قال يحيى بن خالد: ما رايت احدا قط صامتا الا هبته حتى يتكلم، فاما ان تزداد تلك الهيبه او تنقص.
و لاريب ان الانصاف سبب انعطاف القلوب الى المنصف، و ان الافضال و الجود يقتضى عظم القدر، لانه انعام، و المنعم مشكور، و التواضع طريق الى تمام النعمه، و لا سودد الا باحتمال المون، كما قال ابوتمام: و الحمد شهد لاترى مشتاره يجنيه الا من نقيع الحنظل غل لحامله و يحسبه الذى لم يوه عاتقه خفيف المحمل و السيره العادله سبب لقهر الملك الذى يسير بها اعدائه، و من حلم عن سفيه و هو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه، و اتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه و تقبيح فعله، و الاستقراء و اختبار العادات تشهد بجميع ذلك.
انما لم يحسد الحاسد على صحه الجسد لانه صحيح الجسد، فقد شارك فى الصحه، و ما يشارك الانسان غيره فيه لايحسده عليه، و لهذا ارباب الحسد اذا مرضوا حسدوا الاصحاء على الصحه.
فان قلت: فلماذا تعجب اميرالمومنين (ع)؟ قلت: لكلامه (ع) وجه، و هو ان الحسد لما تمكن فى اربابه، و صار غريزه فيهم، تعجب كيف لايتعدى هذا الخلق الذميم الى ان يحسد الانسان غيره على ما يشاركه فيه، فان زيدا اذا ابغض عمرا بغضا شديدا ود ان تزول عنه نعمته اليه، و ان كان ذا نعمه كنعمته، بل ربما كان اقوى و احسن حالا.
و يجوز ان يريد معنى آخر و هو تعجبه من غفله الحساد، على ان الحسد موثر فى سلامه اجسادهم، و مقتض سقمهم، و هذا ايضا واضح.
من امثال البحترى قوله: و الياس احدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المكدود و كان يقال: ما طمعت الا و ذلت- يعنون النفس.
و فى البيت المشهور: تقطع اعناق الرجال المطامع و قالوا: عز من قنع، و ذل من طمع.
و قد تقدم القول فى الطمع مرارا.
قد تقدم قولنا فى هذه المساله.
و هذا هو مذهب اصحابنا المعتزله بعينه، لان العمل بالاركان عندنا داخل فى مسمى الايمان- اعنى فعل الواجبات، فمن لم يعمل لم يسم مومنا و ان عرف بقلبه و اقر بلسانه، و هذا خلاف قول المرجئه من الاشعريه و الاماميه و الحشويه.
فان قلت: فما قولك فى النوافل: هل هى داخله فى مسمى الايمان ام لا؟ قلت: فى هذا خلاف بين اصحابنا، و هو مستقصى فى كتبى الكلاميه.
اذا كان الرزق بقضاء الله و قدره، فمن حزن لفوات شى ء منه فقد سخط قضاء الله و ذلك معصيه، لان الرضا بقضاء الله واجب، و كذلك من شكا مصيبه حلت به، فانما يشكو فاعلها لا هى، لانها لم تنزل به من تلقاء نفسها، و فاعلها هو الله، و من اشتكى الله فقد عصاه، و التواضع للاغنياء تعظيما لغناهم او رجاء شى ء مما فى ايديهم فسق.
و كان يقال: لايحمد التيه الا من فقير على غنى.
فاما قوله (ع): (و من قرا القرآن فمات فدخل النار، فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا).
فلقائل ان يقول: قد يكون مومنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا، و يقروه ثم يدخل النار، لانه اتى بكبيره اخرى نحو القتل و الزنا و الفرار من الزحف و امثال ذلك! و الجواب ان معنى كلامه (ع) هو ان من قرا القرآن فمات فدخل النار لاجل قرائته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، اى يقروه هازئا به، ساخرا منه، مستهينا بمواعظه و زواجره، غير معتقد انه من عند الله.
