اصحاب المسالح: جماعات تكون بالثغر يحمون البيضه، و المسلحه هى الثغر، كالمرغبه، و فى الحديث: (كان ادنى مسالح فارس الى العرب العذيب)، قال: يجب على الوالى الا يتطاول على الرعيه بولايته، و ما خص به عليهم من الطول و هو الفضل، و ان تكون تلك الزياده التى اعطيها سببا لزياده دنوه من الرعيه و حنوه عليهم.
ثم قال: (لكم عندى الا احتجز دونكم بسر)، اى لااستتر.
قال: (الا فى حرب)، و ذلك لان الحرب يحمد فيها طى الاسرار، و الحرب خدعه.
ثم قال: (و لااطوى دونكم امرا الا فى حكم)، اى اظهركم على كل ما نفسى مما يحسن ان اظهركم عليه، فاما احكام الشريعه و القضاء على احد الخصمين فانى لااعلمكم به قبل وقوعه، كيلا تفسد القضيه بان يحتال ذلك الشخص لصرف الحكم عنه.
ثم ذكر انه لايوخر لهم حقا عن محله- يعنى العطاء- و انه لايقف دون مقطعه، و الحق هاهنا غير العطاء، بل الحكم، قال زهير: فان الحق مقطعه ثلاث يمين او نفار او جلاء اى متى تعين الحكم حكمت به و قطعت و لااقف، و لااتحبس.
و لما استوفى ما شرط لهم قال: فاذا انا وفيت بما شرطت على نفسى وجبت لله عليكم النعمه و لى عليكم الطاعه.
ثم اخذ فى الاشتراط عليهم كما شرط لهم، فقال: و لى عل يكم الا تنكصوا عن دعوه، اى لاتتقاعسوا عن الجهاد اذا دعوتكم اليه، و لاتفرطوا فى صلاح، اى اذا امكنتكم فرصه، او رايتم مصلحه فى حرب العدو او حمايه الثغر، فلا تفرطوا فيها فتفوت.
و ان تخوضوا الغمرات الى الحق، اى تكابدوا المشاق العظيمه، و لايهولنكم خوضها الى الحق.
ثم توعدهم ان لم يفعلوا ذلك، ثم قال: فخذوا هذا من امرائكم، ليس يعنى به ان على هولاء اصحاب المسالح امراء من قبله (ع) كالواسطه بينهم و بينه، بل من امرائكم، يعنى منى و ممن يقوم فى الخلافه مقامى بعدى، لانه لو كان الغرض هو الاول لما كان محلهم عنده ان يقول: (الا احتجز دونكم بسر و لااطوى دونكم امرا).
لان محل من كان بتلك الصفه دون هذا.
يقول: لو قدرنا ان القبائح العقليه كالظلم و البغى لا عقاب على فعلها بل فى تركها ثواب فقط، لم يكن الانسان معذورا اذا فرط فى ذلك الترك، لانه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على ايصاله اليها.
قوله: (و لاتحشموا احدا)، اى لاتغضبوا طالب حاجه فتقطعوه عن طلبها، احشمت زيدا، و جاء (حشمته)، و هو ان يجلس اليك فتغضبه و توذيه.
و قال ابن الاعرابى: حشمته: اخجلته، و احشمته: اغضبته، و الاسم الحشمه، و هى الاستحياء و الغضب.
ثم نهاهم ان يبيعوا لارباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب ابدانهم و كدابه يعتملون عليها، نحو بقر الفلاحه، و كعبد لابد للانسان منه يخدمه، و يسعى بين يديه.
ثم نهاهم عن ضرب الابشار لاستيفاء الخراج و كتب عدى بن ارطاه الى عمر بن عبدالعزيز يستاذنه فى عذاب العمال، فكتب اليه: كانى لك جنه من عذاب الله، و كان رضاى ينجيك من سخط الله! من قامت عليه بينه، او اقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا الا الاقرار به، فخذه بادائه، فان كان قادرا عليه فاستاد، و ان ابى فاحبسه، و ان لم يقدر فخل سبيله، بعد ان تحلفه بالله انه لايقدر على شى ء، فلان يلقوا الله بجناياتهم احب الى من ان القاه بدمائهم.
ثم نهاهم ان يعرضوا لمال احد م ن المسلمين او من المعاهدين، المعاهد هاهنا: هو الذمى او من يدخل دارالاسلام من بلاد الشرك على عهد، اما لاداء رساله، او لتجاره: و نحو ذلك، ثم يعود الى بلاده.
ثم نهاهم عن الظلم و اخذ اموال الناس على طريق المصادره و التاويل الباطل، قال: الا ان تخافوا غائله المعاهدين، بان تجدوا عندهم خيولا او سلاحا، و تظنوا منهم وثبه على بلد من بلاد المسلمين، فانه لايجوز الاغضاء عن ذلك حينئذ.
قوله: (و ابلوا فى سبيل الله)، اى اصطنعوا من المعروف فى سبيل الله ما استوجب عليكم، يقال: هو يبلوه معروفا، اى يصنعه اليه، قال زهير: جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم و ابلاهما خير البلاء الذى يبلو قوله (ع): (قد اصطنعا عندنا و عندكم ان نشكره)، اى لان نشكره، بلام التعليل و حذفها، اى احسن الينا لنشكره، و حذفها اكثر نحو قوله تعالى: (لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم).
