شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 179
نمايش فراداده

خطبه 064-در علم الهى

الشرح:

يصم، بفتح الصاد، لان الماضى (صممت) يا زيد، و الصمم:فساد حاسه السمع، و يصمه بكسرها، يحدث الصمم عنده، و اصممت زيدا.

و الند:المثل و النظير.

و المثاور:المواثب.

و الشريك المكاثر:المفتخر بالكثره.

و الضد المنافر:المحاكم فى الحسب، نافرت زيدا فنفرته، اى غلبته.

و مربوبون:مملوكون و داخرون:ذليلون خاضعون.

و لم ينا:لم يبعد.

و لم يوده:لم يتعبه.

و ذرا:خلق، و ولجت عليه الشبهه، بفتح اللام، اى دخلت.

و المرهوب:المخوف.

فاما قوله:(الذى لم يسبق له حال حالا، فيكون اولا قبل ان يكون آخرا)، فيمكن تفسيره على وجهين:احدهما:ان معنى كونه اولا انه لم يزل موجودا، و لا شى ء من الاشياء بموجود اصلا، و معنى كونه آخرا انه باق لايزال، و كل شى ء من الاشياء يعدم عدما محضا حسب عدمه فيما مضى، و ذاته سبحانه ذات يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين معا فى كل حال، فلا حال قط الا و يصدق على ذاته انه يجب كونها مستحقه للاوليه و الاخريه بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا، و ذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب، بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانيه، فان غيره مما يبقى زمانين فصاعدا اذا نسبناه الى ما يبقى دون زمان بقائه لم يكن استحقاقه الاوليه و الاخريه بالنسبه اليه على هذا الوصف، بل اما يكون استحقاقا بالكليه، بان يكون استحقاقا قريبا، فيكون انما يصدق عليه احدهما، لان الاخر لم يصدق عليه، او يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين، لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالاوليه و الاخريه، بل انما ذلك الاستحقاق لامر خارج عن ذاته.

الوجه الثانى:ان يريد بهذا الكلام انه تعالى لايجوز ان يكون موردا للصفات المتعاقبه، على ما يذهب اليه قوم من اهل التوحيد، قالوا:لانه واجب لذاته، و الواجب لذاته واجب من جميع جهاته، اذ لو فرضنا جواز اتصافه بامر جديد ثبوتى او سلبى لقلنا:ان ذاته لاتكفى فى تحققه، و لو قلنا ذلك لقلنا ان حصول ذلك الامر، او سلبه عنه، يتوقف على حصول امر خارج عن ذاته، او على عدم امر خارج عن ذاته فتكون ذاته لا محاله متوقفه على حضور ذلك الحصول او السلب، و المتوقف على المتوقف على الغير، متوقف على الغير و كل متوقف على الغير ممكن، و الواجب لايكون ممكنا.

فيكون معنى الكلام على هذا التفسير نفى كونه تعالى ذا صفه، بكونه اولا و آخرا، بل انما المرجع بذلك الى اضافات لا وجود لها فى الاعيان، و لايكون ذلك من احوال ذاته الراجعه اليها كالعالميه و نحوه ا، لان تلك احوال ثابته، و نحن انما ننفى عنه بهذه الحجه الاحوال المتعاقبه.

و اما قوله:(او يكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا)، فان للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين:احدهما:انه ظاهر بمعنى ان ادله وجوده و اعلام ثبوته و الهيته جليه واضحه، و معنى كونه باطنا انه غير مدرك بالحواس الظاهره، بل بقوه اخرى باطنه، و هى القوه العقليه.

و ثانيهما:انا نعنى بالظاهر الغالب، يقال:ظهر فلان على بنى فلان، اى غلبهم، و معنى الباطن العالم، يقال:بطنت سر فلان، اى علمته، و القول فى نفيه عنه سبحانه ان يكون ظاهرا قبل كونه باطنا، كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه كونه اولا قبل كونه آخرا.

و اما قوله:(كل مسمى بالوحده غيره قليل) فلان الواحد اقل العدد، و معنى كونه واحدا يباين ذلك، لان معنى كونه واحدا اما نفى الثانى فى الالهيه، او كونه يستحيل عليها الانقسام، و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القله.