فان قلت: انما دخل من ذكرت النار، لا لاجل قرائته القرآن، بل لهزئه به، و جحوده اياه و انت قلت: معنى كلامه انه من دخل النار لاجل قرائته القرآن فهو ممن كان يستهزى ء بالقرآن! قلت: بل انما دخل النار لانه قراه على صفه الاس تهزاء و السخريه، الا ترى ان الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهه العباده و التعظيم، و ان كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من افعال القلوب لما عوقب.
و يمكن ان يحمل كلامه (ع) على تفسير آخر، فيقال: انه عنى بقوله: انه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا: انه يعتقد انها من عند الله، و لكنه لايعمل بموجبها كما يفعله الان كثير من الناس.
قوله (ع): (التاط بقلبه) اى لصق.
و لايغبه، اى لاياخذه غبا، بل يلازمه دائما، و صدق (ع) فان حب الدنيا راس كل خطيئه و حب الدنيا هو الموجب للهم و الغم و الحرص و الامل و الخوف على ما اكتسبه ان ينفد و للشح بما حوت يده و غير ذلك من الاخلاق الذميمه.
قد تقدم القول فى هذين، و هما القناعه و حسن الخلق.
و كان يقال: يستحق الانسانيه من حسن خلقه، و يكاد السيى ء الخلق يعد من السباع.
و قال بعض الحكماء: حد القناعه هو الرضا بما دون الكفايه، و الزهد: الاقتصار على الزهيد، اى القليل، و هما متقاربان، و فى الاغلب انما الزهد هو رفض الامور الدنيويه مع القدره عليها، و اما القناعه فهى الزام النفس الصبر عن المشتهيات التى لايقدر عليها، و كل زهد حصل عن قناعه فهو تزهد، و ليس بزهد، و كذلك قال بعض الصوفيه: القناعه اول الزهد، تنبيها على ان الانسان يحتاج اولا الى قدع نفسه و تخصصه بالقناعه ليسهل عليه تعاطى الزهد، و القناعه التى هى الغنى بالحقيقه، لان الناس كلهم فقراء من وجهين: احدهما لافتقارهم الى الله تعالى كما قال: (يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله و الله هو الغنى الحميد).
و الثانى لكثره حاجاتهم فاغناهم لامحاله اقلهم حاجه، و من سد مفاقره بالمقتنيات فما فى انسدادها مطمع، و هو كمن يرقع الخرق بالخرق، و من يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه و الاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغنى المقرب من الله سبحانه، كما اشار اليه فى قصه طالوت: (ان الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى و من لم يطعمه فانه منى الا من اغترف غرفه بيده)، قال اصحاب المعانى و الباطن: هذا اشاره الى الدنيا.
لاريب ان الحياه الطيبه هى حياه الغنى، و قد بينا ان الغنى هو القنوع، لانه اذا كان الغنى عدم الحاجه فاغنى الناس اقلهم حاجه الى الناس، و لذلك كان الله تعالى اغنى الاغنياء، لانه لا حاجه به الى شى ء، و على هذا دل النبى بقوله (ص): (ليس الغنى بكثره العرض، انما الغنى غنى النفس).
و قال الشاعر: فمن اشرب الياس كان الغنى و من اشرب الحرص كان الفقيرا و قال الشاعر: غنى النفس ما يكفيك من سد خله فان زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا و قال بعض الحكماء: المخير بين ان يستغنى عن الدنيا و بين ان يستغنى بالدنيا كالمخير بين ان يكون مالكا او مملوكا.
و لهذا قال (ع): (تعس عبد الدينار و الدرهم، تعس فلاانتعش، و شيك فلاانتقش).
و قيل لحكيم: لم لاتغتم؟ قال: لانى لم اتخذ ما يغمنى فقده.
