إنّه لمّا نزل قوله تعالى: ' يا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغْ ما اُنْزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّك فإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسالتَه و اللَّه يَعْصِمُك مِن النّاس ' حين رجوع النبيّ صلى الله عليه و آله و أصحابه عن حجّة الوداع، نزل بغدير خمّ وقت الظهيره و قال: 'معاشر المسلمين ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟' قالوا: بلى، فأخذ بضبع عليّ بن أبي طالب و رفعه حتّى نظر النّاس إلى بياض إبطه، و قال: 'من كنتُ مولاه فعليّ مولاه، أللّهمّ والِ من والاه، و عادِ من عاداه، و انصر من نصره، و اخذُل من خذله' الحديث.
ثم لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي اللَّه بقوله: ' أليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ اتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي ' الآية. [ المائدة، 3. ] فقال رسول اللَّه: 'أللَّه أكبر على إكمال الدّين، و إتمام النعمة و رضا الرّب برسالتي، و الولاية لعليّ من بعدي'.
ثمّ أخذ النّاس يهنئون عليّاً و يبايعونه، و ممّن هنّأه و بايعه في مقدّم الصحابة أبوبكر، ثمّ عمر، كلٌّ يقول: بَخٍ بَخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.
هذا مجمل الحديث في واقعة الغدير، و قد تقدم شرح الحديث مع الاستدلال به في ولاية عليّ بن أبي طالب و إمامته، فلاحظه و انظر شرح الحديث في كتب التاريخ و الحديث و كذا في كتابنا الفصول المائة. [ انظر في تفصيل خطبة الغدير: تاريخ الطبري، ج 2، ص 321؛ معالم التنزيل، ج 4، ص 279؛ الكامل في التاريخ، ج 2، ص 63؛ شرح ابن أبي الحديد، ج 13، ص 211؛ كنز العمال، ج 13، ص 131، ح 36419. و نصّ الحديث مخرج في سنن الترمذي، ج 5، ص 633، ح 3713؛ مسند أحمد، ج 1، ص 84 و 88 و 119 و 152، ج 4، ص 281 و 368 و 370 و 372؛ و ج 5، ص 358 و 347 و 366 و 419 و غيرها. المستدرك للحاكم، ج 3، ص 110 و 134 و 371 و 533؛ مصابيح السنة، ج 4، ص 172، ح 4767؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 45، ح 12؛ تاريخ بغداد، ج 5، ص 474 و ج 7، ص 377، و ج 8، ص 290 و ج 12، ص 344 و ج14، ص 236 و غيرها من المصادر التي خرجته عن الثقات العدول بطرق صحيحة و أسانيد معتبرة تجاوزت حدّ التواتر. ]
و هو قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب عليه السلام في مواطن كثيرة تبلغ عشرة مواطن، منها حين خلّفه على أهله في المدينة عند خروجه إلى تبوك، فأرجف به المنافقون، و قالوا: ما خلّفه إلّا استثقالاً له، و تخوّفاً منه، فلمّا قال ذلك المنافقون، أخذ عليّ بن أبي طالب عليه السلام سلاحه و خرج حتّى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و هو نازل بالجرف [ الجُرف: موضع على بُعد ثلاثة أميال من المدينة. ] فقال ما قال المنافقون، فقال رسول اللَّه: 'كذبوا و لكنّي خلّفتك لما تركتُ ورائي، فارجع، فاخلفني في أهلي و أهلك، أفلاترضى- ياعليّ- أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟'. فرجع عليّ إلى المدينة، و مضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على سفره.