هذا اذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقى، و ان فسرناه على قاعده البلاغه و صناعه الخطابه، كان ظاهرا، لان الناس يستحقرون القليل لقلته، و يستعظمون الكثير لكثرته قال الشاعر:تجمعتم من كل اوب و وجهه على واحد لازلتم قرن واحد و اما قوله:(و كل عزيز غ يره ذليل) فهو حق، لان غيره من الملوك و ان كان عزيزا فهو ذليل فى قبضه القضاء و القدر، و هذا هو تفسير قوله:(و كل قوى غيره ضعيف، و كل مالك غيره مملوك.

) و اما قوله:(و كل عالم غيره متعلم) فهو حق، لانه سبحانه مفيض العلوم على النفوس، فهو المعلم الاول، جلت قدرته.

و اما قوله:(و كل قادر غيره يقدر و يعجز) فهو حق، لانه تعالى قادر لذاته، و يستحيل عليه العجز، و غيره قادر لامر خارج عن ذاته، اما لقدره، كما قاله قوم، او لبنيه و تركيب كما قاله قوم آخرون، و العجز على من عداه غير ممتنع، و عليه مستحيل.

و اما قوله (ع):(و كل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات، و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها) فحق، لان كل ذى سمع من الاجسام يضعف سمعه عن ادراك خفى الاصوات، و يتاثر من شديدها و قويها، لانه يسمع باله جسمانيه، و الاله الجسمانيه ذات قوه متناهيه واقفه عند حد محدود، و البارى تعالى بخلاف ذلك.

و اعلم ان اصحابنا اختلفوا فى كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات، فقال شيخنا ابوعلى و ابوهاشم و اصحابهما:ان كونه مدركا صفه زائده على كونه عالما، و قالا:انا نصف البارى تعالى- فيما لم يزل- بانه سميع بصير، و لا نصفه بانه سامع مبصر، و معنى كونه سامعا مبصرا انه مدرك للمسموعات و المبصرات.

و قال شيخنا ابوالقاسم و ابوالحسين و اصحابهما:ان معنى كونه تعالى مدركا، هو انه عالم بالمدركات، و لا صفه له زائده على صفته بكونه عالما، و هذا البحث مشروح فى كتبى الكلاميه لتقرير الطريقين و فى "شرح الغرر" و غيرهما.

و القول فى شرح قوله:(و كل بصير غيره يعمى عن خفى الالوان، و لطيف الاجسام)، كالقول فيما تقدم فى ادراك السمع.

و اما قوله:(و كل ظاهر غيره غير باطن، و كل باطن غيره غير ظاهر) فحق، لان كل ظاهر غيره على التفسير الاول فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما من الالوان الظاهره، فانها ليست انما تدرك بالقوه العقليه، بل بالحواس الظاهره، و اما هو سبحانه فانه اظهر وجودا من الشمس، لكن ذلك الظهور لم يمكن ادراكه بالقوى الحاسه الظاهره، بل بامر آخر، اما خفى فى باطن هذا الجسد، او مفارق ليس فى الجسد و لا فى جهه اخرى غير جهه الجسد.

و اما على التفسير الثانى، فلان كل ملك ظاهر على رعيته او على خصومه و قاهر لهم، ليس بعالم ببواطنهم، و ليس مطلعا على سرائرهم، و البارى ء تعالى بخلاف ذلك، و اذا فهمت شرح القضيه الاولى، فهمت شرح الثانيه، و هى قوله:(و كل باطن غيره غير ظاهر).

(اختلاف الاقوال فى خلق العالم) فاما قوله:(لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه) الى قوله:(عباد داخرون)، فاعلم ان الناس اختلفوا فى كميه خلقه تعالى للعالم ما هى؟ على اقوال:القول الاول:قول الفلاسفه:قال محمد بن زكريا الرازى عن ارسطا طاليس:انه زعم ان العالم كان عن البارى ء تعالى، لان جوهره و ذاته جوهر و ذات مسخره للمعدوم ان يكون مسخرا موجودا.

قال:و زعم ابن قيس ان عله وجود العالم وجود البارى ء.

قال:و على كلا القولين يكون العالم قديما، اما على قول ارسطو فلان جوهر ذات البارى ء لما كان قديما لم يزل، وجب ان يكون اثرها و معلولها قديما.

و اما على قول ابن قيس فلان البارى ء موجود لم يزل، لان وجوده من لوازم ذاته، فوجب ان يكون فيضه و اثره ايضا لم يزل هكذا.

