تفسیر القرآن الکریم؛ سورة البقرة (2)

محمود الشلتوت

نسخه متنی
نمايش فراداده

تفسير القرآن الكريم

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت

سورة البقرة

مجمل ما سبق ـالاحرف المقطعة في فواتح السور وآراء العلماء فيها ـ هل في كتاب الله ما لا يفهم ـ هل المتشابه في القرآن من هذا الباب ـ الرأي الذي نراه في ذلك كله.

ـ 3 ـ

قدمنالقراء ' رسالة الإسلام ' في العدد السابق، التعريف بسورة البقرة، وعرضنا فيه لسبب هذه التسمية، ومناهج الناس في فهم القصص القرآني، كما عرضنا لمقاصد السورة التي احتوتها،ومنه تبين ان هذه السورة المدنية عنيت بشئون الجوار الجديد الذي صار المسلمون إليه بالهجرة من مكة إلى المدينة، فذكرت كثيرا من أحوال اليهود وشبههم، كما ذكرت كثيرا منأحوال النصارى ومزاعمهم، وأن هذا القسم ختم بالحديث عن حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم عنيت بعد ذلك بشئون المسلمين الخاصة من جهة التكاليف، فذكرتكثيراً منها، يرجع بعضه إلى الدماء، وبعضه إلى العبادات من صوم وحج

/ صفحه 336/

وصلاة، وبعضه إلى الاسرة من زواج وطلاق وإيلاء وعدة إلى آخر ما اشتملت عليه ممايحتاج إليه المسلمون في تنظيم نواحي الحياة، وأنها مع هذا وذاك عنيت في مبدئها ووسطها وخاتمتها بتجلية العقيدة الحقة التي جاءت لتقريرها ودعوة الناس إليها رسالةالإسلام، فجاء في أولها: ' ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلكوبالاخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ' وجاء في وسطها وبين مقصديها: ' ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليومالاخر والملاكئة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذاعاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس اولئك الذي صدقوا واولئك هم المتقون ' وجاء في آخرها: ' آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكتهوكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير '.

وقد كان سياق الآيات الاولى بيان عظم القرآن، وأنه هداية للنفوس الخيرة التي لمتطمس اشراقها القلبي ظلمة المادة، ولا عصبية الجنسية، ولا غلظة الاكباد أمام حاجة المحتاج من بني الإنسان، وأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بهداية الكتاب، لا غيرهم ممنغشيتهم ظلمة المادة فقصروا إدراكهم على ما يحسون، وقصروا اتجاهاتهم على ما تركه الاباء والاجداد فلم يعرفوا الا ما عرفوا، وتحجرت قلوبهم فلم تتأثر امام حاجة المحتاجين،ولم تقم فيهم بحق الشكر على ما رزقهم الله، وكان سياق الاية الوسطى قرع اسماع المختلفين فيما لا يعود عليهم بخير ولا يفضي بهم إلى نفع، بحقيقة البر التي يجب ان يلتزموها،ويسلكوا سبيلها، ويطهروا أنفسهم عما سواها، لا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مسلم، تلك الحقيقة التي لا ترتبط بشئ من المظاهر والصور والاشكال، وانما ترتبط بالواقعالصحيح،

/ صفحه 337/

واللباب الخالص في شأن العقيدة، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الأخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة، وكان سياق الاية الاخيرة بيان أن هذهالعقيدة التي دعا إليها الاسلام هي عقيدة المصطفين الاخيار من عباد الله الذين صفت نفوسهم، واستضاءت بنور المعرفة قلوبهم، وأدركوا أن دعوة الله في كل جيل وأمة هي دعوةالله، لا تعدد فيها، ولا اختلاف: ' ان الدين عند الله الإسلام ' ' ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين '.

