تقدير الكلام:ان الدنيا دار لايسلم من عقاب ذنوبها الا فيها، و هذا حق، لان العقاب المستحق، انما يسقط باحد امرين:اما بثواب على طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق، او بتوبه كامله الشروط.
و كلا الامرين لايصح من المكلفين ايقاعه الا فى الدنيا، فان الاخره ليست دار تكليف، ليصح من الانسان فيها عمل الطاعه و التوبه عن المعصيه السالفه، فقد ثبت اذا ان الدنيا دار لايسلم منها الا فيها.
ان قيل:بينوا ان الاخره ليست بدار تكليف.
قيل:قد بين الشيوخ ذلك بوجهين:احدهما:الاجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب او عقاب فى الاخره.
و الثانى:ان الثواب يجب ان يكون خالصا من المشاق، و التكليف يستلزم المشقه، لانها شرط فى صحته، فبطل ان يجوز استحقاق ثواب فى الاخره للمكلفين المثابين فى الاخره لاجل تكاليفهم فى الاخره، و اما المعاقبون فلو كانوا مكلفين لجاز وقوع التوبه منهم، و سقوط العقاب بها، و هذا معلوم فساده ضروره من دين الرسول (ع).
و هاهنا اعتراضان:احدهما ان يقال فما قولكم فى قوله تعالى:(كلوا و اشربوا هنيئا بما اسلفتم)، و هذا امر و خطاب لاهل الجنه، و الامر تكليف؟ و الثانى:ان الاجماع حاصل على ان اهل الجنه يشكرون ا لله تعالى، و الشكر عباده و ذلك يستدعى استحقاق الثواب! و الجواب عن الاول ان قوله:(كلوا و اشربوا) عند شيخنا ابى على رحمه الله تعالى ليس بامر على الحقيقه، و ان كانت له صورته، كما فى قوله تعالى:(كونوا حجاره او حديدا).
و اما الشيخ ابوهاشم فعنده ان قوله:(كلوا و اشربوا) امر، لكنه زائد فى سرور اهل الجنه، اذا علموا ان الله تعالى اراد منهم الاكل و امرهم به، و لكنه ليس بتكليف، لان الامر انما يكون تكليفا اذا انضمت اليه المشقه.
و اما الجواب عن الثانى، فان الشكر الذى بالقلب رجوعه الى الاعتقادات، و الله تعالى يفعل فى اهل الجنه المعارف كلها، فلا وجوب اذا عليهم، و اما الشكر باللسان فيجوز ان يكون لهم فيه لذه، فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم.
و بهذا الوجه نجيب عن قول من يقول:اليس زبانيه النار يعالجون اهل العذاب فى جهنم، اعاذنا الله؟ منها و هل هذا الا محض تكليف! لانا نقول انه يجوز ان يكون للزبانيه فى ذلك لذه عظيمه، فلا يثبت التكليف معها، كما لايكون الانسان مكلفا فى الدنيا بما يخلص اليه شهوته، و لا مشقه عليه فيه.
ان قيل:هذا الجواب ينبى ء على ان معارف اهل الاخره ضروريه، لانكم اجبتم عن مساله الشكر، بان الله تعالى يفعل ا لمعارف فى اهل الجنه، فدللوا على ذلك، بل يجب عليكم ان تدللوا اولا على ان اهل الاخره يعرفون الله تعالى.
قيل:اما الدليل على انهم يعرفونه تعالى، فان المثاب لابد ان يعلم وصول الثواب اليه على الوجه الذى استحقه، و لايصح ذلك الا مع المعرفه بالله تعالى، ليعلم ان ما فعله به هو الذى لمستحقه، و القول فى المعاقب كالقول فى المثاب.
و ايضا فان من شرط الثواب مقارنه التعظيم و التبجيل له من فاعل الثواب، لان تعظيم غير فاعل الثواب لايوثر، و التعظيم لايعلم الا مع العلم بالقصد الى التعظيم، و يستحيل ان يعلموا قصده تعالى، و لايعلموه، و القول فى العقاب و كون الاستحقاق و الاهانه تقارنه تجرى هذا المجرى.
فاما بيان ان هذه المعرفه ضروريه، فلانها لو كانت من فعلهم، لكانت اما ان تقع عن نظر يتحرون فيه، و يلجئون اليه، او عن تذكر نظر، او بان يلجئوا الى نفس المعرفه من غير تقدم نظر، و الاول باطل، لان ذلك تكليف و فيه مشقه، و قد بينا سقوط التكليف فى الاخره.
