نهاه عن الاحتجاب، فانه مظنه انطواء الامور عنه، و اذا رفع الحجاب دخل عليه كل احد فعرف الاخبار، و لم يخف عليه شى ء من احوال عمله.
ثم قال: لم تحتجب، فان اكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد!.
و انت فان كنت جوادا سمحا لم يكن لك الى الحجاب داع، و ان كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك، فلا يسالك احد شيئا.
ثم قال: على ان اكثر ما يسال منك ما لا موونه عليه فى ماله، كرد ظلامه او انصاف من خصم.
(ذكر الحجاب و ما ورد فيه من الخبر و الشعر) و القول فى الحجاب كثير: حضر باب عمر جماعه من الاشراف: منهم سهيل بن عمرو و عيينه بن حصن و الاقرع ابن حابس، فحجبوا، ثم خرج الاذن فنادى: اين عمار؟ اين سلمان؟ اين صهيب؟ فادخلهم فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل بن عمرو: لم تتمعر وجوهكم! دعوا و دعينا فاسرعوا و ابطانا، و لئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لانتم غدا لهم احسد.
و استاذن ابوسفيان على عثمان فحجبه، فقيل له: حجبك! فقال: لاعدمت من اهلى من اذا شاء حجبنى.
و حجب معاويه اباالدردائ؟ فقيل لابى الدرداء: حجبك معاويه! فقال: من يغش ابواب الملوك يهن و يكرم، و من صادف بابا مغلقا عليه وجد الى جانبه بابا مفتوحا، ان سال اعطى، و ان دع ا اجيب، و ان يكن معاويه قد احتجب فرب معاويه لم يحتجب.
و قال ابرويز لحاجبه: لاتضعن شريفا بصعوبه حجاب، و لاترفعن وضيعا بسهولته، ضع الرجال مواضع اخطارهم، فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه و لم يهدمه بعد آبائه فقدمه على شرفه الاول، و حسن رايه الاخر، و من كان له شرف متقدم و لم يصن ذلك حياطه له، و لم يزدرعه تثمير المغارسه، فالحق بابائه من رفعه حاله ما يقتضيه سابق شرفهم، و الحق به فى خاصته ما الحق بنفسه، و لاتاذن له الا دبريا و الا سرارا، و لاتلحقه بطبقه الاولين.
و اذا ورد كتاب عامل من عمالى فلا تحبسه عنى طرفه عين الا ان اكون على حال لاتستطيع الوصول الى فيها، و اذا اتاك من يدعى النصيحه لنا فلتكتبها سرا ثم ادخله بعد ان تستاذن له، حتى اذا كان منى بحيث اراه فادفع الى كتابه، فان احمدت قبلت، و ان كرهت رفضت.
و ان اتاك عالم مشتهر بالعلم و الفضل يستاذن، فاذن له، فان العلم شريف و شريف صاحبه، و لاتحجبن عنى احدا من افناء الناس، اذا اخذت مجلسى مجلس العامه، فان الملك لايحجب الا عن ثلاث: عى يكره ان يطلع عليه منه، او بخل يكره ان يدخل عليه من يساله، او ريبه هو مصر عليها فيشفق من ابدائها، و وقوف الناس عليها، و لابد ان يحيطوا بها علما، و ان اجتهد فى سترها.
و قد اخذ هذا المعنى الاخير محمود الوراق فقال: اذا اعتصم الوالى باغلاق بابه و رد ذوى الحاجات دون حجابه ظننت به احدى ثلاث و ربما رجمت بظن واقع بصوابه اقول به مس من العى ظاهر ففى اذنه للناس اظهار ما به فان لم يكن عى اللسان فغالب من البخل يحمى ماله عن طلابه و ان لم يكن لا ذا و لا ذا فريبه يكتمها مستوره بثيابه اقام عبدالعزيز بن زراره الكلابى على باب معاويه سنه فى شمله من صوف لاياذن له، ثم اذن له و قربه و ادناه، و لطف محله عنده حتى ولاه مصر، فكان يقال: استاذن اقوام لعبدالعزيز بن زراره، ثم صار يستاذن لهم، و قال فى ذلك: دخلت على معاويه بن حرب و لكن بعد ياس من دخول و ما نلت الدخول عليه حتى حللت محله الرجل الذليل و اغضيت الجفون على قذاها و لم انظر الى قال و قيل و ادركت الذى املت منه و حرمان المنى زاد العجول و يقال: انه قال له لما دخل عليه اميرالمومنين: دخلت اليك بالامل، و احتملت جفوتك بالصبر، و رايت ببابك اقواما قدمهم الحظ، و آخرين اخرهم الحرمان، فليس ينبغى للمقدم ان يامن عواقب الايام، و لا للموخر ان ييئس من عطف الزمان.
و اول المعرفه الاختبار، فابل و اختبر ان رايت.
و كان يقال: لم يلزم باب السلطان احد فصبر على ذل الحجاب، و كلام البواب، و القى الانف، و حمل الضيم، و ادام الملازمه، الا وصل الى حاجته او الى معظمها.
قال عبدالملك لحاجبه: انك عين انظر بها، و جنه استلئم بها، و قد وليتك ما وراء بابى، فماذا تراك صانعا برعيتى؟ قال: انظر اليهم بعينك، و احملهم على قدر منازلهم عندك، و اضعهم فى ابطائهم عن بابك، و لزوم خدمتك مواضع استحقاقهم، و ارتبهم حيث وضعهم ترتيبك، و احسن ابلاغهم عنك و ابلاغك عنهم.
قال: لقد وفيت بما عليك، و لكن ان صدقت ذلك بفعلك.
و قال دعبل و قد حجب عن باب مالك بن طوق: لعمرى لئن حجبتنى العبيد لما حجبت دونك القافيه سارمى بها من وارء الحجاب شنعاء تاتيك بالداهيه تصم السميع و تعمى البصير و يسال من مثلها العافيه و قال آخر: ساترك هذا الباب مادام اذنه على ما ارى حتى يلين قليلا فما خاب من لم ياته مترفعا و لا فاز من قد رام فيه دخولا اذا لم نجد للاذن عندك موضعا وجدنا الى ترك المجى ء سبيلا و كتب ابوالعتاهيه الى احمد بن يوسف الكاتب و قد حجبه: و ان عدت بعد اليوم انى لظالم ساصرف وجهى حيث تبغى المكارم متى يفلح الغادى اليك لحاجه و نصفك محجوب و نصفك نا ئم! يعنى ليله و نهاره.
استاذن رجلان على معاويه، فاذن لاحدهما- و كان اشرف منزله من الاخر- ثم اذن للاخر فدخل، فجلس فوق الاول، فقال معاويه: ان الله قد الزمنا تاديبكم كما الزمنا رعايتكم، و انا لم ناذن له قبلك، و نحن نريد ان يكون مجلسه دونك، فقم لااقام الله لك وزنا.
و قال بشار: تابى خلائق خالد و فعاله الا تجنب كل امر عائب و اذا اتينا الباب وقت غدائه ادنى الغداء لنا برغم الحاجب و قال آخر يهجو: يا اميرا على جريب من الار ض له تسعه من الحجاب قاعد فى الخراب يحجب عنا ما سمعنا بحاجب فى خراب و كتب بعضهم الى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيدالله بن سليمان بن وهب: اباجعفر ان الولايه ان تكن منبله قوسا فانت لها نبل فلا ترتفع عنا لامر وليته كما لم يصغر عندنا شانك العزل و من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل: بعيد مراد الطرف ما رد طرفه حذار الغواشى باب دار و لا ستر و لو شاء بشر كان من دون بابه طماطم سود او صقالبه حمر و لكن بشرا يستر الباب للتى يكون لها فى غبها الحمد و الاجر و قال بشار: خليلى من كعب اعينا اخاكما على دهره ان الكريم يعين و لاتبخلا بخل ابن قرعه انه مخافه ان يرجى نداه حز ين اذا جئته للعرف اغلق بابه فلم تلقه الا و انت كمين فقل لابى يحيى متى تدرك العلا و فى كل معروف عليك يمين! و قال ابراهيم بن هرمه: هش اذا نزل الوفود ببابه سهل الحجاب مودب الخدام و اذا رايت صديقه و شقيقه لم تدر ايهما ذوى الارحام و قال آخر: و انى لاستحيى الكريم اذا اتى على طمع عند اللئيم يطالبه و ارثى له من مجلس عند بابه كمرثيتى للطرف و العلج راكبه و قال عبدالله بن محمد بن عيينه: اتيتك زائرا لقضاء حق فحال الستر دونك و الحجاب و رايى مذهب عن كل ناء يجانبه اذا عز الذهاب و لست بساقط فى قدر قوم و ان كرهوا كما يقع الذباب و قال آخر: ما ضاقت الارض على راغب تطلب الرزق و لا راهب بل ضاقت الارض على شاعر اصبح يشكو جفوه الحاجب قد شتم الحاجب فى شعره و انما يقصد للصاحب
نهاه (ع) عن ان يحمل اقاربه و حاشيته و خواصه على رقاب الناس، و ان يمكنهم من الاستئثار عليهم و التطاول و الاذلال، و نهاه من ان يقطع احدا منهم قطيعه، او يملكه ضيعه تضر بمن يجاورها من الساده و الدهاقين فى شرب يتغلبون على الماء منه، او ضياع يضيفونها الى ما ملكهم اياه، و اعفاء لهم من مونه، او حفر و غيره، فيعفيهم الولاه منه مراقبه لهم، فيكون مونه ذلك الواجب عليهم قد اسقطت عنهم، و حمل ثقلها على غيرهم.
ثم قال (ع): لان منفعه ذلك فى الدنيا تكون لهم دونك، و الوزر فى الاخره عليك، و العيب و الذم فى الدنيا ايضا لاحقان بك.
