد إلى جوار ربّه، كما رحل آباؤه من قبل بالسُمّ، والسُمّ هو السلاح الوضيع الذي يلجأ إليه الطغاة للتخلّص من خصومهم السياسيين حين تعييهم السبل لاحتوائهم.
وبنو العبّاس طغاة من غير هراء، وليسوا بدعاً عن غيرهم من الحكّام الذي قفزوا إلى كرسي الحكم بالسيف أو بالدجل، ومشكلة الحكم عند أغلب الناس قديماً وحديثاً، أنَّه غاية لا وسيلة، وهو الوثن الذي يعيده الطامحون. لذا نجد أنَّ (الطامحين) يلجأون دائماً إلى كلّ وسيلة نظيفة أو غير نظيفة لإشباع هذه الرغبة المحمومة. ومن الوسائل التي يلجأون إليها جنباً بجنب العنف والقتل وسفك الدماء، إيجاد طبقة معيّنة يقال لهم: (العلماء، أو رجال الدين). وهؤلاء أشبه ما يكونون بالتجّار أو النخّاسين فقد أوقفوا علمهم وضمائرهم على دكّة النخاسة لمن يدفع أكثر. وبما أنَّ العلاقة بين الطرفين علاقة نفعية تبادلية، لذا يلجأ هؤلاء باستمداد مقوّمات وجودهم من الحكّام مقابل تطويع نصوص الشريعة أو الدين أو تحويل الدين الذي جاء به الأنبياء إلى دين مقنَّن خادم لتطلّعات الحكّام.
وهؤلاء الوعّاظ موجودون في كلّ أمّة، وهم اليد الطولى للفراعنة والطواغيت، فهم يفصلون شرع الله على مقاسات الحكّام الذين يشبعون جيوبهم وكروشهم، فتصدر الفرمانات والإعلانات وتستمطر اللعنات على من يخرج على الحاكم حتَّى لو أخذ مالك أو جلد ظهرك (أو سرق ابنتك)، لأنَّ الخروج على الحاكم الذي صار هكذا بإرادة الله ومشيئته مروقٌ من قدر الله وهو بمثابة الكفر.
وهؤلاء الوعّاظ لا يدينون الحاكم الجائر لجوره، فظلمه وجوره قدر مقدور، وإنَّما يدينون المحكومين إن قالوا: لا، أو تهامسوا فيما بينهم بشأنه، لأنَّ المحكومين بايعوه، والذي يخلع ربقة الإمام فكأنَّما خلع ربقة الإسلام من رقبته، ولا ينبغي للمسلم أن يبيت في فراشه ليلة وإلاَّ وفي عنقه بيعة لحاكم أو إمام زمانه، كما ورد في مصادرهم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(2).
وتطبيقاً للحديث هذا فإنَّنا نجد مثلاً أنَّ ابن عمر يزحف للحجّاج ذلك الطاغوت الأسود، حتَّى يبايعه باعتباره نائب الخليفة القابع في دمشق، وبما أنَّ الحجّاج يعرف حجم ابن عمر فإنَّه أبرز له رجله من تحت الغطاء وطلب منه أن يمسح بيده عليها، وهكذا أبرأ ابن عمر ذمَّته ولم ينم تلك الليلة وإلاَّ وبيعة رجل الحجّاج عبد ثقيف في رقبته.
ولم يعلم هؤلاء الوعّاظ أنَّ هكذا بيعة هي ميتة جاهلية لا غير.
هذا وغيره هم الذي طمسوا الجانب المشرق من الإسلام الذي قام بصورة أساسية على العدل والإنصاف وأفرغوا الدين من محتواه الرئيس، وقلبوا المعادلة فأصبحت _ من هذا الدين المدجن _ طلب العدالة والإنصاف من المحكومين اتّجاه الحكّام، فلا ينبغي أن يظلموهم بالخروج عليهم ولو قتلوا ولو نهبوا ولو شربوا الخمر في أقحاف آبائهم.
ولذلك تحوَّل الإسلام إلى مصنع لصنع الطغاة، والدليل على ذلك ما تقرأه وتطالعه في صفحات التاريخ القديم والحديث من مآس وكوارث لحقت بالناس من جراء هكذا مقولات تخريبية، انهزامية ذات صفة تخديرية للجماهير المستضعفة.
وأصبحت الجهة المقابلة والمناوئة للحكّام المستبدّين، مارقة، خارجة، باغية، رافضة، لا ينبغي أن تكتب في ديوان الإسلام (الرسمي) الواسع.
وزاد الطين بلَّة أن تلكم الفرمانات والإعلانات انتقلت إلى صفحات التاريخ على أنَّها جزءٌ من العقيدة.
وساهم في تأصيل ذلك كتبة التاريخ (الفريسيون) الذين استمطروا اللذات على مناوئي الحكّام وانتزعوا مفاتيح الجنان والنيران من أيدي الملائكة، فأخذوا يدخلون من يشاؤون الجنان، ويركلون المعارضين في أقفائهم إلى طبقات النيران السبعة.
وهكذا قتل الإمام العاشر كما قتل آباؤه (في صمت ودون ضجَّة) والسلاح هو السُمّ، وقتل أبوه محمّد التقي بضجّة صغيرة من أحد فريسي البلاط العبّاسي وذلك بتحريض طاغوت عصره عليه وبالسُمّ أيضاً وبيد زوجه بنت المأمون شقيقة جعدة بنت الأشعث في مأساة ترقى إلى مأساة جدّه الحسين حيث ترك فوق سطح داره يتضوَّر من السُم والعطش حتَّى قضى.
لقد قتلت فتوى شريح الحسين ووضعت السيف بيد ابن مرجانة، ورفع راية الجيش الزاحف إليه في الطفّ في الألوف المؤلَّفة ابن صحابي جليل الذي يهتف: لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية، وكان إلى جانبه صحابي جليل هو أنس بن مالك.
وعليه فقد قتل الآلاف من الأبرياء بفتاوى فريسي البلاط الأموي والبلاط العبّاسي، وكانت المنظومة القرشية ذات الحقد التاريخي على محمّد وورثته، تمثّل في كلّ عصر هيرودس يقتل يحيى بن زكريا من آل محمّد، فكان الإمام الهادي يحيى زمانه، سوى أنَّه ما حمل رأسه إلى طاغوت زمانه.
استلم مهامه ولده الزكي الحسن، وهو الإمام الحادي عشر ضمن منظومة الأئمّة الاثني عشر المبشَّر بهم.
وهذه المنظومة في طريقها إلى الاكتمال، ولم يبقَ لاحتلال منصب الثاني عشر إلاَّ شخص واحد ما زال في المغيب ولا بدَّ من حضوره.
لم تكن منظومة الخلفاء الاثني عشر جديدة على الدين الخاتم، فإنَّ الأديان التي سبقته ترتكز على الأعمدة الاثني عشر أيضاً، وهذا الرقم سرّ إلهي، وطلسم مغلق، وهو مفتاح الكون، وما أكثر أسرار الله التي لم تستطع العقول والأفهام _ ولو عظمت _ من استكناه مضامينها أو الوصول إلى قراراتها السحيقة.
وأقرب ما توصَّلت إليه عقولنا القاصرة أنَّ الكون يرتكز على نظام الاثني عشر، فأبراج السماء اثنا عشر، وعدد شهور السنة اثنا عشر، وعدد ساعات النهار والليل أربع وعشرون، وتقسيمات الساعة من مضاعفات العدد اثني عشر.
وحتَّى خطوط الطول والعرض الوهمية التي قسّمت بها الأرض تقوم على عدد الاثني عشر ومضاعفاته.
فكما أنَّ مفتاح القرآن الكريم هو العدد تسعة عشر، فإنَّ مفتاح الكون يرتكز على العدد اثني عشر، ويبرز هذا جلياً في الأديان السماوية كلّها.
فأبناء إسماعيل الذبيح ابن إبراهيم اثنا عشر: (بنايوت، قيدار، دومه، مسمه، حدار، قدمه...).
وأسباط يعقوب نبيّ الله اثنا عشر: (راؤوبين، يهوذا، لاوي، يوسف، بنيامين، دان...).
ونقباء بني إسرائيل الذين انتخبهم موسى بأمر ربّه أيضاً اثنا عشر: (يشوع بن نون، العازر بن هارون، كالب بن يوفن...).
وحواري المسيح وتلامذته أيضاً اثنا عشر: (برنابا، بطرس، شمعون، يعقوب، يوحنّا...).
وعليه فإنَّ هذا العدد ناموس إلهي لتطبيق الشرائع حسب التخطيط الإلهي، والإسلام غير منفرد ولا مفترق عنها، بل هو بأشدّ الحاجة إلى هذه المنظومة، لكونه خاتم الشرائع والناسخ لها، وهو الدين الخالد إلى يوم القيامة، وبرسوله ختمت رسالات السماء وانقطع الوحي الإلهي.
(لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش..
لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش..
لا يزال الدين قائماً حتَّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش..)(3).
(يكونون عدّة نقباء موسى، اثني عشر نقيباً)(4).
وهكذا تقرع هذه النصوص رؤوس المسلمين في كلّ عصر وزمان، وهي صريحة وقويّة لا يجد المرء مناصاً من الإذعان إليها، بل إنَّ هذه المنظومة قد بشَّر بها إبراهيم حينما رفع يديه بضراعة يدعو لابنه الرضيع (إسماعيل) الذي تركه واُمّه في تلك الفلاة الموحشة والوادي المقفر:
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) (إبراهيم: 37).
فكان الردّ الإلهي:
(وأمَّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جدَّ(5)، اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أمّة كبيرة)(6).
وقد ظهر الأئمّة المذكورون الواحد تلو الآخر، طرحوا أنفسهم أمام الآخرين، وكانوا واضحين وضوح الشمس من خلال سلوكهم وعلومهم، بالرغم من وجود أعدائهم القرشيين، فلم يستطع أيّ امرئ سواء من الموالين أو المناولين إثبات أيّ شيء قد يطيح بمصداقيتهم، بل أرغموا حتَّى أعداءهم على الاعتراف الصريح بخلافتهم لرسول الله، وإلاَّ فإنّي أتحدّى أيّ باحث أو كاتب من أيّ ملّة كان أن يثبت أنَّ أحداً من الأئمّة كان يتعلَّم أو يدرس عند أحد العلماء سوى أنَّه يتعلَّم عند الإمام الذي يسبقه!
وكذلك أتحدّى من يثبت أيّ تناقض أو تضادّ بين طروحات وأفكار وفتاوى الأئمّة الاثني عشر. في حين أنَّ علماء المذاهب الأخرى يتناقضون فيما بينهم وحتَّى بين علماء المذهب الواحد.
وهذا ممَّا يدلّل عن أنَّهم هم المقصودون بالأحاديث المذكورة، إضافة إلى حديث الثقلين المتواتر والمتَّفق عليه بين الطرفين.
إلاَّ أنَّ التحريفية القرشية حاولت النيل منهم عن طريق آخر، وهو محاولتها تحريف مفهوم الاثني عشر أو تطبيقه على طواغيتها ومصاصي الدماء، فأصبحت منظومة الاثني عشر تتكوَّن من الخلفاء الأربعة ومن معاوية ويزيد بن معاوية، ومروان وعبد الملك بن مروان... الخ.
وقد أقحم الإمام علي في هذه المنظومة لذر الرماد في العيون، وتلميع صورة هؤلاء، ولخداع الجماهير باعتبار الإمام علي هو الشمس الطالعة بين تلك الثقوب السوداء.
والواقع أنَّ المنظرين لهذه المنظومة القرشية، أصابوا في شيءٍ وأخطأوا في شيء..
أصابوا في جعل الإمامة في هؤلاء (فهم أئمّة الضلال)..
وأخطأوا في إدخال الإمام علي معهم لأنَّه من أئمّة الهدى، وهذا الخطأ خبيث للتعمية والتغطية عليهم وعلى جرائمهم، والدليل على ذلك أنَّ قضيّة التربيع صنعت في مطبخ البلاط العبّاسي بإيحاء من المتوكّل العبّاسي الناصبي لأحمد بن حنبل.
أي إنَّ الرسول كما أشار إلى أئمّة الهدى الاثني عشر من أهل بيته.. أشار إلى أئمّة الضلال الاثني عشر من بطون قريش، ولكي يتمّ التغطية على فضيحة أئمّة الضلال القرشيين، أدخلوا وأقحموا اسم الإمام علي باعتباره عميد أئمّة الهدى، في منظومة الضلال القرشية حتَّى لا يقول القائل عنهم: إنَّهم أئمّة ضلال.
وبناءً على ذلك صدرت القرارات من البلاط الأموي وبعده البلاط العبّاسي باعتبار هؤلاء هم الاثني عشر الذين بشَّر بهم الرسول (وشطب بالقلم العريض على مفهوم أئمّة الضلال الاثني عشر)، علماً أنَّ (البلاط الأموي أصدر قراراً بسبّ علي على المنابر لمدّة ثمانين سنة). ومن هذه القرارات أنَّ من يعارض التفسير أو التنظير القرشي للمنظومة القرشية يرمى بالمروق من الدين، وتقفل في وجهه أبواب الجنّة الثمانية، ويؤخذ بيديه ورجليه ويرمى في أحد طبقات النار السبعة، ويحرم من صكّ الغفران.
لقد كانت خدعة كبيرة محكمة الخيوط والفصول، ولا زالت مستمرّة بحيث اختلط على أساطين مدرسة الخلفاء، التفريق بين أئمّة الهدى وأئمّة الضلال، نتيجة للدمج بينهما، في منظومة استبدلت كلمة (كلّهم من بني هاشم) بكلمة (كلّهم من قريش).
ولأجل ذلك أصبح العقل العربي أعرجاً ويمشي على رأسه بالمقلوب، وينظر إلى العالم والتاريخ بالمقلوب، ولا يرتجى أنَّه في يوم من الأيّام أن يمشي على قدميه كالأسوياء، إلاَّ في حالة رفض المؤامرة القرشية القديمة.
فهو من جهة يرفض القول بعصمة اثني عشر شخصاً من بيت رسول الله الذين تربّوا في حضن رسول الله رفضاً قاطعاً ويصم المعتقد والقائل بها بالمتخلّف أو الجاهل، ومن جهة أخرى يعتقد بعصمة مائة وعشرين ألف صحابي بمجرَّد الصحبة البسيطة والنظر البسيط لرسول الله، ويعتبر الرافض لهذا الطرح مارقاً من الدين مروق السهم من الرمية.
هذه العقلية المقلوبة ذات البعد الشيطاني، كانت الأساس لتفعيل ناموس الابتلاء، وناموس الابتلاء ناموس صارم لا يرحم، يتعلَّق فيما يتعلَّق بتصرّف الإنسان من حيث العقيدة والسلوك.
وبما أنَّ العقلية العربية هي كما أشرت فقد ضربهم ناموس الابتلاء الإلهي، فسلَّط أراذل الخلق وجبناء الإنسانية اليهود ذوي القلوب المنخلعة الخائفة من طنين الذباب عليهم ليذلّوهم ويستولون على ديارهم.
وقد يقول القائل: إنَّ قريشاً قد تفكَّكت على مرّ التاريخ، وسقطت الخلافة القرشية منذ قرون وألغي منصب أو لقب أمير المؤمنين من الحكّام، فأنت تنفخ في رماد التاريخ.
صحيح أنَّ قريشاً تفكَّكت، ولم يبقَ من بطونها وأفخاذها إلاَّ أفخاذ بني هاشم وبني أميّة وبعض البيوت القرشية هنا وهناك.
وصحيح أنَّ بني هاشم أنفسهم قد تفكَّكوا إلى الفخذين..
الطالبيين من علويين وجعفريين وعقيليين..
وعبّاسيين التحقوا منذ عهد أبي جعفر الدوانيقي بالشجرة الملعونة وتعلَّقوا بأغصانها.
إلاَّ أنَّ فكر قريش وسلوكها ما زال حيّاً يمشي على الأرض، فأنت ترى في صور الذبّاحين الذين يرفعون رؤوس ضحاياهم أمام شاشات التلفاز هاتفين: الله أكبر، صور أبي سفيان، وأبي جهل، والحكم بن أبي العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية، وغيرهم.
إنَّ قريشاً حاربت محمّداً حرباً ضروساً وأرادت اجتثاثه، وتآمرت على قتله مرَّات ومرَّات، حينما كانت مشركة وحينما صارت مسلمة في الظاهر، وقد نجحوا بعد رزية الخميس من دسّ السُمّ له وهو مغمى عليه فالتحق بالرفيق الأعلى ممنوعاً منعاً قرشياً صارماً من كتابة وصيّته، كأيّ إنسان يكتب وصيَّته لمن بعده، وبذلك خرج رسول الله عن إجماع المسلمين على الوصيّة، فالوصيّة واجبة على كلّ المسلمين ما عدا النبيّ، لأنَّه حسب المنطوق القرشي يهجر وحسبهم كتاب الله.
أرأيت كيف تحكَّم الاجتهاد القرشي بالنصّ القرآني والنصّ النبوي؟
وقريش تكره محمّداً، وتضمر السوء له ولذويه، وخصوصاً أنَّه قد فتك بالرؤوس الكبيرة منها، والعربي البدوي لا ينام على الثأر ولو بعد قرون، ولهذا أعدَّت العدّة لأخذ الثأر من محمّد وورثته.
أليس فاطمة بنت محمّد وزوجها وولدها هم الهدف بعده ولاسيّما أشار إليهم عدّة مرَّات أنَّهم أهل بيته؟
وهكذا قتلت قريش فاطمة، واستلبت الكرسي والأرض والأملاك من علي وفاطمة، ووضعت علياً تحت الإقامة الجبرية يضرب الأرض الجرداء بمسحاته لمدّة خمس وعشرين سنة تقريباً وحاربته ثلاث مرَّات في الجمل وصفّين والنهروان، وأخيراً وضعت السيف الغادر بيد الخارجي ابن ملجم ليضربه في محراب صلاته، وبعدها تتنفَّس الصعداء وتقول وهي ساجدة:
فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
وقريش قتلت سبط محمّد الأكبر الحسن بالسُمّ..
وقريش قتلت السبط الثاني لمحمّد الحسين مع أولاده وإخوته وبني عمومته وأصحابه بالسيف في مجزرة مروعة ما زال صداها مدوياً إلى الآن وسيبقى إلى يوم القيامة.
وقريش قتلت أولاد علي وفاطمة في مجازر علنية وأخرى سرّية.
قريش لم تمت، وهي سائرة في غيّها وعدوانها، وستلتحق بالسفياني أوّلاً (أو بالأصحّ ستصنع السفياني)، وحينما يسقط رأس السفياني ستتحالف مع اليهود والبغايا لتلتحق بالدجّال ثانياً حقداً على المنهج النبوي المتمثّل بالمهدي.
لكن الوعد الإلهي يبقى هو هو، والأطروحة الإلهية هي هي، باقية خالدة، تنتظر اليد الرحيمة التي تقبض على السيف من غير ارتعاش:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...) (النور: 55).
إذن لا بدَّ من قدوم الثاني عشر، (من أئمّة الهدى)، حتم مقضي، ووعد إلهي، شاء طواغيت بني العبّاس القرشيين عدم ذلك، تآمروا، وتحايلوا، ووضعوا كلّ إمكانياتهم المادّية والمعنوية إنَّهم يعرفون أنَّهم جاؤوا إلى كرسي الحكم بالخديعة والسيف والسُمّ، ويعرفون أنَّ خديعتهم لا تبقى طويلاً منطلية على الجماهير بالرغم من تنظيرات وعّاظ السلاطين، وتشجيع تأسيس المذاهب مقابل مدرسة أهل البيت، وبالرغم من ادّعاء البعض منهم الإيمان والتقوى والجلوس إلى بعض الوعّاظ في مسرحيات بائسة، راسلة قطرات من الدموع لغرض الدعاية والنشر والإعلان، فإنَّ هذا الكرسي الملطَّخ بدماء الصفوة من آل محمّد سيؤخذ منهم، فيرجعون كالسابق شحّاذين يدورون في القرى والأرياف يتحدَّثون بفضائل علي وآل علي(7).
وهم يعلمون بالمنظومة الإلهية، وأنَّها من اثني عشر عموداً، وها هو ذا العمود الحادي عشر ماثل أمامهم حيّاً تحت الإقامة الجبرية، وقد تخلَّصوا من أبيه، فلكي لا يأتي الثاني عشر الموعود الذي يلقي الرعب في قلوبهم ولكي لا تقع الكارثة الموعودة، لا بدَّ من عزله أوّلاً عن نسائه، بالسجن بين فترة وأخرى أو زرع جواسيس وجاسوسات داخل بيته.
لقد سلَّطوا الأضواء الكاشفة على الإمام، وأحصوا عليه أنفاسه، وحجزوه عدّة مرَّات، وأرسلوا قوابلهم لتفتيش نسائه بين الحين والآخر، إنَّه يمكرون، وإنَّ مكرهم لتزول منه الجبال، إلاَّ أنَّ مكر الله أقوى وأشدّ.
(... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (الأنفال: 30).
فحمل بالإمام الثاني عشر، وهو في قرار السيّدة الزكية النقية التقية نرجس..
لكن بأيّ كيفية؟
هنا يدخل المكر الإلهي، والتدبير الإلهي، بل المعجز الإلهي، فهو تدبير مشابه لتدبير اُمّ موسى الكليم.
كلتاهما لم يبن حملها أمام البشر، وهذا معجز إلهي، إذ أنَّ المرأة الحبلى يتبيَّن حملها أمام الأنظار بعد أشهر قلائل، إلاَّ هاتان المرأتان..
موسى الكليم في بطن يوكابد.
محمّد المهدي في بطن نرجس.
وكلّ منهما صفع طاغوت عصره بذلك المكر الإلهي.
أسدل الحجاب على عيون جواسيس الطواغيت، لم يعرفوا أيّ شيء، وحتَّى جواسيس البلاط العبّاسي من النساء ضرب عليهنَّ فلم يعرفن أيّ شيء عن حالة السيّدة نرجس، بل إنَّ السيّدة نرجس نفسها لم تعرف بحالها كما سنرى فيما بعد.
جاء اليوم الموعود، والفجر المشهود، فجر الخامس عشر من شعبان المقدَّس.
دعوة سرّية وجّهت من أبي المولود المرتقب إلى عمَّته السيّدة الطاهرة حكيمة، وهذه السيّدة لم تقطع زياراتها المتكرّرة لابن أخيها بعد رحيل أبيه الإمام الشهيد، فهي تأتي إليه كلَّما شعرت بنضوبٍ روحي لتتزوَّد من فيضه.
كانت السيّدة نرجس في استقبال سيّدتها، أستاذتها، مربّيتها واُمّها الروحية وأرادت أن تخلع نعليها فقالت بأدب جمّ: يا مولاتي ناوليني خفّك!
قالت السيّدة حكيمة بكلّ حبّ واحترام لاُمّ الإمام المرتقب: بل أنت سيّدتي ومولاتي، والله لا أدفع إليك خفّي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري.
أجابتها السيّدة باستحياء: ما هذا يا عمّة؟
سمع الإمام أبو محمّد قول عمَّته فقال: جزاك الله يا عمَّة خيراً.
جلست عنده تقتبس من نوره وتتزوَّد من فيضه، إلى وقت غروب الشمس، حتَّى موعد إفطارها، حينئذٍ صاحت بإحدى الجواري الموجودات في المنزل: ناوليني ثيابي لأنصرف..
قال الإمام: لا يا عمَّة بيتي الليلة عندنا، فإنَّه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عز وجل الذي يحيي به الله الأرض بعد موتها.
فقالت (بدهشة): ممَّن يا سيّدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟
فقال: من نرجس لا من غيرها..
فقامت إلى السيّدة نرجس وأخذت تقلّبها وتفحصها فحصاً دقيقاً، ظهراً لبطن فلم ترَ بها أثر حبل.
فعادت إليه فأخبرته بما فعلته.
فتبسَّم الإمام ثمّ قال لها: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأنَّ مثلها مثل اُمّ موسى لم يظهر بها حبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأنَّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى، وهذا نظير موسى.
الهوامش:
(1) كمال الدين: 426 و427/ باب 42/ ح 2، بتصرّف.
(2) صحيح مسلم 6: 22؛ سنن البيهقي 8 : 156؛ مجمع الزوائد 5: 218.
(3) أنظر: صحيح مسلم 6: 3 و4.
(4) معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) 2: 261، نقلاً عن المطالب العالية 2: 197/ ح 2040.
(5) كثيراً جدَّاً (هي محمّد) حرَّفها كتبة التوراة ومترجموها.
(6) بشائر الإسلام: 52، نقلاً عن العهد القديم سفر التكوين: 17 - 20؛ تفسير الميزان 7: 222.
(7) كما كان حال أبي جعفر الدوانيقي في حكومة بني مروان.