(بيان اختلاف الفقهاء فى اوقات الصلاه) قد اختلف الفقهاء فى اوقات الصلاه، فقال ابوحنيفه: اول وقت الفجر اذا طلع الفجر الثانى، و هو المعترض فى الافق، و آخر وقتها ما لم تطلع الشمس.
و اول وقت الظهر اذا زالت الشمس، و آخر وقتها اذا صار ظل كل شى ء مثليه سوى الزوال.
و قال ابويوسف و محمد: آخر وقتها اذا صار الظل مثله.
قال ابوحنيفه: و اول وقت العصر اذا خرج وقت الظهر، و هذا على القولين، و آخر وقتها ما لم تغرب الشمس، و اول وقت المغرب اذا غربت الشمس، و آخر وقتها ما لم يغب الشفق، و هو البياض الذى فى الافق بعد الحمره.
و قال ابويوسف و محمد: هو الحمره.
قال ابوحنيف: ه و اول وقت العشاء اذا غاب الشفق، و هذا على القولين، و آخر وقتها ما لم يطلع الفجر.
و قال الشافعى: اول وقت الفجر اذا طلع الفجر الثانى، و لايزال وقتها المختار باقيا الى ان يسفر، ثم يبقى وقت الجواز الى طلوع الشمس.
و قال ابوسعيد الاصطخرى من الشافعيه: لايبقى وقت الجواز، بل يخرج وقتها بعد الاسفار و يصلى قضاء، و لم يتابعه على هذا القول احد.
قال الشافعى: و اول وقت الظهر اذا زالت الشمس.
و حكى ابوالطيب الطبرى من الشافعيه ان من الناس من قال: لاتجوز الصل اه حتى يصير الفى ء بعد الزوال مثل الشراك.
و قال مالك: احب ان يوخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا، و هذا مطابق لما قال اميرالمومنين (ع) حين تفى ء الشمس كمربض العنز، اى كموضع تربض العنز، و ذلك نحو ذراع او اكثر بزياده يسيره.
قال الشافعى: و آخر وقت الظهر اذا صار ظل كل شى ء مثله، و يعتبر المثل من حد الزياده على الظل الذى كان عند الزوال، و بهذا القول قال ابويوسف و محمد، و قد حكيناه من قبل، و به ايضا قال الثورى و احمد، و هو روايه الحسن بن زياد اللولوى عن ابى حنيفه، فاما الروايه المشهوره عنه- و هى التى رواها ابويوسف- فهو ان آخر وقت الظهر صيروره الظل مثليه، و قد حكيناه عنه فيما تقدم.
و قال ابن المنذر: تفرد ابوحنيفه بهذا القول، و عن ابى حنيفه روايه ثالثه انه اذا صار ظل كل شى ء مثله خرج وقت الظهر، و لم يدخل وقت العصر الى ان يصير ظل كل شى ء مثليه.
و قال ابوثور و محمد بن جرير الطبرى: قدر اربع ركعات بين المثل و المثلين، يكون مشتركا بين الظهر و العصر.
و حكى عن مالك انه قال: اذا صار ظل كل شى ء مثله، فهو آخر وقت الظهر و اول وقت، العصر فاذا زاد على المثل زياده بينه خرج وقت الظهر و اختص الوقت بالعصر.
و حكى ابن الصباغ من الشافعيه، عن مالك، ان وقت الظهر الى ان يصير ظل كل شى ء مثله وقتا مختارا، فاما وقت الجواز و الاداء فاخره الى ان يبقى الى غروب الشمس قدر اربع ركعات، و هذا القول مطابق لمذهب الاماميه.
و قال ابن جريج و عطاء: لايكون مفرطا بتاخيرها حتى تكون فى الشمس صفره.
و عن طاوس: لايفوت حتى الليل.
فاما العصر: فان الشافعى يقول: اذا زاد على المثل ادنى زياده، فقد دخل وقت العصر، و الخلاف فى ذلك بينه و بين ابى حنيفه، لانه يقول: اول وقت العصر اذا صار ظل كل شى ء مثليه، و زاد عليه ادنى زياده.
و قد حكيناه عنه فيما تقدم.
و كلام اميرالمومنين (ع) فى العصر مطابق لمذهب ابى حنيفه، لان بعد صيروره الظل مثليه، هو الوقت الذى تكون فيه الشمس حيه بيضاء فى عضو من النهار، حين يسار فيه فرسخان، و اما قبل ذلك فانه فوق ذلك يسار من الفراسخ اكثر من ذلك، و لايزال وقت الاختيار عند الشافعى للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شى ء مثليه، ثم يبقى وقت الجواز الى غروب الشمس.
و قال ابوسعيد الاصطخرى من اصحابه: يصير قضاء بمجاوزه المثلين، فاما وقت المغرب فاذا غربت الشمس و غروبها سقوط القرص.
و قال ابوالحسن على بن حبيب الماوردى من الشافعيه: لابد ان يسقط القرص و يغيب حاجب الشم س، و هو الضياء المستعلى عليها كالمتصل بها، و لم يذكر ذلك من الشافعيه احد غيره.
و ذكر الشاشى فى كتاب "حليه العلماء" ان الشيعه قالت: اول وقت المغرب اذا اشتبكت النجوم.
قال قد حكى هذا عنهم.
و لايساوى الحكايه، و لم تذهب الشيعه الى هذا، و سنذكر قولهم فيما بعد.
