لما كان الماضى معلوما جعل الحمد بازائه، لان المجهول لايحمد عليه، و لما كان المستقبل غير معلوم جعل الاستعانه بازائه، لان الماضى لايستعان عليه، و لقد ظرف و ابدع (ع) فى قوله: (و نساله المعافاه فى الاديان، كما نساله المعافاه فى الابدان)، و ذلك ان للاديان سقما و طبا و شفاء، كما ان للابدان سقما و طبا و شفاء، قال محمود الوراق: و اذا مرضت من الذنوب فداوها بالذكر ان الذكر خير دواء و السقم فى الابدان ليس بضائر و السقم فى الاديان شر بلاء و قيل لاعرابى: ما تشتكى؟ قال: ذنوبى، قيل: فما تشتهى؟ قال: الجنه، قيل: افلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب امرضنى.
سمعت عفيره بنت الوليد البصريه العابده رجلا يقول: ما اشد العمى على من كان بصيرا! فقالت: عبدالله! غفلت عن مرض الذنوب، و اهتممت بمرض الاجساد، عمى القلوب عن الله اشد من عمى العين عن الدنيا، وددت ان الله وهب لى كنه محبته، و لم يبق منى جارحه الا تبلها.
قيل لحسان بن ابى سنان فى مرضه: ما مرضك؟ قال: مرض لايفهمه الاطباء، قيل: و ما هو؟ قال: مرض الذنوب، فقيل: كيف تجدك الان؟ قال: بخير ان نجوت من النار، قيل: فما تشتهى؟ قال: ليله طويله بعيده ما بين الطرفين احييه ا بذكر الله.
ابن شبرمه: عجبت ممن يحتمى من الطعام مخافه الداء، كيف لايحتمى من الذنوب مخافه النار! قوله (ع): (الدنيا التاركه لكم و ان لم تحبوا تركها) معنى حسن، و منه قول ابى الطيب: كل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها تخلى و الرفض: الترك، و ابل رفض: متروكه ترعى حيث شاءت، و قوم سفر، اى مسافرون.
و اموا: قصدوا، و العلم: الجبل او المنار فى الطريق يهتدى به.
و كان فى هذه المواضع كهى فى قوله: (كانك بالدنيا لم تكن، و كانك بالاخره لم تزل، ما اقرب ذلك و اسرعه)، و تقدير الكلام هاهنا: كانهم فى حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له، و كانهم فى حال كونهم غير بالغين له بالغون له، لانه لما قرب زمان احدى الحالتين من زمان الاخرى شبهوا و هم فى الحال الاولى بهم انفسهم و هم على الحال الثانيه.
قوله (ع): (و كم عسى المجرى) اجرى فلان فرسه الى الغايه، اذا ارسلها، ثم نقل ذلك الى كل من يقصد بكلامه معنى او بفعله غرضا، فقيل: فلان يجرى بقوله الى كذا، او يجرى بحركته الفلانيه الى كذا، اى يقصد و ينتهى بارادته و اغراضه و لايعدوه و لايتجاوزه.
و الحثيث: السريع.
و يحدوه: يسوقه.
و المنافسه: المحاسده، و نفست عليه بكذا، اى ضننت.
و البوس: الشده.
و النفاد: الفناء.
و ما فى قوله: (على اثر الماضى ما يمضى الباقى) اما زائده او مصدريه، و قد اخذ هذا اللفظ الوليد بن يزيد بن عبدالملك يوم مات مسلمه بن عبدالملك، قيل: لما مات مسلمه بن عبدالملك، و اجتمع بنواميه و روساء العرب ينظرون جنازته، خرج الوليد بن يزيد على الناس و هو نشوان ثمل يجر مطرف خز، و هو يندب مسلمه و مواليه حوله، فوقف على هشام، فقال: يا اميرالمومنين، ان عقبى من بقى لحوق من مضى، و قد اقفر بعد مسلمه الصيد لمن رمى، و اختل الثغر فوهى، و ارتج الطود فهوى، و على اثر من سلف ما يمضى من خلف، فتزودوا فان خير الزاد التقوى.
قوله (ع): (عند مساوره الاعمال القبيحه) العامل فى (عند) قوله: (اذكروا) اى ليكن ذكركم الموت وقت مساورتكم، و المساوره: المواثبه، و سار اليه يسور سورا: وثب، قال الاخطل يصف خمرا له: لما اتوها بمصباح و مبزلهم سارت اليهم سوور الابجل الضارى اى كوثوب العرق الذى قد فصد او قطع فلا يكاد ينقطع دمه، و يقال: ان لغضبه لسوره، و هو سوار، اى وثاب معربد.