بدأت ' سورة البقرة ' بحروف ثلاثةتقرأ مقطعة هكذا: ألف. لام. ميم، وشاركها في البدء بالحروف على هذا النحو كثير من سور القرآن، ليس فيها من المدني سوى السورة التي تليها، وهي سورة ' آل عمران ' ' الم. الله لااله الا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان ' أما باقي السور فمكي.

وقد جاءت الحروفالمقطعة التي بدئت بها هذه السور كلها، على أنواع: منها ما هو ذو حرف واحد، مثل ' ص والقرآن ذي الذكر ' ' ق والقرآن المجيد ' ' ن والقلم وما يسطرون ' ومنها ما هو ذو حرفين، مثل 'طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ' ' يس والقرآن الحكيم ' ' حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ' ومنها ما هو ذو ثلاثة أو أكثر، مثل ' الم ' و ' المص ' و ' المر ' و ' كهيعص ' و ' حمعسق ' … الخ.

افتتحت هذه السور بالحروف على هذا النحو، ولم يكن هذا الاسلوب معروفا عند العرب من قبل، ولم يكن لهذه الحروف معان في اللغة العربية تدل عليها سوىمسمياتها كحروف هجائية يلتئم منها الكلام، ولم يصح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بيان للمراد منها، وقد كان الناس ـ لذلك ـ أمامها فريقين: فريق يرى أنها مما استأثرالله بعلمه، فلا يصل أحد إلى معرفة المراد منها، ويروى في ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ' في كل كتاب سر، وسره في القرآن

/ صفحه 338/

أوائل السور ' وعن عليرضي الله عنه، ' أن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي '، وقد سئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: ' سر الله فلا تطلبوه ' وهكذا ورد عن كثير من الصحابة والتابعين،والفريق الاخر ينكر ان يكون في كتاب الله ما ليس مفهوما للخلق، ويرى ان هذا المبدأ يتنافى مع الاوصاف التي وصف الله بها القرآن من أنه ' بلسان عربي مبين '، وأنه نزل ' تبيانالكل شئ '، وانه ' هدى للناس ' ونحو ذلك من الاوصاف، ويقولون: لو ان فيه ما لا يفهم لما صح فيه وصف من هذه الاوصاف، إلى أدلة أخرى من هذا الوادي، وقد نسب هذا القول إلىالمتكلمين، وأثر عنهم في بيان المراد بهذه الاحرف أقوال كثيرة منها: أنها أسماء للسور التي بدئت بها، ومنها أنها رموز لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلا إشارةإلى أنه تعالى ' أحد، أول، آخر، أبدى، ازلى ' واللام مثلا اشارة إلى أنه ' لطيف ' والميم إلى أنه ' ملك، مجيد، منان ' والعين إلى انه ' عزيز، عدل ' وروي عن ابن عباس أنه قال في 'ألم ': أنا الله أعلم، وفي ' الر': أنا الله أرى … إلى غير ذلك مما يروون، ومنها وهو أشهرها ومختار المحققين منهم كما يقولون، أنها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليسالا من هذه الحروف التي عرفوها، وألفوا كلامهم منها، وهم قادرون عليها، وعارفون بقوانين فصاحتها وبلاغتها، فلم يكن القرآن بمادته التي يتألف منها غريبا عليهم، وقدتحداهم الرسول بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، فعجزوا، فلو كان من عند غير الله ومادته معروفة لهم لا ستطاعوا أن ينفوا عن انفسهم العجز والخزي، ولماجوبهوا بالعجز الدائم المستمر في مستقبل لا يعلم مداه الا الله ' فان لم يفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين '.

