الأول: أنه تعالى قال: عَفَا اللَّهُعَنْكَ و العفو يستدعي سابقة الذنب. والثاني: أنه تعالى قال: لِمَ أَذِنْتَلَهُمْ و هذا استفهام بمعنى الإنكار، فدلهذا على أن ذلك الإذن كان معصية و ذنبا. قالقتادة و عمرو بن ميمون: اثنان فعلهماالرسول، لم يؤمر بشيء فيهما، إذنهللمنافقين، و أخذه الفداء من الأسارى،فعاتبه اللّه كما تسمعون.
و الجواب عن الأول: لا نسلم أن قوله: عَفَااللَّهُ عَنْكَ يوجب الذنب، ولم لا يجوزأن يقال: إن ذلك يدل على مبالغة اللّه فيتعظيمه و توقيره، كما يقول الرجل لغيرهإذا كان معظما عنده، عفا اللّه عنك ما صنعتفي أمري و رضي اللّه عنك، ما جوابك عنكلامي؟ و عافاك اللّه ما عرفت حقي فلا يكونغرضة من هذا الكلام، إلا مزيد التبجيل والتعظيم. و قال علي بن الجهم: فيما يخاطب بهالمتوكل و قد أمر بنفيه:
و الجواب عن الثاني أن نقول: لا يجوز أنيقال: المراد بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْالإنكار لأنا نقول: إما أن يكون صدر عنالرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنهذنب، فإن قلنا: إنه ما صدر عنه ذنب، امتنععلى هذا التقدير أن يكون قوله: لِمَأَذِنْتَ لَهُمْ إنكار عليه، و إن قلنا:إنه كان قد صدر عنه ذنب، فقوله:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يدل على حصول العفوعنه، و بعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجهالإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقاديريمتنع أن يقال: إن قوله: لِمَ أَذِنْتَلَهُمْ يدل على كون الرسول مذنبا، و هذاجواب شاف قاطع. و عند هذا، يحمل قوله: لِمَأَذِنْتَ لَهُمْ على ترك الأولى و الأكمل،لا سيما و هذه الواقعة كانت من جنس مايتعلق بالحروب و مصالح الدنيا.
واحتج عليه بأن قوله: فَاعْتَبِرُوا ياأُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] أمر لأوليالأبصار بالاعتبار و الاجتهاد، و الرسولكان سيدا لهم، فكان داخلا تحت هذا الأمر،ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إما أنيقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أومنعه عنه، أو ما أذن له فيه و ما منعه عنه والأول باطل، و إلا امتنع أن يقول له لمأذنت لهم و الثاني باطل أيضا، لأن على هذاالتقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزلاللّه فيلزم دخوله تحت قوله:
وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَاللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ[المائدة: 44] فَأُولئِكَ هُمُالظَّالِمُونَ [المائدة: 45] فَأُولئِكَهُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47] و ذلك باطلبصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أنه عليه الصلاة و السلام أذن في تلكالواقعة من تلقاء نفسه، فأما أن يكون ذلكمبنيا على الاجتهاد أو ما كان كذلك، والثاني باطل، لأنه حكم بمجرد التشهي و هوباطل لقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْبَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ [مريم: 59] فلم يبقإلا أنه عليه الصلاة و السلام أذن في تلكالواقعة، بناء على الاجتهاد، و ذلك يدلعلى أنه عليه الصلاة و السلام، كان يحكمبمقتضى الاجتهاد.
فإن قيل: فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز لهالحكم بالاجتهاد أولى، لأنه تعالى منعه منهذا الحكم بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.