تجرمت على فلان: ادعيت عليه جرما و ذنبا، و استهواه كذا: استزله.
و قوله (ع): (فمثلت لهم ببلائها البلاء)، اى بلاء الاخره و عذاب جهنم، و شوقتهم بسرورها الى السرور، اى الى سرور الاخره و نعيم الجنه.
و هذا الفصل كله لمدح الدنيا، و هو ينبى ء عن اقتداره (ع) على ما يريد من المعانى، لان كلامه كله فى ذم الدنيا، و هو الان يمدحها، و هو صادق فى ذاك و فى هذا، و قد جاء عن النبى (ص) كلام يتضمن مدح الدنيا او قريبا من المدح، و هو قوله (ع): (الدنيا حلوه خضره، فمن اخذها بحقها بورك له فيها).
و احتذى عبدالله بن المعتز حذو اميرالمومنين (ع) فى مدح الدنيا فقال فى كلام له: الدنيا دار التاديب و التعريف، التى بمكروهها توصل الى محبوب الاخره، و مضمار الاعمال، السابقه باصحابها الى الجنان، و درجه الفوز التى يرتقى عليها المتقون الى دار الخلد، و هى الواعظه لمن عقل، و الناصحه لمن قبل، و بساط المهل، و ميدان العمل، و قاصمه الجبارين، و ملحقه الرغم معاطس المتكبرين، و كاسيه التراب ابدان المختالين، و صارعه المغترين، و مفرقه اموال الباخلين، و قاتله القاتلين، و العادله بالموت على جميع العالمين، و ناصره المومنين، و مبيره الكافرين.
الحسنات فيها مضاعفه، و السيئات بالامها ممحوه، و مع عسرها يسران، و الله تعالى قد ضمن ارزاق اهلها، و اقسم فى كتابه بما فيها، و رب طيبه من نعيمها قد حمد الله عليها فتلقتها ايدى الكتبه و وجبت بها الجنه، و كم نائبه من نوائبها، و حادثه من حوادثها، قد راضت الفهم، و نبهت الفطنه، و اذكت القريحه، و افادت فضيله الصبر، و كثرت ذخائر الاجر.
و من الكلام المنسوب الى على (ع): الناس ابناء الدنيا، و لايلام المرء على حب امه، اخذه محمد بن وهب الحميرى فقال: و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شى ء محبب
هذه اللام عند اهل العربيه تسمى لام العاقبه، و مثل هذا قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا)، ليس انهم التقطوه لهذه العله، بل التقطوه فكان عاقبه التقاطهم اياه العداوه و الحزن، و مثله: فللموت ما تلد الوالده.
و مثله قوله تعالى: (و لقد ذرانا لجهنم)، ليس انه ذراهم ليعذبهم فى جهنم، بل ذراهم و كان عاقبه ذرئهم ان صاروا فيها، و بهذا الحرف يحصل الجواب عن كثير من الايات المتشابهه التى تتعلق بها المجبره.
و اما فحوى هذا القول و خلاصته فهو التنبيه على ان الدنيا دار فناء و عطب، لا دار بقاء و سلامه، و ان الولد يموت، و الدور تخرب، و ما يجمع من الاموال يفنى.
قال عمر بن عبدالعزيز يوما لجلسائه: اخبرونى من احمق الناس؟ قالوا: رجل باع آخرته بدنياه، فقال: الا انبئكم باحمق منه؟ قالوا: بلى، قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره.
قلت: لقائل ان يقول له: ذاك باع آخرته بدنياه ايضا، لانه لو لم يكن له لذه فى بيع آخرته بدنيا غيره لما باعها، و اذا كان له فى ذلك لذه، فاذن انما باع آخرته بدنياه، لان دنياه هى لذته.
قد تقدم لنا كلام فى الصديق و الصداقه، و اما النكبه و حفظ الصديق فيها فانه يقال: فى الحبوس مقابر الاحياء، و شماته الاعداء، و تجربه الاصدقاء.
و اما الغيبه فانه قد قال الشاعر: و اذا الفتى حسنت مودته فى القرب ضاعفها على البعد و اما الموت فقد قال الشاعر: و انى لاستحييه و الترب بيننا كما كنت استحييه و هو يرانى و من كلام على (ع): الصديق من صدق فى غيبته.
قيل لحكيم: من ابعد الناس سفرا؟ قال: من سافر فى ابتغاء الاخ الصالح.
ابوالعلاء المعرى: ازرت بكم يا ذوى الالباب اربعه يتركن احلامكم نهب الجهالات ود الصديق و علم الكيمياء و اح كام النجوم، و تفسير المنامات قيل للثورى: دلنى على جليس اجلس اليه؟ قال: تلك ضاله لاتوجد.