وردت هذه الاقوالوغيرها عن المتكلمين الذي يرون ان القرآن لا يمكن ان يحتوي على ما لا يفهم الناس، ونحن نرى بادئ ذي بدء أن القول بأنها رموز للأسماء أو الصفات أو لقضايا وصفية لله سبحانه،قول لا يكاد قلب يطمئن اليه،

/ صفحه 339/

إذ لا مستند له يعتمد عليه، ولا قانون يرجع إليه، فلكل ناظر أن يختار ما يخطر على باله من أسماء أو صفات أو قضايا، ويجعلالحروف رمزاً له، ونرى أيضا ان القول بأنها اسماء السور يرده اشتهار السور بأسماء أخرى غير هذه الحروف، كسورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الاعراف، وسورة مريم، وماإليها فلو كانت أسماء للسور كما يقولون لتواترت على ألسنة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعلى ألسنة المؤمنين جيلا بعد جيل، ونرى ان القول الذي نسبوه إلىالمحققين من أصحاب هذا الرأي، وهو التنبيه على أن هذا القرآن من مادة الكلام الذي ألفوه وقد عجزوا مع ذلك عنه، قول يعتمد قضيتين تصيدهما القائلون به من الواقع التاريخيلموقف العرب من القرآن، ومن طبيعة هذه الحروف: إحداهما أن هذه من حروف التهجي المعروفة عند العرب التي يتركب منها كلامهم، وأن القرآن مؤلف منها، والاخرى أنهم مع ذلك قدعجزوا عن الاتيان بمثله، وما كان للعرب أن يجهلوا، أو يغفلوا، عن أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد (صلى الله عليه وسلم) هو من هذه الحروف، أما عجزهم عن الاتيان بمثلهفهو أمر يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه التاريخ عنهم، وقد سجله القران عليهم بالعبارة الواضحة البينة، فليس الامر في القضيتين بمحتاج إلى استخدام رمز كهذا الرمز البعيدالذي لا يستند إلى نقل صحيح، ولا فهم واضح.

هذا وقد نوقش المتكلمون فيما استدلوا به على المبدأ الذي بنوا عليه أقوالهم في معاني أوائل السور، وهو أنه لا يمكن أن يكونفي القرآن ما لا يفهم، فقيل لهم: إن وصف القرآن بما وصف به من أنه هدى وتبيان ونحو ذلك لا يبطله ان تجئ في أوائل بعض سوره مثل هذه الحروف التي لم يتعلق بها تكليف أو ارشادوأنه ما دام واضحا في جملته وفيما قصد به، فلا بأس أن يرد فيه بعض ما استأثر الله بعلمه، تنبيها على القدرة التامة في جانب الربوبية، والقصور في جانب العبودية، وتلك سنةالله في خلقه وتكاليفه، فكم له في الكون من أسرار تنقضي الدنيا ولا تدرك، وكم له في التكاليف من أسرار لا يملك العبد أمامها إلا أن يمتثل، وما هذه المكتشفات التي تتجددللبشر يوماً بعد يوم، وتنكشف للعلماء جيلا بعد

340

جيل، الا قطرة أو قطرات من بحر خلق الله الذي لا يعرف مداه سواه ' قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحرقبل أ ن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا '. ' ولو أن ما في الأرض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ان الله عزيز حكيم '.

وإن في قولهتعالى وهو بصدد الحديث عن الاسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى ' لنريه من آياتنا ' وقوله وهو بصدد الحديث عن الايحاء إليه ' لقد رأى من آيات ربه الكبرى '،لتَنبيها لقلوب المؤمنين إلى أن في مكنون هذا الكون، وفي باطن خلق الله ما لا تدركه العقول، ولا تصل إليه الأفهام، ' وما أوتيم من العلم الا قليلا ' وإذا كانت هذه لمحةترشدنا إلى أن في الخلق أسراراً لا تدرك للعباد، فان في الصلاة من جهة أعداد ركعاتها وأوقاتها وكثير من وسائلها وكيفياتها، وفي الزكاة والكفارات وسائر المقاديرالمشروعة المطلوبة، للمحات أخرى واضحة جلية في أن لله أيضا في تكاليفه ما يعجز البشر عن ادراك اسراره، وما عليهم الا ان يؤمنوا ويمتثلوا، فتصدق فيهم العبودية، ويخلصمنهم الايمان، وما كان القرآن الا شأنا من شئون الله جرت فيه سنته في الخلق والتكليف، فلم يخل من حروف استأثر بها علم الله، وثبت بها قصور البشر دون أن يمس ذلك مقاصدالقرآن، أو ينقص من وضوح القرآن وبيان القرآن.