******************
فعادت السيّدة حكيمة إلى السيّدة نرجس فأخبرتها بقول الإمام وسألتها عن حالها ووضعها فقالت لها: يا مولاتي ما أرى شيئاً من ذلك.
مكثت السيّدة حكيمة في منزل ابن أخيها، وقد أفطرت من صيامها عند إقبال الليل، وهي متشوّقة لمعرفة ما يحصل، وأخذت تراقب زوجة ابن أخيها إلى طلوع الفجر، وهي نائمة بين يديها لا تتحرَّك، حتَّى إذا كان آخر الليل قامت السيّدتان لأداء نافلة صلاة الليل والأوراد المصاحبة لها، ثمّ رقدت السيّدة نرجس وبقيت السيّدة حكيمة تقرأ القرآن، وبعض الأدعية، وقد تردَّد في نفسها عدم حصول ذلك بالرغم من اقتراب وقت الفجر، فناداها ابن أخيها من داخل غرفته: لا تعجلي يا عمَّة.
شعرت السيّدة حكيمة بالخجل فأقبلت على الاستغفار وقراءة القرآن وتلاوة الأدعية، حتَّى إذا كان آخر وقت طلوع الفجر، وثبت السيّدة نرجس فزعة وقد شعرت بحركة الجنين في أحشائها، فأخذت السيّدة حكيمة السيّدة نرجس إلى صدرها وسمَّت عليها، فصاح بها أبو محمّد من محراب صلاته: اقرئي عليها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
فأقبلت تقرأ عليها كما أمرها الإمام ثمّ سألتها قائلة: ما حالك؟
قالت السيّدة نرجس: ظهر الأمر الذي أخبرك به مولاي.
ثمّ عادت وقرأت عليها سورة القدر، فإذا بالجنين يرد عليها من بطن اُمّه، ويقرأ مثلما تقرأ ثمّ سلَّم عليها، فزعت السيّدة حكيمة لما سمعت (وهالها الأمر) فصاح بها أبو محمّد: لا تعجبي من أمر الله عز وجل، إنَّ الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حججاً في أرضه كباراً.
بعد لحظات سمعت السيّدة حكيمة أصوات التسبيح والتهليل ثمّ ظهر نور عظيم يغشي الأبصار، وغابت السيّدة نرجس عن ناظريها. وضرب بينهما بحجاب، خافت وعدت إلى الإمام أبي محمّد صارخة خائفة قال: ارجعي يا عمَّة فإنَّك تجدينها في مكانها.
رجعت إليها، فبدأ الحجاب يرتفع شيئاً فشيئاً، فإذا بالسيّدة نرجس محاطة بهالة من النور ما يغشي الأبصار، ويعمي الأنظار، وإذا بها ترى طفلاً ساجداً لوجهه جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبابته إلى السماء وهو يقول:
أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأنَّ جدّي محمّداً رسول الله وأنَّ أبي (علياً) أمير المؤمنين، ثمّ أخذ يعدّ الأئمّة واحداً واحداً إلى أن وصل إلى نفسه.
ثمّ قال: اللّهمّ أنجر لي ما وعدتني وأتمم عليَّ أمري وثبّت وطأتي واملأ بي الأرض عدلاً وقسطاً، ثمّ عطس فحمد الله وقال: زعمت الظلمة أنَّ حجّة الله داحضة ولو أذن لنا بالكلام لزال الشكّ.
أخذته السيّدة حكيمة وضمَّته إلى صدرها وقبَّلته، فشمَّت منه رائحة زكية عطرة، ووجدته نظيفاً متنظّفاً، فصاح الإمام أبو محمّد: هلمّي إليَّ ابني يا عمَّة.
فجاءت به إليه تحمله فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ثمّ أدلى لسانه في فيه، ومسح بيده على عينيه وسمعه ومفاصله ثمّ قال مخاطباً ذلك الطفل الوليد: تكلَّم يا بني!
فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
ثمّ أخذ يصلّي على رسول الله والأئمّة من بعده من أمير المؤمنين إلى أن وصل إلى أبيه ثمّ سكت.
ثمّ قال الإمام أبو محمّد مخاطباً السيّدة حكيمة: يا عمَّة اذهبي إلى اُمّه ليسلّم عليها (ولترضعه من صدرها) ثمّ ائتيني به.
فذهبت به إلى اُمّه فسلَّم عليها وأرضعته من صدرها، ومن ثَمَّ وضعته أمام أبيه فقال أبو محمّد:
يا عمَّة إذا كان السابع فائتينا.
ذهبت السيّدة حكية إلى دارها، إلاَّ أنَّ تلك الصورة العظيمة لم تفارق عقلها وروحها، وكانت شديدة الشوق لرؤية ذلك المولود المبارك، خاتم الأوصياء، وتاج الأولياء، وسلالة الأنبياء.
وفي اليوم السابع من الولادة المباركة ذهبت السيّدة حكيمة إلى منزل ابن أخيها الإمام وسلَّمت عليه وجلست عنده فقال لعمَّته: هلمّي إليَّ بابني.
فجاءت به السيّدة حكيمة إليه ملفوفاً في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل به في المرَّة الأولى وقال له: تكلَّم يا بني.
فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
وبعد ذلك أخذ يصلّي على محمّد وعلي وعلى الأئمّة الطاهرين من آبائه حتَّى وصل إلى أبيه فصلّى وسلَّم عليه ثمّ تلا هذه الآيات:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 و6)(1).
وقال أبو محمّد:
(زعم الظلمة أنَّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، فكيف رأوا قدرة الله).
وسمّى مولوده المبارك: المؤمَّل(2).
* * *
الفصل الخامس: توجيه وتبليغ
إذن فقد جاء المؤمَّل..
انبلج النور الإلهي على البشرية في فجر الخامس عشر من شعبان في منتصف القرن الثالث الهجري، هذا النور يحمل عبق الرسالة المحمّدية العظيمة، والوصاية العلوية الكبرى، والنزوع الفاطمي نحو العدالة.
المؤمَّل لإقامة الأمت والعوج، وإصلاح ما أفسده المستكبرون في حياة البشرية.
مؤمَّل الأنبياء والمرسلين الذي يرفع رايات مظلومياتهم وأهدافهم التي كبتها الظالمون والمنحرفون.
مؤمَّل الشعوب المستضعفة الجائعة العارية التي أتاهها الطغاة في وديان الظلم فلا تعرف أفي ليلٍ هي أم نهار؟
نور مهدى من ذي الجلال للبشرية المعذَّبة، كما كان جدّه الرسول الخاتم، فكان النور الأعظم.
إنَّه النور الذي جاء هابطاً من عالم النور، عالم القدس الإلهي حيث التسبيح والتقديس، ليرتدي ثوب التراب، ولتجري في عروقه دماء سيّد البشرية خاتم الأنبياء، فكان بحقّ مثل جدّه شفّافاً ليس له ظلّ بالرغم من كونه من لحم ودم..
روح عظمى في قالب عظيم..
روح طاهر مطهَّر في هيكل شفّاف كالقوارير.
هو الروح والسرّ، والنور، والمؤمَّل، ذو الطاقات العظيمة، والإمكانات التي لا يعلم بمداها إلاَّ الله فكان مثل جدّيه محمّد وعلي (سرَّاً مغلقاً) لا يستطيع ذوو العقول من اختراق حجبه الشفّافة.
(يا علي ما عرف الله إلاَّ أنا وأنت، وما عرفني إلاَّ الله وأنت، وما عرفك إلاَّ الله وأنا)(3).
الإنسان الذي يقف على قمّة الإنسانية، والذي بحقّ يطلق عليه اسم الإنسان.. أمَّا ما سواه فهم ظلال وأشباح إنسان..
أليس هو الإنسان الذي اصطنعه الربّ لنفسه (كما اصطنع آباءه الطاهرين) فمنَّ به على هذه الإنسانية الغارقة في بحور آلامها وظلماتها وظلاماتها وشرورها، ليفتح لها نافذة العدل الإلهي المغلقة منذ سقوط دماء هابيل على سطح هذه البسيطة ظلماً وعدواناً.
وإلاَّ من الذي يجعل الشاة ترعى مع الذئب، والبقر مع الأسد، والرضيع يلعب بالأفاعي، وتسير العجوز من العراق إلى الشام لا تدوس إلاَّ على أرض خضراء معشوشبة؟
إنَّه الإنسان، إنَّه الخليفة الإلهي الذي سيأخذ بيده الكريمة تلك الجموع الحائرة، والقطعان البائسة التي أنهكها ظلم الإنسان للإنسان، ليرفع تلك النفوس الحائرة إلى الذروة في العبادة والعلم والسمو الخلقي والطهر الروحي، ولتصل إلى المغزى الحقيقي للآية القرآنية:
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
ذلك الكوكب الدرّي الذي يتوقَّد نوره وسط الشموس، والكواكب الأحمدية العلوية، في حضيرة القدس، حيث رآه جدّه المصطفى في عروجه للسماوات العلى ذائباً ودائباً في حبّ الله.
راية الأمم التائهة في دروب الحياة البائسة.
الراعي الذي تلوذ به الخراف الضالّة في الليلة الشاتية الممطرة.
البلسم الناجع والإكسير العجيب الذي سيضعه الله على قلوب الإنسانية المريضة.
الفرد الذي تقاطعت فيه كلّ الإنسانية..
الذي التقى به، قيدار بيهوذا..
ومحمّد بداود..
وعلي بسليمان..
أليس من أحمد، قطب الوجود المخلوق قبل الوجود، والمصنوع قبل آدم بآلاف السنين وكان نبيّاً وآدم بين الماء والطين؟
أليس هو ابن الأمَة الذي سيحدث انقلابات وزعازع في العلم كلّه كما أخبر نبيّ الفترة لحمان حطوفاه في (نبوءة هيلد).
إنَّه الذي لا تقوم الساعة حتَّى يقوم، ولو بقي في غيبته ملايين السنين.
(لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله عز وجل ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)(4).
صاحب القلب الكبير، والدمعة الوسنى، الذي يتلوّى من الألم لما يرى من خطوب وضروب في بني آدم.
المظلوم ابن المظلوم، سلسلة من الظلامات إلى المظلوم الأوّل رسول الله.
المظلوم ابن فاطمة المظلومة، الذي يقف على قبرها المجهول، فيندبها بأشجى ندب، ويبكيها بأحرّ البكاء، ويعلن عن مظلوميّتها التاريخية للعالم، ويفجّر غضبها المكبوت ولهاثها المحبوس بين الباب والحائط.
الجريح الذي يرفع قميص أبيه الحسين، الملطَّخ بدماء الحسين، هاتفاً أمام الكون كلّه: يا لثارات الحسين.
الحفيد الحادي عشر لسيّد المرسلين.
من المنظومة التي لا يضرّها من خذلها لأنَّ الله معها، لا تفارق القرآن ولا يفارقها القرآن، حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها.
منظومة ضخمة فخمة عظيمة، آخر منظومة إلهية في سلسلة المنظومات في حياة البشرية.
منظومة ربّانية تقابلها منظومة شيطانية والتي تضمّ بين حناياها كسحاء وشحاذي البشرية والمفلسين من كلّ خاطر إيماني.
فكما بشَّر النبيّ بمنظومة إلهية، حذَّر من منظومة شيطانية.
وكما بشَّر بأئمّة هدى اثني عشر، حذَّر من أئمّة ضلال اثني عشر.
هذه المنظومة الشيطانية تبتدئ بقريش وتنتهي بقريش، كما المنظومة الإلهية تبتدئ أيضاً بقريش وتنتهي بقريش.
فهذه القبيلة تضمُّ المتناقضات، تضمُّ الهدى من جهة، وتضمُّ الضلال من جهة أخرى.
هذه القبيلة ذات ديناميكية حركية باتّجاهين.
ومنظومتها الشيطانية صوتها عالٍ، وكيدها عظيم..
فهي حاربت الرسول في حياته وورثته بعد وفاته.
وهي التي كسرت رباعيته في حروبها، ولبست قميصه وجبَّته للصلاة..
هناك قانون إلهي صارم كشف عنه أحد المعصومين..
(ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلاَّ ظهر باطلها على حقّها)(5).
وهذه الأمّة لا تمتاز عن باقي الأمم، اختلفت وافترقت بعد نبيّها حتَّى زادت على الأمم التي سبقتها بفرقة واحدة(6).
وهذه الأمّة اتَّبعت من كان قبلها حتَّى لو دخلوا جحر ضب لدخلته وراءه.
بئس هذه الأمّة التي أضاعت هذه الجواهر اللامعة، لتذهب إلى القفر البعيد وتلتقط الحصى الخشن الأغبر.
ولو نظرنا إلى الخارطة العقائدية في عهد الرسول وما بعده بقليل لوجدناها قد ضمَّت أصنافاً متعدّدة.
صنف من المؤمنين الأتقياء الأبرار، وهم من القلّة بحيث يعدون على عدد الأصابع..
صنف من المسلمين الضعفاء القرشيين الذين يحسبون الدين طقوساً بدنية لا غير.
صنف حاقد على صاحب الرسالة وأهل بيته، يعمل ليل نهار كيداً لابساً ثوب الإيمان ومبطناً في قلبه الكفر البواح.
صنف من ذوي القلوب المريضة الذين يسارعون في الفتنة أين وجدت.
صنف من الطامعين الطامحين للسلطة والمناصب، الذين يعلمون أنَّ محمّداً مقبل على تأسيس دولة كبيرة مترامية الأطراف.
صنف الطلقاء والعتقاء، الذين أعلنوا كلمة التوحيد تحت ظلال الحسام، ثمّ انفتحوا على مسلمي المدينة بعد فتح مكّة فألقوا راية الشرك ورفعوا راية النفاق.
وكان دهاقنة وأساطين قريش يعرفون بهذه الأصناف، فبدأوا بتأليف جبهة عريضة واسعة، أخذت تخطّط وتنظر للفترة ما بعد محمّد، وهؤلاء حاملوا التعجيل لفترة ما بعد الرسول بمحاولات اغتيال الرسول عدّة مرَّات، آخرها بعد قفوله من غزوة تبوك، وكانت المجموعة المهاجمة مكوّنة من ثمانية عشر رجلاً من كبار الصحابة.
هذه الجبهة المشار إليها شكَّلت المنظومة الإبليسية لتكون الضدّ والمقابل للمنظومة الإلهية.
هذه المنظومة الإبليسية لديها أئمّة اثنا عشر كما المنظومة الإلهية لديها أئمّة اثنا عشر.
وكان لكلّ من المنظومتين قاعدته الشعبية، تتَّسع وتصغر حسب الوعي الإيماني في المجتمع.
فكان قاعدة المنظومة الإلهية المساكين والفقراء والمستضعفين من العبيد والإماء.. وهم من المؤمنين الخلَّص الذين أشاد بهم الرسول أمثال أبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وبلال الحبشي، وخباب بن الأرت، وجابر الأنصاري، وعبد الله بن مسعود.. وهلم جراً، وهي قاعدة قليلة العدد.
وكانت قاعدة المنظومة الإبليسية واسعة كبيرة تضمُّ الآلاف من المسلمين القرشيين ومن المنافقين ومرضى القلوب وذوي المطامع السياسية تتمثَّل ببني مخزوم وبني سهم وبني جمح وبني عدي وبني تيم وبني أميّة وبني عبد الدار... الخ.
وهي كما ترى _ عزيزي القارئ _ أشبه ما يقال بالانعكاس في الهندسة الوصفية.
ولكلّ من المنظومتين أساليبه في التعامل، فالمنظومة الإبليسية قاعدتها الأساس (الغاية تبرّر الوسيلة) وهي تستخدم وتوظّف كلّ ما يفيدها في جبهة الصراع ضدّ الخصم، فإذا استلزم أن تلبس جبّة النبيّ لخداع الجماهير فعلت ذلك، وإذا وجدت أنَّها أمام هزيمة ساحقة أمام المنظومة الإلهية رفعت مئات المصاحف على أسنّة الرماح، وإذا استلزم إيجاد مذاهب مروّضة أو إسلام بروتوكولي فعلت ذلك.
أمَّا المنظومة الإلهية فوسيلتها مثل غايتها، الغاية شريفة، إذن الوسيلة شريفة. الغاية تطبيق حكم الله في الأرض وإقرار العدل فيجب أن تكون الوسيلة مثلها.
وهكذا فقد رأيت رفض الأمام علي لبعض مقترحات الساسة المخادعين بإقرار معاوية في منصبه حتَّى تأتي بيعته فقال: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور..؟)، وأضاف: (لا والله، لن يراني الله متَّخذ المضلّين عضداً)(7).
ولهذا فقد ترى إحراز المنظومة الإبليسية لبعض النجاح في صراعها ضدّ المنظومة الإلهية مستخدمة كلّ الوسائل المتاحة لديها، إلاَّ أنَّه وقتي ما يلبث أن يتبخَّر في شمس التاريخ، فيصبح لعنة وسبة على المنتصر المزعوم.
والواقع إنَّ المنظومة الإبليسية لم تكن وليدة مرحلة تاريخية معيَّنة وانتهت وإنَّما هي منذ هبوط آدم على الأرض فمثَّل آدم المنظومة الإلهية ومثَّل إبليس منظومته، وعليه ففي كلّ مرحلة تجد منظومتين متصارعتين.
وبما أنَّ المنظومة الإبليسية تعلم أنَّها ليست ذات غطاء شرعي تبرز به في صراعها مع عدوّها الذي يمتلك ذلك، فإنَّها تلجأ إلى التزوير والكذب والدجل، وتسرق المفاهيم الإلهية وتغلّفها في أغلفة شيطانية جذّابة للجماهير الساذجة.
وهذه قاعدة عامّة، فإنَّك لا تجد ديناً في أيّ مرحلة لم يدخل مثل هكذا صراع ضدّ حرب إبليس.
وعليه فإنَّه في تاريخ الإسلام، تحرَّكت المنظومة الإبليسية في حياة الرسول وبعده في عدّة محاور أبرزها التحالف السرّي والمعلن مع العناصر المعادية للإسلام من أتباع الأديان الأخرى كاليهودية والنصرانية.
ولربَّما اتَّفقت مع بعض أساطين هذه الأديان للدخول في الإسلام لضربه من الداخل بما يمتلكون من ثروة علمية في بعض العقائد والتاريخ ومعرفتهم بالكتابة. فإذا بنا نقف أمام شخصيات يهودية ونصرانية قد تلفَّعت بثوب الإسلام أمثال كعب الأحبار وعبد الله بن سلام وتميم الداري... الخ.
وإذا بسيل جارف من الأفكار والعقائد اليهودية والنصرانية والوثنية وخرافات وأساطير الجاهلية تملأ كتب المسلمين على أنَّها أحاديث الرسول. ولكي تكون المؤامرة الكبرى محكمة فقد اقتضى أن يخلع على هذه الكتب ثوب القدسية كقدسية القرآن، بحيث أصبح التحديث والأخذ منها من مقوّمات الإيمان، وإنكارها من مقوّمات النفاق..
هذه المنظومة الإبليسية نقلت إله التوراة (يهوه) إلى ساحة المسلمين فجعلته إلههم الشاب الأمرد الذي شعره قطط وشراكا نعله من ذهب، لابساً جبّة خضراء (ولربَّما يلبس طربوشاً أحمراً)، يجلس على عرش له أطيط كأطيط الرحل الجديد، وقد ترك مقدار أربعة أصابع لجلوس حبيبه المصطفى.
ومن الطبيعي جراء هذا التناقض الكبير بين المنظومتين، أن يسقط من الطرفين ضحايا..
ومن الطبيعي أن يذهب أقطاب المنظومة الإلهية شهداء بسيوف وخناجر وسموم المنظومة الإبليسية.
وتكون أعناقها وأعناق قاعدتها تحت سيوف الجلاّدين وفوق أنطاع الإعدام.
وتصير هي وقاعدتها فئة منبوذة مطاردة تحت كلّ شجر ومدر، من تسميل العيون، ومن ضرب الأعناق، ومن البناء عليهم أحياءً في اسطوانات قصور بغداد، ومن نهب أموالهم وتشريدهم في أقطار الأرض، ومن الافتراء عليهم وإلصاق التهم الزائفة بهم.
وهذا التناقض وهذا الصراع مستمرّ، في كلّ جيل، وكلّ زمن، وكلّ دين، وقد وصل ذروته بالرسالة الخاتمة، وما طرحته من أطروحة شاملة خالدة إلى يوم القيامة.
وبدأ الصراع المرير في أخريات حياة الرسول وما بعده مباشرة فكانت الطغمة القرشية بما تمتلكه من أئمّة الضلال الاثني عشر قد قادت الصراع ضدّ منظومة أهل البيت الإلهية.
وإذا بها تبرز أساطينها وقادتها، في عملية ماراتونية للسقيفة، فتنتزع تاج الخلافة من فئة الأنصار البلهاء ورسول الله مسجّى بين يدي أهله من غير تغسيل أو تكفين أو دفن.
وهكذا كشرت منظومة قريش عن أنيابها، بعدما غاب الرسول..
فقتلت فاطمة بنت محمّد باعتبارها أساس الحجّة في الدعوة المقابلة..
ووضعت علياً زوجها تحت الإقامة الجبرية، وأرسلته لحفر الآبار وزرع النخيل..
وعملت سيوفها وخناجرها بأتباع فاطمة وعلي، فأصبحت رؤوسهم أثافي القدور، ونساءهم مستلبات على أيدي سيوف قريش المسلولة.
وهكذا استمرَّ حمّام الدم القرشي، بين قتل وتشريد وتجهيل.. منذ وفاة الرسول إلى الإمام الحادي عشر من أئمّة الهدى، وقد فتح فاه القبيح لابتلاع آخر المنظومة الإلهية الإمام الثاني عشر.
لهذا اتَّخذ الإمام الحادي عشر (الحسن الزكي) عدّة وسائل لحماية خليفته ووصيّه، منها إخفاء ولادته، وكتمانها حتَّى على أقرب المقرَّبين من أهل بيته كأخيه جعفر مثلاً. إلاَّ أنَّه في المقابل لا بدَّ من اتّخاذ الوسائل اللازمة لإيصال وإعلام قواعده الشعبية بما جرى حتَّى لا تنجرف أمام موجات الانحراف التي تعصف بالساحة. ولأجل ذلك فقد استخدم الإمام الحسن العسكري عدّة وسائل لجعل قواعده الشعبية على علم بولادة إمامها الأخير، فقد بادر إلى دعوة مجموعة كبيرة من أصحابه ومن قواعده (من الخطّ الأوّل) في اليوم الثالث من ولادة ابنه المهدي وأراهم إيّاه، وقال مخاطباً لهم:
(هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتدُّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً)(8).
وأيضاً عرضه على مجموعة أخرى من أصحابه قبل رحيله إلى رحمة ربّه بعدّة أيّام قائلاً:
(هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا)(9).
وقد سأل أحد أصحاب الإمام أبي محمّد المقرَّبين وهو جالس على دكان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقال له: يا سيّدي من صاحب هذا الأمر؟
فقال: (ارفع الستر).
فرفع الستر فخرج صبي جميل يقارب عمره ما بين الخامسة إلى الثامنة واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفّين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد..
ثمّ قال: (هذا صاحبكم).
ثمّ وثب فقال له: (يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم)، فدخل البيت(10).
ولم يكتف الإمام الحسن بذلك، بل أخذ يرسل الرسائل إلى أصحابه يعلمه بولادة ابنه:
(ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نظهر عليه إلاَّ الأقرب لقرابته والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليسرّك الله به، مثل ما سرَّنا به، والسلام)(11).
ولكي يرسّخ العلاقة بين خليفته الإمام الثاني عشر، وبين قواعده الشعبية، فإنَّه جعله يجيب على بعض تساؤلاتهم ومعضلاتهم، وقد جرت عدّة لقاءات، فكان يجيب على تلكم الإشكالات وهو في ذلك العمر المبكر جدَّاً.
وفي تلك الأيّام ظهر اتّجاه منحرف يدّعي التفويض الكامل للأئمّة وانتشر بين قطاعات واسعة من الشيعة.
وقد كان أحد القائلين به يريد لقاء الإمام الحسن العسكري ليسأله، وقد ذهب لمقابلة الإمام، وكان يقول في نفسه: أسأله عن الحديث المروي عنه: (لا يدخل الجنّة إلاَّ من عرف معرفتي وقال بمقالتي).
وقد جلس كامل بن إبراهيم المدني وهو هذا الشخص إلى جانب باب في بيت الإمام عليه ستر مرخى، فجاءت ريح فكشفت طرفه، وإذا به يرى فتى كأنَّه قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها..
فقال: (يا كامل بن إبراهيم).
فشعر كامل برهبة واقشعرَّ بدنه فقال: لبّيك يا سيّدي!
فقال: (جئت إلى وليّ الله وحجَّته وبابه تسأله هل يدخل الجنّة إلاَّ من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟).
قال: إي والله.