قال ابن زكريا:فاما الذى يقول اصحاب ارسطا طاليس الان فى زماننا، فهو ان العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض، لان كل من فعل فعلا لغرض كان حصول ذلك الغرض له اولى من لا حصوله، فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض، و واجب الوجود لايجوز ان يكون كاملا بامر خارج عن ذاته، لان الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته.

قالوا:لكن تمثل نظام العالم فى علم واجب الوجود، يقتضى فيض ذلك النظام منه، قالوا:و هذا معنى قو ل الحكماء الاوائل:ان علمه تعالى فعلى لاانفعالى، و ان العلم على قسمين:احدهما:ما يكون المعلوم سببا له، و الثانى ما يكون هو سبب المعلوم، مثال الاول ان نشاهد صوره فنعلمها، و مثال الثانى ان يتصور الصائغ او النجار او البناء كيفيه العمل فيوقعه فى الخارج على حسب ما تصوره.

قالوا:و علمه تعالى من القسم الثانى، و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعنايه، و هو احاطه علم الاول الحق سبحانه، بالكل و بالواجب ان يكون عليه الكل حتى يكون على احسن النظام، و بان ذلك واجب عن احاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد و طلب عن الاول الحق سبحانه، فعلمه تعالى بكيفيه الصواب فى ترتيب الكل هو المنبع لفيضان الوجود فى الكل.

القول الثانى:قول حكاه ابوالقاسم البلخى عن قدماء الفلاسفه، و اليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازى من المتاخرين.

و هو ان عله خلق البارى ء للعالم تنبيه النفس على ان ما تراه من الهيولى و تريده غير ممكن لترفض محبتها اياها و عشقها لها و تعود الى عالمها الاول غير مشتاقه الى هذا العالم.

و اعلم ان هذا القول هو القول المحكى عن الحرنانيه اصحاب القدماء الخمسه، و حقيقه مذهبهم اثبات قدماء خمسه:اثنان منهم حيان فاعلان، و هما البارى ء تعالى و النفس، و مرادهم بالنفس ذات هى مبدا لسائر النفوس التى فى العالم كالارواح البشريه، و القوى النباتيه و النفوس الفلكيه، و يسمون هذه الذات النفس الكليه.

و واحد من الخمسه منفعل غير حى، و هو الهيولى، و اثنان لا حيان و لا فاعلان و لا منفعلان، و هما الدهر و القضاء.

قالوا:و البارى ء تعالى هو مبدا العلوم و المنفعلات، و هو قائم العلم و الحكمه، كما ان النفس مبدا الارواح و النفوس، فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارى ء سبحانه فيض النور عن قرص الشمس، و النفوس و الارواح تفيض عن النفس الكليه فيض النور عن القرص، الا ان النفوس جاهله لاتعرف الاشياء الا على احد وجهين:اما ان يفيض فيض البارى ء تعالى عليها تعقلا و ادراكا، و اما ان تمارس غيرها و تمازجه، فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسه و المخالطه معرفه ناقصه، و كان البارى ء تعالى فى الازل عالما بان النفس تميل الى التعلق بالهيولى و تعشقها، و تطلب اللذه الجسمانيه، و تكره مفارقه الاجسام، و تنسى نفسها، و لما كان البارى ء سبحانه قائم العلم و الحكمه، اقتضت حكمته تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفه من التراكيب، فجعل منها افلاكا و عناصر و حيوانات و نباتات، فافاض على النفوس تعقلا و شعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الاول، و معرفتها انها ما دامت فى هذا العالم مخالطه للهيولى لم تنفك عن الالام، فيصير ذلك مقتضيا شوقها الى عالمها الاول الذى لها فيه اللذات الخاليه عن الالام، و رفضها هذا العالم الذى هو سبب اذاها و مضرتها.

القول الثالث:قول المجوس:ان الغرض من خلق العالم ان يتحصن الخالق جل اسمه من العدو، و ان يجعل العالم شبكه له ليوقع العدو فيه، و يجعله فى ربط و وثاق، و العدو عندهم هو الشيطان، و بعضهم يعتقد قدمه، و بعضهم حدوثه.

قال قوم منهم:ان البارى ء تعالى استوحش، ففكر فكره رديئه، فتولد منها الشيطان.

و قال آخرون:بل شك شكا رديئا، فتولد اليطان من شكه.