وعلى هذا فنحن نؤمن بأن في القرآن سرا لا يدركه البشر هو معاني هذه الاحرف التي جاءت في فواتح السور، ولكن لا ينبغي أننتوسع فنطرد هذا المبدأ فيما وضحت دلالته العربية، وثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بيانه، فنزعم كما زعم أناس من قبل أن للقرآن ظاهرا يدل عليه ويفهمه العامة،ويكلفون به، وباطنا لا يفهمه الا الخواص من عباد الله وهم مكلفون به، فتلك نزعة فرقت المسلمين، وضرب بعضهم بها رقاب بعض.

ولعل قائلا يقول: كيف لا يكون في القرآن سر غيرمدرك للبشر سوى معاني هذه الاحرف التي نتحدث عنها، وقد استفاض الحديث، وامتلأت الكتب

/ صفحه 341/

في الاولين والاخرين بأن في القرآن محكما ومتشابها، وأن المحكمما فهمه الناس، وعرفوا دلالته ومعناه، وأن المتشابه ما لم يفهمه الناس ولم يعفروا دلالته ومعناه، وأن العلماء كانوا أمام هذا المتشابه فريقين: فريق السلف يرى التفويضوعدم الخوض في معناه، وفريق الخلف يرى التأويل وصرف اللفظ عن دلالته المعروفة إلى معنى يتفق مع ما دل عليه المحكم، ويعتبرون من ذلك أمثال قوله تعالى: ' الرحمن على العرشاستوى '. ' يد الله فوق أيديهم '. ' بل يداه مبسوطتان '. ' والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه '. فهل كل ذلك لا يكفي في أن في القرآن ما لا يعرف معناه وراءفواتح السور ؟

ونقول اولا: نعم كان كل ذلك، وقرأناه عن السلف والخلف، ولكن يفوت هذا لقائل ان العلماء اختلفوا فيما بينهم في معنى المتشابه الذي قوبل بالمحكم في قولهتعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات) وكان لهم في ذلك أقوال كثيرة ينسب بعضها للمتكلمين، وبعضها للأصوليين، وبعضها لغير هؤلاءوهؤلاء، وقد اشتهر من بين هذه الاقوال قولان: أحدهما ما يلمح القائل إليه، وخلاصته ان المتشابه هو ما يوهم ظاهره معنى لا يليق بجلال الله، ولا يتفق مع دلالة المحكم فيتنزيه الله عن صفات الحوادث، فإما أن يؤمن به المسلم على وجه لا يتنافى مع التنزيه، ولا يجنح إلى تعيين المراد منه بالتأويل، فيبقى له سره محفوظا في الغيب الذي لا يعلمحقيقته الا الله، وإما أن يصرفه عن ظاهره، ويعين له معنى يدل عليه ويؤمن به على هذا الوجه، وذلك، كأن يقال كما قالوا: الاستواء بمعنى الاستيلاء، واليد بمعنى القدرة،واليمين بمعنى القوة، وبسط اليدين بمعنى كثرة المنح والعطاء، إلى غير ذلك، وعلى هذا الوجه لا يكون من المتشابه بمعنى ما أستأثر الله بعلمه، وإنما هو من المتشابه الذييحتاج في معرفة معناه إلى الرجوع للمحكم فيعلمه أرباب القدرة على هذا وهم الراسخون في العلم، والامر على هذا الرأي الاخير واضح في ان القرآن ليس فيه متشابه بمعنى مااستاثر الله بعلمه.

