شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 560
نمايش فراداده

ثم ذكر (ع) حال نفسه فقال: (ان امامكم قد قنع من الدنيا بطمريه)، و الطمر: الثوب الخلق البالى، و انما جعلهما اثنين لانهما ازار و رداء لا بد منهما، اى للجسد و الراس.

قال: (و من طعمه بقرصيه)، اى قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما.

و روى: (قد اكتفى من الدنيا بطمريه، و سد فوره جوعه بقرصيه، لايطعم الفلذه فى حوليه الا فى يوم اضحيه).

ثم قال: انكم لن تقدروا على ما اقدر عليه، و لكنى اسالكم ان تعينونى بالورع و الاجتهاد.

ثم اقسم انه ما كنز ذهبا، و لاادخر مالا، و لااعد ثوبا باليا سملا لبالى ثوبيه، فضلا عن ان يعد ثوبا قشيبا كما يفعله الناس فى اعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الاسمال التى ينزعونها، و لا حاز من ارضها شبرا، و الضمير فى، (ارضها) يرجع الى (دنياكم) و لااخذ منها الا كقوت اتان دبره، و هى التى عقر ظهرها فقل اكلها.

ثم قال: (و لهى فى عينى اهون من عفصه مقره)، اى مره مقر الشى ء بالكسر اى صار مرا، و امقره بالهمز ايضا، قال لبيد: ممقر مر على اعدائه و على الادنين حلو كالعسل

الشرح:

الجدث: القبر، و اضغطها الحجر: جعلها ضاغطه، و الهمزه للتعديه، و يروى: (و ضغطها).

و قوله: (مظانها فى غد جدث) المظان: جمع مظنه، و هو موضع الشى ء و مالفه الذى يكون فيه، قال: فان يك عامر قد قال جهلا فان مظنه الجهل الشباب يقول: لا مال لى، و لااقتنيت فيما مضى مالا، و انما كانت فى ايدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم، اى بخلت و سخت عنها نفوس آخرين، سامحت و اغضت.

و ليس يعنى هاهنا بالسخاء الا هذا، لا السخاء الحقيقى، لانه (ع) و اهله لم يسمحوا بفدك الا غصبا و قسرا، و قد، قال هذه الالفاظ فى موضع آخر فيما تقدم و هو يعنى الخلافه بعد وفاه رسول الله (ص).

ثم قال: (و نعم الحكم الله)، الحكم الحاكم و هذا الكلام كلام شاك متظلم ثم ذكر مال الانسان و انه لاينبغى ان يكترث بالقينات و الاموال، فانه يصير عن قريب الى دار البلى و منازل الموتى.

ثم ذكر ان الحفره ضيقه، و انه لو وسعها الحافر لالجاها الحجر المتداعى و المدر المتهافت، الى ان تضغط الميت و تزحمه.

و هذا كلام محمول على ظاهره، لانه، خطاب للعامه و الا فاى فرق بين سعه الحفره و ضيقها على الميت! اللهم الا ان يقول قائل: ان الميت يحس فى قبره، فاذا قيل ذلك فالجاعل له حس اسا بعد عدم الحس هو الذى يوسع الحفره، و ان كان الحافر قد جعلها ضيقه، فاذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصه، و من يحمل الامور على ظواهرها.

ثم قال: (و انما هى نفسى اروضها بالتقوى)، يقول: تقللى و اقتصارى من المطعم و الملبس على الجشب و الخشن رياضه لنفسى، لان ذلك انما اعمله خوفا من الله ان انغمس فى الدنيا، فالرياضه بذلك هى رياضه فى الحقيقه بالتقوى، لا بنفس التقلل و التقشف، لتاتى نفسى آمنه يوم الفزع الاكبر، و تثبت فى مداحض الزلق.

(ذكر ما ورد من السير و الاخبار فى امر فدك) و اعلم انا نتكلم فى شرح هذه الكلمات بثلاثه فصول: الفصل الاول فيما ورد فى الحديث و السير من امر فدك، و الفصل الثانى فى هل النبى (ص) يورث ام لا؟، و الفصل الثالث فى ان فدك، هل صح كونها نحله من رسول الله (ص) لفاطمه ام لا؟ الفصل الاول: فيما ورد من الاخبار و السير المنقوله من افواه اهل الحديث و كتبهم، لا من كتب الشيعه و رجالهم، لانا مشترطون على انفسنا الا نحفل بذلك، و جميع ما نورده فى هذا الفصل من كتاب ابى بكر احمد بن عبدالعزيز الجوهرى فى السقيفه و فدك و ما وقع من الاختلاف و الاضطراب عقب وفاه النبى (ص)، و ابوبكر الجوهرى هذا عالم محدث كثير الادب، ثقه ورع، اثنى عليه المحدثون و رووا عنه مصنفاته.

قال ابوبكر: حدثنى ابوزيد عمر بن شبه قال: حدثنا، حيان بن بشر قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: اخبرنا ابن ابى زائده عن محمد بن اسحاق، عن الزهرى قال: بقيت بقيه من اهل خيبر تحصنوا، فسالوا رسول الله (ص) ان يحقن دمائهم و يسيرهم، ففعل فسمع ذلك اهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، و كانت للنبى (ص) خاصه، لانه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

قال ابوبكر: و روى محمد بن اسحاق ايضا، ان رسول الله (ص) لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب فى قلوب اهل فدك، فبعثوا الى رسول الله (ص) فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر، او بالطريق او بعد ما اقام بالمدينه، فقبل ذلك منهم، و كانت فدك لرسول الله (ص) خالصه له، لانه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

قال: و قد روى انه صالحهم عليها كلها، الله اعلم اى الامرين كان.

قال: و كان مالك بن انس يحدث عن عبدالله بن ابى بكر بن عمرو بن حزم انه صالحهم على النصف فلم يزل الامر كذلك حتى اخرجهم عمر بن الخطاب و اجلاهم بعد ان عوضهم عن النصف الذى كان لهم عوضا من ابل و غيرها.

و قال غير مالك بن انس: لما اجلاهم عمر بعث اليهم من يقوم الاموال، بعث اباالهيثم بن التيهان، و فروه بن ع مرو، و حباب بن صخر و زيد بن ثابت، فقوموا ارض فدك و نخلها، فاخذها عمر، و دفع اليهم قيمه النصف الذى لهم، و كان مبلغ ذلك خمسين الف درهم، اعطاهم اياها من مال اتاه من العراق و اجلاهم الى الشام.

قال ابوبكر: فحدثنى محمد بن زكريا قال: حدثنى جعفر بن محمد بن عماره الكندى قال: حدثنى ابى، عن الحسين بن صالح بن حى قال حدثنى رجلان من بنى هاشم، عن زينب بنت على بن ابى طالب (ع).

قال و قال: جعفر بن محمد بن على بن الحسين عن ابيه.

قال ابوبكر: و حدثنى عثمان بن عمران العجيفى، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر، عن جابر الجعفى عن ابى جعفر محمد بن على (ع).

قال ابوبكر: و حدثنى احمد بن محمد بن يزيد، عن عبدالله بن محمد بن سليمان، عن ابيه عن عبدالله بن حسن بن الحسن.

قالوا جميعا: لما بلغ فاطمه (ع) اجماع ابى بكر على منعها فدك، لاثت خمارها و اقبلت فى لمه من حفدتها و نساء قومها، تطا فى ذيولها ما تخرم مشيتها مشيه رسول الله (ص)، حتى دخلت على ابى بكر و قد حشد الناس من المهاجرين و الانصار، فضرب بينها و بينهم ريطه بيضاء- و قال بعضهم: قبطيه، و قالوا: قبطيه بالكسر و الضم- ثم انت انه اجهش لها القوم بالبكاء، ثم امهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: ا بتدى بحمد من هو اولى بالحمد و و الطول و المجد، الحمد لله على ما انعم و له الشكر بما الهم.

و ذكر خطبه طويله جيده قالت فى آخرها: فاتقوا الله حق تقاته، واطيعوه فيما امركم به، فانما يخشى الله من عباد العماء، و الحمدو الله الذى لعظمته و نوره يبتغى من فى السموات و الارض اليه الوسيله، و نحن وسيلته فى خلقه و نحن خاصته، و محل قدسه و نحن حجته فى غيبه، و نحن ورثه انبيائه ثم قالت: انا فاطمه ابنه محمد، اقول عودا على بدء، و ما اقول ذلك سرفا و لا شططا، فاسمعوا باسماع واعيه، و قلوب راعيه ثم قالت: (لقد جائكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رئوف رحيم) فان تعزوه تجدوه ابى دون آبائكم، و اخا ابن عمى دون رجالكم، ثم ذكرت كاملا طويلا سنذكره فيما بعد فى الفصل الثانى، تقول فى آخره: ثم انتم الان تزعمون ان لا ارث لى، (افحكم الجاهليه يبغون و من احسن من الله حكما لقوم يوقنون) ايها معاشر المسلمين، ابتز ارث ابى! ابى الله ان ترث يابن ابى قحافه اباك و لا ارث ابى لقد جئت شيئا فريا! فدونكها مخطومه مرحوله تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله و الزعيم محمد، و الموعد القيامه و عند الساعه يخسر المبطلون، و لكل نبا مستقر و سوف تعلمو ن من ياتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم! ثم التفتت الى قبر ابيها فتمثلت بقول هند بنت اثاثه: قد كان بعدك انباء و هينمه لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب ابدت رجال لنا نجوى صدورهم لما قضيت و حالت دونك الكتب تجهمتنا رجال و استخف بنا اذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب قال: و لم ير الناس اكثر باك و لا باكيه منهم يومئذ ثم عدلت الى مسجد الانصار فقالت: يا معشر البقيه، و اعضاد المله و حضنه الاسلام، ما هذه الفتره عن نصرتى و الونيه عن معونتى، و الغمزه فى حقى و السنه عن ظلامتى! اما كان رسول الله (ص) يقول: (المرء يحفظ فى ولده)! سرعان ما احدثتم، و عجلان ما اتيتم.

الان مات رسول الله (ص) امتم دينه! ها ان موته لعمرى خطب جليل استوسع وهنه، و استبهم فتقه، و فقد راتقه، و اظلمت الارض له، و خشعت الجبال، و اكدت الامال.

اضيع بعده الحريم و هتكت الحرمه، و اذيلت المصونه و تلك نازله اعلن بها كتاب الله قبل موته، و انباكم بها قبل وفاته، فقال: (و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزى الله الشاكرين) ايها بنى قيله! اهتضم تراث ابى و انتم بمراى و مسمع، تبلغكم الدعوه و يشملكم الصوت، و فيكم العده و العدد و لكم الدار و الجنن و انتم نخبه الله التى انتخب، و خيرته التى اختار باديتم العرب، و بادهتم الامور و كافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الاسلام، و در حلبه، و خبت نيران الحرب، و سكنت فوره الشرك، و هدات دعوه الهرج، و استوثق نظام الدين، افتاخرتم بعد الاقدام، و نكصتم بعد الشده، و جبنتم بعد الشجاعه، عن قوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم و طعنوا فى دينكم! فقاتلوا ائمه الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون.

الا و قد ارى ان قد اخلدتم الى الخفض، و ركنتم الى الدعه، فجحدتم الذى وعيتم، و سغتم الذى سوغتم، و ان تكفروا انتم و من فى الارض جميعا فان الله لغنى حميد، الا و قد قلت لكم ما قلت على معرفه منى بالخذله التى خامرتكم، و خور القناه، و ضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبره الظهر، ناقبه الخف، باقيه العار، موسومه الشعار، موصوله بنار الله الموقده، التى تطلع على الافئده، فبعين الله ما تعملون (و سيعلم الذى ظلموا اى منقلب ينقلبون).

قال: و حدثنى محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن الضحاك قال: حدثنا هشام بن محمد، عن عوانه بن الحكم قال: لما كلمت فاطمه (ع) ابابكر بما كلمته به حمد ابوبكر الله و اثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال: يا خيره النساء، و ابنه خير الاباء، و الله ما عدوت راى رسول الله (ص)، و ما عملت الا بامره، و ان الرائد لا يكذب اهله، و قد قلت فابلغت، و اغلظت فاهجرت، فغفر الله لنا و لك.

اما بعد، فقد دفعت آله رسول الله و دابته و حذائه الى على (ع)، و اما ما سوى ذلك فانى سمعت رسول الله (ص) يقول: (انا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا و لا فضه و لا ارضا و لا عقارا و لا دارا، و لكنا نورث الايمان و الحكمه و العلم و السنه)، فقد عملت بما امرنى، و نصحت له، و ما توفيقى الا بالله عليه توكلت و اليه انيب.

قال ابوبكر: و روى هشام بن محمد، عن ابيه قال: قالت فاطمه لابى بكر: ان ام ايمن تشهد لى ان رسول الله (ص) اعطانى فدك، فقال لها: يا ابنه رسول الله و الله، ما خلق الله خلقا احب الى من رسول الله (ص) ابيك، و لوددت ان السماء وقعت على الارض يوم مات ابوك، و الله لان تفتقر، عائشه احب الى من ان تفتقرى اترانى اعطى الاحمر و الابيض حقه و اظلمك حقك، و انت بنت رسول الله (ص)! ان هذا المال لم يكن للنبى (ص)، و انما كان مالا من اموال المسلمين يحمل النبى به الرجال، و ينفقه فى سبيل الله، فلما توفى رسول الله (ص) وليته كما كان يليه.

قالت: و الل ه لا كلمتك ابدا! قال: و الله لا هجرتك ابدا: قالت: و الله لادعون الله عليك، قال: و الله لادعون الله لك، فلما حضرتها الوفاه اوصت الا يصلى عليها، فدفنت ليلا، و صلى عليها عباس بن عبدالمطلب، و كان بين وفاتها و وفاه ابيها اثنتان و سبعون ليله.

قال ابوبكر: و حدثنى محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عماره بالاسناد الاول قال: فلما سمع ابوبكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال: ايها الناس، ما هذه الرعيه الى كل قاله! اين كانت هذه الامانى فى عهد رسول الله (ص) الا من سمع فليقل، و من شهد فليتكلم، انما هو ثعاله شهيده ذنبه، مرب لكل فتنه، هو الذى يقول: كروها جذعه بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفه، و يستنصرون بالنساء، كام طحال احب اهلها اليها البغى.

الا انى لو اشاء ان اقول لقلت و لو قلت لبحت، انى ساكت ما تركت.

ثم التفت الى الانصار فقال: قد بلغنى يا معشر الانصار مقاله سفهائكم، و احق من لزم عهد رسول الله (ص) انتم.

فقد جائكم فاويتم و نصرتم، الا انى لست باسطا يدا و لا لسانا على من لم يستحق ذلك منا.

ثم نزل، فانصرفت فاطمه (ع) الى منزلها.

قلت: قرات هذا الكلام على النقيب ابى يحيى جعفر بن يحيى بن ابى زيد البصرى و قلت له: بمن ي عرض؟ فقال: بل يصرح.

قلت: لو صرح لم اسالك.

فضحك و قال: بعلى بن ابى طالب (ع)، قلت: هذا الكلام كله لعلى يقوله! قال: نعم، انه الملك يا بنى، قلت: فما مقاله الانصار؟ قال: هتفوا بذكر على فخاف من اضطراب الامر عليهم، فنهاهم.

فسالته عن غريبه، فقال: اما الرعه بالتخفيف، اى الاستماع و الاصغاء، و القاله: القول، و ثعاله: اسم الثعلب علم غير مصروف، و مثل ذواله للذئب، و شهيده ذنبه، اى لا شاهد له على ما يدعى الا بعضه و جزء منه، و اصله مثل، قالوا: ان الثعلب اراد ان يغرى الاسد بالذئب، فقال: انه قد اكل الشاه التى كنت قد اعددتها لنفسك، و كنت حاضرا، قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه و عليه دم، و كان الاسد قد افتقد الشاه.

فقبل شهادته، و قتل الذئب، و مرب: ملازم، ارب بالمكان.

و كروها جذعه: اعيدوها الى الحال الاولى، يعنى الفتنه و الهرج.

و ام طحال: امراه بغى فى الجاهليه، و يضرب بها المثل فيقال: ازنى من ام طحال.

قال ابوبكر: و حدثنى محمد بن زكريا قال: حدثنى ابن عائشه، قال: حدثنى ابى، عن عمه قال: لما كلمت فاطمه ابابكر بكى، ثم قال: يابنه رسول الله، و الله ما ورث ابوك دينارا و لا درهما، و انه قال: ان الانبياء لا يورثون، فقالت: ان فدك وهبها لى رسول الله (ص)، قال: فمن يشهد بذلك؟ فجاء على بن ابى طالب (ع) فشهد، و جائت ام ايمن فشهدت ايضا، فجاء عمر بن الخطاب و عبدالرحمن بن عوف فشهد ان رسول الله (ص) كان يقسمها، قال ابوبكر: صدقت يا ابنه رسول الله (ص)، و صدق على، و صدقت ام ايمن، و صدق عمر، و صدق عبدالرحمن بن عوف، و ذلك ان مالك لابيك، كان رسول الله (ص) ياخذ من فدك قوتكم، و يقسم الباقى، و يحمل منه فى سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: اصنع بها كما يصنع بها ابى، قال: فلك على الله ان اصنع فيها كما يصنع فيها ابوك، قالت: الله لتفعلن! قال: الله لافعلن، قالت: اللهم اشهد، و كان ابوبكر ياخذ غلتها فيدفع اليهم منها ما يكفيهم، و يقسم الباقى، و كان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان على كذلك، فلما ولى الامر معاويه بن ابى سفيان اقطع مروان بن الحكم ثلثها، و اقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، و اقطع يزيد بن معاويه ثلثها، و ذلك بعد موت الحسن بن على (ع) فلم، يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم ايام خلافته، فوهبها لعبدالعزيز ابنه، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز فلما ولى عمر بن العزيز، الخلافه، كانت اول ظلامه ردها، دعا حسن بن الحسن بن على بن ابى طالب (ع)- و قيل: بل دعا على بن الحسين (ع)- فردها عليه، و كانت بيد اولاد فاطمه (ع) مده ولايه عمر بن عبدالعزيز فلما ولى يزيد بن عاتكه قبضها منهم، فصارت فى ايدى بنى مروان كما كانت يتداولونها، حتى انتقلت الخلافه عنهم، فلما ولى ابوالعباس السفاح ردها على عبدالله ابن الحسن بن الحسن، ثم قبضها ابوجعفر لما حدث من بنى حسن ما حدث، ثم ردها المهدى ابنه على ولد فاطمه (ع)، ثم قبضها موسى بن المهدى و هارون اخوه فلم تزل ايديهم حتى ولى المامون، فردها على الفاطميين.

قال ابوبكر: حدثنى محمد بن زكريا قال: حدثنى مهدى بن سابق قال: جلس المامون للمظالم فاول رقعه وقعت فى يده نظر فيها و بكى، و قال: للذى على راسه: ناد اين وكيل فاطمه؟ فقام شيخ عليه دراعه و عمامه و خف تعزى، فتقدم فجعل يناظره فى فدك و المامون، يحتج عليه و هو يحتج على المامون ثم امر ان يسجل لهم بها، فكتب السجل و قرى ء عليه، فانفذه، فقام دعبل الى المامون فانشده الابيات التى اولها: اصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مامون هاشم فدكا فلم تزل فى ايديهم حتى كان فى ايام المتوكل، فاقطعها عبدالله بن عمر البازيار، و كان فيها احدى عشره نخله غرسها رسول الله (ص) بيده، فكان بنو فاطمه ياخذون ثمرها، فاذا ق دم الحجاج اهدوا لهم من ذلك التمر فيصلوتهم، فيصير اليهم من ذلك مال جزيل جليل، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر، و وجه رجلا يقال له بشران بن ابى اميه الثقفى الى المدينه فصرمه، ثم عاد الى البصره ففلج.

قال ابوبكر: اخبرنا ابوزيد عمر بن شبه، قال: حدثنا سويد بن سعيد و الحسن بن عثمان قالا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهرى، عن عروه، عن عائشه ان فاطمه (ع) ارسلت الى ابى بكر تساله ميراثها من رسول الله (ص)، و هى حينئذ تطلب ما كان لرسول الله (ص) بالمدينه و فدك، و ما بقى من خمس خيبر، فقال ابوبكر: ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث، ما تركناه صدقه)، انما ياكل آل محمد من هذا المال، و انى و الله لا اغير شيئا من صدقات رسول الله (ص) عن حالها التى كانت عليها فى عهد رسول الله (ص)، و لاعملن فيها بما عمل فيها رسول الله (ص)، فابى ابوبكر ان يدفع الى فاطمه منها شيئا، فوجدت من ذلك على ابى بكر و هجرته فلم تكلمه حتى توفيت، و عاشت بعد ابيها سته اشهر، فلما توفيت دفنها على (ع) ليلا، و لم يوذن بها ابابكر.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا اسحاق بن ادريس، قال: حدثنا محمد ابن احمد، عن معمر، عن الزهرى، عن عروه، عن عائشه، ان فاطمه و العباس اتيا ابابكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (ص) و هما حينئذ يطلبان ارضه بفدك و سهمه بخيبر، فقال لهما ابوبكر: انى سمعت رسول الله (ص) يقول: (لا نورث، ما تركنا صدقه)، انما ياكل آل محمد (ص) من هذا المال، و انى و الله لا اغير امرا رايت رسول الله (ص) يصنعه الا صنعته.

قال: فهجرته فاطمه فلم تكلمه حتى ماتت.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا عمر بن عاصم.

و موسى بن اسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمه، عن الكلبى عن ابى صالح، عن ام هانى ء ان فاطمه قالت لابى بكر: من يرثك اذا مت؟ قال: ولدى و اهلى، قالت: فما لك ترث رسول الله (ص) دوننا؟ قال: يا ابنه رسول الله، ما ورث ابوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضه، قالت: بلى سهم الله الذى جعله لنا، و صار فيئنا الذى بيدك، فقال لها: سمعت رسول الله (ص) يقول: (انما هى طعمه اطعمناها الله، فاذا مت كانت بين المسلمين).

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا ابوبكر بن ابى شيبه قال: حدثنا محمد بن الفضل، عن الوليد بن جميع، عن ابى الطفيل قال: ارسلت فاطمه الى ابى بكر: انت ورثت رسول الله (ص) ام اهله؟ قال: بل اهله، قالت: فما بال سهم رسول الله (ص)؟ قال: انى سمعت رسول الله (ص) يقول: (ان الله اطعم نبيه طعمه)، ثم قبضه، و جعله للذى يقوم بعده، فوليت انا بعده، على ان ارده على المسلمين، قالت: انت و ما سمعت من رسول الله (ص) اعلم.