ثم قال له: ان اتهمتك الرعيه بحيف عليهم، او ظنت بك جورا، فاذكر لهم عذرك فى ذلك، و ما عندك ظاهرا غير مستور، فانه الاولى و الاقرب الى استقامتهم لك على الحق.
و اصحرت بكذا، اى كشفته، ماخوذ من الاصحار، و هو الخروج الى الصحراء.
و حامه الرجل: اقاربه و بطانته.
و اعتقدت عقده، اى ادخرت ذخيره.
و المهنا مصدر هناه كذا.
و مغبه الشى ء: عاقبته.
و اعدل عنك ظنونهم: نحها.
و الاغدار: اقامه العذر.
(طرف من اخبار عمر بن عبد العزيز و نزاهته فى خلافته) رد عمر بن عبدالعزيز المظالم التى احتقبها بنو مروان فا بغضوه و ذموه، و قيل: انهم سموه فمات.
و روى الزبير بن بكار فى "الموفقيات" ان عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز دخل على ابيه يوما و هو فى قائلته، فايقظه.
و قال له: ما يومنك ان توتى فى منامك و قد رفعت اليك مظالم لم تقض حق الله فيها! فقال: يا بنى ان نفسى مطيتى ان لم ارفق بها لم تبلغنى، انى لو اتعبت نفسى و اعوانى لم يكن ذلك الا قليلا حتى اسقط و يسقطوا، و انى لاحتسب فى نومتى من الاجر مثل الذى احتسب فى يقظتى، ان الله جل ثناوه لو اراد ان ينزل القرآن جمله لانزله، و لكنه انزل الايه و الايتين حتى استكثر الايمان فى قلوبهم.
ثم قال: يا بنى مما انا فيه امر هو اهم الى اهل بيتك، هم اهل العده و العدد، و قبلهم ما قبلهم، فلو جمعت ذلك فى يوم واحد خشيت انتشارهم على، و لكنى انصف من الرجل و الاثنين، فيبلغ ذلك من ورائهما، فيكون انجع له، فان يرد الله اتمام هذا الامر اتمه، و ان تكن الاخرى فحسب عبد ان يعلم الله منه انه يحب ان ينصف جميع رعيته.
و روى جويريه بن اسماء، عن اسماعيل بن ابى حكيم، قال: كنا عند عمر بن عبدالعزيز، فلما تفرقنا نادى مناديه: الصلاه جامعه! فجئت المسجد، فاذا عمر على المنبر، فحمد الله و اثنى عليه، ثم قال: اما بعد، فان هولاء- يعنى خلفاء بنى اميه قبله- قد كانوا اعطونا عطايا ما كان ينبغى لنا ان ناخذها منهم، و ما كان ينبغى لهم ان يعطوناها، و انى قد رايت الان انه ليس على فى ذلك دون الله حسيب، و قد بدات بنفسى و الاقربين من اهل بيتى، اقرا يا مزاحم.
فجعل مزاحم يقرا كتابا فيه الاقطاعات بالضياع و النواحى، ثم ياخذه عمر بيده فيقصه بالجلم، لم يزل كذلك حتى نودى بالظهر.
و روى الفرات بن السائب، قال: كان عند فاطمه بنت عبدالملك بن مروان جوهر جليل، وهبها ابوها، و لم يكن لاحد مثله، و كانت تحت عمر بن عبدالعزيز، فلما ولى الخلافه قال لها: اختارى، اما ان تردى جوهرك و حليك الى بيت مال المسلمين، و اما ان تاذنى لى فى فراقك، فانى اكره ان اجتمع انا و انت و هو فى بيت واحد.
فقالت: بل اختارك عليه و على اضعافه لو كان لى، و امرت به فحمل الى بيت المال، فلما هلك عمر و استخلف يزيد بن عبدالملك قال لفاطمه اخته: ان شئت رددته عليك، قالت: فانى لا اشاء ذلك، طبت عنه نفسا فى حياه عمر، و ارجع فيه بعد موته! لا و الله ابدا.
فلما راى يزيد ذلك قسمه بين ولده و اهله.
و روى سهيل بن يحيى المروزى عن ابيه، عن عبدالعزيز، عن عمر بن عبدالعزيز، قال: لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال: انى قد خلعت ما فى رقبتى من بيعتكم.
فصاح الناس صيحه واحده: قد اخترناك، فنزل و دخل و امر بالستور فهتكت، و الثياب التى كانت تبسط للخلفاء فحملت الى بيت المال، ثم خرج و نادى مناديه: من كانت له مظلمه من بعيد او قريب من اميرالمومنين فليحضر، فقام رجل ذمى من اهل حمص ابيض الراس و اللحيه، فقال: اسالك كتاب الله! قال: ما شانك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبدالملك اغتصبنى ضيعتى- و العباس جالس- فقال عمر: ما تقول يا عباس؟ قال: اقطعنيها اميرالمومنين الوليد، و كتب لى بها سجلا.
فقال عمر: ما تقول انت ايها الذمى؟ قال: يا اميرالمومنين، اسالك كتاب الله! فقال عمر: ايها لعمرى ان كتاب الله لاحق ان يتبع من كتاب الوليد، اردد عليه يا عباس ضيعته، فجعل لايدع شيئا مما كان فى ايدى اهل بيته من المظالم الا ردها مظلمه مظلمه.
و روى ميمون بن مهران، قال: بعث الى عمر بن عبدالعزيز و الى مكحول و ابى قلابه فقال: ما ترون فى هذه الاموال التى اخذها اهلى من الناس ظلما؟ فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر، فقال: ارى ان تستانف و تدع ما مضى فنظر الى عمر كالمستغيث بى، فقلت: يا اميرالمومنين، احضر ولدك عبدالملك لننظر ما يقول.
فحضر، فقال: ما تقول يا عبدالملك؟ فقال: ماذ ا اقول؟ الست تعرف مواضعها! قال: بلى و الله، قال: فارددها، فان لم تفعل كنت شريكا لمن اخذها.
و روى ابن درستويه، عن يعقوب بن سفيان، عن جويريه بن اسماء، قال: كان بيد عمر بن عبدالعزيز قبل الخلافه ضيعته المعروفه بالسهله، و كانت باليمامه.
و كانت امرا عظيما لها غله عظيمه كثيره، انما عيشه و عيش اهله منها، فلما ولى الخلافه قال لمزاحم مولاه- و كان فاضلا-: انى قد عزمت ان ارد السهله الى بيت مال المسلمين، فقال مزاحم: اتدرى كم ولدك؟ انهم كذا و كذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع و يمسح الدمعه باصبعه الوسطى، و يقول: اكلهم الى الله، اكلهم الى الله! فمضى مزاحم فدخل على عبدالملك ابن عمر، فقال له: الا تعلم ما قد عزم عليه ابوك! انه يريد ان يرد السهله، قال: فما قلت له؟ قال: ذكرت له ولده فجعل يستدمع و يقول: اكلهم الى الله.
فقال عبدالملك: بئس وزير الدين انت! ثم وثب و انطلق الى ابيه فقال للاذن: استاذن لى عليه، فقال: انه قد وضع راسه الساعه للقائله، فقال: استاذن لى عليه، فقال: اما ترحمونه! ليس له من الليل و النهار الا هذه الساعه.
قال: استاذن لى عليه لا ام لك! فسمع عمر كلامهما، فقال: ائذن لعبدالملك، فدخل فقال: على ماذا عزمت؟ قال: ارد ال سهله قال: فلا توخر ذلك قم الان.
قال: فجعل عمر يرفع يديه و يقول: الحمد لله الذى جعل لى من ذريتى من يعيننى على امر دينى.
قال: نعم يا بنى اصلى الظهر، ثم اصعد المنبر فاردها علانيه على رئوس الناس، قال: و من لك ان تعيش الى الظهر، ثم من لك ان تسلم نيتك الى الظهر ان عشت اليها! فقام عمر فصعد المنبر، فخطب الناس و رد السهله.
قال: و كتب عمر بن الوليد بن عبدالملك الى عمر بن عبدالعزيز لما اخذ بنى مروان برد المظالم كتابا اغلظ له فيه، من جملته: انك ازريت على كل من كان قبلك من الخلفاء و عبتهم، و سرت بغير سيرتهم بغضا لهم و شنانا لمن بعدهم من اولادهم، و قطعت ما امر الله به ان يوصل، و عمدت الى اموال قريش و مواريثهم فادخلتها بيت المال جورا و عدوانا، فاتق الله يابن عبدالعزيز و راقبه، فانك خصصت اهل بيتك بالظلم و الجور.
و والذى خص محمد (ص) بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التى زعمت انها عليك بلاء.
فاقصر عن بعض ما صنعت، و اعلم انك بعين جبار عزيز و فى قبضته، و لن يتركك على ما انت عليه.
قالوا: فكتب عمر جوابه: اما بعد، فقد قرات كتابك، و سوف اجيبك بنحو منه، اما اول امرك يابن الوليد فان امك نباته امه السكون، كانت تطوف فى اسوا ق حمص، و تدخل حوانيتها، ثم الله اعلم بها، اشتراها ذبيان بن ذبيان من فى ء المسلمين، فاهداها لابيك، فحملت بك، فبئس الحامل و بئس المحمول! ثم نشات فكنت جبارا عنيدا.
و تزعم انى من الظالمين لانى حرمتك و اهل بيتك فى ء الله الذى هو حق القرابه و المساكين و الارامل! و ان اظلم منى و اترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برايك، و لم يكن له فى ذاك نيه الا حب الوالد ولده، فويل لك و ويل لابيك! ما اكثر خصمائكما يوم القيامه! و ان اظلم منى و اترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسى العرب، يسفك الدم الحرام، و ياخذ المال الحرام.
و ان اظلم منى و اترك لعهد الله من استعمل قره بن شريك، اعرابيا جافيا على مصر، و اذن له فى المعازف و الخمر و الشرب و اللهو.