/ صفحه 342/

وبينما يرى بعض العلماء هذا الرأي في معنى المتشابه، يرى غيرهم أن المتشابه المقابل للمحكم هو ما تعددت جهات دلالته، وكان موضعالخلاف العلماء، ومحلا لاجتهادهم، وذلك يرجع اما إلى الاختلاف في معنى مفرد ورد في الاية كالقرء في الحيض أو الطهر، أو في معنى تركيب كما نرى في قوله تعالى: ' للذين يؤلونمن نسائهم تربص أربعة أشهر فان فاءوا فان الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فان الله سميع عليم '، وإما إلى تحكيم حيدث صح عند الفقيه في معنى الاية بينما أن غيره لم يحكمهفي معناها لسبب من الأسباب التي يراها، وأمثلة ذلك كثيرة مبسوطة في كتب الخلاف يعرفها أهل العلم بالفقه، وهي المقصودة، ' بالامور المشتبهات ' في قوله (صلى الله عليهوسلم) ' الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس '، وعلى هذا يكون المتشابه بعيدا عن دائرة ما استأثر الله بعلمه وليس مما نتكلم فيه.

وكما وجدنا المتشابه بهذا المعنى في القضايا الفقهية، نجده ايضا في قضايا أخرى لا تتعلق بصفات الله وتنزيهه، ولا بعقيدة ما، وذلك كما في المسائل العلمية التي عرض لهاالمتكلمون، واختلفت فيها فرقهم، مثل خلق الافعال، ورؤية البارئ، وحقيقة الميزان والصراط، وزيادة الصفات على الذات وما إلى ذلك من المسائل التي أثر فيها الخلاف بينفريقي المعتزلة وأهل السنة، وكان لكل فريق ـ من القرآن ـ على ما رأى حجته ومستنده، ولا ريب أن خلاف المتكلمين في مثل هذه القضايا هو كخلاف الفقهاء في مذاهبهم وآرائهم، ففيالنوعين لم يُرد الله ان يكلف عباده بقضية معينة، بل فتح باب الاجتهاد للعقل البشري ليسلكه الإنسان، ويحقق به نعمة الله عليه في الادراك والفهم، والكل في ذلك مؤمن ناجمرضي عند الله أخطأ أم أصاب، وهذا جانب تكفينا منه في هذا المقام تلك الاشارة، وأرجو أن يكون فيها بلاغ لقوم اتخذوا اختلاف العلماء في المسائل الكلامية التي هي وراءالعقائد سبيلا للطعن والتجريج في الإيمان

/ صفحه 343/

والعقيدة، وما كان الله ليرضى عن الطعن والتجريح لرأي رآه الناظر في موضوع وضعه الله موضع النظروالاجتهاد.

وبعد فلنا أن نختار في معنى المتشابه ذلك الرأي الذي يرجع إلى اختلاف الدلالة واحتمال المعاني المختلفة في آيات الاحكام، أو آيات المعارف على النحو الذيأشرنا إليه، ولنا أن نختار رأي الخلف من المتكلمين الذين يصرفون اللفظ عن ظاهره إلى معنى يليق بجلال الله وتنزيهه، وعلى هذا وذاك يبقى لنا ما قلناه من أنه ليس في القرآنما استأثر الله بعلمه سوى فواتح السور.

على أن بين المتشابه في رأي المفوضين، وبين فواتح السور فرقا كبيراً، ذلك أن المتشابه ورد في قضايا ذات محمول وموضوع وإثباتونفي، ومفردات تلك القضايا لها دلالات حقيقية معروفة لارباب اللغة، وقد تستعمل في معان مجازية تصرف إليها بالقرائن، ولا كذلك فواتح السور التي هي أحرف مقطعة، ليست قضاياذات موضوع ومحمول، وليس مفردات ذات معان مفيدة على نحو ' استوى ' في قوله: ' الرحمن على العرش استوى ' مثلا، وقد جاءت هذه القضايا أوصافا لله، واعتقد الجميع ثبوت محمولهالموضوعها، على وجه يقضي به الايمان، ولا كذلك ايضا فواتح السور التي نتحدث عنها.