و كلام اميرالمومنين (ع) فى المغرب لاينص على وقت معين لانه عرف ذلك بكونه وقت الافطار، و وقت ما يدفع الحاج، و كلا الامرين يحتاج الى تعريف كما يحتاج وقت الصلاه، اللهم الا ان يكون قد عرف امراء البلاد الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب متى هذا الوقت الذى يفطر فيه الصائم، ثم يدفع فيه الحاج بعينه، ثم يحيلهم فى هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص.
قال الشافعى: و للمغرب وقت واحد، و هو قول مالك.
و حكى ابوثور عن الشافعى ان لها وقتين، و آخر وقتها اذا غاب الشفق.
و ليس بمشهور عنه، و المشهور القول الاول، و قد ذكرنا قول ابى حنيفه فيما تقدم، و هو امتداد وقتها الى ان يغيب الشفق، و به قال احمد و داود.
و اختلف اصحاب الشافعى فى مقدار الوقت الواحد، فمنهم من قال: هو مقدر بقدر الطهاره و ستر العوره و الاذان و الاقامه و فعل ثلاث ركعات، و منهم من قدره بغير ذلك.
و قال ابواسحاق الشيرازى منهم: التضييق انما هو فى الشروع، فاما الاستدامه فتجوز الى مغيب الشفق.
فاما وقت العشاء فقال الشافعى: هو ان يغيب الشفق و هو الحمره، و هو قول مالك و احمد و داود و ابى يوسف و محمد، و قد حكينا مذهب ابى حنيفه فيما تقدم، و هو ان يغيب الشفق الذى هو البياض، و به قال زفر و المزنى.
قال الشافعى: و آخر وقتها المختار الى نصف الليل، هذا هو قوله القديم، و هو مذهب ابى حنيفه، و قال فى الجديد: الى ثلث الليل.
و يجب ان يحمل قول اميرالمومنين (ع) فى العشاء انها الى ثلث الليل على وقت الاختيار، ليكون مطابقا لهذا القول، و به قال مالك، و احدى الروايتين عن احمد.
ثم يذهب وقت الاختيار: و يبقى وقت الجواز الى طلوع الفجر الثانى.
و قال ابوسعيد الاصطخرى: لايبقى وقت الجواز بعد نصف الليل، بل يصير قضاء.
فقد ذكرنا مذهبى ابى حنيفه و الشافعى فى الاوقات، و هما الامامان المعتبران فى الفقه، و دخل فى ضمن حكايه مذهب الشافعى ما يقوله مالك و احمد و غيرهما من الفقهاء.
فاما مذهب الاماميه من الشيعه، فنحن نذكره نقلا عن كتاب ابى عبدالله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله المعروف "بالرساله المقنعه" قال: وقت الظهر من بعد زوال الشمس الى ان يرجع الفى ء سبعى الشخص، و علامه الزوال رجوع الفى ء بعد انتهائه الى النقصان، و طريق معرفه ذلك بالاصطرلاب او ميزان الشمس، و هو معروف عند كثير من الناس، او بالعمود المنصوب فى الدائره الهنديه ايضا، فمن لم يعرف حقيقه العمل بذلك، او لم يجد آلته فلينصب عودا من خشب او غيره فى ارض مستويه السطح، و يكون اصل العود غليظا و راسه دقيقا شبه المذرى الذى ينسج به التكك او المسله التى تخاط بها الاحمال، فان ظل هذا العود يكون بلا شك فى اول النهار اطول من العود، و كلما ارتفعت الشمس نقص من طوله حتى يقف القرص فى وسط السماء، فيقف الفى ء حينئذ، فاذا زال القرص عن الوسط الى جهه المغرب رجع الفى ء الى الزياده.
فليعتبر من اراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط و علامات يجعلها على راس ظل العود عند وضعه فى صدر النهار، و كلما نقص فى الظل شى ء علم عليه، فاذا رجع الى الزياده على موضع العلامه عرف حينئذ برجوعه ان الشمس قد زالت.
و بذلك تعرف ايضا القبله، فان قرص الشمس يقف فيها وسط النهار، و يصير عن يسارها و يمين المتوجه اليها بعد وقوفها و زوالها عن القطب، فاذا صارت مما يلى حاجبه الايمن من بين عينيه علم انها قد زالت، و عرف ان القبله تلقاء وجهه، و من سبقت معرفته بجهه القبله فه و يعرف زوال الشمس اذا توجه اليها، فراى عين الشمس مما يلى حاجبه الايمن، الا ان ذلك لايبين الا بعد زوالها بزمان، و يبين الزوال من اول وقته بما ذكرناه من الاصطرلاب و ميزان الشمس و الدائره الهنديه و العمود الذى وصفناه، و من لم يحصل له معرفه ذلك، او فقد الاله توجه الى القبله فاعتبر صيروره الشمس على طرف حاجبه الايمن وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر، اذا صليت الظهر فى اول اوقاتها- اعنى بعد زوال الشمس بلا فصل- و يمتد الى ان يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب، و للمضطر و الناسى الى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه ابصارنا من السماء، و اول وقت المغرب مغيب الشمس، و علامه مغيبها عدم الحمره فى المشرق المقابل للمغرب فى السماء، و ذلك ان المشرق فى السماء مطل على المغرب، فما دامت الشمس ظاهره فوق ارضنا فهى تلقى ضوئها على المشرق فى السماء، فيرى حمرتها فيه، فاذا ذهبت الحمره منه علم ان القرص قد سقط و غاب.
