تكاد هذه الكلمه ان تكون ايماء الى قوله تعالى: (و البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه)، و معنى هذه الكلمه ان من حسن خلقه، و لانت كلمته، كثر محبوه و اعوانه و اتباعه.
و نحوه قوله: (من لانت كلمته، وجبت محبته).
و قال تعالى: (و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، و اصل هذه الكلمه مطابق للقواعد الحكميه، اعنى الشجره ذات الاغصان حقيقه، و ذلك لان النبات كالحيوان فى القوى النفسانيه، اعنى الغاذيه و المنميه، و ما يخدم الغاذيه من القوى الاربع، و هى الجاذبه، و الماسكه، و الدافعه، و الهاضمه، فاذا كان اليبس غالبا على شجره كانت اغصانها اخف، و كان عودها ادق، و اذا كانت الرطوبه غالبه كانت اغصانها اكثر، و عودها اغلظ، و ذلك لاقتضاء اليبس الذبول، و اقتضاء الرطوبه الغلظ و العباله و الضخامه، الا ترى ان الانسان الذى غلب اليبس على مزاجه، لايزال مهلوسا نحيفا، و الذى غلبت الرطوبه عليه لايزال ضخما عبلا.
هذا مثل قوله (ع) فى موضع آخر: (لا راى لمن لايطاع).
و يروى: لا امره لمن لايطاع.
و فى اخبار قصير و جذيمه: (لو كان يطاع لقصير امر!).
و كان يقال: اللجاج يشحذ الزجاج، و يثير العجاج.
و قال دريد بن الصمه: امرتهم امرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح الا ضحى الغدى فلما عصونى كنت منهم و قد ارى غوايتهم و اننى غير مهتدى و كان يقال: اهدى راى الرجل ما نفذ حكمه، فاذا خولف فسد.
و من كلام افلاطون: اللجاج عسر انطباع المعقولات فى النفس، و ذلك اما لفرط حده تكون فى الانسان، و اما لغلظ طبع فلاينقاد للراى.
يجوز ان يريد به: من اثرى و نال من الدنيا حظا استطال على الناس.
و يجوز ان يريد به: من جاد استطال بجوده.
يقال: نالنى فلان بكذا اى جاد به على، و رجل نال، اى جواد ذو نائل، و مثله رجل طان اى ذو طين، و رجل مال اى ذو مال.
معناه: لاتعلم اخلاق الانسان الا بالتجربه، و اختلاف الاحوال عليه و قديما قيل: ترى الفتيان كالنخل، و ما يدريك ما الدخل.
و قال الشاعر: لاتحمدن امرا حتى تجربه و لاتذمنه الا بتجريب و قالوا: التجربه محك، و قالوا: مثل الانسان مثل البطيخه، ظاهرها مونق، و قد يكون فى باطنها العيب و الدود، و قد يكون طعمها حامضا و تفها.
و قالوا للرجل المجرب يمدحونه: قد آل وائل عليه.
و قال الشاعر يمدح: ما زال يحلب هذا الدهر اشطره يكون متبعا طورا و متبعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الراى لاقحما و لاضرعا
اذا حسدك صديقك على نعمه اعطيتها لم تكن صداقته صحيحه، فان الصديق حقا من يجرى مجرى نفسك، و الانسان لم يحسد نفسه.
و قيل لحكيم: ما الصديق؟ فقال: انسان هو انت، الا انه غيرك.
و اخذ هذا المعنى ابوالطيب فقال: ما الخل الا من اود بقلبه و ارى بطرف لايرى بسوائه و من ادعيه الحكماء: اللهم اكفنى بوائق الثقات، و احفظنى من كيد الاصدقاء و قال الشاعر: احذر عدوك مره و احذر صديقك الف مره فلربما انقلب الصدي ق فكان اعرف بالمضره و قال آخر: احذر موده ماذق شاب المراره بالحلاوه يحصى الذنوب عليك ايام الصداقه للعداوه و ذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبه، فقال: ذاك رجل ليس له صديق فى السر و لا عدو فى العلانيه.
و قال الشاعر: اذا كان دواما اخوك مصارما موجهه فى كل اوب ركائبه فخل له ظهر الطريق و لاتكن مطيه رحال كثير مذاهبه
قد تقدم منا قول فى هذا المعنى.
و منه قول الشاعر: طمعت بليلى ان تريع و انما تقطع اعناق الرجال المطامع و قال آخر.
اذا حدثتك النفس انك قادر على ما حوت ايدى الرجال فكذب و اياك و الاطماع ان وعودها رقارق آل او بوارق خلب
هذا مثل قول اصحاب اصول الفقه: لايجوز نسخ القرآن و السنه المتواتره بخبر، الواحد لان المظنون لايرفع المعلوم.
و لفظ الثقه هاهنا مرادف للفظ العلم، فكانه قال: لايجوز ان يزال ما علم بطريق قطعيه لامر ظنى.
فان قلت: اليس البرائه الاصليه معلومه بالعقل، و مع ذلك ترفع بالامارات الظنيه كاخبار الاحاد؟ قلت: ليست البرائه الاصليه معلومه بالعقل مطلقا، بل مشروطه بعدم ما يرفعها من طريق علمى او ظنى، الا ترى ان اكل الفاكهه و شرب الماء معلوم بالعقل حسنه، و لكن لا مطلقا، بل بشرط انتفاء ما يقتضى قبحه، فانا لو اخبرنا انسان ان هذه الفاكهه او هذا الماء مسموم لقبح منا الاقدام على تناولهما، و ان كان قول ذلك المخبر الواحد لايفيد العلم القطعى.
