قد تقدم كلامنا فى الصبر.
و قالت الحكماء: الصبر ضربان: جسمى و نفسى، فالجسمى تحمل المشاق بقدر القوه البدنيه، و ليس ذلك بفضيله تامه، و لذلك قال الشاعر: و الصبر بالارواح يعرف فضله صبر الملوك و ليس بالاجسام و هذا النوع اما فى الفعل كالمشى و رفع الحجر او فى رفع الانفعال كالصبر على المرض و احتمال الضرب المفظع.
و اما النفسى ففيه تتعلق الفضيله، و هو ضربان: صبر عن مشتهى، و يقال له: عفه، و صبر على تحمل مكروه او محبوب.
و تختلف اسماوه بحسب اختلاف مواقعه، فان كان فى نزول مصيبه لم يتعد به اسم الصبر، و يضاده الجزع و الهلع و الحزن، و ان كان فى احتمال الغنى سمى ضبط النفس، و يضاده البطر و الاشر و الرفغ و ان كان فى محاربه سمى شجاعه و يضاده الجبن، و ان كان فى امساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمى حلما، و يضاده التذمر و الاستشاطه، و ان كان فى نائبه مضجره سمى سعه صدر، و يضاده الضجر و ضيق العطن و التبرم، و ان كان فى امساك كلام فى الضمير سمى كتمان السر، و يضاده الافشاء، و ان كان عن فضول العيش سمى قناعه و زهدا و يضاده الحرص و الشره.
فهذه كلها انواع الصبر، و لكن اللفظ العرفى واقع على الصبر الجسمانى، و على ما يكون فى نزول المصائب، و تنفرد باقى الانواع باسماء تخصها.
لا فرق بين الرضا بالفعل و بين المشاركه فيه، الا ترى انه اذا كان ذلك الفعل قبيحا استحق الراضى به الذم كما يستحقه الفاعل له! و الرضا يفسر على وجهين: الاراده، و ترك الاعتراض، فان كان الاراده فلا ريب انه يستحق الذم لان مريد القبيح فاعل للقبيح، و ان كان ترك الاعتراض مع القدره على الاعتراض فلا ريب انه يستحق الذم ايضا، لان تارك النهى عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم.
فاما قوله (ع): (و على كل داخل فى باطل اثمان)، فان اراد الداخل فيه بان يفعله حقيقه فلا شبهه فى انه ياثم من جهتين: احداهما من حيث انه اراد القبيح.
و الاخرى من حيث انه فعله، و ان كان قوم من اصحابنا قالوا: ان عقاب المراد هو عقاب الاراده.
و ان اراد ان الراضى بالقبيح فقط يستحق اثمين: احدهما لانه رضى به، و الاخر لانه كالفاعل، فليس الامر على ذلك، لانه ليس بفاعل للقبيح حقيقه ليستحق الاثم من جهه الاراده و من جهه الفعليه جميعا، فوجب اذن ان يحمل كلامه (ع) على الوجه الاول.
اى فى مظانها و فى مركزها، اى لاتستندوا الى ذمام الكافرين و المارقين، فانهم ليسوا اهلا للاستعصام بذممهم، كما قال الله تعالى: (لايرقبون فى مومن الا و لا ذمه).
و قال: (انهم لا ايمان لهم).
و هذه كلمه قالها بعد انقضاء امر الجمل و حضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه، منهم مروان بن الحكم، فقال: و ماذا اصنع ببيعتك؟ الم تبايعنى بالامس! يعنى بعد قتل عثمان، ثم امر باخراجهم و رفع نفسه عن مبايعه امثالهم، و تكلم بكلام ذكر فيه ذمام العربيه و ذمام الاسلام، و ذكر ان لا دين له فلا ذمام له.
ثم قال فى اثناء الكلام: (فاستعصموا بالذمم فى اوتارها)، اى اذا صدرت عن ذوى الدين، فمن لا دين له لا عهد له.
يعنى نفسه (ع)، و هو حق على المذهبين جميعا، اما نحن فعندنا انه امام واجب الطاعه بالاختبار، فلا يعذر احد من المكلفين فى الجهل بوجوب طاعته، و اما على مذهب الشيعه فلانه امام واجب الطاعه بالنص، فلا يعذر احد من المكلفين فى جهاله امامته، و عندهم ان معرفه امامته تجرى مجرى معرفه محمد (ص) و مجرى معرفه البارى ء سبحانه، و يقولون: لاتصح لاحد صلاه و لا صوم و لا عباده الا بمعرفه الله و النبى و الامام.