و آخره اول وقت العشاء الاخره، و اول وقتها مغيب الشمس و هو الحمره فى المغرب، و آخره مضى الثلث الاول من الليل، و اول وقت الغداه اعتراض الفجر، و هو البياض فى المشرق يعقبه الحمره فى مكانه، و يكون مقدمه لطلوع الشمس على الارض من السماء، و ذ لك ان الفجر الاول، و هو البياض الظاهر فى المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مده عرضا ثم يحمر الافق بعده للشمس.
و لاينبغى للانسان ان يصلى فريضه الغداه حتى يعترض البياض، و ينتشر صعدا فى السماء كما ذكرنا، و آخر وقت الغداه طلوع الشمس.
هذا ما تقوله الفقهاء فى مواقيت الصلاه.
فاما قوله (ع): (و الرجل يعرف وجه صاحبه)، فمعناه الاسفار، و قد ذكرناه.
و قوله (ع): (و صلوا بهم صلاه اضعفهم)، اى لاتطيلوا بالقرائه الكثيره و الدعوات الطويله.
ثم قال: (و لاتكونوا فتانين)، اى لاتفتنوا الناس باتعابهم و ادخال المشقه عليهم باطاله الصلاه و افساد صلاه المامومين بما يفعلونه من افعال مخصوصه، نحو ان يحدث الامام فيستخلف فيصلى الناس خلف خليفته، فان ذلك لايجوز على احد قولى الشافعى، و نحو ان يطيل الامام الركوع و السجود، فيظن المامومون انه قد رفع فيرفعون او يسبقونه باركان كثيره، و نحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء فى كتبهم.
و اعلم ان اميرالمومنين (ع) انما بدا بصلاه الظهر، لانها اول فريضه افترضت على المكلفين من الصلاه على ما كان يذهب اليه (ع)، و الى ذلك تذهب الاماميه، و ينصر قولهم تسميتها بالاولى، و لهذا بدا ابوعبدالله محمد بن محمد بن النعمان بذكرها ق بل غيرها، فاما من عدا هولاء فاول الصلاه المفروضه عندهم الصبح، و هى اول النهار.
و ايضا يتفرع على هذا البحث القول فى الصلاه الوسطى، ما هى؟ فذهب جمهور الناس الى انها العصر، لانها بين صلاتى نهار و صلاتى ليل، و قد رووا ايضا فى ذلك روايات بعضها فى الصحاح، و قياس مذهب الاماميه انها المغرب، لان الظهر اذا كانت الاولى كانت المغرب الوسطى، الا انهم يروون عن ائمتهم (ع) انها الظهر، و يفسرون الوسطى بمعنى الفضلى، لان الوسط فى اللغه هو خيار كل شى ء، و منه قوله تعالى: (جعلناكم امه وسطا)، و قد ذهب الى انها المغرب قوم من الفقهاء ايضا.
و قال كثير من الناس: انها الصبح، لانها ايضا بين صلاتى ليل و صلاتى نهار، و رووا ايضا فيها روايات و هو مذهب الشافعى، و من الناس من قال: انها الظهر كقول الاماميه و لم يسمع عن احد معتبرا انها العشاء الا قولا شاذا ذكره بعضهم.
نصره الله باليد: الجهاد بالسيف، و بالقلب الاعتقاد للحق، و باللسان قول الحق و الامر بالمعروف و النهى عن المنكر، و قد تكفل الله بنصره من نصره، لانه تعالى قال: (و لينصرن الله من ينصره).
و الجمحات: منازعه النفس الى شهواتها و ماربها، و نزعها بكفها.
ثم قال له: قد كنت تسمع اخبار الولاه، و تعيب قوما و تمدح قوما، و سيقول الناس فى امارتك الان نحو ما كنت تقول فى الامراء، فاحذر ان تعاب و تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم.
ثم قال: انما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من السنه الناس بمدحهم و الثناء عليهم، و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك.
و كان يقال: السنه الرعيه اقلام الحق سبحانه الى الملوك.
ثم امره ان يشح بنفسه، و فسر له الشح ما هو؟ فقال: ان تنتصف منها فيما احبت و كرهت، اى لاتمكنها من الاسترسال فى الشهوات، و كن اميرا عليها، و مسيطرا و قامعا لها من التهور و الانهماك.
فان قلت: هذا معنى قوله: (فيما احبت)، فما معنى قوله: (و كرهت)؟ قلت: لانها تكره الصلاه و الصوم و غيرهما من العبادات الشرعيه و من الواجبات العقليه، و كما يجب ان يكون الانسان مهيمنا عليها فى طرف الفعل يجب ان يكون مهيمنا عليها فى طرف الترك.
اشعر قلبك الرحمه، اى اجعلها كالشعار له، و هو الثوب الملاصق للجسد، قال: لان الرعيه، اما اخوك فى الدين، او انسان مثلك تقتضى رقه الجنسيه و طبع البشريه الرحمه له.
قوله: (و يوتى على ايديهم)، مثل قولك: (و يوخذ على ايديهم)، اى يهذبون و يثقفون، يقال: خذ على يد هذا السفيه، و قد حجر الحاكم على فلان، و اخذ على يده.