و ان اظلم منى و اترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز، فينشد الاشعار على منبر رسول الله (ص)، و من جعل للعاليه البربريه سهما فى الخمس، فرويدا يابن نباته، و لو التقت حلقتا البطان و رد الفى ء الى اهله، لتفرغت لك و لاهل بيتك فوضعتكم على المحجه البيضاء، فطالما تركتم الحق، و اخذتم فى بنيات الطريق! و من وراء هذا من الفضل ما ارجو ان اعمله، بيع رق بتك، و قسم ثمنك بين الارامل و اليتامى و المساكين، فان لكل فيك حقا، و السلام علينا، و لاينال سلام الله الظالمين.
و روى الاوزاعى قال: لما قطع عمر بن عبدالعزيز عن اهل بيته ما كان من قبله يجرونه عليهم من ارزاق الخاصه، فتكلم فى ذلك عنبسه بن سعيد، فقال: يا اميرالمومنين، ان لنا قرابه، فقال: مالى ان يتسع لكم، و اما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل باقصى برك الغماد، و لايمنعه من اخذه الا بعد مكانه.
و الله انى لارى ان الامور لو استحالت حتى يصبح اهل الارض يرون مثل رايكم لنزلت بهم بائقه من عذاب الله.
و روى الاوزاعى ايضا، قال: قال عمر بن عبدالعزيز يوما و قد بلغه عن بنى اميه كلام اغضبه: ان لله فى بنى اميه يوما- او قال: ذبحا- و ايم الله لئن كان ذلك الذبح- او قال ذلك اليوم- على يدى لاعذرن الله فيهم.
قال: فلما بلغهم ذلك كفوا، و كانوا يعلمون صرامته، و انه اذا وقع فى امر مضى فيه.
و روى اسماعيل بن ابى حكيم، قال: قال عمر بن عبدالعزيز يوما لحاجبه: لاتدخلن على اليوم الا مروانيا.
فلما اجتمعوا قال: يا بنى مروان، انكم قد اعطيتم حظا و شرفا و اموالا، انى لاحسب شطر اموال هذه الامه او ثلثيها فى ايديكم، فسكتوا، فقال: الا تجيبونى؟ فقال رجل منهم : فما بالك؟ قال: انى اريد ان انتزعها منكم، فاردها الى بيت مال المسلمين.
فقال رجل منهم: و الله لايكون ذلك حتى يحال بين رئوسنا و اجسادنا، و الله لانكفر اسلافنا، و لانفقر اولادنا.
فقال عمر: و الله لولا ان تستعينوا على بمن اطلب هذا الحق له لاضرعت خدودكم! قوموا عنى.
و روى مالك بن انس، قال: ذكر عمر بن عبدالعزيز من كان قبله من المروانيه فعابهم، و عنده هشام بن عبدالملك، فقال: يا اميرالمومنين، انا و الله نكره ان تعيب آبائنا، و تضع شرفنا، فقال عمر: و اى عيب اعيب مما عابه القرآن!.
و روى نوفل بن الفرات، قال: شكا بنومروان الى عاتكه بنت مروان بن الحكم عمر، فقالوا: انه يعيب اسلافنا، و ياخذ اموالنا.
فذكرت ذلك له- و كانت عظيمه عند بنى مروان- فقال لها: يا عمه، ان رسول الله (ص) قبض و ترك الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا انفسهما و اهلهما منه بشى ء، ثم وليه ثالث فكرى منه ساقيه، ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقى حتى تركوه يابسا لا قطره فيه، و ايم الله لئن ابقانى الله لاسكرن تلك السواقى حتى اعيد النهر الى مجراه الاول، قالت: فلا يسبون اذا عندك؟ قال: و من يسبهم! انما يرفع الرجل مظلمته فاردها عليه.
و روى عبدال له بن محمد التيمى، قال: كان بنواميه ينزلون عاتكه بنت مروان بن الحكم على ابواب قصورهم، و كانت جليله الموضع عندهم، فلما ولى عمر قال: لايلى انزالها احد غيرى، فادخلوها على دابتها الى باب قبته، فانزلها، ثم طبق لها و سادتين، احداهما على الاخرى، ثم انشا يمازحها- و لم يكن من شانه و لا من شانها المزاح- فقال: اما رايت الحرس الذين على الباب؟ فقالت: بلى، و ربما رايتهم عند من هو خير منك! فلما راى الغضب لايتحلل عنها ترك المزاح و سالها ان تذكر حاجتها، فقالت: ان قرابتك يشكونك، و يزعمون انك اخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتهم شيئا هو لهم، و لااخذت منهم حقا يستحقونه، قالت: انى اخاف ان يهيجوا عليك يوما عصيبا، و قال: كل يوم اخافه- دون يوم القيامه- فلا وقانى الله شره.
ثم دعا بدينار و مجمره و جلد فالقى الدينار فى النار، و جعل ينفخ حتى احمر، ثم تناوله بشى ء فاخرجه فوضعه على الجلد، فنش و فتر، فقال: يا عمه، اما تاوين لابن اخيك، من مثل هذا، فقامت فخرجت الى بنى مروان فقالت: تزوجون فى آل عمر بن الخطاب، فاذا نزعوا الى الشبه جزعتم! اصبروا له.
و روى وهيب بن الورد، قال: اجتمع بنومروان على باب عمر بن عبدالعزيز، فقالوا لولد له: قل لابيك ياذن ل نا، فان لم ياذن فابلغ اليه عنا وساله، فلم ياذن لهم، و قال: فليقولوا، فقالوا: قل له: ان من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا، و يعرف لنا مواضعنا، و ان اباك قد حرمنا ما فى يديه.
فدخل الى ابيه فابلغه عنهم، فقال: اخرج فقتل لهم: انى اخلف ان عصيت ربى عذاب يوم عظيم.
و روى سعيد بن عمار، عن اسماء بنت عبيد، قال: دخل عنبسه بن سعيد بن العاص على عمر بن عبدالعزيز، فقال: يا اميرالمومنين، ان من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا منعتناها، و لى عيال و ضيعه، فاذن لى اخرج الى ضيعتى، و ما يصلح عيالى! فقال عمر: ان احبكم الينا من كفانا موونته.
فخرج عنبسه، فلما صار الى الباب ناداه: اباخالد! اباخالد! فرجع فقال: اكثر ذكر الموت فان كنت فى ضيق من العيش وسعه عليك، و ان كنت فى سعه من العيش ضيقه عليك.
و روى عمر بن على بن مقدم، قال: قال ابن صغير لسليمان بن عبدالملك لمزاحم: ان لى حاجه الى اميرالمومنين عمر، قال: فاستاذنت له، فادخله، فقال: يا اميرالمومنين، لم اخذت قطيعتى؟ قال: معاذ الله ان آخذ قطيعه ثبتت فى الاسلام! قال: فهذا كتابى بها- و اخرج كتابا من كمه- فقراه عمر و قال: لمن كانت هذه الارض؟ قال: كانت للمسلمين، قال: فالمسلمون اولى بها.
ق ال: فاردد على كتابى، قال: انك لو لم تاتنى به لم اسالكه، فاما اذ جئتنى به فلست ادعك تطلب به ما ليس لك بحق.
فبكى ابن سليمان، فقال مزاحم: يا اميرالمومنين، ابن سليمان تصنع به هذا- قال: و ذلك لان سليمان عهد الى عمر، و قدمه على اخوته- فقال عمر: ويحك يا مزاحم! انى لاجد له من اللوط ما اجد لولدى، و لكنها نفسى اجادل عنها.
و روى الاوزاعى، قال: قال هشام بن عبدالملك، و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان ابن عفان لعمر بن عبدالعزيز: يا اميرالمومنين، استانف العمل برايك فيما تحت يدك، و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان، او لهم، فانك مستكف ان تدخل فى خير ذلك و شره.
قال: انشدكما الله الذى اليه تعودان6 يو ان رجلا هلك و ترك بنين اصاغر و اكابر، فغر الاكابر الاصاغر بقوتهم، فاكلوا اموالهم، ثم بلغ الاصاغر الحلم فجائوكما بهم و بما صنعوا فى اموالهم ما كنتما صانعين؟ قالا: كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها.
قال فانى وجدت كثيرا ممن كان قبلى من الولاه غر الناس بسلطانه و قوته، و آثر باموالهم اتباعه و اهله و رهطه و خاصته، فلما وليت اتونى بذلك، فلم يسعنى الا الرد على الضعيف من القوى، و على الدنى ء من الشريف.
فقالا: يوفق الله اميرالمومنين.
امره ان يقبل السلم و الصلح اذا دعى اليه، لما فيه من دعه الجنود، و الراحه من الهم، و الامن للبلاد، و لكن ينبغى ان يحذر بعد الصلح من غائله العدو و كيده، فانه ربما قارب بالصلح ليتغفل، اى يطلب غفلتك، فخذ بالحزم، و اتهم حسن ظنك، لاتثق و لاتسكن الى حسن ظنك بالعدو، و كن كالطائر الحذر.
ثم امره بالوفاء بالعهود، قال: و اجعل نفسك جنه دون ما اعطيت، اى و لو ذهبت نفسك فلا تغدر.
و قال الراوندى: الناس مبتدا، و اشد مبتدا ثان، و من تعظيم الوفاء خبره، و هذا المبتدا الثانى مع خبره خبر المبتدا الاول، و محل الجمله نصب لانها خبر ليس، و محل ليس مع اسمه و خبره رفع، لانه خبر، فانه و شى ء اسم ليس، و من فرائض الله حال، و لو تاخر لكان صفه لشى ء.
و الصواب ان (شى ء) اسم ليس، و جاز ذلك و ان كان نكره لاعتماده على النفى، و لان الجار و المجرور قبله فى موضع الحال كالصفه، فتخصص بذلك و قرب من المعرفه، و الناس: مبتدا، و اشد: خبره، و هذه الجمله المركبه من مبتدا و خبر فى موضع رفع لانها صفه (شى ء) و اما خبر المبتدا الذى هو (شى ء) فمحذوف، و تقديره (فى الوجود) كما حذف الخبر فى قولنا: لا اله الا الله، اى فى الوجود.
