روى الموفق بن أحمد الخوارزمي بالاسناد عن عبداللَّه بن عباس، قال: استعدى رجل على عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى عمر بن الخطاب، و كان علي جالساً في مجلس عمر بن الخطاب، فالتفت عمر إلى علي عليه السلام فقال: قُم يا أبالحسن، فاجلس مع خصمك. فقام علي عليه السلام فجلس مع خصمه فتناظرا، و انصرف الرجل و رجع علي عليه السلام إلى مجلسه فجلس فيه، فتبيّن عمر التغيّر في وجهه، فقال له: يا أبا الحسن، مالي أراك متغيّراً، أكرهت ما كان؟ قال: نعم، قال: و لم ذاك؟ قال: لأنك كنّيتني بحضرة خصمي، فألا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك؟ فأخذ عمر رأس علي عليه السلام فقبّل بين عينيه، ثم قال: بأبي أنتم، بكم هدانا اللَّه، و بكم أخرجنا من الظلمات إلى النور. [ المناقب: الفصل السابع، ص 98، ح 99. ]
و رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج. [ شرح ابن أبي الحديد، ج 17، ص 65. ]
لمّا بايع الناس علياً بالخلافة، أعلن شرح ابن أبي الحديد، ج 17، ص 65. ما يمكن أن نُسمّيه في عصرنا الحاضر بالثورة الشاملة ضِد الأوضاع الاجتماعية التي كانت على عهد عثمان، و عزمه الأكيد على تغيير الأوضاع الجديدة التي حيزت فيها الأموال بغير حق، و العودة إلى نظام المساواة الذي قرّره الإسلام، و طبّقه رسول الإسلام صلى الله عليه و آله، و من كلماته الشهيرة التي تُعبّر عن عزمه على ذلك قبل قوله:
'لَو قد اسْتَوَتْ [ استوت قدماي: كناية عن تثبيت حكومته و دفع مخالفيه. ]قَدَمَاي مِن هَذِهِ المَدَاحِضِ [ المداحض: المزالق الّتي لا تثبت عليها القدم. ] لَغَيَّرْتُ أشياءَ'. [ نهج البلاغة، قصار الحكم 264. ]
هذه واحدة من كلماته عليه السلام الملتهبة بالأسف على الإسلام و المسلمين حيث حرّفوا مجرى أحكام الدين، و غيّروا الحقائق باتّباعِ الهوى، أو بسبب الجهل بها، و هو يتحرّق لهذا الانحراف و الانعطاف الجاهلي الّذي يَرجع بالإسلام القهقرى، و يوقف سيره نحو الدّرجات العلى، فما لبث رويداً حتّى ظهر بأسهم بينهم، و تفرّقوا مذاهب شتّى. و في موقف آخر يبدي سخطه عليه السلام لاحتكار بني اُميّة الثروة الإسلامية و يتوعّدهم قائلاً حين منعه سعيد بن العاص حقّه: 'إنّ بني اُميّة لَيُفَوِّقُونَني [ ليفوقونني: يعطونني من المال قليلاً كفواق الناقة، و هو الحلبة الواحدة من لبنها. ] تُراثَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله تَفويقاً، و اللَّه لَئن بَقيتُ لَهُم لأنْفضَنَّهُمْ نَفْض اللَّحّام الوذامَ [ الوذام: و هي الحزة و القطعة من الكرش، أو الكبد تقع في التراب فتنفض. ] التَّربَة'. [ نهج البلاغه، الخطبة 76. ]
لقد كانت قطائع و أراضي جعلها عمر ملكاً خاصّاً لبيت المال، ثمَّ جاء عثمان فأقطعها لأوليائه و أعوانه و ولاته و أهل بيته، فلمّا جاء عليّ عليه السلام ألغى تصرفات عثمان هذه، و قرّر ردّها إلى ملكيّة الدّولة الاسلامية و حوزة بيت المال، و قال: 'و اللَّه لو وجدته- المال- قد تُزوّج به النساء، و ملك به الإماء لرددتُه، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق'. [ المصدر السابق، الخطبة 15. ]
و في العطاء أحدث عليه السلام تغييراً ثوريّاً، لعلّه كان من أخطر التغييرات الثوريّة الّتي قرّرها، و التي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الاسلامية الاُولى، و العطاء هو نظام قسمة الأموال العامّة بين النّاس جنوداً كانوا أم غيرهم، و سواء كانوا من أصل عربيّ أو كانوا من الموالي، أو غير ذلك.