ثم قال: فنسبتهم اليك كنسبتك الى الله تعالى، و كما تحب ان يصفح الله عنك ينبغى ان تصفح انت عنهم.
قوله: (لاتنصبن نفسك لحرب الله)، اى لا تبارزه بالمعاصى.
فانه لا يدى لك بنقمته، اللام مقحمه، و المراد الاضافه، و نحوه قولهم: لا ابا لك.
قوله: (و لاتقولن انى مومر)، اى لاتقل: انى امير و وال آمر بالشى ء فاطاع.
و الادغال: الافساد، و منهكه للدين: ضعف و سقم.
ثم امره عند حدوث الابهه و العظمه عنده لاجل الرئاسه و الامره ان يذكر عظمه الله تعالى و قدرته على اعدامه و ايجاده، و اماتته و احيائه، فان تذكر ذلك يطامن من غلوائه، اى يغض من تعظمه و تكبره، و يطاطى ء منه.
و الغرب: حد السيف، و يستعار للسطوه و السرعه فى البطش و الفتك.
قوله: (و يفى ء)، اى يرجع اليك بما بعد عنك من عقلك، و حرف المضارعه مضموم لانه من (افاء).
و مساماه الله تعالى: مباراته فى السمو و هو العلو.
قال له: انصف الله، اى قم له بما فرض عليك من العباده و الواجبات العقليه و السمعيه.
ثم قال: و انصف الناس من نفسك و من ولدك و خاصه اهلك و من تحبه و تميل اليه من رعيتك، فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما.
ثم نهاه عن الظلم، و اكد الوصايه عليه فى ذلك.
ثم عرفه ان قانون الاماره الاجتهاد فى رضا العامه، فانه لا مبالاه بسخط خاصه الامير مع رضا العامه، فاما اذا سخطت العامه لم ينفعه رضا الخاصه، و ذلك مثل ان يكون فى البلد عشره او عشرون من اغنيائه، و ذوى الثروه من اهله، يلازمون الوالى و يخدمونه و يسامرونه، و قد صار كالصديق لهم، فان هولاء و من ضارعهم من حواشى الوالى و ارباب الشفاعات و القربات عنده لايغنون عنه شيئا عند تنكر العامه له، و كذاك لايضر سخط هولاء اذا رضيت العامه، و ذلك لان هولاء عنهم غنى، و لهم بدل، و العامه لا غنى عنهم و لا بدل منهم، و لانهم اذا شغبوا عليه كانوا كالبحر اذا هاج و اضطرب، فلا يقاومه احد، و ليس الخاصه كذلك.
ثم قال (ع)- و نعم ما قال: ليس شى ء اقل نفعا، و لااكثر ضررا على الوالى من خواصه ايام الولايه، لانهم يثقلون عليه بالحاجات، و المسائل و الشفاعات، فاذا عزل هجروه و رفضوه حتى لو لقوه فى ال طريق لم يسلموا عليه.
و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور: الميل.
اشناهم عندك، ابغضهم اليك: و تغاب: تغافل، يقال: تغابى فلان عن كذا.
و يضح: يظهر، و الماضى وضح.
(فصل فى النهى عن ذكر عيوب الناس و ما ورد فى ذلك من الاثار) عاب رجل رجلا عند بعض الاشراف فقال له: لقد استدللت على كثره عيوبك بما تكثر فيه من عيوب الناس، لان طالب العيوب انما يطلبها بقدر ما فيه منها.
و قال الشاعر: و اجرا من رايت بظهر غيب على عيب الرجال اولو العيوب و قال آخر: يا من يعيب و عيبه متشعب كم فيك من عيب و انت تعيب! و فى الخبر المرفوع: (دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض).
و قال الوليد بن عتبه بن ابى سفيان: كنت اساير ابى و رجل معنا يقع فى رجل، فالتفت ابى الى فقال: يا بنى، نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به، فان المستمع شريك القائل، انما نظر الى اخبث ما فى وعائه فافرغه فى وعائك، و لو ردت كلمه جاهل فى فيه لسعد رادها كما شقى قائلها.
و قال ابن عباس: الحدث حدثان: حدث من فيك، و حدث من فرجك.
و عاب رجل رجلا عند قتيبه بن مسلم، فقال له قتيبه: امسك ويحك! فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام.
و مر رجل بجارين له و معه ريبه، فقال احدهما لصاحبه: افهمت ما معه من الريبه؟ قال:و ما معه؟ قال: كذا، قال: عبدى حر لوجه الله شكرا له تعالى اذ لم يعرفنى من الشر ما عرفك.
و قال الفضيل بن عياض: ان الفاحشه لتشيع فى كثير من المسلمين حتى اذا صارت الى الصالحين كانوا لها خزانا.
و قيل لبزرجمهر: هل من احد لا عيب فيه؟ فقال: الذى لا عيب فيه لايموت.