قلت: فى هذا الحديث عجب لانها قالت له: انت ورثت رسول الله (ص) ام اهله؟ قال: بل اهله، و هذا تصريح بانه (ص) موروث يرثه اهله، و هو خلاف قوله: (لا نورث).

و ايضا فانه يدل على ان ابابكر استنبط من قول رسول الله (ص) ان الله اطعم نبيا طعمه ان يجرى رسول الله (ص) عند وفاته مجرى ذلك النبى (ص)، او يكون قد فهم انه عنى بذلك النبى المنكر لفظا نفسه، كما فهم من قوله فى خطبته، ان عبدا خيره الله بين الدنيا و ما عند ربه، فاختار ما عند ربه فقال ابوبكر: بل نفديك بانفسنا.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: اخبرنا القعنبى قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد، عن محمد بن عمر، عن ابى سلمه، ان فاطمه طلبت فدك من ابى بكر، فقال: انى سمعت رسول الله (ص) يقول: (ان النبى لايورث)، من كان النبى يعوله فانا اعوله، و من كان النبى (ص) ينفق عليه فانا انفق عليه.

فقالت: يا ابابكر، ايرثك بناتك و لايرث رسول الله (ص) بناته، فقال: هو ذاك.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن الزبير قال: حدثنا فضيل بن مرزوق قال: حدثنا البحترى بن حسان قال: قلت لزيد بن على (ع) و انا اريد ان اهجن امر ابى بكر، ان ابابكر انتزع فدك من فاطمه (ع)، فقال، ان ابابكر كان رجلا رحيما، و كان يكره ان يغير شيئا فعله رسول الله (ص)، فاتته فاطمه فقالت: ان رسول الله (ص) اعطانى فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينه؟ فجائت بعلى (ع) فشهد لها، ثم جائت ام ايمن فقالت: الستما تشهدان انى من اهل الجنه! قالا: بلى- قال ابوزيد يعنى انها قالت لابى بكر و عمر- قالت: فانا اشهد ان رسول الله (ص) اعطاها فدك، فقال ابوبكر: فرجل آخر او امراه اخرى لتستحقى بها القضيه.

ثم قال ابوزيد: و ايم الله لو رجع الامر الى لقضيت فيها بقضاء ابى بكر.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا يحيى بن المتوكل ابوعقيل، عن كثير النوال قال: قلت لابى جعفر محمد بن على (ع): جعلنى الله فداك! ارايت ابابكر و عمر، هل ظلماكم من حقكم شيئا- او قال: ذهبا من حقكم بشى ئ؟ فقال: لا، و الذى انزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ما ظلمنا من حقنا مثقال حبه من خردل، قلت: جعلت فداك افاتولاهما؟ قال: نعم ويحك! تولهما فى الدنيا و الاخره، و ما اصابك ففى عنقى، ثم قال: فعل الله بالمغيره و بنان، فانهما كذبا علينا اهل البيت.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد، قال: حدثنا عبدالله بن نافع و القعنبى، عن مالك عن الزهرى، عن عروه، عن عائشه ان ازواج النبى (ص) اردن لما توفى ان يبعثن عثمان بن عفان الى ابى بكر يسالنه ميراثهن- او قال ثمنهن- قالت: فقلت لهن: اليس قد قال النبى (ص) (لا نورث ما تركنا صدقه).

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد، قال: حدثنا عبدالله بن نافع و القعنبى و بشر بن عمر، عن مالك، عن ابى الزناد، عن الاعرج، عن ابى هريره، عن النبى (ص).

قال: (لا يقسم ورثتى دينارا و لا درهما، ما تركت بعد نفقه نسائى و مئونه عيالى فهو صدقه).

قلت: هذا حديث غريب، لان المشهور انه لم يرو حديث انتفاء الارث الا ابوبكر وحده.

و قال ابوبكر: و حدثنا ابوزيد، عن الحزامى، عن ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن الاعرج انه سمع اباهريره يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: (و الذى نفسى بيده لا يقسم ورثتى شيئا، ما تركت صدقه)، قال: و كانت هذه الصدقه بيد على (ع)، غلب عليها العباس، و كانت فيها خصومتهما، فابى عمر ان يقسمها بينهما حتى اعرض عنها العباس و غلب عليها (ع)، ثم كانت بيد حسن و حسين ابنى على (ع)، ثم كانت بيد على بن الحسين (ع) و الحسن بن الحسن، كلاهما يتداولانها، ثم بيد زيد بن على (ع).

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال حدثنا يونس عن الزهرى عن مالك بن اوس بن الحدثان، ان عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار، قال: فدخلت عليه و هو جالس على سرير رمال ليس بينه و بين الرمال فراش، على وساده ادم، فقال: يا مالك، انه قد قدم من قومك اهل ابيات حضروا المدينه، و قد امرت لهم برضخ فاقسمه بينهم، فقلت: يا اميرالمومنين، مر بذلك غيرى، قال: اقسم ايها المرء.

قال: فبينا نحن على ذلك اذ دخل يرفا، فقال: هل لك فى عثمان و سعد و عبدالرحمن و الزبير يستاذنون عليك؟ قال: نعم، فاذن لهم، قال: ثم لبث قليلا، ثم جاء فقال: هل لك فى على و العباس يستاذنان عليك؟ قال: ائذن لهما، فلما دخلا، قال عباس: يا اميرالمومنين، اقض بينى و بين هذا- يعنى عليا- و هما يختصمان فى الصوافى التى افاء الله على رسوله من اموال بنى النضير، قال: فاستب على و العباس عند عمر، فقال عبدالرحمن: يا اميرالمومنين: اقض بينهما و ارخ احدهما من الاخر، فقال عمر: انشدكم الله الذى تقوم باذنه السموات و الارض هل تعلمون ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث ما تركناه صدقه)، يعنى نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فاقبل على العباس و على فقال: انشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم؟ قال عمر: فانى احدثكم عن هذا الامر، ان الله تبارك و تعالى خص رسوله (ص) فى هذا الفى ء بشى ء لم يعطه غيره، قال تعالى: (و ما افاء الله على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكن الله يسلط رسله على من يشاء و الله على كل شى ء قدير)، و كانت هذه خاصه لرسول الله (ص)، فما اختارها دونكم، و لااستاثر بها عليكم، لقد اعطاكموها و ثبتها فيكم حتى بقى منها هذا المال، و كان ينفق منه على اهله سنتهم، ثم ياخذ ما بقى فيجعله فيما يجعل مال الله عز و جل، فعل ذلك فى حياته ثم توفى، فقال ابوبكر: انا ولى رسول الله (ص)، فقبضه الله و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله (ص)، و انتما حينئذ و التفت الى على و العباس تزعمان ان ابابكر فيها ظالم فاجر، و الله يعلم انه فيها لصادق بار راشد، تابع للحق، ثم توفى الله ابابكر، فقلت: انا اولى الناس بابى بكر و برسول الله (ص) فقبضتها سنتين- او قال سنين من امارتى- اعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله (ص) و ابوبكر، ثم قال: و انتما- و اقبل على العباس و على- تزعمان انى فيها ظالم فاجر، و الله يعلم انى فيها بار راشد، تابع للحق ثم جئتمانى و كلمتكما واحده، و امركم ا جميع، فجئتنى- يعنى العباس- تسالنى نصيبك من ابن اخيك، و جائنى هذا- يعنى عليا- يسالنى نصيب امراته من ابيها، فقلت لكما: ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث، ما تركناه صدقه)، فلما بدا لى ان ادفعها اليكما قلت: ادفعها على ان عليكما عهد الله و ميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله (ص) و ابوبكر، و بما عملت به فيها، و الا فلا تكلمانى! فقلتما: ادفعها الينا بذلك، فدفعتها اليكما بذلك، افتلتمسان منى قضاء غير ذلك! و الله الذى تقوم باذنه السموات و الارض لااقضى بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعه، فان عجزتما عنها فادفعاها الى فانا اكفيكماها! قال ابوبكر: و حدثنا ابوزيد قال: حدثنا اسحاق بن ادريس، قال: حدثنا عبدالله بن المبارك قال: حدثنى يونس، عن الزهرى قال: حدثنى مالك بن اوس بن الحدثان بنحوه، قال فذكرت ذلك لعروه فقال: صدق مالك بن اوس، انا سمعت عائشه تقول: ارسل ازواج النبى (ص) عثمان بن عفان الى ابى بكر يسال لهن ميراثهن من رسول الله (ص) مما افاء الله عليه حتى كنت اردهن عن ذلك، فقلت: الا تتقين الله، الم تعلمن ان رسول الله (ص) كان يقول: (لا نورث، ما تركناه صدقه)، يريد بذلك نفسه، انما ياكل آل محمد من هذا المال، فانتهى ازواج النبى (ص ) الى ما امرتهن به.

قلت: هذا مشكل، لان الحديث الاول يتضمن ان عمر اقسم على جماعه فيهم عثمان، فقال: نشدتكم الله، الستم تعلمون ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث ما تركناه صدقه)، يعنى نفسه! فقالوا: نعم، و من جملتهم عثمان، فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لازواج النبى (ص): يساله ان يعطيهن الميراث! اللهم الا ان يكون عثمان و سعد و عبدالرحمن و الزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لابى بكر فيما رواه و حسن الظن، و سموا ذلك علما، لانه قد يطلق على الظن اسم العلم.

فان قال قائل: فهلا حسن ظن عثمان بروايه ابى بكر فى مبدا الامر فلم يكن رسولا لزوجات النبى (ص) فى طلب الميراث؟.

قيل له: يجوز ان يكون فى مبدا الامر شاكا، ثم يغلب على ظنه صدقه لامارات اقتضت تصديقه، و كل الناس يقع لهم مثل ذلك.

و هاهنا اشكال آخر، و هو ان عمر ناشد عليا و العباس: هل تعلمان ذلك؟ فقالا: نعم، فاذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس و فاطمه الى ابى بكر يطلبان الميراث على ما ذكره فى خبر، سابق على هذا الخبر و قد اوردناه نحن! و هل يجوز ان يقال: كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الارث الذى لا يستحقه؟ و هل يجوز ان يقال: ان عليا كان يعلم ذلك و يمكن زوجته ان تطلب ما لا تستحقه، خرجت من د ارها الى المسجد، و نازعت ابابكر، و كلمته بما كلمته الا بقوله و اذنه و رايه.

و ايضا فانه اذا كان (ص) لا يورث، فقد اشكل دفع آلته و دابته و حذائه الى على (ع)، لانه غير وارث فى الاصل، و ان كان اعطاه ذلك لان زوجته بعرضه ان ترث، لو لا الخبر، فهو ايضا غير جائز، لان الخبر قد منع ان يرث منه شيئا قليلا كان او كثيرا.

فان قال قائل: نحن معاشر الانبياء لا نورث ذهبا و لا فضه و لا ارضا و لا عقارا و لا دارا.

قيل: هذا الكلام يفهم من مضمونه انهم لا يورثون شيئا اصلا، لان عاده العرب جاريه بمثل ذلك، و ليس يقصدون نفى ميراث هذه الاجناس المعدوده دون غيرها، بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفى ان يورثوا شيئا ما على الاطلاق.

و ايضا فانه جاء فى خبر الدابه و الاله و الحذاء انه روى عن النبى (ص): (لا نورث ما تركناه صدقه)، و لم يقل (لا نورث كذا و لا كذا) و ذلك يقتضى عموم انتفاء الارث عن كل شى.

و اما الخبر الثانى و هو الذى رواه هشام بن محمد الكلبى، عن ابيه، ففيه اشكال ايضا، لانه قال: انها طلبت فدك، و قالت: ان ابى اعطانيها، و ان ام ايمن تشهد لى بذلك، فقال لها ابوبكر فى الجواب: ان هذا المال لم يكن لرسول الله (ص)، و انما كان مالا من اموال المسلمين، يحم ل به الرجال و ينفقه فى سبيل الله، فلقائل ان يقول له: ايجوز للنبى (ص) ان يملك ابنته او غير ابنته من افناء الناس ضيعه مخصوصه، او عقارا مخصوصا من مال المسلمين، لوحى اوحى الله تعالى اليه، او لاجتهاد رايه على قول من اجاز له ان يحكم بالاجتهاد، او لا يجوز للنبى (ص) ذلك؟ فان قال: لا يجوز، قال ما لا يوافقه العقل و لا المسلمون عليه، و ان قال: يجوز ذلك، قيل: فان المراه ما اقتصرت على الدعوى، بل قالت: ام ايمن تشهد لى، فكان ينبغى ان يقول لها فى الجواب: شهاده ام ايمن وحدها غير مقبوله: و لم يتضمن هذا الخبر ذلك، بل قال لها لما ادعت و ذكرت من يشهد لها: هذا مال من مال الله.

لم يكن لرسول الله (ص) و هذا ليس.

بجواب صحيح.

و اما الخبر الذى رواه محمد بن زكريا عن عائشه، ففيه من الاشكال مثل ما فى هذا الخبر، لانه اذا شهد لها على (ع) و ام ايمن ان رسول الله (ص) وهب لها فدك، لم يصح اجتماع صدقها و صدق عبدالرحمن و عمر، و لا ما تكلفه ابوبكر من تاويل ذلك بمستقيم، لان كونها هبه من رسول الله (ص) لها يمنع من قوله: (كان ياخذ منها قوتكم و يقسم الباقى، و يحمل منه فى سبيل الله) لان هذا ينافى كونها هبه لها، لان معنى كونها لها انتقالها الى ملكيتها، و ا ن تتصرف فيها خاصه دون كل احد من الناس، و ما هذه صفته كيف يقسم و يحمل منه فى سبيل الله! فان قال قائل: هو (ص) ابوها، و حكمه فى مالها كحكمه فى ماله و فى بيت مال المسلمين، فلعله كان بحكم الابوه يفعل ذلك! قيل: فاذا كان يتصرف فيها تصرف الاب فى مال ولده، لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده، فاذا مات الاب لم يجز لاحد ان يتصرف فى مال ذلك الولد، لانه ليس باب له فيتصرف فى ماله تصرف الاباء فى اموال اولادهم، على ان الفقهاء او معظمهم لا يجيزون للاب ان يتصرف فى مال الابن.

و هاهنا اشكال آخر، و هو قول عمر لعلى (ع) و العباس: و انتما حينئذ تزعمان ان ابابكر فيها ظالم فاجر، ثم قال لما ذكر نفسه: و انتما تزعمان انى فيها ظالم فاجر، فاذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان ان رسول الله (ص) قال: (لا اورث)! ان هذا لمن اعجب العجائب، و لو لا ان هذا الحديث- اعنى حديث خصومه العباس و على عند عمر- مذكور فى الصحاح المجمع عليها لما اطلت العجب من مضمونه اذ لو كان غير مذكور فى الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن فى صحته، و انما الحديث فى الصحاح لا ريب فى ذلك.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا ابن ابى شيبه، قال: حدثنا ابن عليه، عن ايو ب، عن عكرمه، عن مالك بن اوس بن الحدثان قال: جاء العباس و على الى عمر، فقال العباس: اقض بينى و بين هذا الكذا و كذا، اى يشتمه، فقال الناس: افصل بينهما، فقال لاافصل بينهما، قد علما ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث ما تركناه صدقه).

قلت: و هذا ايضا مشكل، لانهما حضرا يتنازعان لا فى الميراث بل فى ولايه، صدقه رسول الله (ص) ايهما يتولاها ولايه لا ارثا! و على هذا كانت الخصومه، فهل يكون جواب ذلك قد علما ان رسول الله (ص) قال: (لا نورث)! قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنى يحيى بن كثير ابوغسان قال: حدثنا شعبه عن عمر بن مره، عن ابى البخترى قال: جاء العباس و على الى عمر و هما يختصمان، فقال عمر لطلحه و الزبير و عبدالرحمن و سعد: انشدكم الله، اسمعتم رسول الله (ص) يقول: (كل مال نبى فهو صدقه، الا ما اطعمه اهله، انا لا نورث)! فقالوا: نعم، قال: و كان رسول الله يتصدق به، و يقسم فضله، ثم توفى فوليه ابوبكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله (ص)، و انتما تقولان: انه كان بذلك خاطئا، و كان بذلك ظالما، و ما كان بذلك الا راشدا، ثم وليته بعد ابى بكر فقلت لكما: ان شئتما قبلتماه على عمل رسول الله (ص) و عهده الذى عهد فيه، فقلتما: نعم، و ج ئتمانى الان تختصمان، يقول هذا: اريد نصيبى من ابن اخى، و يقول هذا: اريد نصيبى من امراتى! و الله لا اقضى بينكما الا بذلك.

قلت: و هذا ايضا مشكل، لان اكثر الروايات انه لم يرو هذا الخبر الا ابوبكر وحده، ذكر ذلك اعظم المحدثين، حتى ان الفقهاء فى اصول الفقه اطبقوا على ذلك فى احتجاجهم فى الخبر بروايه الصحابى الواحد.

و قال شيخنا ابوعلى: لا تقبل فى الروايه الا روايه اثنين كالشهاده، فخالفه المتكلمون و الفقهاء كلهم، و احتجوا عليه بقبول الصحابه روايه ابى بكر وحده: (نحن معاشر الانبياء لا نورث)، حتى ان بعض اصحاب ابى على تكلف لذلك جوابا، فقال: قد روى ان ابابكر يوم حاج فاطمه (ع) قال: انشد الله امرا سمع من رسول الله (ص) فى هذا شيئا! فروى مالك ابن اوس بن الحدثان، انه سمعه من رسول الله (ص)، و هذا الحديث ينطق بانه استشهد عمر و طلحه و الزبير و عبدالرحمن و سعدا، فقالوا: سمعناه من رسول الله (ص)، فاين كانت هذه الروايات ايام ابى بكر! ما نقل ان احدا من هولاء يوم خصومه فاطمه (ع) و ابى بكر روى من هذا شيئا.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد عمر بن شبه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن ابراهيم بن ابى يحيى، عن الزهرى، عن عروه، عن عائشه ان ازواج النبى (ص) ارسلن عثمان الى ابى بكر فذكر الحديث قال عروه: و كانت فاطمه قد سالت ميراثها من ابى بكر مما تركه النبى (ص)، فقال لها: بابى انت و امى، و بابى ابوك و امى و نفسى، ان كنت سمعت من رسول الله (ص) شيئا، او امرك بشى ء لم اتبع غير ما تقولين، و اعطيتك ما تبتغين، و الا فانى اتبع ما امرت به! قال ابوبكر: و حدثنا ابوزيد قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبه، عن عمرو بن مره، عن ابى البخترى قال: قال لها ابوبكر لما طلبت فدك: بابى انت و امى! انت عندى الصادقه الامينه، ان كان رسول الله (ص) عهد اليك فى ذلك عهدا، او وعدك به وعدا، صدقتك، و سلمت اليك! فقالت: لم يعهد الى فى ذلك بشى ء، و لكن الله تعالى يقول: (يوصيكم الله فى اولادكم)، فقال: اشهد لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: (انا معاشر الانبياء لا نورث).

قلت: و فى هذا من الاشكال ما هو ظاهر، لانها قد ادعت انه عهد اليها رسول الله (ص) فى ذلك اعظم العهد، و هو النحله، فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سالها ابوبكر! و هذا اعجب من العجب.

قال ابوبكر: و حدثنا ابوزيد، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبدالعزيز ابن عمران بن عبدالعزيز بن عبدالله الانصارى عن ابن شهاب، عن مالك بن اوس بن الحدثان، قال: سمعت عم ر و هو يقول للعباس و على و عبدالرحمن بن عوف و الزبير و طلحه: انشدكم الله هل تعلمون ان رسول الله (ص) قال: (انا لا نورث، معاشر الانبياء، ما تركنا صدقه)؟ قالوا: اللهم نعم، قال: انشدكم الله هل تعلمون ان رسول الله (ص) يدخل فى فيئه اهله السنه من صدقاته، ثم يجعل ما بقى فى بيت المال! قالوا: اللهم نعم، فلما توفى رسول الله (ص) قبضها ابوبكر، فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن اخيك، و جئت يا على تطلب ميراث زوجتك من ابيها! و زعمتما ان ابابكر كان فيها خائنا فاجرا، و الله لقد كان امرا مطيعا، تابعا للحق، ثم توفى ابوبكر فقبضتها، فجئتمانى تطلبان ميراثكما، اما انت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن اخيك، و اما على فيطلب ميراث زوجته من ابيها، و زعمتما انى فيها خائن و فاجر، و الله يعلم انى فيها مطيع تابع للحق فاصلحا امركما و الا و الله لم ترجع اليكما.

فقاما و تركا الخصومه و امضيت صدقه.

قال ابوزيد: قال ابوغسان: فحدثنا عبدالرزاق الصنعانى، عن معمر بن شهاب، عن مالك بنحوه، و قال فى آخره: فغلب على عباسا عليها، فكانت بيد على، ثم كانت بيد الحسن، ثم كانت بيد الحسين، ثم على بن الحسين، ثم الحسن بن الحسن، ثم زيد بن الحسن.

قلت: و هذا الحديث يدل صريحا ع لى انهما جائا يطلبان الميراث لا الولايه، و هذا من المشكلات، لان ابابكر حسم الماده اولا، و قرر عند العباس و على و غيرهما ان النبى (ص) لايورث، و كان عمر من المساعدين له على ذلك، فكيف يعود العباس و على بعد وفاه ابى بكر، يحاولان امرا قد كان فرغ منه، و يئس من حصوله، اللهم الا ان يكونا ظنا ان عمر ينقض قضاء ابى بكر فى هذه المساله، و هذا بعيد، لان عليا و العباس كانا فى هذه المساله يتهمان عمر بممالاه ابى بكر على ذلك الا تراه يقول: نسبتمانى و نسبتما ابابكر الى الظلم و الخيانه، فكيف يظنان انه ينقض قضاء ابى بكر و يورثهما! و اعلم ان الناس يظنون ان نزاع فاطمه ابابكر كان فى امرين: فى الميراث و النحله، و قد وجدت فى الحديث انها نازعت فى امر ثالث، و منعها ابوبكر اياه ايضا، و هو سهم ذوى القربى.

