قد تقدم ذكر قثم و نسبه امره ان يقيم للناس حجهم، و ان يذكرهم بايام الله، و هى ايام الانعام، و ايام الانتقام، لتحصل الرغبه و الرهبه.
و اجلس لهم العصرين: الغداه و العشى.
ثم قسم له ثمره جلوسه لهم ثلاثه اقسام: اما ان يفتى مستفتيا من العامه فى بعض الاحكام، و اما ان يعلم متعلما يطلب الفقه، و اما ان يذاكر عالما و يباحثه و يفاوضه، و لم يذكر السياسه و الامور السلطانيه لان غرضه متعلق بالحجيج، و هم اضيافه، يقيمون ليالى يسيره و يقفلون، و انما يذكر السياسه و ما يتعلق بها فيما يرجع الى اهل مكه، و من يدخل تحت ولايته دائما، ثم نهاه عن توسط السفراء و الحجاب بينه و بينهم، بل ينبغى ان يكون سفيره لسانه، و حاجبه وجهه، و روى (و لايكن الا لسانك سفيرا لك الى الناس) بجعل (لسانك) اسم كان مثل قوله: (فما كان جواب قومه الا ان قالوا)، و الروايه الاولى هى المشهوره، و هو ان يكون (سفيرا) اسم كان، و (لك) خبرها، و لايصح ما قاله الراوندى: ان خبرها (الى الناس)، لان (الى) هاهنا متعلقه بنفس (سفير)، فلا يجوز ان تكون الخبر عن (سفير)، تقول: سفرت الى بنى فلان فى الصلح، و اذا تعلق حرف الجر بالكلمه صار كالشى ء الواحد.
ثم قال: فانها ان ذيدت اى طردت و دفعت.
كان ابوعباد ثابت بن يحيى كاتب المامون اذا سئل الحاجه يشتم السائل، و يسطو عليه و يخجله، و يبكته ساعه ثم يامر له بها، فيقوم و قد صارت اليه، و هو يذمه و يامنه قال على بن جبله العوك: لعن الله اباعب اد لعنا يتوالى يوسع السائل شتما ثم يعطيه السوالا و كان الناس يقفون لابى عباد وقت ركوبه، فيتقدم الواحد منهم اليه بقصته ليناوله اياها، فيركله برجله بالركاب، و يضربه بسوطه، و يطير غضبا، ثم لاينزل عن فرسه حتى يقضى حاجته، و يامر له بطلبته، فينصرف الرجل بها و هو ذام له ساخط عليه، فقال فيه دعبل: اولى الامور بضيعه و فساد ملك يدبره ابوعباد متعمد بدواته جلسائه فمضرج و مخضب بمداد و كانه من دير هزقل مفلت حرب يجر سلاسل الاقياد فاشدد اميرالمومنين صفاده باشد منه فى يد الحداد و قال فيه بعض الشعراء: قل للخليفه يابن عم محمد قيد وزيرك انه ركال فلسوطه بين الرئوس مسالك و لرجله بين الصدور مجال و المفاقر: الحاجات، يقال: سد الله مفاقره، اى اغنى الله فقره، ثم امره ان يامر اهل مكه الا ياخذوا من احد من الحجيج اجره مسكن، و احتج على ذلك بالايه، و اصحاب ابى حنيفه يتمسكون بها فى امتناع بيع دور مكه و اجارتها، و هذا بناء على ان المسجد الحرام هو مكه كلها، و الشافعى يرى خلاف ذلك، و يقول: انه الكعبه، و لايمنع من بيع دور مكه و لااجارتها، و يحتج بقوله تعالى: (الذين اخرجوا من ديارهم) و اصحاب ابى حنيفه يقولون: انها اضافه اختصاص لا اضافه تمليك، كما تقول: جل الدابه، و قرا (سواء) بالنصب على ان يكون احد مفعولى (جعلنا) اى جعلناه مستويا فيه العاكف و الباد، و من قرا بالرفع جعل الجمله هى المفعول الثانى.
(سلمان الفارسى و خبر اسلامه) سلمان، رجل من فارس من رامهرمز، و قيل: بل من اصبهان، من قريه يقال لها جى، و هو معدود من موالى رسول الله (ص)، و كنيته ابوعبدالله، و كان اذا قيل: ابن من انت؟ يقول: انا سلمان، ابن الاسلام، انا من بنى آدم.
و قد روى انه قد تداوله ارباب كثيره، بضعه عشر ربا، من واحد الى آخر حتى افضى الى رسول الله (ص).
و روى ابوعمر بن عبدالبر فى كتاب "الاستيعاب" ان سلمان اتى رسول الله (ص) بصدق، ه فقال: هذه صدقه عليك و على اصحابك، فلم يقبلها، و قال: انه لاتحل لنا الصدقه، فرفعها، ثم جاء من الغد بمثلها و قال: هديه هذه، فقال لاصحابه: كلوا.
و اشتراه من اربابه، و هم قوم يهود بدراهم، و على ان يغرس لهم من النخيل كذا و كذا، و يعمل فيها حتى تدرك، فغرس رسول الله (ص) ذلك النخل كله بيده الا نخله واحده غرسها عمر بن الخطاب، فاطعم النخل كله الا تلك النخله، فقال رسول الله (ص): (من غرسها)؟ قيل: عمر، فقلعها و غرسها رسول الله (ص) بيده فاطعمت.
قال ابوعمر: و كان سلمان يسف الخوص و هو امير على المدائن و يبيعه و ياكل منه: و يقول: لااحب ان آكل الا من عمل يدى، و كان قد تعلم سف الخوص من المدينه.
و اول مشاهده الخندق، و هو الذى اشار بحفره، فقال ابوسفيان و اصحابه لما راوه: هذه مكيده ما كانت العرب تكيدها.
قال ابوعمر: و قد روى ان سلمان شهد بدر و احدا، و هو عبد يومئذ، و الاكثر ان اول مشاهده الخندق، و لم يفته بعد ذلك مشهد.
قال: و كان سلمان خيرا، فاضلا، حبرا، عالما، زاهدا، متقشفا.
قال: و ذكر هشام بن حسان عن الحسن البصرى، قال: كان عطاء سلمان خمسه آلاف، و كان اذا خرج عطاوه تصدق به، و ياكل من عمل يده، و كانت له عبائه يفرش بعضها و يلبس بعضها.