قال الرضى رحمه الله تعالى: و تصديق ذلك فى كتاب الله تعالى، قال فى الدعاء: (ادعونى استجب لكم).
و قال فى الاستغفار: (و من يعمل سوئا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما).
و قال فى الشكر: (لئن شكرتم لازيدنكم).
و قال فى التوبه: (انما التوبه على الله للذين يعملون السوء بجهاله ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما).
فى بعض الروايات ان ما نسب الى الرضى رحمه الله من استنباط هذه المعانى من الكتاب العزيز من متن كلام اميرالمومنين (ع)، و قد سبق القول فى كل واحده من هذه الاربع مستقصى.
قد تقدم القول فى الصلاه و الحج و الصيام، فاما ان جهاد المراه حسن التبعل، فمعناه حسن معاشره بعلها و حفظ ماله و عرضه، و اطاعته فيما يامر به، و ترك الغيره فانها باب الطلاق.
(نبذ من الوصايا الحكيمه) و اوصت امراه من نساء العرب بنتها ليله اهدائها فقالت لها: لو تركت الوصيه لاحد لحسن ادب و كرم حسب، لتركتها لك، و لكنها تذكره للغافل، و مئونه للعاقل.
انك قد خلفت العش الذى فيه درجت، و الوكر الذى منه خرجت، الى منزل لم تعرفيه، و قرين لم تالفيه، فكونى له امه، يكن لك عبدا، و احفظى عنى خصالا عشرا: اما الاولى و الثانيه، فحسن الصحابه بالقناعه، و جميل المعاشره بالسمع و الطاعه، ففى حسن الصحابه راحه القلب، و فى جميل المعاشره رضا الرب.
و الثالثه و الرابعه، التفقد لمواقع عينه، و التعهد لمواضع انفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، و لايجد انفه منك خبيث ريح، و اعلمى ان الكحل احسن الحسن المفقود، و ان الماء اطيب الطيب الموجود.
و الخامسه و السادسه، الحفظ لماله، و الارعاء على حشمه و عياله، و اعلمى ان اصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، و اصل الارعاء على الحشم و العيال حسن التدبير.
و السابعه و الثامنه، التعهد لوقت طعامه ، و الهدو و السكون عند منامه، فحراره الجوع ملهبه، و تنغيص النوم مغضبه.
و التاسعه و العاشره: لاتفشين له سرا، و لاتعصين له امرا، فانك ان افشيت سره لم تامنى غدره، و ان عصيت امره اوغرت صدره.
و اوصت امراه ابنتها و قد اهدتها الى بعلها، فقالت: كونى له فراشا، يكن لك معاشا، و كونى له وطاء، يكن لك غطاء، و اياك و الاكتئاب اذا كان فرحا، و الفرح اذا كان كئيبا، و لايطلعن منك على قبيح، و لايشمن منك الا طيب ريح.
و زوج عامر بن الظرب ابنته من ابن اخيه، فلما اراد تحويلها قال لامها: مرى ابنتك الا تنزل مفازه الا و معها ماء، فانه للاعلى جلاء، و للاسفل نقاء، و لاتكثر مضاجعته، فاذا مل البدن مل القلب، و لاتمنعه شهوته، فان الحظوه فى المواقعه.
فلم يلبث الا شهرا حتى جائته مشجوجه، فقال لابن اخيه: يا بنى ارفع عصاك عن بكرتك، فان كان من غير ان تنفر بك فهو الداء الذى ليس له دواء، و ان لم يكن بينكما وفاق ففراق، الخلع احسن من الطلاق، و ان تترك اهلك و مالك.
فرد عليه صداقها، و خلعها منه، فهو اول خلع كان فى العرب.
و اوصى الفرافصه الكلبى ابنته نائله حين اهداها الى عثمان، فقال: يا بنيه، انك تقدمين على نساء من نساء قريش هن اقدر على الطيب منك، و لات غلبين على خصلتين: الكحل و الماء.
تطهرى حتى يكون ريح جلدك ريح شن اصابه مطر، و اياك و الغيره على بعلك، فانها مفتاح الطلاق.
و روى ابوعمرو بن العلاء قال: انكح ضرار بن عمرو الضبى ابنته من معبد بن زراره، فلما اخرجها اليه قال: يا بنيه، امسكى عليك الفضلين: فضل الغلمه، و فضل الكلام.