و قال الشاعر: و لست بذى نيرب فى الرجا ل مناع خير و سبابها و لا من اذا كان فى جانب اضاع العشيره و اغتابها و لكن اطاوع ساداتها و لااتعلم القابها و قال آخر: لاتلتمس من مساوى الناس ما ستروا فيكشف الله سترا من مساويكا و اذكر محاسن ما فيهم اذا ذكروا و لاتعب احدا منهم بما فيكا و قال آخر: ابدا بنفسك فانهما عن عيبها فاذا انتهت عنه، فانت حكيم فهناك تعذر ان وعظت و يقتدى بالقول منك و يقبل التعليم فاما قوله (ع): (اطلق عن الناس عقده كل حقد)، فقد استوفى هذا العنى زياد فى خطبته البتراء فقال: و قد كانت بينى و بين اقوام احن، و قد جعلت ذلك دبر اذنى و تحت قدمى، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا، و من كان منكم مسيئا فلينزع عن اسائته، انى لو علمت ان احدكم قد قتله السلال من بغضى لم اكشف عنه قناعا، و لم اهتك له سترا، حتى يبدى لى صفحته، فاذا فعل لم اناظر ه، الا فليشمل كل امرى ء منكم على ما فى صدره، و لايكونن لسانه شفره تجرى على ودجه.
(فصل فى النهى عن سماع السعايه و ما ورد فى ذلك من الاثار) فاما قوله (ع): (و لاتعجلن الى تصديق ساع)، فقد ورد فى هذا المعنى كلام حسن، قال ذو الرياستين: قبول السعايه شر من السعايه لان السعايه دلاله، و القبول اجازه، و ليس من دل على شى ء كمن قبله و اجازه، فامقت الساعى على سعايته، فانه لو كان صادقا كان لئيما، اذ هتك العوره، و اضاع الحرمه.
و عاتب مصعب بن الزبير الاحنف على امر بلغه عنه فانكره، فقال مصعب: اخبرنى به الثقه، قال: كلا ايها الامير، ان الثقه لايبلغ.
و كان يقال: لو لم يكن من عيب الساعى الا انه اصدق ما يكون اضر ما يكون على الناس، لكان كافيا.
كانت الاكاسره لاتاذن لاحد ان يطبخ السكباج، و كان ذلك مما يختص به الملك، فرفع ساع الى انوشروان: ان فلانا دعانا و نحن جماعه الى طعام له و فيه سكباج، فوقع انوشروان على رقعته: قد حمدنا نصيحتك، و ذممنا صديقك على سوء اختياره للاخوان.
جاء رجل الى الوليد بن عبدالملك و هو خليفه عبدالملك على دمشق، فقال: ايها الامير، ان عندى نصيحه، قال: اذكرها، قال: جار لى رجع من بعثه سرا، فقال: اما انت فقد اخبرتنا انك جار سوء، فان شئت ارسلنا معك، فان كنت كاذبا عاقبناك، و ان كنت صادقا مقتناك، و ان تركتنا تركناك، قال: بل اتركك ايها الامير.
قال: فانصرف.
و مثل هذا يحكى عن عبدالملك ان انسانا ساله الخلوه، فقال لجلسائه: اذا شئتم! فانصرفوا، فلما تهيا الرجل للكلام قال له: اسمع ما اقول، اياك ان تمدحنى فانا اعرف بنفسى منك، او تكذبنى فانه لاراى لمكذوب، او تسعى باحد الى فانى لااحب السعايه، قال: افياذن اميرالمومنين بالانصراف! قال: اذا شئت.
و قال بعض الشعراء: لعمرك ما سب الامير عدوه و لكنما سب الامير المبلغ و قال آخر: حرمت منائى منك ان كان ذا الذى اتاك به الواشون عنى كما قالوا و لكنهم لما راوك شريعه الى تواصوا بالنميمه و احتالوا فقد صرت اذنا للوشاه سميعه ينالون من عرضى و لو شئت ما نالوا و قال عبدالملك بن صالح لجعفر بن يحيى و قد خرج يودعه لما شخص الى خراسان: ايها الامير، احب ان تكون لى كما قال الشاعر: فكونى على الواشين لداء شغبه كما انا للواشى الد شغوب قال: بل اكون كما قال القائل: و اذا الواشى وشى يوما بها نفع الواشى بما جاء يضر و قال العباس بن الاحنف: ما حطك الواشوان من رتبه عندى و لا ضرك مغتاب كانهم اثن وا و لم يعلموا عليك عندى بالذى عابوا قوله (ع): (و لاتدخلن فى مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، و يعدك الفقر)، ماخوذ من قول الله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر و يامركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفره منه و فضلا)، قال المفسرون: الفحشاء هاهنا البخل، و معنى (يعدكم الفقر)، يخيل اليكم انكم ان سمحتم باموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون.
قوله (ع): (فان البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله)، كلام شريف عال على كلام الحكماء، يقول: ان بينها قدرا مشتركا و ان كانت غرائز و طبائع مختلفه، و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله، لان الجبان يقول فى نفسه: ان اقدمت قتلت، و البخيل يقول: ان سمحت و انفقت افتقرت، و الحريص يقول: ان لم اجد و اجتهد و اداب فاتنى ما اروم، و كل هذه الامور ترجع الى سوء الظن بالله و لو احسن الظن الانسان بالله، و كان يقينه صادقا لعلم ان الاجل مقدر، و ان الرزق مقدر، و ان الغنى و الفقر مقدران، و انه لايكون من ذلك الا ما قضى الله تعالى كونه.