قال: (إذن والله يقلُّ داخلها، والله إنَّه ليدخلها قوم يقال لهم: الحقّية).
قال: يا سيّدي ومن هم؟
قال: (قوم من حبّهم لعلي يحلفون بحقّه ولا يدرون ما حقّه وفضله)، إنَّهم قوم يعرفون ما تجب عليهم معرفته جملة، لا تفصيلاً، من معرفة الله ورسوله والأئمّة ونحوها.
ثمّ قال: (وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة، كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول: (وَما تَشاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 30)).
فقال له أبو محمّد: (ما جلوسك؟ وقد أنبأك بحاجتك الحجّة من بعدي)(12).
وقد تناقلت القواعد الشعبية هذه الأحداث وهذه الأخبار فيما بينها، وأصبح لديها يقين من ولادة الإمام المنتظر، وبالتأكيد فإنَّ بعض هذه الأخبار قد وصلت إلى أجهزة مخابرات السلطة العبّاسية وهي القوّة العظمى في العالم آنذاك، فأخذت ترسل جواسيسها من رجال ونساء إلى بيت الإمام أبي محمّد، للوصول إلى تحديد موقع ولده الموعود لاستئصاله، وقد حاولوا ذلك عدّة مرَّات، وقد كبسوا داره، وفي أحد المرَّات كان في حجر والدته السيّدة نرجس في صحن الدار، يتكلَّم معها، فأحسَّت جاسوسات المخابرات العبّاسية _ اللاتي يطلق عليهنَّ آنذاك (القوابل) _ بوجوده، وبالمقابل أحسَّت السيّدة بذلك فأصابها خوف شديد واضطراب لا مثيل له، ولم تجد فرصة لإخفاء نوره الذي يسطع إلى عنان السماء فسمعت هاتفاً يرنُّ في أذنيها بقوّة:
ألقي حجّة الله القهّار في البئر التي في صحن الدار.
الهوامش:
(1) كمال الدين: 424 و425/ باب 42/ ح 1، بتصرّف بسيط.
(2) الغيبة للطوسي: 223/ ح 186.
(3) مختصر بصائر الدرجات: 125.
(4) كمال الدين: 318/ باب 31/ ح 4.
(5) أمالي المفيد: 235/ ح 5؛ كنز العمّال 1: 183/ ح 929.
(6) عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (... إنَّ اليهود تفرَّقوا من بعد موسى (عليه السلام) على إحدى وسبعين فرقة، منها فرقة في الجنّة وسبعون فرقة في النار، وتفرَّقت النصارى بعد عيسى (عليه السلام) على اثنين وسبعين فرقة، فرقة منها في الجنّة وإحدى وسبعون فرقة في النار، وتفرَّقت هذه الأمّة بعد نبيّها (صلى الله عليه وآله وسلم) على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وفرقة في الجنّة...) (الكافي 8 : 224/ ح 283).
عن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنّة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة. والذي نفس محمّد بيده لتفترقنَّ أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنّة وثنتان وسبعون في النار) (سنن ابن ماجة 2: 1322/ باب افتراق الأمم/ ح 3992).
(7) أبناء الرسول في كربلاء: 23.
(8) كمال الدين: 431/ باب 42/ ح 8 .
(9) كمال الدين: 435/ باب 43/ ح 2 .
(10) كمال الدين: 407/ ح 2.
(11) كمال الدين: 434/ باب 43/ ح 16.
(12) الغيبة للطوسي: 246 و247/ ح 216، بتصرّف بسيط.
******************
فألقته بسرعة، وقد اقتحمت القوابل لسماع صوت الطفل، وبدأن يفتّشنها تفتيشاً دقيقاً فلم يجدن أثراً فخرجن والهات حائرات خائبات.
فلمَّا فرغت الدار من الأغيار أقبلت السيّدة نرجس إلى حافّة البئر لكي تعلم ما جرى على قرَّة عينها وثمرة فؤادها، فلمَّا أشرفت على البئر رأت الماء يفور في البئر ويرتفع حتَّى ساوى حافَّته ورأت حجّة الله فوق الماء صحيحاً سليماً كالبدر الطالع، والقماط الذي عليه لم يبتلّ، فتناولته وأرضعته وحمدت الله كثيراً وسجدت له شكراً.
وسمعت هاتفاً يقول لها: يا نرجس ألقيه إلى البئر أربعين يوماً، فمتى أردت أن ترضعيه نوصله إليك.
فكانت السيّدة نرجس تأتي إلى البئر كلَّما أرادت إرضاعه، فيفور الماء وحجّة الله فوقه فتأخذه وترضعه وتقرُّ عينها بجماله وتردّه إلى البئر فينزل الماء إلى قراره(1).
ومن المؤكَّد أنَّ بعض الناس من المغلقة قلوبهم لا يستوعبون ذلك، بل لا يستوعبون مكانة أهل البيت أصلاً، فيعتبرون ذلك من الغلو المفرط أو الأساطير، وهؤلاء لا كلام معهم لأنَّهم لو أتيت لهم بكلّ آية لا يؤمنون، ولكن كلامنا مع ذوي العقول المتفتّحة، الذين قد يجدون ذلك من المبالغة أو غير المعقول.
وبما أنَّ المعجزة التي أؤيد بها الأنبياء واحدة، وذلك باللجوء إليها في حالة الخطر على حياة النبيّ أو على الأطروحة الإلهية من تشكيك المشكّكين، فإنَّ المعجزة بالنسبة للإمام المهدي ملازمة له من يوم ولادته إلى يوم ظهوره، وحتَّى بعد ظهوره.
فليس حادثة البئر بأعجب من جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ولا بأعجب من حادثة فلق البحر لموسى، أو إحياء الموتى لعيسى، علماً أنَّ الأنبياء المتقدّمين على رسول الله من ذوي العزم وغيرهم لا يمكن أن يتقدَّموا عليه بأيّ حالٍ من الأحوال لأنَّه سيّد الأنبياء، فكذلك لا يمكن أن يتقدَّموا على خلفائه، لأنَّهم من سنخه ما عدا النبوّة فإنَّه لا نبوّة بعده.
ومن المعلوم أنَّ المعجزة لا تحدث جزافاً أو حسب الهوى ورغبة الناس، وإنَّما تتمُّ إذا كان النبيّ أو الوليّ في معرض التحدّي والمواجهة اتّجاه القوى المضادّة، بحيث يتوقَّف مصير رسالته أو حياته عليها.
ومعجزة عدم إحراق النار لإبراهيم خير مثال على ذلك، في وقت توقَّفت حياة إبراهيم نبيّ التوحيد في العالم القديم عليها. والمهدي خليفة محمّد ويمثّل محمّداً تمثيلاً كاملاً، إلاَّ ما استثناه الله من خصوصية وهي النبوّة، وحياة رسالة محمّد وأطروحته الإلهية مرتبطة بحياة خليفته المهدي، لذا اقتضى التخطيط الإلهي الحفاظ على وليّه، وأن تتدخَّل المعجزة في شأنه منذ ولادته وإلى ما شاء الله.
وقد يعترض المعترض أنَّه قد حصلت معجزة واحدة لإبراهيم، في حين أنَّ المهدي ترافقه المعجزات في أغلب لحظات حياته، أترى أنَّه أفضل من إبراهيم شيخ الموحّدين؟
والإجابة أنَّه ليس المناط مناط الأفضلية في هذا المجال بقدر توقّف حياة النبيّ أو الوليّ على المعجزة، فلو أنَّ إبراهيم تعرَّض إلى مواقف أخرى غير حادثة النار، لتدخَّلت المعجزة في ذلك، إلاَّ أنَّ إبراهيم تعرَّض مرَّةً واحدةً لحادثة الإحراق ولم يتعرَّض لحادثة أخرى.. في حين أنَّ الإمام المهدي تعرَّض باستمرار منذ أن كان جنيناً في بطن اُمّه إلى ولادته إلى مدارج صباه إلى أخطار جسيمة لا يمكن تلافيها إلاَّ بذلك.
أضف إلى ذلك وما الذي يضير من الاعتقاد بأنَّ المهدي أفضل من إبراهيم، فالمهدي خليفة الله وخليفة رسول الله وهو الذي يصلّي خلفه نبيّ من ذوي العزم هو المسيح ومن المعلوم أنَّ الإمام أفضل من المأموم، وأنَّ المسيح مقارب لإبراهيم في الفضل، هذا من جهة ومن جهة أخرى أنَّه كما لا ينبغي تقدّم أيّ نبيّ من الأنبياء على رسول الله فكذلك لا ينبغي تقدّمهم على خلفائه الذين نصَّ عليهم صراحةً كما أشرت سابقاً.
فليس بمستغرب أن يطفو وهو رضيع على سطح ماء البئر، ولا يبتلُّ قماطه، أو يصبح البئر وماؤه وسيلة للحفاظ على حياته، لأنَّ النواميس الطبيعية من خلق الله، والمهدي من خلق الله وخليفته وصفوته، وهو أفضل منها، فمن الممكن إيقافها أو تحويلها للعمل بناموس آخر لا نعرفه للحفاظ على حياته المقدَّسة.
والواقع إنَّ خبر ولادة المخلّص لم يبقَ في طيّ الكتمات طويلاً، وقد أصبح مشهوراً ومتداولاً في الساحة الاجتماعية، ولاسيّما بعد نشر أصحاب الإمام الحسن الذين شاهدوا الإمام المهدي، خبر وجوده بين القواعد الشعبية الدنيا، وليس كلّ أفراد القاعدة الشعبية على درجة عالية من الإيمان، لكي يكتموا ذلك عن آذان جواسيس السلطة، فمن المحتمل أنَّ خبر ولادة المهدي قد وصل إلى البلاط العبّاسي، الذي كان يتابع كلّ شاردة وواردة آنذاك.
وهكذا بعدُ تجمّع الكثير من الأخبار والمعطيات أصبحت السلطة على يقين من وجود خليفة الإمام الحسن العسكري، وهو بالتأكيد الإمام المنتظر الذي تعرف أخباره السلطة آنذاك لما انتشر عنه من أحاديث قبل ولادته قبل عقود كثيرة.
فأرسلت السلطة العبّاسية وفداً من المقرَّبين المخلصين للخليفة المعتمد إلى الإمام الحسن العسكري وبعد التسليم عليه انبرى أحدهم قائلاً: إنَّ الخليفة يقرأك السلام ويقول: بلغنا أنَّ الله عز وجل أكرمك بولد وكبر فلِمَ لا تخبرنا بذلك لكي نشاركك في الفرح والسرور؟
ثمّ أردف رئيس الوفد قائلاً: ولا بدَّ لك أن تبعثه إلينا فإنّا مشتاقون إليه.
وكان أحد أصحاب الإمام من الحاضرين واسمه علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، فصعق حينما سمع الكلام، وأخذه الفزع والاضطراب فقال الإمام موجّهاً كلامه إليه:
(اذهب بحجّة الله إلى الخليفة).
عندئذٍ ازداد اضطرابه وخوفه وحيرته، لأنَّه على يقين قاطع أنَّ الخليفة ما أرسل هذا الوفد إلاَّ لغرض قتل الإمام الثاني عشر، فتلكَّأ في تنفيذ أمر الإمام، وأخذ ينظر في وجهه الشريف، فأدرك ما يخالج قلبه فتبسَّم في وجهه وقال: (لا تخف اذهب بحجّة الله إلى الخليفة).
فأخذته الهيبة ودلف إلى المكان الذي يقيم فيه الحجّة، فرآه يتلألأ نوره كالشمس المضيئة، وكانت الشامة السوداء في خدّه الأيمن كوكباً درّياً، فحمله على كتفه، وقد وضع على وجهه برقعاً، وذهب بصحبة وفد الخليفة وقد أضاء نوره سامراء وسطع إلى عنان السماء بالرغم من وجود البرقع على وجهه.
فاجتمع الناس رجالاً ونساءً في الطرق والشوارع، وصعد البعض على سطوح المنازل والمحلاّت ينظرون إلى تلك الطلعة الغرّاء، وازدحم الناس في الطرقات، فلم يقدر على المشي حتَّى استعان أعوان الخليفة بالشرطة لإفساح المجال لمرور الموكب العظيم، وأخذوا يبعدون الناس عنه، لما أصاب الناس من حالة من الذهول والوله والانشداد إلى ذلك المنظر، فتجمَّعوا بذلك العدد الهائل، وأخذ البعض منهم يسبّح الله، والآخر يكبّره وقد عرف الكثير منهم ماهية هذا الطفل المعجزة..
دخل الوفد ومعه علي بن إبراهيم بن مهزيار حاملاً على كتفه خاتم الأوصياء، ونوره يسطع إلى السماء، قصر الخليفة، وأدخل مباشرة إلى مجلس الخليفة، بعدما رفع الحجاب، ومن الطبيعي أنَّ مجلس الخليفة حافل بشتّى الطبقات من وزراء وقادة جند ورؤساء عشائر، وشعراء وأدباء وقضاء وفقهاء، وحينما لمح الجميع تلك الطلعة المشرقة، وذلك الجمال والبهاء والنور الذي يسطع من وجه ذلك الصبي بالرغم من وجود البرقع، أصيبوا بالدهشة، وأخذتهم الهيبة، فتغيَّرت ألوانهم وطاشت ألبابهم وحارت عقولهم، وخرست ألسنتهم، وخصوصاً بعدما أمر الخليفة برفع البرقع عن وجهه، فلم يستطع أيّ رجل منهم أن يتكلَّم أو يتحرَّك من مكانه، أو النظر إلى ذلك النور الساطع.
بقي ابن المهزيار واقفاً حاملاً على كتفه ذلك النور، منتظراً ماذا يحدث، وبعد مدّة استعاد بعض الجالسين جأشه، ومن جملتهم الوزير، وصار يتكلَّم مع الخليفة همساً وهو يشير إلى الإمام الحجّة، فأحسَّ علي بن مهزيار أنَّه يشير إلى قتل الإمام فخاف خوفاً شديداً.
أشار الخليفة إلى جلاوزته من السيّافين أن اقتلوه، (يعني بذلك ذلك الطفل الصغير، وهذه خلّة توارثوها عن بني أميّة وعمر بن سعد حينما قتلوا طفل الحسين الرضيع).
فتبادر أولئك الأشخاص إلى سلّ سيوفهم من أغمادها إلاَّ أنَّهم لم يستطيعوا ذلك، ولم يقدروا على إخراجها، فتعاون جماعة منهم لسلّ سيف واحد من غمده، فلم يقدروا على ذلك.
فقال الوزير (هامان الخليفة): هذا من سحر بني هاشم، وليس هذا بعجيب، ولكن ما أظنّ أن سحرهم يؤثّر في السيوف التي في خزانة الخليفة.
فجاؤوا بسيوف كثيرة من الخزانة، فلم يقدروا أيضاً على إخراجها من أغمادها وأعياهم ذلك، ثمّ جلبوا الشفار والمواسي والسكاكين فلم يقدروا على فكّها.
قال الوزير للخليفة: أرى أن نلقيه إلى الأسود الضارية.
فوافق الخليفة على ذلك، فجيء بثلاثة من الأسود الضارية والسباع العادية، وأطلقت في ما يسمّى آنذاك في بركة السباع (وهي حفرة على شكل دائرة عميقة)، أشار الخليفة إلى علي بن مهزيار أن يلقيه إلى الأسود بقوله: القه إلى الأسود.
خاف خوفاً شديداً وقال في نفسه: لا أفعل ذلك أبداً حتَّى لو قتلت.
فقرب الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر) فمه من أذنه وهمس له: (لا تخف وألقني).
فلمَّا سمع ذلك علم أنَّه لن يصاب بسوء، فألقاه في الهواء إلى بركة السباع (فنزل كأنَّه في مظلَّة)، وتسابقت الأسود نحوه ورفعوا أيديهم في الهواء، وتلقَّفوه بكلّ رفق، ووضعوه على الأرض برفق ولين ورجعوا إلى الوراء متأدّبين، ومدّوا أياديهم بهيأة المسلّم كأنَّهم العبيد بين يدي مواليهم.
تكلَّم أحدهم بلسان فصيح وشهد بالوحدانية وبرسالة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صعق الحاضرون، وزاغت أبصارهم لما جرى، وركب بعضهم أكتاف بعض.
قال مخاطباً الإمام: يا ابن رسول الله لي إليك شكوى فهل تأذن لي؟
فأذن له فقال: إنّي هرم وهذان شابان، فإذا جيء إلينا بطعام ما يراعياني، فيأكلانه قبل أن آكل فأبقى جائعاً.
قال: (مكافأتهما أن يصيرا مثلك وتصير مثلهما).
فلمَّا قال هذا الكلام، تحوَّل أولئك الأسدان الشابان إلى هرمين، وعاد لذلك الأسد الشباب، فلمَّا رأى الجميع ذلك كبَّروا وهلَّلوا، ففزع الخليفة ومن كان معه وتغيَّرت ألوانهم، فأمر بردّه إلى أبيه العسكري، فعاد علي بن إبراهيم حاملاً كنزه الثمين حامداً شاكراً لله، وحصل مثلما حصل حينما جاء، فتجمَّع الناس لرؤية ذلك النور الباهر(2).
ولا نعلّق ولا نتكلَّم مع الذين يستهجنون ما أثبتناه من هذه المعجزة.. فقد أثبتنا أنَّ وجود الإمام الحجّة هو معجزة إلهية، فلا غرابة إن حصل ذلك حيث استلزم الحفاظ على حياته حدوث هكذا معجزة، ولعلَّ البعض يقول: سلَّمنا بعدم خروج السيوف من أغمادها، ولكن ماذا تقول عن كلام الأسود مع ذلك الطفل الصغير؟
وأقول مرَّةً أخرى لهؤلاء، يبدو أنَّكم تنسون حادثة كلام البقرة، وقد أيَّد ذلك الرسول الأكرم (على ذمّة الصحاح والمسانيد)(3) باعتبار ذاك فضيلة للشيخين، وهذا ما يشكل ظاهرة فقدان الذاكرة المستديم لديكم.
* * *
الفصل السادس: الشهادة بلسم الشهداء
الشهادة قدرٌ مقدورٌ على أهل هذا البيت..
فألف ضربة بالسيف خيرٌ من ميتة على فراش.
والموت مصير كل حيّ فلماذا لا يكون عن طريق الشهادة فيعبر قنطرة الحياة الفانية إلى الحياة الباقية حيث الزلفى والدرجة العالية.
والدنيا عند الأنبياء والأوصياء والصالحين مهما طالت، فهي سرابٌ خادعٌ وضبابٌ لا بدَّ أن ينقشع..
وهي لا تساوي قدر جناح بعوضة.
فما من نبيّ أو وليّ إلاَّ وأعدَّ نفسه للشهادة، وأمامنا نبيّ الله إبراهيم وهو يعرف كم قومه محبّون لأصنامهم فكسرها وذهب إلى محرقتهم قرير عين لم يرفّ له جفن.
فالعظمة ليست كلمة تقال والمرءُ جالس في الظلّ شارباً الماء البارد، وإنَّما يمسح العرق والدم معاً.
وأمامنا صفحات التاريخ السالفة، وفيها نماذج مشرقة من الاستشراف للشهادة، فها هو ذا إسماعيل ذو العشر سنوات يضطجع للذبح مستسلماً لأمر الله وأمر أبيه طالباً للشهادة.
نعم كرَّر علي بن أبي طالب فعل جدّه إسماعيل، فبات ليلة هجرة الرسول في فراشه وعشرات من سيوف المشركين فوق رأسه، لم يضطرب قلبه ولم تضعف نفسه. وخير منه أخوه وابن عمّه ومربّيه رسول الله الذي لم يخف من تهديدات منظومة قريش الشيطانية المتكرّرة، ولم يتراجع أمام أحجار ثقيف التي أدمت قدميه وهو يدعوهم إلى الإسلام.
هؤلاء انعدمت الفواصل في أعينهم وقلوبهم بين الغيب والشهادة، فهم في غيبٍ وإن كانوا في الناس، وهم في شهادة إن كان الناس في غيب.
فالشهادة عندهم علامة فارقة، وسمة لا تزول عنهم، فعلى امتداد التاريخ، لم تعط أسرة أو بيت هذا الكمّ الهائل من الشهداء مثلهم، فما من شامخ منهم مات حتف أنفه إلاَّ ما ندر..
وقد تجلَّت هذه الخاصيّة فيهم بعد انبثاق الإسلام، ونزول القرآن على خاتم أنبيائه، فآمنوا بهذا الدين الذي هو دين جدّهم إبراهيم، وهاموا فيه وذابوا فيه، إلاَّ من شذَّ منهم وهو أبو لهب، فصاروا يعيشونه ويتنفَّسونه، فلا يرون في القرآن إلاَّ صور الجنّة وما فيه من نعيم مقيم فيشتاقون إليها.
ولا يرون في القرآن إلاَّ ألسنة الجحيم وما فيه من عذاب ونكالٍ فيجأرون خوفاً منه.
لقد عشقوا الله فذابوا في عشقهم، وأرادوا رضا الله، فساروا في الصراط الذي يحبّه، وتقرَّبوا إليه فوجدوا القرب في الشهادة فعشقوها، ولولا أنَّ أرواحهم معلّقة بأجسادهم لأجل معلوم لانتقلت منها شوقاً وعشقاً، فإذا بهم يتهافتون عليها كتهافت الفراش على الشمعة.
وإذا بهم يفتتحون ديوان الشهادة للمسلمين، فتقدَّموا الصفوف وحملوا السيوف، فسقط عبيدة بن الحارث في معركة بدر مضرّجاً بدمائه.
وإذا بحمزة بن عبد المطَّلب يلتقي بالمعشوق مرتدياً ثوب الشهادة الأحمر بحربة وحشي، وكيد هند ووعدها لوحشي بما لا يقال، فحاز لقب أسد الله وأسد رسوله وسيّد الشهداء.
وحينما عاد جعفر بن أبي طالب من سفارته في الحبشة زحف بأمر الرسول على رأس جيش صغير قياساً بجيش الروم الزاحف بأمواج الآلاف على تخوم المسلمين. فيضرب بالسيوف ويطعن بالرماح ويتقدَّم المجاهدين ويخترق صفوف الروم رافعاً راية المسلمين، وهو يصيح بصوتٍ عالٍ بعدما عقر فرسه الشقراء:
يا حبذا الجنّة واقترابها
والروم روم قد دنا عذابها طيبةٌ وباردٌ شرابُها
كافرة بعيدة أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتها ضرابُها
فإذا به يفقد ذراعيه ويسقط شهيداً هو وصاحباه (كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة)، فيبدلهما الله بجناحين أخضرين يطير بهما في الجنّة مع الملائكة ويحوز على لقب ذي الجناحين أو الطيّار.
لقد سقط العشرات من المسلمين المخلصين شهداء في معارك الإسلام أمثال مصعب بن عمير، وحنظلة غسيل الملائكة، وياسر، وسمية، وغيرهم، إلاَّ أنَّهم لم يصلوا إلى درجة أهل هذا البيت، والسبب أنَّ أهل هذا البيت د وطّنوا أنفسهم منذ الفطام على الشهادة، وأنَّ قلوبهم متعلّقة بصورة كاملة بربّ العالمين، هؤلاء هم أقطاب وأتباع المنظومة الإلهية وهم في مواجهة المنظومة الشيطانية، وهذه نماذج مشرقة لا يجود الزمان بمثلهم، إلاَّ أنَّ الشهادة ليست درجة واحدة، وإنَّما درجات، وتتحدَّد درجة الشهيد تبعاً لمدى قربه وإخلاصه لله، ولذلك تجد أنَّ الأنبياء والأوصياء في القمّة، ثمّ بعد ذلك أتباعهم وهكذا.
وهكذا تجد علي بن أبي طالب يجهش بالبكاء حزناً على عدم نيله للشهادة بعد استشهاد مجموعة من بني هاشم والمسلمين في المعارك، فيخبره الرسول بأنَّ الشهادة وراءه، ولا ينالها حتَّى تخضب هذه وأشار إلى لحيته من هذا وأشار إلى رأسه.
ولذلك فإنَّه يهرول لملاقاة الأبطال في المعارك هرولة، ويقاتل بضراوة، فما أبقى بطلاً أمامه حتَّى جندله ولاسيّما في معركة اُحُد التي هرب المسلمون فيها وتركوا رسول الله لأسنّة وسيوف المشركين، فأصيب بما يقارب السبعين جرحاً ما بين ضربة سيف وطعنة رمح.
نعم كان أهل هذا البيت أبطال الإسلام، ولم يقم هنا الدين إلاَّ على أكتافهم، لا على فلان أو فلان أو فلان الذين ينفخ فيهم وعّاظ السلاطين وهم رمم بالية، وإلاَّ فإنَّ هذا التاريخ ما ذكر أنَّ من يشيدون بهم ليل نهار قد قتلوا أحداً من أبطال المشركين أو غيرهم وحاز انتصاراً في معركة على امتداد معارك الرسول الكثيرة، سوى أنَّهم يطلقون سيقانهم للريح، أو يرجعون هاربين يجبّنون أصحابهم ويجبّنهم أصحابهم، لقد وضع أسس الشهادة وحبَّب التضحية للأحرار أهل هذا البيت، وخصوصاً علي بن أبي طالب فإنَّه الفدائي الأوّل، الذي نادى فرحاً حينما ضربه أشقى الآخرين شقيق عاقر ناقة صالح: (فزت وربّ الكعبة)(4).