و لمّا جاء عمر بن الخطاب ألغى نظام التسوية بين النّاس في العطاء، ثمَّ كان عهد عثمان الّذي أقرّ القانون السابق، ثمَّ سار على دربه أشواطاً و أشواطاً، حتّى أصبح الاختلاف الطبقي نظاماً بشعاً، بلغت بشاعته حدّاً جعل النّاس يثورون على عثمان، ثمَّ انتهت ثورتهم بقتله و تولية أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خليفةً للمسلمين.
و من هنا كان قرار عليّ عليه السلام بالعدول عن تمييز النّاس في العطاء و العودة إلى نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، و لذا اعترضوا على موقف عليّ عليه السلام. و كان أوّل من اعترض عليه عليه السلام طلحةُ بن عبيداللَّه، و الزبير بنُ العوّام، و عبداللَّه بن عمر، و سعيد بن العاص، و مروان بن الحكم، و رجال من قريش و غيرها، و لقد بلغوا في معارضتهم لقرار التسوية هذا حدّ نقض بيعتهم لعليّ عليه السلام، و إعلان الحرب عليه تحت ستار الطلب بدم عثمان، مع أنّهم هم الذين تقدّموا النّاس في الثورة على عثمان؟!.
لكن عليّ عليه السلام ثبت على موقفه و لم يغيّر ما عزم عليه، و لذا لمّا عاتبه بعض أصحابه على التسوية في العطاء و طلبوا تمييزاً للبعض ارضاءً للخصوم، قال عليه السلام: 'أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليّتُ عليه؟! و اللَّه لا أطورُ به [ أي لا أقربه و لا أفعله. ] ما سمر سميرٌ و ما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، و لو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف و إنّما المالُ مالُ اللَّه؟!'.
ثمّ قال عليه السلام: 'ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌو إسرافُ، و هو يَرفع صاحبَهُ في الدّنيا، و يَضَعُهُ في الآخرة، و يُكرِمُه في النّاس، و يُهينُهُ عندَ اللَّه، و لم يَضَع امرؤٌ مالَهُ في غير حَقِّه، و عند غيرِ أهلهِ، إلّا حَرَمَهُ اللَّه شُكْرَهُمْ، و كان لِغَيرهِ وُدُّهم، فإن زَلَّتْ بِه النَّعلُ يوماً فاحتاجَ إلى مَعُونَتِهم فشرُّ خَدينٍ و ألأم خليلٍ'. [ نهج البلاغة، الخطبة126 و هذا البحث مستفاد من "دائرة المعارف الإسلامية الشيعية" للسيد حسن الأمين، ج 1، ص 136. ]
و قد ورد في الحديث و الأثر بعض الأقوال عن سيرة عليّ عليه السلام في حفظ بيت المال، و حرصه على صيانته، نذكر نماذج منها تكميلاً للبحث.
في الاستيعاب لابن عبد البرّ المالكي: و إذا أورد عليه مال لم يبق منه شيئاً إلّا قسّمه، و لا يترك في بيت المال منه إلّا ما يعجز عن قسمته في يومه ذلك، و يقول: 'يا دنيا غُرّي غيري'.
و لم يكن يستأثر من الفي ء بشي ء، و لا يخصُّ به حَميماً و لا قريباً، و لا يخصّ بالولايات إلّا أهل الدّيانات و الأمانات.
و إذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: '' قد جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِن ربّكُم [ يونس، 57. ] فأوفُوا الْكَيْلَ و المِيزانِ بالقِسْطِ [ الانعام، 152. ] وَ لاَ تَبْخَسُوا النّاس أشَيْاءهم وَ لا تَعْثوا في الأرْضِ مُفْسِدينَ بَقيَّةُ اللَّه خيرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم مؤمنين وَ مَا أَنَا عَلَيكُم بحفِيظ' [ هود، 85 و 86. ]، إذا أتاك كتابي فاحتفظ بما في يدك من أعمالنا حتّى نبعث إليك من يتسلَّمُه'، ثمّ يرفع طرفه إلى السماء فيقول: 'أللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك و لا بترك حقّك'. [ الإستيعاب بهامش الإصابة، ج 3، ص 48. ]
و في الكامل في التأريخ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالخورنق و هو فصل شتاء و عليه خَلَقُ قطيفة، و هو يرعد فيه، فقلت: يا أميرالمؤمنين، إنّ اللَّه قد جعل لك و لأهلك في هذا المال نصيباً، و أنتَ تفعل هذا بنفسك؟ فقال: 'و اللَّه ما أرزؤكم شيئاً، و ما هي إلّا قطيفتي الّتي أخرجتها من المدينة'. [ الكامل لابن الاثير، ج 2، ص 442؛ تذكرة الخواص، ص 108؛. ]
و في "تذكرة الخواص": خرج عليّ عليه السلام يوماً و معه سيفه ليبيعه، فقال عليه السلام: 'مَن يشتري منّي هذا السيف، فو الذي فلَق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و لو كان عندي ثمن إزارٍ لما بعته'. [ تذكرة الخواص، ص 109. ]
و في الاستيعاب لابن عبدالبرّ المالكي، روى الحديث بعينه عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، ثمّ زاد في آخره: فقام إليه رجل فقال: نسلفك عن إزار، قال عبدالرّزاق: و كانت بيده الدّنيا كلّها، إلّا ما كان من الشام. [ الإستيعاب بهامش الاصابة، ج 3، ص 50. ]
روى المحبّ الطبري، عن علي بن أبي ربيعة: أن علي بن أبي طالب جاءه ابن التياح، فقال: يا أميرالمؤمنين، امتلأ بيت المال من صفراء و بيضاء. قال: اللَّه أكبر! فقام متوكّئاً على ابن التياح حتى قام على بيت المال، فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال للمسلمين، و هو يقول: يا صفراء يا بيضاء، غرّي غيري، هاوها، حتى ما بقي منه دينار و لا درهم، ثم أمر بنضحه، فصلّى فيه ركعتين. قال: أخرجه أحمد في المناقب، و المُلّأ و صاحب الصفوة. [ ذخائر العقبى، ص 101؛ الرياض النضرة، ج 3 و 4، ص 211. ]
و في شرح ابن أبي الحديد، قال: و هو "عليّ عليه السلام" الّذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلّي فيها، و هو الّذي قال: 'يا صفراء و يا بيضاء غُرّي غيري' و هو الّذي لم يخلّف ميراثاً، و كانت الدّنيا كلّها بيده إلّا ما كان من الشام.
[ شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص 22. ]
و في "الاستيعاب" لابن عبدالبرّ، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: أتى عليّاً عليه السلام مال من أصفهان، فقسّمه سبعة أسباع، و وجد فيه رغيفاً فقسّمه سبع كسر، فجعل على كلّ جزء منه كسرة، ثمّ أقرع بينهم أيّهم يعطى أوّلاً، و كانت الكوفة يومئذ أسباعاً. [ الإستيعاب بهامش الإصابة، ج 3، ص 49؛ الغارات، ج 1، ص 51؛ الكامل لابن الاثير، ج 3، ص 399 و لفظ الحديث من الاستيعاب. ]
و قال ابن عبد البرّ: و أخباره في مثل هذا من سيرته لا يحاط بها.
كان عليّ عليه السلام يمثّل نموذجاً حيّاً لحكومة العدل الإلهي، في كلّ المجالات، و على كلّ الأصعدة و الجبهات، إذ أنّ مراعاة العدالة لا تنحصر لديه عليه السلام في تقسيم أموال بيت المال و حسب، كما لا تنحصر مع الأصدقاء دون غيرهم من النّاس، بل إنّه كان في الحرب و السلم، مع العدوّ و الصديق يسير بسيرة الرّسول صلى الله عليه و آله العادلة.
لم يكن عليّ عليه السلام مستعداً لتجنّب مسير الحق لأجل هذه الدنيا الفانية حتّى مع ألدّ أعدائه و خصومه، فإنّه كان يقدّم رضا اللَّه جلّ و علا على كلّ شي ء، و يعمل وفقاً للموازين الإلهية العادلة، و كان في تعامله مع معارضيه و أعدائه يأخذ بنظر الاعتبار بقاء الإسلام و ديمومته لا بقاءه هو و حسب، و لو كان يريد البقاء لتعامل مع معارضيه كما تعاملوا هم معه و مع ذرّيته و أولاده عليهم السلام، و لو كان يريد البقاء لاستأصلهم و استخدم أقصى أساليب القمع و الإرهاب ضدّهم من نفي و طرد و إبعاد و سجن، و لخنق أصواتهم أو لأمالهم إليه بالمال و الترغيب... أبى عليه السلام أن يعمل ذلك أو غيره، و ما تعامل معهم إلّا بما أملته عليه مبادى ء الإسلام، و لم ينحرف عن صراطه المستقيم قيد أنملة. في هذا الفصل سنتطرّق إلى موقفه عليه السلام مع معارضيه و أعداء حكومته عليه السلام، ذلك الموقف الّذي نوّر صفحات التاريخ و وجه الإسلام، و إذا كان ثمّة سرّ لبقاء عليّ عليه السلام على طول التاريخ فهو هذا الموقف، مضافاً إلى أنّه عليه السلام ضحّى بنفسه من أجل الإسلام و العدل و الحقّ دون أن يحوز شيئاً لمنفعته و مصلحته.