قال: و قد ذكر ابن وهب و ابن نافع ان سلمان لم يكن له بيت، انما كان يستظل بالجدر و الشجر، و ان رجلا قال له: الا ابنى لك بيتا تسكن فيه؟ قال: لا حاجه لى فى ذلك، فما زال به الرجل حتى قال له: انا اعرف البيت الذى يوافقك، قال: فصفه لى، قال: ابنى لك بيتا اذا انت قمت فيه اصاب راسك سقفه، و ان انت مددت فيه رجليك اصابهما (الجدار)؟ قال: نعم، فبنى له.
قال ابوعمر: و قد روى عن رسول الله (ص) من وجوه انه قال: (لو كان الدين فى الثريا لناله سلمان)، و فى روايه اخرى (لناله رجل من فارس).
قال: و قد روينا عن عائشه قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله (ص) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله (ص).
قال: و قد روى من حديث ابن بريده، عن ابيه ان رسول الله (ص) قال: (امرنى ربى بحب اربعه، و اخبرنى انه يحبهم: على، و ابوذر، و المقداد، و سلمان).
قال: و روى قتاده عن ابى هريره، قال: (سلمان صاحب الكتابين) يعنى الانجيل و القرآن.
و قد روى الاعمش، عن عمرو بن مره، عن ابى البخترى، عن على (ع) انه سئل عن سلمان فقال: علم العلم الاول، و العلم الاخر، ذاك بحر لاينزف، و هو منا اهل البيت.
قال: و فى روايه زاذان، عن على (ع): سلمان الفارسى كلقمان الحكيم.
قال: و قال فيه كعب الاحبار: سلمان حشى علما و حكمه.
قال: و فى الحديث المروى ان اباسفيان مر على سلمان و صهيب و بلال فى نفر من المسلمين فقالوا: ما اخذت السيوف من عنق عدو الله ماخذها- و ابوسفيان يسمع قولهم- فقال لهم ابوبكر: اتقولون هذا لشيخ قريش و سيدها! و اتى النبى (ص) و اخبره فقال: يا ابابكر، لعلك اغضبتهم! لئن كنت اغضبتهم لقد اغضبت الله، فاتاهم ابوبكر، فقال ابوبكر: يا اخوتاه، لعلى اغضبتكم! قالوا: لا يا ابابكر، يغفر الله لك.
قال: و آخى رسول الله (ص) بينه و بين ابى الدرداء لما آخى بين المسلمين.
قال: و لسلمان فضائل جمه، و اخبار حسان، و توفى فى آخر خلافه عثمان سنه خمس و ثلاثين، و قيل: توفى فى اول سنه ست و ثلاثين و قال قوم: توفى فى خلافه عمر، و الاول اكثر.
و اما حديث اسلام سلمان فقد ذكره كثير من المحدثين و رووه عنه، قال: كنت ابن دهقان قريه جى من اصبهان، و بلغ من حب ابى لى ان حبسنى فى البيت كما تحبس الجاريه، فاجتهدت فى المجوسيه حتى صرت قطن بيت النار، فارسلنى ابى يوما الى ضيعه له، فمررت بكنيسه النصارى، فدخلت عليهم، فاعجبتنى صلاتهم، فقلت: دين هولاء خير من دينى، فسالتهم: اين اصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فهربت من والدى حتى قدمت الشام، فدخلت على الاسقف فجعلت اخدمه و اتعلم منه، حتى حضرته الوفاه، فقلت: الى من توصى بى؟ فقال: قد هلك الناس و تركوا دينهم الا رجلا بالموصل فالحق به، فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل فلم يلبث الا قليلا حتى حضرته الوفاه، فقلت: الى من توصى بى؟ فقال: ما اعلم رجلا بقى على الطريقه المستقيمه الا رجلا بنصيبين.
فلحقت بصاحب نصيبين.
قالوا: و تلك الصومعه اليوم باقيه، و هى التى تعبد فيها سلمان قبل الاسلام قال: ثم احتضر صاحب نصيبين، فبعثنى الى رجل بعموريه من ارض الروم، فاتيته و اقمت عنده، و اكتسبت بقيرات و غنيمات، فلما نزل به الموت قلت له: بمن توصى بى؟ فقال: قد ترك الناس دينهم، و ما بقى احد منهم عل ى الحق، و قد اظل زمان نبى مبعوث بدين ابراهيم، يخرج بارض العرب مهاجرا الى ارض بين حرتين، لها نخل، قلت: فما علامته؟ قال: ياكل الهديه، و لاياكل الصدقه، بين كتفيه خاتم النبوه.
قال: و مر بى ركب من كلب، فخرجت معهم، فلما بلغوا بى وادى القرى ظلمونى و باعونى من يهودى، فكنت اعمل له فى زرعه و نخله، فبينا انا عنده اذ قدم ابن عم له، فابتاعنى منه، و حملنى الى المدينه، فو الله ما هو الا ان رايتها فعرفتها، و بعث الله محمدا بمكه، و لااعلم بشى ء من امره، فبينا انا فى راس نخله اذ اقبل ابن عم لسيدى، فقال: قاتل الله بنى قيله، قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكه، يزعمون انه نبى، قال: فاخذنى القر و الانتفاض، و نزلت عن النخله، و جعلت استقصى فى السوال، فما كلمنى سيدى بكلمه، بل قال: اقبل على شانك، و دع ما لايعنيك فلما امسيت اخذت شيئا كان عندى من التمر، و اتيت به النبى (ص) فقلت له: بلغنى انك رجل صالح، و ان لك اصحابا غرباء ذوى حاجه، و هذا شى ء عندى للصدقه، فرايتكم احق به من غيركم، فقال (ع) لاصحابه: كلوا، و امسك فلم ياكل، فقلت فى نفسى: هذه واحده، و انصرفت، فلما كان من الغد اخذت ما كان بقى عندى و اتيته به، فقلت له: انى رايتك لاتاكل الصدقه، و هذه هديه، فقال: كلوا و اكل معهم، فقلت انه لهو، فاكببت عليه اقبله و ابكى، فقال: ما لك؟ فقصصت عليه القصه، فاعجبه، ثم قال: يا سلمان، كاتب صاحبك، فكاتبته على ثلثمائه نخله و اربعين اوقيه، فقال رسول الله (ص) للانصار: (اعينوا اخاكم)، فاعانونى بالنخل حتى جمعت ثلاثمائه وديه، فوضعها رسول الله (ص) بيده، فصحت كلها، و اتاه مال من بعض المغازى، فاعطانى منه، و قال: اد كتابتك، فاديت و عتقت.