و على التحقيق، فلا فرق بيننا و بينهم فى هذا المعنى، لان من جهل امامه على (ع) و انكر صحتها و لزومها، فهو عند اصحابنا مخلد فى النار، لاينفعه صوم و لا صلاه، لان المعرفه بذلك من الاصول الكليه التى هى اركان الدين، و لكنا لانسمى منكر امامته كافرا، بل نسميه فاسقا، و خارجيا، و مارقا، و نحو ذلك، و الشيعه تسميه كافرا، فهذا هو الفرق بيننا و بينهم، و هو فى اللفظ لا فى المعنى.
قال الله تعالى: (و اما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).
و قال سبحانه: (و هديناه النجدين).
و قال بعض الصالحين: الا انهما نجدا الخير و الشر، فجعل نجد الشر احب اليكم من نجد الخير.
قلت: النجد: الطريق.
و اعلم ان الله تعالى قد نصب الادله و مكن المكلف بما اكمل له من العقل من الهدايه، فاذا ضل فمن قبل نفسه اتى.
و قال بعض الحكماء: الذى لايقبل الحكمه هو الذى ضل عنها ليست هى الضاله عنه.
و قال: متى احسست بانك قد اخطات و اردت الا تعود ايضا فتخطى ء فانظر الى اصل فى نفسك حدث عنه ذلك الخطا، فاحتل فى قلعه، و ذلك انك ان لم تفعل ذلك عاد فثبت خطا آخر.
و كان يقال: كما ان البدن الخالى من النفس تفوح منه رائحه النتن، كذلك النفس الخاليه من الحكمه، و كما ان البدن الخالى من النفس ليس يحس ذلك بالبدن بل الذين لهم حس يحسونه به، كذلك النفس العديمه للحكمه ليس تحس به تلك النفس، بل يحس به الحكماء، و قيل لبعض الحكماء: ما بال الناس ضلوا عن الحق؟ اتقول: انهم لم تخلق فيهم قوه معرفه؟ فقال: لا، بل خلق لهم ذلك، و لكنهم استعملوا تلك القوه على غير وجهها، و فى غير ما خلقت له، كالسم تدفعه الى انسان ليقتل به عدوه فيقتل به ن فسه.
الاصل فى هذا قول الله تعالى: (ادفع بالتى هى احسن فاذا الذى بينك و بينه عداوه كانه ولى حميم).
و روى المبرد فى "الكامل" عن ابن عائشه، عن رجل من اهل الشام، قال: دخلت المدينه، فرايت رجلا راكبا على بغله لم ار احسن وجها و لا ثوبا و لا سمتا و لا دابه منه، فمال قلبى اليه، فسالت عنه، فقيل: هذا الحسن بن الحسن بن على، فامتلا قلبى له بغضا، و حسدت عليا ان يكون له ابن مثله، فصرت اليه و قلت له: انت ابن ابى طالب؟ فقال: انا ابن ابنه، قلت: فبك و بابيك! فلما انقضى كلامى قال: احسبك غريبا! قلت: اجل، قال: فمل بنا، فان احتجت الى منزل انزلناك، او الى مال واسيناك، او الى حاجه عاوناك.
فانصرفت عنه و ما على الارض احد احب الى منه.
و قال محمود الوراق: انى شكرت لظالمى ظلمى و غفرت ذاك له على علم و رايته اهدى الى يدا لما ابان بجهله حلمى رجعت اسائته عليه و اح سانى فعاد مضاعف الجرم و غدوت ذا اجر و محمده و غدا بكسب الظلم و الاثم فكانما الاحسان كان له و انا المسى ء اليه فى الحكم ما زال يظلمنى و ارحمه حتى بكيت له من الظلم قال المبرد: اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش قال له رجل منهم: انى مررت بال فل ان و هم يشتمونك شتما رحمتك منه، قال: افسمعتنى اقول الا خيرا! قال: لا، قال: اياهم فارحم.
و قال رجل لابى بكر: لاشتمنك شتما يدخل معك قبرك، فقال: معك و الله يدخل، لا معى.
راى بعض الصحابه رسول الله (ص) واقفا فى درب من دروب المدينه و معه امراه فسلم عليه، فرد عليه، فلما جاوزه ناداه فقال: هذه زوجتى فلانه، قال: يا رسول الله، او فيك يظن! فقال: (ان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم).
و جاء فى الحديث المرفوع: (دع ما يريبك الى ما لايريبك).
و قال ايضا: (لايكمل ايمان عبد حتى يترك ما لاباس به).
و قد اخذ هذا المعنى شاعر فقال: و زعمت انك لاتلوط فقل لنا هذا المقرطق واقفا ما يصنع! شهدت ملاحته عليك بريبه و على المريب شواهد لاتدفع
المعنى ان الاغلب فى كل ملك يستاثر على الرعيه بالمال و العز و الجاه.