و قال آخرون:بل تولد من عفونه رديئه قديمه، و زعموا ان الشيطان حارب البارى ء سبحانه، و كان فى الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارى ء سبحانه، فلم يزل يزحف حتى راى النور، فوثب وثبه عظيمه، فصار فى سلطان الله تعالى فى النور، و ادخل معه الافات و البلايا و السرور، فبنى الله سبحانه هذه الافلاك و الارض و العناصر شبكه له، و هو فيها محبوس، لايمكنه الرجوع الى سلطانه الاول، و صار فى الظلمه، فهو ابدا يضطرب و يرمى الافات على خلق الله سبحانه، فمن احيا ه الله رماه الشيطان بالموت، و من اصحه رماه الشيطان بالسقم، و من سره رماه بالحزن و الكابه، فلا يزال كذلك، و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته، لان الله تعالى يحتال له كل يوم، و يضعفه الى ان تذهب قوته كلها، و تجمد و تصير جمادا لاحراك به، فيضعه الله تعالى حينئذ فى الجو، و الجو عندهم هو الظلمه، و لا منتهى له، فيصير فى الجو جمادا جامدا هوائيا، و يجمع الله تعالى اهل الاديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم، و يصفيهم من طاعه الشيطان، و يغسلهم من الادناس، ثم يدخلهم الجنه و هى جنه:لااكل فيها و لاشرب و لاتمتع، و لكنها موضع لذه و سرور.

القول الرابع:قول المانويه:و هو ان النور لا نهايه له من جهه فوق، و اما من جهه تحت فله نهايه، و الظلمه لا نهايه لها من جهه اسفل، و اما من جهه فوق فلها نهايه، و كان النور و الظلمه هكذا قبل خلق العالم و بينهما فرجه، و ان بعض اجزاء النور اقتحم تلك الفرجه لينظر الى الظلمه، فاسرته الظلمه، فاقبل عالم كثير من النور، فحارب الظلمه ليستخلص الماسورين من تلك الاجزاء، و طالت الحرب، و اختلط كثير من اجزاء النور بكثير من اجزاء الظلمه، فاقتضت حكمه نور الانوار- و هو البارى ء سبحانه عندهم- ان عمل الارض من لحوم القتلى، و ا لجبال من عظامهم، و البحار من صديدهم و دمائهم، و السماء من جلودهم، و خلق الشمس و القمر و سيرهما، لاستقصاء ما فى هذا العالم من اجزاء النور المختلطه باجزاء الظلمه، و جعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الاعلى، يطرح فيه الظلام المستقصى، فهو لايزال يزيد و يتضاعف و يكثر فى هذا الخندق، و هو ظلام صرف قد استقصى نوره.

و اما النور المستخلص فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الانوار من فوق، فلا تزال الافلاك متحركه، و العالم مستمرا الى ان يتم استقصاء النور الممتزج، و حينئذ يبقى من النور الممتزج شى ء يسير، فينعقد بالظلمه، لاتقدر النيران على استقصائه، فعند ذلك تسقط الاجسام العاليه- و هى الافلاك- على الاجسام السافله- و هى الارضون- و تثور نار، و تضطرم فى تلك الاسافل و هى المسماه بجهنم، و يكون الاضطرام مقدار الف و اربعمائه سنه، فتحلل بتلك النار تلك الاجزاء المنعقده من النور، الممتزجه باجزاء الظلمه التى عجز الشمس و القمر عن استقصائها، فيرتفع الى عالم الانوار، و يبطل العالم حينئذ و يعود النور كله الى حاله الاولى قبل الامتزاج، فكذلك الظلمه.

القول الخامس:قول متكلمى الاسلام.

و هو على وجوه:اولها قول جمهور اصحابنا:ان الله تعالى انما خلق ا لعالم للاحسان اليهم و الانعام على الحيوان:لان خلقه حيا نعمه عليه، لان حقيقه النعمه موجوده فيه، و ذلك ان النعمه هى المنفعه المفعوله للاحسان، و وجود الجسم حيا منفعه مفعوله للاحسان، اما بيان كون ذلك منفعه، فلان المنفعه هى اللذه و السرور و دفع المضار المخوفه، و ما ادى الى ذلك و صححه، الا ترى ان من اشرف على ان يهوى من جبل، فمنعه بعض الناس من ذلك، فانه يكون منعما عليه، و من سر غيره بامر، و اوصل اليه لذه، يكون قد انعم عليه، و من دفع الى غيره مالا يكون قد انعم عليه، لانه قد مكنه بدفعه اليه من الانتفاع، و صححه له.