و كان سلمان من شيعه على (ع) و خاصته، و تزعم الاماميه انه احد الاربعه الذين حلقوا رئوسهم و اتوه متقلدى سيوفهم فى خبر يطول، و ليس هذا موضع ذكره، و اصحابنا لايخالفونهم فى ان سلمان كان من الشيعه، و انما يخالفونهم فى امر ازيد من ذلك، و ما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفه: كرديد و نكرديد محمول عند اصحابنا على ان المراد صنعتم شيئا و ما صنعتم، اى استخلفتم خليفه و نعم ما فعلتم، الا انكم عدلتم عن اهل البيت، فلو كان الخليفه منهم كان اولى، و الاماميه تقول: معناه: (اسلمتم و ما اسلمتم)، و اللفظه المذكوره فى الفارسيه لاتعطى هذا المعنى، و انما تدل على الفعل و العمل لا غير، و يدل على صحه قول اصحابنا ان سلمان عمل لعمر على المدائن، فلو كان ما تنسبه الاماميه اليه حقا لم يعمل له.
فاما الفاظ الفصل و معانيه فظاهره، و مما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء: تعز عن الشى ء اذا منعته، بقله صحبته لك اذا اعطيته.
و كان يقال: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس فى عزها، و رجل انف من ذلها.
و مر بعض الزهاد بباب دار و اهلها يبكون ميتا لهم، فقال: وا عجبا لقوم مسافرين! يبكون مسافرا قد بلغ منزله!.
و كان يقال: يابن آدم، لاتاسف على مفقود لايرده عليك الفوت، و لاتفرح بموجود لايتركه عليك الموت.
لقى عالم من العلماء راهبا فقال: ايها الراهب، كيف ترى الدنيا؟ قال: تخلق الابدان، و تجدد الامال، و تباعد الامنيه، و تقرب المنيه، قال: فما حال اهلها؟ قال: من ظفر بها نصب، و من فاتته اسف، قال: فكيف الغنى عنها؟ قال: بقطع الرجاء منها، قال: فاى الاصحاب ابر و اوفى؟ قال: العمل الصالح، قال: فايهم اضر و انكى؟ قال: النفس و الهوى، قال: فكيف المخرج؟ قال: فى سلوك المنهج، قال: و بماذا اسلكه؟ قال: بان تخلع لباس الشهوات الفانيه، و تعمل للدار الباقيه.
(الحارث الاعور و نسبه) هو الحارث الاعور صاحب اميرالمومنين (ع)، و هو الحارث بن عبدالله بن كعب بن اسد بن نخله بن حرث بن سبع بن صعب بن معاويه الهمدانى، كان احد الفقهاء، له قول فى الفتيا، و كان صاحب على (ع)، و اليه تنسب الشيعه الخطاب الذى خاطبه به فى قوله (ع): يا حار همدان من يمت يرنى من مومن او منافق قبلا و هى ابيات مشهوره قد ذكرناها فيما تقدم.
(نبذ من الاقوال الحكيمه) و قد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليله الموقع: منها قوله: (و تمسك بحبل القرآن)، جاء فى الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين فقال: احدهما كتاب الله، حبل ممدود من السماء الى الارض طرف بيد الله و طرف بايديكم.
و منها قوله: (انتصحه) اى عده ناصحا لك فيما امرك به و نهاك عنه.
و منها قوله: (و احل حلاله و حرم حرامه)، اى احكم بين الناس فى الحلال و الحرام بما نص عليه القرآن.
و منها قوله: (و صدق بما سلف من الحق) اى صدق بما تضمنه القرآن من ايام الله و مثلاته فى الامم السالفه لما عصوا و كذبوا.
و منها قوله: (و اعتبر بما مضى من الدنيا لما بقى منها)، و فى المثل: اذا شئت ان تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك، و قال الشاعر: و ما نحن الا مثلهم غير اننا اقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل و يناسب قوله: (و آخرها لاحق باولها، و كلها حائل مفارق) قوله ايضا (ع) فى غير هذا الفصل الماضى: (للمقيم عبره، و الميت للحى عظه، و ليس لامس عوده، و لا المرء من غد على ثقه، الاول للاوسط رائد، و الاوسط للاخير قائد، و كل بكل لاحق، و الكل للكل مفارق).
و منها قوله: (و عظم اسم الله ان تذكره الا على حق)، قال الله سبحانه: (و لاتجعلوا الله عرضه لايمانكم)، و قد نهى عن الحلف بالله فى الكذب و الصدق، اما فى احدهما فمحرم و اما فى الاخر فمكروه، و لذلك لايجوز ذكر اسمه تعالى فى لغو القول و الهزء و العبث.
و منها قوله: (و اكثر ذكر الموت و ما بعد الموت)، جاء فى الخبر المرفوع: (اكثروا ذكر هاذم اللذات)، و ما بعد الموت: العقاب و الثواب فى القبر و فى الاخره.
و منها قوله: (و لاتتمن الموت الا بشرط وثيق)، هذه كلمه شريفه عظيمه القدر، اى لاتتمن الموت الا و انت واثق من اعمالك الصالحه انها توديك الى الجنه، و تنقذك من النار، و هذا هو معنى قوله تعالى لليهود: (ان زعمتم انكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين و لايتمنونه ابدا بما قدمت ايديهم و الله عليم بالظالمين).
و منها قوله: (و احذر كل عم ل يرضاه صاحبه لنفسه، و يكرهه لعامه المسلمين، و احذر كل عمل يعمل فى السر، و يستحيا منه فى العلانيه، و احذر كل عمل اذا سئل عنه صاحبه انكره و اعتذر منه)، و هذه الوصايا الثلاث متقاربه فى المعنى، و يشملها معنى قول الشاعر: لاتنه عن خلق و تاتى مثله عار عليك اذا فعلت عظيم و قال الله تعالى حاكيا عن نبى من انبيائه: (و ما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه).
و من كلام الجنيد الصوفى: ليكن عملك من وراء سترك كعملك من وراء الزجاج الصافى.
و فى المثل و هو منسوب الى على (ع): اياك و ما يعتذر منه.
و منها قوله: (و لاتجعل عرضك غرضا لنبال القوم)، قال الشاعر: لاتستتر ابدا ما لاتقوم له و لاتهيجن من عريسه الاسدا ان الزنابير ان حركتها سفها من كورها اوجعت من لسعها الجسدا و قال: مقاله السوء الى اهلها اسرع من منحدر سائل و من دعا الناس الى ذمه ذموه بالحق و بالباطل و منها قوله: (و لاتحدث الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذبا)، قد نهى ان يحدث الانسان بكل ما راى من العجائب فضلا عما سمع، لان الحديث الغريب المعجب تسارع النفس الى تكذيبه، و الى ان تقوم الدلاله على صدقه قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط.