و لايجوز ان يلجئوا الى النظر لانهم لو الجئوا الى النظر لكان الجاهم الى المعرفه اولا، و الجاوهم الى المعرفه يمنع من الجائهم الى النظر، و لايجوز وقوعها عند تذكر النظر، لان المتذكر للنظر تعرض له ال شبه، و يلزمه دفعها، و فى ذلك عود الامر الى التكليف، و ليس معاينه الايات بمانع عن وقوع الشبه، كما لم تمنع معاينه المعجزات و الاعلام عن وقوعها، و لايجوز ان يكون الالجاء الى المعرفه، لان الالجاء الى افعال القلوب لايصح الا من الله تعالى، فيجب ان يكون الملجا الى المعرفه عارفا بهذه القضيه، و فى ذلك استغناوه بتقدم هذه المعرفه على الالجاء اليها.
ان قيل:اذا قلتم انهم مضطرون الى المعارف، فهل تقولون انهم مضطرون الى الافعال؟ قيل:لا، لانه تعالى قال:(و فاكهه مما يتخيرون)، و لان من تدبر ترغيبات القرآن فى الجنه و الثواب، علم قطعا ان اهل الجنه غير مضطرين الى افعالهم، كما يضطر المرتعش الى الرعشه.
ان قيل:فاذا كانوا غير مضطرين، فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم؟ قيل:لان الله تعالى قد خلق فيهم علما بانهم متى حاولوا القبيح منعوا منه، و هذا يمنع من الاقدام على القبيح بطريق الالجاء.
و يمكن ايضا ان يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح، مع ما فى القبيح من المضره، فيكونون ملجئين الى الا يفعلوا القبيح.
فاما قوله (ع):(و لاينجى بشى ء كان لها) فمعناه ان افعال المكلف التى يفعلها لاغراضه الدنيويه ليست طريقا الى النجاه فى الاخره، كمن ينفق ما له رئاء الناس، و ليست طرق النجاه الا بافعال البر التى يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير، و قد اوضح (ع) ذلك بقوله، (فما اخذوه منها لها اخرجوا منه، و حوسبوا عليه، و ما اخذوه منها لغيرها قدموا عليه و اقاموا فيه).
فمثال الاول من يكتسب الاموال و يدخرها لملاذه، و مثال الثانى من يكسبها لينفقها فى سبيل الخيرات و المعروف.
ثم قال (ع):(و انها عند ذوى العقول كفى ء الظل) الى آخر الفصل، و انما قال:(كفى ء الظل) لان العرب تضيف الشى ء الى نفسه، قال تابط شرا:اذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل له كالى ء من قلب شيحان فاتك و يمكن ان يقال:الظل اعم من الفى ء، لان الفى ء لايكون الا بعد الزوال، و كل فى ء ظل، و ليس كل ظل فيئا، فلما كان فيهما تغاير معنوى بهذا الاعتبار صحت الاضافه.
و السابغ:التام.
و قلص، اى انقبض.
و قوله (ع):(بينا تراه)، اصل (بينا) (بين)، فاشبعت الفتحه، فصارت (بينا) على وزن (فعلى) ثم تقول (بينما) فتزيد (ما)، و المعنى واحد، تقول بينا نحن نرقبه اتانا، اى بين اوقات رقبتنا اياه اتانا، و الجمل تضاف اليها اسماء الزمان، كقولك:اتيتك زمن الحجاج امير:ثم حذفت المضاف الذى هو (اوقات) و ولى الظرف الذى هو بين الجمله التى اقيمت مقام المضاف اليه، كقوله (و اسال القريه).
و كان الاصمعى يخفض ب (بينا) اذا صلح فى موضعه (بين)، و ينشد بيت ابى ذويب، بالجر:بينا تعنقه الكماه و روغه يوما اتيح له جرى ء سلفع و غيره يرفع ما بعد (بينا) و (بينما) على الابتداء و الخبر، و ينشد هذا البيت على الرفع.
و هذا المعنى متداول، قال الشاعر:الا انما الدنيا كظل غمامه اظلت يسيرا ثم خفت فولت و قال آخر:ظل الغمام، و احلام المنام، فما تدوم يوما لمخلوق على حال