و ليس يصح ما ق ال الراوندى من ان (اشد) مبتدا ثان، و (من تعظيم الوفاء) خبره، لان حرف الجر اذا كان خبرا لمبتدا تعلق بمحذوف، و هاهنا هو متعلق باشد نفسه، فكيف يكون خبرا عنه! و ايضا فانه لايجوز ان يكون اشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس، كما زعم الراوندى، لان ذلك كلام غير مفيد، الا ترى انك اذا اردت ان تخبر بهذا الكلام عن المبتدا الذى هو (الناس) لم يقم من ذلك صوره محصله تفيدك شيئا، بل يكون كلاما مضطربا!.
و يمكن ايضا ان يكون (من فرائض الله) فى موضع رفع، لانه خبر المبتدا، و قد قدم عليه، و يكون موضع (الناس) و ما بعده رفع، لانه خبر المبتدا الذى هو (شى ء) كما قلناه اولا، و ليس يمتنع ايضا ان يكون: (من فرائض الله) منصوب الموضع، لانه حال، و يكون موضع (الناس اشد) رفعا، لانه خبر المبتدا، الذى هو (شى ء).
ثم قال له (ع): و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود، و صار ذلك لهم شريعه و بينهم سنه، فالاسلام اولى باللزوم و الوفاء.
و استوبلوا: وجدوه و بيلا، اى ثقيلا، استوبلت البلد، اى استوخمته و استثقلته، و لم يوافق مزاجك.
و لاتخيسن بعهدك، اى لاتغدرن، خاس فلان بذمته، اى غدر و نكث.
قوله: (و لاتختلن عدوك)، اى لاتمكرن به، ختلته، اى خدعته.
و قوله: (افض اه بين عباده)، جعله مشتركا بينهم، لايختص به فريق دون فريق.
قال: (و يستفيضون الى جواره)، اى ينتشرون فى طلب حاجاتهم و ماربهم، ساكنين الى جواره، فالى هاهنا متعلقه بمحذوف مقدر، كقوله تعالى: (فى تسع آيات الى فرعون)، اى مرسلا.
قال: (فلا ادغال)، اى لاافساد، و الدغل: الفساد.
و لامدالسه، اى لاخديعه، يقال: فلان لايوالس و لايدالس، اى لايخادع و لايخون، و اصل الدلس الظلمه، و التدليس فى البيع: كتمان عيب السلعه عن المشترى.
ثم نهاه عن ان يعقد عقدا يمكن فيه التاويلات و العلل و طلب المخارج.
و نهاه اذا عقد العقد بينه و بين العدو ان ينقضه معولا على تاويل خفى او فحوى قول، او يقول: انما عنيت كذا، و لم اعن ظاهر اللفظه: فان العقود انما تعقد على ما هو ظاهر فى الاستعمال متداول فى الاصطلاح و العرف لا على ما فى الباطن.
و روى (انفساحه) بالحاء المهمله، اى سعته.
(فصل فيما جاء فى الحذر من كيد العدو) قد جاء فى الحذر من كيد العدو و النهى عن التفريط فى الراى السكون الى ظاهر السلم اشياء كثيره، و كذا فى النهى عن الغدر و النهى عن طلب تاويلات العهود و فسخها بغير الحق.
فرط عبدالله بن طاهر فى ايام ابيه فى امر اشرف فيه على العطب، و نجا بعد لاى ف كتب اليه ابوه: اتانى يا بنى من خبر تفريطك ما كان اكبر عندى من نعيك لو ورد، لانى لم ارج قط الا تموت، و قد كنت ارجو الا تفتضح بترك الحزم و التيقظ.
و روى ابن الكلبى ان قيس بن زهير لما قتل حذيفه بن بدر و من معه بجفر الهبائه، خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال: لاتنظر فى وجهى غطفانيه بعد اليوم، فقال: يا معاشر النمر، انا قيس بن زهير، غريب حريب طريد شريد موتور، فانظروا لى امراه قد ادبها الغنى و اذلها الفقر.
فزوجوه بامراه منهم، فقال لهم: انى لااقيم فيكم حتى اخبركم باخلاقى، انا فخور غيور انف، و لست افخر حتى اتبلى، و لااغار حتى ارى، و لاآنف حتى اظلم.
فرضوا اخلاقه، فاقام فيهم حتى ولد له، ثم اراد ان يتحول عنهم، فقال: يا معشر النمر، ان لكم حقا على فى مصاهرتى فيكم، و مقامى بين اظهركم، و ان موصيكم بخصال آمركم بها، و انهاكم عن خصال: عليكم بالاناه فان بها تدرك الحاجه، و تنال الفرصه، و تسويد من لاتعابون بتسويده، و الوفاء بالعهود فان به يعيش الناس، و اعطاء ما تريدون اعطاه قبل المساله، و منع ما تريدون منعه قبل الانعام، و اجاره الجار على الدهر، و تنفيس البيوت عن منازل الايامى، و خلط الضيف بالعيال.
و انهاكم عن الغدر، فانه عار الدهر ، و عن الرهان فان به ثكلت مالكا اخى، و عن البغى فان به صرع زهير ابى، و عن السرف فى الدماء، فان قتلى اهل البهائه اورثنى العار.
و لاتعطوا فى الفضول فتعجزوا عن الحقوق، و انكحوا الايامى الاكفاء فان لم تصيبوا بهن الاكفاء فخير بيوتهن القبور.
و اعلموا انى اصبحت ظالما و مظلوما، ظلمنى بنو بدر بقتلهم مالكا، و ظلمتهم بقتلى من لاذنب له.
ثم رحل عنهم الى غمار فتنصر بها، و عف عن الماكل حتى اكل الحنظل الى ان مات.
قد ذكرنا فى وصيه قيس بن زهير آنفا النهى عن الاسراف فى الدماء، و تلك وصيه مبنيه على شريعه الجاهليه مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال، و وصيه اميرالمومنين (ع) مبنيه على الشريعه الاسلاميه، و النهى عن القتل و العدوان الذى لايسيغه الدين، و قد ورد فى الخبر المرفوع: (ان اول ما يقضى الله به يوم القيامه بين العباد امر الدماء).
قال: انه ليس شى ء ادعى الى حلول النقم، و زوال النعم، و انتقال الدول، من سفك الدم الحرام، و انك ان ظننت انك تقوى سلطانك بذلك، فليس الامر كما ظننت، بل تضعفه، بل تعدمه بالكليه.
ثم عرفه ان قتل العمد يوجب القود و قال له: (قود البدن) اى يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صوره المقتول، و المراد ارهابه بهذه اللفظه انها ابلغ من ان يقول له: (فان فيه القود).
ثم قال: ان قتلت خطا او شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الديه.
و قد اختلف الفقهاء فى هذه المساله، فقال ابوحنيفه و اصحابه: القتل على خمسه اوجه: عمد، و شبه عمد، و خطا، و ما اجرى مجرى الخطا، و قتل بسبب.
فالعمد: ما تعمد به ضرب الانسان بسلاح، او ما يجرى مجرى السلاح، كالمحدد من الخشب و ليطه القصب، و المروه المحدده، و النار، و موجب ذلك الماثم و القود الا ان يعفو الاولياء، و لا كفاره فيه.
و شبه العمد ان يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، و لااجرى مجرى السلاح، كالحجر العظيم، و الخشيه العظيمه، و موجب ذلك الماثم و الكفاره، و لا قود فيه، و فيه الديه مغلظه على العاقله.
و الخطا على وجهين: خطا فى القصد، و هو ان يرمى شخصا يظنه صيدا، فاذا هو آدمى.
و خطا فى الفعل، و هو ان يرمى غرضا فيصيب آدميا، و موجب النوعين جميعا الكفاره و الديه على العاقله، و لا ماثم فيه.
و ما اجرى مجرى الخطا مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله، فحكمه حكم الخطا.
و اما القتل بسبب، فحافر البئر و واضع الحجر فى غير ملكه، و موجبه اذا تلف فيه انسان الديه على العاقله، و لا كفاره فيه.
فهذا قول ابى حنيفه و من تابعه، و قد خالفه صاحباه ابويوسف و محمد فى شبه العمد، و قالا: اذا ضربه بحجر عظيم او خشبه غليظه فهو عمد، قال: و شبه العمد ان يتعمد ضربه بما لايقتل به غالبا، كالعصا الصغيره، و السوط، و بهذا القول قال الشافعى.
و كلام اميرالمومنين (ع) يدل على ان المودب من الولاه اذا تلف تحت يده انسان فى التاديب فعليه الديه، و قال لى قوم من فقهاء الاماميه: ان مذهبنا ان لا ديه عليه، و هو خلاف ما يقتضيه كلام اميرالمومنين (ع).
قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها، منها قوله (ع): (اياك و ما يعجبك من نفسك، و الثقه بما يعجبك منها)، قد ورد فى الخبر: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، و هوى متبع، و اعجاب المرء بنفسه)، و فى الخبر ايضا: (لا وحشه اشد من العجب)، و فى الخبر: (الناس لادم، و آدم من تراب، فما لابن آدم و الفخر و العجب!).
و فى الخبر: (الجار ثوبه خيلاء لاينظر الله اليه يوم القيامه)، و فى الخبر- و قد راى ابادجانه يتبختر: (انها لمشيه يبغضها الله الا بين الصفين).
و منها قوله: (و حب الاطراء)، ناظر المامون محمد بن القاسم النوشجانى المتكلم، فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله، فقال المامون: يا محمد، اراك تنقاد الى ما تظن انه يسرنى قبل وجوب الحجه لى عليك، و تطرينى بما لست احب ان اطرى به، و تستخذى لى فى المقام الذى ينبغى ان تكون فيه مقاوما لى، و محتجا على، و لو شئت ان اقسر الامور بفضل بيان، و طول لسان، و اغتصب الحجه بقوه الخلافه، و ابهه الرياسه لصدقت و ان كنت كاذبا، و عدلت و ان كنت جائرا، و صوبت و ان كنت مخطئا، لكنى لاارضى الا بغلبه الحجه، و دفع الشبهه، و ان انقص الملوك عقلا، و اسخفهم رايا، من رضى بقولهم: صدق الامير.