و يقال: ان بعض العلويه قال فى ح ضره عضد الدوله ببغداد: عندنا فى الكوفه نبق وزن كل نبقه مثقالان.
فاستطرف الملك ذلك، و كاد يكذبه الحاضرون، فلما قام ذكر ذلك لابيه، فارسل حماما كان عنده فى الحال الى الكوفه يامر وكلائه بارسال مائه، حمامه فى رجلى كل واحده نبقتان من ذلك النبق، فجاء النبق فى بكره الغد و حمل الى عضد الدوله، فاستحسنه و صدقه حينئذ، ثم قال له: لعمرى لقد صدقت، و لكن لاتحدث فيما بعد بكل ما رايت من الغرائب، فليس كل وقت يتهيا لك ارسال الحمام.
و كان يقال: الناس يكتبون احسن ما يسمعون، و يحفظون احسن ما يكتبون، و يتحدثون باحسن ما يحفظون، و الاصدق نوع تحت جنس الاحسن.
و منها قوله: (و لاترد على الناس كل ما حدثوك، فكفى بذلك جهلا)، من الجهل المبادره بانكار ما يسمعه، و قال ابن سينا فى آخر "الاشارات" اياك ان يكون تكيسك و تبروك من العامه، هو ان تنبرى منكرا لكل شى ء، فلذلك عجز و طيش، و ليس الخرق فى تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق فى تصديقك بما لم تقم بين يديك بينه، بل عليك الاعتصام بحبل التوقف و ان ازعجك استنكار ما يوعيه سمعك مما لم يبرهن على استحالته لك، فالصواب ان تسرح امثال ذلك الى بقعه الامكان، ما لم يذدك عنها قائم البرهان.
و منها قوله: (و اكظم الغيظ) قد مدح الله تعالى ذلك فقال: (و الكاظمين الغيظ)، و روى ان عبدا لموسى بن جعفر (ع) قدم اليه صحفه فيها طعام حار، فعجل فصبها على راسه و وجهه، فغضب، فقال له: (و الكاظمين الغيظ)، قال: قد كظمت، قال: (و العافين عن الناس) قال: قد عفوت، قال (و الله يحب المحسنين)، قال: انت حر لوجه الله، و قد نحلتك ضيعتى الفلانيه.
و منها قوله: (و احلم عند الغضب)، هذه مناسبه الاولى، و قد تقدم منا قول كثير فى الحلم و فضله، و كذلك القول فى قوله (ع): (و تجاوز عند القدره)، و كان يقال القدره تذهب الحفيظه.
و منها قوله: (و اصفح مع الدوله تكن لك العاقبه)، هذه كانت شيمه رسول الله (ص)، و شيمه على (ع)، اما شيمه رسول الله (ص) فظفر بمشركى مكه و عفا عنهم، كما سبق القول فيه فى عام الفتح، و اما على (ع) فظفر باصحاب الجمل و قد شقوا عصا الاسلام عليه، و طعنوا فيه و فى خلافته، فعفا عنهم، مع علمه بانهم يفسدون عليه امره فيما بعد، و يصيرون الى معاويه، اما بانفسهم او بارائهم و مكتوباتهم، و هذا اعظم من الصفح عن اهل مكه، لان اهل مكه لم يبق لهم لما فتحت فئه يتحيزون اليها، و يفسدون الدين عندها.
و منها قوله: (و استصلح كل نعمه انعمها الله عليك) معنى استص لحها استدمها، لانه اذا استدامها فقد اصلحها، فان بقائها صلاح لها، و استدامتها بالشكر.
و منها قوله: (و لاتضيعن نعمه من نعم الله عندك)، اى واس الناس منها، و احسن اليهم، و اجعل بعضها لنفسك و بعضها للصدقه و الايثار، فانك ان لم تفعل ذلك تكن قد اضعتها.
و منها قوله: (و لير عليك اثر النعمه) قد امر بان يظهر الانسان على نفسه آثار نعمه الله عليه، و قال سبحانه: (و اما بنعمه ربك فحدث).
و قال الرشيد لجعفر: قم بنا لنمضى الى منزل الاصمعى، فمضيا اليه خفيه و معهما خادم معه الف دينار ليدفع ذلك اليه، فدخلا داره فوجدا كساء جرداء، و باريه سملاء، و حصيرا مقطوعا، و خباء قديمه، و اباريق من خزف، و دواه من زجاج، و دفاتر عليها التراب و حيطانا مملوئه من نسج العناكب، فوجم الرشيد، و ساله مسائل غشه لم تكن من غرضه، و انما قطع بها خجله، و قال الرشيد لجعفر: الا ترى الى نفس هذا المهين، قد بررناه باكثر من خمسين الف دينار و هذه حاله، لم تظهر عليه آثار نعمتنا! و الله لادفعت اليه شيئا، و خروج و لم يعطه.
و منها قوله: (و اعلم ان افضل المومنين افضلهم تقدمه من نفسه و اهله و ماله)، اى افضلهم انفاقا فى البر و الخير من ماله، و هى التقدمه، قال الله تعالى: (و ما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه)، فاما النفس و الاهل، فان تقدمتهما فى الجهاد، و قد تكون التقدمه فى النفس بان يشفع شفاعه حسنه او يحضر عند السلطان بكلام طيب، و ثناء حسن، و ان يصلح بين المتخاصمين، و نحو ذلك.
و التقدمه فى الاهل ان يحج بولده و زوجته و يكلفهما المشاق فى طاعه الله، و ان يودب ولده ان اذنب، و ان يقيم عليه الحد، و نحو ذلك.
و منها قوله: (و ما تقدم من خير يبق لك زخره و ما توخره يكن لغيرك خيره)، و قد سبق مثل هذا، و ان ما يتركه الانسان بعده فقد حرم نفعه، و كانما كان يكدح لغيره، و ذلك من الشقاوه و قله التوفيق.
و منها قوله: (و احذر صحابه من يفيل رايه) الصحابه بفتح الصاد، مصدر صحبت و الصحابه بالفتح ايضا جمع صاحب، و المراد هاهنا الاول، و فال رايه: فسد، و هذا المعنى قد تكرر، و قال طرفه: عن المرء لاتسال و سل عن قرينه فان القرين بالمقارن يقتدى و منها قوله: (و اسكن الامصار العظام)، قد قيل: لاتسكن الا فى مصر فيه سوق قائمه، و نهر جار، و طبيب حاذق، و سلطا ن عادل، فاما منازل الغفله و الجفاء، فمثل قرى السواد الصغار، فان اهلها لا نور فيهم، و لا ضوء عليهم، و انما هم كالدواب و الانعام، همهم الحرث و الفلاحه، و لايفقهون شيئا اصلا، فمجاورتهم تعمى القلب، و تظلم الحس، و اذا لم يجد الانسان من يعينه على طاعه الله و على تعلم العلم قصر فيهما.