وحسبك من وقعة مدوية لا يزال صداها قائماً، وقعة الطفّ الخالدة التي وقف فيها الحسين باثنين وسبعين من أهل بيته وأصحابه أمام سبعين ألفاً من شيعة آل أبي سفيان، فقدَّم أقمار بني عبد المطَّلب من الشاب إلى الطفل الرضيع قرابين على مذبح الحرّية، وهو يقول:
(صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين)(5).
وسقط شهيداً على رمضاء كربلاء يناجي ربّه، محبوبه ومعشوقه الذي لم يغفل عنه بين الأسنّة والسيوف:
تركت الخلق طرّاً في هواكا
فلو قطعتني في الحبّ إربا وأيتمت العيال لكي أراكا
لما مال الفؤاد إلى سواكا
فيا لله والحسين، فما أعظم الحسين، وما أعظم شهادته..
فلا يوم كيومك يا أبا عبد الله، ولا قربان كقربانك..
لكنَّه ترك في القلوب لوعة مشبوبة وحرقة لاهبة، يزداد أوارها على مرّ السنين وكرور القرون لا تنطفئ حتَّى يوم القيامة، وعداً مكتوباً من بارئ النسم، وإخباراً من جدّه سيّد الكائنات.
هذه الدماء التي سالت والتي تسيل، سلّت سيوفها وجيّشت جيوشها في السقيفة التي هرول إليها أولئك الأعراب الممتلئون حقداً ونفاقاً على أهل بيت النبوّة.
ففاطمة الزهراء قتلت في السقيفة وأحرق باب دارها..
والإمام علي قتل في السقيفة..
والحسن سُمَّ في السقيفة..
وواقعة الطفّ الدامية جرت في السقيفة..
والدماء التي سالت عبر العصور سالت في السقيفة..
والأعراض التي انتهكت وما زالت كانت في السقيفة..
فما أشنعها من سقيفة.
وما أفضعها من واقعة.
وما أشبهها بعجل بني إسرائيل، إلاَّ أنَّ الفارق أنَّ موسى بن عمران أعدم ذلك العجل وأحرقه وطرد صانعه فهام مجنوناً في البراري، إلاَّ عجل هذه الأمّة _ أعني السقيفة _ فإنَّها ما زالت تعبد ولا زالت تأمر وتنهي وتقتل وتذبح باسم هذا الدين.
والواقع أنَّه لو لم تكن سقيفة بني ساعدة، لما حدث كلّ هذا..
ولو فرضنا أنَّه لم تكن هناك سقيفة لصنعت قريش سقيفة أخرى، فقد قلنا سابقاً: إنَّ كلّ قرشي ما عدا بني هاشم وبعض المؤمنين القرشيين، طاغوت وفرعون، ولذلك تعرف مغزى حديث رسول الله:
(ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت)(6).
فإنَّ الأنبياء الذين سبقوه، جابهوا طاغوتاً واحداً، فإبراهيم يقابله النمرود، وموسى يقابله فرعون، ومحمّد يقابله فراعنة، بعدد أفراد قريش.
وقد ناصب فراعنة قريش محمّداً العداء، فأرادوا اغتياله في مرَّات عديدة، وكان بنو هاشم يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم لا يدعون شخصاً يقترب منه، إلاَّ بعد تفتيشه بصورة دقيقة فكان تحت حراسة مشدَّدة في بيته وبيت عمّه أبي طالب، وكان المؤمنون وطالبوا الحقيقة يأتون إليه في بيت عمّه أبي طالب، أمَّا ما يقال عن دار الأرقم بن الأرقم فكذب وافتراء وإنَّما هو ادّعاء أحد أراقم قريش.
وفي أثناء الحصار الذي دام ثلاث سنوات، كان أبو طالب يبدّل منام رسول الله عدّة مرَّات، وكان يضع ابنيه جعفراً وعلياً مكانه. وقد رموه عدّة مرَّات بالسهام قصد اغتياله.
ولا أدري أين فلان الذي أعزَّ الله بن الإسلام من كلّ هذا، هل كان يدفع عن نفسه حتَّى يدفع عن رسول الله؟
كان الصراع على أشدّه بين المنظومة الإلهية بقيادة رسول الله وبين المنظومة القرشية الشيطانية بقيادة أبي جهل وأمية بن خلف وأبي سفيان وأبي لهب والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وغيرهم، وما ألقت قريش سلاحها في هذا الصراع حتَّى دخلت جيوش رسول الله مكّة بعدما تمَّ القضاء على أغلب فراعنة قريش في معاركها مع الرسول، فوجد أنَّ الصفح أجدى لكي يستجلبهم للإسلام فقال:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)(7).
والآن يتبادر هذا السؤال على ألسنة القرّاء الأعزّاء..
أترى أنَّ قريشاً ذات الطابع الاستكباري الفرعوني سلمت بفتح مكّة، وأيقنت أنَّ أطروحة محمّد هي حقّ لا مريَّة فيه؟
هنا اتَّخذ الصراع منحى آخر، كان فتح مكّة في الظاهر فتحاً إسلامياً، ولكنَّه في الباطن انفتاح قريش على المدينة عاصمة محمّد، فنقلوا مع انتقال بعضهم إلى المدينة حقدهم القديم، وكفرهم برسالة محمّد فغلَّفوهما بثوب الإسلام الفضفاض، ووجدوا مجموعة من المسلمين يصلّون ويصومون إلاَّ أنَّهم كفّار في الباطن، فاتَّحدوا معهم في جبهة عريضة هي جبهة النفاق الخطيرة.
وجبهة النفاق هذه أشدُّ عداءً وخطراً على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين، لذا وجد بعض اليهود أنَّ عداءهم المباشر للإسلام غير ذي جدوى فاعتنقوا الإسلام، ليقوم بالتنظير والتخطيط لضرب الإسلام الحقيقي من الداخل، وصنع إسلام جديد يتوائم مع تطلّعات قريش الاستكبارية وهذا ما حصل فعلاً، وإذا بنا نجد أنَّ الخلافة القرشية تمنع أحاديث رسول الله وتعاقب عليها وتحرقها وتتلفها إلاَّ أنَّها في نفس الوقت تسمح وتشجّع كعب الأحبار وتميم الداري ووهب بن منبه بالتحديث، لتقفز أمامنا أحاديث مستلّة من التوراة والإنجيل ولكن بأسلوب عربي بطريقة محبوكة حبكاً درامياً محكماً.
وكان الرسول يعلم بخطط قريش وحلفائها من اليهود والنصارى والمنافقين، فحاول إبعاد بعض رموزها ونفيهم وعدم السماح لهم بالدخول إلى المدينة أمثال أبي سفيان وولده معاوية، بل إنَّه نفى الحكم بن أبي العاص، وولده مروان إلى الطائف..
كما أنَّ الرسول لعن صراحة أبا سفيان وولده معاوية والحكم بن أبي العاص وذرّيته، وأمر المسلمين بقتل معاوية إذا صعد على منبره وكان يسمّيه: معاوية ذا الأستاه.
لذلك كانت الخطط الخبيثة القرشية على قدم وساق، وآخرها ما اتَّفق عليه بعض أصحاب رسول الله من قائمة العشرة المبشَّرين بالجنّة وبعض أساطين قريش في مكّة على وثيقة أو صحيفة مفادها منع ورثة محمّد وخصوصاً الوصي المنصوص عليه من الوصول إلى السلطة بعد انتقال محمّد إلى الرفيق الأعلى، وقد تعاهد أولئك النفر عليها، وكتبوها وختموا عليها بأختامهم ووضعوها في جوف الكعبة المشرَّفة، كما فعلت قريش سابقاً بصحيفة الحصار والمقاطعة للرسول وأتباعه..
وكان مبدأ هؤلاء (ما كان الله ليجمع النبوّة والخلافة في بيت واحد)، فهرولوا إلى السقيفة وأثاروا حروباً شعواء على علي بن أبي طالب حينما هرعت إليه الجماهير وطلبته للسلطة والحكم.
وهكذا علَّق معاوية قميص عثمان في منبر جامع دمشق مع أصابع زوجته نائلة، وأخذ يسكب الدموع الغزيرة..
فلم أرَ مثل ذلك القميص، وتلك الأصابع..
قوَّض حكم إمام الهدى وشيَّد حكم إمام الضلال.
وهكذا استمرَّ حمّام الدم القرشي يستقطر دماء المنظومة الإلهية وأتباعها، ليرفع رأس الصحابي الجليل عمر بن الحمق الخزاعي وليهدى إلى (الصحابي الهادي المهدي) معاوية بن آكلة الأكباد.
وإذا برؤوس حجر بن عدي الكندي وجماعته تسقط في مرج عذراء لرفضهم البراءة من علي، وعدم قراءة آية المودّة بالمقلوب كما تريد قريش، وبعد ذلك تكتب على قبره وقبور أصحابه:
(هذا قبر الصحابي حجر بن عدي الكندي (رضي الله عنه) الذي قتله الصحابي معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)، لرفضه سبّ الصحابي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)).
وهكذا احتكرت قريش رضا الله، فأصبح مثل صكوك الغفران، توزّعه لمن يعطي أو يدفع أكثر.
والذي أراه أنَّ لأقطاب المنظومة القرشية توجّه أن يقولوا عن إبليس: (رضي الله عنه)، إلاَّ أنَّهم خافوا من الفضيحة، أو تنكشف علاقتهم الوثيقة بإبليس.
فما من زمن إلاَّ وقتيلٌ رفيع، وقربان عظيم يقدَّم فداءً لهذه الأمّة، وما من حقبة إلاَّ وحزب إبليس القرشي يرفع عقيرته وسيفه أمام الأبرار والأحرار من هذه الأمّة، وما من واقعة صبغت مسرح التاريخ بالدم إلاَّ وقريش ومن تبعها وراءها أو القائمة بها.
وقريش طبَّقت مبدأها الأنف الذكر، فمدَّت حبل الإنقاذ للشجرة الملعونة (ولطائفة الطلقاء) فمتّعت من سهم المؤلّفة قلوبهم لتعطيهم غنائم أفريقيا، وأصبح غلمان بني أميّة ينزون على منبر رسول الله كما تنزو القردة..
وهكذا ذهبت تحذيرات وأوامر رسول الله أدراج الرياح بصدد الشجرة الملعونة.
(هلاك أمّتي على يدي أغيلمة من قريش)(8).
(إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)(9).
ويبدو أنَّ بني العبّاس لم يستطيعوا نسيان أصلهم القرشي فانضمّوا إلى حزب قريش الشيطاني، فحفروا خنادق واسعة وملئوها بالدماء الزكية من نحور أبناء رسول الله وأتباعهم.
(ما لي ولبني العبّاس، شيَّعوا أمّتي، وسفكوا دماءهم، وألبسوهم ثياب السواد، ألبسهم الله ثياب النار)(10).
(ويل لأمّتي من الشيعتين: شيعة بني أميّة وشيعة بني العبّاس، وراية الضلالة)(11).
فأخذت قوافل الشهداء من آل محمّد تترى، والرنين والبكاء في بيوتهم..
وأصبحت ذرّية فاطمة الزهراء مطاردة في كلّ أرض، حتَّى وصلوا إلى أقصى المغرب، وأقصى المشرق، وتلوح أمام أعيننا وقائع أحجار الزيت في المدينة (حيث ذبح النفس الزكية).
الهوامش:
(1) إلزام الناصب 1: 318، بتصرّف بسيط.
(2) إلزام الناصب 1: 319 - 320، بتصرّف.
(3) راجع: شرح صحيح مسلم 15: 156.
(4) مناقب آل أبي طالب 1: 385.
(5) موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 615/ ح (644/427).
(6) مناقب آل أبي طالب 3: 42؛ تفسير الرازي 4: 175.
(7) الكافي 3: 513/ باب أقلّ ما يجب فيه الزكاة من الحرث/ ح 2؛ سنن البيهقي 9: 118.
(8) مستدرك الحاكم 4: 527.
(9) الملاحم والفتن: 329/ ح 478 و479؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 176.
(10) الملاحم والفتن: 88/ ح 44؛ كنز العمّال 11: 162/ ح 31042.
(11) الملاحم والفتن: 88/ ح 45؛ كتاب الفتن للمروزي: 118.
******************
وباخمرا حيث قتل أخوه إبراهيم الأحمر العينين..
وتبرز واقعة الطفّ الثانية التي هزَّت الوجدان، وأسالت الدموع، وأحرقت القلوب.. إنَّها واقعة فخ، وشهيدها اسمه الحسين بن علي، وسبيتها أخته يقال لها: زينب بنت علي..
إلاَّ أنَّهما يفرقان عن شهداء طفّ كربلاء إنَّهما..
الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وزينب بنت علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وكلاهما حفيد الحسن والحسين..
وقد كان حقد بني العبّاس منصبَّاً على الأئمّة المعصومين.. فاستلموا سلاح السُمّ من بني أميّة.
واستعملوه في قتل الكواكب المنيرة من البيت النبوي، فقتلوا جعفر بن محمّد، ثمّ قتلوا ولده موسى في ظلمات السجون، واختطفوا حفيده علي بن موسى إلى مرو حيث أجهز عليه مأمون بني العبّاس فدفن في طوس في أقصى خراسان..
وقد اشترك الرجال والنساء من بني العبّاس في قتل أبناء رسول الله، فتتشبَّه بنت المأمون اُمّ الفضل بشقيقتها جعيدة بنت الأشعث فتقتل الإمام محمّد التقي بن الإمام علي الرضا بالسُمّ وهو بعمر الورد لا يتجاوز الخامس والعشرين سنة.
ثمّ بعد سنوات ألحق ولده الإمام الهادي به.. ووصل الدور إلى الإمام الحادي عشر أبي محمّد الحسن وعائلته، حيث لا بدَّ من السير في طريق الشهادة، كما سار آباؤه من قبل، ولكن بدأ القربان الأخير بالسيّدة التقيّة النقية الطاهرة مليكة (نرجس).
أليس الموت بعمر الورد حكماً على أفراد هذه الأسرة افتتحته فاطمة المرضية؟
والسيّدة نرجس قد رأيناها في تلك الحقبة مثالاً للتضحية والإيثار، مثالاً للزوجة الوفيّة المخلصة المحبّة، ومثالاً للاُمّ الحنون.
فهي زوج الإمام المعصوم، واُمّ الإمام المعصوم، حملت سرّ الإمامة واحتفظت به بين حناياها حتَّى أدَّته بكلّ إخلاص.
كانت عرضة لمداهمات السلطة العبّاسية بين حين وآخر، كأيّ فرد من أفراد هذا البيت، بل أشدّ باعتبارها زوج الإمام المعصوم الحادي عشر والمرشَّحة لتكون اُمّاً للإمام الثاني عشر الموعود، فكثيراً ما دخلت عليها تلكم الجاسوسات (القوابل) يقلّبن جسمها، ويحسن بطنها، لعلَّ في بطنها الجنين المنشود فيبقرن بطنها ويقتلنها وجنينها معاً.
لم تخضع..
لم تخنع..
لم تهلع..
صمدت مستمّدة العزيمة من زوجها الإمام، ومن ولدها الإمام خاتم الأوصياء، واجهت كلّ ذلك بوجه باسم وقلب أقوى من الحديد..
كانت تحتمل كلّ شيء، سوى شيء واحد لا يمكن أن تحتمله إطلاقاً، وهي رؤيتها حبيبها وزوجها صريعاً بالسُمّ أمامها، حدَّثها زوجها بشهادته مبكراً، وما يجري بعده على عائلته من صنوف الهوان والتعذيب، وما يفعله أخوه جعفر (قابيل الثاني) والسلطة العبّاسية.
راعها ذلك وأحزنها بشدّة، أحسَّت أنَّ السماء ستطبق عليها، وأحسَّت أنَّها قد خنقت بقسوة.
لم تطق ذلك، فطلبت من الإمام زوجها أن يدعو الله أن يجعل منيتها قبله، وألحَّت عليه فدعا لها، ودعاء الإمام المعصوم مستجاب.
مرضت مرضاً شديداً من الحزن والأسى، ومن الغضب المكبوت في أعماقها، وفاضت روحها الطاهرة تحمل في عينيها دمعة حزينة مختلطة بصورة الحبيبين الغاليين الزوج والابن.
ماتت وإحدى يديها على يد زوجها أبي محمّد.
ويدها الأخرى على يد ولدها المهدي، تاركة في قلبه حسرة وألماً لا ينسى، وجرحاً لا يشفى.
محروماً من حنان الاُمّ في طفولته المبكرة.
وهكذا أفل هذا النجم اللامع، واختفى من الوجود المادّي، ليلتحق مظلوماً بسيّدة المظلومين وسيّدة العالمين حماتها فاطمة الزهراء.
وقام الإمام أبو محمّد بدفنها في صحن داره ومعه ابنهما المحزون، ووضع على قبرها لوحاً مكتوباً عليه: (هذا قبر اُمّ محمّد)(1).
شعر الإمام بعد رحيل زوجته تلك بالوحشة والحزن، كيف وهي التي تجلس عند قدميه تنتظر الكلمة من شفتيه لتهرع لتلبيتها؟
لم يبقَ الإمام بعدها إلاَّ قليلاً، حتَّى سقي السُمّ، بعدما ثقل وجوده على طاغوت عصره فسقط مريضاً على فراش الموت، يعاني من آلام السُمّ القاتل، وانتشر خبر مرضه في أنحاء سُرَّ من رأى، وأخذت الجماهير تتحدَّث بذلك، فأظهرت السلطة العبّاسية جهلها بذلك، وهذا ديدن القتلة والمجرمين..
فأرسل البلاط العبّاسي خمسة من خدم الخليفة المقرَّبين ومن ثقاته وعلى رأسهم خادمه نحرير، فجاؤوا إلى بيت الإمام ليقوموا على خدمته وخدمة عياله في الظاهر، فاحتلّوا بيت الإمام ولازموه ملازمة الظلّ، وتمَّ جلب مجموعة من الأطبّاء لفحصه ومعالجته ظاهرياً، ومعرفة ما بقي له من العمر في الباطن.
فلمَّا كان بعد يومين أرسل الأطبّاء الخبر إلى البلاط العبّاسي أنَّه ضعف، وأنَّه في طريقه إلى الموت، وأنَّ وضعه ميأووس منه، فأرسل الخليفة إلى قاضي قضاته ابن أبي الشوارب أمراً بأخذ عشرة من أتباعه (من مجلس القضاء)، للذهاب إلى بيت الإمام، لكي يحرّر محضراً بكيفية موته والإشهاد على ذلك(2).
وصل المرض بالإمام إلى ذروته، أيس الأطبّاء منه، انسحبوا ليتركوا له المجال للاختلاء بعائلته وإيصائهم، وحينما اشتدَّ المرض به أمر خادمه الأسود عقيد الذي كان خادماً لأبيه علي بن محمّد قائلاً:
(اغل لي ماءً بمصطكي(3)).
فقام الخادم يغلي الماء له، وجاءت به إليه (إحدى جواريه) فلمَّا صار القدح في يديه وهمَّ بشربه لم يستطع لشدّة ضعفه، فجعلت يده ترتعد حتَّى ضرب القدح أسنانه، فتركه من يده وقال لعقيد:
(أدخل البيت فإنَّك ترى صبياً ساجداً فائتني به).
فدخل الخادم إلى أحد الغرف فوجد صبياً ساجداً رافعاً سبابته نحو السماء، فسلَّم عليه فأوجز في صلاته.
فقال له: إنَّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه.
خرج الصبي وجاء إلى أبيه فسلَّم، فلما رآه أبوه الحسن بكى وقال: (يا سيّد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي).
فأخذ الصبي القدم المغلي (بالمصطكي) بيده ثمّ حرَّك شفتيه ثمّ سقاه فلمَّا شرب قال: (هيّئوني للصلاة).
فطرح في حجره منديل، فوضَّأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقميصه.
قال أبو محمّد: (ابشر يا بني فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي وأنا ولدتك وأنت (محمّد) بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولدك رسول الله، وأنت خاتم الأوصياء الأئمّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله، وسمّاك وكنّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت، ربّنا إنَّه حميد مجيد)(4).
لم يبقَ الإمام بعد ذلك إلاَّ قليلاً حتَّى انتقل إلى رحمة ربّه مظلوماً شهيداً، فضجَّت سامراء ضجّة واحدة وأخذ الناس يهتفون بحزن وأسى: مات ابن الرضا، فتعطَّلت الأسواق، وأغلقت المحال، وتجمَّع الناس أمام بيت الإمام، ما بين نادب وآخر صارخ وآخر باك، فلم يرَ مثل ذلك اليوم من باكٍ وباكية، فأحسَّت السلطات العبّاسية بخطورة ذلك، فأمرت بإرسال أبي عيسى بن المتوكّل للإشراف على تشييع الإمام والصلاة عليه.
فلمَّا وضعت الجنازة دنا أبو عيسى وكشف عن وجهه، وعرضه على بني هاشم من العلوية والعبّاسية والقوّاد والكتّاب، والقضاة والفقهاء والمعدلين وقال:
هذا الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره من خدم أمير المؤمنين من ثقاته فلان وفلان وفلان، ثمّ غطّى وجهه، وصلّى عليه وكبَّر عليه خمساً وأمر بحمله، فحمل من وسط داره، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه(5).
وهكذا انتقل الإمام مظلوماً مسموماً ختم له بالشهادة كآبائه، حيث أصبح قبره مناراً لطالبي الحرّية والراحة والقيم.
* * *
الفصل السابع: يهوذا العربي
الإيمان ملكة ونزوع قلبي لا علاقة له بعائلة المرء أو انحداره من عرق، أو عنصر أو لون، فالمناط به هو القلب لا غير، وقلوب البشر جميعاً هي هي، والإيمان له علاقة وثيقة بعقل الإنسان ومدى توظيفه في هذا الصدد.
صحيح أنَّ التربية والبيئة عوامل مساعدة أو كابحة للإيمان، إلاَّ أنَّ الإيمان أخرج أبا لهب عمّ رسول الله من حظيرة أهل البيت وأدخل سلمان القادم من بلاد فارس فيها.
وقد يخرج إنسان من بيت نبوي شريف، ويلتحق بحزب إبليس، وهذا لا يعني وجود تقصير من ذلك النبيّ أو الإمام في تربيته، بقدر ما أعطي من مساحة للحرّية لاختيار الطريق الذي يؤدّي به إمَّا إلى النار وإمَّا إلى الجنّة.
وبيوت الأنبياء تعرَّضت في بعض الأحيان، لتمرّد بعض أبنائها وخروجهم من الطريق القويم، كقابيل بن آدم وآدم من الأنبياء، وكنعان بن نوح شيخ المرسلين.. وهذه الانحرافات لم تستثن بيوت الأئمّة فقد خرج منحرفون، صاروا المثل في الانحراف لمن بعده..
فقد خرج من بيت الإمام الصادق من ارتمى في حضن بني العبّاس لقاء دراهم محدودة، وما تصرَّف علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق اتّجاه عمّه موسى بن جعفر وسعايته به أمام طاغوت زمانه الرشيد إلاَّ نموذج لذلك..
وقد توالى خروج المنحرفين من بيوت الأئمّة، كبعض أبناء الإمام الكاظم، ويبرز أمامنا موسى المبرقع بن الإمام الجواد، الذي بقي يركض وراء طاغوت زمانه المتوكّل لثلاث سنوات فلم يحصل لهما أيّ لقاء..
وقد ترسَّم خطاه من بعده ابن أخيه جعفر بن علي الهادي.
وجعفر هذا، النقطة السوداء التي غطَّت على كلّ النقط والانحرافات، فقد فاق الجميع مروقاً وانحرافاً وتهالكاً على حطام الدنيا، واللهاث المحموم وراء البلاط العبّاسي.
لقد كان الإمام علي الهادي يتفرَّس في ابنه هذا معالم الانحراف والتمرّد فحذَّر منه، فحينما بشّر بولادته لم يرَ مسروراً، ولم يظهر ترحيباً بمقدمه، فسأل عن ذلك فقال: (هوّن عليك أمره سيضلُّ خلقاً كثيراً)(6).
وكان جعفر ينتظر بفارغ الصبر فرصة انتقال أخيه إلى ربّه، لكي يتَّخذ من ذلك ذريعة للبروز أمام المجتمع وادّعاء الإمامة بعده.