قال ابوبكر احمد بن عبدالعزيز الجوهرى: اخبرنى ابوزيد عمر بن شبه، قال: حدثنى هارون بن عمير، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنى صدقه ابومعاويه، عن محمد بن عبدالله، عن محمد بن عبدالرحمن بن ابى بكر، عن يزيد الرقاشى، عن انس بن مالك، ان فاطمه (ع) اتت ابابكر فقالت: لقد علمت الذى ظلمتنا عنه اهل البيت من الصدقات، و ما افاء الله علينا من الغنائ م فى القرآن من سهم ذوى القربى! ثم قرات عليه قوله تعالى: (و اعلموا انما غنمتم من شى ء فان لله خمسه و للرسول و لذى القربى...) الايه، فقال لها ابوبكر: بابى انت و امى و والد ولدك! السمع و الطاعه لكتاب الله و لحق رسول الله (ص)، و حق قرابته، و انا اقرا من كتاب الله الذى تقرئين منه، و لم يبلغ علمى منه ان هذا السهم من الخمس يسلم اليكم كاملا، قالت: افلك هو و لاقربائك؟ قال: لا، بل انفق عليكم منه، و اصرف الباقى فى مصالح المسلمين قالت: ليس هذا حكم الله تعالى، قال: هذا حكم الله، فان كان رسول الله عهد اليك فى هذا عهدا او اوجبه لكم حقا صدقتك و سلمته كله اليك و الى اهلك، قالت: ان رسول الله (ص) لم يعهد الى فى ذلك بشى ء، الا انى سمعته يقول لما انزلت هذه الايه: (ابشروا آل محمد فقد جائكم الغنى)، قال ابوبكر: لم يبلغ علمى من هذه الايه ان اسلم اليكم هذا السهم كله كاملا، و لكن لكم الغنى الذى يغنيكم، و يفضل عنكم، و هذا عمر بن الخطاب، و ابوعبيده بن الجراح فاساليهم عن ذلك، و انظرى هل يوافقك على ما طلبت احد منهم! فانصرفت الى عمر فقالت له مثل ما قالت لابى بكر، فقال لها مثل ما قاله لها ابوبكر، فعجبت فاطمه (ع) من ذلك، و تظنت انهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا هارون بن عمير، قال: حدثنا الوليد، عن ابن ابى لهيعه، عن ابى الاسود، عن عروه، قال: ارادت فاطمه ابابكر على فدك و سهم ذوى القربى، فابى عليها، و جعلهما فى مال الله تعالى.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد، قال: حدثنا احمد بن معاويه، عن هيثم عن جويبر، عن ابى الضحاك عن الحسن بن محمد بن على بن ابى طالب (ع)، ان ابابكر منع فاطمه و بنى هاشم سهم ذوى القربى، و جعله فى سبيل الله فى السلاح و الكراع.

قال ابوبكر: و اخبرنا ابوزيد قال: حدثنا حيان بن هلال، عن محمد بن يزيد بن ذريع، عن محمد بن اسحاق، قال: سالت اباجعفر محمد بن على (ع)، قلت: ارايت عليا حين ولى العراق و ما ولى من امر الناس كيف صنع فى سهم ذوى القربى؟ قال: سلك بهم طريق ابى بكر و عمر، قلت: و كيف؟ و لم، و انتم تقولون ما تقولون! قال: اما و الله ما كان اهله يصدرون الا عن رايه، فقلت: فما منعه؟ قال: كان يكره ان يدعى عليه مخالفه ابى بكر و عمر.

قال ابوبكر: و حدثنى المومل بن جعفر، قال: حدثنى محمد بن ميمون، عن داود بن المبارك، قال: اتينا عبدالله بن موسى بن عبدالله بن حسن بن الحسن و نحن راجعون من الحج فى جماعه، فسالناه ع ن مسائل، و كنت احد من ساله، فسالته عن ابى بكر و عمر فقال: سئل جدى عبدالله بن الحسن بن الحسن عن هذه المساله فقال: كانت امى صديقه بنت نبى مرسل، فماتت و هى غضبى على انسان، فنحن غضاب لغضبها، و اذا رضيت رضينا.

قال ابوبكر: و حدثنى ابوجعفر محمد بن القاسم قال: حدثنى على بن الصباح قال: انشدنا ابوالحسن روايه المفضل للكميت: اهوى عليا اميرالمومنين و لا ارضى بشتم ابى بكر و لا عمرا و لااقول و ان لم يعطيا فدكا بنت النبى و لا ميراثها كفرا الله يعلم ما ذا يحضران به يوم القيامه من عذر اذا اعتذرا قال ابن الصباح: فقال لى ابوالحسن: اتقول: انه قد اكفرهما فى هذا الشعر! قلت: نعم، قال: كذاك هو.

قال ابوبكر: حدثنا ابوزيد، عن هارون بن عمير، عن الوليد بن مسلم، عن اسماعيل بن عباس، عن محمد بن السائب، عن ابى صالح، عن مولى ام هانى ء، قال: دخلت فاطمه على ابى بكر بعد ما استخلف، فسالته ميراثها من ابيها، فمنعها، فقالت له: لئن مت اليوم من كان يرثك؟ قال: ولدى و اهلى، قالت: فلم ورثت انت رسول الله (ص) دون ولده و اهله؟ قال: فما فعلت يا بنت رسول الله (ص)! قالت: بلى انك عمدت الى فدك، و كانت صافيه لرسول الله (ص) فاخذتها، و عمدت الى ما انزل ا لله من السماء فرفعته عنا، فقال: يا بنت رسول الله (ص)، لم افعل حدثنى رسول الله (ص) ان الله تعالى يطعم النبى (ص) الطعمه ما كان حيا، فاذا قبضه الله اليه رفعت، فقالت: انت و رسول الله اعلم ما انا بسائلتك بعد مجلسى.

ثم انصرفت.

قال ابوبكر: و حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن المهلبى، عن عبدالله بن حماد بن سليمان، عن ابيه، عن عبدالله بن حسن بن حسن، عن امه فاطمه بنت الحسين (ع)، قالت: لما اشتد بفاطمه بنت رسول الله (ص) الوجع و ثقلت فى علتها، اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين و الانصار، فقلن لها: كيف اصبحت يا ابنه رسول الله (ص)؟ قالت: و الله اصبحت عائفه لدنياكم، قاليه لرجالكم، لفظتهم بعد ان عجمتهم، و شنئتهم بعد ان سبرتهم، فقبحا لفلول الحد و خور القناه، و خطل الراى! و بئسما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم و فى العذاب هم خالدون، لا جرم! قد قلدتهم ربقتها، و شنت عليهم غارتها، فجدعا و عقرا، و سحقا للقوم الظالمين! ويحهم! اين زحزحوها عن رواسى الرساله، و قواعد النبوه، و مهبط الروح الامين، و الطيبين بامر الدنيا و الدين، الا ذلك هو الخسران المبين! و ما الذى نقموا من ابى حسن! نقموا و الله نكير سيفه، و شده وطاته، و نكال وقعته، و تنمره فى ذات الله، و تالله لو تكافوا عن زمام نبذه اليه رسول الله (ص) لا عتلقه، و لسار اليهم سيرا سجحا لاتكلم حشاشته و لايتعتع راكبه و لاوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه، و لاصدرهم بطانا قد تحير بهم الراى، غير متحل بطائل، الا بغمر الناهل، و ردعه سوره الساغب، و لفتحت عليهم بركات من السماء و الارض، و سياخذهم الله بما كانوا يكسبون.

الا هلم فاستمع و ما عشت اراك الدهر عجبه، و ان تعجب فقد اعجبك الحادث، الى اى لجا استندوا، و باى عروه تمسكوا! لبئس المولى و لبئس العشير، و لبئس للظالمين بدلا! استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم، و العجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعا، (الا انهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون)، ويحهم! (افمن يهدى الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدى الا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون)! اما لعمر الله لقد لقحت، فنظره ريثما تنتج، ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا و ذعاقا ممقرا هنا لك يخسر المبطلون، و يعرف التالون غب ما اسس الاولون، ثم طيبوا عن انفسكم نفسا، و اطمئنوا للفتنه جاشا، و ابشروا بسيف صارم، و هرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا، و جمعكم حصيدا، فيا حسره عليكم، و انى لكم و قد عميت عليكم انلزمكموها و انتم لها كارهون! و الحمد لله رب العالمين، و صلاته على محمد خاتم النبيين، و سيد المرسلين.

قلت: هذا الكلام و ان لم يكن فيه ذكر فدك و الميراث، الا انه من تتمه ذلك، و فيه ايضاح لما كان عندها، و بيان لشده غيظها و غضبها، فانه سياتى فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضى القضاه و المرتضى فى انها هل كانت غضبى ام لا! و نحن لا ننصر مذهبا بعينه، و انما نذكر ما قيل، و اذا جرى بحث نظرى قلنا ما يقوى فى انفسنا منه.

و اعلم انا انما نذكر فى هذا الفصل ما رواه رجال الحديث و ثقاتهم، و ما اودعه احمد بن عبدالعزيز الجوهرى فى كتابه، و هو من الثقات الامناء عند اصحاب الحديث، و اما ما يرويه رجال الشيعه و الاخباريون منهم فى كتبهم من قولهم: انهما اهاناها و اسمعاها كلاما غليظا، و ان ابابكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا، فكتب لها بفدك كتابا، فلما خرجت به وجدها عمر، فمد يده اليه لياخذه مغالبه، فمنعته، فدفع بيده فى صدرها و اخذ الصحيفه فخرقها بعد ان تفل فيها فمحاها، و انها دعت عليه فقالت: بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتى، فشى ء لايرويه اصحاب الحديث و لا ينقلونه، و قدر الصحابه يجل عنه، و كان عمر اتقى لله، و اعرف لحقوق الله من ذلك، و قد نظمت الشيعه بعض هذه الواقعه التى يذكرونها شعرا اوله ابيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التى اولها: يا ابنه القوم تراك بالغ قتلى رضاك و قد ذيل عليها بعض الشيعه و اتمها، و الابيات: يا ابنه الطاهر كم تق رع بالظلم عصاك غضب الله لخطب ليله الطف عراك و رعى النار غدا ق ط رعى امس حماك مر لم يعطفه شكوى و لا استحيا بكاك و اقتدى الناس به ب عد فاردى ولداك يا ابنه الراقى الى السد ره فى لوح السكاك لهف نفسى و على مث لك فلتبك البواكى كيف لم تقطع يد م د اليك ابن صحاك فرحوا يوم اهانو ك بما ساء اباك و لقد اخبرهم ان رضاه فى رضاك دفعا النص على ار ثك لما دفعاك و تعرضت لقدر تافه و انتهراك و ادعيت النحله المش هود فيها بالصكاك فاستشاطا ثم ما ان كذبا ان كذباك فزوى الله عن الرح مه زنديقا ذواك و نفى عن بابه ال واسع شيطانا نفاك فانظر الى هذه البليه التى صبت من هولاء على سادات المسلمين، و اعلام المهاجرين! و ليس ذلك بقادح فى علو شانهم، و جلاله مكانهم، كما ان مبغضى الانبياء و حسدتهم، و مصنفى الكتب فى الحاق العيب و التهجين لشرائعهم لم تزدد لانبيائهم الا رفع ه، و لا زادت شرائعهم الا انتشارا فى الارض، و قبولا فى النفس، و بهجه و نورا عند ذوى الالباب و العقول.

و قال لى علوى فى الحله يعرف بعلى بن مهنا، ذكى ذو فضائل: ما تظن قصد ابى بكر و عمر بمنع فاطمه فدك؟ قلت: ما قصدا؟ قال: ارادا الا يظهرا لعلى- و قد اغتصباه الخلافه- رقه ولينا و خذلانا، و لا يرى عندهما خورا، فاتبعا القرح بالقرح.

و قلت لمتكلم من متكلمى الاماميه يعرف بعلى بن تقى من بلده النيل، و هل كانت فدك الا نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير! فقال لى: ليس الامر كذلك، بل كانت جليله جدا، و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفه الان من النخل، و ما قصد ابوبكر و عمر بمنع فاطمه عنها الا الا يتقوى على بحاصلها و غلتها على المنازعه فى الخلافه، و لهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمه و على و سائر بنى هاشم و بنى المطلب حقهم فى الخمس، فان الفقير الذى لا مال له تضعف همته و يتصاغر عند نفسه، و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرياسه، فانظر الى ما قد وقر فى صدور هولاء، و هو داء لا دواء له، و ما اكثر ما تزول الاخلاق و الشيم، فاما العقائد الراسخه فلا سبيل الى زوالها! الفصل الثانى فى النظر فى ان النبى (ص) هل يورث ام لا نذكر فى هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله فى (الشافى) عن قاضى القضاه فى هذا المعنى، و ما اعترضه به، و ان استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا، و الا تركناه على حاله.

قال المرتضى: اول ما ابتدا به قاضى القضاه حكايته عنا استدلالنا على انه (ص) مورث بقوله تعالى: (يوصيكم الله فى اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) و هذا الخطاب عام يدخل فيه النبى و غيره.

ثم اجاب- يعنى قاضى القضاه- عن ذلك، فقال: ان الخبر الذى احتج به ابوبكر- يعنى قوله: (نحن معاشر الانبياء لا نورث)- لم يقتصر على روايته هو وحده حى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحه و الزبير و سعدا و عبدالرحمن، فشهدوا به، فكان لا يحل لابى بكر و قد صار الامر اليه ان يقسم التركه ميراثا، و قد خبر رسول الله (ص) بانها صدقه و ليست بميراث، و اقل ما فى هذا الباب ان يكون الخبر من اخبار الاحاد، فلو ان شاهدين شهدا فى التركه ان فيها حقا، اليس كان يجب ان يصرف ذلك عن الارث! فعلمه بما قال رسول الله (ص) مع شهاده غيره اقوى.

و لسنا نجعله مدعيا لانه لم يدع ذلك لنفسه، و انما بين انه ليس بميراث، و انه صدقه.

و لا يمتنع تخصيص القرآن بذلك، كما يخص فى العبد و القاتل و غيرهما، و ليس ذلك بنقص فى الانبياء، بل هو اجلال لهم، يرفع الله به قدرهم عن ان يورثوا المال، و صار ذلك من اوكد الدواعى الا يتشاغلوا بجمعه، لان احد الدواعى القويه الى ذلك تركه على الاولاد و الاهلين.

و لما سمعت فاطمه (ع) ذلك من ابى بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الاخبار الصحيحه، فلا يمتنع ان تكون غير عارفه بذلك، فطلبت الارث، فلما روى لها ما روى كفت، فاصابت اولا و اصابت ثانيا.

و ليس لاحد ان يقول: كيف يجوز ان يبين النبى (ص) ذلك للقوم و لا حق لهم فى الارث، و يدع ان يبين ذلك لمن له حق فى الارث، مع ان التكليف يتصل به، و ذلك لان التكليف فى ذلك يتعلق بالامام، فاذا بين له جاز الا يبين لغيره، و يصير البيان له بيانا لغيره، و ان لم يسمعه من الرسول، لان هذا الجنس من البيان يجب ان يكون بحسب المصلحه! قال: ثم حكى عن ابى على انه قال: اتعلمون كذب ابى بكر فى هذه الروايه، ام تجوزون ان يكون صادقا؟ قال: و قد علم انه لا شى ء يقطع به على كذبه، فلابد من تجويز كونه صادقا.

و اذا صح ذلك قيل لهم: فهل كان يحل له مخالفه الرسول؟ فان قالوا: لو كان صدقا لظهر و اشتهر، قيل لهم: ان ذلك من باب العمل، و لا يمتنع ان ينفرد بروايته جماعه يسيره، بل الواحد و الاثنان، مثل سائر الاحكام و مثل الشهادا ت، فان قالوا نعلم انه لا يصح لقوله تعالى فى كتابه: (و ورث سليمان داود) قيل لهم: و من اين انه ورثه الاموال، مع تجويز ان يكون ورثه العلم و الحكمه؟ فان قالوا: اطلاق الميراث لا يكون الا فى الاموال، قيل لهم: ان كتاب الله يبطل قولكم، لانه قال: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، و الكتاب ليس بمال، و يقال فى اللغه: ما ورثت الابناء عن الاباء شيئا افضل من ادب حسن، و قالوا: العلماء ورثه الانبياء، و انما ورثوا منهم العلم دون المال، على ان فى آخر الايه ما يدل على ما قلناه، و هو قوله تعالى حاكيا عنه: (و قال يا ايها الناس علمنا منطق الطير و اوتينا من كل شى ء ان هذا لهو الفضل المبين)، فنبه على ان الذى ورث هو هذا العلم و هذا الفضل، و الا لم يكن لهذا القول تعلق بالاول.

فان قالوا: فقد قال تعالى: (فهب لى من لدنك وليا يرثنى و يرث من آل يعقوب)، و ذلك يبطل الخبر! قيل لهم: ليس فى ذلك بيان المال ايضا، و فى الايه ما يدل على ان المراد النبوه و العلم، لان زكريا خاف على العلم ان يندرس، و قوله: (و انى خفت الموالى من ورائى) يدل على ذلك، لان الانبياء لا تحرص على الاموال حرصا يتعلق خوفها بها، و انما اراد خوفه على العلم ان يضيع، فسا ل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه.

و قوله: (و يرث من آل يعقوب) يدل على ان المراد العلم و الحكمه، لانه لا يرث اموال يعقوب فى الحقيقه، و انما يرث ذلك غيره.

قال: فاما من يقول: ان المراد: انا معاشر الانبياء لا نورث، ما تركناه صدقه، اى ما جعلناه صدقه فى حال حياتنا لا نورثه، فركيك من القول، لان اجماع الصحابه يخالفه، لان احدا لم يتاوله على هذا الوجه لانه لا يكون فى ذلك تخصيص الانبياء، و لا مزيه لهم، و لان قوله: (ما تركناه صدقه)، جمله من الكلام مستقله بنفسها، كانه (ع) مع بيانه انهم لا يورثون المال، يبين انه صدقه، لانه كان يجوز الا يكون ميراثا، و يصرف الى وجه آخر غير الصدقه.

قال: فاما خبر السيف و البغله و العمامه و غير ذلك، فقد قال ابوعلى: انه لم يثبت ان ابابكر دفع ذلك الى اميرالمومنين (ع) على جهه الارث، كيف يجوز ذلك مع الخبر الذى رواه، و كيف يجوز لو كان وارثا ان يخصه بذلك و لا ارث له مع العم لانه عصبه! فان كان وصل الى فاطمه (ع) فقد كان ينبغى ان يكون العباس شريكا فى ذلك و ازواج رسول الله (ص)، و لوجب ان يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف انهم اخذوا نصيبهم من ذلك او بدله، و لا يجب اذا لم يدفع ابوبكر ذلك، اليه على جهه الارث الا يحصل ذلك فى يده، لانه قد يجوز ان يكون النبى (ص) نحله ذلك، و يجوز ايضا ان يكون ابوبكر راى الصلاح فى ذلك ان يكون بيده لما فيه من تقويه الدين، و تصدق ببدله بعد التقويم، لان الامام له ان يفعل ذلك.

قال: و حكى عن ابى على فى البرد و القضيب انه لم يمتنع ان يكون جعله عده فى سبيل الله و تقويه على المشركين، فتداولته الائمه لما فيه من التقويه، و راى ان ذلك اولى من ان يتصدق به ان ثبت انه (ع) لم يكن قد نحله غيره فى حياته، ثم عارض نفسه بطلب ازواج النبى (ص) الميراث، و تنازع اميرالمومنين (ع) و العباس بعد موت فاطمه (ع).

و اجاب عن ذلك بان قال: يجوز ان يكونوا لم يعرفوا روايه ابى بكر و غيره للخبر.

و قد روى ان عائشه لما عرفتهن الخبر امسكن، و قد بينا انه لا يمتنع فى مثل ذلك ان يخفى على من يستحق الارث، و يعرفه من يتقلد الامر، كما يعرف العلماء و الحكام من احكام المواريث ما لايعلمه ارباب الارث، و قد بينا ان روايه ابى بكر مع الجماعه اقوى من شاهدين لو شهد ان بعض تركته (ع) دين، و هو اقوى من روايه سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك.

قال: و متى تعلقوا بعموم القرآن اريناهم جواز، التخصيص بهذا الخبر، كما ان عموم القرآن يقتضى كون الصدقات للفقر اء، و قد ثبت ان آل محمد لا تحل لهم الصدقه.

هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضى القضاه.

ثم قال: نحن نبين اولا ما يدل على انه (ص) يورث المال، و نرتب الكلام فى ذلك الترتيب الصحيح، ثم نعطف على ما اورده، و نتكلم عليه.

قال رضى الله عنه: و الذى يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا (ع): (و انى خفت الموالى من ورائى و كانت امراتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا يرثنى و يرث من آل يعقوب و اجعله رب رضيا) فخبر انه خاف من بنى عمه، لان الموالى هاهنا هم بنو العم بلا شبهه، و انما خافهم ان يرثوا ماله فينفقوه فى الفساد، لانه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم، فسال ربه ولدا يكون احق بميراثه منهم.

و الذى يدل على ان المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم و النبوه على ما يقولون ان لفظه الميراث فى اللغه و الشريعه لا يفيد اطلاقها الا على ما يجوز ان ينتقل على الحقيقه من الموروث الى الوارث، كالاموال و ما فى معناها، و لايستعمل فى غير المال الا تجوزا و اتساعا، و لهذا لا يفهم من قول القائل: لا وارث لفلان الا فلان، و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الاطلاق الا ميراث الاموال و الاعراض دون العلوم و غيرها، و ليس لنا ان نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته الى مجازه بغير دلاله.

و ايضا فانه تعالى خبر عن نبيه انه اشترط فى وارثه ان يكون رضيا، و متى لم يحمل الميراث فى الايه على المال دون العلم و النبوه لم يكن للاشتراط معنى، و كان لغوا و عبثا، لانه اذا كان انما سال من يقوم مقامه، و يرث مكانه فقد دخل الرضا و ما هو اعظم من الرضا فى جمله كلامه و سواله، فلا مقتضى لاشتراطه، الا ترى انه لا يحسن ان يقول: اللهم ابعث الينا نبيا و اجعله عاقلا، (و مكلفا)، فاذا ثبتت هذه الجمله صح ان زكريا موروث ماله.