و نحو هذا المعنى قولهم: من غلب سلب، و من عز بز.
و نحوه قول ابى الطيب: و الظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفه فلعله لايظلم
قد تقدم لنا قول كاف فى المشوره مدحا و ذما.
و كان عبدالملك بن صالح الهاشمى يذمها و يقول: ما استشرت واحدا قط الا تكبر على و تصاغرت له، و دخلته العزه و دخلتنى الذله، فاياك و المشوره و ان ضاقت عليك المذاهب، و اشتبهت عليك المسائل، و اداك الاستبداد الى الخطا الفادح.
و كان عبدالله بن طاهر يذهب الى هذا المذهب، و يقول: ما حك جلدك مثل ظفرك، و لان اخطى ء مع الاستبداد الف خطا، احب الى من ان استشير و ارى بعين النقص و الحاجه.
و كان يقال: الاستشاره اذاعه السر، و مخاطره بالامر الذى ترومه بالمشاوره، فرب مستشار اذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك.
و اما المادحون للمشوره فكثير جدا.
و قالوا: خاطر من استبد برايه.
و قالوا: المشوره راحه لك، و تعب على غيرك.
و قالوا: من اكثر من المشوره لم يعدم عند الصواب مادحا، و عند الخطا عاذرا.
و قالوا: المستشير على طرف النجاح، و الاستشاره من عزم الامور.
و قالوا المشوره لقاح العقو ل، و رائد الصواب.
و من الفاظهم البديعه: ثمره راى المشير احلى من الارى المشور.
و قال بشار: اذا بلغ الراى النصيحه فاستعن بعزم نصيح او مشوره حازم و لاتجعل الشورى عليك غضاضه فان الخوافى عده للقوادم
قد تقدم القول فى السر و الامر بكتمانه، و نذكر هاهنا اشياء اخر.
من امثالهم: مقتل الرجل بين لحييه.
دنا رجل من آخر فساره، فقال: ان من حق السر التدانى.
كان مالك بن مسمع اذا ساره انسان قال له: اظهره، فلو كان فيه خير لما كان مكتوما.
حكيم يوصى ابنه: يا بنى كن جوادا بالمال فى موضع الحق، ضنينا بالاسرار عن جميع الخلق، فان احمد جود المرء الانفاق فى وجه البر.
و من كلامهم: سرك من دمك، فاذا تكلمت به فقد ارقته.
و قال الشاعر: فلا تفش سرك الا اليك فان لكل نصيح نصيحا الم تر ان غواه الرجال لايتركون اديما صحيحا! و قال عمر بن عبدالعزيز: القلوب اوعيه الاسرار و الشفاه اقفالها، و الالسن مفاتيحها فليحفظ كل امرى ء مفتاح سره.
و قال بعض الحكماء: من افشى سره كثر عليه المتامرون.
اسر رجل الى صديق سرا ثم قال له: افهمت؟ قال له: بل جهلت، قال: احفظت؟ قال: بل نسيت.
و قيل لرجل: كيف كتمانك السر؟ قال: اجحد المخبر، و احلف للمستخبر.
انشد الاصمعى قول الشاعر: اذا جاوز الاثنين سر فانه بنث و تكثير الوشاه قمين فقال: و الله ما اراد بالاثنين الا الشفتين.
فى الحديث المرفوع: (اشقى الاشقياء من جمع عليه فقر الدنيا و عذاب الاخره).
و اتى بزرجمهر فقير جاهل، فقال: بئسما اجتمع على هذا البائس: فقر ينقص دنياه، و جهل يفسد آخرته.
شاعر: خلق المال و اليسار لقوم و ارانى خلقت للاملاق انا فيما ارى بقيه قوم خلقوا بعد قسمه الارزاق اخذ السيواسى هذا المعنى، فقال فى قصيدته الطويله المعروفه بالساسانيه: ليت شعرى لما بدا يقسم الار زاق فى اى مطبق كنت قرى ء على احد جانبى دينار: قرنت بالنجح و بى كل ما يراد من ممتنع يوجد و على الجانب الاخر: و كل من كنت له آلفا فالانس و الجن له اعبد و قال ابوالدرداء: من حفظ ماله فقد حفظ الاكثر من دينه و عرضه.
بعضهم: و اذا رايت صعوبه فى مطلب فاحمل صعوبته على الدينار تردده كالظهر الذلول فانه حجر يلين قوه الاحجار و من دعاء السلف: اللهم انى اعوذ بك من ذل الفقر و بطر الغنى.