والواقع أنَّ تاريخ جعفر هذا غير مجهول فهو معروف بالانحراف، وكان يرافق فتيان بني العبّاس المنحرفين في حياة أبيه، وطالما حذَّره أبوه فلم يستمع إليه، فأصبح يتعاطى الخمر ويقامر بالميسر في قصر الجوسق العبّاسي، ويعزف الطنبور وهو آلة موسيقية آنذاك.
لقد كان واقفاً في طليعة المعزّين بعد وفاة أخيه، وكان بعض الجهلة من الشيعة يكيل المدح له ويعزّيه ويهنّئه بالإمامة، وكان ينتظر فرصة الصلاة عليه أمام أنظار صفوة المجتمع الحاضرين، لأنَّ الصلاة على الإمام المعصوم ليست كأيّ صلاة، بل إنَّ المعصوم لا يصلّي عليه إلاَّ المعصوم، وبذلك تكون إعلاماً وإعلاناً أنَّ الذي قام بأدائها هو الإمام بعده.
وبالفعل فقد خرج عقيد الخادم فقال مخاطباً جعفر بن علي: قد كفّن أخوك فقم وصلّ عليه!!
فدخل جعفر بن علي إلى الدار، والشيعة من حوله، يقدمهم السمّان (عثمان بن سعيد) والحسن قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلمَّا صاروا بالدار رأوا جثمان الحسن بن علي مسجّىً على سرير، مكفّناً، فتقدَّم جعفر بن علي للصلاة عليه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر بن علي وقال: (تأخَّر يا عمّ فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي).
فتأخَّر جعفر وقد تغيَّر وجهه وتلوَّن، فتقدَّم الصبي أمام الجميع فكبَّر وصلّى عليه ثمّ أمر بدفنه إلى جانب قبر الإمام علي الهادي.
كان جعفر في الصفوف الخلفية، وهو يزفر من الغضب فقال له حاجز الوشاء: يا سيّدي من الصبي؟
ليقيم عليه الحجّة ويفضحه أمام الناس.
فقال: والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه(7).
انتهت الصلاة هذه بهزيمة ساحقة لجعفر، وقد أحسَّ كأنَّ دلواً من ماء مثلَّج قد صبَّ على رأسه، وأنَّ تلك الأحلام التي أخذت تتراقص أمامه قد تبخَّرت في الهواء، وإذا بذلك الغلام الصغير قد وجَّه إليه صفعة قاسية أطاحت به، وكيف وقد كان ذلك من طفل مطارد من أقوى الإمبراطوريات آنذاك وفي وقت اجتماع العشرات من الناس حول جثمان الإمام الفقيد، وتلك العيون موجّهة إليه، والأضواء فوقه فيجذب رادءه وينحيه ويتقدَّم أمام الجميع.
سقط أحد مبرّرات ادّعائه للإمامة، إذ صلّى على أخيه المعصوم غيره، وكان يظنُّ أنَّه بتقدَّمه للصلاة، سيحظى بتلك المنزلة السامية أمام قواعد أخيه الشعبية وكذلك أمام البلاط العبّاسي.
إنَّه لأمر عجيب أن يحصل هذا.
غلام قريب من الخمس سنين، يتيم الأبوين، يفعل هكذا، وفي موقف تحدًّ صارخ للسلطات الطاغوتية التي قتلت أباه، وأمام أنظار العشرات من الحاضرين، ممَّا يجعل منه إعلاماً علنياً كبيراً بوجود خليفة من سنخ الإمام الراحل، والذي قتل لإغلاق هذا الملف (ملف الإمامة الإلهية) المرعب للإمامة الطاغوتية التي يحملها خلفاء بني العبّاس.
وأيضاً أنَّه لغريب بالنسبة لجعفر وأضرابه، القاصري التفكير، الذين لا يعرفون ماهية الإمام المعصوم المفترض الطاعة على العباد، ولم يعلموا أو أنَّهم يتجاهلون ذلك، أنَّه المؤيّد من قبل الله، وأنَّ مثل هكذا فقاعات خادعة لا تقف أمامه، من قوى البلاط العبّاسي، وعمّ متهالك على الدنيا يريد أن يقضمها بأسنانه وأظفاره.
كان جعفر قد عقد الآمال الكبيرة على صعوده عرش الإمامة، وكيف وقد كان يشغله أبوه وأخوه، وهو من البيت العلوي الرفيع، وقد خلا له الجوّ، ولا يوجد أفضل من هكذا مناسبة، موت أخيه من جهة واجتماع الناس من جهة أخرى، فحينئذٍ يتاح له إعلان إمامته باعتباره الوارث الوحيد المعروف.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد كان لعابه يسيل لكثرة الأموال التي كانت تجبى لأبيه وأخيه، ولعلَّه اطَّلع على جانب منها، ومثل هذه الأموال ستجعله فاحش الثراء، في حالة وصولها إلى خزائنه، فيتمكَّن من بناء قصور كقصور بني العبّاس، وبنو العبّاس بنو عمومته، فلماذا لهم كلّ ذلك وهو لا يملك سوى دار متداعية آيلة للسقوط؟
ولربَّما كان يفكّر لو أنَّ الأمور إذا استتبَّت له، وأصبح الإمام على الشيعة وهم بالملايين، ووصلت إليه الأموال التي كانت ترد على أبيه وأخيه، لقام بثورة على بني العبّاس ولأطاح بهم وصعد إلى كرسي الخلافة كخليفة من آل علي، يصرف النظر عمَّا يحدث خلالها من سفك دماء بريئة أو تدمير بيوت آمنة، فالمهمّ هو الوصول إلى السلطة، والسلطة لذّة ما بعدها لذّة، يوم يكون الآمر الناهي على الألوف من البشر.
كان لديه شبه علم أنَّ لأخيه الراحل ولداً، وأنَّ هذا الولد هو وارث أبيه، وأنَّه الإمام الثاني عشر، المبشَّر به من جدّه رسول الله وآبائه الأئمّة الأطهار، ولاسيّما ما سمعه من أبيه وأخيه، إلاَّ أنَّه لم يرَ ذلك الولد، لما عند الأئمّة من معرفة بنواياه الشرّيرة، فأخفوا عنه وعن غيره مولده، فكان خروجه عليه بتلك الصفة مفاجئة كبيرة، وكان يعلم أنَّه لا إمامة في أخوين بعد الحسن والحسين، فحاول ليّ النصوص والسطو عليها كاللصوص ليغيّر كلام الله وكلام رسوله وما أخبر به آباؤه المعصومون، متّبعاً سنن من كان قبله الذين شمَّروا عن ساعد (الاجتهاد) فأفرغوا الرسالة الخاتمة من مضامينها الإلهية وحوَّلوا الحلال إلى حرام والحرام إلى حلال.
وجعفر لعب برأسه نسبه العلوي، وحسب أنَّه لمجرَّد كونه ابن إمام معصوم فإنَّ ذلك جوازاً للمرور إلى الإمامة، ونسي أنَّ عيون المجتمع مسلَّطة عليه، تنتظر الهفوات والسقطات، فكيف به وقد اتَّخذ من فتيان بني العبّاس الخلعاء أخلاّءً وندماناً، يعاقرون الخمر، ويسمعون الغناء، ويرتمون في أحضان الإماء والقيان.
هل غفل جعفر أنَّ مناط الإمامة الإلهية هو العصمة الكاملة المطلقة التي لا تشوبها شائبة، وأن لا حدَّ محدود لعمر الإمام المعصوم، وكيف وقد تسلَّم الإمام جدّه وأبوه في عمر مبكر، فكانا آيتين أذهلتا المخالف والمؤالف؟
إنَّه لغافل إذا حسب أنَّ بإمكانه ابتلاع الإمامة بسهولة مع وجود الإمام الشرعي المؤيَّد من قبل الله، ومن الغفلة القصوى بمكان أنَّ قواعد الشيعة ستنصاع له فتملأ خزائنه بأكداس الأموال!
ولقد أدار رأسه بعض جهلة الشيعة القشريين، وبعض المتزلّفين الذين يرمون صناراتهم في مثل هذه الظروف للاصطياد، بالتسليم عليه بالإمامة، ولعلَّ حشوية الشيعة انضمّوا إلى هكذا جمع.
لكون النسب العلوي الرفيع مدعاةً للخديعة، فينقادون لكلّ من هبَّ ودبَّ من ذرّية فاطمة من غير ميزان شرعي أو غربال يخرج منه من لا يصلح للإمامة.
ولربَّما أثار جعفر وأشباهه هذا السؤال على الألسنة.
من هو أجدر بالإمامة من ابن الإمام المعصوم علي الهادي لصلبه ولاسيّما أنَّ ابنه الحسن قد مات من غير عقب حسب ادّعاء البعض؟
ونسي جعفر وهؤلاء أنَّ ادّعاء الإمامة سهل يسير، إلاَّ أنَّ اجتياز امتحانها عسير جدَّاً، ولقد سقط قبله الكثير من آل أبي طالب، فأصبحوا علامات فارقة على الادّعاء الفارغ.
أخذت مراجل الغضب تغلي في قلبه، وقد أحسَّ أنَّه تعرَّض لإهانة كبيرة لا تطاق، فاندفع كالسهم المنطلق إلى البلاط العبّاسي، يريد أن يثأر لكرامته المهدورة وأحلامه الضائعة.
أدخل مباشرة على الخليفة العبّاسي، وهو يعرف جعفراً كثيراً، لكثرة تردّده عليهم ولكونه من أعوانهم القابعين في جيبه.
وهكذا كرَّر فعل يهوذا الإسخريوطي، إلاَّ أنَّ موقفه أكثر خزياً وعاراً، فقد جاء للجلاّد مطالباً برأس ابن أخيه الصبي الصغير، فقطع بذلك صلة الرحم والرحمة فيما بينهما.
لقد وقع في هذا المنحدر المشين، وعليه الذهاب إلى أبعد من ذلك، ورضي لنفسه أن يكون جاسوساً لأعداء آبائه، وأعداء أهل بيته، وكان يعلم لهفة البلاط العبّاسي للوصول إلى وريث الإمام الحادي عشر للتخلّص منه، وإغلاق باب الخطر المحدق بالعرش العبّاسي.
حدَّث جعفر الخليفة عن خروج ذلك الغلام عليه أثناء محاولة صلاته على أخيه، وأنَّه نحّاه عن الصلاة باعتراف صريح أمام الواقفين بأنَّه ابن المتوفّى وأنَّه الإمام الثاني عشر، فانزعج الخليفة من ذلك أشدّ الانزعاج، وعرف أنَّ ذلك الغلام الذي حاول قتله سابقاً لا زال على قيد الحياة، بالرغم من الإشاعات التي ملأت المجتمع والبلاط العبّاسي عن موته، فأيقظ ذلك الخوف القديم منه.
أرسل الخليفة كوكبة من الجند برفقة جعفر، فهجموا على بيت الإمام العسكري، ودخلوا جميع الغرف، ولم يدعوا زاوية إلاَّ ونبشوها، حتَّى السرداب الذي ينام فيه أهل الدار هرباً من حرارة الصيف اللاهبة فكرَّروا حادثة كربلاء، فسبوا نساء وموالي الإمام الراحل، وهرب القسم الآخر منهم، وجلب من وقع في أيديهم إلى الخليفة للتحقيق معهم بشأن الغلام الذي لم يستطيعوا الوصول إليه.
أنكر أولئك السبايا معرفتهم بالإمام الثاني عشر، وجعفر بن علي يرغي ويزبد ويحرّض الخليفة عليهم ويصرُّ على وجوده.
وكان مع أولئك السبايا اُمّ الإمام الحسن العسكري، تلك المرأة القريبة من الخمسين والمفجوعة بابنها الراحل العظيم. وجعفر بدلاً من أن يغريها ويطيب خاطرها، يقوم بسبيها وإهانتها أمام أنظار الأجانب.
أرسل بعض الرجال من غلمان الإمام إلى سجن الرجال، وأرسلت بعض النساء من جواريه إلى بيت قاضي القضاة ابن أبي الشوارب، ولاسيّما بعد ادّعاء أحد إماء الإمام الحمل، فكانت محتجزة عنده تحت أنظار القوابل والجاسوسات من مخابرات البلاط العبّاسي.
عادت تلك المرأة الثكلى المكلومة زوجة الإمام الهادي اُمّ الحسن، إلى دارها مع بعض من جواريها العجائز، وخدمها إلاَّ أنَّها لم تسلم من مضايقات جعفر ومطالبته بوراثة أخيه بالرغم من ذلك.
أصبح جعفر مثار جدل وانتقاد من الكثيرين ولاسيّما موقفه الشائن من أهل بيت أخيه المحزونين على فقده، وأصبحت سمعته في الحضيض، فرأى أن يبتعد عن بيت الإمام الحسن العسكري لفترة حتَّى تهدأ العاصفة التي أثارها، فاتَّخذ له بيتاً فيه مضافة كبيرة لاستقبال الناس، فكان الناس يأتونه لأيّام عديدة يعزّونه بوفاة الإمام الحسن، وكان البعض من البلهاء يهنّئونه بالإمامة بالرغم من فضيحته المدويّة.
وصلت إلى سُرَّ من رأى في تلك الفترة التي أعقبت وفاة الإمام، قافلة من مدينة قم، وهي مدينة في بلاد فارس موالية لأهل البيت منذ تاريخ تأسيسها حوالي العقد الثامن من القرن الأوّل الهجري على يد قبيلة الأشعريين اليمانيين.
وكالعادة جاؤوا إلى بيت الإمام العسكري، وحينما سألوا عنه قيل لهم: إنَّه قد فقد، وانتقل إلى رحمة ربّه، فبكى واسترجع هؤلاء كثيراً وقالوا: من وارثه؟
قيل: أخوه جعفر بن علي.
سألوا عن جعفر أين يمكن أن يروه أو يقابلوه؟
قيل: قد خرج متنزّهاً وركب زورقاً في الدجلة يشرب ومعه المغنّون.
صدم هؤلاء من هذه الأخبار، يتنزَّه، يشرب، معه مغنّون، وفي زورق في نهر دجلة..
هذه ليست أخلاق الأئمّة، وخصوصاً ما عرفوه عن الإمام الراحل وأبيه وأخلاقهما.
انتحى أفراد القافلة في ناحية وقال بعضهم: هذه ليست من صفات الإمام!
قال البعض الآخر: امضوا بنا حتَّى نرد هذه الأموال على أصحابها.
قال أبو العبّاس أحمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتَّى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحَّة.
قدم جعفر من نزهته، وجلس في مجلسه ذاك، دخل عليه زعماء قافلة مدينة قم، فبعد أن سلَّموا عليه وعزّوه بأخيه الإمام قالوا: يا سيّدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها وكنّا نحمل إلى سيّدنا الحسن بن علي الأموال!
فقال: وأين هي؟
قالوا: معنا..
قال: احملوها إليَّ.
قالوا: لا، إنَّ لهذه الأموال خبراً طريفاً.
قال: وما هو؟
قالوا: إنَّ هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامّة الشيعة الدينار والديناران، ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليه وكنّا إذا وردنا بالمال على سيّدنا أبي محمّد يقول: جملة المال كذا وكذا ديناراً، من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا حتَّى يأتي على أسماء الناس كلّهم ويقول ما على الخواتيم من نقش (ويخبرنا من صاحبه).
فقال جعفر غاضباً: كذبتم تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلاَّ الله.
فلمَّا سمع القوم كلام جعفر (انذهلوا وأصيبوا بصدمة كبيرة) وجعل بعضهم ينظر إلى بعض، ثمّ كرَّر جعفر كلامه قائلاً: احملوا هذا المال إليَّ.
انبرى أحدهم بجرأة وقال: إنّا قوم مستأجرون، وكلاء لأرباب المال ولا نسلّم المال إلاَّ بالعلامات التي كنّا نعرفها من سيّدنا الحسن بن علي، فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلاَّ رددناها إلى أصحابها، يرون فيها رأيهم.
هبَّ جعفر من مكانه مسرعاً إلى البلاط العبّاسي ودخل على الخليفة وكان بسُرَّ من رأى، وشكى أصحاب القافلة لامتناعهم عن تسليم الأموال العائدة لأخيه له.
أرسل الخليفة مفرزة من الشرطة لجلب رجال القافلة، فلمَّا حضروا بين يديه، سلَّموا، فبادرهم بقوله:
احملوا هذا المال إلى جعفر!
قال زعيم القافلة أحمد بن جعفر الحميري: أصلح الله أمير المؤمنين إنّا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال، وهي لجماعة أمرونا أن لا نسلّمها إلاَّ بعلامة ودلالة، وقد جرت العادة مع أبي محمّد الحسن بن علي... ثمّ صمت قليلاً وقال: ولا يمكننا أن نفعل ذلك وإلاَّ خنّا الأمانة يا مولاي.
فقال الخليفة: فما كانت العلامة التي كانت مع أبي محمّد؟
قال: كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي، فإذا فعل ذلك _ وأشار إلى جعفر _ سلَّمناها إليه، وقد وفدنا إليه مراراً، فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا، وقد مات، فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه، وإلاَّ رددناها إلى أصحابها.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين إنَّ هؤلاء قوم كذّابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب.
أطرق الخليفة برأسه إلى الأرض يفكّر، فهو يعلم أنَّ أصحاب القافلة مصيبون في قولهم، لأنَّه يعلم أنَّ الحسن العسكري يفعل ذلك ويخبر بأمور غيبية، وقد لمس ذلك منه عدّة مرَّات، ويعلم أيضاً أنَّ جعفراً هذا طفيلي، يريد التسلّق على أكتاف الآخرين، ولا يستبعد أن يستعمل هذه الأموال للإضرار بمصالح الدولة.
رفع الخليفة رأسه وقال مخاطباً جعفراً: القوم رسل وما على الرسول إلاَّ البلاغ المبين.
فبهت جعفر ولم يحر جواباً، وأسقط في يديه وتبخَّرت تلك الأموال الطائلة التي عقد الآمال على دخولها في جيبه، أشار الخليفة إلى جعفر بالخروج فخرج.
عندئذٍ تشجَّع زعيم القافلة وقال مخاطباً الخليفة: لو أنَّ أمير المؤمنين تكرَّم علينا وأمر بإخراج أمره إلى من يحرسنا حتَّى نخرج من هذه المدينة وننصرف إلى بلادنا.
أمر الخليفة قائد الحرس بتوجيه كوكبة من الجند لحراستهم، وإخراجهم من المدينة، لأنَّهم أدركوا أنَّ جعفراً يضمر لهم الشرّ، ولا يستبعد أن يرسل إليهم عصابة تقطع عليهم الطريق فتقتلهم وتسلب أموالهم.
فلمَّا خرجت القافلة من المدينة وأبعدت متوجّهة إلى بغداد، انصرفت كوكبة الجند التي تحرسهم، خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً على هيأة الخدم فنادى: يا أحمد بن جعفر، يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، وأخذ يعدّد أسماء رجال القافلة.. أجيبوا مولاكم.
اندهش القوم للمناداة بأسمائهم فقالوا له: أنت مولانا؟
قال: معاذ الله أنا عبد مولاكم فسيروا إليه.
عادت القافلة مع ذلك الغلام ودخلوا المدينة مرَّةً ثانية، ووصلوا إلى حيث ما طلب منهم، فأدخلوا إلى أحد الغرف الواسعة، فوجدوا القائم قاعداً على سرير كأنَّه فلقة قمر، وعليه ثياب خضر فسلَّموا عليه فردَّ عليهم السلام.
ثمّ قال: جملة المال كذا وكذا ديناراً، حمل فلان كذا وفلان كذا.
ولم يزل يصف لهم حتَّى وصف جميع ما كانوا يحملون، ثمّ وصف ثيابهم ورحلهم وما كان معهم من الحيوانات، فأدرك الجميع أنَّهم فعلاً أمام إمامهم وقائدهم، فخرّوا سجّداً لله وشكراً لما عرفوا، وقبَّلوا الأرض بين يديه.
ثمّ أخذوا يسألونه عمَّا يريدونه، وعن المسائل التي حملوها إليه، فأجاب عليها كلّها، فحملوا الأموال إليه وسلَّموها، وبعد ذلك طلب القائم منهم أن لا يحملوا أيّ شيء إلى سُرَّ من رأى فإنَّه سينصب لهم رجلاً ببغداد تحمل إليه الأموال وتخرج منه التوقيعات(8).
أسقط في يد جعفر، بعد فشل محاولته الاستيلاء على الأموال الشرعية، وبعد انصراف الشيعة عنه ولاسيّما بعد حادثة الصلاة والقافلة، فعرف الجميع أنَّه قد افترى وكذب بزعمه الإمامة، فأطلق عليه لقب جعفر الكذّاب الذي لازمه إلى حين وفاته.
وقد حاول محاولة أخيرة لاحتلال موقع أخيه الإلهي، وذلك بالاستعانة بالسلطات العبّاسية الطاغوتية فأخذ معه عشرين ألف دينار لإرشاء الخليفة العبّاسي فقال له: يا أمير المؤمنين اجعل لي مرتبة أخي ومنزلته، ثمّ أردف قائلاً: وأن أعطي خزينة مولانا أمير المؤمنين عشرين ألف دينار سنوياً.
فقال الخليفة (ساخراً): يا أحمق إنَّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنَّما كانت بالله وكنّا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه، وكان الله يأبى إلاَّ أن يزيده كلّ يوم رفعة، لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة.
فإن كنت في شيعة أخيك بمنزلته ومرضياً عندهم فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما في أخيك لم نغن عنك في ذلك شيئ(9).
ثمّ أمر الخليفة بإخراجه وحجبه عنه، فخرج مخذولاً يجرُّ أذيال الخيبة.
لم ينسَ البلاط العبّاسي وجود الإمام المهدي، بالرغم من مرور الأيّام والسنين، واندلاع حروب وثورات ولاسيّما أخطرها ثورة الزط أو الزنج في البصرة بقيادة رجل من عبد القيس اسمه محمّد بن عبد الرحيم مدّعياً الانتساب إلى أبناء زيد بن علي الشهيد، وسقوط خلفاء وصعود خلفاء، وانتقال مقرّ الخلافة من سامراء إلى بغداد.
آل الأمر إلى المعتضد العبّاسي بعد قتل المهتدي العبّاسي في عملية استهانة وإذلال في شوارع سامراء، وكان المعتضد يخاف من البيت العلوي، وخصوصاً ما علمه عن وجود الإمام الثاني عشر، فقد وضع الجواسيس وجهاز مخابراته في حالة استنفار قصوى لهذا الغرض، وقد وضع نقاط مراقبة وتجسّس على بيت الإمام العسكري، وقد تجمَّعت لديه معلومات وفيرة من تقارير مخابراته، عن وجود الإمام المهدي في بيت أبيه، وهنا وجد الفرصة سانحة للتخلّص من هذا الخصم الخطر، وبذلك يؤمن بقاء الخلافة وإبعادها عن الخطر الوشيك.
كان هذا الرجل كغيره من أسلافه بني العبّاس، كليل البصر قصير النظر، حيث حسب أنَّ الإمام المهدي يلطّخ يده الطاهرة بمثل هذه الخلافة الدنيئة، ولم يعلم أنَّ الله قد ادَّخر لها أقواماً من أرذل شعوب الأرض، تدين بالوثنية ولا تعرف ناموساً سوى (ياسا) جنكيزخان، هم الذين يذبحون الخلافة هذه على ضفاف دجلة فيتلوَّن ماؤها بلون الأحبار السوداء، والدماء الحمراء.
طلب المعتضد ثلاثة من أعوان مخابراته الأشدّاء في جلسة سرّية، لتوجيههم في مهمّة خطيرة جدَّاً، وطلب منهم أن يعدّو لذلك عدّة جيّدة، فيأخذ كلّ واحد منهم جواداً جيّداً، احتياطاً إضافة إلى جواده الذي يمتطيه وأن يتزوَّدوا بأسلحة ذلك الوقت من رماح وسيوف وقسي، على أن يخرجوا من بغداد بسرّية تامّة لا يعلم بهم أيّ إنسان فقال لهم: اذهبوا إلى سامراء إلى محلّة يقال لها: العسكر، فستجدون داراً كبيرةً هي دار الحسن بن علي، يجلس على بابها خادم أسود، فعليكم اقتحامها عنوةً ومن رأيتموه فيها فاضربوا عنقه وائتوني برأسه.
ذهب الثلاثة راكبين جيادهم متوجّهين إلى سامراء، فوصلوا إليها، ووجدوا الأمر كما وصف لهم وكان يجلس على باب دهليز الدار خادم أسود وفي يده تكة ينسجها، قالوا له: لمن هذه الدار؟
قال لهم: إنَّها لصاحبها.
الهوامش:
(1) أنظر: كمال الدين: 431/ باب 42/ ح 7.
(2) الغيبة للطوسي: 218 و219/ ح 181، بتصرّف.
(3) المصطكي: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ويستخرج منه صمغ يعلك وهو دواء.