و صح ايضا لصحتها ان نبينا (ص) ممن يورث المال، لان الاجماع واقع على ان حال نبينا (ع) لايخالف حال الانبياء المتقدمين فى ميراث المال، فمن مثبت للامرين و ناف للامرين.

قلت: ان شيخنا اباالحسين قال فى كتاب "الغرر": صوره الخبر الوارد فى هذا الباب، و هو الذى رواه ابوبكر: (لا نورث)، و لم يقل: (نحن معاشر الانبياء)، لا نورث فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن فى الخبر.

و تصفحت انا كتب الصحاح فى الحديث فوجدت صيغه الخبر كما قاله ابوالحسين، و ان كان رسول الله (ص) عنى نفسه خاصه بذلك، فقد سقط احتجاج الشيعه بقصه زكريا و غيره من الانبياء، الا انه يبعد عندى ان يكون اراد نفسه خاصه، لانه لم تجر عاد ته ان يخبر عن نفسه فى شى ء بالنون.

فان قلت: ايصح من المرتضى ان يوافق على ان صوره الخبر هكذا، ثم يحتج بقصه زكريا بان يقول: اذا ثبت ان زكريا موروث، ثبت ان رسول الله (ص) يجوز ان يكون موروثا، لاجماع الامه على ان لا فرق بين الانبياء كلهم فى هذا الحكم! قلت: و ان ثبت له هذا الاجماع صح احتجاجه، و لكن ثبوته يبعد، لان من نفى كون زكريا (ع) موروثا من الامه انما نفاه لاعتقاده ان رسول الله (ص) قال: (نحن معاشر الانبياء)، فاذا كان لم يقل هكذا، لم يقل: ان زكريا (ع) غير موروث.

قال المرتضى: و مما يقوى ما قدمناه ان زكريا (ع) خاف بنى عمه، فطلب وارثا لاجل خوفه، و لا يليق خوفه منهم الا بالمال دون العلم و النبوه، لانه (ع) كان اعلم بالله تعالى من ان يخاف ان يبعث نبيا ليس باهل للنبوه، و ان يورث علمه و حكمه من ليس اهلا لهما، و لانه انما بعث لاذاعه العلم و نشره فى الناس، فلا يجوز ان يخاف من الامر الذى هو الغرض فى البعثه.

فان قيل: هذا يرجع عليكم فى الخوف عن ارث المال لان ذلك غايه الضن و البخل.

قلنا: معاذ الله ان يستوى الحال، لان المال قد يصح ان يرزقه الله تعالى المومن و الكافر و العدو و الولى، و لا يصح ذلك فى النبوه و علومها.

و ليس من ا لضن ان ياسى على بنى عمه- و هم من اهل الفساد- ان يظفروا بماله فينفقوه على المعاصى، و يصرفوه فى غير وجوهه المحبوبه، بل ذلك غايه الحكمه و حسن التدبير فى الدين، لان الدين يحظر تقويه الفساق و امدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومه، و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا الا من لا تامل له.

فان قيل: افلا جاز ان يكون خاف من بنى عمه ان يرثوا علمه، و هم من اهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس، و يموهوا به عليهم؟ قلنا: لا يخلو هذا العلم الذى اشرتم اليه من ان يكون هو كتب علمه و صحف حكمته لان ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز، او يكون هو العلم الذى يحل القلب.

فان كان الاول فهو يرجع الى معنى المال، و يصحح ان الانبياء يورثون اموالهم و ما فى معناها، و ان كان الثانى لم يخل هذا من ان يكون هو العلم الذى بعث النبى لنشره و ادائه او ان يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعه، و لا يجب اطلاع جميع الامه عليه، كعلم العواقب و ما يجرى فى مستقبل الاوقات، و ما جرى مجرى ذلك.

و القسم الاول لا يجوز على النبى ان يخاف من وصوله الى بنى عمه و هم من جمله امته الذين بعث لاطلاعهم على ذلك، و تاديته اليهم، و كانه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته.

و ال قسم الثانى فاسد ايضا، لان هذا العلم المخصوص انما يستفاد من جهته، و يوقف عليه باطلاعه و اعلامه، و ليس هو مما يجب نشره فى جميع الناس، فقد كان يجب اذا خاف من القائه الى بعض الناس فسادا الا يلقيه اليه، فان ذلك فى يده، و لا يحتاج الى اكثر من ذلك.

قلت: لعاكس ان يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ، و يقول له: و قد كان يجب اذا خاف من ان يرث بنو عمه امواله فينفقوها فى الفساد ان يتصدق بها على الفقراء و المساكين، فان ذلك فى يده، فيحصل له ثواب الصدقه، و يحصل له غرضه من حرمان اولئك المفسدين ميراثه.

قال المرتضى رضى الله عنه: و مما يدل على ان الانبياء يورثون قوله تعالى: (و ورث سليمان داود)، و الظاهر من اطلاق لفظه (الميراث) يقتضى الاموال و ما فى معناها على ما دللنا به من قبل.

قال: و يدل على ذلك ايضا قوله تعالى: (يوصيكم الله فى اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين...) الايه، و قد اجمعت الامه على عموم هذه اللفظه الا من اخرجه الدليل، فيجب ان يتمسك بعمومها، لمكان هذه الدلاله، و لايخرج عن حكمها الا من اخرجه دليل قاطع.

قلت: اما قوله تعالى: (و ورث سليمان داود)، فظاهرها يقتضى وراثه النبوه او الملك او العلم الذى قال فى اول الايه: (و لقد آ تينا داود و سليمان علما...) لانه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال، فان غيره من اولاد داود قد ورث ايضا اباه داود، و فى كتب اليهود و النصارى ان بنى داود كانوا تسعه عشر، و قد قال بعض المسلمين ايضا ذلك: فاى معنى فى تخصيص سليمان بالذكر اذا كان ارث المال! و اما: (يوصيكم الله فى اولادكم)، فالبحث فى تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مساله خبر الواحد، هل هو حجه فى الشرعيات ام لا! فان ثبت مذهب المرتضى فى كونه ليس بحجه فكلامه هنا جيد، و ان لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر، فان الصحابه قد خصصت عمومات الكتاب بالاخبار فى مواضع كثيره.

قال المرتضى: و اما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذى رواه ابوبكر و ادعاوه انه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا، فاول ما فيه ان الذى ادعاه من الاستشهاد غير معروف، و الذى روى ان عمر استشهد هولاء النفر لما تنازع اميرالمومنين (ع) و العباس رضى الله عنه فى الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفى الميراث، و انما مقول مخالفينا فى صحه الخبر الذى رواه ابوبكر عند مطالبه فاطمه (ع) بالارث على امساك الامه عن النكير عليه، و الرد لقضيته.

قلت: صدق المرتضى رحمه الله فيما قال، اما عقيب وفاه النبى (ص)، و مطالبه فاطمه ( ع) بالارث، فلم يرو الخبر الا ابوبكر وحده.

و قيل: انه رواه معه مالك بن اوس بن الحدثان، و اما المهاجرون الذين ذكرهم قاضى القضاه فانما شهدوا بالخبر فى خلافه عمر، و قد تقدم ذكر ذلك.

قال المرتضى: ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجه، لان الخبر على كل حال لايخرج من ان يكون غير موجب للعلم، و هو فى حكم اخبار الاحاد، و ليس يجوز ان يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى، لان المعلوم لايخص الا بمعلوم، و اذا كانت دلاله الظاهر معلومه، لم يجز ان يخرج عنها بامر مظنون.

قال: و هذا الكلام مبنى على ان التخصيص للكتاب و السنه المقطوع بها لايقع باخبار الاحاد، و هو المذهب الصحيح.

و قد اشرنا الى ما يمكن ان يعتمد فى الدلاله عليه من ان الظن لايقابل العلم، و لايرجع عن المعلوم بالمظنون.

قال: و ليس لهم ان يقولوا: ان التخصيص باخبار الاحاد يستند ايضا الى علم، و ان كان الطريق مظنونا، و يشيروا الى ما يدعونه من الدلاله على وجوب العمل بخبر الواحد فى الشريعه، و انه حجه، لان ذلك مبنى من قولهم على ما لانسلمه، و قد دل الدليل على فساده- اعنى قولهم: خبر الواحد حجه فى الشرع- على انهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا الى دليل مستانف على انه يق بل فى تخصيص القرآن، لان ما دل على العمل به فى الجمله لايتناول هذا الموضع، كما لايتناول جواز النسخ به.

قلت: اما قول المرتضى: لو سلمنا ان هولاء المهاجرين السته رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا، و لما جاز ان يرجع عن عموم الكتاب به، لانه معلوم، و الخبر مظنون.

و لقائل ان يقول: ليته حصل فى كل واحد من آيات القرآن روايه مثل هذه السته، حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء، فانهم بدون هذا العدد كانوا يعملون فى اثبات الايه فى المصحف، بل كانوا يحلفون من اتاهم بالايه.

و من نظر فى كتب التواريخ عرف ذلك، فان كان هذا العدد انما يفيد الظن فالقول فى آيات الكتاب كذلك، و ان كانت آيات الكتاب اثبتت عن علم مستفاد من روايه هذا العدد و نحوه، فالخبر مثل ذلك.

فاما مذهب المرتضى فى خبر الواحد فانه قول انفرد به عن سائر الشيعه، لان من قبله من فقهائهم ما عولوا فى الفقه الا على اخبار الاحاد كزراره، و يونس، و ابى بصير، و ابنى بابويه، و الحلبى، و ابى جعفر القمى و غيرهم، ثم من كان فى عصر المرتضى منهم كابى جعفر الطوسى و غيره، و قد تكلمت فى "اعتبار الذريعه" على ما اعتمد عليه فى هذه المساله، و اما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر انه ا ذا صح كون خبر الواحد حجه فى الشرع، جاز تخصيص الكتاب به، و هذا من فن اصول الفقه، فلا معنى لذكره هنا.

قال المرتضى رضى الله عنه: و هذا يسقط قول صاحب الكتاب: ان الشاهدين لو شهدا ان فى التركه حقا لكان يجب ان ينصرف عن الارث، و ذلك لان الشهاده و ان كانت مظنونه فالعمل بها يستند الى علم، لان الشريعه قد قررت العمل بالشهاده و لم تقرر العمل بخبر الواحد، و ليس له ان يقيس خبر الواحد على الشهاده من حيث اجتمعا فى غلبه الظن، لانا لانعمل على الشهاده من حيث غلبه الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعه العمل بها، الا ترى انا قد نظن بصدق الفاسق و المراه و الصبى و كثير ممن لايجوز العمل بقوله! فبان ان المعول فى هذا على المصلحه التى نستفيدها على طريق الجمله من دليل الشرع.

قال: و ابوبكر فى حكم المدعى لنفسه و الجار اليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب، و كذلك من شهد له ان كانت هناك شهاده، و ذلك ان ابابكر و سائر المسلمين سوى اهل بيت الرسول (ص) يحل لهم الصدقه، و يجوز ان يصيبوا فيها، و هذه تهمه فى الحكم و الشهاده.

قال: و ليس له ان يقول: فهذا يقتضى الا يقبل شهاده شاهدين فى تركه فيها صدقه لمثل ما ذكرتم.

قال: و ذلك لان الشاهدين اذا شهدا فى الصدقه فح ظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين، و ليس كذلك حال تركه الرسول، لان كونها صدقه يحرمها على ورثته، و يبيحها لسائر المسلمين.

قلت: هذا فرق غير موثر، اللهم الا ان يعنى به تهمه ابى بكر و الشهود السته فى جر النفع الى انفسهم يكون اكثر من تهمتهم لو شهدوا على ابى هريره مثلا ان ما تركه صدقه، لان اهل ابى هريره يشاركون فى القسمه، و اهل النبى (ص) لايشاركون الشهود فيما يصيبهم، اذ هم لاتحل لهم الصدقه، فتكون حصه ابى بكر و الشهود مما تركه رسول الله اكثر من حصتهم مما يتركه ابوهريره، فيكون تطرق التهمه الى ابى بكر و الشهود اكثر حسب زياده حصتهم، و ما وقفت للمرتضى على شى ء اطرف من هذا، لان رسول الله (ص) مات و المسلمون اكثر من خمسين الف انسان، لانه قاد فى غزاه تبوك عشرين الفا، ثم وفدت اليه الوفود كلها بعد ذلك، فليت شعرى كم مقدار ما يتوفر على ابى بكر و سته نفر معه، و هم من جمله خمسين الفا، بين ما اذا كان بنوهاشم و بنو المطلب- و هم حينئذ عشره نفر- لاياخذون حصه، و بين ما اذا كانوا ياخذون! اترى ايكون المتوفر على ابى بكر و شهوده من التركه عشر عشر درهم! ما اظن انه يبلغ ذلك.

و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على ابى هريره اذا شركهم اه له فى التركه، لتكون هذه القله موجبه رفع التهمه، و تلك الزياده و الكثره موجبه حصول التهمه! و هذا الكلام لا ارتضيه للمرتضى.

قال المرتضى رضى الله عنه: و اما قوله: يخص القرآن بالخبر كما خصصناه فى العبد و القاتل، فليس بشى ء، لانا انما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم، و ليس هذا موجودا فى الخبر الذى ادعاه.

فاما قوله: و ليس ذلك ينقص الانبياء، بل هو اجلال لهم، فمن الذى قال له: ان فيه نقصا! و كما انه لا نقص فيه، فلا اجلال فيه و لا فضيله، لان الداعى و ان كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثه، فقد يقويه ايضا اراده صرفه فى وجوه الخير و البر، و كلا الامرين يكون داعيا الى تحصيل المال، بل الداعى الذى ذكرناه اقوى فيما يتعلق بالدين.

قال: و اما قوله: ان فاطمه لما سمعت ذلك كفت عن الطلب، فاصابت اولا و اصابت ثانيا، فلعمرى انها كفت عن المنازعه و المشاحه، لكنها انصرفت مغضبه متظلمه متالمه، و الامر فى غضبها و سخطها اظهر من ان يخفى على منصف، فقد روى اكثر الرواه الذين لايتهمون بتشيع و لا عصبيه فيه من كلامها فى تلك الحال، و بعد انصرافها عن مقام المنازعه و المطالبه، ما يدل على ما ذكرناه من سخطها و غضبها.

اخبرنا ابوعبيدالله محمد بن عمران المرزبانى قال: حدثنى محمد بن احمد الكاتب، قال: حدثنا احمد بن عبيد بن ناصح النحوى، قال: حدثنى الزيادى، قال: حدثنا الشرقى ابن القطامى، عن محمد بن اسحاق، قال: حدثنا صالح بن كيسان، عن عروه، عن عائشه، قالت: لما بلغ فاطمه اجماع ابى بكر على منعها فدك لاثت خمارها على راسها، و اشتملت بجلبابها، و اقبلت فى لمه من حفدتها... قال المرتضى: و اخبرنا المرزبانى قال: حدثنا ابوبكر احمد بن محمد المكى قال: حدثنا ابوالعيناء بن القاسم اليمانى قال: حدثنا ابن عائشه، قال: لما قبض رسول الله (ص) اقبلت فاطمه الى ابى بكر فى لمه من حفدتها.

ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا... و نساء قومها تطا ذيولها ما تخرم مشيتها مشيه رسول الله (ص) حتى دخلت على ابى بكر و هو فى حشد من المهاجرين و الانصار و غيرهم، فنيطت دونها ملائه، ثم انت انه اجهش لها القوم بالبكاء، و ارتج المجلس، ثم امهلت هنيهه حتى اذا سكن نشيج القوم و هدات فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء عليه، و الصلاه على رسول الله (ص)، ثم قالت: (لقد جائكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رئوف رحيم)، فان تعزوه تجدوه ابى دون آبائكم، و اخا ابن عمى دون رجالكم، فبل غ الرساله صادعا بالنذاره، مائلا عن سنن المشركين، ضاربا ثبجهم، يدعو الى سبيل ربه بالحكمه و الموعظه الحسنه، آخذا باكظام المشركين، يهشم الاصنام، و يفلق الهام، حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر، و حتى تفرى الليل عن صبحه، و اسفر الحق عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقائق الشياطين، و تمت كلمه الاخلاص، و كنتم على شفا حفره من النار، نهزه الطامع، و مذقه الشارب، و قبسه العجلان، و موطا الاقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون القد، اذله خاسئين، يختطفكم الناس من حولكم، حتى انقذكم الله برسوله (ص) بعد اللتيا و التى، و بعد ان منى بهم الرجال و ذوبان العرب و مرده اهل الكتاب، و (كلما اوقدوا نارا للحرب اطفاها الله)، او نجم قرن الشيطان، او فغرت فاغره قذف اخاه فى لهواتها.

و لاينكفى حتى يطا صماخها باخمصه و يطفى ء عاديه لهبها بسيفه- او قالت: يخمد لهبها بحده- مكدودا فى ذات الله، و انتم فى رفاهيه فكهون آمنون وادعون.

الى هنا انتهى خبر ابى العيناء عن ابن عائشه و اما عروه عن عائشه، فزاد بعد هذا، حتى اذا اختار الله لنبيه دار انبيائه، ظهرت حسيكه النفاق، و شمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين، و نبغ خامل الافكين، و هدر فنيق المبطلين، فخطر فى عرصاتكم، و اطلع الشيطان راسه صارخا بكم، فدعاكم فالفاكم لدعوته مستجيبين، و لقربه متلاحظين.

ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، و احمشكم فالفاكم غضاب، ا فوسمتم غير ابلكم، و وردتم غير شربكم، هذا و العهد قريب، و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل، انما زعمتم ذلك خوف الفتنه، (الا فى الفتنه سقطوا و ان جهنم لمحيطه بالكافرين)، فهيهات! و انى بكم و انى توفكون، و كتاب الله بين اظهركم، زواجره بينه، و شواهده لائحه، و اوامره واضحه.

ارغبه عنه تريدن، ام لغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلا! و من يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه و هو فى الاخره من الخاسرين.

ثم لم تلبثوا الا ريث ان تسكن نفرتها، تسرون حسوا فى ارتغاء، و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى، و انتم الان تزعمون ان لا ارث لنا، (افحكم الجاهليه يبغون و من احسن من الله حكما لقوم يوقنون).

يابن ابى قحافه، اترث اباك و لا ارث ابى، لقد جئت شيئا فريا! فدونكها مخطومه مرحوله، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، و الزعيم، محمد، و الموعد القيامه، و عند الساعه يخسر المبطلون! ثم انكفات الى قبر ابيها (ع)، فقالت: قد كان بعدك انباء و هنبثه لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب اذا فقدناك فقد الارض وابلها و اختل قومك فاشهده م و لاتغب و روى حرمى بن ابى العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا: فليت بعدك كان الموت صادفنا لما قضيت و حالت دونك الكتب قال: فحمد ابوبكر الله و اثنى عليه و صلى على رسوله (ص) و قال: يا خير النساء، و ابنه خير الاباء، و الله ما عدوت راى رسول الله (ص)، و لا عملت الا باذنه، و ان الرائد لايكذب اهله، و انى اشهد الله و كفى بالله شهيدا، انى سمعت رسول الله يقول، (انا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا، و لا فضه و لا دارا و لا عقارا، و انما نورث الكتاب و الحكمه و العلم و النبوه).

قال: فلما وصل الامر الى على بن ابى طالب (ع) كلم فى رد فدك، فقال: انى لاستحيى من الله ان ارد شيئا منع منه ابوبكر و امضاه عمر.

قال المرتضى: و اخبرنا ابوعبدالله المرزبانى: قال: حدثنى على بن هارون، قال: اخبرنى عبيدالله بن احمد بن ابى طاهر، عن ابيه قال: ذكرت لابى الحسين زيد بن على بن الحسين بن على بن ابى طالب (ع) كلام فاطمه (ع) عند منع ابى بكر اياها فدك، و قلت له: ان هولاء يزعمون انه مصنوع و انه من كلام ابى العيناء، لان الكلام منسوق البلاغه، فقال لى: رايت مشايخ آل ابى طالب يروونه عن آبائهم و يعلمونه اولادهم، و قد حدثنى به ابى عن جدى يبلغ به فاطمه (ع) عل ى هذه الحكايه، و قد رواه مشايخ الشيعه و تدارسوه قبل ان يوجد جد ابى العيناء، و قد حدث الحسين بن علوان، عن عطيه العوفى، انه سمع عبدالله بن الحسن بن الحسن يذكر عن ابيه هذا الكلام.

ثم قال ابوالحسن زيد: و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمه (ع)، و هم يروون من كلام عائشه عند موت ابيها ما هو اعجب من كلام فاطمه (ع) و يحققونه لو لا عداوتهم لنا اهل البيت.

ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه، و زاد فى الابيات بعد البيتين الاولين: ضاقت على بلادى بعد ما رحبت وسم سبطاك خسفا فيه لى نصب فليت قبلك كان الموت صادفنا قوم تمنوا فاعطوا كل ما طلبوا تجهمتنا رجال و استخف بنا مذ غبت عنا و كل الارث قد غصبوا قال: فما راينا يوما اكثر باكيا او باكيه من ذلك اليوم.

قال المرتضى: و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفه، و وجوه كثيره، فمن ارادها اخذها من مواضعها، فكيف يدعى انها (ع) كفت راضيه، و امسكت قانعه، لو لا البهت و قله الحياء! قلت: ليس فى هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضى القضاه، لانه ادعى انها نازعت و خاصمت ثم كفت لما سمعت الروايه و انصرفت، تاركه للنزاع، راضيه بموجب الخبر المروى.

و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام لايدل الا عل ى سخطها حال حضورها، و لايدل على انها بعد روايه الخبر و بعد ان اقسم لها ابوبكر بالله تعالى انه ما روى عن رسول الله (ص) الا ما سمعه منه، انصرفت ساخطه، و لا فى الحديث المذكور و الكلام المروى ما يدل على ذلك، و لست اعتقد انها انصرفت راضيه كما قال قاضى القضاه، بل اعلم انها انصرفت ساخطه، و ماتت و هى على ابى بكر واجده، و لكن لا من هذا الخبر، بل من اخبار اخر، كان الاولى بالمرتضى ان يحتج بها على ما يرويه فى انصرافها ساخطه، و موتها على ذلك السخط، و اما هذا الخبر و هذا الكلام فلايدل على هذا المطلوب.