قد تقدم من قولنا فى الظلم و العدوان ما فيه كفايه.
و كان يقال: عجبا لمن عومل فانصف، اذا عامل كيف يظلم! و اعجب منه: من عومل فظلم اذا عامل كيف يظلم! و كان يقال: العدو عدوان: عدو ظلمته، و عدو ظلمك، فان اضطرك الدهر الى احدهما فاستعن بالذى ظلمك، فان الاخر موتور.
كان يقال: التغافل من السودد.
و قال ابوتمام: ليس الغبى بسيد فى قومه لكن سيد قومه المتغابى و قال طاهر بن الحسين بن مصعب: و يكفيك من قوم شواهد امرهم فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر فان امتحان القوم يوحش منهم و ما لك الا ما ترى فى الظواهر و انك ان كشفت لم تر مخلصا و ابدى لك التجريب خبث السرائر و كان يقال: بعض التغافل فضيله، و تمام الجود الامساك عن ذكر المواهب، و من الكرم ان تصفح عن التوبيخ، و ان تلتمس ستر هتك الكريم.
قد سبق منا قول كثير فى الحياء.
فصل فى الحياء و ما قيل فيه و كان يقال: الحياء تمام الكرم، و الحلم تمام العقل.
و قال بعض الحكماء: الحياء انقباض النفس عن القبائح، و هو من خصائص الانسان، لانه لايوجد فى الفرس و لا فى الغنم و البقر، و نحو ذلك من انواع الحيوانات، فهو كالضحك الذى يختص به نوع الانسان، و اول ما يظهر من قوه الفهم فى الصبيان الحياء، و قد جعله الله تعالى فى الانسان ليرتدع به عما تنزع اليه نفسه من القبيح، فلايكون كالبهيمه، و هو خلق مركب من جبن و عفه، و لذلك لايكون المستحى فاسقا، و لا الفاسق مستحيا، لتنافى اجتماع العفه و الفسق، و قلما يكون الشجاع مستحيا و المستحى شجاعا لتنافى اجتماع الجبن و الشجاعه، و لعزه وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعه و المدح بالحياء نحو قول القائل: يجرى الحياء الغض من قسماتهم فى حين يجرى من اكفهم الدم و قال آخر: كريم يغض الطرف فضل حيائه و يدنو و اطراف الرماح دوان و متى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ، و متى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل احد، و بالاعتبار الاول قيل: الحياء بالافاضل قبيح، و بالاعتبار الثانى ورد: ان الله ليستحيى من ذى شيبه فى الاسلام ان يعذبه، اى يترك تعذيبه و يستقبح لكرمه ذلك.
فاما الخجل فحيره تلحق النفس لفرط الحياء، و يحمد فى النساء و الصبيان و يذم بالاتفاق فى الرجال.
فاما القحه فمذمومه بكل لسان، اذ هى انسلاخ من الانسانيه، و حقيقتها لجاج النفس فى تعاطى القبيح، و اشتقاقها من حافر و قاح اى صلب.
و لهذه المناسبه قال الشاعر: يا ليت لى من جلد وجهك رقعه فاعد منها حافرا للاشهب و ما اصدق قول الشاعر: صلابه الوجه لم تغلب على احد الا تكامل فيه الشر و اجتمعا فاما كيف يكتسب الحياء، فمن حق الانسان اذا هم بقبيح ان يتصور اجل من نفسه انه يراه، فان الانسان يستحيى ممن يكبر فى نفسه ان يطلع على عيبه و لذلك لايستحيى من الحيوان غير الناطق، و لا من الاطفال الذين لايميزون، و يستحيى من العالم اكثر مما يستحيى من الجاهل و من الجماعه اكثر مما يستحيى من الواحد، و الذين يستحيى الانسان منهم ثلاثه: البشر، و نفسه، و الله تعالى، اما البشر فهم اكثر من يستحيى منه الانسان فى غالب الناس، ثم نفسه، ثم خالقه، و ذلك لقله توفيقه و سوء اختياره.
و اعلم ان من استحيا من الناس و لم يستحيى من نفسه فنفسه عنده اخس من غيره، و من استحيا منهما و لم يستحى من الله تعال ى فليس عارفا، لانه لو كان عارفا بالله لما استحيا من المخلوق دون الخالق، الا ترى ان الانسان لا بد ان يستحيى من الذى يعظمه و يعلم انه يراه او يستمع بخبره فيبكته، و من لايعرف الله تعالى كيف يستعظمه! و كيف يعلم انه يطلع عليه! و فى قول رسول الله (ص): (استحيوا من الله حق الحياء)، امر فى ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه و حث عليها، و قال سبحانه: (الم يعلم بان الله يرى)، تنبيها على ان العبد اذا علم ان ربه يراه استحيا من ارتكاب الذنب.
و سئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى، فقال: ان يرى العبد آلاء الله سبحانه و نعمه عليه، و يرى تقصيره فى شكره.
فان قال قائل: فما معنى قول النبى (ص): (من لا حياء له فلا ايمان له).
قيل له: لان الحياء اول ما يظهر من اماره العقل فى الانسان، و اما الايمان فهو آخر المراتب، و محال حصول المرتبه الاخره لمن لم تحصل له المرتبه الاولى، فالواجب اذن ان من لا حياء له فلا ايمان له.
و قال (ع): (الحياء شعبه من الايمان).
و قال: (الايمان عريان و لباسه التقوى، و زينته الحياء).