و قال الشاعر: فمن سره الا يرى ما يسوئه فلايتخذ شيئا يخاف له فقدا و قال اصحاب هذا الشان: القناعه من وجه صبر، و من وجه جود، لان الجود ضربان: جود بما فى يدك منتزعا، و جود عما فى يد غيرك متورعا، و ذلك اشرفهما، و لايحصل الزهد فى الحقيقه الا لمن يعرف الدنيا ما هى، و يعرف عيوبها و آفاتها، و يعرف الاخره و افتقاره اليها، و لا بد فى ذلك من ا لعلم، الا ترى الى قوله تعالى: (قال الذين يريدون الحياه الدنيا يا ليت لنا مثل ما اوتى قارون انه لذو حظ عظيم و قال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا و لايلقاها الا الصابرون).
و لان الزاهد فى الدنيا راغب فى الاخره و هو يبيعها بها، كما قال الله تعالى: (ان الله اشترى من المومنين...) الايه.
و الكيس لايبيع عينا باثر، الا اذا عرفهما و عرف فضل ما يبتاع على ما يبيع.
قد تقدم القول فى الحظ و البخت.
و كان يقال: الحظ يعدى كما يعدى الجرب، و هذا يطابق كلمه اميرالمومنين (ع) لان مخالطه المجدود ليست كمخالطه غير المجدود، فان الاولى تقتضى الاشتراك فى الحظ و السعاده، و الثانيه تقتضى الاشتراك فى الشقاء و الحرمان.
و القول فى الحظ وسيع جدا.
و قال بعضهم: البخت على صوره رجل اعمى اصم اخرس، و بين يديه جواهر و حجاره، و هو يرمى بكلتا يديه.
و كان مالك بن انس فقيه المدينه، و اخذ الفقه عن الليث بن سعد، و كانوا يزدحمون عليه و الليث جالس لايلتفتون اليه، فقيل لليث: ان مالكا انما اخذ عنك فما لك خاملا و هو انبه الناس ذكرا! فقال: دانق بخت خير من جمل بختى حمل علما.
و قال الرضى: اسيغ الغيظ من نوب الليالى و ما يحفلن بالحنق المغيظ و ارجو الرزق من خرق دقيق يسد بسلك حرمان غليظ و ارجع ليس فى كفى منه سوى عض اليدين على الحظوظ
هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافه، و انما دخل الندب تحت الامر لان له صفه زائده على حسنه، و ليس كالمباح الذى لا صفه له زائده على حسنه.
و قال الزمخشرى: العدل هو الواجب، لان الله عز و جل عدل فيه على عباده، فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم، و الاحسان الندب، و انما علق امره بهما جميعا، لان الفرض لا بد ان يقع فيه تفريط، فيجبره الندب، و لذلك قال رسول الله (ص) لانسان علمه الفرائض فقال: و الله لازدت فيها و لانقصت منها: (افلح ان صدق)، فعقد الفلاح بشرط الصدق و السلامه من التفريط، و قال (ص): (استقيموا و لن تحصوا)، فليس ينبغى ان يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل.
و لقائل ان يقول ان كان انما سمى الواجب عدلا لانه داخل تحت طاقه المكلف فليسم الندب عدلا لانه داخل تحت طاقه المكلف، و اما قوله: انما امر بالندب لانه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب، فلايصح على مذهبه، و هو من اعيان المعتزله لانه لو جبرت النافله بالتفريط فى الواجب لكانت واجبه مثله، و كيف يقول الزمخشرى هذا و من قول مشايخنا ان تارك صلاه واحده من الفرائض لو صلى مائه الف ركعه من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاه!
قال الرضى رحمه الله تعالى: و معنى ذلك ان ما ينفقه المرء من ماله فى سبيل الخير و البر و ان كان يسيرا فان الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا، واليدان هاهنا عباره عن النعمتين ففرق (ع) بين نعمه العبد و نعمه الرب تعالى ذكره، بالقصيره و الطويله، فجعل تلك قصيره و هذه طويله، لان نعم الله ابدا تضعف على نعم المخلوقين اضعافا كثيره، اذ كانت نعم الله اصل النعم كلها، فكل نعمه اليها ترجع، و منها تنزع.
هذا الفصل قد شرحه الرضى رحمه الله، فاغنى عن التعرض بشرحه.