قال المرتضى رحمه الله: فاما قوله: انه يجوز ان يبين (ع) انه لا حق لميراثه فى ورثته لغير الورثه، و لايمتنع ان يرد من جهه الاحاد، لانه من باب العمل، و كل هذا بناء منه على اصوله الفاسده فى ان خبر الواحد حجه فى الشرع، و ان العمل به واجب، و دون صحه ذلك خرط القتاد، و انما يجوز ان يبين من جهه اخرى اذا تساويا فى الحجه و وقوع العمل، فاما مع تباينهما فلايجوز التخيير فيهما، و اذا كان ورثه النبى (ص) متعبدين بالا يرثوه، فلابد من ازاحه علتهم فى هذه العباده بان يوقفهم على الحكم، و يشافههم به، و يلقيه الى من يقيم الحجه عليهم بنقله، و كل ذلك لم يكن.

فاما قوله: اتجوزون صدقه فى الروايه ام لاتجوزون ذلك؟ فالجواب انا لا نجوزه، لان كتاب الله اصدق منه، و هو يدفع روايته و يبطلها، فاما اعتراضه على قولنا: ان اطلاق الميراث لايكون الا فى الاموال بقوله تعالى: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).

و قولهم: ما ورثت الابناء من الاباء شيئا افضل من ادب حسن، و قولهم: العلماء ورثه الانبياء، فعجيب، لان كل ما ذكر مقيد غير مطلق، و انما قلنا ان مطلق لفظ الميراث من غير قرينه و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الاموال، فبعد ما ذكره و عارض به لايخفى على متامل.

فاما استدلاله على ان سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله: (يا ايها الناس علمنا منطق الطير و اوتينا من كل شى ء ان هذا لهو الفضل المبين) و ان المراد انه ورث العلم و الفضل، و الا لم يكن لهذا القول تعلق بالاول، فليس بشى ء يعول عليه، لانه لايمتنع ان يريد به انه ورث المال بالظاهر و العلم بهذا المعنى من الاستدلال، فليس يجب اذا دلت الدلاله فى بعض الالفاظ على معنى المجاز ان يقتصر بها عليه، بل يجب ان يحملها على الحقيقه التى هى الاصل اذا لم يمنع من ذلك مانع، على انه لايمتنع ان يريد ميراث المال خاصه، ثم يقول مع ذلك: (انا علمنا منطق الطير)، و يشير (الفضل المبين) الى العلم و المال جميعا، فله بالامرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما، و قوله: (و اوتينا من كل شى ء) يحتمل المال كما يحتمل العلم، فليس بخالص ما ظنه.

فاما قوله فى قصه زكريا: انه خاف على العلم ان يندرس، لان الانبياء و ان كانوا لايحرصون على الاموال، و انما خاف ان يضيع العلم، فسال الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه، فقد بينا ان الانبياء و ان كانوا لايحرصون على الاموال و لايبخلون بها، فانهم يجتهدون فى منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد، و لايعد ذلك بخلا و لا حرصا، بل فضلا و دينا، و ليس يجوز من زكريا ان يخاف على العلم الاندراس و الضياع، لانه يعلم ان حكمه الله تعالى تقتضى حفظ العلم الذى هو الحجه على العباد، و به تنزاح عللهم فى مصالحهم، فكيف يخاف ما لايخاف من مثله! فان قيل: فهبوا ان الامر كما ذكرتم من ان زكريا كان يامن على العلم ان يندرس، اليس لابد ان يكون مجوزا ان يحفظه الله تعالى بمن هو من اهله و اقاربه، كما يجوز حفظه بغريب اجنبى! فما انكرتم ان يكون خوفه انما كان من بنى عمه الا يتعلموا العلم و لايقوموا فيه مقامه، فسال الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لايخرج العلم عن بيته، و يت عدى الى غير قومه، فيلحقه بذلك وصمه! قلنا: اما اذا رتب السوال هذا الترتيب، فالجواب عنه ما اجبنا به صاحب الكتاب، و هو ان الخوف الذى اشاروا اليه ليس من ضرر دينى، و انما هو من ضرر دنياوى، و الانبياء انما بعثوا لتحمل المضار الدنياويه، و منازلهم فى الثواب انما زادت على كل المنازل لهذا الوجه، و من كانت حاله هذه الحال، فالظاهر من خوفه اذا لم يعلم وجهه بعينه ان يكون محمولا على مضار الدين، لانها هى جهه خوفهم، و الغرض فى بعثهم تحمل ما سواها من المضار، فاذا قال النبى (ص): (انا خائف)، فلم يعلم جهه خوفه على التفصيل، يجب ان يصرف خوفه بالظاهر الى مضار الدين دون الدنيا، لان احوالهم و بعثهم يقتضى ذلك، فاذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد فى الدنيا و اسبابها، و التعفف عن منافعها، و الرغبه فى الاخره، و التفرد بالعمل لها، لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذى لايعلم وجهه بعينه على ما هو اشبه و اليق بحاله، و نضيفه الى الاخره دون الدنيا، و اذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو فى الانبياء (ع) اوجب.

قلت: ينبغى الا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمه، فيجعل الخوف من هذه الوصمه، بل يقول: انه خاف الا يفلح بنو عمه و لايتعلموا العلم، لما راى من الا مارات الداله على ذلك، فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بامر دينى لا دنيوى، فسال الله تعالى ان يرزقه ولدا يرث عنه علمه، اى يكون عالما بالدينيات كما انا عالم بها.

و هذا السوال متعلق بامر دينى لا دنيوى.

و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى، على انه لايجوز اطلاق القول بان الانبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياويه، و لا القول: الغرض فى بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينيه من المضار، فانهم ما بعثوا لذالك، و لا الغرض فى بعثتهم ذلك، و انما بعثوا لامر آخر.

و قد تحصل المضار فى اداء الشرع ضمنا و تبعا، لا على انها الغرض، و لا داخله فى الغرض، و على ان قول المرتضى: لايجوز ان يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره، لانه محفوظ من الله، فكيف يخاف ما لايخاف من مثله، غير مستمر على اصوله! لان المكلفين الان قد حرموا بغيبه الامام عنده الطافا كثيره الوصله بالشرعيات كالحدود و صلاه الجمعه و الاعياد، و هو و اصحابه يقولون فى ذلك ان اللوم على المكلفين، لانهم قد حرموا انفسهم اللطف، فهلا جاز ان يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره، و افساد الاحكام الشرعيه! لانه انما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول الى المكلفين فاذا افسدوا هم الاديان و بدلوها لم يجب عليه ان يحفظها عليهم، لانهم هم الذين حرموا انفسهم اللطف.

و اعلم انه قد قرى ء: (و انى خفت الموالى من ورائى)، و قيل: انها قرائه زين العابدين و ابنه محمد بن على الباقر (ع) و عثمان بن عفان.

و فسروه على وجهين: احدهما ان يكون (ورائى) بمعنى خلفى و بعدى، اى قلت الموالى و عجزوا عن اقامه الدين، تقول: قد خف بنو فلان، اى قل عددهم، فسال زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولى يرزقه.

و ثانيهما ان يكون (ورائى) بمعنى قدامى، اى خف الموالى و انا حى و درجوا و انقرضوا، و لم يبق منهم من به اعتضاد، و على هذه القرائه لايبقى متعلق بلفظه الخوف.

و قد فسر قوم قوله: (و انى خفت الموالى)، اى خفت الذين يلون الامر من بعدى، لان الموالى يستعمل فى الوالى، و جمعه موال، اى خفت ان يلى بعد موتى امراء و روساء يفسدون شيئا من الدين، فارزقنى ولدا تنعم عليه بالنبوه و العلم، كما انعمت على، و اجعل الدين محفوظا (به)، و هذا التاويل غير منكر، و فيه ايضا دفع لكلام المرتضى.

قال المرتضى: و اما تعلق صاحب الكتاب فى ان الميراث محمول على العلم بقوله: (و يرث من آل يعقوب)، لانه لايرث اموال آل يعقوب فى الحقيقه و انما يرث ذلك غيره، فبعيد من الصواب، لان ولد زكريا يرث بالقرابه من آل يعقوب اموالهم، على انه لم يقل: (يرث آل يعقوب)، بل قال: (يرث من آل يعقوب)، تنبيها بذلك على انه يرث من كان احق بميراثه فى القرابه.

فاما طعنه على من تاول الخبر بانه (ع) لايورث، ما تركه للصدقه بقوله: ان احدا من الصحابه لم يتاوله على هذا الوجه، فهذا التاويل الذى ذكرناه احد ما قاله اصحابنا فى هذا الخبر، فمن اين له اجماع الصحابه على خلافه! و ان احدا لم يتاوله على هذا الوجه.

فان قال: لو كان ذلك لظهر و اشتهر، و لوقف ابوبكر عليه، فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقه على هذا المعنى ما فيه كفايه.

قلت: لم يكن ذلك اليوم- اعنى يوم حضور فاطمه (ع)، و قولها لابى بكر ما قالت- يوم تقيه و خوف، و كيف يكون يوم تقيه و هى تقول له- و هو الخليفه: يابن ابى قحافه، اترث اباك و لا ارث ابى! و تقول له ايضا: لقد جئت شيئا فريا! فكان ينبغى اذا لم يوثر اميرالمومنين (ع) ان يفسر لابى بكر معنى الخبر ان يعلم فاطمه (ع) السلام تفسيره، فتقول لابى بكر: انت غالط فيما ظننت، انما قال ابى: ما تركناه صدقه، فانه لايورث.

و اعلم ان هذا التاويل كاد يكون مدفوعا بالضروره، لان من نظر فى الاحاديث التى ذكرناها و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا.

قال المرت ضى: و قوله انه لايكون اذ ذلك تخصيص للانبياء و لا مزيه: ليس بصحيح: و قد قيل فى الجواب عن هذا: ان النبى (ص) يجوز ان يريد ان ما ننوى فيه الصدقه، و نفرده لها من غير ان نخرجه عن ايدينا لاتناله ورثتنا.

و هذا تخصيص للانبياء و مزيه ظاهره.

قلت: هذه مخالفه لظاهر الكلام، و احاله اللفظ عن وضعه، و بين قوله: ما ننوى فيه الصدقه، و هو بعد فى ملكنا ليس بموروث، و قوله: ما نخلفه صدقه ليس بموروث فرق عظيم، فلايجوز ان يراد احد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الاخر، لانه الباس و تعميه.

و ايضا، فان العلماء ذكروا خصائص الرسول فى الشرعيات عن امته و عددوها، نحو حل الزياده فى النكاح على اربع، و نحو النكاح بلفظ الهبه على قول فرقه من المسلمين، و نحو تحريم اكل البصل و الثوم عليه، و اباحه شرب دمه، و غير ذلك، و لم يذكروا فى خصائصه انه اذا كان قد نوى ان يتصدق بشى ء فانه لايناله ورثته، لو قدرنا انه يورث الاموال، و لا الشيعه قبل المرتضى ذكرت ذلك، و لا راينا فى كتاب من كتبهم، و هو مسبوق باجماع طائفته عليه، و اجماعهم عندهم حجه.

قال المرتضى: فاما قوله: ان قوله (ع): ما تركناه صدقه: جمله من الكلام مستقله بنفسها، فصحيح اذا كانت لفظه (ما) مرفوعه على ال ابتداء، و لم تكن منصوبه بوقوع الفعل عليها، و كانت لفظه (صدقه) ايضا مرفوعه غير منصوبه، و فى هذا وقع النزاع، فكيف يدعى انها جمله مستقله بنفسها! و اقوى ما يمكن ان نذكره ان نقول: الروايه جائت بلفظ (صدقه) بالرفع، و على ما تاولتموه لاتكون الا منصوبه، و الجواب عن ذلك انا لانسلم الروايه بالرفع، و لم تجر عاده الرواه بضبط ما جرى هذا المجرى من الاعراب، و الاشتباه يقع فى مثله، فمن حقق منهم و صرح بالروايه بالرفع يجوز ان يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعه، و هى منصوبه.

قلت: و هذا ايضا خلاف الظاهر، و فتح الباب فيه يودى الى افساد الاحتجاج بكثير من الاخبار.

قال: و اما حكايته عن ابى على ان ابابكر لم يدفع الى اميرالمومنين (ع) السيف و البغله و العمامه على جهه الارث، و قوله: كيف يجوز ذلك مع الخبر الذى رواه! و كيف خصصه بذلك دون العم الذى هو العصبه! فما نراه زاد على التعجب، و مما عجب منه عجبنا، و لم يثبت عصمه ابى بكر فينتفى عن افعاله التناقض.

قلت: لايشك احد فى ان ابابكر كان عاقلا، و ان شك قوم فى ذلك فالعاقل فى يوم واحد لايدفع فاطمه (ع) عن الارث و يقول: ان اباك قال لى: اننى لا اورث ثم يورث فى ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذى حكى عنه انه لايورث و ليس انتفاء هذا التناقض عن افعاله موقوفا على العصمه، بل على العقل.

قال المرتضى: و قوله يجوز ان يكون النبى (ص) نحله اياه و تركه ابوبكر فى يده- لما فى ذلك من تقويه الدين- و تصدق ببدله، و كل ما ذكره جائز، الا انه قد كان يجب ان يظهر اسباب النحله و الشهاده بها، و الحجه عليها، و لم يظهر من ذلك شى ء فنعرفه، و من العجائب ان تدعى فاطمه فدك نحله، و تستشهد على قولها اميرالمومنين (ع) و غيره، فلايصغى الى قولها، و يترك السيف و البغله و العمامه فى يد اميرالمومنين على سبيل النحله بغير بينه ظهرت، و لا شهاده قامت! قلت: لعل ابابكر سمع الرسول (ص) و هو ينحل ذلك عليا (ع)، فلذلك لم يحتج الى البينه و الشهاده، فقد روى انه اعطاه خاتمه و سيفه فى مرضه و ابوبكر حاضر، و اما البغله فقد كان نحله اياها فى حجه الوداع على ما وردت به الروايه، و اما العمامه فسلب الميت، و كذلك القميص و الحجزه و الحذاء، فالعاده ان ياخذ ذلك ولد الميت، و لاينازع فيه لانه خارج، او كالخارج عن التركه، فلما غسل (ع) اخذت ابنته ثيابه التى مات فيها، و هذه عاده الناس، على انا قد ذكرنا فى الفصل الاول كيف دفع اليه آله النبى (ص) و حذائه و دابته، و الظاهر انه ف عل ذلك اجتهادا لمصلحه رآها، و للامام ان يفعل ذلك.

قال المرتضى: على انه كان يجب على ابى بكر ان يبين ذلك، و يذكر وجهه بعينه، لما نازع العباس فيه، فلا وقت لذكر الوجه فى ذلك اولى من هذا الوقت.

قلت: لم ينازع العباس فى ايام ابى بكر، لا فى البغله و العمامه و نحوها، و لا فى غير ذلك، و انما نازع عليا فى ايام عمر، و قد ذكرنا كيفيه المنازعه، و فيما ذا كانت.

قال المرتضى رضى الله عنه فى البرده و القضيب: ان كان نحله، او على الوجه الاخر، يجرى مجرى ما ذكرناه فى وجوب الظهور و الاستشهاد، و لسنا نرى اصحابنا- يعنى المعتزله- يطالبون انفسهم فى هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله اذا ادعينا وجوها و اسبابا و عللا مجوزه، لانهم لايقنعون منا بما يجوز و يمكن، بل يوجبون فيما ندعيه الظهور و الاستشهاد، و اذا كان هذا عليهم نسوه او تناسوه.

قلت: اما القضيب فهو السيف الذى نحله رسول الله (ص) عليا (ع) فى مرضه، و ليس بذى الفقار، بل هو سيف آخر، و اما البرده فانه وهبها كعب ابن زهير، ثم صار هذا السيف و هذه البرده الى الخلفاء، بعد تنقلات كثيره مذكوره فى كتب التواريخ.

قال المرتضى: فاما قوله: فان ازواج النبى (ص) انما طلبن الميراث لانهن لم يعرفن روايه ابى بكر للخبر، و كذلك انما نازع على (ع) بعد موت فاطمه (ع) فى الميراث لهذا الوجه، فمن اقبح ما يقال فى هذا الباب و ابعده عن الصواب! و كيف لايعرف اميرالمومنين (ع) روايه ابى بكر، و بها دفعت زوجته عن الميراث! و هل مثل ذلك المقام الذى قامته، و ما رواه ابوبكر فى دفعها يخفى على من هو فى اقاصى البلاد، فضلا عمن هو فى المدينه حاضر شاهد يراعى الاخبار، و يعنى بها! ان هذا لخروج فى المكابره عن الحد! و كيف يخفى على الازواج ذلك حتى يطلبنه مره بعد اخرى، و يكون عثمان الرسول لهن، و المطالب عنهن، و عثمان على زعمهم احد من شهد ان النبى (ص) لايورث، و قد سمعن على كل حال ان بنت النبى (ص) لم تورث ماله و لابد ان يكن قد سالن عن السبب فى دفعها، فذكر لهن الخبر، فكيف يقال: انهن لم يعرفنه! قلت: الصحيح ان اميرالمومنين (ع) لم ينازع بعد موت فاطمه فى الميراث، و انما نازع فى الولايه لفدك و غيرها من صدقات رسول الله (ص)، و جرى بينه و بين العباس فى ذلك ما هو مشهور، و اما ازواج النبى (ص) فما ثبت انهن نازعن فى ميراثه، و لا ان عثمان كان المرسل لهن، و المطالب عنهن، الا فى روايه شاذه، و الازواج لما عرفن ان فاطمه (ع) قد دفعت عن الميراث امسكن، و لم يكن قد ناز عن، و انما اكتفين بغيرهن، و حديث فدك و حضور فاطمه عند ابى بكر كان بعد عشره ايام من وفاه رسول الله (ص)، و الصحيح انه لم ينطق احد بعد ذلك من الناس من ذكر او انثى بعد عود فاطمه (ع) من ذلك المجلس بكلمه واحده فى الميراث.

قال المرتضى: فان قيل: فاذا كان ابوبكر قد حكم بالخطا فى دفع فاطمه (ع) عن الميراث، و احتج بخبر لا حجه فيه، فما بال الامه اقرته على هذا الحكم، و لم تنكر عليه، و فى رضاها و امساكها دليل على صوابه!.

قلت: قد مضى ان ترك النكير لايكون دليل الرضا الا فى هذا الموضع الذى لايكون له وجه سوى الرضا، و ذكرنا فى ذلك قولا شافيا، و قد اجاب ابوعثمان الجاحظ فى كتاب "العباسيه" عن هذا السوال جوابا حسن المعنى و اللفظ، نحن نذكره على وجهه، ليقابل بينه و بين كلامه فى العثمانيه و غيرها.

قلت: ما كناه المرتضى رحمه الله فى غير هذا الموضع اصلا، بل كان ساخطا عليه، و كناه فى هذا الموضع، و استجاد قوله، لانه موافق غرضه، فسبحان الله، ما اشد حب الناس لعقائدهم! قال: قال ابوعثمان: و قد زعم اناس ان الدليل على صدق خبرهما- يعنى ابابكر و عمر- فى منع الميراث و برائه ساحتهما، ترك اصحاب رسول الله (ص) النكير عليهما.

ثم قال: قد يقال لهم: لئن كا ن ترك النكير دليلا على صدقهما، ليكونن ترك النكير على المتظلمين و المحتجين عليهما، و المطالبين لهما، دليلا على صدق دعواهم، او استحسان مقالتهم، و لا سيما و قد طالت المناجاه، و كثرت المراجعه و الملاحاه، و ظهرت الشكيه، و اشتدت الموجده.

و قد بلغ ذلك من فاطمه (ع)، حتى انها اوصت الا يصلى عليها ابوبكر، و لقد كانت قالت له حين اتته طالبه بحقها، و محتجه لرهطها: من يرثك يا ابابكر اذا مت؟ قال: اهلى و ولدى، قالت: فما بالنا لا نرث النبى (ص)! فلما منعها ميراثها و بخسها حقها و اعتل عليها و جلح فى امرها، و عاينت التهضم، و ايست من التورع، و وجدت نشوه الضعف و قله الناصر، قالت: و الله لادعون الله عليك، قال: و الله لادعون الله لك، قالت: و الله لا اكلمك ابدا، قال: و الله لا اهجرك ابدا.

فان يكن ترك النكير على ابى بكر دليلا على صواب منعها ان فى ترك النكير على فاطمه (ع) دليلا على صواب طلبها! و ادنى ما كان يجب عليهم فى ذلك تعريفها ما جهلت، و تذكيرها ما نسيت، و صرفها عن الخطا و رفع قدرها عن البذاء، و ان تقول هجرا، او تجور عادلا، او تقطع واصلا، فاذا لم تجدهم انكروا على الخصمين جميعا فقد تكافات الامور، و استوت الاسباب، و الرجوع الى اصل ح كم الله من المواريث اولى بنا و بكم، و اوجب علينا و عليكم.

قال: فان قالوا: كيف تظن به ظلمها و التعدى عليها! و كلما ازدادت عليه غلظه ازداد لها لينا و رقه، حيث تقول له: و الله لا اكلمك ابدا، فيقول: و الله لا اهجرك ابدا، ثم تقول: و الله لادعون الله عليك، فيقول: و الله لادعون الله لك، ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ، و القول الشديد فى دار الخلافه، و بحضره قريش و الصحابه، مع حاجه الخلافه الى البهاء و التنزيه، و ما يجب لها من الرفعه و الهيبه، ثم لم يمنعه ذلك ان قال معتذرا متقربا، كلام المعظم لحقها، المكبر لمقامها، و الصائن لوجهها، المتحنن عليها: ما احد اعز على منك فقرا، و لااحب الى منك غنى، و لكنى سمعت رسول الله (ص) يقول: (انا معاشر الانبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقه)! قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البرائه من الظلم، و السلامه من الجور، و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر اذا كان اريبا، و للخصومه معتادا، ان يظهر كلام المظلوم، و ذله المنتصف و حدب الوامق، و مقه المحق.

و كيف جعلتم ترك النكير حجه قاطعه، و دلاله واضحه، و قد زعمتم ان عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص): متعه النساء، و متعه الحج، انا انهى عنهما، و اعاقب عليهما، فما وجدتم احدا انكر قوله، و لا استشنع مخرج نهيه، و لا خطاه فى معناه، و لا تعجب منه، و لا استفهمه! و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفه و بعد ذلك ان النبى (ص) قال: (الائمه من قريش)، ثم قال فى شكاته: لو كان سالم حيا ما تخالجنى فيه شك، حين اظهر الشك فى استحقاق كل واحد من السته الذين جعلهم شورى، و سالم عبد لامراه من الانصار، و هى اعتقته، و حازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، و لا قابل انسان بين قوله، و لا تعجب منه، و انما يكون ترك النكير على من لا رغبه و لا رهبه عنده دليلا على صدق قوله، و صواب عمله، فاما ترك النكير على من يملك الضعه و الرفعه، و الامر و النهى، و القتل و الاستحياء، و الحبس و الاطلاق، فليس بحجه تشفى، و لا دلاله تضى ء.