نهاه (ع) الا يتخذ بطانه قد كانوا من قبل بطانه للظلمه، و ذلك لان الظلم و تحسينه قد صار ملكه ثابته فى انفسهم، فبعيد ان يمكنهم الخلو منها اذ قد صارت كالخلق الغريزى اللازم لتكرارها و صيرورتها عاده، فقد جائت النصوص فى الكتاب و السنه بتحريم معاونه الظلمه و مساعدتهم، و تحريم الاستعانه بهم، فان من استعان بهم كان معينا لهم، قال تعالى: (و ما كنت متخذ المضلين عضدا)، و قال: (لاتجد قوما يومنون بالله و اليوم الاخر يوادون من حاد الله و رسوله).
و جاء فى الخبر المرفوع: (ينادى يوم القيامه: اين من برى لهم- اى الظالمين- قلما).
اتى الوليد بن عبدالملك برجل من الخوارج، فقال له: ما تقول فى الحجاج؟ قال: و ما عسيت ان اقول فيه! هل هو الا خطيئه من خطاياك، و شرر من نارك! فلعنك الله و لعن الحجاج معك! و اقبل يشتمهما، فالتفت الوليد الى عمر بن عبدالعزيز فقال: ما تقول فى هذا؟ قال: ما اقول فيه! هذا رجل يشتمكم، فاما ان تشتموه كما شتمكم، و اما ان تعفوا عنه.
فغضب الوليد و قال لعمر: ما اظنك الا خارجيا! فقال عمر: و ما اظنك الا مجنونا، و قام فخرج مغضبا، و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطه الوليد، فقال له ما دعاك الى ما كلمت به امي رالمومنين! لقد ضربت بيدى الى قائم سيفى انتظر متى يامرنى بضرب عنقك، قال: او كنت فاعلا لو امرك؟ قال: نعم.
فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على راسه متقلدا سيفه، فنظر اليه و قال: يا خالد، ضع سيفك فانك مطيعنا فى كل امر نامرك به- و كان بين يديه كاتب للوليد، فقال له: ضع انت قلمك، فانك كنت تضر به و تنفع، اللهم انى قد وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا.
و روى الغزالى فى كتاب "احياء علوم الدين"، قال لما خالط الزهرى السلطان كتب اخ له فى الدين اليه: عافانا الله و اياك ابابكر من الفتن، فقد اصبحت بحال ينبغى لمن عرفك ان يدعو الله لك و يرحمك، فقد اصبحت شيخا كبيرا، و قد اثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه، و علمك من سنه نبيه، و ليس كذلك اخذ الله الميثاق على العلماء، فانه تعالى قال: (لتبيننه للناس و لاتكتمونه).
و اعلم ان ايسر ما ارتكبت، و اخف ما احتملت، انك آنست وحشه الظالم، و سهلت سبيل الغى بدنوك الى من لم يود حقا، و لم يترك باطلا حين ادناك، اتخذوك ابابكر قطبا تدور عليه رحا ظلمهم، و جسرا يعبرون عليه الى بلائهم و معاصيهم، و سلما يصعدون فيه الى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء، و يقت ادون بك قلوب الجهلاء، فما ايسر ما عمروا لك فى جنب ما خربوا عليك، و ما اكثر ما اخذوا منك فى جنب ما افسدوا من حالك و دينك! و ما يومنك ان تكون ممن قال الله تعالى فيهم (فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاه و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) يا ابابكر، انك تعامل من لايجهل، و يحفظ عليك من لايغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، و هى ء زادك فقد حضر سفر بعيد، (و ما يخفى على الله من شى ء فى الارض و لا فى السماء)، والسلام.
قوله: (و الصق باهل الورع)، كلمه فصيحه، يقول: اجعلهم خاصتك و خلصائك.
قال: ثم رضهم على الا يطروك، اى عودهم الا يمدحوك فى وجهك.
و لايبجحوك بباطل: لايجعلوك ممن يبجح اى يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح اصحاب الامراء الامراء بان يقولوا لهم: ما راينا اعدل منكم و لااسمح، و لا حمى هذا الثغر امير اشد باسا منكم! و نحو ذلك، و قد جاء فى الخبر: (احثوا فى وجوه المداحين التراب).
و قال عبدالملك لمن قام يساره: ما تريد! اتريد ان تمدحنى و تصفنى، انا اعلم بنفسى منك.
و قام خالد بن عبدالله القسرى الى عمر بن عبدالعزيز يوم بيعته فقال: يا اميرالمومنين، من كانت الخلافه زائنته فقد زينتها، و من كانت شرفته فقد شرفتها، فانك لكما قال القائل : و اذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا فقال عمر بن عبدالعزيز: لقد اعطى صاحبكم هذا مقولا، و حرم معقولا.
و امره ان يجلس.
و لما عقد معاويه البيعه لابنه يزيد قام الناس يخطبون، فقال معاويه لعمرو بن سعيد الاشدق: قم فاخطب يا ابااميه، فقام فقال: اما بعد، فان يزيد ابن اميرالمومنين امل تاملونه، و اجل تامنونه ان افتقرتم الى حلمه وسعكم، و ان احتجتم الى رايه ارشدكم، و ان اجتديتم ذات يده اغناكم و شملكم، جذع قارح، سوبق فسبق، و موجد فمجد، و قورع فقرع، و هو خلف اميرالمومنين، و لا خلف منه.
فقال معاويه: اوسعت يا ابااميه فاجلس، فانما اردنا بعض هذا.
و اثنى رجل على على (ع) فى وجهه ثناء اوسع فيه- و كان عنده متهما- فقال له: انا دون ما تقول، و فوق ما فى نفسك.