[ حديث المنزلة لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب الحديث و السيرة النبوية، و ممن أخرجه البخاري في الصحيح، ج 5، ص 89، ح 2 و 52؛ مسلم في الصحيح، ج 4، ص 1870، ح 2404؛ في ستة طرق، و الترمذي في السنن، ج 5، ص 3730؛الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 227؛ أحمد في المسند، ج 1، ص 173 و 175 و 182 و 331؛ مصابيح السنة، ج 4، ص 170، ح 6762؛ جامع الاصول، ج 9، ص 468، ح 6477 و غيرها. ]
و قد بيّن اللَّه تعالى منزلة هارون من موسى في كثيرمن آيات القرآن الكريم، و أوضح أبعادها بما لا يقبل الجدل و التأويل، و من ذلك ما جاء في دعاء موسى عليه السلام في سورة طه، آية 32 -29، قوله تعالى: ' و اجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخى اُشدد به أزري و أشركه في أمري ' و قوله تعالى في سورة الفرقان آية 35: 'و لقد آتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيراً' و قال تعالى في سورة الأعراف آية 142: ' و قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح... ' فهارون وزير موسى و من أهله و أخوه و خليفته في قومه، و كذلك منزلة علي عليه السلام من خاتم النبيين إلّا النبوّة.
روى أصحاب الصحاح عن النبيّ الأكرم أنّه قال: 'يا أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما'. [ روي حديث الثقلين في أغلب كتب الصحاح و السنن و بطرق عدّة و بأسانيد مقيدة، فمن أخرجه مسلم في الصحيح، ج 4،ص 1873، ح 2408؛ بعدة طرق، و الترمذي في السنن، ج 5، ص 663، ح 3788؛ الحاكم في المستدرك، ج 3، ص 148؛ أحمد في المسند، ج 5، ص 182 و 189، و ج 3، ص 14 و 17، والفضائل له أيضاً، ج 2، ص 603، ح 1035، و غيرها. ]
و قد قال به في غير موقف، تارةً بعد انصرافه من الطائف، واُخرى يوم عرفة في حجّة الوداع، وثالثة يوم غديرخمّ، ورابعة على منبره في المدينة، و في غير ذلك من موارد اُخر و بنصوص متقاربة.
فعدم الافتراق إلى يوم القيامة "حتّى يردا عليَّ الحوض" دلالة كون عترة الرسول صلى الله عليه و آله معصومين فيما يقولون ويروون، و إلّا فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن أعداءهُ، أو أن يكونوا من الخاطئين فيما يحكمون و يُبرمون، أو يقولون و يحدّثون؟!! لا سامح اللَّه، و قد تقدّم الحديث مع بحثٍ مفصلٍ حوله، فراجع.
روى المحدّثون عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'إنّما مَثلُ أهلِ بيتي في اُمّتي كَمَثَلِ سفينة نوح، مَن ركبها نجا، و مَن تخلّف عنها غرق' [ المستدرك للحاكم، ج 2، ص 213؛ و ج 3، ص 151؛ الخصائص الكبرى، ج 2، ص 466؛ الجامع الصغير، ج 2، ص 533؛ المعارف لابن قتيبة، ص 146؛ روح المعاني، ج 25، ص 32؛ تفسير ابن كثير، ج 4، ص 123؛ تاريخ بغداد، ج 12، ص 91؛ حلية الأولياء، ج 4، ص 306؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 168 و غيرها. ] فشبّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أهل البيت بسفينة نوح في أنَّ من لجأ إليهم في الدين و أخذ اُصوله و فروعه عنهم، نجا من عذاب النّار، و من تخلّف عنهم كمن يأوي يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللَّه، و لا تكون عاقبة ذلك إلّا غرقاً في الماء و هذا هو العذاب الأليم.
و غير ذلك من الأحاديث الصريحة كقوله صلى الله عليه و آله: 'إنّ عليّاً وصييّ و خليفتي، و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي'.
و راجع في هذا المجال بحث "عليّ عليه السلام أوّل من آمن باللَّه" و "عليّ عليه السلام يوم الإنذار" و "حديث سدّ الأبواب" و "حديث الطير المشوي" و "مَثَلُ عليّ كَمَثَل عيسى" و غير ذلك من الأحاديث المتقدمة في تضاعيف الكتاب.