قال: و قال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما، و صواب عملهما، امساك الصحابه عن خلعهما، و الخروج عليهما، و هم الذين وثبوا على عثمان فى ايسر من جحد التنزيل، و رد النصوص، و لو كان كما تقولون و ما تصفون، ما كان سبيل الامه فيهما الا كسبيلهم فيه، و عثمان كان اعز نفرا، و اشرف رهطا، و اكثر عددا و ثروه، و اقوى عده.

قلنا: انهما لم يجحدا التنزيل، و لم ينكرا النصوص، و لكنهما بعد اقرارهما بحكم الميراث و ما عليه الظاهر من الشريعه ادعيا روايه، و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه، و لا ممتنعا فى حجج العقول مجيئه، و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه: و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل اذا كان عدلا فى رهطه، مامونا فى ظاهره، و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجره، و لا جرت عليه غدره، فيكون تصديقه له على جهه حسن الظن، و تعديل الشاهد، و لانه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج، و الذى يقطع بشهادته على الغيب، و كان ذلك شبهه على اكثرهم، فلذلك قل النكير و تواكل الناس، فاشتبه الامر، فصار لايتخلص الى معرفه حق ذلك من باطله الا العالم المتقدم، او المويد المرش، د و لانه لم يكن لعثمان فى صدور العوام و قلوب السفله و الطغام ما كان لهما من المحبه و الهيبه، و لانهما كانا اقل استئثارا بالفى ء، و تفضلا بمال الله منه، و من شان الناس اهمال السلطان ما وفر عليهم اموالهم، و لم يستاثر بخراجهم، و لم يعطل ثغورهم.

و لان الذى صنع ابوبكر من منع العتره حقها، و العمومه ميراثها، قد كان موافقا لجله قريش و كبراء العرب، و لان عثمان ايضا كان مضعوفا فى نفسه، مستخفا بقدره، لايمنع ضيما، و لايقمع عدوا، و لقد وثب ناس على عثم ان بالشتم و القذف و التشنيع و النكير، لامور لو اتى اضعافها و بلغ اقصاها لما اجترئوا على اغتيابه، فضلا على مباداته و الاغراء به و مواجهته، كما اغلظ عيينه بن حصن له فقال له: اما انه لو كان عمر لقمعك و منعك، فقال عيينه: ان عمر كان خيرا لى منك، ارهبنى فاتقانى.

ثم قال: و العجب انا وجدنا جميع من خالفنا فى الميراث على اختلافهم فى التشبيه و القدر و الوعيد يرد كل صنف منهم من احاديث مخالفيه و خصومه ما هو اقرب اسنادا، و اصح رجالا، و احسن اتصالا، حتى اذا صاروا الى القول فى ميراث النبى (ص) نسخوا الكتاب، و خصوا الخبر العام بما لا يدانى بعض ما ردوه، و اكذبوا قائليه، و ذلك ان كل انسان منهم انما يجرى الى هواه، و يصدق ما وافق رضاه.

هذا آخر كلام الجاحظ.

ثم قال المرتضى رضى الله عنه: فان قيل: ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير، و قوله: كما لم ينكروا على ابى بكر، فلم ينكروا ايضا على فاطمه (ع) و لا على غيرها من الطالبين بالارث، كالازواج و غيرهن معارضه صحيحه، و ذلك ان نكير ابى بكر لذلك، و دفعها و الاحتجاج عليها، و يكفيهم و يغنيهم عن تكلف نكير آخر، و لم ينكر على ابى بكر ما رواه منكر فيستغنوا بانكاره.

قلنا: اول ما يبطل هذا السوال ان ابابكر لم ينكر عليها ما اقامت عليه بعد احتجاجها من التظلم و التالم، و التعنيف و التبكيت، و قولها على ما روى: و الله لادعون الله عليك، و لا اكلمك ابدا، و ما جرى هذا المجرى، فقد كان يجب ان ينكره غيره، و من المنكر الغضب على المنصف.

و بعد فان كان انكار ابى بكر مقنعا و مغنيا عن انكار غيره من المسلمين فانكار فاطمه حكمه، و مقامها على التظلم منه.

مغن عن نكير غيرها، و هذا واضح.

(الفصل الثالث) فى ان فدك هل صح كونها نحله رسول الله (ص) لفاطمه (ع) ام لا؟ نذكر فى هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضى القضاه فى "المغنى"، و ما اعترض به عليه، ثم نذكر ما عندنا فى ذلك.

قال المرتضى حاكيا عن قاضى القضاه: و مما عظمت الشيعه القول فى امر فدك، قالوا: و قد روى ابوسعيد الخدرى انه لما انزلت: (و آت ذا القربى حقه)، اعطى رسول الله (ص) فاطمه (ع) فدك، ثم فعل عمر بن عبدالعزيز مثل ذلك، فردها على ولدها.

قالوا: و لا شك ان ابابكر اغضبها، ان لم يصح كل الذى روى فى هذا الباب، و قد كان الاجمل ان يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين، ثم ذكروا انها استشهدت اميرالمومنين (ع) و ام ايمن، فلم يقبل شهادتهما، هذا مع تركه ازواج النبى (ص) ف ى حجرهن، و لم يجعلها صدقه، و صدقهن فى ذلك ان ذلك لهن و لم يصدقها.

قال: و الجواب عن ذلك ان اكثر ما يروون فى هذا الباب غير صحيح، و لسنا ننكر صحه ما روى من ادعائها فدك، فاما انها كانت فى يدها فغير مسلم، بل ان كانت فى يدها لكان الظاهر انها لها، فاذا كانت فى جمله التركه فالظاهر انها ميراث، و اذا كان كذلك فغير جائز لابى بكر قبول دعواها، لانه لا خلاف فى ان العمل على الدعوى لايجوز، و انما يعمل على مثل ذلك اذا علمت صحته بمشاهده، او ما جرى مجراها، او حصلت بينه او اقرار، ثم ان البينه لابد منها، و ان اميرالمومنين (ع) لما خاصمه اليهودى حاكمه، و ان ام سلمه التى يطبق على فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها.

ثم قال: و لو كان اميرالمومنين (ع) هو الوالى، و لم يعلم صحه هذه الدعوى، ما الذى كان يجب ان يعمل؟ فان قلتم: يقبل الدعوى، فالشرع بخلاف ذلك، و ان قلتم: يلتمس البينه، فهو الذى فعله ابوبكر.

ثم قال: و اما قول ابى بكر: رجل مع الرجل، و امراه مع المراه، فهو الذى يوجبه الدين، و لم يثبت ان الشاهد فى ذلك كان اميرالمومنين (ع)، بل الروايه المنقوله انه شهد لها مولى لرسول الله (ص) مع ام ايمن.

قال: و ليس لاحد ان يقول: فلما ذا ادعت و لا بين ه معها؟ لانه لايمتنع ان تجوز ان يحكم ابوبكر بالشاهد و اليمين، او تجوز عند شهاده من شهد لها ان تذكر غيره فيشهد، و هذا هو الموجب على ملتمس الحق، و لا عيب عليها فى ذلك، و لا على ابى بكر فى التماس البينه، و ان لم يحكم لها لما لم يتم و لم يكن لها خصم، لان التركه صدقه على ما ذكرنا، و كان لايمكن ان يعول فى ذلك على يمين او نكول، و لم يكن فى الامر الا ما فعله.

قال: و قد انكر ابوعلى ما قاله السائل من انها لما ردت فى دعوى النحله ادعته ارثا، و قال: بل كان طلبت الارث قبل ذلك، فلما سمعت منه الخبر كفت و ادعت النحله.

قال: فاما فعل عمر بن عبدالعزيز فلم يثبت انه رده على سبيل النحله، بل عمل فى ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بان اقره فى يد اميرالمومنين (ع) ليصرف غلاتها فى المواضع التى كان يجعلها رسول الله (ص) فيه، فقام بذلك مده، ثم ردها الى عمر فى آخر سنته، و كذلك فعل عمر بن عبدالعزيز، و لو ثبت انه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم و قولهم.

و احد ما يقوى ما ذكرناه ان الامر لما انتهى الى اميرالمومنين (ع) ترك فدك على ما كان، و لم يجعله ميراثا لولد فاطمه، و هذا يبين ان الشاهد كان غيره، لانه لو كان هو الشاهد لكان الاقرب ان ي حكم بعلمه، على ان الناس اختلفوا فى الهبه اذا لم تقبض، فعند بعضهم تستحق بالعقد، و عند بعضهم انها اذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها، فلايمتنع من هذا الوجه ان يمتنع اميرالمومنين (ع) من ردها، و ان صح عنده عقد الهبه، و هذا هو الظاهر، لان التسليم لو كان وقع لظهر انه كان فى يدها، و لكان ذلك كافيا فى الاستحقاق، فاما حجر ازواج النبى (ص) فانما تركت فى ايديهن لانها كانت لهن، و نص الكتاب يشهد بذلك، و قوله: (و قرن فى بيوتكن).

و روى فى الاخبار ان النبى (ص) قسم ما كان له من الحجر على نسائه و بناته.

و يبين صحه ذلك انه لو كان ميراثا او صدقه لكان اميرالمومنين (ع) لما افضى الامر اليه يغيره.

قال: و ليس لاحد ان يقول: انما لم يغير ذلك لان الملك قد صار له، فتبرع به، و ذلك ان الذى يحصل له ليس الا ربع ميراث فاطمه (ع)، و هو الثمن من ميراث رسول الله (ص)، فقد كان يجب ان ينتصف لاولاد العباس و اولاد فاطمه منهن فى باب الحجر، و ياخذ هذا الحق منهن، فتركه ذلك يدل على صحه ما قلناه، و ليس يمكنهم بعد ذلك الا التعلق بالتقيه، و قد سبق الكلام فيها.

قال: و مما يذكرونه ان فاطمه (ع) لغضبها على ابى بكر و عمر اوصت الا يصليا عليها، و ان تدفن سرا منهما، فدف نت ليلا، و هذا كما ادعوا روايه رووها عن جعفر بن محمد (ع) و غيره، ان عمر ضرب فاطمه (ع) بالسوط، و ضرب الزبير بالسيف، و ان عمر قصد منزلها و فيه على (ع) و الزبير و المقداد و جماعه ممن تخلف عن ابى بكر و هم مجتمعون هناك، فقال لها: ما احد بعد ابيك احب الينا منك، و ايم الله لئن اجتمع هولاء النفر عندك لنحرقن عليهم! فمنعت القوم من الاجتماع.

قال: و نحن لانصدق هذه الروايات و لا نجوزها.

و اما امر الصلاه فقد روى ان ابابكر هو الذى صلى على فاطمه (ع)، و كبر عليها اربعا، و هذا احد ما استدل به كثير من الفقهاء فى التكبير على الميت، و لايصح ايضا انها دفنت ليلا، و ان صح ذلك فقد دفن رسول الله (ص) ليلا، و دفن عمر ابنه ليلا، و قد كان اصحاب رسول الله (ص) يدفنون بالنهار و يدفنون بالليل، فما فى هذا مما يطعن به، بل الاقرب فى النساء ان دفنهن ليلا استر و اولى بالسنه.

ثم حكى عن ابى على تكذيب ما روى من الضرب بالسوط، قال: و المروى عن جعفر بن محمد (ع) انه كان يتولاهما، و ياتى القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله (ص)، روى ذلك عباد بن صهيب، و شعبه بن الحجاج، و مهدى ابن هلال، و الدراوردى، و غيرهم، و قد روى عن ابيه محمد بن على (ع) و عن على ب ن الحسين مثل ذلك، فكيف يصح ما ادعوه! و هل هذه الروايه الا كروايتهم على ان على بن ابى طالب (ع) هو اسرافيل و الحسن ميكائيل و الحسين جبرائيل و فاطمه ملك الموت، و آمنه ام النبى (ص) ليله القدر! فان صدقوا ذلك ايضا قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت! و ان قالوا: لانصدق ذلك، فقد جوزوا رد هذه الروايات، و صح انه لايجوز التعويل على هذا الخبر و انما يتعلق بذلك من غرضه الالحاد كالوراق، و ابن الراوندى، لان غرضهم القدح فى الاسلام.

و حكى عن ابى على انه قال: و لم صار غضبها ان ثبت كانه غضب رسول الله (ص) من حيث قال: (فمن اغضبها فقد اغضبنى)، اولى من ان يقال: فمن اغضب ابابكر و عمر فقد نافق و فارق الدين، لانه روى عنه (ع) قال: (حب ابى بكر و عمر ايمان، و بغضهما نفاق)! و من يورد مثل هذا فقصده الطعن فى الاسلام، و ان يتوهم الناس ان اصحاب النبى (ص) نافقوا مع مشاهده الاعلام ليضعفوا دلاله العلم فى النفوس.

قال: و اما حديث الاحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر، لان له ان يهدد من امتنع من المبايعه اراده للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت.

انتهى كلام قاضى القضاه.

قال المرتضى: نحن نبتدى ء فندل على ان فاطمه (ع) ما ادعت من نحل فدك ا لا ما كانت مصيبه فيه، و ان مانعها و مطالبها بالبينه متعنت، عادل عن الصواب، لانها لاتحتاج الى شهاده و بينه، ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل، فنتكلم عليه.

اما الذى يدل على ما ذكرناه فهو انها كانت معصومه من الغلط، مامونا منها فعل القبيح، و من هذه صفته لايحتاج فيما يدعيه الى شهاده و بينه.

فان قيل: دللوا على الامرين، قلنا: بيان الاول قوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يطهركم تطهيرا) و الايه تتناول جماعه منهم فاطمه (ع) بما تواترت الاخبار فى ذلك، و الاراده هاهنا دلاله على وقوع الفعل للمراد.

و ايضا فيدل على ذلك قوله (ع): (فاطمه بضعه منى، من آذاها فقد آذانى، و من آذانى فقد آذى الله عز و جل)، و هذا يدل على عصمتها، لانها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يوذيها موذيا له على كل حال، بل كان متى فعل المستحق من ذمها او اقامه الحد عليها، ان كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا، على انا لانحتاج ان ننبه هذا الموضع على الدلاله على عصمتها، بل يكفى فى هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته، و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لان احدا لايشك انها لم تدع ما ادعته كاذبه، ليس بعد الا تكون كاذبه الا ان تكون صادقه، و انما ا ختلفوا فى هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينه ام لايجب ذلك، قال: الذى يدل على الفصل الثانى ان البينه انما تراد ليغلب فى الظن صدق المدعى، الا ترى ان العداله معتبره فى الشهادات لما كانت موثره فى غلبه الظن لما ذكرناه، و لهذا جاز ان يحكم الحاكم بعلمه من غير شهاده لان علمه اقوى من الشهاده، و لهذا كان الاقرار اقوى من البينه، من حيث كان اغلب فى تاثير غلبه الظن، و اذا قدم الاقرار على الشهاده لقوه الظن عنده، فاولى ان يقدم العلم على الجميع، و اذا لم يحتج مع الاقرار الى شهاده لسقوط حكم الضعيف مع القوى لايحتاج ايضا مع العلم الى ما يوثر الظن من البينات و الشهادات.

و الذى يدل على صحه ما ذكرناه ايضا انه لا خلاف بين اهل النقل فى ان اعرابيا نازع النبى (ص) فى ناقه، فقال (ع): (هذه لى، و قد خرجت اليك من ثمنها)، فقال الاعرابى: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمه بن ثابت: انا اشهد بذلك، فقال النبى (ص): (من اين علمت و ما حضرت ذلك؟) قال: لا، و لكن علمت ذلك من حيث علمت انك رسول الله، فقال: (قد اجزت شهادتك، و جعلتها شهادتين)، فسمى ذا الشهادتين.

و هذه القصه شبيهه لقصه فاطمه (ع)، لان خزيمه اكتفى فى العلم بان الناقه له (ص) و شهد بذلك من حيث علم انه رسول الله (ص)، و لايقول الا حقا و امضى النبى (ص)، ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن فقد كان يجب على من علم ان فاطمه (ع)، لاتقول الا حقا، الا يستظهر عليها بطلب شهاده او بينه، هذا و قد روى ان ابابكر لما شهد اميرالمومنين (ع) كتب بتسليم فدك اليها، فاعترض عمر قضيته، و خرق ما كتبه.

روى ابراهيم بن السعيد الثقفى، عن ابراهيم بن ميمون، قال: حدثنا عيسى بن عبدالله بن محمد بن على بن ابى طالب (ع)، عن ابيه، عن جده عن على (ع)، قال: جائت فاطمه (ع) الى ابى بكر و قالت: ان ابى اعطانى فدك، و على و ام ايمن يشهدان، فقال: ما كنت لتقولى على ابيك الا الحق قد اعطيتكها، و دعا بصحيفه من ادم فكتب لها فيها، فخرجت فلقيت عمر، فقال: من اين جئت يا فاطمه؟ قالت: جئت من عند ابى بكر، اخبرته ان رسول الله (ص) اعطانى فدك، و ان عليا و ام ايمن يشهدان لى بذلك، فاعطانيها، و كتب لى بها، فاخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع الى ابى بكر، فقال: اعطيت فاطمه فدك، و كتبت بها لها؟ قال: نعم، فقال: ان عليا يجر الى نفسه، و ام ايمن امراه، و بصق فى الكتاب فمحاه و خرقه.

و قد روى هذا المعنى من طرق مختلفه، على وجوه مختلفه، فمن اراد الوقوف عليها، و استق صائها اخذها من مواضعها.

و ليس لهم ان يقولوا: انها اخبار آحاد، لانها و ان كانت كذلك، فاقل احوالها ان توجب الظن، و تمنع من القطع على خلاف معناها.

و ليس لهم ان يقولوا: كيف يسلم اليها فدك و هو يروى عن الرسول ان ما خلفه صدقه، و ذلك لانه لا تنافى بين الامرين، لانه انما سلمها على ما وردت به الروايه على سبيل النحل، فلما وقعت المطالبه بالميراث روى الخبر فى معنى الميراث، فلا اختلاف بين الامرين.

فاما انكار صاحب الكتاب لكون فدك فى يدها، فما رايناه اعتمد فى انكار ذلك على حجه، بل قال: لو كان ذلك فى يدها لكان الظاهر انها لها.

و الامر على ما قال، فمن اين انه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضى الظاهر خلافه! و قد روى من طرق مختلفه غير طريق ابى سعيد الذى ذكره صاحب الكتاب انه لما نزل قوله تعالى: (و آت ذا القربى حقه) دعا النبى (ص) فاطمه (ع) فاعطاها فدك! و اذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجه.

و قوله: لا خلاف ان العمل على الدعوى لايجوز، صحيح، و قد بينا ان قولها كان معلوما صحته، و انما قوله: انما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهاده او ما يجرى مجراها، او حصلت بينه او اقرار، فيقال له: اما علمت بمشاهده فلم يكن هناك، و اما بينه فقد كانت على الحقيقه، لان شهاده اميرالمومنين (ع) من اكبر البينات و اعدلها، و لكن على مذهبك انه لم تكن هناك بينه، فمن اين زعمت انه لم يكن هناك علم! و ان لم يكن عن مشاهده فقد ادخلت ذلك فى جمله الاقسام.

فان قال: لان قولها بمجرده لايكون جهه للعلم، قيل له: لم قلت ذلك؟ او ليس قد دللنا على انها معصومه، و ان الخطا مامون عليها! ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها فى تلك القضيه معلوما صحته على كل حال، لانها لو لم تكن مصيبه لكانت مبطله عاصيه فيما ادعته، اذ الشبهه لاتدخل فى مثله، و قد اجمعت الامه على انها لم يظهر منها بعد رسول الله (ص) معصيه بلا شك و ارتياب، بل اجمعوا على انها لم تدع الا الصحيح، و ان اختلفوا، فمن قائل يقول: مانعها مخطى ء، و آخر يقول: هو ايضا مصيب، لفقد البينه و ان علم صدقها.

و اما قوله: انه لو حاكم غيره لطولب بالبينه، فقد تقدم فى هذا المعنى ما يكفى، و قصه خزيمه بن ثابت و قبول شهادته تبطل هذا الكلام.

و اما قوله: ان اميرالمومنين (ع) حاكم يهوديا على الوجه الواجب فى سائر الناس، فقد روى ذلك، الا ان اميرالمومنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه ان يفعله، و انما تبرع به، و استظهر باقامه الحجه فيه، و قد اخطا من طالبه ببينه كائنا من كان.

فاما اعتراضه بام سلمه فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمه فاطمه (ع)، فلذلك احتاجت فى دعواها الى بينه فاما انكاره و ادعاوه انه لم يثبت ان الشاهد فى ذلك كان اميرالمومنين، فلم يزد فى ذلك الا مجرد (الدعوى و) الانكار، و الاخبار مستفيضه بانه (ع) شهد لها، فدفع ذلك بالزيغ لايغنى شيئا! و قوله: ان الشاهد لها مولى لرسول الله (ص) هو المنكر الذى ليس بمعروف.

و اما قوله: انها جوزت ان يحكم ابوبكر بالشاهد و اليمين فطريف، مع قوله: فيما بعد: (ان التركه صدقه، و لا خصم فيها) فتدخل اليمين فى مثلها، افترى ان فاطمه لم تكن تعلم من الشريعه هذا المقدار الذى نبه صاحب الكتاب عليه! و لو لم تعلمه ما كان اميرالمومنين (ع) و هو اعلم الناس بالشريعه يوافقها عليه.

و قوله: انها جوزت عند شهاده من شهد لها ان يتذكر غيرهم فيشهد باطل، لان مثلها لايتعرض للظنه و التهمه، و يعرض قوله للرد، و قد كان يجب ان تعلم من يشهد لها ممن لايشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذى يجب معه القبول و الامضاء، و من هو دونها فى الرتبه و الجلاله و الصيانه من افناء الناس لايتعرض لمثل هذه الخطه و يتورطها، للتجويز الذى لا اصل له و لا اماره عليه.