و اثنى ر جل على رجل، فقال: الحمد لله الذى سترنى عنك.
و كان بعض الصالحين يقول اذا اطراه انسان: ليسالك الله عن حسن ظنك.
و منها قوله: (و اياك و المن)، قال الله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن و الاذى).
و كان يقال: المن محبه للنفس، مفسده للصنع.
و منها نهيه اياه عن التزيد فى فعله، قال (ع): انه يذهب بنور الحق، و ذلك لانه محض الكذب، مثل ان يسدى ثلاثه اجزاء من الجميل فيدعى فى المجالس و المحافل انه اسدى عشره، و اذا خالط الحق الكذب اذهب نوره.
و منها نهيه اياه عن خلف الوعد، قد مدح الله نبيا من الانبياء و هو اسماعيل بن ابراهيم (ع) بصدق الوعد.
و كان يقال: وعد الكريم نقد و تعجيل، و وعد اللئيم مطل و تعطيل.
و كتب بعض الكتاب: و حق لمن ازهر بقول، ان يثمر بفعل.
و قال ابومقاتل الضرير: قلت لاعرابى: قد اكثر الناس فى المواعيد، فما قولك فيها؟ فقال: بئس الشى ء! الوعد مشغله للقلب الفارغ، متعبه للبدن الخافض، خيره غائب، و شره حاضر.
و فى الحديث المرفوع: (عده المومن كاخذ باليد)، فاما اميرالمومنين (ع) فقال: (انه يوجب المقت)، و استشهد عليه بالايه و المقت: البغض.
و منها نهيه عن العجله، و كان يقال: اصاب متثبت او كاد، و اخطا عجل او ك اد.
و فى المثل: (رب عجله تهب ريثا)، و ذمها الله تعالى فقال: (خلق الانسان من عجل).
و منها نهيه عن التساقط فى الشى ء الممكن عند حضوره، و هذا عباره عن النهى عن الحرص و الجشع، قال الشنفرى: و ان مدت الايدى الى الزاد لم اكن باعجلهم اذا اجشع القوم اعجل و منها نهيه عن اللجاجه فى الحاجه اذا تعذرت، كان يقال: من لاج الله فقد جعله خصما، و من كان الله خصمه فهو مخصوم، قال الغزى: دعها سماويه تجرى على قدر لاتفسدنها براى منك معكوس و منها نهيه له عن الوهن فيها اذا استوضحت، اى وضحت و انكشفت، و يروى: (و استوضحت) فعل ما لم يسم فاعله، و الوهن فيها اهمالها و ترك انتهاز الفرصه فيها، قال الشاعر: فاذا امكنت فبادر اليها حذرا من تعذر الامكان و منها نهيه عن الاستئثار، و هذا هو الخلق النبوى، غنم رسول الله (ص) غنائم خيبر، و كانت مل ء الارض نعما، فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس يطلبون الغنائم و قسمها، و هو ساكت لايكلمهم، و قد اكثروا عليه الحاحا و سوالا، فمر بشجره فخطفت ردائه، فالتفت فقال: ردوا على ردائى، فلو ملكت بعدد رمل تهامه مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لاتجدوننى بخيلا و لاجبانا، و نزل و قسم ذلك المال عن الاخره عليهم كله، لم ياخذ لنفسه منه وبره.
و منها نهيه له عن التغابى، و صوره ذلك ان الامير يومى اليه ان فلانا من خاصته يفعل كذا، و يفعل كذا من الامور المنكره و يرتكبها سرا، فيتغابى عنه و يتغافل، نهاه (ع) عن ذلك و قال: انك ماخوذ منك لغيرك، اى معاقب، تقول: اللهم خذ لى من فلان بحقى، اى اللهم انتقم لى منه.
و منها نهيه اياه عن الغضب، و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبيه حتى يسكن غضبه، قد جاء فى الخبر المرفوع: (لايقضى القاضى و هو غضبان)، فاذا كان قد نهى ان يقضى القاضى و هو غضبان على غير صاحب الخصومه، فبالاولى ان ينهى الامير عن ان يسطو على انسان و هو غضبان عليه.
و كان لكسرى انوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى يقف على راس الملك يوم جلوسه، فاذا غضب على انسان و امر به قرع سلسله تاجه بقضيب فى يده و قال له: انما انت بشر، فارحم من فى الارض يرحمك من فى السماء.
روى: (كل رغيبه)، و الرغيبه ما يرغب فيه، فاما الرغبه فمصدر رغب فى كذا، كانه قال: القادر على اعطاء كل سوال، اى اعطاء كل سائل ما ساله.
و معنى قوله: (من الاقامه على العذر)، اى اسال الله ان يوفقنى للاقامه على الاجتهاد، و بذل الوسع فى الطاعه، و ذلك (لانه) اذا بذل جهده فقد اعذر، ثم فسر اجتهاده فى ذلك فى رضا الخلق، و لم يفسر اجتهاده فى رضا الخالق، لانه معلوم، فقال: هو حسن الثناء فى العباد، و جميل الاثر فى البلاد.
فان قلت: فقوله (و تمام النعمه) على ماذا تعطفه؟.
قلت: هو معطوف على (ما) من قوله (لما فيه)، كانه قال: اسال الله توفيقى لذا و لتمام النعمه، اى و لتمام نعمته على، و تضاعف كرامته لدى، و توفيقه لهما هو توفيقه للاعمال الصالحه التى يستوجبهما بها.
(فصل فى ذكر بعض وصايا العرب) و ينبغى ان يذكر فى هذا الموضع وصايا من كلام قوم من روساء العرب اوصوا بها اولادهم و رهطهم، فيها آداب حسان، و كلام فصيح، و هى مناسبه لعهد اميرالمومنين (ع) هذا، و وصاياه المودعه فيه، و ان كان كلام اميرالمومنين (ع) اجل و اعلى من ان يناسبه كلام، لانه قبس من نور الكلام الالهى، و فرع من دوحه المنطق النبوى.
روى ابن الكلبى قال: لما حضرت الوفاه اوس بن حارثه اخا الخزرج، لم يكن له ولد غير مالك بن الاوس، و كان لاخيه الخزرج خمسه، قيل له: كنا نامرك بان تتزوج فى شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت، و لا ولد لك الا مالك! فقال: لم يهلك هالك ترك مثل مالك، و ان كان الخزرج ذا عدد، و ليس لمالك ولد، فلعل الذى استخرج العذق من الجريمه، و النار من الوثيمه ان يجعل لمالك نسلا، و رجالا بسلا، و كلنا الى الموت.
يا مالك، المنيه و لا الدنيه، و العتاب قبل العقاب، و التجلد لا التبلد، و اعلم ان القبر خير من الفقر، و من لم يعط قاعدا حرم قائما، و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف، و ذهاب البصر، خير من كثير من النظر، و من كرم الكريم الدفع عن الحريم، و من قل ذل، و خير الغنى القناعه، و شر الفقر الخضوع.
الدهر صرفان: صرف رخاء، و صرف بلاء، و اليوم يومان: يوم لك و يوم عليك، فاذا كان لك فلا تبطر، و اذا كان عليك فاصطبر، و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامه، لمن ليست له اقامه، و حياك ربك.
و اوصى الحارث بن كعب بنيه فقال: يا بنى، قد اتت على مائه و ستون سنه ما صافحت يمينى يمين غادر، و لاقنعت لنفسى بخله فاجر، و لاصبوت بابنه عم و لا كنه، و لابحت لصديق بسر، و لاطرحت عن مومسه قناعا، و لابقى على دين عيسى بن مريم- و قد روى على دين شعيب- من العرب غيرى و غير تميم بن مر بن اسد ابن خزيمه، فموتوا على شريعتى، و احفظوا (على) وصيتى، و الهكم فاتقوا، يكفكم ما اهمكم، و يصلح لكم حالكم، و اياكم و معصيته، فيحل بكم الدمار، و يوحش منكم الديار.
كونوا جميعا، و لاتفرقوا فتكنوا شيعا، و بزوا قبل ان تبزوا، فموت فى عز، خير من حياه فى ذل و عجز، و كل ما هو كائن كائن، و كل جمع الى تباين، و الدهر صرفان: صرف بلاء، و صرف رخاء، و اليوم يومان: يوم حبره، و يوم عبره، و الناس رجلان: رجل لك، و رجل عليك.
زوجوا النساء الاكفاء، و الا فانتظروا بهن القضاء، و ليكن اطيب طيبهم الماء، و اياكم و الورهاء، فانها ادوا الداء، و ان ولدها الى افن يكون.
لا راحه لقاطع القرابه.