و قال ابن عباس لعتبه بن ابى سفيان و قد اثنى عليه فاكثر: رويدا فقد امهيت يا اباالوليد- يعنى بالغت، يقال امهى حافر البئر، اذا استقصى حفرها.
فاما قوله (ع): (و لايكونن المحسن و المسى ء عندك بمنزله سواء)، فقد اخذه الصابى فقال: (و اذا لم يكن للمحسن ما يرفعه، و للمسى ء ما يضعه، زهد المحسن فى الاحسان، و استمر المسى ء على الطغيان)، و قال ابوالطيب: شر البلاد بلاد صديق بها و شر ما يكسب الانسان ما يصم و شر ما قبضته راحتى قنص شهب البزاه سواء فيه و الرخم و كان يقال: قضاء حق المحسن ادب للمسى ء، و عقوبه المسى ء جزاء للمحسن.
خلاصه صدر هذا الفصل، ان من احسن اليك حسن ظنه فيك، و من اساء اليك استوحش منك، و ذلك لانك اذا احسنت الى انسان و تكرر منك ذلك الاحسان تبع ذلك اعتقادك انه قد احبك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو انك تحبه، لان الانسان مجبول على ان يحب من يحبه، و اذا احببته سكنت اليه و حسن ظنك فيه، و بالعكس من ذلك اذا اسات الى زيد، لانك اذا اسات اليه و تكررت الاسائه تبع ذلك اعتقادك انه قد ابغضك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو ان تبغضه انت، و اذا ابغضته انقبضت منه و استوحشت، و ساء ظنك به.
قال المنصور للربيع: سلنى لنفسك، قال: يا اميرالمومنين، ملات يدى فلم يبق عندى موضع للمساله، قال: فسلنى لولدك، قال: اسالك ان تحبه، فقال المنصور : يا ربيع، ان الحب لايسال، و انما هو امر تقتضيه الاسباب، قال: يا اميرالمومنين، و انما اسالك ان تزيد من احسانك، فاذا تكرر احبك، و اذا احبك احببته.
فاستحسن المنصور ذلك، ثم نهاه عن نقض السنن الصالحه التى قد عمل بها من قبله من صالحى الامه، فيكون الوزر عليه بما نقض، و الاجر لاولئك بما اسسوا، ثم امره بمطارحه العلماء و الحكماء فى مصالح عمله، فان المشوره بركه، و من استشار فقد اضاف عقلا الى عقله.
و مما جاء فى معنى الاول: قال رجل لاياس بن معاويه: من احب الناس اليك؟ قال: الذين يعطونى، قال: ثم من؟ قال: الذين اعطيهم.
و قال رجل لهشام بن عبدالملك: ان الله جعل العطاء محبه، و المنع مبغضه، فاعنى على حبك، و لاتعنى فى بغضك.
قالت الحكماء: الانسان مدنى بالطبع، و معناه انه خلق خلقه لابد معها من ان يكون منضما الى اشخاص من بنى جنسه، و متمدنا فى مكان بعينه، و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينه ذات السور و السوق، بل لابد ان يقيم فى موضع ما مع قوم من البشر، و ذلك لان الانسان مضطر الى ما ياكله و يشربه ليقيم صورته، و مضطر الى ما يلبسه، ليدفع عنه اذى الحر و البرد، و الى مسكن يسكنه ليرد عنه عاديه غيره من الحيوانات، و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركه عليه، و معلوم ان الانسان وحده لايستقل بالامور التى عددناها، بل لابد من جماعه يحرث بعضهم لغيره الحرث، و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب، و ذلك الحائك يبنى له غيره المسكن، و ذلك البناء يحمل له غيره الماء، و ذلك السقاء يكفيه غيره امر تحصيل الاله التى يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق، و يخبز بها العجين و ذلك المحصل لهذه الاشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجه التى تدعو اليها داعيه الشبق، فيحصل مساعده بعض الناس لبعض، لولا ذلك لما قامت الدنيا، فلهذا معنى قوله (ع): (انهم طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، و لا غناء ببعضها عن بعض).
ثم فصلهم و قسمهم فقال: منهم الجند، و منهم الكتاب، و منهم القضاه، و منهم العمال، و منهم ارباب الجزيه من اهل الذمه، و منهم ارباب الخراج من المسلمين، و منهم التجار، و منهم ارباب الصناعات.
و منهم ذوو الحاجات و المسكنه، و هم ادون الطبقات.
ثم ذكر اعمال هذه الطبقات فقال: الجند للحمايه، و الخراج يصرف الى الجند و القضاه و العمال و الكتاب لما يحكمونه من المعاقد، و يجمعونه من المنافع، و لابد لهولاء جميعا من التجار لاجل البيع و الشراء الذى لا غناء عنه، و لابد لكل من ارباب الصناعات كالحداد و النجار و البناء و امثالهم.
ثم تلى هولاء الطبقه السفلى، و هم اهل الفقر و الحاجه الذين تجب معونتهم و الاحسان اليهم.
و انما قسمهم فى هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد، فانه قد شرع بعد هذا الفصل، فذكر طبقه طبقه و صنفا صنفا، و اوصاه فى كل طبقه و فى كل صنف منهم بما يليق بحاله، و كانه مهد هذا التمهيد، كالفهرست لما ياتى بعده من التفصيل.