(4) الغيبة للطوسي: 272 و273/ ح 237، بتصرّف.
(5) الغيبة للطوسي: 219/ ح 181.
(6) أنظر: الغيبة للطوسي: 227/ ح 193.
(7) كمال الدين: 475 و476/ باب 43/ ح 25، بتصرّف.
(8) كمال الدين: 476 - 479/ باب 43/ ح 26، بتصرّف.
(9) كمال الدين: 479، بتصرّف.
******************
لم يعبأ بهم ذلك الخادم، فدخلوا الدار وكبسوها، فوجدوها داراً واسعة ذات غرف عديدة، ففتَّشوا تلك الغرف، ولم يعثروا على أحد فيها، ثمّ إنَّهم رأوا ستاراً على أحد الأبواب، فاتَّجهوا إليه، وحينما رفعوا ذلك الستار وجدوا بيتاً كبيراً واسعاً، وقد امتلأ بالماء كأنَّه بحيرة، ورأوا في آخر البيت هذا حصيراً طافياً على الماء، وقد وقف فوقه رجل من أحسن الناس هيأة، متوجّهاً إلى القبلة يصلّي، فلم يلتفت إليهم وإلى شيءٍ ممَّا معهم، ولم يكترث لهم، بل كان متوجّهاً بكلّيته للصلاة.
فحسب أحد هؤلاء المهاجمين أنَّ بإمكانه الوصول إليه وإلقاء القبض عليه أو قتله، بالرغم ممَّا رآه من المعجزة أمامه، فسقط هذا الرجل واسمه أحمد بن عبد الله في الماء، فغرق وأخذ يضطرب ويضرب بيديه ورجليه ويناضل للخروج منه قبل أن يهلك فيه، فمدَّ أحدهم يده إليه وأخرجه بعد أن سقط مغشياً عليه وبقي ساعة في إغمائه، ثمّ حاول رجل آخر من الثلاثة مثلما حاول صاحبه فغرق هو الآخر ولم يتمّ إنقاذه إلاَّ بشقّ الأنفس.
أصاب الثلاثة الرعب وهالهم ما وقع، وعرفوا أنَّهم أمام آية إلهية كبرى، ومعجزة لا يقف لها شيء، وأنَّه لا يمكن لأيّ كائن أن ينالوا منها، فوجدوا أنَّه من الأجدر بهم الانصراف وإلاَّ حلَّ بهم العذاب المقيم.
قال الرجل الثالث الذي لم يدخل إلى الماء مخاطباً ذلك الرجل صاحب الدار: المعذرة إلى الله وإليك فوَ الله ما علمت كيف الخبر، ولا إلى من أجيء، وأنا تائب إلى الله.
فما التفت إليهم وإلى ما قاله، ولا انفتل من صلاته وبقي مستغرقاً فيها، فخاف الثلاثة خوفاً شديداً فانصرفوا عنه.
عاد هؤلاء إلى بغداد ليقدّموا تقريرهم إلى سيّدهم الخليفة، وقد أمر الحجّاب بإدخالهم عليه في أيّ وقت كان.
فوافوه في بعض الليل، فدخلوا عليه فقال لهم: ها حدّثوني ماذا فعلتم وماذا جرى؟
فأخبروه بكلّ ما جرى من الألف إلى الياء، ارتعب الخليفة من ذلك وعرف أنَّه الإمام المهدي، إلاَّ أنَّه تجلَّد ولم يظهر ذلك وقال لهم بحدّة: ويحكم لقيكم أحد قبلي وحدَّثتموه بما جرى؟
قالوا له: لا يا أمير المؤمنين.
فقال لهم: أنا نفي من جدّي (العبّاس) إن بلغني هذا الخبر من أفواه غيركم إلاَّ ضربت أعناقكم(1).
خرج هؤلاء الثلاثة من عند الخليفة خائفين، وبقي الخليفة يضرب أخماساً بأسداس وقد أصبح على يقين أنَّه أمام أمر عظيم لا قبل لمكر أو قوّة أو ثراء الخلافة إزاءه، وعرف أنَّ ذلك الرجل الذي تطارده الخلافة العبّاسية منذ أن كان في الخامسة من عمره مؤيَّد من الله، وأنَّه المهدي المنتظر.
حافظ أولئك الأفراد على هذا السرّ إلى أن ذهب الخليفة إلى مثواه الأخير، عندئذٍ حدَّثوا به ونشروه بين الناس، وقد اعتقد البعض منهم الاعتقاد الصحيح وأصبح من شيعة أهل البيت الأبرار.
* * *
الفصل الثامن: لقاءات
وهكذا التقت مصالح قوى حزب إبليس في مطاردة ذلك الصبي..
الدولة العبّاسية بجبروتها ومخابراتها وعدَّتها وعديدها..
العمّ الجاحد القاطع لرحمه، الذي أعمى عيونه بهرج الدنيا وزينتها الخاوية..
لقد مثَّل جعفر بن علي أسوأ نموذج من أبناء الأئمّة الذين انحرفوا، وإلاَّ فإنَّ أغلب أبناء الأئمّة من المؤمنين الأتقياء، فتقفز أمام أعيننا نماذج مشرقة عملاقة مثل زيد بن علي بن الحسين ذلك البطل الخالد..
والقاسم بن موسى بن جعفر، وإخوته أحمد ومحمّد وإبراهيم المرتضى المجاب.
لم ينسَ جعفر الصفعة التي وجّهت إليه في حادثة الصلاة، بل تعزَّزت بصفعة أخرى بإفشال سعيه للاستيلاء على أموال الحقوق الشرعية الواردة من مدينة قم. والإمام المهدي يعلم بما في قلب عمّه من حقد وطمع، فأمر شيعته بعد حادثة القافلة أن لا يراجعوا إلى سامراء خوفاً عليهم من جعفر، ووجَّههم إلى وكيل نصبه في بغداد وكان ذلك الوكيل عثمان بن سعيد الأسدي الملقَّب بـ (العمري).
وكانت تلك الفترة هي الغيبة الصغرى، كما سيرد في الفصل القادم، والتي فيها تخرج توجيهات وتوقيعات الإمام على يد مجموعة من النوّاب أو السفراء إلى قواعده الشعبية.
وبما أنَّ وجود سفير أو أكثر في بغداد وغيرها من البلدان، قد لا يكفي للتعريف بالإمام وحركته الإلهية، لما لتباعد البلدان وسعة المساحة الجغرافية التي توزَّع فيها شيعته، وصعوبة التنقّل فيها، فقد وجد الإمام أنَّه من الضروري الالتقاء بين حين وآخر ببعض قواعده الشعبية، لكي يسلّط الضوء على إمامته وقيادته، وتوجد مناسبات فضلى لتحقيق ذلك كموسم الحجّ الذي يلتقي فيها الألوف من المسلمين من شتّى أقطار الأرض وغيرها من مناسبات الزيارات لمراقد الأئمّة والأعياد وغيرها.
والإمام يأتي كلّ عام ليشهد موسم الحجّ، وبعد أداء المراسم من طواف وسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات يجلس مع فئات من الحجّاج للوعظ والإرشاد والتعريف بإمامته، إمَّا عن طريق الحجّة والبرهان، وإمَّا عن طريق المعجزة الدامغة، ومن المؤكَّد أنَّ النضج الفكري لأهل ذلك العصر دون المستوى المطلوب، لذا اقتضى استعمال المعجزة غالباً.
جاء علي بن إبراهيم الأودي لأداء فريضة الحجّ وكان يطوف بالبيت العتيق، وقد طاف ستّاً وأراد أن يطوف السابع، فلمح حلقة كبيرة من الحجّاج جالسين عن يمين الكعبة وفي صدرها شاب حسن الوجه طيّب الرائحة ذو هيبة ووقار، متقرّب إلى الناس، وهو مع تقرّبه منهم لا يجرأون على التكلّم معه هيبةً له، وقد انبهر الودي به، ووجد قلبه يميل إليه، فقطع طوافه واندفع للكلام معه، فانتهره الجالسون، فسأل بعضهم: من هذا؟
قالوا: هذا ابن رسول الله يظهر في كلّ سنة يوماً لخواصّه يحدّثهم.
فقال الأودي مخاطباً ذلك الشاب: يا سيّدي أتيتك مسترشداً فأرشدني هداك الله.
فناوله حصاة من على أديم الأرض، فحوَّل وجهه، وسأله بعض جلسائه قائلاً: ما الذي دفع إليك؟
فقال: حصاة..
وكشف عنها فإذا هي سبيكة ذهب، فتملَّكته الدهشة والانبهار، وذهب، فإذا بذلك الشاب قد لحقه فقال له: ثبتت عليك الحجّة وظهر لك الحقّ وذهب عنك العمى، أتعرفني؟
فقال: لا.
قال: أنا المهدي، وأنا قائم الزمان، أنا الذي أملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً، إنَّ الأرض لا تخلو من حجّة، ولا يبقى الناس في فترة، وهذه أمانة لا تحدّث بها إلاَّ إخوانك من أهل الحقّ(2).
وقد تعدَّدت اللقاءات بالعشرات، بل بالمئات، إلاَّ أنَّ أغلبها لم يسجّلها التاريخ لضياع بعض الوثائق أو كلّها أو أنَّ الإمام نفسه طلب عدم ذكرها، بحيث أنَّ المجتمع الإسلامي آنذاك أصبح على شبه يقين من وجوده وحياته لكثرة الأفواه التي تحدَّثت بها.
وهذه اللقاءات تدحض ادّعاءات المغرضين الذين يزعمون أنَّ الشيعة تقول بدخول الإمام سرداباً اختبأ فيه وهم منذ ذاك الحين ينتظرونه.
نعم هذه اللقاءات تجري بين حين وآخر، فقد تكون سنوياً، وقد تكون شهرياً، في مكّة المكرَّمة أو المدينة المنوَّرة، أو في بغداد، أو في سامراء، أو في الكوفة، أو في قم، فأين السرداب منها وهو في سامراء في بلاد العراق على بعد العشرات من الأيّام من السير المجدّ على ظهور الجمال آنذاك!
إنَّه ليس غريباً وجود سراديب في بيوت هذه المدينة، فأغلب بيوتها وبيوت مدن العراق تحتوي على سراديب _ ولا زالت موجودة لحدّ الآن _ يلتجئ إليها الناس هرباً من حرارة الصيف اللاهب، أو اختباءً من هجمات الجيوش على المدن والبيوت آنذاك في الحروب والثورات الجارية.
إلاَّ أنَّ أولئك المناوئين ذوو ذاكرة سقيمة ضعيفة _ وقد أشرنا إلى ذلك من قبل _ أو أنَّهم يتظاهرون بذلك.
وإلاَّ فإنَّ فرية السرداب ألصق بهم من غيرهم، فهم الذين يقولون بالسرداب، ويعتقدون بالسرداب، وإلاَّ فماذا نفسّر حديث تميم الداري النصراني الذي اعتنق الإسلام وبدأ يشحنه بخرافاته وأكاذيبه وأساطيره، عن حادثته مع الدجّال وأنَّه رآه محبوساً في غارٍ أو كهف في أحد جزر البحر، منذ أمد بعيد مجموعة أيديه وأرجله إلى عنقه. وهو باقٍ إلى يوم الخروج والقتال ضد عيسى بن مريم، وأنَّه _ أي تميم الداري _ لقي دابّة أهلب لا يعرف قبلها من دبرها يقال لها: الجساسة، وهي التي أرشدتهم إلى مكان الدجّال، وكلَّمتهم بلسان عربي فصيح؟
إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بحجر!
وإذا أردنا استقصاء ما يرمينا به الخصوم، لوجدناه فيهم وعليهم، وفي الواقع أنَّ هؤلاء يعانون من مرضٍ نفسي يقال له: (الإسقاط)، فالجدير بهم إمَّا معالجة أنفسهم منه أو إغلاق أفواههم من الهتر والهذر.
إنَّ حركة الإمام لم تنحصر في سامراء، ولم تنطلق من سرداب ضيّق، وإنَّما حركته واسعة ساحتها العالم الإسلامي فلربَّما يلتقي ببعض الأفراد في قم في بلاد فارس، ومرَّةً يلتقي بآخرين في مدينة الرسول (طيبة)، ولربَّما يلتقي بالجماهير في موسم الحجّ بمكّة، وقد تسمع له خبراً في بغداد وهكذا دواليك.
ولم يسجّل أي مصر من الأمصار الإسلاميّة عدم تواجد الإمام فيه لفترة، أو التقاءه بشخصيات من هنا وهناك.
وتلمس ذلك في كثرة المقامات والمزارات المتعدّدة في شتّى البلدان والتي لا علاقة مباشرة به.
وهي أماكن التقائه بقواعده أو أماكن تعبّده، وهذا ليس بكثير عليه، لأنَّه الإمام الخاتم المنتجب، وتحت يديه مقاليد الكون كلّه، وهو كلمة الله التي تعنو لها الرؤوس والجباه.
وعليه فلا معنى لهذر بعض الفريسيين(3) من مؤرّخي العرب حول قيام الشيعة بإسراج الخيول وإعداد السلاح، وإشهار السيوف أمام سرداب الإمام في سامراء كلّ يوم جمعة، صارخين بأصوات عالية طالبين خروجه لقيادتهم.
فمتى حصل ذلك وأين كان هذا؟
ويبدو أن حبل الافتراء عند هؤلاء لا ينقطع، وهؤلاء هم أهل سامراء وهم من مدرسة الخلفاء لم يذكروا ذلك، ولم يشيروا ولو بكلمة، وإنَّما يأتي رجل من أقصى مغرب الأرض يمتلك خيال الحشّاشين يذكر هذا ويرفع عقيدته به.
ولكن قد قيل: إذا لم تستح فافعل ما شئت، ولربَّما غويلز وزير دعاية هتلر تخرَّج على يد هؤلاء، فقد اتفقوا على مبدأ أكذب، ثم أكذب، حتَّى يصدّقك الناس، ولربَّما وصل البعض منهم إلى تصديق أكذوبته التي أطلقها وهذا من أشدّ أمراض انفصام الشخصية.
والأنكى من ذلك أنَّهم لا يلجأون إلى الحوار الهادئ الهادف، وإنَّما جلّ ما عندهم إزاء مدرسة هذه الطائفة المظلومة هو السباب المقذع، والتهم المزيّفة، وتحريض سلاطين الجور عليهم بتهمة فوضويتهم إزاء شرعية الحكّام، وهذا ما يثير حنق الحكّام، فإذا بهم يضعون سيوفهم ورماحهم بنحور أبناء هذه الطائفة بفتاوى هؤلاء الفريسيين:
إنَّ اليهود لحبّهم لنبيّهم
وذوو الصليب بحبّ عيسى أصبحوا
والمؤمنون بحبّ آل محمّد أمنوا بوائق حادث الأزمانِ
يمشون زهواً في قرى نجرانِ
يرمون في الآفاق بالنيرانِ
كانت الجماهير الشيعية نتيجة لما نالها من الاضطهاد الطويل، متحفّزة للانطلاق بالثورات على الطواغيت، وقد رأينا الفصول التاريخية الغنيّة، اعتباراً من ثورة الحسين وإلى ثورة يحيى بن عمر العلوي، إلاَّ أنَّه اندفاع عاطفي غير مقرون بنضج فكري وفهم لأهداف الحركات العلوية والمهدوية. وغالباً ما تفشل هذه الثورات ويقتل قادتها والكثير من قاعدتها في مجازر مروّعة. كما حدث للنفس الزكية في المدينة وأخيه إبراهيم في البصرة، وواقعة فخ التي تشابه في كلّ فصولها واقعة كربلاء.
ولا ينكر وجود أشخاص من ذوي الإيمان القوي الراسخ والفهم للحركة المهدوية. إلاَّ أنَّ هؤلاء قلّة قليلة بالقياس إلى عدد الجماهير، صحيح أنَّ مناط الحركات الثورية التغييرية غير مرتبط بالكمّية وإنَّما بالكيفية، إلاَّ أنَّ مثل الحركة المهدوية تحتاج إلى الكمّية والكيفية معاً، لما تحمله من هدف انقلابي واسع يعمُّ العالم كلّه.
خرج أبو محمّد عيسى بن مهدي الجوهري سنة مئتين وثمان وستّين للهجرة متوجّهاً إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ ولما نما إليه عن خروج المهدي في منطقة صابر، وكان هاجسه أثناء الطريق كيفية الالتقاء بالإمام والتشرّف بطلعته البهيّة، ومعرفة توجيهاته بصدد حركته.
وقد قصد الذهاب إلى المدينة المنوَّرة مباشرة باعتبارها أكثر الأماكن ترشحّاً لظهوره، وفي الطريق أصابته وعكة بعد خروجه من وادي فيد، وقد أبلَّ منها إلاَّ بعض آثار بعد وصوله المدينة، وقد اشتهى أثناء علَّته سمكاً وتمراً، وحينما وصل المدينة التقى بمجموعة من الشيعة الذين أخبروه بظهور الإمام في منطقة صابر.
انطلق عيسى بن مهدي الجوهري مسرعاً إلى صابر، فوصلها بعد فترة، وهناك أثناء صعوده على الجبل وجد قطيعاً من العنيزات العجاف، وقد رأى في بطن الوادي قصراً منيفاً، فنزل إلى الوادي ووقف على البعد من القصر يرتقب ما يحدث، ثمّ صلّى العشاءين وبعد ذلك بدأ بالدعاء والتوسّل بضراعة وخشوع فإذا ببدر خادم الإمام يصيح به: يا عيسى بن مهدي الجوهري ادخل!
فرح فرحاً شديداً وأقبل يكبّر ويهلّل ويكثر من حمد الله والثناء عليه حتَّى دخل القصر، فوجد هناك في صحن القصر مائدة كبيرة منصوبة، فأخذ الخادم بيده وأجلسه إليها وقال له: مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علَّتك وأنت خارج من فيد.
فقال: حسبي هذا برهاناً، فكيف آكل ولم أرَ سيّدي ومولاي؟
فصاح به: يا عيسى كُلْ من طعامك فإنَّك تراني.
فجلس إلى المائدة فوجد عليها سمكاً حارّاً يفور وبجانبه تمر أشبه بتمور بلاده وبجانب التمر إناء فيه لبن.
فقال في نفسه: عليل وسمك وتمر ولبن؟
فصاح به: يا عيسى تشكُّ في أمرنا، فأنت أعلم بما ينفعك ويضرّك؟
فأحسَّ بخطأه فندم ندماً شديداً وأقبل على البكاء والاستغفار.
ثمّ بدأ يأكل من الجميع، فكلَّما رفع يده لم يتبيَّن موضعها منه، فوجده أطيب ما ذاقه في الدنيا، فأكل منه كثيراً ثم شعر بالحياء فكفَّ عن الأكل فصاح به الإمام: لا تستح يا عيسى فإنَّه من طعام الجنّة لم تصنعه يد مخلوق.
فأقبل يأكل حتَّى رفع يده منه وقال: يا مولاي حسبي.
فصاح به: أقبل إليَّ.
فقال في نفسه: آتي مولاي ولم أغسل يدي.
فصاح به: يا عيسى وهل لما أكلت غمر؟
فشمَّ يده فإذا هي أعطر من المسك والكافور، فدنا من الإمام فبدا له نور غشي بصره، وأصابه خوف حتَّى ظنَّ أنَّ عقله قد اختلط فقال له الإمام: يا عيسى ما كان لك أن تراني لولا المكذّبون القائلون: أين هو؟ ومتى كان؟ وأين يولد؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأيّ شيء نبَّأكم؟ وأيّ معجز أتاكم؟ أمَا والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع ما رووه وقدموا عليه وكادوه وقتلوه، وكذلك آبائي ولم يصدّقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجنّ إلى ما تبين.
يا عيسى فخبّر أولياءنا ما رأيت وإيّاك أن تخبر عدوّنا فتسلبه.
فقال: يا مولاي ادع لي بالثبات!
فقال: لو لم يثبّتك الله ما رأيتني وامض بنجحك راشدا.(4)
وقد عملت هذه اللقاءات دوراً إعلامياً في التعريف بالإمام لقواعده الشعبية، في وقت لم تكن هناك وسائل إعلامية متطوّرة سوى تأليف الكتب، أو الخطب في الجمع والمناسبات، وأغلبها كانت بأيدي مناوئي الشيعة، وقد أصبح نقل الروايات من الأفواه هو الوسيلة الناجعة رغم مخاطر ذلك من دخول الإشاعات والأكاذيب التي لها سوق رائجة آنذاك، وعليه فقد أصبح الالتقاء بصاحب الأمر مباشرة، ثمّ الطلب من أولئك الذين يلتقي بهم نقل ما جرى إلى إخوتهم بكلّ صدق، هو الوسيلة لإيقاف الموجات المضادّة للتشيّع بالإضافة ما يصدر على أيدي سفرائه من توجيهات وتعليمات وتوضيحات بشأن الأحداث الجارية كقناة ثانية.
لقد كانت تلك الفترة مضطربة من كلّ المقاييس، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ضعف السلطة السياسية وتحوّلها إلى لعبة تتداولها العناصر المشاغبة والغير منضبطة كالأتراك وغيرهم.
ومن جهة أخرى عصفت بالعالم الإسلامي ثورات وفتن كبيرة، كثورات الخوارج والقرامطة، وكانت أشدّها ثورة الزط أو الزنج وهم أقوام جلبوا من القارّة الهندية كأسرى وعبيد للعمل في المزارع والحقول، التي كبدت الخلافة العبّاسية والمجتمع آنذاك خسائر فادحة.
وفي هذه الفترة ظهرت الحركة الحنبلية المتطرّفة كردّ فعل على حركة المعتزلة الذين أسرفوا اتّجاه خصومهم، بحيث ناقضوا الفكر المعتزلي في كلّ شيء، وكلّ من ينحو نحو المعتزلة، من حيث التنزيه للذات الإلهية، وإذا بهم يقعون في هوة التجسيم الفاضح، لذلك دخلوا في معارك فكرية ومسلَّحة ضد المدارس الأخرى من سنّية وشيعية.
هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن التي تعصف بالمجتمع، لا بدَّ من تأثيرها المباشر على الشيعة كأيّ جزء من المجتمع، فمن الضروري جدَّاً وجود ربّان ماهر حاذق يقودها، فكان الإمام هو الربّان، وكان هو الموجّه وكان هو المرشد، وقد أوكل إلى بعض أصحابه من الملاكات المتقدّمة مهمّة الإرشاد والتوجيه بتوجيه منه مباشر.
فأوجد نظام السفارة والوكالة بينه وبين قواعده الشعبية _ الذي سنتكلَّم عنه في الفصل اللاحق _ والملاحظ أنَّ اللقاء بالإمام المهدي ليس اعتباطياً أو عبثياً ولا متاحاً لكلّ من هبَّ ودبَّ، وإنَّما يتمُّ على أساس من الضوابط الصارمة التي تتعلَّق بمدى إيمان ذلك الشخص ومدى استيعابه لأهداف الحركة المهدوية، كما أنَّ فيها أهدافاً تربوية شخصية وعامّة يؤكّد عليها الإمام من خلال اللقاء.
خرج علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، من بلدته الأهواز ليلتحق بأحد القوافل المتوجّهة إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ، وقد وجد في نفسه ميلاً قويّاً ونزوعاً للحجّ، علَّه أثناء الموسم يلتقي بالإمام، وقد كان علي هذا أحد المقرَّبين للإمام الحسن العسكري، وقد غادر سُرَّ من رأى إلى الأهواز منذ سنوات ليكون وكيلاً له في إدارة شؤون الشيعة.
وعلي هذا كان في حادثة حمل الإمام المهدي _ وهو طفل صغير _ إلى خليفة ذلك الوقت، وما جرى خلالها من معجزات سلبت كلّ مبادرة من يد الطاغوت العبّاسي لإيقاع الأذى أو النيل من الإمام آنذاك.
وصل علي بن إبراهيم مدينة الكوفة، وهي قاعدة الشيعة منذ عهد الإمام علي، فدفع أحماله ورحله إلى بعض أصحابه في القافلة وذهب للسؤال عن ورثة الإمام العسكري وأهله علَّه يجد أثراً أو يسمع لهم خبراً. لم يحصل على شيء فانطلق مع أصحابه متوجّهاً إلى الحجاز، وبعد مضيّ أيّام من السير المجهد وصل إلى المدينة المنوَّرة، وذهب أيضاً للسؤال عن آل محمّد فما وجد لهم أثراً ولا سمع لهم خبراً، فأصابه حزن من جراء ذلك، إلاَّ أنَّه لم يفقد الأمل في الوصول إلى مبتغاه، فخرج متوجّهاً إلى مكّة المكرَّمة.
وفي مكّة المكرَّمة قام بأداء مراسيم الحجّة من السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت ورمي الجمار، وأثناء ما كان يطوف حول البيت، اصطدم بفتى حسن الوجه، طيّب الرائحة، يمشي الهوينا، ويطوف حول البيت، فارتاح لهيأته، وأقبل يحدق النظر إليه ممَّا أثار فضوله فقال له:
من أين الرجل؟
فقال: من أهل العراق.