و اذا اختلف القوم امكنوا عدوهم، و آفه العدد اختلاف الكلمه، و التفضل بالحسنه يقى السيئه، و المكافاه بالسيئه دخول فيها، و عمل السوء يزيل النعماء، و قطيعه الرحم تورث الهم، و انتهاك الحرمه يزيل النعمه، و عقوق الوالدين يعقب النكد، و يخرب البلد، و يمحق العدد، و الاسراف فى النصيحه، هو الفضيحه، و الحقد منع الرفد، و لزوم الخطيئه يعقب البليه، و سوء الدعه يقطع اسباب المنفعه، و الض غائن تدعو الى التباين، يا بنى انى قد اكلت مع اقوام و شربت، فذهبوا و غبرت، و كانى بهم قد لحقت، ثم قال: اكلت شبابى فافنيته و ابليت بعد دهور دهورا ثلاثه اهلين صاحبتهم فبادوا و اصبحت شيخا كبيرا قليل العطام عسير القيا م قد ترك الدهر خطوى قصيرا ابيت اراعى نجوم السماء اقلب امرى بطونا ظهورا وصى اكثم بن صيفى بنيه و رهطه فقال: يا بنى تميم، لايفوتنكم وعظى، ان فاتكم الدهر بنفسى، ان بين حيزومى و صدرى لكلاما لااجد له مواقع الا اسماعكم و لامقار الا قلوبكم، فتلقوه باسماع مصغيه، و قلوب دواعيه، تحمدوا مغبته: الهوى يقظان، و العقل راقد، و الشهوات مطلقه، و الحزم معقول، و النفس مهمله، و الرويه مقيده، و من جهه التوانى و ترك الرويه يتلف الحزم، و لن يعدم المشاور مرشدا، و المستبد برايه موقوف على مداحض الزلل، و من سمع سمع به، و مصارع الرجال تحت بروق الطمع، و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت الا فى مقاتل الكرام، و على الاعتبار طريق الرشاد، و من سلك الجدد امن العثار، و لن يعدم الحسود ان يتعب قلبه، و يشغل فكره، و يورث غيظه، و لاتجاوز مضرته نفسه.
يا بنى تميم، الصبر على جرع الحلم اعذب من جنا ثمر الندامه، و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، و كلم اللسان انكى من كلم السنان، و الكلمه مرهونه ما لم تنجم من الفم، فاذا نجمت مزجت، فهى اسد محرب، او نار تلهب، و راى الناصح اللبيب دليل لايجوز، و نفاذ الراى فى الحرب، اجدى من الطعن و الضرب.
و اوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان، فقال له: يا بنى، قد استخلفتك على هذه البلاد، فانظر هذا الحى من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر: اذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمى و انظر هذا الحى من ربيعه فانهم شيعتك و انصارك، فاقض حقوقهم، و انظر هذا الحى من تميم فامطرهم و لاتزه لهم، و لاتدنهم فيطمعوا، و لاتقصهم فيقطعوا، و انظر هذا الحى من قيس فانهم اكفاء قومك فى الجاهليه، و مناصفوهم الماثر فى الاسلام، و رضاهم منك البشر.
يا بنى، ان لابيك صنائع فلا تفسدها، فانه كفى بالمرء نقصا ان يهدم ما بنى ابوه، و اياك و الدماء فانه لاتقيه معها، و اياك و شتم الاعراض فان الحر لايرضيه عن عرضه عوض، و اياك و ضرب الابشار فانه عار باق، و وتر مطلوب، و استعمل على النجده و الفضل دون الهوى، و لاتعزل الا عن عجز او خيانه.
و لايمنعك من اصطناع الرجل ان يكون غيرك قد سبقك اليه، فانك انما تصطنع الرجال لفضلها.
و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر.
احمل الناس على احسن ادبك يكفوك انفسهم.
و اذا كتبت كتابا فاكثر النظر فيه، و ليكن رسولك فيما بينى و بينك من يفقه عنى و عنك، فان كتاب الرجل موضع عقله، و رسوله موضع سره.
و استودعك الله فلابد للمودع ان يسكت، و للمشيع ان يرجع.
و ما عف من المنطق و قل من الخطيئه احب الى ابيك.
و اوصى قيس بن عاصم المنقرى بنيه، فقال: يا بنى، خذوا عنى فلا احد انصح لكم منى.
اذا دفنتمونى فانصرفوا الى رحالكم، فسودوا اكبركم، فان القوم اذا سودوا اكبرهم خلفوا اباهم، و اذا سودوا اصغرهم ازرى ذلك بهم فى اكفائهم.
و اياكم و معصيه الله و قطيعه الرحم، و تمسكوا بطاعه امرائكم فانهم من رفعوا ارتفع، و من وضعوا اتضع.
و عليكم بهذا المال فاصلحوه، فانه منبهه للكريم، و جنه لعرض اللئيم.
و اياكم و المساله فانها آخر كسب الرجل، و ان احدا لم يسال الا ترك الكسب، و اياكم و النياحه، فانى سمعت رسول الله (ص) ينهى عنها، و ادفنونى فى ثيابى التى كنت اصلى فيها و اصوم، و لايعلم بكر بن وائل بمدفنى فقد كانت بينى و بينهم مشاحنات فى الجاهليه و الاسلام، و اخاف ان يدخلوا عليكم بى عارا.
و خذوا عنى ثلاث خصال: اياكم و كل عرق لئيم ان تلابسوه فا نه ان يسرركم اليوم يسوكم غدا، و اكظموا الغيظ، و احذروا بنى اعداء آبائكم فانهم على منهاج آبائهم، ثم قال: احيا الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد و للاباء ابناء قال ابن الكلبى: فيحكى الناس هذا البيت سابقا للزبير، و ما هو الا لقيس ابن عاصم.
و اوصى عمرو بن كلثوم التغلبى (بنيه) فقال: يا بنى، انى قد بلغت من العمر ما لم يبلغ احد من آبائى و اجدادى، و لابد من امر مقتبل، و ان ينزل بى ما نزل بالاباء و الاجداد و الامهات و الاولاد، فاحفظوا عنى ما اوصيكم به.
انى و الله ما عيرت رجلا قط امرا الا عيرنى مثله، ان حقا فحق، و ان باطلا فباطل، و من سب سب، فكفوا عن الشتم فانه اسلم لاعراضكم.
و صلوا ارحامكم تعمر داركم، و اكرموا جاركم بحسن ثنائكم، و زوجوا بنات العم بنى العم فان تعديتم بهن الى الغرباء فلا تالوا بهن (عن) الاكفاء.
و ابعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فانه اغض للبصر، و اعف للذكر، و متى كانت المعاينه و اللقاء، ففى ذلك داء من الادواء، و لا خير فيمن لايغار لغيره كما يغار لنفسه، و قل من انتهك حرمه لغيره الا انتهكت حرمته.
و امنعوا القريب من ظلم الغريب، فانك تدل على قريبك، و لايجمل بك ذل غريبك، و اذا تنازعتم فى الدماء فلا يكن حقكم الكفاء، فرب رجل خير من الف، و ود خير من خلف، و اذا حدثتم فعوا، و اذا حدثتم فاوجزوا، فان مع الاكثار يكون الاهذار، و موت عاجل خير من ضنى آجل، و ما بكيت من زمان الا دهانى بعده زمان، و ربما شجانى من لم يكن امره عنانى، و ما عجبت من احدوثه الا رايت بعدها اعجوبه.
و اعلموا ان اشجع القوم العطوف، و خير الموت تحت ظلال السيوف، و لا خير فيمن لا رويه له عند الغضب، و لا فيمن اذا عوتب لم يعتب، و من الناس من لايرجى خيره، و لايخاف شره، فبكوئه خير من دره، و عقوقه خير من بره، و لاتبرحوا فى حبكم فان من ابرح فى حب آل ذلك الى قبيح بغض، و كم قد زارنى انسان و زرته، فانقلب الدهر بنا فقبرته.
و اعلموا ان الحليم سليم، و ان السفيه كليم، انى لم امت و لكن هرمت، و دخلتنى ذله فسكت، و ضعف قلبى فاهترت، سلمكم ربكم و حياكم!.
و من كتاب اردشير بن بابك الى بنيه و الملوك من بعده: رشاد الوالى خير للرعيه من خصب الزمان، الملك و الدين توئمان لا قوام لاحدهما الا بصاحبه، فالدين اس الملك و عماده، ثم صار الملك حارس الدين، فلابد للملك من اسه، و لابد للدين من حارسه، فاما ما لا حارس له فضائع، و ما لااس له فمهدوم، ان راس ما اخاف عليكم مبادره السفله اياكم ا لى دراسه الدين و تاويله و التفقه فيه، و فتحملكم الثقه بقوه الملك على التهاون بهم، فتحدث فى الدين رياسات منتشرات سرا فيمن قد و ترتم و جفوتم، و حرمتم و اخفتم، و صغرتم من سفله الناس و الرعيه و حشو العامه، ثم لاتنشب تلك الرياسات ان تحدث خرقا فى الملك و وهنا فى الدوله.
و اعلموا ان سلطانكم انما هو على اجسادكم الرعيه لا على قلوبها، و ان غلبتم الناس على ما فى ايديهم فلن تغلبوهم على ما فى عقولهم و آرائهم و مكايدهم.
و اعلموا ان العاقل المحروم سال عليكم لسانه، و هو اقطع سيفيه، و ان اشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيله فيه الى الدين، فكان للدنيا يحتج، و للدين فيما يظهر يتعصب، فيكون للدين بكاوه، و اليه دعاوه، ثم هو اوحد للتابعين و المصدقين و المناصحين و الموازرين، لان تعصب الناس موكل بالملوك، و رحمتهم و محبتهم موكله بالضعفاء المغلوبين، فاحذروا هذا المعنى كل الحذر.
و اعلموا انه ليس ينبغى للملك ان يعرف للعباد و النساك بان يكونوا اولى بالدين منه، و لااحدب عليه و لااغضب له.
(و لاينبغى له) ان يخلى النساك و العباد من الامر و النهى فى نسكهم و دينهم، فان خروج النساك و غيرهم من الامر و النهى عيب على الملوك و على المملكه، و ثلمه بينه الضرر على الملك و على من بعده.
و اعلموا انه قد مضى قبلنا من اسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحمايه بالتفتيش و الجماعه بالتفضيل، و الفراغ بالاشتغال، كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر و غسل الدرن و الغمر و مداواه ما ظهر من الادواء و ما بطن، و قد كان من اولئك الملوك من صحه ملكه احب اليه من صحه جسده، فتتابعت تلك الاملاك بذلك كانهم ملك واحد، و كان ارواحهم روح واحده، يمكن اولهم لاخرهم، و يصدق آخرهم اولهم، يجتمع ابناء اسلافهم، و مواريث آرائهم، و ثمرات عقولهم عند الباقى منهم بعدهم، و كانهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه، حتى كان على راس دارا بن دارا ما كان من غلبه الاسكندر الرومى على ما غلب عليه من ملكه.