يجب أن يكون الإِمام- المنصوب من قبل اللَّه تعالى- أفضل أهل زمانه لقبح تقديم المفضول على الفاضل، أمّا عقلاً فواضح، و أمّا سمعاً لقوله سبحانه: ' أفَمَنْ يَهدي إلَى الْحَقِّ أحَقُّ أن يُتّبع أمَّن لا يَهدّي إلّا أنْ يُهْدى فَمالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ '
[ يونس، 35. ] و أمّا كون عليّ بن أبي طالب عليه السلام أفضل النّاس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيكفي شاهداً على ذلك قوله تعالى في آية المباهلة:' وَ أنْفُسنا وَ أنْفُسكُم ' إد جعل اللَّه سبحانه عليّاً نفس الرّسول في الآية، بناءً على ما صرّح به أئمة التفسير و الرّوايات الصحاح المتواترة من أنّ المراد من "أنْفُسنا" هو عليّ بن أبي طالب، إذ دعاه يوم المباهلة دون غيره من الأصحاب، و من البيّن أنّه ليس المراد من النفسية حقيقة الإِتحاد لامتناعه عقلاً، بل المراد منها المساواة فيما يمكن المساواة فيه من الفضائل و الكمالات، لأنّه أقرب المعاني المجازيّة إلى المعنى الحقيقي، فيحمل عليها عند تعذّر الحقيقة، على قاعدة الاُصول، و لا ريب أنّ الرسول أفضل النّاس إتفاقاً، و مساوي الأفضل على جميع النّاس أفضل عليهم قطعاً، و قد ذكرنا توضيح الحديث مع مسانيده في بحث "عليّ عليه السلام و آية المباهلة" فراجعه.
يجب أن يكون المتقدّم لإمامة المسلمين أعلم النّاس في عصره و زمانه، و تقدّم غير الأعلم عليه قبيح عقلاً، لأنّ الإِمامة- كما قلنا في تعريفها- هي رئاسة عامّة إلهية في اُمور الدّين و الدّنيا، فلابدّ أن يكون الإِمام النائب عن النبيّ صلى الله عليه و آله أعلم بالأحكام الإلهية و العلوم الدينيّة، و وجهه واضح.
و قد استدلّ على كونه عليه السلام أعلم النّاس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بوجوه:
1- إنّه كان شديد الحدس و الذكاء و الحرص على التعلّم و دائم المصاحبة للرسول صلى الله عليه و آله الّذي هو الكامل المطلق بتسديد اللَّه تعالى، و كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شديد المحبّة له و الحرص على تعليمه حتّى علّمه صلى الله عليه و آله- في مرضه الّذي قُبض فيه- ألف باب من العلم، و انفتح له من كلّ باب ألف باب آخر. [ راجع بحث "علمه عليه السلام". ] 2- إنّه تربّى في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من صغره، و في كبره كان أخاه و وصيّه و حامل لوائه، و ختناً له يدخل عليه في كلّ وقت و يستفيد من فيوضات علمه. [ راجع "موضعه عليه السلام من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا الكتاب". ]
3- رجوع أكابر الصحابة و التابعين إليه في الوقائع الّتي تعرض لهم، و يأخذون بقوله و يرجعون عن اجتهادهم، و ذلك بيّن في كتب التاريخ و السّير. [ سيأتيك في رجوع الخلفاء إليه في مشاكلهم في "قضاء عليّ عليه السلام". ]
4- قوله عليه السلام: 'لو ثنيتْ لي الوسادة فجلستُ عليها لحكمتُ بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإِنجيل بإِنجيلهم، و بين أهل الزّبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، و اللَّه ما مِن آية نزلتْ في ليل أو نهارٍ أو سهلٍ أو جبلٍ إلّا و أنا أعلم فيمن نزلتْ و في أيّ شي ء نزلتْ'، و ذلك يدلّ على إحاطته عليه السلام بمجموع العلوم الإِلهية. [ راجع "عليّ عليه السلام و سعة علمه". ]
5- قول النبيّ صلى الله عليه و آله في حقّه: 'أقضاكم عليّ' و معلوم أنّ القضاء يحتاج إلى العلوم الكثيرة و الذكاء و الدراية، و 'أقضى الاُمّة'، معناه أكثرهم علماً و فهماً و درايةً. [ سيأتي بحث مفصّل في قضاء عليّ عليه السلام فراجع. ]
و هذه الوجوه الخمسة دالّة على أعلميّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإِذا كان الأعلم، كان متعيّناً للإِمامة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
يجب اتّصاف الإمام بجميع صفات الكمال، و يجب أن يكون أفضل و أكمل من كلّ أحد من أهل زمانه، و يجب أن يكون أيضاً منزّهاً عن الرذائل الخُلقيّة و العيوب الخَلقيّة، كما أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لابدّ أن يكون كذلك. و وجهه واضح لا يحتاج إلى دليل، و أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام صاحب جميع الكمالات و الفضائل، و المنزّه عن كلّ العيوب الخلقيّة و الرذائل الخُلقيّة.
عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لو أنّ الغياض أقلام، 9و البحر مداد، و الجنّ حسّابٌ، و الإنس كُتّابٌ ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب'.[ المناقب للخوارزمي، ص 2؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 16. ]
و اعترف بفضائله و مناقبه الموافق و المخالف، و المحبّ و المبغض، و نشير هنا إلى بعض كلماتهم:
1- في "أسنى المطالب" للحافظ الجزري الشافعي، عن أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب. [ أسنى المطالب، ص 46. ]
2- و في "الصواعق المحرقة" لأبن حجر الهيتمي الشافعي، عن إسماعيل القاضي و النسائي و أبي علي النيشابوري قالوا: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر ممّا جاء في عليّ عليه السلام.[ الصواعق المحرقة، ص 120. ]
3- و في "تذكرة الخواص" لسبط ابن الجوزي الحنفي قال: و فضائل عليّ عليه السلام أشهر من الشمس و القمر، و أكثر من الحصى و المدر. [ تذكرة الخواص، ص 23. ]
4- و في "شواهد التنزيل" للحاكم الحسكاني الحنفي، عن ابن عباس، قال: لقد كان لعليّ عليه السلام ثماني عشرة منقبة، لو كانت واحدة منها لرجل من هذه الاُمّة لنجا بها، و لقد كانت له اثتنا عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الاُمّة. [ شواهد التنزيل، ج 1، ص 16. ]
5- و فيه أيضاً عن مجاهد: أنّ لعليّ عليه السلام سبعين منقبة، ما كانت لأحد من أصحاب النبيّ مثلها، و ما من شي ء من مناقبهم إلا و قد شركهم فيها. [ المصدر السابق، ج 1، ص 17. ]
6- و فيه أيضاً عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: ما في القرآن آية 'الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَالِحات' إلّا و على أميرها و شريفها، و ما من أصحاب محمد صلى الله عليه و آله رجلٌ إلّا و قد عاتبه اللَّه، و ما ذكر عليّاً إلّا بخير، ثمّ قال عكرمة: إنّي لأعلم أنّ لعليّ منقبة لو حدثت بها لنفدت أقطار السموات و الأرض- أو قال- الأرض. [ المصدر السابق، ج 1، ص 21. ]
7- و في "المناقب" لموفق بن أحمد الخوارزمي الحنفي، عن عيسى بن عبداللَّه، عن أبيه، عن جدّه: قال: قال رجل لابن عباس: سبحان اللَّه! ما أكثر مناقب عليّ و فضائله، إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف؟! فقال ابن عباس: أوَ لا تقول إنّها إلى ثلاثين ألفاً أقرب [ المناقب للخوارزمي، ص 3. ]
و لقد حاولنا في كتابنا هذا إلقاء بعض الضوء على كمالات و فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، و مع كلّ الجهد المتواضع الّذي بذلناه في فصوله المختلفة، كإسلامه، و هجرته، و جهاده، و شجاعته، و زهده، و إنفاقه، و عبادته، و خلوصه، و خشوعه و غير ذلك، فهو لا يعدو كونه قطرة في بحر فضائله و مناقبه الزّاخر الفيّاض.
