و قد ذكرنا فى الامل و طوله نكتا نافعه فيما تقدم، و ي جب ان نذكر ما جاء فى النهى عن الكذب.
(فصل فى ذم الكذب و حقاره الكذابين) جاء فى الخبر عن رسول الله (ص): (اذا كذب العبد كذبه تباعد الملك منه مسيره ميل، من نتن ما جاء به).
و عنه (ع): (اياكم و الكذب، فان الكذب يهدى الى الفجور و الفجور يهدى الى النار، و ان الرجل ليكذب و يتحرى الكذب، فيكتب عند الله كاذبا، و عليكم بالصدق، فان الصدق يهدى الى البر، و ان البر ليهدى الى الجنه، و ان الرجل ليصدق و يتحرى الصدق، فيكتب عند الله صادقا).
و روى ان رجلا قال للنبى (ص): انا يا رسول الله استسر بخلال اربع: الزنا، و شرب الخمر، و السرق، و الكذب فايتهن شئت تركتها لك، قال دع الكذب، فلما ولى هم بالزنا، فقال: يسالنى فان جحدت نقضت ما جعلت له، و ان اقررت حددت، ثم هم بالسرق، ثم بشرب الخمر، ففكر فى مثل ذلك، فرجع اليه فقال: قد اخذت على السبيل كله، فقد تركتهن اجمع.
قال العباس بن عبدالمطلب لابنه عبدالله: يا بنى انت افقه منى، و انا اعقل منك، و ان هذا الرجل يدنيك- يعنى عمر بن الخطاب- فاحفظ عنى ثلاثا: لاتفشين له سرا، و لاتغتابن عنده احدا، و لايطلعن منك على كذبه.
قال عبدالله: فكانت هذه الثلاث احب الى من ثلاث بدرات ياقوتا.
قال الواثق لاحمد بن اب ى داود رحمه الله تعالى: كان ابن الزيات عندى، فذكرك بكل قبيح، قال: الحمد لله الذى احوجه الى الكذب على، و نزهنى عن الصدق فى امره.
و كان يقال: امران لايكاد احدهما ينفك من الكذب، كثره المواعيد و شده الاعتذار.
و من الحكم القديمه: انما فضل الناطق على الاخرس بالنطق، و زين المنطق الصدق، فالكاذب شر من الاخرس.
قال الرشيد للفضل بن الربيع فى كلام جرى بينهما: كذبت، فقال: يا اميرالمومنين.
وجه الكذوب لايقابلك، و لسانه لايحاورك.
قيل فى تفسير قوله تعالى: (و لكم الويل مما تصفون)، هى فى الكذابين، فالويل لكل كاذب الى يوم القيامه.
و من كلام بعض الصالحين: لو لم اترك الكذب تاثما لتركته تكرما.
ابوحيان: الكذب شعار خلق، و مورد رنق، و ادب سيى ء، و عاده فاحشه، و قل من استرسل معه الا الفه، و قل من الفه الا اتلفه، و الصدق ملبس بهى، و منهل غذى، و شعاع منبث، و قل من اعتاده و مرن عليه الا صحبته السكينه، و ايده التوفيق، و خدمته القلوب بالمحبه، و لحظته العيون بالمهابه.
ابن السماك: لاادرى، اوجر على ترك الكذب ام لا! لانى اتركه انفه.
يحيى بن خالد: رايت شريب خمر نزع، و لصا اقلع، و صاحب فواحش ارتدع، و لم ار كاذبا رجع.
قالوا فى تفسير هذا: ان المولع بالكذب لايكاد يصبر عنه، فقد عوتب انسان عليه، فقال لمعاتبه: يا بن اخى، لو تغرغرت به لما صبرت عنه.
و قيل لكاذب معروف بالكذب: اصدقت قط؟ قال: لولا انى اخاف ان اصدق لقلت: لا! و جاء فى بعض الاخبار المرفوعه: قيل له: يا رسول الله، ايكون المومن جبانا؟ قال: نعم، قيل: افيكون بخيلا؟ قال: نعم، قيل افيكون كاذبا؟ قال: لا.
و قال ابن عباس: الحدث حدثان: حدث من فيك، و حدث من فرجك.
و قال بعضهم: من اسرع الى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لايعلمون، اخذه شاعر فقال: و من دعا الناس الى ذمه ذموه بالحق و بالباطل و كان يقال: خذوا عن اهل الشرف، فانهم قلما يكذبون.