و منها قوله: (و اقصر رايك على ما يعنيك)، كان يقال: من دخل فيما لايعنيه فاته ما يعنيه.
و منها نهيه اياه عن القعود فى الاسواق، قد جاء فى المثل: السوق محل الفسوق.
و جاء فى الخبر المرفوع: (الاسواق مواطن ابليس و جنده)، و ذلك لانها قلما تخلو عن الايمان الكاذبه، و البيوع الفاسده، و هى ايضا مجمع النساء المومسات، و فجار الرجال، و فيها اجتماع ارباب الاهواء و البدع، فلا يخلو ان يتجادل اثنان منهم فى المذاهب و النحل فيفضى الى الفتن.
و منها قوله: (و انظر الى من فضلت عليه)، كان يقال: انظر الى من دونك، و لاتنظر الى من فوقك.
و قد بين (ع) السر فيه فقال: ان ذلك من ابواب الشكر، و صدق (ع)، لانك اذا رايت جاهلا و انت عالم، او عالما و انت اعلم منه، او فقيرا و انت اغنى (منه)، او مبتلى بسقم و انت معافى عنه، كان ذلك باعثا و داعيا لك الى الشكر.
و منها نهيه عن ال سفر يوم الجمعه، ينبغى ان يكون هذا النهى عن السفر يوم الجمعه قبل الصلاه، و اما بعد الصلاه، فلا باس به، و استثنى فقال: الا فاصلا فى سبيل الله، اى شاخصا الى الجهاد.
قال: (او فى امر تعذر به)، اى لضروره دعتك الى ذلك.
و قد ورد نهى كثير عن السفر يوم الجمعه قبل اداء الفرض، على ان من الناس من كره ذلك بعد الصلاه ايضا، و هو قول شاذ.
و منها قوله: (و اطع الله فى جمل امورك)، اى فى جملتها، و فيها كلها، و ليس يعنى فى جملتها دون تفاصيلها.
قال: (فان طاعه الله فاضله على غيرها)، و صدق (ع)، لانها توجب السعاده الدائمه، و الخلاص من الشقاء الدائم، و لاافضل مما يودى الى ذلك.
و منها قوله: (و خادع نفسك فى العباده)، امره ان يتلطف بنفسه فى النوافل، و ان يخادعها و لايقهرها فتمل و تضجر و تترك، بل ياخذ عفوها، و يتوخى اوقات النشاط، و انشراح الصدر للعباده.
قال فاما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم، عليك ان تقوم بها، كرهتها النفس او لم تكرهها.
ثم امره ان يقوم بالفريضه فى وقتها، و لايوخرها عنه فتصير قضاء.
و منها قوله: (و اياك ان ينزل بك المنون و انت آبق من ربك فى طلب الدنيا)، هذه وصيه شريفه جدا، جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته كالعبد الابق يقدم به على مولاه اسيرا مكتوفا ناكس الراس، فما ظنك به حينئذ!.
و منها قوله: (و اياك و مصاحبه الفساق، فان الشر بالشر ملحق)، يقول: ان الطباع ينزع بعضها الى بعض، فلا تصحبن الفساق فانه ينزع بك ما فيك من طبع الشر الى مساعدتهم على الفسوق و المعصيه، و ما هو الا كالنار تقوى بالنار، فاذا لم تجاورها و تمازجها نار كانت الى الانطفاء و الحمود اقرب.
و روى (ملحق) بكسر الحاء، و قد جاء ذلك فى الخبر النبوى (فان عذابك بالكفار ملحق) بالكسر.
و منها قوله: (و احب احبائه)، قد جاء فى الخبر: (لايكمل ايمان امرى ء حتى يحب من احب الله، و يبغض من ابغض الله).
و منها قوله: (و احذر الغضب)، قد تقدم لنا كلام طويل فى الغضب و قال انسان للنبى (ص): اوصنى، قال: (لاتغضب)، فقال: زدنى، فقال: (لاتغضب)، قال: زدنى، قال: (لااجد لك مزيدا)، و انما جعله (ع) جندا عظيما من جنود ابليس، لانه اصل الظلم و القتل و افساد كل امر صالح، و هو احدى القوتين المشئومتين اللتين لم يخلق اضر منهما على الانسان، و هما منبع الشر: الغضب و الشهوه.
قد تقدم نسب سهل بن حنيف و اخيه عثمان فيما مضى.
و يتسللون: يخرجون الى معاويه هاربين فى خفيه و استتار.
قال: (فلا تاسف) اى لاتحزن و الغى: الضلال.
قال: (و لك منهم شافيا)، اى يكفيك فى الانتقام منهم و شفاء النفس من عقوبتهم انهم يتسللون الى معاويه.
قال: ارض لمن غاب عنك غيبته، فذاك ذنب عقابه فيه.
و الايضاع: الاسراع.
وضع البعير اى اسرع، و اوضعه صاحبه، قال: راى برقا فاوضع فوق بكر فلا يك ما اسال و لااعاما و مهطعون: مسرعون ايضاl و الاثره: الاستئثار، يقول: قد عرفوا انى لااقسم الا بالسويه، و انى لاانفل قوما على قوم، و لااعطى على الاحساب و الانساب كما فعل غيرى، فتركونى و هربوا الى من يستاثر و يوثر.
قال: (فبعدا لهم و سحقا) دعاء عليهم بالبعد و الهلاك.
و روى انهم لم (ينفروا) بالنون، من نفر، ثم ذكر انه راج من الله ان يذلل له صعب هذا الامر، و يسهل له حزنه، و الحزن، ما غلظ من الارض، و ضده السهل.
قال الرضى رضى الله عنه: المنذر (بن الجارود) هذا هو الذى قال فيه اميرالمومنين (ع): انه لنظار فى عطفيه مختال فى برديه، تفال فى شراكيه.
(ذكر المنذر و ابيه الجارود) هو المنذر بن الجارود.
و اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى، و هو الحارث بن زيد بن حارثه بن معاويه بن ثعلبه بن جذيمه بن عوف بن انمار بن عمرو بن وديعه بن لكيز بن افصى بن عبدالقيس بن افصى بن دعمى بن جديله بن اسد بن ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان، بيتهم بيت الشرف فى عبدالقيس، و انما سمى الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه فى آخره: كما جرد الجارود بكر بن وائل.
و وفد الجارود على النبى (ص) فى سنه تسع، و قيل: فى سنه عشر.
و ذكر ابوعمر بن عبدالبر فى كتاب "الاستيعاب" انه كان نصرانيا فاسلم و حسن اسلامه، و كان قد وفد مع المنذر بن ساوى فى جماعه من عبدالقيس، و قال: شهدت بان الله حق و سامحت بنات فوادى بالشهاده و النهض فابلغ رسول الله منى رساله بانى حنيف حيث كنت من الارض قال: و قد اختلف فى نسبه اختلافا كثيرا، فقيل: بشر بن المعلى بن خنيس، و قيل: بشر بن خنيس بن المعلى، و قيل: بشر بن عمرو بن العلاء، و قيل: بشر بن عمرو بن المعلى، و كنيته ابوع تاب، و يكنى ايضا اباالمنذر.
و سكن الجارود البصره، و قتل بارض فارس، و قيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان ابن مقرن.
و قيل: ان عثمان بن العاص بعث الجارود فى بعث نحو ساحل فارس، فقتل بموضع يعرف بعقبه الجارود، و كان قبل ذلك يعرف بعقبه الطين، فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبه الجارود، و ذلك فى سنه احدى و عشرين.
و قد روى عن النبى (ص) احاديث و روى عنه، و امه دريمكه بنت رويم الشيبانيه.
و قال ابوعبيده معمر بن المثنى فى كتاب "التاج" ان رسول الله (ص) اكرم الجارود و عبدالقيس حين وفدا اليه، و قال للانصار: (قوموا الى اخوانكم، و اشبه الناس بكم)، قال: لانهم اصحاب نخل، كما ان الاوس و الخزرج اصحاب نخل، و مسكنهم البحرين و اليمامه.
قال ابوعبيده: و قال عمر بن الخطاب: لولا انى سمعت رسول الله (ص) يقول: ان هذا الامر لايكون الا فى قريش لما عدلت بالخلافه عن الجارود بن بشر بن المعلى، و لاتخالجنى فى ذلك الامور.
قال ابوعبيده: و لعبدالقيس ست خصال فاقت بها على العرب، منها: اسود العرب بيتا و اشرفهم رهطا الجارود هو و ولده.
و منها اشجع العرب حكيم بن جبله، قطعت رجله يوم الجمل، فاخذها بيده و زحف على قاتله فضربه بها حتى قتله، و هو يقول: يا نفس ل اتراعى ان قطعت كراعى ان معى ذراعى فلا يعرف فى العرب احد صنع صنيعه.
و منها اعبدالعرب هرم بن حيان صاحب اويس القرنى.
و منها اجودالعرب عبدالله بن سواد بن همام، غزا السند فى اربعه آلاف، ففتحها و اطعم الجيش كله ذاهبا و قافلا، فبلغه ان رجلا من الجيش مرض، فاشتهى خبيصا، فامر باتخاذ الخبيص لاربعه آلاف انسان، فاطعمهم حتى فضل، و تقدم اليهم الا يوقد احد منهم نارا لطعام فى عسكره مع ناره.
و منها اخطب العرب مصقله بن رقبه، به يضرب المثل فيقال: اخطب من مصقله.
و منها اهدى العرب فى الجاهليه و ابعدهم مغارا و اثرا فى الارض فى عدوه، و هو دعيميص الرمل كان يعرف بالنجوم هدايه، و كان اهدى من القطا، يدفن بيض النعام فى الرمل مملوئا ماء ثم يعود اليه فيستخرجه.
فاما المنذر بن الجارود فكان شريفا، و ابنه الحكم بن المنذر يتلوه فى الشرف، و المنذر غير معدود فى الصحابه، و لاراى رسول الله (ص)، و لا ولد له فى ايامه، و كان تائها معجبا بنفسه، و فى الحكم ابنه يقول الراجز: يا حكم بن المنذر بن الجارود انت الجواد ابن الجواد المحمود سرادق المجد عليك ممدود و كان يقال: اطوع الناس فى قومه الجارود بن بشر بن المعلى، لما قبض رسول الله (ص) فارتدت الع رب، خطب قومه فقال: ايها الناس، ان كان محمد قد مات فان الله حتى لايموت، فاستمسكوا بدينكم، و من ذهب له فى هذه الفتنه دينار او درهم او بقره او شاه فعلى مثلاه، فما خالفه من عبدالقيس احد.
قوله (ع): (ان صلاح ابيك غرنى منك)، قد ذكرنا حال الجارود و صحبته و صلاحه، و كثيرا ما يغتر الانسان بحال الاباء فيظن ان الابناء على منهاجهم، فلا يكون و الامر كذلك (يخرج الحى من الميت و يخرج الميت من الحى).
قوله: (فيما رقى) بالتشديد، اى فيما رفع الى، و اصله ان يكون الانسان فى موضع عال فيرقى اليه شى ء، و كان العلو هاهنا هو علو المرتبه بين الامام و الامير، و نحوه قولهم: تعال باعتبار علو رتبه الامر على المامور.
و اللام فى (لهواك) متعلقه بمحذوف دل عليه (انقيادا)، و لايتعلق بنفس (انقياد) لان المتعلق من حروف الجر بالمصدر لايجوز ان يتقدم على المصدر.
و العتاد: العده.
قوله: (و تصل عشيرتك)، كان فيما رقى اليه عنه انه يقتطع المال و يفيضه على رهطه و قومه و يخرج بعضه فى لذاته و ماربه.
قوله (لجمل اهلك)، العرب تضرب بالجمل المثل فى الهوان قال: لقد عظم البعير بغير لب و لم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبى بكل وجه و يحبسه على الخسف الجرير و تضر به الوليده بالهراوى فلا غير لديه و لانكير فاما شسع النعل فضرب المثل بها فى الاستهانه مشهور، لابتذالها و وطئها الاقدام فى التراب.
ثم ذكر انه من كان بصفته فليس باهل لكذا و لا كذا، الى ان قال: (او يشرك فى امانه)، و قد جعل الله تعالى البلاد و الرعايا امانه فى ذمه الامام، فاذا استعمل العمال على البلاد و الرعايا فقد شركهم فى تلك الامانه.