قال ابوعمرو: و ضرار هذا هو الذى رفع عقيرته بعكاظ، و قال: الا ان شر حائل ام، فزوجوا الامهات، قال: و ذلك انه صرع بين الرماح، فاشبل عليه اخوته لامه حتى استنقذوه.
و اوصت اعرابيه ابنتها عند اهدائها، فقالت لها: اقلعى زج رمحه، فان اقر فاقلعى سنانه، فان اقر فاكسرى العظام بسيفه، فان اقر فاقطعى اللحم على ترسه، فان اقر فضعى الاكاف على ظهره، فانما هو حمار.
و هذا هو قبح التبعل، و ذكرناه نحن فى باب حسن التبعل، لا الضد يذكر بضده.
جاء فى الحديث المرفوع- و قيل: انه موقوف على عثمان: (تاجروا الله بالصدقه تربحوا).
و كان يقال: الصدقه صداق الجنه.
و فى الحديث المرفوع: (ما احسن عبدالصدقه، الا احسن الله الخلافه على مخلفيه).
و عنه (ص): (ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا الا كان فى حفظ الله مادام منه رقعه).
و قال عمر بن عبدالعزيز: الصلاه تبلغك نصف الطريق، و الصوم يبلغك باب الملك، و الصدقه تدخلك عليه.
هذا حق، لان من لم يوقن بالخلف و يتخوف الفقر يضن بالعطيه، و يعلم انه اذا اعطى ثم اعطى استنفد ماله، و احتاج الى الناس لانقطاع مادته، و اما من يوقن بالخلف، فانه يعلم ان الجود شرف لصاحبه، و ان الجواد ممدوح عند الناس، فقد وجد الداعى الى السماح- و لاصارف له عنه- لانه يعلم ان مادته دائمه غير منقطعه، فالصارف الذى يخافه من قدمناه ذكره مفقود فى حقه، فلا جرم انه يجود بالعطيه!.
جاء فى الحديث المرفوع: (من وسع وسع عليه، و كلما كثر العيال كثر الرزق).
و كان على بعض الموسرين رسوم لجماعه من الفقراء يدفعها اليهم كل سنه، فاستكثرها، فامر كاتبه بقطعها، فراى فى المنام كان له اهواء كثيره فى داره، و كانها تصعدها اقوام من الارض الى السماء، و هو يجزع من ذلك، فيقول: يا رب رزقى رزقى! فقيل له: انما رزقناك هذه لتصرفها فيما كنت تصرفها فيه، فاذ قطعت ذلك رفعناها منك، و جعلناها لغيرك.
فلما اصبح امر كاتبه باعاده تلك الرسوم اجمع.
ما عال اى ما افتقر، و قد تقدم لنا قول مقنع فى مدح الاقتصاد.
و قال ابوالعلاء: و ان كنت تهوى العيش فابغ توسطا فعند التناهى يقصر المتطاول توقى البدور النقص و هى اهله و يدركها النقصان و هى كوامل و هذا الشعر و ان كان فى الاقتصاد فى المراتب و الولايات، الا انه مدح للاقتصاد فى الجمله، فهو من هذا الباب.
و سمع بعض الفضلاء قول الحكماء: التدبير نصف العيش، فقال: بل العيش كله.
اليسار الثانى كثره المال، يقول: ان قله العيال مع الفقر كاليسار الحقيقى مع كثرتهم.
و من امثال الحكماء: العيال ارضه المال.
دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالبصره، فقال: نعم المرء حبيب ابن شوذب! حسن التودد، طيب الثناء، يكره الزياره المتصله، و القعده المنسيه.
و كان يقال: التودد ظاهر حسن، و المعامله بين الناس على الظاهر، فاما البواطن فالى عالم الخفيات.
و كان يقال: قل من تودد الا صار محبوبا، و المحبوب مستور العيوب.
من كلام بعض الحكماء: الهم يشيب القلب، و يعقم العقل، فلا يتولد معه راى، و لاتصدق معه رويه.
و قال الشاعر: هموم قد ابت الا التباسا تبت الشيب فى راس الوليد و تقعد قائما بشجا حشاه و تطلق للقيام حبا القعود و اضحت خشعا منها نزار مركبه الرواجب فى الخدود و قال سفيان بن عيينه: الدنيا كلها هموم و غموم، فما كان منها سرور فهو ربح.
و من امثالهم: الهم كافور الغلمه.
و قال ابوتمام: شاب راسى و ما رايت مشيب الراس الا من فضل شيب الفواد و كذاك القلوب فى كل بوس و نعيم طلائع الاجساد طال انكارى البياض و لو عمر ت شيئا انكرت لون السواد