فاما انكار ابى على لان يكون ا لنحل قبل ادعاء الميراث و عكسه الامر فيه، فاول ما فيه انا لانعرف له غرضا صحيحا فى انكار ذلك، لان كون احد الامرين قبل الاخر لايصحح له مذهبا، فلا يفسد على مخالفه مذهبا.

ثم ان الامر فى ان الكلام فى النحل كان المتقدم ظاهرا، و الروايات كلها به وارده، و كيف يجوز ان تبتدى ء بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا! او ليس هذا يوجب ان تكون قد طالبت بحقها من وجه لاتستحقه منه مع الاختيار، و كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها، و النحل تنفرد به! و لاينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل، لانها فى الابتداء طالبت بالنحل، و هو الوجه الذى تستحق فدك منه، فلما دفعت عنه طالبت ضروره بالميراث، لان للمدفوع عن حقه ان يتوصل الى تناوله بكل وجه و سبب، و هذا بخلاف قول ابى على، لانه اضاف اليها ادعاء الحق من وجه لاتستحقه منه، و هى مختاره.

و اما انكاره ان يكون عمر بن عبدالعزيز رد فدك على وجه النحل، و ادعاوه انه فعل فى ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من اقرارها فى يد اميرالمومنين (ع)، ليصرف غلاتها فى وجوهها، فاول ما فيه انا لانحتج عليه بفعل عمر بن عبدالعزيز على اى وجه وقع، لان فعله ليس بحجه، و لو اردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذ كرنا فعل المامون، فانه رد فدك بعد ان جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما، احدهما لفاطمه، و الاخر لابى بكر، و ردها بعد قيام الحجه و وضوح الامر.

و مع ذلك فانه قد انكر من فعل عمر بن عبدالعزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين اهل النقل فيه، و قد روى محمد بن زكريا الغلابى عن شيوخه، عن ابى ابى المقدام هشام ابن زياد مولى آل عثمان، قال: لما ولى عمر بن عبدالعزيز رد فدك على ولد فاطمه، و كتب الى واليه على المدينه ابى بكر بن عمرو بن حزم يامره بذلك، فكتب اليه: ان فاطمه قد ولدت فى آل عثمان، و آل فلان و فلان، فعلى من ارد منهم؟ فكتب اليه: اما بعد، فانى لو كتبت اليك آمرك ان تذبح شاه لكتبت الى: اجماء ام قرنائ؟ او كتبت اليك ان تذبح بقره لسالتنى: ما لونها؟ فاذا ورد عليك كتابى هذا فاقسمها فى ولد فاطمه (ع) من على (ع)، و السلام.

قال ابوالمقدام: فنقمت بنواميه ذلك على عمر بن عبدالعزيز و عاتبوه فيه، و قالوا له: هجنت فعل الشيخين، و خرج اليه عمر بن قيس فى جماعه من اهل الكوفه، فلما عاتبوه على فعله قال: انكم جهلتم و علمت، و نسيتم و ذكرت، ان ابابكر محمد بن عمرو بن حزم حدثنى عن ابيه عن جده ان رسول الله (ص) قال: (فاطمه بضعه منى يسخطها م ا يسخطنى، و يرضينى ما ارضاها)، و ان فدك كان صافيه على عهد ابى بكر و عمر، ثم صار امرها الى مروان، فوهبها لعبد العزيز ابى، فورثتها انا و اخوتى عنه، فسالتهم ان يبيعونى حصتهم منها، فمن بائع و واهب، حتى استجمعت لى فرايت ان اردها على ولد فاطمه.

قالوا: فان ابيت الا هذا فامسك الاصل، و اقسم الغله، ففعل.

و اما ما ذكره من ترك اميرالمومنين (ع) فدك لما افضى الامر اليه، و استدلاله بذلك على انه لم يكن الشاهد فيها، فالوجه فى تركه (ع) رد فدك هو الوجه فى اقراره احكام القوم و كفه عن نقضها و تغييرها، و قد بينا ذلك فيما سبق، و ذكرنا انه كان فى انتهاء الامر اليه فى بقيه من التقيه قويه.

فاما استدلاله على ان حجر ازواج النبى (ص) كانت لهن بقوله تعالى: (و قرن فى بيوتكن)، فمن عجيب الاستدلال، لان هذه الاضافه لاتقتضى الملك، بل العاده جاريه فيها ان تستعمل من جهه السكنى، و لهذا يقال: هذا بيت فلان و مسكنه، و لايراد بذلك الملك، و قد قال تعالى: (لاتخرجوهن من بيوتهن و لايخرجن الا ان ياتين بفاحشه مبينه)، و لا شبهه فى انه تعالى اراد منازل الرجال التى يسكنون فيها زوجاتهم، و لم يرد بهذه الاضافه الملك.

فاما ما رواه من ان رسول الله (ص) قسم حجره على نسائه و بناته، فمن اين له اذا كان الخبر صحيحا ان هذه القسمه على وجه التمليك دون الاسكان و الانزال! و لو كان قد ملكهن ذلك لوجب ان يكون ظاهرا مشهورا.

فاما الوجه فى ترك اميرالمومنين لما صار الامر اليه فى يده منازعه الازواج فى هذه الحجر فهو ما تقدم و تكرر.

و اما قوله: ان ابابكر هو الذى صلى على فاطمه و كبر اربعا، و ان كثيرا من الفقهاء يستدلون به فى التكبير على الميت- و هو شى ء ما سمع الا منه، و ان كان تلقاه عن غيره- فممن يجرى مجراه فى العصبيه، و الا فالروايات المشهوره و كتب الاثار و السير خاليه من ذلك، و لم يختلف اهل النقل فى ان عليا (ع) هو الذى صلى على فاطمه، الا روايه نادره شاذه وردت بان العباس رحمه الله صلى عليها.

و روى الواقدى باسناده فى تاريخه، عن الزهرى، قال: سالت ابن عباس: متى دفنتم فاطمه (ع)؟ قال: دفناها بليل بعد هداه، قال: قلت: فمن صلى عليها؟ قال: على.

و روى الطبرى عن الحارث بن ابى اسامه، عن المدائنى، عن ابى زكريا العجلانى ان فاطمه (ع) عمل لها نعش قبل وفاتها، فنظرت اليه، فقالت: سترتمونى ستركما الله! قال ابوجعفر محمد بن جرير: و الثبت فى ذلك انها زينب، لان فاطمه دفنت ليلا، و لم يحضرها الا على و العباس و ال مقداد و الزبير.

و روى القاضى ابوبكر احمد بن كامل باسناده فى تاريخه، عن الزهرى، قال حدثنى عروه بن الزبير ان عائشه اخبرته ان فاطمه عاشت بعد رسول الله (ص) سته اشهر، فلما توفيت دفنها على ليلا، و صلى عليها، و ذكر فى كتابه هذا ان عليا و الحسن و الحسين (ع) دفنوها ليلا، و غيبوا قبرها.

و روى سفيان بن عيينه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن محمد بن الحنفيه ان فاطمه دفنت ليلا.

و روى عبدالله بن ابى شيبه، عن يحيى بن سعيد القطان، عن معمر، عن الزهرى مثل ذلك.

و قال البلاذرى فى تاريخه، ان فاطمه (ع) لم تر متبسمه بعد وفاه النبى (ص)، و لم يعلم ابوبكر و عمر بموتها.

و الامر فى هذا اوضح و اشهر من ان نطنب فى الاستشهاد عليه، و نذكر الروايات فيه.

فاما قوله: و لايصح انها دفنت ليلا و ان صح فقد دفن فلان و فلان ليلا، فقد بينا ان دفنها ليلا فى الصحه اظهر من الشمس، و ان منكر ذلك كالدافع للمشاهدات، و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجه ليقال: لقد دفن فلان و فلان ليلا، بل يقع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضه الظاهره التى هى كالتواتر، انها اوصت بان تدفن ليلا حتى لايصلى الرجلان عليها، و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا بعد ان كانا استاذنا ع ليها فى مرضها ليعوداها، فابت ان تاذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعه رغبا الى اميرالمومنين (ع) فى ان يستاذن لهما، و جعلاها حاجه اليه، و كلمها (ع) فى ذلك، و الح عليها، فاذنت لهما فى الدخول، ثم اعرضت عنهما عند دخولهما و لم تكلمهما، فلما خرجا قالت لاميرالمومنين (ع): هل صنعت ما اردت؟ قال: نعم، قالت: فهل انت صانع ما آمرك به؟ قال نعم، قالت: فانى انشدك الله الا يصليا على جنازتى، و لايقوما على قبرى! و روى انه عفى قبرها و علم عليه، و رش اربعين قبرا فى البقيع، و لم يرش قبرها حتى لايهتدى اليه، و انهما عاتباه على ترك اعلامهما بشانها، و احضارهما الصلاه عليها، فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا، و لو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه و ما تاخر عنه، لم يكن فيه حجه.

و اما حكايته عن ابى على انكار ضرب الرجل لها.

و قوله ان جعفر بن محمد و اباه و جده كانوا يتولونهما، فكيف لاينكر ابوعلى ذلك، و اعتقاده فيهما اعتقاده! و قد كنا نظن ان مخالفينا يقتنعون ان ينسبوا الى ائمتنا الكف عن القوم، و الامساك، و ما ظننا انهم يحملون انفسهم على ان ينسبوا اليهم الثناء و الولاء، و قد علم كل احد ان اصحاب هولاء الساده المختصين بهم، قد رووا عنهم ضد ما روى شعبه بن الحجاج و فلان و فلان و قولهم: هما اول من ظلمنا حقنا، و حمل الناس على رقابنا، و قولهم: انهما اصفيا بانائنا، و اضطجعا بسبلنا، و جلسا مجلسا نحن احق به منهما، الى غير ذلك من فنون التظلم و الشكايه، و هو طويل متسع، و من اراد استقصاء ذلك فلينظر فى كتاب "المعرفه" لابى اسحاق ابراهيم بن سعيد الثقفى، فانه قد ذكر عن رجل من اهل البيت بالاسانيد النيره ما لا زياده عليه، ثم لو صح ما ذكره شعبه لجاز ان يحمل على التقيه.

و اما ذكره اسرافيل و ميكائيل، فما كنا نظن ان مثله يذكر ذلك، و هذا من اقوال الغلاه الذين ضلوا فى اميرالمومنين (ع) و اهل البيت، و ليسوا من الشيعه و لا من المسلمين، فاى عيب علينا فيما يقولونه! ثم ان جماعه من مخالفينا قد غلوا فى ابى بكر و عمر، و رووا روايات مختلفه فيهما تجرى مجرى ما ذكره فى الشناعه، و لايلزم العقلاء و ذوى الالباب من المخالفين عيب من ذلك.

و اما معارضه ما روى فى فاطمه (ع) بما روى فى: (ان حبهما ايمان، و بغضهما نفاق)، فالخبر الذى رويناه مجمع عليه، و الخبر الاخر مطعون فيه، فكيف يعارض ذلك بهذا! و اما قوله: انما قصد من يورد هذه الاخبار تضعيف دلاله الاعلام فى النفوس، من حيث اضاف النفاق الى من شاهدها، فتشنيع فى غير موضعه، و استناد الى ما لايجدى نفعا، لان من شاهد الاعلام لايضعفها و لايوهن دليلها.

و لايقدح فى كونها حجه، لان الاعلام ليست ملجئه الى العلم، و لا موجبه لحصوله على كل حال، و انما تثمر العلم لمن امعن النظر فيها من الوجه الذى تدل منه، فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لايكون عدوله موثرا فى دلالتها، فكم قد عدل من العقلاء و ذوى الاحلام الراجحه و الالباب الصحيحه عن تامل هذه الاعلام و اصابه الحق منها! و لم يكن ذلك عندنا و عند صاحب الكتاب قادحا فى دلاله الاعلام.

على ان هذا القول يوجب ان ينفى الشك و النفاق عن كل من صحب النبى (ص) و عاصره و شاهد اعلامه كابى سفيان و ابنه، و عمرو بن العاص، و فلان و فلان، ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شكهم فى الدين و ارتيابهم باتفاق بيننا و بينه، و ان كانت اضافه النفاق الى هولاء لاتقدح فى دلاله الاعلام، فكذلك القول فى غيرهم.

فاما قوله: ان حديث الاحراق لم يصح، و لو صح لساغ لعمر مثل ذلك، فقد بينا ان خبر الاحراق قد رواه غير الشيعه.

و قوله: انه يسوغ مثل ذلك، فكيف يسوغ احراق بيت على و فاطمه (ع)! و هل فى ذلك عذر يصغى اليه او يسمع! و انما يكون على و اصحابه خارقين للاجماع و مخالفين ل لمسلمين، لو كان الاجماع قد تقرر و ثبت، و ليس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف على وحده، فضلا عن ان يوافقه على ذلك غيره.

و بعد، فلا فرق بين ان يهدد بالاحراق لهذه العله، و بين ان يضرب فاطمه (ع) لمثلها، فان احراق المنازل اعظم من ضرب سوط او سوطين، فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب اذا كان عنده مثل هذا الاعتذار! قلت: اما الكلام فى عصمه فاطمه (ع) فهو بفن الكلام اشبه، و للقول فيه موضع غير هذا.

و اما قول المرتضى: اذا كانت صادقه لم يبق حاجه الى من يشهد لها، فلقائل ان يقول: لم قلت ذلك؟ و لم زعمت ان الحاجه الى البينه انما كانت لزياده غلبه الظن؟ و لم لايجوز ان يكون الله تعالى يعبد بالبينه لمصلحه يعلمها، و ان كان المدعى لايكذب! اليس قد تعبد الله تعالى بالعده فى العجوز التى قد ايست من الحمل، و ان كان اصل وضعها لاستبراء الرحم! و اما قصه خزيمه بن ثابت، فيجوز ان يكون الله تعالى قد علم ان مصلحه المكلفين فى تلك الصوره ان يكتفى بدعوى النبى (ص) وحدها، و يستغنى فيها عن الشهاده.

و لايمتنع ان يكون غير تلك الصوره مخالفا لها، و ان كان المدعى لايكذب.

و يبين ذلك ان مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على ايدى الائمه و الصالحين، و لو قدرنا ان واحدا من اهل الصلاح و الخير ادعى دعوى، و قال بحضره جماعه من الناس من جملتهم القاضى: اللهم ان كنت صادقا فاظهر على معجزه خارقه للعاده، فظهرت عليه، لعلمنا انه صادق، و مع ذلك لاتقبل دعواه الا ببينه.

و سالت على بن الفارقى مدرس المدرسه الغربيه ببغداد، فقلت له: اكانت فاطمه صادقه؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع اليها ابوبكر فدك و هى عنده صادقه؟ فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قله دعابته، قال: لو اعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجائت اليه غدا و ادعت لزوجها الخلافه، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقه بشى ء، لانه يكون قد اسجل على نفسه انها صادقه فيها تدعى كائنا ما كان من غير حاجه الى بينه و لا شهود، و هذا كلام صحيح، و ان كان اخرجه مخرج الدعابه و الهزل.

فاما قول قاضى القضاه: لو كان فى يدها لكان الظاهر انها لها، و اعتراض المرتضى عليه بقوله: انه لم يعتمد فى انكار ذلك على حجه، بل قال: لو كانت فى يدها لكان الظاهر انها لها، و الامر على ما قال، فمن اين انها لم تخرج عن يدها على وجه! كما ان الظاهر يقتضى خلافه، فانه لم يجب عما ذكره قاضى القضاه، لان معنى قوله: انها لو كانت فى يدها، اى متصرفه فيها لكانت اليد حجه فى الملكيه، لان اليد و التصرف حجه لا محاله، فلو كانت فى يدها تتصرف فيها و فى ارتفاقها كما يتصرف الناس فى ضياعهم و املاكهم لما احتاجت الى الاحتجاج بايه الميراث و لا بدعوى النحل، لان اليد حجه، فهلا قالت لابى بكر: هذه الارض فى يدى، و لايجوز انتزاعها منى الا بحجه! و حينئذ كان يسقط احتجاج ابى بكر بقوله: (نحن معاشر الانبياء لا نورث)، لانها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر.

و خبر ابى سعيد فى قوله: (فاعطاها)، فدك يدل على الهبه لا على القبض و التصرف، و لانه يقال: اعطانى فلان كذا فلم اقبضه، و لو كان الاعطاء هو القبض و التصرف لكان هذا الكلام متناقضا.

فاما تعجب المرتضى من قول ابى على: ان دعوى الارث كانت متقدمه على دعوى النحل، و قوله: انا لانعرف له غرضا فى ذلك، فانه لايصح له بذلك مذهب، و لايبطل على مخالفيه مذهب، فان المرتضى لم يقف على مراد الشيخ ابى على فى ذلك، و هذا شى ء يرجع الى اصول الفقه، فان اصحابنا، استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد باجماع الصحابه لانهم اجمعوا على تخصيص قوله تعالى: (يوصيكم الله فى اولادكم) بروايه ابى بكر عن النبى (ص): (لا نورث، ما تركناه صدقه) قالوا: و الصحيح ف ى الخبر ان فاطمه (ع) طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث، فلهذا قال الشيخ ابوعلى: ان دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل، و ذلك لانه ثبت ان فاطمه انصرفت عن ذلك المجلس غير راضيه و لا موافقه لابى بكر، فلو كانت دعوى الارث متاخره، و انصرفت عن سخط لم يثبت الاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد، اما اذا كانت دعوى الارث متقدمه فلما روى لها الخبر امسكت و انتقلت الى النزاع من جهه اخرى، فانه يصح حينئذ الاستدلال بالاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

فاما انا فان الاخبار عندى متعارضه، يدل بعضها على ان دعوى الارث متاخره، و يدل بعضها على انها متقدمه، و انا فى هذا الموضع متوقف.

و ما ذكره المرتضى من ان الحال تقتضى ان تكون البدايه بدعوى النحل فصحيح، و اما اخفاء القبر و كتمان الموت و عدم الصلاه و كل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذى يظهر و يقوى عندى، لان الروايات به اكثر و اصح من غيرها، و كذلك القول فى موجدتها و غضبها، فاما المنقول عن رجال اهل البيت فانه يختلف، فتاره، و تاره و على كل حال فميل اهل البيت الى ما فيه نصره ابيهم و بيتهم.

و قد اخل قاضى القضاه بلفظه حكاها عن الشيعه فلم يتكلم عليها و هى لفظه جيده.

قال: قد كان الاجمل ان يمنعهم ا لتكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين.

و هذا الكلام لا جواب عنه، و لقد كان التكرم و رعايه حق رسول الله (ص) و حفظ عهده يقتضى ان تعوض ابنته بشى ء يرضيها ان لم يستنزل المسلمون عن فدك و تسلم اليها تطيبا لقلبها.

و قد يسوغ للامام ان يفعل ذلك من غير مشاوره المسلمين اذا راى المصلحه فيه، و قد بعد العهد الان بيننا و بينهم، و لا نعلم حقيقه ما كان، و الى الله ترجع الامور.

الشرح:

قد روى: (و لو شئت لاهتديت الى هذا العسل المصفى، و لباب هذا البر المنقى، فضربت هذا بذاك، حتى ينضج وقودا، و يستحكم معقودا).

و روى: (و لعل بالمدينه يتيما تربا يتضور سغبا، اابيت مبطانا، و حولى بطون غرثى، اذن يحضرنى يوم القيامه، و هم من ذكر و انثى).

و روى: (بطون غرثى) باضافه (بطون) الى (غرثى).

و القمح: الحنطه.

و الجشع: اشد الحرص.

و المبطان: الذى لايزال عظيم البطن من كثره الاكل فاما المبطن: فالضامر البطن، و اما البطين، فالعظيم البطن لا من الاكل، و اما البطن، فهو الذى لايهمه الا بطنه، و اما المبطون فالعليل البطن.

و بطون غرثى: جائعه، و البطنه: الكظه، و ذلك ان يمتلى ء الانسان من الطعام امتلاء شديدا، و كان يقال: ينبغى للانسان ان يجعل وعاء بطنه اثلاثا: فثلث للطعام، و ثلث للشراب، و ثلث للنفس.

و التقمم: اكل الشاه ما بين يديها بمقمتها اى بشفتها، و كل ذى ظلف كالثور و غيره فهو ذو مقمه.

و تكترش من اعلافها: تملا كرشها من العلف.

قوله: (او اجر حبل الضلاله) منصوب بالعطف على (يشغلنى)، و كذلك (اترك) و يقال: اجررته رسنه، اذا اهملته.

و الاعتساف: السلوك فى غير طريق واضح.

و المتاهه: الارض يتاه فيها اى يتحير.

و فى قوله: (لو شئت لاهتديت) شبه من قول عمر: لو نشاء لملانا هذا الرحاب من صلائق و صناب، و قد ذكرناه فيما تقدم.

و هذا البيت من ابيات منسوبه الى حاتم بن عبدالله الطائى الجواد، و اولها: ابا ابنه عبدالله و ابنه مالك و يا ابنه ذى الجدين و الفرس الورد اذا ما صنعت الزاد فالتمسى له اكيلا فانى لست آكله وحدى قصيا بعيدا او قريبا فاننى اخاف مذمات الاحاديث من بعدى كفى بك عارا ان تبيت ببطنه و حولك اكباد نحن الى القد و انى لعبد الضعيف مادام نازلا و ما من خلالى غيرها شيمه العبد

الشرح:

الشجره البريه: التى تنبت فى البر الذى لا ماء فيه، فهى اصلب عودا من الشجره التى تنبت فى الارض النديه، و اليه وقعت الاشاره بقوله: (و الرواتع الخضره ارق جلودا).

ثم قال: (و النابتات العذيه) التى تنبت عذيا، و الع ذى، بسكون الذال: الزرع لايسقيه الا ماء المطر، و هو يكون اقل اخذا من الماء من النبت سقيا، قال (ع): انها تكون اقوى وقودا مما يشرب الماء السائح او ماء الناضح، و ابطا خمودا، و ذلك لصلابه جرمها.

ثم قال: (و انا من رسول الله (ص) كالضوء من الضوء، و الذراع من العضد)، و ذلك لان الضوء الاول يكون عله فى الضوء الثانى، الا ترى ان الهواء المقابل للشمس! يصير مضيئا من الشمس فهذا الضوء هو الضوء الاول.