إنّه عليه السلام قبل أن تشرع حرب الجمل أبدى النصيحة لمخالفي حكومته، و حين لم تنفع معهم لم يبدأ الحرب حتّى بدؤوه بالقتال، و حين انتصر عليهم عفا عنهم و عن أموالهم، و سيرّ عائشة معزّزة مكرّمة إلى المدينة.
و مرّة اُخرى تبرز عظمة عليّ عليه السلام في موقفه مع أعدائه في صفّين حين ملك الماء عليهم و ما حرمهم منه، في الوقت الّذي كان قادراً على ذلك، و رغم أنّهم حرموه منه قريباً.
و تظهر عظمته عليه السلام مرّة اُخرى في موقفه الرجولي مع أهل النهروان، إذ دعاهم إلى الكوفة مراراً، و أبلغ و جاهد في النصيحة لهم، رغم أنّهم قد قتلوا أصحابه ظلماً و عدواناً، كما أنّه لم يقطع عطاءهم من بيت المال، و حينما يواجهونه بالإهانة في مسجد الكوفة كان يبالغ في النصيحة.
و حينما تواقفوا للحرب لم يشرع في حربهم حتّى شرعوا في حربه عليه السلام، و أمثال هذه المواقف كثيرة لا يبلغها الإحصاء.
فداك نفسي و أبي و أمّي و ولدي يا أبا الحسن... أين نجد مثلك في العدل و الإحسان و الحقّ؟ بل ليت الحكومات الإسلامية تطبق و لو ذرّة من أُسلوبك في الحكومة، ولم يسوّدوا وجه الإسلام الناصع بأعمالهم الشنيعة المخالفة لمبادئه الحقّة.
على رغم المحاولات الشتّى المبذولة من قبل أعداء عليّ عليه السلام لطمس فضائله و مناقبه، و عدم السماح بتناقلها، ممّا أحال دون وصولها إلى أسماع النّاس، فبمجرّد إلقاء نظرة- و لو سريعة- على ما دوّنه المؤرخون و العلماء، سواء الموالي منهم أو المخالف، فإنّنا سنلاحظ فضائله و مناقبه ساطعة جليّة لا يغطّيها غبار النواصب الحاقدين.
و في هذا الباب سيبدو لنا عليّ عليه السلام في سيرته مع مخالفيه بشكل لم يشهده عالم اليوم و لا في المستقبل، فلنسمع ذلك من أفواه المخالفين و رواياتهم لنطّلع على عظمة عليّ عليه السلام:
نقل ابن أبي الحديد في شرحه عن الجاحظ أنّه قال: كان عليّ عليه السلام لا يستعمل في حربه إلّا ما وافق الكتاب و السنّة، و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السنّة كما يستعمل الكتاب و السنّة، و يستعمل جميع المكائد حلالها و حرامها، يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، و خاقان اذا لاقى رتبيل، [ رتبيل: صاحب الترك. ] و عليّ عليه السلام يقول: 'لا تبدؤوهم بالقتال حتّى يبدؤوكم، و لا تتبعوا مدبراً، و لا تُجهزوا على جريح، و لا تفتحوا باباً مغلقاً' هذه سيرته في ذي الكلاع، و في أبي الأعور السُلّمي، و في عمرو بن العاص، و حبيب بن مسلمة، و في جميع الرؤساء، كسيرته في الحاشية و الحشو و الأتباع و السفلة و أصحاب الحروب. إلى أن قال: فعليٌّ عليه السلام كان مُلجماً بالوَرع عن جميع القول إلّا ما هو للَّه عزّوجلّ رضاً، و ممنوع اليدين من