فقال له: من أيّ العراق؟
فقال له: من الأهواز.
فقال له: أتعرف ابن الخصيب؟
فقال: رحم الله دُعي فأجاب.
فقال: رحمه الله فما كان أطول ليله وأكثر تبتّله وأغزر دمعته.
ثمّ أردف قائلاً: أفتعرف علي بن إبراهيم بن (المازيار)؟
فقال: أنا علي بن إبراهيم.
فقال: حيّاك الله أبا الحسن، ما فعلت العلامة التي بينك وبين أبي محمّد الحسن بن علي؟
فقال: معي.
فقال: أخرجها.
فأدخل يده في جيبه فأخرج خاتماً مكتوب على فصّه: (محمّد وعلي)، فلمَّا رآه ذلك الفتى لم يتمالك من البكاء ففاضت عيناه بالدموع حتَّى بلَّل ملابسه وهو يقول: رحمك الله يا أبا محمّد فقد كنت إماماً عادلاً ابن إمام وأبا إمام أسكنك الله الفردوس الأعلى مع آبائك.
ثمّ صمت قليلاً وتطلَّع في وجه علي بن مهزيار وقال له: لقد أذن لك يا ابن المازيار، فاقصد إلى رحلك وكن على أهبَّة من أمرك، حتَّى إذا لبس الليل جلبابه، وغمر الناس ظلامه صر إلى شعب بني عامر فإنَّك ستلقاني هناك.
ذهب علي بن إبراهيم إلى منزله وهو فرح لنجاح مسعاه، حتَّى أزف الوقت الموعود، فأصلح رحله وقدم راحلته وعكمها شديداً، ثمّ ركب وأقبل مسرعاً في السير حتَّى ورد الشعب، فإذا بالفتى قائماً ينادي: يا أبا الحسن إليَّ.
فما زال يمضي نحوه فلمَّا قرب منه ابتدأه بالسلام وقال: أهلاً وسهلاً يا أبا الحسن، طوبى لك فقد أذن لك.
ثمّ أضاف قائلاً: سر بنا يا أخي..
فما زال الاثنان يسيران يتجاذبان أطراف الحديث، حتَّى اجتازا جبال عرفات ومنى، حتَّى أزف الفجر الأوّل، وقد توسَّطا جبال الطائف، فقال الفتى مخاطباً علياً: انزل فصلّ صلاة الليل.
نزل علي بن إبراهيم من راحلته، وتوجَّه إلى القبلة وأخذ يصلّي صلاة الليل، وبعد إتمام الثمان الركع الأولى أمره بالشفع فشفَّع ثمّ بالوتر فأوتر، وبعد ذلك سجد وعقَّب ببعض الأدعية المأثورة الواردة في هذا المورد، ومن ثَمَّ صلّى صلاة الفجر بعد دخول وقتها، ثمّ ركب وأمره بالركوب، والانطلاق معاً. وسار الاثنان حتَّى وصلا بقعة جميلة خضراء كثيرة العشب والكلأ.
فقال له: هل ترى في أعلاها شيئاً؟
فرأى كثيباً من رمل في وسط تلك البقعة وفوقه بيت من الشعر يتوقَّد نوراً.
فقال له: نعم أرى كثيب رمل عليه بيت يتوقَّد نوراً.
فقال له: هناك الأمل والرجاء، وأضاف قائلاً:
سر بنا يا أخ.
فسار الاثنان حتَّى وصلا إلى أسفل الذروة، فقال: انزل فهاهنا يذلُّ كلّ صعب ويخضع كلّ جبّار.
فنزل الاثنان ثمّ قال له: خل عن زمام الناقة.
فقال: على من أخلّفها؟
قال: حرم القائم لا يدخله إلاَّ مؤمن ولا يخرج منه إلاَّ مؤمن.
فخلّى عن الناقة وطفق الاثنان يمشيان حتَّى وصلا قريباً من الخباء، فسبقه الفتى بالدخول وأمره بالوقوف حتَّى يخرج إليه.
ثمّ بعد قليل خرج من الخباء وهو يقول: طوبى لك فقد أعطيت سؤلك، أدخل فهنّاك السلامة.
فدخل الخباء فوجد الإمام جالساً على نطع عليه من أديم أحمر، وقد اتَّشح ببردة وائتزر بأخرى وقد كسر بردته على عاتقه وهو كأقحوانة أرجوان، قد تكاتف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى، وإذا به كغصن بانٍ، أو قضيب ريحان، سمح سخي، تقي نقي، ليس بالطويل الشاهق ولا بالقصير اللاصق، بل مربوع القامة، مدوَّر الهامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، سهل الخدّين، على خدّه الأيمن خال أسود كأنَّه فتاتة مسك على رضراضة عنبر.
فلمَّا رآه بادره بالسلام فردَّ عليه أحسن ما سلَّم عليه وسأله عن أهل العراق.
فقال: سيّدي قد ألبسوا جلباب الذلّة وهم بين قوم أذلاّء تناوشتهم سيوف بني الشيصبان.
فقال: يا ابن المازيار لتملكونهم كما ملكوكم وهم يومئذٍ أذلاّء(5).
فقال: لقد بعد الوطن وطال المطلب.
فقال: يا ابن المازيار أبي أبو محمّد عهد إليَّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم، ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة. ولهم عذاب أليم، وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلاَّ وعرها ومن البلاد إلاَّ قفرها، والله مولاكم، أظهر التقيّة فوكَّلها بي، فأنا في التقيّة إلى يوم يؤذن لي فأخرج.
فقال: يا سيّدي متى يكون الأمر؟
فقال: إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة (بأقوام لا خلاق لهم)(6)، واجتمع الشمس والقمر، واستدار بهما الكواكب والنجوم.
فقال: متى يا ابن رسول الله؟
فقال له: في سنة كذا وكذا تخرج دابّة الأرض، من بين الصفا والمروة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان تسوق الناس إلى المحشر(7).
* * *
الهوامش:
(1) الغيبة للطوسي: 248 - 250/ ح 218، بتصرّف.
(2) كمال الدين: 444 و445/ باب 43/ ح 18، بتصرّف.
(3) هؤلاء يشبهون فريسي بني إسرائيل المعادين للمسيح.
(4) بحار الأنوار 52: 68 - 70/ ح 54، بتصرّف.
(5) كما حدث مؤخّراً في العراق.
(6) ما يوجد الآن فعلاً.
(7) كمال الدين: 465 - 470/ باب 43/ ح 23؛ الغيبة للطوسي: 263 - 267/ ح 228، بتصرّف وجمع بين الروايتين.
******************
الفصل التاسع: أربع سفراء (الإعلان الأخير)
رأينا في الفصول السابقة، الأحداث الجسيمة التي أحاطت بالإمام المنتظر منذ أن كان رضيعاً وحتَّى استلامه مقاليد الإمامة في الخامسة من عمره، وقد اتَّفقت كلّ قوى إبليس ضدّه، من جبروت السلطة العبّاسية، وصولات عمّه جعفر ومحاولات التخلّص منه بأيّ طريقة.
بدأت عمليات مطاردته المحمومة، يقودها العمّ الغادر، ومعه قوى البلاط العبّاسي، ولم يرف لذلك العمّ جفن، ولم يرأف بابن أخيه اليتيم ذي الخمس سنوات، فجمع عليه فاجعة فقد أبويه، والهجوم على داره ومطاردة وطرد عائلته ولاسيّما جدَّته الامرأة العجوز الثكلى بابنها الشهيد الراحل.
لم تفلح تلك الجهود الشيطانية، وأنّى لها أن تفلح وكيد الشيطان كان ضعيفاً، والله هو الذي يدافع عن الذين آمنوا، ومن أجدر من الإمام المعصوم المجتبى من الله بالدفاع، أليس الله قد ادَّخره _ منذ أن أهبط آدم مع عدوّه اللدود إبليس _ لإقامة العدل الإلهي وتطبيق الهدف السامي من خلق الإنسان واختياره خليفة في الأرض:
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30).
نعم إنَّ الطغاة يصابون في أغلب الأحيان بالعمى عن الحقائق، ويأخذهم الغرور والشعور بالعلو والاستكبار، حينما يرون الجباه تنحني أمامهم، والأتباع يهرولون وراءهم. فينسون أنَّ كلّ ذلك أشبه بفقاعات صابون لا تلبث أن تنفجر، وأمامنا التاريخ الذي حدَّثنا عن هكذا أحداث، وإلاَّ فإنَّ النمرود بقضّه وقضيضه وجنده وأعوانه يدخل في مواجهة مباشرة مع شخص واحد لا غير هو إبراهيم، فتنقلب تلك المعادلة ويخرج ذلك الطاغوت منكسراً يجرُّ أذيال الخيبة ويموت في أحقر ميتة بأحقر حشرة هي البعوضة.
وبنو العبّاس طواغيت بامتياز، وامتيازهم أعلى من بني أميّة، لأنَّ بني أميّة جاؤوا إلى الحكم بمساعي الثلاثة وتخطيطهم الدؤوب منذ حادثة الغدير، لكن بني العبّاس جاؤوا إلى الحكم براية مصبوغة بدم الحسين وحفيده زيد، وبشعار طالما عشقته الأمّة: (الرضا من آل محمّد)، بعدما ذاقوا الويلات من خلفاء الشجرة الملعونة. فتحوَّلت الخلافة الهاشمية العبّاسية إلى ملك كسروي أو قيصري، يتنقَّل بين قطب التضليل الإعلامي العقائدي، وقطب السهرات الليلية الفاسدة.
ولعلَّ من سخريات القدر أن يتبوأ أبو جعفر الدوانيقي (الشحّاذ) مقاليد السلطة في مشارق الأرض ومغاربها، فبعد الذلّ والجوع والاستجداء بفضائل آل محمّد في القرى النائية والأرياف القاصية، إذا بالأموال كأكداس الجبال وإذا بالألوف الألوف من البشر تنحني أمامه خاضعة ذليلة، أترى أيمكن أن يتحمَّلها ويطيقها _ ولاسيّما هو من بيت معروف بالاهتزاز العقائدي _ من غير أن يتحوَّل إلى وحش كاسر يفترس كلّ من يقول له: مَهْ؟
وهكذا انتقل أبو جعفر من دائرة الهدى الهاشمي إلى دائرة الضلال الأموي، فتعلَّق هو وورثته بأغصان الشجرة الملعونة ليحمل سبّة الأبد وعار التاريخ.
لقد كان بنو العبّاس ذوي مكر وخديعة، لم يألوا جهداً في استعمال أخسّ الأساليب اتّجاه خصومهم، المهمّ هو البقاء على كرسي السلطة، ولو أصبحوا خلفاء أقفاص، فكانت حملاتهم المسعورة على إخوتهم آل علي وفاطمة.
وقد رأينا في الفصول السابقة ما عملوا من جرائم حقيرة للقضاء على أئمّة أهل البيت، وآخرها محاولاتهم للقضاء على آخر سلسلة الإمامة بغضّ النظر عن مقدار عمره الشريف، فخرج منها منتصراً حاملاً راية الإمامة العلوية الخالدة إلى يوم القيامة.
لقد كانت أحداثاً عاصفة، وخطوباً عظيمة، جرَّها أولئك الظالمون، لا على أهل البيت النبوي فحسب وإنَّما على الجماهير التي يحكونها، وإذا بجانب الليالي الحمراء التي تقرع فيها كؤوس الخمر ممتزجة بضحكات السكارى تسمع أنّات الجياع والمحرومين. وإذا بجانب أنغام قيثارات العازفين وأغاني المغنين والقيان، تسمع أصوات المعذَّبين في قعر السجون.
من كلّ ذلك فإنَّك تجد أنَّ الكثير من شباب وكهول البيت النبوي ينتفضون من الغضب لما يرونه، فيقدّمون أنفسهم قرابين بشرية.
هذه الأحداث منذ استشهاد الإمام الحسن العسكري، واختفاء الوليّ الخاتم عن قواعده الشعبية، إلاَّ في أنطقة ضيّقة أوجدت نوعاً من الفراغ في الساحة الشيعية، وهذا الفراغ حاول ملأه بعض المنحرفين والطامعين والدجّالين، والانحراف يبدأ صغيراً ثمّ يتعاظم مع مرور الزمن حتَّى يصبح مروقاً فاضحاً، وتبدو الصورة أكثر كثافة حينما تطالعنا أسماء محمّد بن علي الشلمغاني الملقَّب بابن أبي العزاقر، ومحمّد بن نصير النميري والحسين بن منصور الحلاّج، وأبي دلف المجنون، والشريعي، إلى آخر القائمة.
ودعوات هؤلاء لا تذهب سدى، فقد تجد لها صدى أو موطأ قدم عند بعض الجهلة والسذّج من الشيعة فلا بدَّ من وضع وسيلة ناجعة لمقاومة الاتّجاهات المنحرفة، وقيادة الشيعة في هذه الظروف الرديئة إضافة إلى أنَّ الإمام مقبل على غيبة طويلة لا يعلم أمدها إلاَّ الله، وهذه الغيبة عن أمر ووصيّة رسول الله وصلت إليه عن طريق آبائه المعصومين، وهذه الغيبة ستكون على مرحلتين صغرى ذات أمد محدود، لكي تكون تمهيداً لغيبة كبرى حتَّى تعتاد قواعده الشعبية على ذلك، ولكي لا تكون مفاجأة لها فيحصل لها ما يشبه الصدمة قد تطيح بكيانها الذي بناه آباؤه المعصومون.
وفي هذه الفترة (الغيبة الصغرى) كانت عن طريق نظام السفراء أو الوكلاء الذين أصبحوا حلقة الوصل ما بين الإمام وقواعده الشعبية حيث يتمُّ إيصال تعليماته وتوجيهاته وأحكامه وأوامره عن طريقهم.
وهؤلاء الوكلاء أو السفراء من ذوي العقول العلمية العالية والقلوب المفعمة بالإيمان، والنفوس المشربة بحبّ أهل البيت، بحيث وصلوا إلى مرحلة العشق الكامل للشهادة، والذوبان في طاعة إمامهم وقائدهم.
وكذلك فقد استعمل الإمام إضافة إلى نظام السفراء، نظام الاحتجاب الجزئي، فقد استعمل أسلوب الالتقاء ...
وهذه الفترة الوقتية قد امتدَّت ما يقارب السبعين عاماً وقد تناوب فيها السفارة أربعة سفراء منتخبين من قبل الإمام وهم أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (لقباً) الأسدي (نسباً)، وأبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد، وأبو القاسم الحسين بن روح النوبختي، وأبو الحسن علي بن محمّد السمري.
وأوّل سفير كان أبو عمرو عثمان بن سعيد الذي كان أحد تلامذة ووكلاء الإمام الهادي في استيفاء الحقوق الشرعية من الموالين، والإفتاء والتوجيه لهم، وقد توَّجه الإمام الهادي بوسام خالد:
(هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقول، وما أدّاه فعنّي يؤدّيه).
ويصبح وكيلاً للإمام الحسن العسكري بعد انتقال أبيه إلى جوار ربّه فقد قال عنه:
(هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّي)(1).
وكان يتاجر بالسمن فلقّب أيضاً بـ (السمّان)، وكان يضع الحقوق الشرعية الواردة إليه من قبل الموالين في أجربة السمن حيطة وحذراً من السلطات آنذاك.
وقد حضر تجهيز الإمام الحسن العسكري بعد استشهاده، مشتركاً مع الإمام المهدي سرّاً، حيث كان يخشى على الإمام من السلطة العبّاسية ومن عمّه جعفر بن علي.
وحينما تحضر الوفاة أبا عمرو عثمان بن سعيد، فإنَّه يبلّغ أصحابه وقواعد الإمام الشعبية باتّباع ولده أبي جعفر محمّد بن عثمان، بأمر الإمام المهدي، وقد أبَّن الإمام المهدي سفيره الأوّل الراحل بقوله في رسالته:
(إنّا لله وإنّا إليه راجعون، تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه (عليهم السلام)، فلم يزل مجتهداً في أمرهم، ساعياً فيما يقرّبه إلى الله عز وجل وإليهم، نضَّر الله وجهه وأقاله عثرته).
وأضاف قائلاً:
(أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رزئت ورزئنا وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسرَّه الله في منقلبه، وكان من كمال سعادته أن رزقه الله عز وجل ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترحَّم عليه، وأقول: الحمد لله، فإنَّ الأنفس طيّبة بمكانك وما جعله الله عز وجل فيك وعندك، أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفَّقك، وكان الله لك وليّاً وحافظاً وراعياً وكافياً ومعيناً)(2).
وقد كان السفير الأوّل معروفاً من قبل القواعد الشعبية وقد أجمعت على وثاقته ونزاهته وانقادت له، وقد حلَّ محلّه ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان، فانقادت له، إلاَّ من بعض المنحرفين والدجّالين وقد تمَّ التعامل معهم بما فضحهم أمام الجميع. وكانت التوقيعات تخرج على يديه متضافرة، وكثير من معجزات الإمام ظهرت على يديه لا يتَّسع المجال لذكرها. واستمرَّ مضطلعاً بالسفارة قرابة الخمسين سنة، حيث التحق بركب الخلود، وحيث سلَّم منصب السفارة من بعده للشيخ الجليل أبي القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي، وقد أعلن وأشار الشيخ أبو جعفر محمّد بن عثمان له في حضور جمع من الوجوه والأكابر الذين سألوه: إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟
فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام)، والوكيل والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أموركم وعوّلوا عليه في مهمّاتكم فبذلك اُمرت وقد بلَّغت(3).
وقد تولّى الحسين بن روح السفارة فعلاً بعد موت أبي جعفر محمّد بن عثمان السفير الثاني، حتَّى التحق بركب الخلود كسابقيه بعد مرور ما يقارب العشرين سنة من السفارة، وقد اضطلع بمهامّه على أكمل وجه وأكمل صورة وكان ملتزماً بالتقيّة المضاعفة وكان يداري المؤالف والمخالف.
ثمّ تولّى السفارة بعده أبو الحسن علي بن محمّد السمري التي لم تستمر إلاَّ ثلاث سنوات تقريباً، وانتهت بورود رسالة من الإمام الهادي إليه يعلن فيها انتهاء فترة الغيبة الصغرى، وعهد السفارة والوكالة، ويمنعه من الوصيّة إلى أيّ شخص بعد موته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العلي العظيم).
فتمَّ نسخ تلك الرسالة بالعشرات، وبثَّت بين القواعد الشعبية، وفي اليوم السادس دخل على أبي الحسن السمري أصحابه وهو يجود بنفسه فقالوا له: من وصيّك من بعدك؟
فقال: لله أمر هو بالغه(4).
وقضى وانتقل إلى جوار ربّه، وهكذا وقعت الغيبة الكبرى، وانقطعت العلاقة المباشرة بين الإمام وشيعته، بعد اعتيادها على غيبته خلال الغيبة الصغرى. إلاَّ أنَّه لا يعني أنَّ الإمام قد قطع كلّ صلة بقواعده الشعبية ومواليه، بل كان يلتقي بهم ليس بعنوانه المباشر كإمام وقائد لهم، وإنَّما كشخص عادي، لتوجيه سلوك أو تنبيه على قضيّة ما بحيث لا يتمُّ التعرّف على شخصيته إلاَّ بعد انصرافه، وتحقّق الهدف الكامل من ذلك..
وقد امتلأت الكثير من الكتب بهذه الحكايات بالعشرات يمكن الرجوع إليها إن أراد القارئ الكريم الاستزادة.
وهنا يطرح سؤال مشروع، هل إنَّ الإمام المهدي قد وضع ضمانة لقيادة شيعته في غيبته الكبرى هذه بحيث لا تؤثّر غيبته في كيانها ومقوّماتها، وما هي هذه الضمانة؟
والجواب هو طبعاً بالإيجاب، فهناك الضمانة الناجعة التي حفظت وعصمت قواعده من التفكّك من الاندثار ولاسيّما وهي تواجه أخطار جسيمة من أعدائها التقليديين من الحكّام وغيرهم.
فبما أنَّ الإمام هو وصيّ رسول الله، وخليفته وخليفة الله في الأرض، فإنَّه أيضاً رحمة الله للعالمين مثل جدّه خاتم الأنبياء، ولا يمكن لهذه الرحمة أن تتركهم للفتن والزعازع والأمواج التي تضربهم من هنا ومن هناك، وقد دقَّ حجر الأساس لهذه الضمانة هو وآباؤه الطاهرون.
(أنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنَّما بحكم الله قد استخفّ، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله)(5).
(فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه)(6).
وقد ثبَّت الإمام المهدي هذه الضمانة بأمره التاريخي وإعلانه الأخير:
(وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم)(7).
وهذا يعني انتقال الوكالة الخاصّة لأفراد معروفين ومشخَّصين كما أشرنا إلى ذلك، إلى الوكالة العامّة المشخَّصة لكلّ عالم عامل تقي ورع، معروف بالعدالة والصدق، والعلم والمعرفة.
وبذلك فقد وُضِعَ حدّ صارم لا يمكن تجاوزه بأيّ حالٍ من الأحوال، فالذي يدّعي الوكالة الخاصّة بعد موت السفير الرابع وانتهاء الغيبة الصغرى فهو كذّاب مفتر، ودجّال لا يسمع لكلامه ويضرب به عرض الجدار كائناً من يكون.
وعليه قد أصبح الفقيه الجامع لشروط المرجعية نائباً عن الإمام، لا يسوغ لأيّ موالٍ لأهل البيت مخالفته أو التمرّد عليه أو حتَّى طرح سؤال: (لِمَ؟)، عن بعض تصرّفاته، لأنَّ ذلك يستلزم مروقه من التشيّع وردّه على الإمام المعصوم الذي نصَّبه، وقد أصبحت المرجعية منذ انتهاء فترة الغيبة الصغرى العمود الفقري والعقل المفكّر وصمّام الأمان للشيعة، وهي التي حفظت كيانهم ووجودهم منذ قرون عديدة.
ولما لهذا التلاحم القوي بين المرجعية وقواعدها الشعبية من أثر في حفظها، فقد أثار المناؤون بعض الغبار عليها فحاولوا قديماً وحديثاً دقّ إسفين بينهما، أو محاولة التفكيك بين الطرفين، بإلقاء الشبه والتهم الزائفة والأكاذيب والافتراءات التي تطال بعض العلماء الأعلام. بل لجأوا إلى زرع بعض العناصر الفاسدة وألبسوهم العمائم للقيام ببعض التصرّفات الغير أخلاقية لإظهار أنَّ طلبة العلوم الدينية على هذه الشاكلة.
ولعلَّ أبرز مثال تاريخي على حملات التهويش والتشويش على علماء الشيعة الأبرار ما قام به ابن تيمية الحرّاني اتّجاه العلاّمة الحلّي (ابن المطهَّر) الذي كان يسمّيه ابن المنجّس خروجاً على قواعد اللياقة والأدب في قبال الخصوم.
لقد مرَّت هذه الطائفة منذ الغيبة الصغرى خلال مسيرتها التاريخية الطويلة اللاهبة، بمختلف الخطوب والمحن والفتن، من انتقاض الأطراف عليهم وكثرة الأعداء لهم، وتنمر الطواغيت والحكّام عليهم، لو حدث أن تعرَّضت طائفة أخرى غيرها لعشر ما تعرَّضت له لأصبحت في خبر كان وحديثاً من أحاديث التاريخ.
ولعلَّ الكثير من المفكّرين والباحثين من المؤالفين والمخالفين يتساءلون عن سرّ هذا الصمود وسرّ هذا الوجود؟
والإجابة لا تخلو من الإحالة على التأييد الإلهي الذي هو فوق كلّ شيء، فمن كان الله معه لا يخشى شيئاً ولو تألَّبت عليه السماوات والأرض، والسبب في ذلك قوّة إيمانها بقضيّتها واستعدادها الكامل بقضّها وقضيضها التي جعلت تمدّ رقابها للسيف والنطع، ولا تحني رأسها أمام الجلاّدين وقضاة السوء، والتفافها القوي الواعي حول مرجعيتها الربّانية.
لو أنَّك أردت النظر إلى تاريخها الدامي منذ وفاة النبيّ الأعظم وحادثة الانقلاب الجاهلي القرشي في السقيفة لوجدتها قد تمسَّكت بثقلين أساسيين هما القرآن والعترة، فاتَّبعت القرآن في الايصاء بالعترة، واتَّبعت العترة في الايصاء بالقرآن.
ثقلان متلازمان لا يفترقان إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول، والذي يتمسَّك بهما سيبقى معهما إلى يوم القيامة من باب تلازم العلّة بالمعلول، ممَّا يشير إلى أنَّها الطائفة المحقّة الناجية من غير شكّ وإبهام، وأمَّا ما يدَّعيه غيرها من الطوائف فدون ذلك خرط القتاد.