و قال بعض الصالحين: لو صحبنى رجل، فقال لى: اشترط على خصله واحده لاتزيد عليها، لقلت: لاتكذب.
و كان يقال: خصلتان لايجتمعان: الكذب و المروءه.
كان يقال: من شرف الصدق ان صاحبه يصدق على عدوه، و من دناءه الكذب ان صاحبه يكذب و ان كان صادقا.
و مثل هذا قولهم: من عرف بالصدق جاز كذبه، و من عرف بالكذب لم يجز صدقه.
و جاء فى الخبر المرفوع: (ان فى المعاريض لمندوحه عن الكذب).
و قال ابن سيرين: الكلام اوسع من ان يكذب ظريف.
و قالوا فى قوله تعالى: (لاتواخذنى بما نسيت)، لم ينس، و لكنه من معاريض الكلام، و كذلك قالوا فى قول ابراهيم: (انى سقيم).
و قال العتبى: انى لاصدق فى صغار ما يضرنى، فكيف لااصدق فى كبار ما ينفعنى! و قال بعض الشعراء: لايكذب المرء الا من مهانته او عاده السوء او من قله الادب لعض جيفه كلب خير رائحه من كذبه المرء فى جد و فى لعب شهد اعرابى عند معاويه بشهاده، فقال له: كذبت، فقال: الكاذب و الله المتزمل فى ثيابك، فقال معاويه: هذا جزاء من عجل.
و قال معاويه يوما للاحنف- و حدثه حديثا، اتكذب؟ فقال له الاحنف: و الله ما كذبت منذ علمت ان الكذب يشين اهله.
و دخل عبدالله بن الزبير يوما على معاويه فقال له: اسمع ابياتا قلتها- و كان واجدا على معاويه- فقال: هات، فانشده: اذا انت لم تنصف اخاك وجدته على طرف الهجران ان كان يعقل و يركب حد السيف من ان تضيمه اذا لم يكن عن شفره السيف مزحل فقال معاويه: لقد شعرت بعدنا يا ابابكر، ثم لم يلبث معاويه ان دخل عليه معن ابن اوس المزنى، فقال: اقلت بعدنا شيئا؟ قال نعم، و انشده: لعمرك لاادرى و انى لاوجل على اينا تعدو المنيه اول حتى صار الى الابيات التى انشدها ابن الزبير، فقال معاويه: يا ابابكر، اما ذكرت آنفا ان هذا الشعر لك؟ فقال: انا اصلحت المعانى و هو ا لف (الشعر).
و بعد، فهو ظئرى و ما قال من شى ء فهو لى.
و كان عبدالله بن الزبير مسترضعا فى مزينه.
و روى ابوالعباس المبرد فى "الكامل" ان عمر بن عبدالعزيز كتب فى اشخاص اياس بن معاويه المزنى، و عدى بن ارطاه الفزارى امير البصره و قاضيها اليه، فصار عدى الى اياس، و قدر انه يمزنه عند عمر بن عبدالعزيز و يثنى عليه، فقال له: يا اباوائله، ان لنا حقا و رحما، فقال اياس: اعلى الكذب تريدنى! و الله ما يسرنى ان كذبت كذبه؟ يغفرها الله لى، و لايطلع عليها هذا- و اوما الى ابنه- و لى ما طلعت عليه الشمس! و روى ابوالعباس ايضا: ان عمرو بن معديكرب الزبيدى كان معروفا بالكذب.
و قيل لخلف الاحمر- و كان مولى لهم و شديد التعصب لليمن: اكان عمرو بن معديكرب يكذب؟ قال: يكذب فى المقال و يصدق فى الفعال.
قال ابوالعباس: فروى لنا ان اهل الكوفه الاشراف، كانوا يظهرون بالكناسه، فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس، فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدى، و خالد بن الصقعب النهدى- و عمرو لايعرفه، انما يسمع باسمه- فاقبل عمرو يحدثه، فقال: اغرنا مره على بنى نهد، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه، فطعنته فاذريته ثم ملت عليه بالصمصامه، فاخذت راسه، فقال خالد بن ا لصقعب: حلا ابا ثور، ان قتيلك هو المحدث، فقال عمرو: يا هذا اذا حدثت فاستمع، فانما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعديه.
قوله: (مسترعفين) اى مقدمين له.
و قوله: (حلا ابا ثور) اى استثن، يقال: حلف و لم يتحلل، اى لم يستثن و المعديه: مضر و ربيعه و اياد، بنو معد بن عدنان، و هم اعداء اليمن فى المفاخره و التكاثر.