و كان افساده امرنا، و تفرقته جماعتنا، و تخريبه عمران مملكتنا ابلغ له فيما اراد من سفك دمائنا، فلما اذن الله عز و جل فى جمع مملكتنا، و اعاده امرنا، كان من بعثه ايانا ما كان.
و بالاعتبار يتقى العثار، و التجارب الماضيه دستور يرجع اليه من الحوادث الاتيه.
و اعلموا ان طباع الملوك على غير طباع الرعيه و السوقه: فان الملك يطيف به العز، و الامن و السرور و القدره على ما يريد، و الانفه و الجراه و العبث و البطر، و كلما ازدا د فى العمر تنفسا، و فى الملك سلامه ازداد من هذه الطبائع و الاخلاق حتى يسلمه ذلك الى سكر السلطان الذى هو اشد من سكر الشراب، فينسى النكبات و العثرات، و الغير و الدوائر و فحش تسلط الايام، و لوم غلبه الدهر، فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول.
و عند حسن الظن بالايام تحدث الغير، و تزول النعم، و قد كان من اسلافنا و قدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل، و امنه الخوف، و سروره الكابه، و قدرته المعجزه، و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجه الملوك، و فكره السوقه، و لا كمال الا فى جمعها.
و اعلموا انكم ستبلون على الملك بالازواج و الاولاد و القرباء و الوزراء و الاخدان، و الانصار و الاعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين، و كل هولاء- الا قليلا- ان ياخذ لنفسه احب اليه من ان يعطى منها عمله، و انما عمله سوق ليومه، و ذخيره لغده، فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه و غايه الصلاح عنده صلاح نفسه، و غايه الفساد عنده فسادها، يقيم للسلطان سوق الموده ما اقام له سوق الارباح و المنافع، اذا استوحش الملك من ثقاته اطبقت عليه ظلم الجهاله اخوف ما يكون العامه (آمن ما يكون الوزراء، و آمن ما يكون العامه) اخوف ما يكون الوزراء.
و اعلموا ان كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته و ايامه بايقاع الاضطراب، و الخبط فى اطراف مملكه الملك، ليحتاج الملك الى رايه و تدبيره، فاذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فانه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعيه لصلاح حال نفسه، و لاتقوم نفسه بهذه النفوس كلها.
و اعلموا ان بدء ذهاب الدوله ينشا من قبل اهمال الرعيه بغير اشغال معروفه و لا اعمال معلومه، فاذا نشا الفراغ تولد منه النظر فى الامور، و الفكر فى الفروع و الاصول.
فاذا نظروا فى ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفه، فتختلف بهم المذاهب، و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم، و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك، فكل صنف منهم انما يجرى الى فجيعه الملك بملكه، و لكنهم لايجدون سلما الى ذلك اوثق من الدين و الناموس، ثم يتولد من تعاديهم ان الملك لايستطيع جمعهم على هوى واحد، فان انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم، ولى طباع العامه استثقال الولاه و ملالهم، و النفاسه عليهم، و الحسد لهم، و فى الرعيه المحروم و المضروب و المقام عليه الحدود، و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم ان يجبن الملك عن الاقدام عليهم، فان فى اقدام الملك على الرعيه كلها كافه تغريرا بملكه.
و يتولد من جبن الملك ع ن الرعيه استعجالهم عليه، و هم اقوى عدو له و اخلقه بالظفر، لانه حاضر مع الملك فى دار ملكه، فمن افضى اليه الملك بعدى فلا يكونن باصلاح جسده اشد اهتماما منه بهذه الحال، و لاتكونن لشى ء من الاشياء اكره و انكر لراس صار ذنبا، و ذنب صار راسا، و يد مشغوله و صارت فارغه، او غنى صار فقيرا، او عامل مصروف، او امير معزول.
و اعلموا ان سياسه الملك و حراسته الا يكون ابن الكاتب الا كاتبا، و ابن الجندى الا جنديا، و ابن التاجر الا تاجرا، و هكذا فى جميع الطبقات، فانه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم ان يلتمس كل امرى ء منهم فوق مرتبته، فاذا انتقل اوشك ان يرى شيئا ارفع مما انتقل اليه، فيحسد او ينافس، و فى ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به، فان عجز ملك منكم عن اصلاح رعيته كما اوصيناه فلا يكون للقميص القمل اصرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك.
و اعلموا انه ليس ملك الا و هو كثير الذكر لمن يلى الامر بعده، و من فساد امر الملك نشر ذكره ولاه العهود، فان فى ذلك ضروبا من الضرر، و ان ذلك دخول عداوه بين الملك و ولى عهده، لانه تطمح عينه الى الملك، و يصير له احباب و اخدان يمنونه ذلك، و يستبطئون موت الملك.
ثم ان الملك يستوحش منه، و تنساق الامور الى هلاك احدهما، و لكن لينظر الوالى منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعيه، و لينتخب وليا للعهد من بعده و لايعلمه ذلك، و لا احد من الخلق قريبا كان منه او بعيدا، ثم يكتب اسمه فى اربع صحائف، و يختمها بخاتمه، و يضعها عند اربعه نفر من اعيان اهل المملكه، ثم لايكون منه فى سره و علانيته امر يستدل به على ولى عهده من هولاء فى ادناء و تقريب يعرف به، و لا فى اقصاء و اعراض يستراب له.
و ليتق ذلك فى اللحظه و الكلمه، فاذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف الى النسخه التى تكون فى خزانه الملك، فتفض جميعا، ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل، فيلقى الملك اذا لنيه بحداثه عهده بحال السوقه، و يلبسه اذا لبسه ببصر السوقه و سمعها، فان فى معرفته بحاله قبل افضاء الملك اليه سكرا تحدثه عنده ولايه العهد، ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا الى سكره، فيعمى و يصم، هذا مع ما لابد ان يلقاه ايام ولايه العهد من حيل العتاه، و بغى الكذابين، و ترقيه النمامين، و ايغار صدره، و افساد قلبه على كثير من رعيته، و خواص دولته، و ليس ذلك بمحمود و لا صالح.
و اعلموا انه ليس للملك ان يحلف، لانه لايقدر احد استكراهه، و ليس له ان يغضب لانه قادر، و الغضب لقاح الشر و الندامه، و ليس له ان يع بث و يلعب، لان اللعب و العبث من عمل الفراغ، و ليس له ان يفرغ لان الفراغ من امر السوقه، و ليس للملك ان يحسد احدا الا على حسن التدبير، و ليس له ان يخاف لانه لا يد فوق يده.
و اعلموا انكم لن تقدروا على ان تختموا افواه الناس من الطعن و الازراء عليكم، و لا قدره لكم على ان تجعلوا القبيح من افعالكم حسنا، فاجتهدوا فى ان تحسن افعالكم كلها، و الا تجعلوا للعامه الى الطعن عليكم سبيلا.
و اعلموا ان لباس الملك و مطعمه و مشربه مقارب للباس السوقه و مطعمهم، و ليس فضل الملك على السوقه الا بقدرته على اقتناء المحامد و استفاده المكارم، فان الملك اذا شاء احسن، و ليس كذلك السوقه.
و اعلموا ان لكل ملك بطانه، و لكل رجل من بطانته بطانه، ثم ان لكل امرى ء من بطانه البطانه بطانه، حتى يجتمع من ذلك اهل المملكه، فاذا اقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم، اقام كل امرى ء منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامه الرعيه.
احذروا بابا واحدا طالما امنته فضرنى، و حذرته فنفعنى.
احذروا افشاء السر بحضره الصغار من اهليكم و خدمكم، فانه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا، لايترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون اما سقطا او غشا.
و اعلموا ان فى ا لرعيه صنفا اتوا الملك من قبل النصائح له، و التمسوا اصلاح منازلهم بافساد منازل الناس، فاولئك اعداء الناس و اعداء الملوك، و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه.
و اعلموا ان الدهر حاملكم على طبقات، فمنها حال السخاء حتى يدنو احدكم من السرف، و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل، و منها حال الاناه حتى يدنو من البلاده، و منها حال انتهاز الفرصه حتى يدنو من الخفه، و منها حال الطلاقه فى اللسان حتى يدنو من الهذر، و منها حال الاخذ بحكمه الصمت حتى يدنو من العى، فالملك منكم جدير ان يبلغ من كل طبقه فى محاسنها حدها، فاذا وقف عليه الجم نفسه عما ورائها.
و اعلموا ان ابن الملك و اخاه ابن عمه يقول: كدت ان اكون ملكا، و بالحرى الا اموت حتى اكون ملكا، فاذا قال ذلك قال ما لايسر الملك، و ان كتمه فالداء فى كل مكتوم، و اذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما الى الصلاح، و لم يكن الفساد سلما الى صلاح قط.
و قد رسمت لكم فى ذلك مثالا، اجعلوا الملك لاينبغى الا لابناء الملوك من بنات عمومتهم، و لايصلح من اولاد بنات العم الا كامل غير سخيف العقل، و لا عازب الراى، و لا ناقص الجوارح، و لا مطعون عليه فى الدين، فانكم اذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك، و اذا ق ل طلابه استراح كل امرى ء الى ما يليه، و نزع الى حد يليه، و عرف حاله، و رضى معيشته، و استطاب زمانه.
فقد ذكر وصايا قوم من العرب، و وصايا اكثر ملوك الفرس و اعظمهم حكمه لتضم الى وصايا اميرالمومنين فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا، فان وصايا اميرالمومنين (ع)، الدين عليها اغلب، و وصايا هولاء الدنيا عليها اغلب، فاذا اخذ من اخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد، و لا سعيد الا من اسعده الله.
عمران بن الحصين هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضره بن سلول بن حبشيه بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى.