وهذا الإيمان بالثقلين والعمل بهما، قد أعطى هذه الطائفة طاقة حركية متجدّدة لا نفاد لها، تتحرَّك ضمن المراحل التاريخية دون توقّف، فلم تكن منغلقة على نفسها _ بالرغم من استخدامها التقيّة _ كبعض الطوائف السرّية التي بادت، وإنَّما انفتحت على العالم من خلال الكلمة الهادفة والحوار الهادي، والفكر الخلاّق، والخلق القويم، وطاقتها الروحية من خلال ثروتها الثرّة من الأدعية والأوراد التي لا تتوفَّر لدى أيّ طائفة إسلاميّة أخرى.
لا أدّعي أنَّها وصلت إلى مصاف الملائكة من حيث الطهر والنقاء، فهذا محال، ففي صفوفها يوجد منحرفون ومضلّون ومنافقون، وهذا شيء طبيعي، لأنَّ كلّ دعوة حقّ لا بدَّ من وجود أعداء وخصوم لها، إمَّا في داخل صفوفها أو خارجها، وهؤلاء يستعملون أساليب الكذب والدجل والتضليل والافتراء ومحاولة تفخيخ الطائفة من الداخل بالسلوكيات الأخلاقية المنحرفة والشاذّة.
ويبدو أنَّ إخواننا من المدارس الإسلاميّة الأخرى، قد نسوا أو تناسوا أعداء الإسلام الحقيقيين من يهود وصليبيين وملحدين فتركوهم وتمسَّكوا بتلابيب الشيعة، وكأنَّ أولئك الأعداء عقدوا صلحاً دائماً مع الإسلام فلا تآمر عليه، ولا حملات تشكيك وتشويه لصورته وصورة رسوله الأعظم، فاتَّخذوا من تراث بني أمّية وبني العبّاس المرّ غذاءً لهم يجترونه كلّ حين في الحقد الأسود على أهل البيت وأتباعهم.
ولا يستبعد أن يقوم الصليبيون واليهود بزرع مجاميع صليبية أو يهودية ذات توجّهات تلمودية في صفوف المسلمين مرتدين ثوب الإسلام، من إطالة اللحى وتقصير الثياب، رافعين عقيدتهم بالدفاع عن مقدَّسات الإسلام، من افتئات الشيعة عليه، فيقومون بإصدار الفتاوى المكتوبة في دهاليز الموساد والموقعة من أولئك العثانين ذوي الثياب القصيرة، بإهدار دماء طائفة عظيمة (ذات عداء تاريخي مع اليهود)، أذاقت اليهود قديماً وحديثاً طعام الذلّ والهزيمة.
وإلاَّ فماذا نفسّر انثيال هذه القطعان السائبة على بلاد المسلمين، يقتلون الطفل البريء، والمرأة المسالمة، والغافل والكاسب في برودة دم، أو يرفعون رؤوس ضحاياهم أمام التلفاز رافعين الصوت: (الله أكبر).
لقد ألبس هؤلاء الإسلام ثوب العار وجلَّلوه بالشنار لعشرات السنين، وطردوا الملايين الباحثين عن الحقيقة والراحة في شتّى أنحاء العالم الذين يطرقون باب الإسلام للدخول إليه، فأصبحت صور الأشلاء المقطَّعة في شوارع بغداد وإسلام آباد وعمّان رسالة الإسلام إلى العالم..
وضاعت صيحة رسول الله:
(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(8).
في رماد تفجيرات ذوي اللحى القادمين من رمال الحجاز ونجد.
إنَّها نفثة صدر، وغضب عارم مكبوت يريد الانفجار، حيث ترى إلى ما يحصل لهذا الدين على أيدي أولئك الخوارج، وإلاَّ فإنَّ الربّ واحد والنبيّ واحد، والقبلة واحدة، والدين واحد، والجميع تحت راية لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله، ما بعث الله نبيّاً بعد محمّد حتَّى ينسخ دينه أو يبيح دماء أهل القبلة.
ولهذا أقرع ناقوس الخطر أمام آذان علماء الإسلام في الأزهر الشريف وجامع الزيتونة والقرويين وغيرها وأقول لهم: اتقوا الله جميعاً في دماء المسلمين، لا تدعو هؤلاء الجهّال الضلاّل يلعبون بدين الله، مستخدمين التروّد ولا في هذا المجال، وإلاَّ فإنَّ علمكم سيكون وبالاً عليكم يوم القيامة وتقرنون مع إبليس في أسفل قعر جهنَّم بما لم تقولوا الحقّ، وأنتم قادرون على ذلك.
وعوداً على بدءٍ فإنَّ المرجعية قد استلمت دفّة سفينة الشيعة وقادتها بكلّ حكمة ودراية، في تلك الظروف القاسية، فلمعت في سمائها نجوم برّاقة من قبيل الشيخ المفيد، والشريفين المرتضى والرضي، والشيخ الطوسي الذي نقل الحوزة العلمية من بغداد إلى النجف الأشرف، بعد حادثة الاعتداء على كتبه وداره من قبل الحنابلة المتطرّفين.
وحينما فتحت الحوزة العلمية أبوابها في النجف الأشرف، انثال عليها أبناء الشيعة، فبدأت تضخُّ في كلّ جيل كواكباً من العلماء الربّانيين، وقد سارت معها كتفاً إلى كتف حوزة الحلّة الفيحاء، فرفدتا الساحة الشيعية بعلماء أفذاذ لم يجد الزمان بنظائرهم كابن المطهَّر الحلّي، والمحقّق الحلّي، وآل أبي نما، والسادة آل طاووس، وابن فهد الحلّي، ثمّ التحق بهذا الركب بعد حين علماء جبل عامل في الشام كالشهيد الأوّل والشهيد الثاني والمحقّق الكركي والحرّ العاملي وغيرهم.
وقد واصلت المرجعية مسيرتها اللاحبة إلى عصرنا هذا، فكانت بحقّ القائدة المحنّكة المسدّدة بالنور الإلهي، فإذا بها تبرز أمامنا أسماء العمالقة كالشيخ الأنصاري، والشيخ كاظم الخراساني، والسيّد كاظم اليزدي، والشيخ طه نجف، والشيخ محمّد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين الخالدة، والسيّد محمّد سعيد الحبوبي المقارع لقوّات الاحتلال الإنجليزي في البصرة والناصرية، والشيخ محمّد جواد البلاغي، والسيّد أبو الحسن الأصفهاني، والسيّد حسين البروجردي، وغيرهم وغيرهم، حتَّى وصلت إلى زعيم الطائفة السيّد محسن الحكيم وبعده السيّد أبو القاسم الخوئي سيّد الأصوليين، والشهيد السعيد السيّد محمّد باقر الصدر، والشهيد السيّد محمّد الصدر، والشهيد الشيخ علي الغروي، والشهيد الشيخ مرتضى البروجردي، وأخيراً السيّد السيستاني أسد العراق الذي حفظ العراق.. والمراجع الآخرين أطال الله أعمارهم.
نعم لقد مرَّت أمامنا شخصيات عظيمة، تتصاغر العظمة أمامهم، وإلاَّ فماذا نقول عن السيّد المجاهد روح الله الخميني الذي أحدث زلزالاً في العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين؟
ذلك الشيخ الذي قاد تلك الجماهير الثائرة بحماسة الشباب، فأطاح بعرش الطاووس وأقام حكومة إسلاميّة تحكم بحكم القرآن.
ولست هنا بصدد تعداد أولئك الأعلام، فإنَّه بتطلَّب منّا موسوعات كبيرة، ولعلَّ في موسوعة أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، والذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ آغا بزرك الطهراني ما يشفي الغليل والغناء لمن يريد ذلك.
وحتماً _ عزيزي القارئ _ لو أنَّك اطَّلعت على سيرة هؤلاء الأفذاذ لوقفت مذهولاً مأخوذاً، فلا تدري ماذا تقول ولا تدري ماذا تكتب، فكلّ واحد منهم عالم وقائم بذاته، عقل نوراني مترفّع عن أدران التراب، وخلق كخلق الأنبياء، وسمت كسمت الصالحين، فما كانوا ليكنزوا ذهباً أو فضّةً أو أموالاً، ولا ليتقلَّبوا على الرياش والفرش الوثيرة، فحسبهم للعيش لقيمات قليلة، واللباس قماش من القطن أو الصوف، ومن الفرش حصير بالية ووسائد قديمة، ومن السقف التي يجلسون تحتها ما بنيت من الطين أو الطابوق، وأغلبها متهالك آيل للسقوط ما لهم فيها ملك ولا سند عقار.
وإذا كانت المرجعية بهكذا مواصفات، فإنَّها تبقى خالدة، وفعلاً صمدت أمام الرياح العاتية، وبقيت القلب النابض والروح المحرّك للشيعة.
وهذه الخاصيّة للمرجعية التي جعلتها بهذا الحجم، وهذه القوّة، لا يمكن أن تأتي من فراغ، فلو أنَّنا وضعناها على طاولة التشريح فإنَّنا سنتوصَّل إلى وجود خصائص هي:
أوّلاً: المرونة الكاملة للفقه الشيعي:
لقد تحدَّث الكثيرون عن الفقه الإمامي، ووصفوه بالعمق والسعة، وهذا صحيح، إلاَّ أنَّهم قد تغافلوا أو غفلوا عن خاصيّة المرونة فيه..
ونقصد بالمرونة هنا، قابليَّته على التكيّف مع الظروف المستجدّة، وقابليَّته على وضع الحلول الشرعية للمسائل المستجدّة أو المستحدثة، فبإمكان الفقيه أو المرجع التوصّل إلى أيّ حكم شرعي مطابق للقرآن وسُنّة المعصوم لأيّ واقعة تقع لم يتطرَّق إليها سابقاً، طبقاً للقواعد الأصولية التي وضعوها استناداً إلى القواعد الشرعية وإلى الأحكام العقلية المستقلّة أو غير المستقلّة.
ولا نريد هنا الدخول في علم أصول الفقه، فهو بحر واسع قد نغرق في ساحله، إلاَّ أنَّ هذا العلم بما أنَّه أداة شرعية منطقية، لاستنباط الحكم الشرعي (الظاهري) من مداركه الشرعية المعروفة، فلا يستعصى الوصول إلى حكم الواقعة بأيّ صورة من الصور.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد وضعوا الحكم الشرعي مثلاً للتأمين، أو السرقفلية، أو التلقيح الاصطناعي، وحتَّى قضيّة الحامض النووي كأحد أدلّة الإثبات في القضايا الجنائية.
وقد وضع السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر الأسس الشرعية للمصارف والبنوك الإسلامية في كتابه (البنك اللا ربوي في الإسلام)... الخ.
ثانياً: خاصيّة التقليد والاجتهاد:
التقليد هو عملية الحصول على الأحكام الشرعية من فتاوى مراجع التقليد من قبل العوام، والعوام هم الأفراد الذين لا تتوفَّر فيهم خاصيّة الاجتهاد، أي استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، ولو رجعنا إلى كيفية ترسيخ هذا المبدأ لوجدنا أنَّه من خلال النصوص الشرعية الواردة من الأئمّة المعصومين ما يوجب أو يلزم عوام الناس بالرجوع إلى الفقهاء العدول فيما أهمَّهم من أمور حياتهم اليومية، كما ورد آنفاً.
وتبعاً لتلك النصوص المستفيضة فقد أرسى العلماء الأعلام قواعد التقليد، وقد حكموا بأنَّ أيّ مكلَّف ملزم بالرجوع إلى فتاوى أحد المراجع الأحياء المشهور بالعلم والتقوى والعدالة، وإلاَّ فإنَّ أيّ عمل يقوم به المكلَّف من غير تقليد باطل.
ومن أجل ذلك فإنَّك تجد في صدر كلّ رسالة شرعية لأحد المراجع عبارة: (إنَّ العمل بهذه الرسالة مبرئ للذمّة إن شاء الله). وإبراء الذمّة هو الهدف الأساس من عمل الإنسان في هذه الدنيا، فمتى حصل على هذا الصك كان من الناجين بإذن الله.
وبناءً على ذلك فقد تكوَّنت علاقة وثيقة وقويّة بين المكلَّف العادي وبين المرجع، أصبح المرجع بموجبها ملزماً بتجهيز الحكم الشرعي المطابق للقرآن وسُنّة المعصوم ووضعه أمام المكلَّف، وهذا يستلزم عملية كبيرة معقَّدة تسمّى: الاجتهاد.
الاجتهاد كما عرَّفه أهل العلم بأنَّه بذل الجهد (أو الوسع) للوصول إلى الحكم الشرعي من مداركه الشرعية الأساسية كالقرآن وسُنّة المعصوم (وسُنّة المعصوم هي قوله أو فعله أو تقريره)، والاجتهاد عملية عقلية تربط بين النصوص أكانت متوافقة أم متعارضة، وتحدّد ماهيتها من حيث التقليد والإطلاق أو الخصوص والعموم للخروج بالحكم الشرعي، ولذلك دخل العقل في العملية هذه من خلال استخدام المستقلاّت والربط المنطقي وهلم جرّاً.
ولكي يكون الاجتهاد منضبطاً من كلّ الجوانب، فقد وضعت ضوابط صارمة أمام كلّ دارس، وهذه الضوابط لا تسمح لكلّ من هبَّ ودبَّ الوصول إليه، إلاَّ بعد بذل الوسع والجهد والصبر مع ملكة فكرية ضخمة للوصول.
ولا علاقة للاعتبارات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في هذا الصدد، وإنَّما هي عملية تدرّج في مراحل الدراسة والبحث كمراحل الدراسة في الجامعات، ولكي يصل الدارس إلى خطّ النهاية _ أعني الاجتهاد _ عليه المرور بدراسة المقدّمات، والسطوح بمراحله، والبحث الخارج، وبعدها الوصول إلى الاجتهاد بطريقة جديدة أو تعديل نظريات قديمة، فعندما يلمس الأستاذ ذلك منه، يعلن عن اجتهاد تلميذه أمام الآخرين من طلبة العلوم الدينية وأساتذتهم أو بعض قطاعات المجتمع، أو يعطيه تخويلاً مختوماً من قبله (أي إجازة شرعية بالاجتهاد من مجتهد معروف).
وأغلب المجتهدين يحصلون على إجازات الاجتهاد من عدّة مراجع وعلماء مجتهدين، ممَّا يعزّز من مكانتهم وإنَّما يصبح مرجعاً بعد تدرّجه في الضبط والاستنباط لفترة بعد الاجتهاد، وبعد صقل ملكته الاستنباطية بحيث يشير إليه تلامذته وزملاؤه الآخرون.
وعليه فدرجة الاجتهاد مثل أيّ شهادة علمية يحصل عليها الإنسان نتيجة دراسته، ولذلك فقد حرّم على أيّ إنسان حتَّى لو وصل إلى درجة علمية عالية _ إلاَّ أنَّها دون الاجتهاد _ الإفتاء والدعوة إلى تقليده، لما يستتبع من ذلك إيقاع المكلَّفين في المحذور.
وقد حاول بعض الحكّام وخصوصاً في العراق التدخّل في شؤون الحوزة وخصوصاً حوزة النجف الأشرف، لكونها المعقل الرئيس للشيعة في العالم، فابتدعوا بدعة الحوزة العربية أو العراقية، وكان الهدف من ذلك إفراغها من مراجعها وأساتذتها الذين بعضهم من أصول غير عربية أو عراقية، ليتسنّى لهم زرع ما يشاؤون من أذنابهم واحتوائها وجعلها أشبه ما تكون بدائرة حكومية.
صحيح أنَّ بعض العناصر غير العربية فيها كانت تتميَّز ببعض العنصرية وحبّ الذات المقيت، إلاَّ أنَّ ذلك لا يبرّر لأيّ كائن كان سلوك هذا المنحني، والمهمّ أنَّ هذه البدعة قد جوبهت من العلماء الأعلام بقوّة مثل السيّد محمّد باقر الصدر وغيره.
ولو أنَّنا أردنا أن نساير دعاة هذا الاتّجاه الشاذّ، فلا يسوغ للشيخ محمّد تقي الشيرازي قيادة ثورة العشرين وتقديم ولده الشيخ محمّد رضا قرباناً لها لأنَّه من بلاد فارس، ولا ينبغي للشيخ المحقّق الكركي أن يكون المرشد الأعلى للدولة الصفوية في عهد الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي وهو من أصول عربية قحّة.
والطريف أنَّ وراء هذه الدعوة من مدرسة الخلفاء، وجد بعض البلهاء أو المغرضين من هذه الطائفة من يتَّفق معه، وإلاَّ فإنَّ أهل هذه المدرسة لا يقرأون سطور تاريخهم القديم أو الحديث، أو يتمعَّنوا فيه فإنَّ جُلّ اعتماد هذه المدرسة على مؤلّفات علماء من أصول غير عربية، كأصحاب الصحاح المعتمدة لديهم كالبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأبي داود والنيسابوري والمتّقي الهندي وأبي حامد الغزالي إلى آخر القائمة، بل إنَّ أئمّة المذاهب المعتمدة لديهم هم من الفرس مثل أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وداود الظاهري الأصفهاني وغيرهم.
فإذا طبَّقنا هذه القاعدة العنصرية، فقد نسفنا الفكر الإسلامي ومعطياته من الأساس.
وهنا نقول: ما هذا الكلام وما هذا التخريف؟
إنَّه أشبه بكلام الحشّاشين والسكارى.
فلو رفضنا كلّ ما ليس بعربي، لرجعنا إلى صحارينا المملوءة بالرمل والحيّات والعقارب.
ليس في الإسلام قومية، وليس في الإسلام عنصرية، وإنَّما المعيار هو الإيمان والتقوى، لا الأنساب وشجرات النسب إن كانت من جلد الغزال أو غيره، وأنت لو نظرت إلى الخارطة الديموغرافية لصحابة رسول الله لوجدت بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وخباب بن الأرت وأبا رافع القبطي بجانب أساطين العروبة كعلي بن أبي طالب الهاشمي، وأبي ذر الغفاري والمقداد الكندي وأبي بكر التيمي وعمر العدوي وعثمان الأموي وعبد الرحمن بن عوف الزهري وهلم جرّاً، والميزة التي تميّز الشيعة عن غيرهم أنَّهم لا ينقادون إلاَّ بالدليل (نحن أبناء الدليل أينما مال نميل)، والدليل يجب أن يكون من الشرع بجانبيه القرآن وسُنّة الرسول، والعقل السليم الذي قد تسالم على قواعده كلّ البشر على مختلف مشاربهم وألوانهم، فأيّ إنسان نال رتبة الاجتهاد سواء أكان عربياً أم تركياً أم فارسياً أم إنجليزياً أم هندياً أم أفريقياً، مؤهَّل للتقليد شريطة أن يكون ورعاً ذا تقوى وعدالة، فمناط التقليد بعد العلم هو التقوى والعدالة فأيّ مجتهد ينخرم عنده شرط العدالة يسقط تقليده ولا عبرة عندئذٍ بعلميته، فالحوزة صارمة كالسيف لا توجد مجاملة أو محاباة، أو فئوية أو قومية، فالاجتهاد هو الاجتهاد ولا يناله إلاَّ من أوتي ذلك.
ثالثاً: استقلالية المرجعية أو الحوزة:
الخاصيّة الأخرى المهمّة هي استقلالية الحوزة والمرجعية في قراراتها وفتاواها عن مراكز القرار في أيّ دولة، وهي استقلالية من الناحية الإدارية والاقتصادية والسياسية والتربوية، لا مكان لمزاج الحاكم أو المتنفّذ في الدولة.
والاستقلالية هذه نجحت من خلال استقلاليتها الاقتصادية، عن طريق الحقوق الشرعية التي تصلها من مقلّديها أو الأوقاف التي تحت إدارتها، وبذلك فإنَّها غير مضطرّة لمدّ أياديها للحكومات والدول لما يستتبع ذلك من خطورة كبيرة على حيادية الفتوى أو الحكم الشرعي.
وهذه الاستقلالية هي الجانب المشرق من الفقه الشيعي، فلا سيطرة ولا مكان لمزاج حاكم مهما استخدم من أساليب الترهيب والترغيب، فممَّا جعل الحكّام والمتنفّذين يناصبونه العداء ويكيدونه، عكس المدارس الأخرى التي أصبح علماؤها موظّفين لدى الحكّام، يوظّفون ويعملون بمراسيم ملكية أو جمهورية، وأصبحت أرزاقهم مرتبطة بمدى علاقتهم بالحاكم الموجود، ففقدوا استقلاليتهم فصارت الفتوى يكتبها الحاكم (من باب المجاز) ويوقّعها المفتي.
ومن جراء ذلك فقد صدرت فتاوى رهيبة تحمل مثل هذه البصمات _ أعني مزاج الحاكم _ مثلما أفتى الشيخ نوح الحنفي لأحد سلاطين الدولة العثمانية بإهدار دماء وأموال وأعراض الآلاف من رعاياه الشيعة في الأناضول بسبب نزاعه المسلَّح مع شاه إيران الصفوي الشيعي، فقتل أولئك المساكين قتلاً ذريعاً.
في حين أنَّ استقلالية الفتوى، ذات أثر في الفتوى الشيعية، فقد حاول أحد طواغيت العراق الحصول على فتوى من مراجع الشيعة في النجف الأشرف وبالذات من السيّد محسن الحكيم باستباحة دماء أكراد العراق بسبب حربهم مع حكومة بغداد، فرفض ذلك رفضاً قاطعاً، وتكرَّر ذلك عدّة مرَّات فدفع ثمن ذلك من دماء أبنائه وأحفاده.
والمؤسف أشد الأسف أنَّ أولئك الطواغيت قد حصلوا على عشرات التواقيع والفتاوى من مدرسة الخلفاء وهي مدرسة الأكراد أنفسهم.
أليست هذه مفارقة عجيبة؟
ولو أردنا أن نعدّد أمثال هذه لما وسعنا المجال، لكنَّنا نترك ذلك أمام صفحات التاريخ التي تحكم إمَّا بنعم وإمَّا بلا..
* * *
مصادر التحقيق
القرآن الكريم.
أبناء الرسول في كربلاء: خالد محمّد خالد/ ط 5/ 1406هـ/ دار ثابت/ القاهرة.
الاحتجاج: أحمد بن علي الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان.
إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ ت السيّد علي عاشور/ قم.
الأمالي: الشيخ المفيد/ ت عليّ أكبر الغفاري/ نشر جماعة المدرسين قم.
بحار الأنوار: المجلسي/ مؤسسة الوفاء/ بيروت/ 1403 هـ .
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ط1 المحققة/ 1409هـ/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.
الخصال: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ نشر جماعة المدرسين قم.
سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ دار الفكر/ (تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي).
سنن الترمذي: الترمذي/ دار الفكر/ تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف.
سنن الكبرى: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
شرح صحيح مسلم: النووي/ ط 2/ 1407هـ/ الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل/ مط المرعشي/ دار إحياء الكتب العربية.
صحيح مسلم: مسلم ابن الحجاج النيسابوري/ دار الفكر بيروت.
عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الاحسائي/ الطبعة الأولى/ 1403هـ/ قم.
الغيبة: الطوسي/ مؤسسة المعارف الإسلامية/ الطبعة المحققة الأولى/ 1411هـ .
الكافي: الشيخ الكليني/ ت عليّ أكبر غفاري/ ط 3/ 1388هـ/ مط حيدري.
كتاب الفتن: أبي عبد الله نعيم بن حماد المروزي/ ت سهيل زكار/ ط 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر غفاري/ ط 1405هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
كنز العمال: المتقي الهندي/ ت مجموعة/ مطبع ونشر/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.
مجمع الزوائد: الهيثمي/ دار الكتب العلمية/ بيروت/ 1408 هـ.
مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلي/ ط 1/ 1370هـ/ مط الحيدرية/ النجف.
المستدرك: محمّد بن محمّد الحاكم النيسابوري/ ت المرعشلي/ 1406هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل/ طبع ونشر دار صادر/ بيروت.
معجم أحاديث الإمام المهدي: علي الكوراني/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة المعارف.
الملاحم والفتن: السيّد ابن طاووس/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسسة صاحب الأمر.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت مجموعة ط 1376/ المطبعة الحيدرية/ النجف.
موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): إعداد معهد تحقيقات باقر العلوم (عليه السلام)/ نشر دار المعروف قم/ ط 3.
* * *
الهوامش:
(1) أنظر: الغيبة للطوسي: 354 و355/ ح 315.
(2) كمال الدين: 510/ باب 45/ ح 41.
(3) الغيبة للطوسي: 371 و372/ ح 342.
(4) أنظر: كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.
(5) الكافي 7: 412/ باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور/ ح 5.
(6) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 300؛ الاحتجاج 2: 263 و264.
(7) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.
(8) عوالي اللئالي 1: 361/ ح 42؛ بحار الأنوار 74: 167/ ح 4.