و ذعلب و احمد و عبدالله مالك، رجال من رجال الشيعه و محدثيهم.
و هذا الفصل عندى لايجوز ان يحمل على ظاهره، و ما يتسارع الى افهام العامه منه، و ذلك لان قوله: (انهم كانوا فلقه من سبخ ارض و عذبها)، اما ان يريد به ان كل واحد من الناس ركب من طين، و جعل صوره بشريه طينيه براس و بطن و يدين و رجلين، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بادم، او يريد به ان الطين الذى ركبت منه صوره آدم فقط كان مختلطا من سبخ و عذب، فان اريد الاول فالواقع خلافه، لان البشر الذين نشاهدهم، و الذين بلغتنا اخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم، و انما خلقوا من نطف آبائهم.
و ليس لقائل ان يقول: لعل تلك النطف افترقت لانها تولدت من اغذيه مختلفه المنبت من العذوبه و الملوحه، و ذلك لان النطفه لاتتولد من غذاء بعينه، بل من مجموع الاغذيه، و تلك الاغذيه لا يمكن ان تكون كلها من ارض سبخه محضه فى السبخيه، لان هذا من الاتفاقات التى يعلم عدم وقوعها، كما يعلم انه لايجوز ان يتفق ان يكون اهل بغداد فى وقت بعينه على كثرتهم لا ياكلون ذلك اليوم الا السكباج خاصه، و ايضا فان الارض السبخه، او التى الغالب عليها السبخيه، لا تنبت الاقوات اصلا.
و ان اريد الثانى، و هو ان يكون طين آدم (ع) مختلطا فى جوهره، مختلفا فى طبائعه، فلم كان زيد الاحمق يتولد من الجزء السبخى و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبى؟ و كيف يوثر اختلاف طين آدم من سته آلاف سنه فى اقوام يتوالدون الان.
و الذى اراه ان لكلامه (ع) تاويلا باطنا، و هو ان يريد به اختلاف النفوس المدبره للابدان، و كنى عنها بقوله: (مبادى ء طينهم)، و ذلك انها لما كانت الماسكه للبدن من الانحلال، العاصمه له من تفرق العناصر، صارت كالمبدا و كالعله له من حيث انها كانت عله فى بقاء امتزاجه و اختلاط عناصره بعضها ببعض، و لذلك اذا فارقت عند الموت افترقت العناصر، و انجلت الاجزاء، فرجع اللطيف منها الى الهواء، و الكثيف الى الارض.
و قوله: (كانوا فلقه من سبخ ارض و عذبها، و حزن تربه و سهلها) تفسيره ان البارى ء جل جلاله لما خلق النفوس، خلقها مختلفه فى ماهيتها، فمنها الزكيه و منها الخبيثه، و منها العفيفه و منها الفاجره، و منها القويه و منها الضعيفه، و منها الجرئيه المقدمه، و منها الفشله الذليله، الى غير ذلك من اخلاق النفوس المختلفه المتضاده.
ثم فسر (ع) و علل تساوى قوم فى الاخلاق و تفاوت آخرين فيها، فقال: ان نفس زيد قد تكون مشابهه او قريبه من المشابهه لنفس عمرو، فاذا هما فى الاخلاق متساويتان، او متقاربتان، و نفس خالد قد تكون مضاده لنفس بكر او قريبه من المضاده، فاذا هما فى الاخلاق متباينتان او قريبتان من المباينه.
و القول باختلاف النفوس فى ماهياتها هو مذهب افلاطون، و قد اتبعه عليه جماعه من اعيان الحكماء، و قال به كثير من مثبتى النفوس من متكلمى الاسلام.
و اما ارسطو و اتباعه، فانهم لايذهبون الى اختلاف النفوس فى ماهيتها.
و القول الاول عندى امثل.
ثم بين (ع) اختلاف آحاد الناس، فقال: منهم من هو تام الرواء، لكنه ناقص العقل.
و الرواء بالهمز و المد: المنظر الجميل، و من امثال العرب: (ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل).
و قال الشاعر: عقله عقل طائر و هو فى خلقه الجمل و قال ابوالطيب: و ما الحسن فى وجه الفتى شرف له اذا لم يكن فى فعله و الخلائق و قال الاخر: و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم اذا كانت الاخلاق غير حسان فلا يغررنك المرء راق رواوه فما كل مصقول الغرار يمانى و من شعر الحماسه: لقومى ارعى للعلا من عصابه من الناس يا حار بن عمرو تسودها و انتم سماء يعجب الناس رزها بابده تنحى شديد وئيدها تقطع اطناب البيوت بحاصب و اكذب شى ء برقها و رعودها فويل امها خيلا بهاء و شاره اذا لاقت الاعداء لولا صدودها! و منه ايضا: و كاثر بسعد ان سعدا كثيره و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا يروعك من سعد بن زيد جسومها و تزهد فيها حين تقتلها خبرا قوله (ع): (و ماد القامه قصير الهمه)، قريب من المعنى الاول، الا انه خالف بين الالفاظ، فجعل الناقص بازاء التام، و القصير بازاء الماد.
و يمكن ان يجعل المعنيان مختلفين، و ذلك لانه قد يكون الانسان تام العقل، الا ان همته قصيره، و قد راينا كثيرا من الناس كذلك، فاذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الاول.
قوله (ع): (و زاكى العمل قبيح المنظر) يريد بزكاء اعماله حسنها و طهارتها، فيكون قد اوقع الحسن بازاء القبيح، و هذا القسم موجود فاش بين الناس.
قوله: (و قريب القعر بعيد السبر)، اى قد يكون الانسان قصير القامه، و هو مع ذلك داهيه باقعه، و المراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه، فليست بطنه بمديده و لامستطيله، و اذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا، لايوقف على اسراره، و لايدرك باطنه، و من هذا المعنى قول الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه و فى اثوابه اسد مزير و يعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير و قيل لبعض الحكماء: ما بال ا لقصار من الناس ادهى و احذق؟ قال: لقرب قلوبهم من ادمغتهم.
و من شعر الحماسه: الا يكن عظمى طويلا فاننى له بالخصال الصالحات وصول و لاخير فى حسن الجسوم و طولها اذا لم تزن حسن الجسوم عقول و من شعر الحماسه ايضا و هو تمام البيتين المقدم ذكرهما: فما عظم الرجال لهم بفخر و لكن فخرهم كرم و خير ضعاف الطير اطولها جسوما و لم تطل البزاه و لا الصقور بغاث الطير اكثرها فراخا و ام الصقر مقلات نزور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير قوله (ع): (و معروف الضريبه، منكر الجليبه)، الجليبه هى الخلق الذى يتكلفه الانسان و يستجلبه، مثل ان يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعه، او شحيحا بالطبع فيتكلف الجود، و هذا القسم ايضا عام فى الناس.
ثم لما فرغ من الاخلاق المتضاده ذكر بعدها ذوى الاخلاق و الطباع المتناسبه المتلائمه، فقال: (و تائه القلب متفرق اللب)، و هذان الوصفان متناسبان لامتضادان.
ثم قال: (و طليق اللسان حديد الجنان)، و هذان الوصفان ايضا متناسبان، و هما متضادان للوصفين قبلهما، فالاولان ذم، و الاخران مدح.