قال: (او يومن على جبايه)، اى على استجباء الخراج و جمعه، و هذه الروايه التى سمعناها، و من الناس من يرويها (على خيانه) و هكذا رواها الراوندى، و لم يرو الروايه الصحيحه التى ذكرناها نحن، و قال يكون (على) متعلقه بمحذوف، او (بيومن) نفسها، و هو بعيد و متكلف.
ثم امره ان يقبل اليه، و هذه كنايه عن العزل.
فاما الكلمات التى ذكرها الرضى عنه (ع) فى امر المنذر فهى داله على انه نسبه الى التيه و العجب، فقال: (نظار فى عطفيه)، اى جانبيه، ينظر تاره هكذا و تاره هكذا، ينظر لنفسه، و يستحسن هيئته و لبسته، و ينظر هل عنده نقص فى ذلك او عيب فيستدركه بازالته، كما يفعل ارباب الزهو و من يدعى لنفسه الحسن و الملاحه.
قال: (مختال فى برديه: يمشى الخيلاء عجبا) قال محمد بن واسع لابن له و قد رآه يختال فى برد له: اد ن، فدنا فقال: من اين جائتك هذه الخيلاء ويلك! اما امك فامه ابتعتها بمائتى درهم، و اما ابوك فلا اكثر الله فى الناس امثاله.
قوله: (تفال فى شراكيه)، الشراك: السير الذى يكون فى النعل على ظهر القدم.
و التفل بالسكون: مصدر تفل اى بصق، و التفل محركا البصاق نفسه، و انما يفعله المعجب و التائه فى شراكيه ليذهب عنهما الغبار و الوسخ، يتفل فيهما و يمسحهما ليعودا كالجديدين.
قد تقدم شرح مثل هذا الكلام، و هذا معنى مطروق، قد قال الناس فيه فاكثروا، قال الشاعر: قد يرزق العاجز الضعيف و ما شد بكور رحلا و لاقتبا و يحرم المرء ذو الجلاده و الراى و من لايزال مغتربا و من جيد ما قيل فى هذا المعنى قول ابى يعقوب الخريمى: هل الدهر الا صرفه و نوائبه و سراء عيش زائل و مصائبه يقول الفتى ثمرت مالى و انما لوارثه ما ثمر المال كاسبه يحاسب فيه نفسه فى حياته و يتركه نهبا لمن لايحاسبه فكله و اطعمه و خالسه وارثا شحيحا و دهرا تعتريك نوائبه ارى المال و الانسان للدهر نهبه فلا البخل مبقيه و لا الجود خاربه لكل امرى ء رزق و للرزق جالب و ليس يفوت المرء ما خط كاتبه يخيب الفتى من حيث يرزق غيره و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه يساق الى ذا رزقه و هو وادع و يحرم هذا الرزق و هو يغالبه و انك لاتدرى ارزقك فى الذى تطالبه ام فى الذى لاتطالبه! تناس ذنوب الاقربين فانه لكل حميم راكب هو راكبه له هفوات فى الرخاء يشوبها بنصره يوم لاتوارى كواكبه تراه غدوا ما امنت و تتقى بجبهته يوم الوغى من يحاربه لكل امرى ء اخوان بوس و نعمه و اعظمهم فى النائبات اقارب ه
روى (نوازع) جمع نازعه، اى جاذبه قالعه، و روى (تهلس اللحم) و (تلهس) بتقديم اللام، و تهلس بكسر اللام: تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس، و هو السل، و اما تلهس فهو بمعنى تلحس، ابدلت الحاء هاء، و هو عن لحست كذا بلسانى بالكسر، الحسه اى تاتى على اللحم حتى تلحسه لحسا، لان الشى ء انما يلحس اذا ذهب و بقى اثره، و اما (ينهس) و هى الروايه المشهوره، فمعناه يعترق.
و تاذن بفتح الذال، اى تسمع.
قوله (ع) (انى لموهن رايى) بالتشديد، اى انى لائم نفسى، و مستضعف رايى فى ان جعلتك نظيرا، اكتب و تجيبنى، و تكتب و اجيبك، و انما كان ينبغى ان يكون جواب مثلك السكوت لهوانك.
فان قلت: فما معنى قوله: (على التردد).
قلت: ليس معناه التوقف، بل معناه الترداد و التكرار، اى انا لائم نفسى على انى اكرر تاره بعد تاره اجوبتك عما تكتبه.
ثم قال: و انك فى مناظرتى و مقاومتى بالامور التى تحاولها، و الكتب التى تكتبها كالنائم يرى احلاما كاذبه، او كمن قام مقاما بين يدى سلطان، او بين قوم عقلاء ليعتذر عن امر او ليخطب بامر فى نفسه، قد بهظه مقامه ذلك، اى اثقله فهو لايدرى: هل ينطق بكلام هو له، ام عليه! فيتحير و يتبلد، و يدركه العمى و الحصر.
قال: و ان كنت لست بذلك الرجل فانك شبيه به، اما تشبيهه بالنائم ثم ذى الاحلام، فان معاويه لو راى فى المنام فى حياه رسول الله (ص) انه خليفه يخاطب بامره المومنين، و يحارب عليا على الخلافه، و يقوم فى المسلمين مقام رسول الله (ص) لما طلب لذلك المنام تاويلا و لاتعبيرا، و لعده من وساوس الخيال و اضغاث الاحلام، و كيف و انى له ان يخطر هذا بباله، و هو ابعد الخلق منه! و هذا كما يخطر للنفاط ان يكون ملكا، و لاتنظرن الى نسبه فى المناقب، بل انظر الى ان الامامه هى نبوه مختصره، و ان الطليق المعدود من المولفه قلوبهم المكذب بقلبه و ان اقر بلسانه، الناقص المنزله عند المسلمين، القاعد فى اخريات الصف، اذا دخل الى مجلس فيه اهل السوابق من المهاجرين، كيف يخطر ببال احد انها تصير فيه و يملكها و يسمه الناس وسمها، و يكون للمومنين اميرا، و يصير هو الحاكم فى رقاب اولئك العظماء من اهل الدين و الفضل! و هذا اعجب من العجب، ان يجاهد النبى (ص) قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنه، و يلعنهم و يبعدهم عنه، و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم، و البرائه منهم، فلما تمهدت له الدوله، و غلب الدين على الدنيا، و صارت شريعه دينيه محكمه، مات فشيد دينه الصالحون من اصحابه، و ا وسعوا رقعه ملته، و عظم قدرها فى النفوس، فتسلمها منهم اولئك الاعداء الذين جاهدهم النبى (ص) فملكوها و حكموا فيها، و قتلوا الصلحاء و الابرار و اقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته، و آلت تلك الحركه الاولى و ذلك الاجتهاد السابق الى ان كان ثمرته لهم، فليته كان يبعث فيرى معاويه الطليق و ابنه، و مروان و ابنه خلفاء فى مقامه، يحكمون على المسلمين فوضح ان معاويه فيما يراجعه و يكاتبه به، كصاحب الاحلام.