و أنّى لنا إحصاء فضائله و كمالاته؟ و هو الّذي مع النّبي صلى الله عليه و آله من شجرة واحدة و باقي الخلائق من شجر شتّى، [ مستدرك الحاكم، ج 2، ص 240 بسنده عن جابر بن عبداللَّه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعليّ: 'يا عليّ'، النّاسُ من شجر شتّى و أنا و أنت من شجرة واحدة، ثمّ قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: "و جناتٍ من أعناب و زرع و نخيل صنوان و غير صنوان تسقى بماء واحد"' قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد. ] بل إنّه من العسر الوصول إلى كُنه كمالاته و مناقبه، و إزاء هذه الصفات، أليس من الجدير و اللائق أن يكون الرّجل الّذي لا يماثله أحد و لا يناظره أحدٌ إماماً للمسلمين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و خليفة له بلا فصل؟
يجب أن يكون الإمام المنصوص عليه من اللَّه تعالى معصوماً عند أهل الحقّ، [ العصمة عند المحقّقين لُطفٌ، أي شي ء يقرّب العبد إلى الطاعة و يبعّده عن المعصية، يفعله اللَّه تعالى بالمكلّف و يوجده فيه، أي ملكة خلقها اللَّه فيه لطفاً بحيث لا يكون له داع يُفضي إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية، مع قدرته على ذلك المذكور من ترك الطاعة و ارتكاب المعصية، لأنّه لو لا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله،فانتفت فائدة البعثة و هو محال. "راجع: شرح الباب الحادي عشر للمحقّق الحليّ"ره"، ص 41". و تفسير الميزان، ج 8، ص 142، نقلاً عن الالهيات، ج 1، ص 148 و قد فسرّ العصمة بقوله: قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية و الوقوع في الخطأ. ] و مَن ليس بمعصوم فليس بإمامٍ، و لا شك أنّه ليس أحدٌ ممَّن ادّعى الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله غير عليّ بن أبي طالب عليه السلام بمعصوم إجماعاً، لسبق الكفر، و الشرك، و العصيان منهم، ممّا ينافي العصمة قطعاً، فلا يكون غيره إماماً، فاختصّت الإمامة به بعد رسول اللَّه عليه السلام.
يستدلّ على عصمة الامام بوجوه كثيرة، نشير هنا إلى بعضها و نحيل القرّاء الأعزاء إلى مظانّها مِن الكتب المفصّلة في هذا المجال. [ استدل العلاّمة الحليّ"ره" ب "99" دليلاً على عصمة الإمام عليه السلام فراجع الألفين،ص 139 -52. ]
و قد استدل بقوله تعالى: 'و إذِ ابْتَلى إبراهيمَ رَبُّه بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنّي جاعِلُك لِلنّاسِ إماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيّتي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظّالمِين'. [ البقرة، 124. ]
وجه الاستدلال به: أنّ اللَّه تعالى قد بيّن صراحة أنّه لا يعهد بالإمامة إلى ظالم، و الظالم من ارتكب معصيةً في حياته مهما كان نوعها حتّى و لو تاب بعدها، فلن يكون العاصي إماماً، إذ الإمامة على شرافتها و عظمتها لا ينالها إلّا من كان سعيد الذات بنفسه، أمّا من تلبّست ذاته بالظلم و الشقاء و الكفر و الشرك و لو لحظة من عمره، لا يصلح لهذا المقام الرفيع بمقتضى الآية، و ممّا يوضح دلالة الآية على ذلك هو أنّ النّاس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام:
1- من كان ظالماً في جميع عمره.
2- من كان طاهراً و نقيّاً جميع فترات عمره.
3- من هو ظالم في أوّل عمره و تائبٌ في آخره.
4- و من هو بعكس الثالث.
و قول إبراهيم عليه السلام: "و من ذرّيّتي" أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذرّيّته، فبقي القسمان الآخران، و قد نفى اللَّه تعالى أحدهما، و هو الّذي يكون ظالماً في أوّل عمره و تائباً في آخره، فبقى القسم الثاني بمقتضى الآية، و هو الّذي كان نقيّ الصحيفة طيلة عمره، و لم يُرمنه أيّ انحراف عن جادّة الحقّ، و لم يعص اللَّه لحظة من عمره، وأميرالمؤمنين عليه السلام هو مصداق ذلك، فثبت أنّه الإمام