ولعل القارئ بعد هذا كله يستطيع ان يتلمس ما يزيل الشبهة التي أشرنا إليها في صدر هذاالاستطراد.

ونعود بعد هذا إلى موضوعنا فنقول:

وكم ان هذه الحروف من حيث معانيها المرادة لله سر استأثر بعلمه، فان في الاتيان بها على هذا الترتيب الذي جاءت به،وتنوعت به فواتح السور، وفي اختيار بعض الحروف دون بعض، وهو صنع الحكيم الخبير الذي لا يضع امرا على محض المصادفة، لسرا آخر تقصر دون إدراكه العقول.

ولعل من الخيرللناس بعد الذي قررناه في هذا المقام ان يوفروا على أنفسهم.

/ صفحه 344/

عناء البحث في معاني هذه الحروف، وأسرار ترتبيها واختيارها على هذا النحو، وأن يكفوا عنالخوض فيما لا سبيل إلى علمه، ولم يكلفهم الله به، ولم يربط به شيئا من أحكامه أو تكاليفه، وحسبهم ان يعرفوا ان الاتيان بهذه الفواتح على هذا الاسلوب الذي لم يكن مألوفافي الكلام، ولا معروفاً عند العرب، كان قرعا لأسماع أولئك الجاحدين الذين تواصوا فيما بينهم ألا يسمعوا لهذا القرآن، وأن يلغوا فيه لعلهم يغلبون، كان هزا لقلوبهم، ودفعابهم إلى القاء السمع، وتدبر ما يلقى، وقد جاء بعد هذه الحروف في الأعم الاغلب نبأ ذلك الشأن العظيم، وهو كتاب الله الذي أنزله على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وختم بهرسالته إلى خلقه، وبين فيه شريعته وسننه في كونه، وكان لنبيه معجزة خالدة، تنطق بأنه رسول الله رب العالمين، اقرأ إن شئت ' الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ' ' الم الله لا اله الاهو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق ' ' المص كتاب أنزل اليك ' ' الر تلك آيات الكتاب الحكيم ' ' الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ' ' الر تلك آيات الكتاب المبينإنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ' ' المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل اليك من ربك الحق ' ' الر كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ' ' الر تلك اياتالكتاب وقرآن مبينن ' ' طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى ' ' طسم تلك ايات الكتاب المبين ' ' طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ' ' طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسىوفرعون بالحق لقوم يؤمنون ' ' الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ' ' الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ' ' يس والقرآن الحكيم انك لمن المرسلين على صراطمستقيم ' ' ص والقرآن ذي الذكر ' ' حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ' ' حم تنزيل من الرحمن الرحيم ' ' حم عسق كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ' ' حموالكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ' ' حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ' ' حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ' ' قوالقرآن المجيد '.

/ صفحه 345/

اقرأ ذلك إن شئت تجد هذه السور كلها تتحدث عن القرآن أو تنزيل القرآن أو انزاله، وهو الكتاب الذي كان موضع الاخذ والرد فيما بينهموبين الرسول، وهو الكتاب الذي جاء ليصرفهم عما هم فيه من ضلال وبغي، وهو الكتاب الذي وقفوا منه موقف المكابرة والعناد، وهو الكتاب الذي رموه بأنه أساطير الاولين، وبأنهحديث مفترى، وبأنهم لو شاءوا لقالوا مثله إلى غير ذلك مما كانوا يحاولون به صرف الناس عن القرآن والصد عنه، فبدأت هذه السور بهذا الاسلوب تأثيرا في قلوبهم، ولفتالأنظارهم، ولا يخفى أن المفاجأة بالغريب الذي لم يؤلف، لها في إرهاف الاسماع، وتنبيه الاذهان ما لا يحتاج إلى بيان، وفي هذا ما يكشف عن السر في أن جميع هذه السور ـ ما عداسورتين اثنتين ـ كان مما نزل بمكة حيث المعارضة في أوج شدتها وعنفها، حتى السورتان المدنيتان كانتا في أبان اشتداد المجادلة والمناقشة بين المسلمين وغيرهم من اليهودوالنصارى، ومن شاء فليقرأ النصف الأول في كل من السورتين ليرى كيف انصرفت كل منهما فيه إلى الحجاج عن الحق، والمجادلة عن دعوة القرآن على نحو شبيه بما كان من شأن القرآنمع المشركين.