و لاريب ان وجودنا احياء يصحح لنا اللذات، و يمكننا منها، لانا لو لن نكن احياء لم يصح ذلك فينا.

قالوا:و انما قلنا ان هذه المنفعه مفعوله للاحسان، لانها اما ان تكون مفعوله لا لغرض، او لغرض و الاول باطل، لان ما يفعل لا لغرض عبث، و البارى ء سبحانه لايصح ان تكون افعاله عبثا، لانه حكيم.

و اما الثانى، فاما ان يكون ذلك الغرض عائدا عليه سبحانه بنفع او دفع ضرر، او يعود على غيره.

و الاول باطل، لانه غنى لذاته، يستحيل عليه المنافع و المضار، و لايجوز ان يفعله لمضره يوصلها الى غيره، لان القصد الى الاضرار بالحيوان من غير اس تحقاق و لامنفعه يوصل اليها بالمضره قبيح، تعالى الله عنه! فثبت انه سبحانه انما خلق الحيوان لنفعه، و اما غير الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان، لكان خلقه عبثا، و البارى ء تعالى لايجوز عليه العبث، فاذا جميع ما فى العالم انما خلقه لينفع به الحيوان.

فهذا هو الكلام فى عله خلق العالم عندهم، و اما الكلام فى وجه حسن تكليف الانسان، فذاك مقام آخر لسنا الان فى بيانه و لا الحاجه داعيه اليه.

و ثانيها:قول قوم من اصحابنا البغداديين:انه خلق الخلق، ليظهر به لارباب العقول صفاته الحميده، و قدرته على كل ممكن، و علمه بكل معلوم، و ما يستحقه من الثناء و الحمد.

قالوا:و قد ورد الخبر انه تعالى قال:(كنت كنزا لااعرف، فاحببت ان اعرف)، و هذا القول ليس بعيدا.

و ثالثها:للمجبره:انه خلق الخلق لا لغرض اصلا، و لايقال:لم كان كل شى ء لعله، و لا عله لفعله و مذهب الاشعرى و اصحابه ان ارادته القديمه تعلقت بايجاد العالم فى الحال التى وجد فيها لذاتها، و لا لغرض و لا لداع، و ما كان يجوز الا يوجد العالم حيث وجد، لان الاراده القديمه، لايجوز ان تتقلب و تتغير حقيقتها، و كذلك القول عندهم فى اجزاء العالم المجدده من الحركات و السكنات، و الاجسام و سا ئر الاعراض.

و رابعها:قول بعض المتكلمين:ان البارى ء تعالى انما فعل العالم لانه ملتذ بان يفعل، و اجاز ارباب هذا القول عليه اللذه و السرور و الابتهاج.

قالوا:و البارى ء- سبحانه- و ان كان قبل ان يخلق العالم ملتذا بكونه قادرا على خلق العالم- الا ان لذه الفعل اقوى من لذه القدره على الفعل، كان يلتذ بانه قادر على ان يكتب خطا مستحسنا، او يبنى بيتا محكما، فانه اذا اخرج تلك الصناعه من القوه الى الفعل، كانت لذته اتم و اعظم.

قالوا:و لم يثبت بالدليل العقلى استحاله اللذه عليه، و قد ورد فى الاثار النبويه ان الله تعالى يسر، و اتفقت الفلاسفه على انه ملتذ بذاته و كماله.

و عندى فى هذا القول نظر، و لى فى اللذه و الالم رساله مفرده، و اما قوله:(لم يحلل فى الاشياء، فيقال:لا هو فيها كائن و لا منها مباين)، فينبغى ان يحمل على انه اراد انه لم ينا عن الاشياء نايا مكانيا فيقال:هو بائن بالمكان، هكذا ينبغى ان يكون مراده، لانه لايجوز اطلاق القول بانه ليس ببائن عن الاشياء، و كيف و المجرد بالضروره بائن عن ذى الوضع، و لكنها بينونه بالذات لا بالجهه، و المسلمون كلهم متفقون على انه تعالى يستحيل ان يحل فى شى ء الا من اعتزى الى الاسلام من الح لوليه، كالذين قالوا بحلوله فى على و ولده، و كالذين قالوا بحلوله فى اشخاص يعتقدون فيها اظهاره كالحلاجيه و غيرهم، و الدليل على استحاله حلوله سبحانه فى الاجسام، انه لو صح ان يحل فيها لم يعقل منفردا بنفسه ابدا، كما ان السواد لايعقل كونه غير حال فى الجسم، لانه لو يعقل غير حال فى الجسم لم يكن سوادا، و لايجوز ان يكون الله تعالى حالا ابدا، و لا ان يلاقى الجسم، اذ ذلك يستلزم قدم الاجسام، و قد ثبت انها حادثه.