يكنى ابابجيد بابنه بجيد بن عمران.
اسلم هو و ابوهريره عام خيبر، و كان من فضلاء الصحابه و فقهائهم، يقول اهل البصره عنه: انه كان يرى الحفظه، و كانت تكلمه حتى اكتوى.
و قال محمد بن سيرين: افضل من نزل البصره من اصحاب رسول الله (ص) عمران بن الحصين و ابوبكره.
و استقضاه عبدالله بن عامر بن كريز على البصره فعمل له اياما، ثم استعفاه فاعفاه، و مات بالبصره سنه اثنتين و خمسين فى ايام معاويه.
(ابوجعفر الاسكافى) و اما ابوجعفر الاسكافى- و هو شيخنا محمد بن عبدالله الاسكافى- عده قاضى القضاه فى الطبقه السابعه من طبقات المعتزله مع عباد بن سليمان الصيمرى، و مع زرقان، و مع عيسى بن الهيثم الصوفى، و جعل اول الطبقه ثمامه بن اشرس ابا معن، ثم اباعثمان الجاحظ، ثم اباموسى عيسى بن صبيح المردار، ثم اباعمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب، ثم محمد بن اسماعيل بن العسكرى، ثم عبدالكريم بن روح العسكرى، ثم ابايعقوب يوسف بن عبدالله الشحام، ثم اباالحسين الصالحى، ثم الجعفران: جعفر بن جرير و جعفر بن ميسر، ثم اباعمران بن النقاش، ثم اباسعيد احمد بن سعيد الاسدى، ثم عباد بن سليمان، ثم اباجعفر الاسكافى هذا.
و قال: كان ابوجعفر فاضلا عالما، و صنف سبعين كتابا فى علم الكلام.
و هو الذى نقض كتاب "العثمانيه" على ابى عثمان الجاحظ فى حياته، و دخل الجاحظ الوراقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام السوادى الذى بلغنى انه تعرض لنقض كتابى! و ابوجعفر جالس! فاختفى منه حتى لم يره.
و كان ابوجعفر يقول بالتفضيل على قاعده معتزله بغداد، و يبالغ فى ذلك، و كان علوى الراى، محققا منصفا، قليل العصبيه.
ثم نعود الى شرح الفاظ الفصل و معانيه: قوله (ع): (لم ارد الناس)، اى لم ارد الولايه عليهم حتى ارادوا هم منى ذلك.
قال: (و لم ابايعهم حتى بايعونى)، اى لم امدد يدى اليهم مد الطلب و الحرص على الامر، و لم امددها الا بعد ان خاطبونى بالامره و الخلافه، و قالوا بالسنتهم: قد بايعناك، فحينئذ مددت يدى اليهم.
قال: و لم يبايعنى العامه و المسلمون لسلطان غصبهم و قهرهم على ذلك، و لا لحرص حاضر، اى مال موجود فرقته عليهم.
ثم قسم عليهما الكلام، فقال: ان كنتما بايعتمانى طوعا عن رضا فقد وجب عليكما الرجوع، لانه لا وجه لانتقاض تلك البيعه، و ان كنتما بايعتمانى مكرهين ع ليها فالاكراه له صوره، و هى ان يجرد السيف و يمد العنق، و لم يكن قد وقع ذلك، و لايمكنكما ان تدعياه، و ان كنتما بايعتمانى لا عن رضا و لا مكرهين بل كارهين، و بين المكره و الكاره فرق بين، فالامور الشرعيه انما تبنى على الظاهر، و قد جعلتما لى على انفسكما السبيل باظهاركما الطاعه، و الدخول فيما دخل فيه الناس، و لا اعتبار بما اسررتما من كراهيه ذلك.
على انه لو كان عندى ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون فى كراهيه ذلك سواء، فما الذى جعلكما احق المهاجرين كلهم بالكتمان و التقيه!.
ثم قال: و قد كان امتناعكما عن البيعه فى مبدا الامر اجمل من دخولكما فيها ثم نكثها.
قال: و قد زعمتما ان الشبهه التى دخلت عليكما فى امرى انى قتلت عثمان، و قد جعلت الحكم بينى و بينكما من تخلف عنى و عنكما من اهل المدينه، اى الجماعه التى لم تنصر عليا و لا طلحه، كمحمد بن مسلمه، و اسامه بن زيد، و عبدالله بن عمر، و غيرهم، يعنى انهم غير متهمين عليه و لا على طلحه و الزبير، فاذا حكموا لزم كل امرى ء منا بقدر ما تقتضيه الشهادات.
و لا شبهه انهم لو حكموا و شهدوا بصوره الحال لحكموا ببرائه على (ع) من دم عثمان، و بان طلحه كان هو الجمله و التفصيل فى امره و حصره و قتل ه، و كان الزبير مساعدا له على ذلك، و ان لم يكن مكاشفا مكاشفه طلحه.
ثم نهاهما عن الاصرار على الخطيئه، و قال لهما: انكما انما تخافان العار فى رجوعكما و انصرافكما عن الحرب، فان لم ترجعا اجتمع عليكما العار و النار، اما العار فلانكما تهزمان و تفران عند اللقاء فتعيران بذلك، و ايضا سيكشف للناس انكما كنتما على باطل فتعيران بذلك، و اما النار فاليها مصير العصاه اذا ماتوا على غير توبه و احتمال العار، وحده اهون من احتماله و احتمال النار معه.
قال (ع): (ان الله قد جعل الدنيا لما بعدها)، اى جعلها طريقا الى الاخره.
و من الكلمات الحكميه: الدنيا قنطره فاعبروها و لاتعمروها.
و ابتلى فيها اهلها اى اختبرهم ليعلم ايهم احسن عملا، و هذا من الفاظ القرآن العزيز، و المراد ليعلم خلقه، او ليعلم ملائكته و رسله، فحذف المضاف، و قد سبق ذكر شى ء يناسب ذلك فيما تقدم، قال: (و لسنا للدنيا خلقنا)، اى لم نخلق للدنيا فقط.
قال: (و لا بالسعى فيها امرنا)، اى لم نومر بالسعى فيها لها، بل امرنا بالسعى فيها لغيرها.
ثم ذكر ان كل واحد منه و من معاويه مبتلى بصاحبه، و ذلك كابتلاء آدم بابليس و ابليس بادم.
قال: (فغدوت على طلب الدنيا بتاويل القرآن)، اى تعديت و ظلمت، و (على) هاهنا متعلقه بمحذوف دل عليه الكلام، تقديره مثابرا على طلب الدنيا او مصرا على طلب الدنيا، و تاويل القرآن ما كان معاويه يموه به على اهل الشام فيقول لهم: انا ولى عثمان، و قد قال الله تعالى: (و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).
ثم يعدهم الظفر و الدوله على اهل العراق بقوله تعالى: (فلا يسرف فى القتل انه كان منصورا).
قوله: (و عصبته انت و اهل الشام)، اى الزمتنيه كما تلزم العصابه الراس، (و الب عالمك م جاهلكم)، اى حرض.
و القياد: حبل تقاد به الدابه.
قوله: و احذر ان يصيبك الله منه بعاجل قارعه، الضمير فى (منه) راجع الى الله تعالى، (و من) لابتداء الغايه.
و قال الراوندى: منه، اى من البتهان الذى اتيته، اى من اجله، و (من) للتعليل، و هذا بعيد و خلاف الظاهر.
قوله: (تمس الاصل)، اى تقطعه، و منه ماء ممسوس اى يقطع الغله.
و يقطع الدابر اى العقب و النسل.
و الاليه: اليمين.
و باحه الدار: وسطها، و كذلك ساحتها، و روى بناحيتك.
قوله: (بعاجل قارعه، و جوامع الاقدار)، من باب اضافه الصفه الى الموصوف للتاكيد، كقوله تعالى: (و انه لحق اليقين).
(شريح بن هانى ء)
هو شريح بن هانى ء بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب، و هو سلمه بن الحارث بن ربيعه ابن الحارث بن كعب المذحجى.
كان هانى ء يكنى فى الجاهليه اباالحكم، لانه كان يحكم بينهم، فكناه رسول الله (ص) بابى شريح، اذ وفد عليه.
و ابنه شريح هذا من جله اصحاب على (ع)، شهد معه المشاهد كلها، و عاش حتى قتل بسجستان فى زمن الحجاج، و شريح جاهلى اسلامى، يكنى اباالمقدام، ذكر ذلك كله ابوعمر بن عبدالبر فى كتاب الاستيعاب.
قوله (ع): و خف على نفسك الغرور، يعنى الشيطان، فاما الغرور بالضم فمصدر.
و الرادع: الكاف المانع.
و النزوات: الوثبات.
و الحفيظه: الغضب.
و الواقم: فاعل، من وقمته اى رددته اقبح الرد و قهرته.
يقول (ع): ان لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك افضت بك الى كثير من الضرر، و مثل هذا قول الشاعر: فانك ان اعطيت بطنك سولها و فرجك نالا منتهى الذم اجمعا
ما احسن هذا التقسيم و ما ابلغه فى عطف القلوب عليه، و استماله النفوس اليه!.
قال: لايخلو حالى فى خروجى من احد امرين: اما ان اكون ظالما او مظلوما، و بدا بالظالم هضما لنفسه، و لئلا يقول عدوه: بدا بدعوى كونه مظلوما، فاعطى عدوه من نفسه ما اراد.
قال: فلينفر المسلمون الى فان وجدونى مظلوما اعانونى، و ان وجدونى ظالما نهونى عن ظلمى لاعتب و انيب الى الحق.
و هذا كلام حسن، و مراده (ع) يحصل على كلا الوجهين، لانه انما اراد ان يستنفرهم، و هذان الوجهان يقتضيان نفيرهم اليه على كل حال، و الحى: المنزل، و لما هاهنا بمعنى الا، كقوله تعالى: (ان كل نفس لما عليها حافظ) فى قرائه من قراها بالتشديد.