و اما تشبيهه اياه بالقائم مقاما قد بهظه، فلان الحجج و الشبه و المعاذير التى يذكرها معاويه فى كتبه اوهن من نسج العنكبوت، فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء، و يكتب ما يعلم هو و العقلاء من الناس انه سفه و باطل.
فان قلت: فما معنى قوله (ع): (لولا بعض الاستبقاء)؟ و هل كانت الحال تقتضى ان يستبقى! و ما تلك القوارع التى اشار اليها؟.
قلت: قد قيل: ان النبى (ص) فوض اليه امر نسائه بعد موته، و جعل اليه ان يقطع عصمه ايتهن شاء اذا راى ذلك، و له من الصحابه جماعه يشهدون له بذلك، فقد كان قادرا على ان يقطع عصمه ام حبيبه، و يبيح نكاحها الرجال عقوبه لها و لمعاويه اخيها، فانها كانت تبغض عليا كما يبغضه اخوها، و لو فعل ذلك لانتهس لحمه ، و هذا قول الاماميه، و قد رووا عن رجالهم انه (ع) تهدد عائشه بضرب من ذلك، و اما نحن فلا نصدق هذا الخبر، و نفسر كلامه على معنى آخر، و هو انه قد كان معه من الصحابه قوم كثيرون سمعوا من رسول الله (ص) يلعن معاويه بعد اسلامه، و يقول: انه منافق كافر، و انه من اهل النار، و الاخبار فى ذلك مشهوره، فلو شاء ان يحمل الى اهل الشام خطوطهم و شهاداتهم بذلك، و يسمعهم قولهم ملافظه و مشافهه لفعل، و لكنه راى العدول عن ذلك، مصلحه لامر يعلمه هو (ع)، و لو فعل ذلك لانتهس لحمه، و انما ابقى عليه.
و قلت لابى زيد البصرى: لم ابقى عليه؟ فقال: و الله ما ابقى عليه مراعاه له، و لارفقا به، و لكنه خاف ان يفعل كفعله، فيقول لعمرو بن العاص و حبيب بن مسلمه و بسر بن ابى ارطاه و ابى الاعور و امثالهم: ارووا انتم عن النبى (ص) ان عليا (ع) منافق من اهل النار، ثم يحمل ذلك الى اهل العراق، فلهذا السبب ابقى عليه.
الحلف: العهد، اى و من كتاب حلف، فحذف المضاف.
و اليمن: كل من ولده قحطان، نحو حمير، و عك، و جذام، و كنده، و الازد، و غيرهم.
و ربيعه، هو ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان، و هم بكر و تغلب، و عبدالقيس.
و هشام، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبى، نسابه ابن نسابه، عالم بايام العرب و اخبارها، و ابوه اعلم منه، و هو يروى عن ابيه.
و الحاضر: ساكنو الحضر: و البادى: ساكنو الباديه، و اللفظ لفظ المفرد و المعنى الجمع.
قوله: (انهم على كتاب الله) حرف الجر يتعلق بمحذوف، اى مجتمعون.
قوله: (لايشترون به ثمنا قليلا)، اى لايتعوضون عنه بالثمن، فسمى التعوض اشتراء، و الاصل هو ان يشترى الشى ء بالثمن لا الثمن بالشى ء، لكنه من باب اتساع العرب، و هو من الفاظ القرآن العزيز.
و انهم يد واحده، اى لا خلف بينهم.
قوله: (لمعتبه عاتب)، اى لايوثر فى هذا العهد و الحلف، و لاينقضه ان يعتب احد منهم على بعضهم، لانه استجداه فلم يجده، او طلب منه امرا فلم يقم به، و لا لان احدا منهم غضب من امر صدر من صاحبه، و لا لان عزيزا منهم استذل ذليلا منهم، و لا لان انسانا منهم سب او هجا بعضهم، فان امثال هذه الامور يتعذر ارتفاعها بين الناس، و لو كانت تنق ض الحلف لما كان حلف اصلا.
و اعلم انه قد ورد فى الحديث عن النبى (ص): (كل حلف كان فى الجاهليه فلا يزيده الاسلام الا شده)، و لا حلف فى الاسلام، لكن فعل اميرالمومنين (ع) اولى بالاتباع من خبر الواحد، و قد تحالفت العرب فى الاسلام مرارا، و من اراد الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ.
كتابه الى معاويه و مخاطبته لبنى اميه جميعا.
قال: (و قد علمت اعذارى فيكم)، اى كونى ذا عذر لو لمتكم او ذممتكم- يعنى فى ايام عثمان.
ثم قال: (و اعراضى عنكم) اى مع كونى ذا عذر لو فعلت ذلك فلم افعله، بل اعرضت عن اسائتكم الى و ضربت عنكم صفحا.
حتى كان ما لابد منه- يعنى قتل عثمان و ما جرى من الرجبه بالمدينه.
ثم قاطعه الكلام مقاطعه و قال له: و الحديث طويل، و الكلام كثير، و قد ادبر ذلك الزمان، و اقبل زمان آخر، فبايع و اقدم، فلم يبايع و لاقدم، و كيف يبايع و عينه طامحه الى الملك و الرياسه منذ امره عمر على الشام، و كان عالى الهمه، تواقا الى معالى الامور، و كيف يطيع عليا و المحرضون له على حربه عدد الحصا! و لو لم يكن الا الوليد بن عقبه لكفى، و كيف يسمع قوله: فو الله ما هند بامك ان مضى النهار و لم يثار بعثمان ثائر ايقتل عبدالقوم سيد اهله و لم تقتلوه ليت امك عاقر و من عجب ان بت بالشام وادعا قريرا و قد دارت عليه الدوائر! و يطيع عليا، و يبايع له، و يقدم عليه، و يسلم نفسه اليه، و هو نازل بالشام فى وسط قحطان و دونه منهم حره لاترام، و هم اطوع له من نعله، و الامر قد امكنه الشروع فيه، و تالله لو سمع هذا التحريض اجبن الناس و اضعفهم نفسا و انقصهم همه لحركه و شحذ من عزمه، فكيف معاويه، و قد ايقظ الوليد بشعره من لاينام!.