فاما قوله:(لم يوده خلق ما ابتدا) الى قوله:(عما خلق) فهو حق، لانه تعالى قادر لذاته، و القادر لذاته لايتعب و لايعجز، لانه ليس بجسم، و لا قادر بقدره يقف مقدورها عند حد و غايه، بل انما يقدر على شى ء لانه تعالى ذات مخصوصه، يجب لها ان تقدر على الممكنات، فيكون كل ممكن داخلا تحت هذه القضيه الكليه، و الذات التى تكون هكذا لاتعجز و لاتقف مقدوراتها عند حد و غايه اصلا، و يستحيل عليها التعب، لانها ليست ذات اعضاء و اجزاء.

و اما قوله:(و لا ولجت عليه شبهه) الى قوله:(و امر مبرم) فحق، لانه تعالى عالم لذاته، اى انما علم ما علمه لا بمعنى ان يتعلق بمعلوم دون معلوم، بل انما علم اى شى ء اشرت اليه، لانه ذات مخصوصه، و نسبه تلك الذات ال ى غير ذلك الشى ء المشار اليه، كنسبتها الى المشار اليه، فكانت عالمه بكل معلوم، و استحال دخول الشبهه عليها فيما يقضيه و يقدره.

و اما قوله:(المامول مع النقم، المرهوب مع النعم) فمعنى لطيف، و اليه وقعت الاشاره بقوله تعالى:(افامن اهل القرى ان ياتيهم باسنا بياتا و هم نائمون، او امن اهل القرى ان ياتيهم باسنا ضحى و هم يلعبون)، و قوله سبحانه:(سنستدرجهم من حيث لايعلمون)، و قوله تعالى:(فان مع العسر يسرا، ان مع العسر يسرا)، و قوله سبحانه:(فعسى ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا) و اليه نظر الشاعر فى قوله:من عاش لاقى ما يسوء من الامور و ما يسر و لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در و قال البخترى:يسرك الشى ء قد يسوء و كم نوه يوما بخامل لقبه لاييئس المرء ان ينجيه ما يحسب الناس انه عطبه و قال آخر:رب غم يدب تحت سرور و سرور ياتى من المحذور و قال سعيد بن حميد:كم نعمه مطويه لك بين اثناء النوائب و مسره قد اقبلت من حيث تنتظر المصائب و قال آخر:انتظر الروح و اسبابه ايئس ما كنت من الروح و قال آخر:ربما تجزع النفوس من الامر له فرجه كحل العقال و قال آخر:العسر اكرمه ليسر بعده و لاجل عين ا لف عين تكرم و المرء يكره يومه و لعله ياتيه فيه سعاده لاتعلم و قال الحلاج:و لربما هاج الكبير من الامور لك الصغير و لرب امر قد تضي ق به الصدور و لايصير و قال آخر:يا راقد الليل مسرورا باوله ان الحوادث قد يطرقن اسحارا و قال آخر:كم مره حفت بك المكاره خار لك الله و انت كاره و من شعرى الذى اناجى به البارى ء سبحانه فى خلواتى، و هو فن اطويه و اكتمه عن الناس، و انما ذكرت بعضه فى هذا الموضع، لان المعنى ساق اليه، و الحديث ذو شجون:يا من جفانى فوجدى بعده عدم هبنى اسات فاين العفو و الكرم! انا المرابط دون الناس فاجف وصل و اقبل و عاقب و حاسب لست انهزم ان المحب اذا صحت محبته فما لوقع المواضى عنده الم و حق فضلك ما استياست من نعم تسرى الى و ان حلت بى النقم و لاامنت نكالا منك ارهبه و ان ترادفت الالاء و النعم حاشاك تعرض عمن فى حشاشته نار لحبك طول الدهر تضطرم الم تقل ان من يدنو الى قدر الذ راع ادنو له باعا و ابتسم و الله و الله لو عاقبتنى حقبا بالنار تاكلنى حطما و تلتهم ما حلت عن حبك الباقى فليس على حال بمنصرم، و الدهر ينصرم