ولا ينبغي أن يقال ان كثيرا من السور بدأت بالتحدث عن إنزال القرآن الكريم، ومع ذلك لم تبدا بهذه الفواتح، وذلك كسورة الكهف ' الحمد لله الذي انزل علىعبده الكتاب ولم يجعل له عوجا' وسورة الفرقان: ' تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ' وسورة الزمر: ' تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ' وسورة القدر:'إنا أنزلناه في ليلة القدر ' فانما جاء ذلك على سياق آخر قضى بذكر الحمد على إنزال الكتاب، أو التمجيد لمنزل الكتاب، أو التنويه بشأن الكتاب نفسه، ولم تسق هذه السور مساقالتنبيه وقرع الاسماع على النحو الذي جاءت به السور التي ذكرنا، ولكل مقام مقال.

بقي أن يقال إن أربعا من السور التي بدئت بهذه الحروف لم يجئ بعد الحروف فيها ذكرالقرآن وتنزيله كما جاء في غيرها، وهي: سورة مريم ' كهيعص

/ صفحه 346/

ذكر رحمة ربك عبده زكريا ' وسورة العنكبوت: ' الم أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ' وسورة الروم: ' الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون'، وسورة القلم: ' ن والقلم وما يسطرون '.

فنقول: نعم لم يأت بعد الحروف في اوائل هذه السورالأربع ذكر القرآن ولا تنزيله، ولكن جاء بعدها ما يشارك القرآن في أنه كان على غير السنن المألوفة للناس، فقصة زكريا ونداؤه لربه أن يهب له على الكبر وليا، واستجابة اللهلهذا النداء وتبشيره اياه بيحيى، أمر جدير بأن تقرع له الاسماع، وتنبه له القلوب، وكذلك شأن سورة الروم التي أخبرت بغيب يحدث في المستقبل لا يشهد له الواقع الحاضر، فكانمما يحسن في هذا المقام أن يوجه الناس إلى نبأ هذا الغيب بمثل هذا الاسلوب، وسورة العنكبوت جاءت فاتحتها لتخلع الناس من شأن جرت عادتهم بالاستنامة اليه، والانصراف به عنالحق، ذلك هو الاكتفاء بظاهر الإيمان دون تحمل أعباء الجهاد في سبيله، والقيام بالتكاليف الالهية التي يقتضيها، ولا ريب أن هذا امر ألفت النفوس أن تركن اليه، وأنه يؤديبالناس إلى الفساد في حياتهم ودينهم ويجعل الرسالات الالهية قليلة الجدوى في الإصلاح والاسعاد، فكان من الحكمة أن يلفت الناس لفتا قويا يغرس في قلوبهم أن سنة الله جرتبالاختبار والابتلاء تمحصياً للقلوب، وتمييزا للخبيث من الطيب ' ما كان لله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب' ' ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنالله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ' أما سورة القلم فمهمتها لفت الانظار إلى ما يوحي به القلم من العلم والحكمة اللذين هما أساس هذا الدين وهدف ذلك الكتاب العظيم.

أما بعد فهذا هو الأثر الذي يقترن بسماع هذه الحروف في فواتح السور، أما معناها فلا أستطيع أن أقول فيه سوى هذه الكلمة الماثورة التي تعبر عن ايمان سلف صالح يؤمن حقالإيمان بعظمة الله وكتاب الله: الله أعلم بمراده.