ثم انه يقابل وجه الارض فيضى ء وجه الارض منه، فالضوء الذى على وجه الارض هو الضوء الثانى، و ما دام الضوء الاول ضعيفا فالضوء الثانى ضعيف، فاذا ازداد الجو اضائه ازداد وجه الارض اضائه، لان المعلول يتبع العله، فشبه (ع) نفسه بالضوء الثانى، و شبه رسول الله (ص) بالضوء الاول، و شبه منبع الاضواء و الانوار سبحانه و جلت اسماوه بالشمس التى توجب الضوء الاول ثم الضوء الاول يوجب الضوء الثانى.

و هاهنا نكته، و هى ان الضوء الثانى يكون ايضا عله لضوء ثالث، و ذلك ان الضوء الحاصل على وجه الارض- و هو الضوء الثانى- اذا اشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم، فان ذلك المكان يصير مضيئا بعد ان كان مظلما، و ان كان لذلك المكان المظلم باب، و كان دا خل البيت مقابل ذلك الباب جدار كان ذلك الجدار اشد اضائه من باقى البيت، ثم ذلك الجدار ان كان فيه ثقب الى موضع آخر كان ما يحاذى ذلك البيت اشد اضائه مما حواليه، و هكذا لاتزال الاضواء يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العليه، و بشرط المقابله، و لاتزال تضعف درجه درجه الى ان تضمحل و يعود الامر الى الظلمه، و هكذا عالم العلوم، و الحكم الماخوذه من اميرالمومنين (ع) لاتزال تضعف كما انتقلت من قوم الى قوم الى ان يعود الاسلام غريبا كما بدا بموجب الخبر النبوى الوارد فى الصحاح.

و اما قوله: (و الذراع من العضد) فلان الذراع فرع على العضد، و العضد اصل، الا ترى انه لايمكن ان يكون ذراع الا اذا كان عضد، و يمكن ان يكون عضد لا ذراع له، و لهذا قال الراجز لولده: يا بكر بكرين و يا خلب الكبد اصبحت منى كذراع من عضد فشبه (ع) بالنسبه الى رسول الله (ص) بالذراع الذى العضد اصله و اسه و المراد من هذا التشبيه الابابه عن شده الامتزاج و الاتحاد و القرب بينهما، فان الضوء الثانى شبيه بالضوء الاول، و الذراع متصل بالعضد اتصالا بينا، و هذه المنزله قد اعطاه اياها رسول الله (ص) فى مقامات كثيره نحو قوله فى قصه برائه: (قد امرت ان لايودى عنى الا ان ا او رجل منى)، و قوله: (لتنتهن يا بنى وليعه، او لابعثن اليكم رجلا منى)، او قال: (عديل نفسى)، و قد سماه الكتاب العزيز (نفسه) فقال: (و نسائنا و نسائكم و انفسنا و انفسكم)، و قد قال له: (لحمك مختلط بلحمى، و دمك مسوط بدمى، و شبرك و شبرى واحد).

فان قلت: اما قوله: (لو تظاهرت العرب على لما وليت عنها)، فمعلوم، فما الفائده فى قوله: (و لو امكنت الفرصه من رقابها لسارعت اليها)؟ و هل هذا مما يفخر به الروساء و يعدونه منقبه، و انما المنقبه ان لو امكنته الفرصه تجاوز و عفا! قلت: غرضه ان يقرر فى نفوس اصحابه و غيرهم من العرب انه يحارب على حق، و ان حربه لاهل الشام كالجهاد ايام رسول الله (ص)، و ان من يجاهد الكفار يجب عليه ان يغلظ عليهم، و يستاصل شافتهم، الا ترى ان رسول الله (ص) لما جاهد بنى قريظه و ظفر لم يبق و لم يعف، و حصد فى يوم واحد، رقاب الف انسان صبرا فى مقام واحد، لما علم فى ذلك من اعزاز الدين و اذلال المشركين، فالعفو له مقام و الانتقام له مقام.

قوله: (و ساجهد فى ان اطهر الارض)، الاشاره فى هذا الى معاويه، سماه شخصا معكوسا، و جسما مركوسا، و المراد انعكاس عقيدته، و انها ليست عقيده هدى، بل هى معاكسه للحق و الصواب، و سماه مركوس ا من قولهم: ارتكس فى الضلال، و الركس رد الشى ء مقلوبا، قال تعالى: (و الله اركسهم بما كسبوا) اى قلبهم و ردهم الى كفرهم، فلما كان تاركا للفطره التى كل مولود يولد عليها، كان مرتكسا فى ضلاله، و اصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر، قالوا: الحيوان على ضربين: منتصب و منحن، فالمنتصب الانسان، و المنحنى ما كان راسه منكوسا الى جهه الارض كالبهائم و السباع.

قالوا: و الى ذلك وقعت الاشاره بقوله: (افمن يمشى مكبا على وجهه اهدى امن يمشى سويا على صراط مستقيم).

قالوا: فاصحاب الشقاوه تنتقل انفسهم عند الموت الى الحيوان المكبوب، و اصحاب السعاده تنتقل انفسهم الى الحيوان المنتصب، و لما كان معاويه عنده (ع) من اهل الشقاوه، سماه معكوسا و مركوسا رمزا الى هذا المعنى.

قوله: (حتى تخرج المدره من بين حب الحصيد)، اى حتى يتطهر الدين و اهله منه و ذلك لان الزراع يجتهدون فى اخراج المدر و الحجر و الشوك و العوسج و نحو ذلك من بين الزرع كى تفسد منابته.

فيفسد الحب الذى يخرج منه، فشبه معاويه بالمدر و نحوه من مفسدات الحب، و شبه الدين بالحب الذى هو ثمره الزرع.

الشرح:

اليك عنى، اى ابعدى.

و حبلك على غاربك، كنايه من كنايات الطلاق، اى اذهبى حيث شئت، لان الناقه اذا القى حبلها على غاربها فقد فسح لها ان ترعى حيث شائت، و تذهب اين شائت لانه انما يردها زمامها، فاذا القى حبلها على غاربها فقد اهملت.

و الغارب: ما بين السنام و العنق و المداحض: المزالق.

و قيل: ان فى النسخه التى بخط الرضى رضى الله عنه (غررتيهم) بالياء، و كذلك (فتنتيهم)، و (القيتيهم)، و (اسلمتيهم)، و (اوردتيهم)، و الاحسن حذف الياء، و اذا كانت الروايه وردت بها فهى من اشباع الكسره كقوله: الم ياتيك و الانباء تنمى بما فعلت لبون بنى زياد و مضامين اللحود، اى الذين تضمنتهم، و فى الحديث نهى عن بيع المضامين و الملاقيح، و هى ما فى اصلاب الفحول و بطون الاناث.

ثم قال: لو كنت ايتها الدنيا انسانا محسوسا، كالواحد من البشر، لاقمت عليك الحد كما فعلت بالناس.

ثم شرح افعالها فقال: منهم من غررت، و منهم من القيت فى مهاوى الضلال و الكفر، و منهم من اتلفت و اهلكت.

ثم قال: و من وطى ء دحضك زلق، مكان دحض اى مزله.

ثم قال: لايبالى من سلم منك ان ضاق مناخه، لايبالى بالفقر، و لا بالمرض و لا بالحبوس و السجون و غير ذلك من انواع المحن! لان هذا كله حقير لا اعتداد به فى جنب السلامه من فتنه الدنيا.

قال: و الدنيا عند من قد سلم منها كيوم قرب انقضاوه و فناوه.

الشرح:

اعزبى: ابعدى يقال عزب الرجل بالفتح، اى بعد.

و لااسلس لك بفتح اللام، اى لا انقاد لك، سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس، اى سهل قياده.

ثم حلف، و استثنى بالمشيئه ادبا كما ادب الله تعالى رسوله (ص) ليروضن نفسه اى يدربها بالجوع، و الجوع هو اصل الرياضه عند الحكماء و ارباب الطريقه.

قال: (حتى اهش الى القرص)، اى الى الرغيف و اقنع من الادام بالملح.

و نضب معينها: فنى ماوها.

ثم انكر على نفسه فقال: اتشبع السائمه من رعيها- بكسر الراء، و هو الكلا- و الربيضه- جماعه من الغنم او البقر تربض فى اماكنها.

و انا ايضا مثلها اشبع و انام! لقد قرت عينى اذا حيث اشابه البهائم بعد الجهاد و السبق و العباده و العم و الجد فى السنين المتطاوله.

قوله: (و عركت بجنبها بوسها)، اى صبرت على بوسها، و المشقه التى تنالها.

يقال: قد عرك فلان بجنبه الاذى اى اغضى عنه، و صبر عليه.

قوله: (افترشت ارضها) اى لم يكن لها فراش الا الارض.

(و توسدت كفها)، لم يكن لها وساده الا الكف.

(و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم) لفظ الكتاب العزيز (ت تجافى جنوبهم عن المضاجع).

و همهمت: تكلمت كلاما خفيا.

و تقشعت ذنوبهم: زالت و ذهبت كما يتقشع السحاب.

قوله: (و لتكفف اقراصك)، انما هو نهى لابن حنيف ان يكف عن الاقراص، و ان كان اللفظ يقتضى ان تكف الاقراص عن ابن حنيف.

و قد رواها قوم بالنصب، قالوا: (فاتق الله يا ابن حنيف و لتكفف اقراصك، لترجو بها من النار خلاصك)، و التاء هاهنا للامر عوض الياء، و هى لغه لا باس بها، و قد قيل: ان رسول الله (ص) قرا: (فبذلك فلتفرحوا)، بالتاء.

نامه 046-به يكى از فرماندهان خود

الشرح:

قد اخذ الشاعر معنى قوله: (و آس بينهم فى اللحظه و النظره)، فقال: اقسم اللحظ بيننا ان فى اللح ظ لعنوان ما تجن الصدور انما البر روضه فاذا ما كان بشر فروضه و غدير قوله: (و آس بينهم فى اللحظه)، اى اجعلهم اسوه، و روى: (و ساو بينهم فى اللحظه)، و المعنى واحد.

و استظهر به: اجعله كالظهر.

و النخوه: الكبرياء: و الاثيم: المخطى ء المذنب.

و قوله: (و اسد به لهاه الثغر) استعاره جسنه.

و الضغث فى الاصل: قبضه حشيش مختلط يابسها بشى ء من الرطب، و منه (اضغاث الاحلام) للرويا المختلطه التى لايصح تاويلها، فاستعار اللفظه هاهنا، و المراد: امزج الشده بشى ء من اللين فاجعلهما كالضغث، و قال تعالى: (و خذ بيدك ضغثا).

قوله: (فاعتزم بالشده) اى اذا جد بك الحد فدع اللين، فان فى حال الشده لاتغنى الا الشده، قال الفند الزمانى: فلما صرح الشر فامسى و هو عريان و لم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا قوله: (حتى لايطمع العظماء فى حيفك)، اى حتى لايطمع العظماء فى ان تمالئهم على حيف الضعفاء، و قد تقدم مثل هذا فيما سبق.

نامه 047-وصيت به حسن و حسين

الشرح:

روى: (و اعملا للاخره)، و روى: (فلا تغيروا افواهكم)، يقول: لاتطلبا الدنيا و ان طلبتكما، فاذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لاتطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الاولى.

ثم قال: (و لاتاسفا على شى ء منها زوى عنكما)، اى قبض، قال رسول الله (ص): (زويت لى الدنيا فاريت مشارقها و مغاربها، و سيبلغ ملك امتى ما زوى لى منها).

و روى: (و لاتاسيا)، و كلاهما بمعنى واحد، اى لاتحزنا، و هذا من قوله تعالى: (لكيلا تاسوا على مافاتكم).

قوله: (صلاح ذات البين) اخذه هذه اللفظه عبدالملك بن مروان فقال لبنيه و قد جمعوا عنده يوم موته: انفوا الضغائن بينكم و عليكم عند المغيب و فى حضور المشهد بصلاح ذات البين طول حياتكم ان مد فى عمرى و ان لم يمدد ان القداح اذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو بطش شديد ايد عزت فلم تكسر و ان هى بددت فالوهن و التكسير للمتبدد و ذات هاهنا زائده مقحمه.

قوله: (فلا تغبوا افواههم)، اى لاتجيعوهم بان تطمعوهم غبا، و من روى: (فلا تغيروا افواههم) فذاك لان الجائع يتغير فمه، قال (ع): (لخلوف فم الصائم اطيب عند الله من ريح المسك).

قال: (و لايضيعوا بحضرتكم) اى لاتضيعوهم، فالنهى فى الظاهر للايت ام و فى المعنى للاوصياء و الاولياء، و الظاهر انه لايعنى الايتام الذين لهم مال تحت ايدى اوصيائهم، لان اولئك الاوصياء محرم عليهم ان يصيبوا من اموال اليتامى الا القدر النزر جدا عند الضروره ثم يقضونه مع التمكن، و من هذه حاله لايحسن ان يقال له: لاتغيروا افواه ايتامكم، و انما الاظهر انه يعنى الذين مات آباوهم و هم فقراء يتعين مواساتهم و يقبح القعود عنهم، كما قال تعالى: (و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و اسيرا)، و اليتم فى الناس من قبل الاب، و فى البهائم من قبل الام، لان الاباء من البهائم لا عنايه لهم بالاولاد، بل العنايه للام لانها المرضعه المشفقه، و اما الناس فان الاب هو الكافل القيم بنفقه الولد، فاذا مات وصل الضرر اليه لفقد كافله و الام بمعزل عن ذلك.

و جمع يتيم على ايتام، كما قالوا: شريف و اشراف.

و حكى ابوعلى فى التكمله: (كمى ء و اكماء)، و لايسمى الصبى يتيما الا اذا كان دون البلوغ و اذا بلغ زال اسم اليتيم عنه.

و اليتامى احد الاصناف الذين عينوا فى الخمس بنص الكتاب العزيز.

(فصل فى الاثار الوارده فى حقوق الجار) ثم اوصى بالجيران، و اللفظ الذى ذكره (ع) قد ورد مرفوعا فى روايه عبدالله بن عمر لما ذبح شاه، فقال : اهديتم لجارنا اليهودى؟ فانى سمعت رسول الله (ص) يقول: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه)، و فى الحديث انه (ص) قال: (من كان يومن بالله و اليوم الاخر فليكرم جاره)، و عنه (ع): (جار السوء فى دار المقامه قاصمه الظهر)، و عنه (ع): (من جهد البلاء جار سوء معك فى دار مقامه ان راى حسنه دفنها، و ان راى سيئه اذاعها و افشاها).

و من ادعيتهم: اللهم انى اعوذ بك من مال يكون على فتنه، و من ولد يكون على كلا، و من حليله تقرب الشيب، و من جار ترانى عيناه و ترعانى اذناه، ان راى خيرا دفنه، و ان سمع شرا طار به.

ابن مسعود يرفعه: (و الذى نفسى بيده لايسلم العبد حتى يسلم قلبه و لسانه، و يامن جاره بوائقه)، قالوا: ما بوائقه؟ قال: غشمه و ظلمه).

لقمان: يا بنى، حملت الحجاره و الحديد فلم ارشيئا اثقل من جار السوء.

و انشدوا: الا من يشترى دارا برخص كراهه بعض جيرتها تباع و قال الاصمعى: جاور اهل الشام الروم فاخذوا عنهم خصلتين: اللوم و قله الغيره، و جاور اهل البصره الخزر، فاخذوا عنهم خصلتين: الزنا و قله الوفاء، و جاور اهل الكوفه السواد، فاخذوا عنهم خصلتين: السخاء و الغيره.

و كان يقال: من تطاول على جاره حرم بركه داره.

و كان يقال: م ن آذى جاره ورثه الله داره.

باع ابوالجهم العدوى داره، و كان فى جوار سعيد بن العاص بمائه الف درهم، فلما احضرها المشترى قال له: هذا ثمن الدار، فاعطنى ثمن الجوار، قال: اى جوار؟ قال: جوار سعيد بن العاص، قال: و هل اشترى احد جوارا قط! فقال: رد على دارى، و خذ مالك، لاادع جوار رجل، ان قعدت سال عنى، و ان رآنى رحب بى، و ان غبت عنه حفظنى، و ان شهدت عنده قربنى، و ان سالته قضى حاجتى، و ان لم اساله بدانى، و ان نابتنى نائبه فرج عنى فبلغ ذلك سعيدا فبعث اليه مائه الف درهم، و قال: هذا ثمن دارك، و دارك لك.

الحسن: ليس حسن الجوار كف الاذى، و لكن حسن الجوار الصبر على الاذى.

جائت امراه الى الحسن فشكت اليه الخله، و قالت: انا جارتك، قال: كم بينى و بينك؟ قالت: سبع ادور، فنظر الحسن فاذا تحت فراشه سبعه دراهم، فاعطاها اياها، و قال: كدنا نهلك.

و كان كعب بن مامه اذا جاوره رجل قام له بما يصلحه، و حماه ممن يقصده، و ان هلك له شى ء اخلفه عليه، و ان مات وداه لاهله، فجاوره ابودواد الايادى، فزاره على العاده، فبالغ فى اكرامه.

و كانت العرب اذا حمدت جارا قالت: جار كجار ابى دواد، قال قيس بن زهير: اطوف ما اطوف ثم آوى الى جار كجار ابى دواد ثم تعلم منه ابودواد، و كان يفعل لجاره فعل كعب به.

و قال مسكين الدارمى: ما ضر جارا لى اجاوره الا يكون لبابه ستر اعمى اذا ما اذا جارتى خرجت حتى يوارى جارتى الخدر نارى و نار الجار واحده و البه قبلى ينزل القدر استعرض ابومسلم صاحب الدوله فرسا محضيرا، فقال لاصحابه: لماذا يصلح هذا؟ فذكروا سباق الخيل، و صيد الحمر و النعام، و اتباع الفار من الحرب، فقال: لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء.

سال سليمان على بن خالد بن صفوان عن ابنيه: محمد و سليمان- و كانا جاريه- فقال: كيف احمادك جوارهما؟ فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميرى: سقى الله دارا لى و ارضا تركتها الى جنب دارى معقل بن يسار ابومالك جار لها و ابن مرثد فيا لك جارى ذله و صغار! و فى الحديث المرفوع ايضا من روايه جابر: الجيران ثلاثه: فجار له حق، و جار له حقان، و جار له ثلاثه حقوق، فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له، فحقه حق الجوار، و صاحب الحقين جار مسلم لا رحم له، و صاحب الثلاثه جار مسلم ذو رحم، و ادنى حق الجوار الا توذى جارك بقتار قدرك، الا ان تقتدح له منها.

قلت: تقتدح: تغترف، و المقدحه المغرفه.

و كان يقال: الجيران خمسه: الجار الضار السى ء الجوار، و ال جار الدمس الحسن الجوار، و الجار اليربوعى المنافق، و الجار البراقشى المتلون فى افعاله، و الجار الحسدلى الذى عينه تراك و قلبه يرعاك.

و روى ابوهريره، كان رسول الله (ص) يقول: (اللهم انى اعوذ بك من جار السوء فى دار المقامه، فان دار الباديه تتحول).

قوله (ع): (الله الله فى القرآن) امرهما بالمسارعه الى العمل به، و نهاها ان يسبقهما غيرهما الى ذلك، ثم امرهما بالصلاه و الحج.

و شدد الوصاه فى الحج، فقال: (فانه ان ترك لم تناظروا) اى يتعجل الانتقام منكم.

فاما المثله فمنهى عنها، امر رسول الله (ص) ان يمثل بهبار بن الاسود لانه روع زينب حتى اجهضت، ثم نهى عن ذلك، و قال: لا مثله، المثله حرام.

نامه 048-به معاويه

الشرح:

يوتغان: يهلكان، و الوتغ بالتحريك: الهلاك، و قد وتغ يوتغ وتغا، اى اثم و هلك، و اوتغه الله: اهلكه الله، و اوتغ فلان دينه بالاثم.

قوله: (فتالوا على الله)، اى حلفوا، من الاليه و هى اليمين، و فى الحديث: (من تالى على الله اكذبه الله)، و معناه: من اقسم تجبرا و اقتدارا: لافعلن كذا، اكذبه الله و لم يبلغ امله.

و قد روى: (تاولوا على الله) اى حرفوا الكلم عن مواضعه، و تعلقوا بشبهه فى تاويل القرآن انتصارا لمذاهبهم و آرائهم، فاكذبهم الله بان اظهر للعقلاء فساد تاويلاتهم.

و الاول اصح.

و يغتبط فيه: يفرح و يسر، و الغبطه: السرور، روى (يغبط فيه) اى يتمنى مثل حاله هذه.

قوله: (و يندم من امكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه) الياء التى هى حرف المضارعه عائده على المكلف الذى امكن الشيطان من قياده.

يقول: اذا لم يجاذب الشيطان من قياده فانه يندم، فاما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه.

و مثله قوله: (و لسنا اياك اجبنا) قوله: (و الله ما حكمت مخلوقا و انما حكمت القرآن) و معنى (مخلوقا): بشرا لامحدثا.

نامه 049-به معاويه

الشرح:

هذا كما قيل فى المثل: صاحب الدنيا كشارب ماء البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا، و الاصل فى هذا قول الله تعالى: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا، و لايملا عين ابن آدم الا التراب)، و هذا من القرآن الذى رفع و نسخت تلاوته.

و قد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب و قال: ان اميرالمومنين (ع) كتبه الى عمرو بن العاص، و زاد فيه زياده لم يذكرها الرضى: اما بعد، فان الدنيا مشغله عن الاخره، و صاحبها منهوم عليها، لم يصب شيئا منها قط الا فتحت عليه حرصا، و ادخلت عليه موونه تزيده رغبه فيها، و لن يستغنى صاحبها بما نال عما لم يدرك، و من وراء ذلك فراق ما جمع، و السعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط اجرك اباعبدالله و لاتشرك معاويه فى باطله، فان معاويه غمص الناس، و سفه الحق.

والسلام.

قال نصر: و هذا اول كتاب كتبه على (ع) الى عمرو بن العاص، فكتب اليه عمرو جوابه: اما بعد، فان الذى فيه صلاحنا، و الفه ذات بيننا، ان تنيب الى الحق، و ان تجيب الى ما ندعوكم اليه من الشورى، فصبر الرجل منا نفسه على الحق، و عذره الناس بالمحاجزه، والسلام.

قال نصر: فكتب على (ع) الى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا.

و هو الذى ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل، و هو مذكور فى "نهج البلاغه" و اللهج: الحرص.

و معنى قوله (ع): (لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقى)، اى لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه ان تنفقه فى الضلال و طلب الدنيا و تضيعه.