هذه شبهه من شبهات الخوارج، و معناها انك نهيت عن الحكومه اولا ثم امرت بها ثانيا، فان كانت قبيحه كنت بنهيك عنها مصيبا، و بامرك بها مخطئا، و ان كانت حسنه كنت بنهيك عنها مخطئا و بامرك بها مصيبا، فلا بد من خطئك على كل حال.
و جوابها ان للامام ان يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحه، فهو (ع) لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحه حينئذ، و لما امرهم بها كانت المصلحه فى ظنه قد تغيرت، فامرهم على حسب ما تبدل و تغير فى ظنه، كالطبيب الذى ينهى المريض اليوم عن امر و يامره بمثله غدا.
و قوله: (هذا جزاء من ترك العقده)، يعنى الراى الوثيق، و فى هذا الكلام اعتراف بانه بان له و ظهر فيما بعد ان الراى الاصلح كان الاصرار و الثبات على الحرب، و ان ذلك و ان كان مكروها، فان الله تعالى كان يجعل الخيره فيه، كما قال سبحانه: (فعسى ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا) ثم قال: كنت احملكم على الحرب و ترك الالتفات الى مكيده معاويه و عمرو، من رفع المصاحف، فان استقمتم لى اهتديتم بى، و ان لم تستقيموا فذلك ينقسم الى قسمين: احدهما ان تعوجوا، اى يقع منكم بعض الالتواء و يسير من العصيان كفتور الهمه و قله الجد فى الحرب و الثانى التانى و الامتناع المطلق من الحرب، فان كان الاول قومتكم بالتاديب و الارشاد و ارهاق الهمم و العزائم بالتبصير و الوعظ و التحريض و التشجيع، و ان كان الثانى تداركت الامر معكم: اما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب و اهل خراسان و الحجاز، فكلهم كانوا شيعته و قائلين بامامته، او بما اراه فى ذلك الوقت من المصلحه التى تحكم بها الحال الحاضره.
قال: لو فعلت ذلك لكانت هى العقده الوثقى، اى الراى الاصوب الاحزم.
فان قلت: افتقولون انه اخطا فى العدول عن هذا الراى؟ قلت: لانقول انه اخطا بمعنى الاثم، لانه انما فعل ما تغلب على ظنه انه المصلحه، و ليس الواجب عليه الا ذلك، و لكنه ترك الراى الاصوب، كما قال الحسن: (هلا مضيت قدما لا ابالك!)، و لايلحق الاثم من غلب على ظنه فى حكم السياسه امر فاعتمده، ثم بان له ان الاصوب كان خلافه، و قد قيل ان قوله: لقد عثرت عثره لاتنجبر سوف اكيس بعدها و استمر و اجمع الراى الشتيت المنتشر اشاره الى هذا المعنى، و قيل: فيه غير ذلك مما قدمناه ذكره قبل.
و قال شيخنا ابوعثمان الجاحظ رضى الله عنه: من عرفه عرف انه غير ملوم فى الانقياد معهم الى التحكيم، فانه مل من القتل و تجريد السيف ليلا و نهارا، حتى ملت الدما ء من اراقته لها، و ملت الخيل من تقحمه الاهوال بها، و ضجر من دوام تلك الخطوب الجليله، و الارزاء العظيمه، و استلاب الانفس، و تطاير الايدى و الارجل بين يديه، و اكلت الحرب اصحابه و اعداءه، و عطلت السواعد، و خدرت الايدى التى سلمت من وقائع السيوف به، ا و لو ان اهل الشام لم يستعفوا من الحرب و يستقيلوا من المقارعه و المصادمه، لادت الحال الى قعود الفيلقين معا، و لزومهم الارض و القائهم السلاح، فان الحال افضت بعظمها و هو لها الى ما يعجز اللسان عن وصفه.
و اعلم انه (ع) قال هذا القول، و استدرك بكلام آخر حذرا ان يثبت على نفسه الخطا فى الراى، فقال: لقد كان هذا رايا لو كان لى من يطيعنى فيه، و يعمل بموجبه، و استعين به على فعله، و لكن بمن كنت اعمل ذلك، و الى من اخلد فى فعله! اما الحاضرون لنصرى فانتم و حالكم معلومه فى الخلاف و الشقاق و العصيان، و اما الغائبون من شيعتى كاهل البلاد النائيه فالى ان يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه منى، و لم يبق من اخلد اليه فى اصلاح الامر و ابرام هذا الراى الذى كان صوابا لو اعتمد، الا ان استعين ببعضكم على بعض، فاكون كناقش الشوكه بالشوكه، و هذا مثل مشهور: (لاتنقش الشوكه بالشوكه).
فان ضلعها لها، و الضلع الميل، يقول: لاتستخرج الشوكه الناشبه فى رجلك بشوكه مثلها، فان احداهما فى القوه و الضعف كالاخرى، فكما ان الاولى انكسرت لما وطئتها فدخلت فى لحمك، فالثانيه اذا حاولت استخراج الاولى بها تنكسر، و تلج فى لحمك.
ثم قال: (اللهم ان هذا الداء الدوى، قد ملت اطباوه)، و الدوى: الشديد، كما تقول: ليل اليل.
و كلت النزعه، جمع نازع، و هو الذى يستقى الماء، و الاشطان: جمع شطن، و هو الحبل.
و الركى: الابار، جمع ركيه، و تجمع ايضا على ركايا.
ثم قال: اين القوم! هذا كلام متاسف على اولئك، متحسر على فقدهم.
و الوله: شده الحب حتى يذهب العقل، وله الرجل.
و اللقاح، بكسر اللام: الابل، و الواحده لقوح، و هى الحلوب، مثل قلاص و قلوص.
قوله: (و اخذوا باطراف الارض)، اى اخذوا على الناس باطراف الارض، اى حصروهم، يقال لمن استولى على غيره و ضيق عليه: قد اخذ عليه باطراف الارض، قال الفرزدق: اخذنا باطراف السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع و زحفا زحفا، منصوب على المصدر المحذوف الفعل، اى يزحفون زحفا، و الكلمه الثانيه تاكيد للاولى.
و كذلك قوله: (و صفا صفا).
ثم ذكر ان بعض هولاء المتاسف عليهم هلك، و بعض نجا، و هذا ينجى قوله تعالى: (فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر).
ثم ذكر ان هولاء قوم و قذتهم العباده، و انقطعوا عن الناس، و تجردوا عن العلائق الدنيويه، فاذا ولد لاحدهم مولود لم يبشر به، و اذا مات له ميت لم يعز عنه.
و مرهت عين فلان، بكسر الراء، اذا فسدت لترك الكحل، لكن اميرالمومنين (ع) جعل مره عيون هولاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه.
و ذكر ان بطونهم من خماص الصوم، و شفاههم ذابله من الدعاء، و وجوههم مصفره من السهر، لانهم يقومون الليل و على وجوههم غبره الخشوع.
ثم قال: (اولئك اخوانى الذاهبون).
فان قلت: من هولاء الذين يشير- (ع)- اليهم؟ قلت: هم قوم كانوا فى ناناه الاسلام و فى زمان ضعفه و خموله ارباب زهد و عباده و جهاد شديد فى سبيل الله، كمصعب بن عمير من بنى عبد الدار، و كسعد بن معاذ من الاوس، و كجعفر بن ابى طالب، و عبدالله بن رواحه، و غيرهم، ممن استشهد من الصالحين ارباب الدين و العباده و الشجاعه فى يوم احد، و فى غيره من الايام فى حياه رسول الله (ص)، و كعمار، و ابى ذر، و المقداد، و سلمان، و خباب، و جماعه من اصحاب الصفه و فقراء المسلمين ارباب العباده الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعه.
و قد جاء فى الاخبار الصحيحه ان رسول الله (ص) قال: (ان الجنه لتشتاق الى اربعه: على، و عمار، و ابى ذر، و المقداد)، و جاء فى الاخبار الصحيحه ايضا، ان جماعه من اصحاب الصفه مر بهم ابوسفيان بن حرب بعد اسلامه فعضوا ايديهم عليه، و قالوا: وا اسفاه كيف لم تاخذ السيوف ماخذها من عنق عدو الله! و كان معه ابوبكر، فقال لهم: اتقولون هذا لسيد البطحاء؟ فرفع قوله الى رسول الله (ص) فانكره، و قال لابى بكر: (انظر لاتكون اغضبتهم، فتكون قد اغضبت ربك) فجاء ابوبكر اليهم و ترضاهم و سالهم ان يستغفروا له، فقالوا: غفر الله لك.
قوله: (فحق لنا)، يقال: حق له ان يفعل كذا، و هو حقيق به، و هو محقوق به، اى خليق له، و الجمع احقاء و محقوقون.
و يسنى: يسهل.
و صدف عن الامر، يصدف، اى انصرف عنه.
و نزغات الشيطان: ما ينزغ به، بالفتح، اى يفسد و يغرى.
و نفثاته: ما ينفث به و ينفث، بالضم و الكسر، اى يخيل و يسحر.
و اعقلوها على انفسكم، اى اربطوها و الزموها.