مثل من شجاعه على قد ذكر (ع) الحكمه، ثم ذكر العله، و ما سمعنا انه (ع) دعا الى مبارزه قط، و انما كان يدعى هو بعينه، او يدعو من يبارز فيخرج اليه فيقتله، دعا بنوربيعه بن عبد بن شمس بنى هاشم الى البراز يوم بدر، فخرج (ع) فقتل الوليد و اشترك هو و حمزه (ع) فى قتل عتبه، و دعا طلحه بن ابى طلحه الى البراز يوم احد، فخرج اليه فقتله، و دعا مرحب الى البراز يوم خيبر فخرج اليه فقتله.
فاما الخرجه التى خرجها يوم الخندق الى عمرو بن عبدود فانها اجل من ان يقال جليله، و اعظم من ان يقال عظيمه، و ما هى الا كما قال شيخنا ابوالهذيل و قد ساله سائل ايما اعظم منزله عند الله، على ام ابوبكر؟ فقال: يابن اخى، و الله لمبارزه على عمرا يوم الخندق تعدل اعمال المهاجرين و الانصار و طاعاتهم كلها و تربى عليها فضلا عن ابى بكر وحده.
و قد روى عن حذيفه بن اليمان ما يناسب هذا، بل ما هو ابلغ منه، روى قيس بن الربيع عن ابى هارون العبدى، عن ربيعه بن مالك السعدى، قال: اتيت حذيفه بن اليمان فقلت: يا يا اباعبدالله، ان الناس يتحدثون عن على بن ابى طالب و مناقبه، فيقول لهم اهل البصيره: انكم لتفرطون فى تقريظ هذا الرجل، فهل انت محدثى بحديث عن ه اذكره للناس؟ فقال: يا ربيعه، و ما الذى تسالنى عن على، و ما الذى احدثك عنه! و الذى نفس حذيفه بيده لو وضع جميع اعمال امه محمد (ص) فى كفه الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا الى يوم الناس هذا، و وضع عمل واحد من اعمال على فى الكفه الاخرى لرجح على اعمالهم كلها، فقال ربيعه: هذا المدح الذى لايقام له و لايقعد و لايحمل، انى لاظنه اسرافا يا اباعبدالله! فقال حذيفه: يالكع، و كيف لايحمل! و اين كان المسلمون يوم الخندق و قد عبر اليهم عمرو و اصحابه فملكهم الهلع و الجزع، و دعا الى المبارزه فاحجموا عنه حتى برز اليه على فقتله! والذى نفس حذيفه بيده لعمله ذلك اليوم اعظم اجرا من اعمال امه محمد (ص) الى هذا اليوم و الى ان تقوم القيامه.
و جاء فى الحديث المرفوع: (ان رسول الله (ص) قال ذلك اليوم حين برز اليه: (برز الايمان كله الى الشرك كله).
و قال ابوبكر بن عياش: لقد ضرب على بن ابى طالب (ع) ضربه ما كان فى الاسلام ايمن منها ضربته عمرا يوم الخندق، و لقد ضرب على ضربه ما كان فى الاسلام اشام منها- يعنى ضربه ابن ملجم لعنه الله.
و فى الحديث المرفوع ان رسول الله (ص) لما بارز على عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا راسه نحو السماء، داعيا ربه قائلا: الله م انك اخذت منى عبيده يوم بدر، و حمزه يوم احد، فاحفظ على اليوم عليا، (رب لاتذرنى فردا و انت خير الوارثين).
و قال جابر بن عبدالله الانصارى: و الله ما شبهت يوم الاحزاب: قتل على عمرا و تخاذل المشركين بعده، الا بما قصه الله تعالى من قصه طالوت و جالوت فى قوله: (فهزموهم باذن الله و قتل داود جالوت).
و روى عمرو بن ازهر، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن ان عليا (ع) لما قتل عمرا احتز راسه و حمله فالقاه بين يدى رسول الله (ص)، فقام ابوبكر و عمر فقبلا راسه، و وجه رسول الله (ص) يتهلل، فقال: هذا النصر! او قال: هذا اول النصر.
و فى الحديث المرفوع: ان رسول الله (ص) قال يوم قتل عمرو: (ذهبت ريحهم، و لايغزوننا بعد اليوم، و نحن نغزوهم ان شاءالله).
قصه غزوه الخندق و ينبغى ان نذكر ملخص هذه القصه من مغازى الواقدى و ابن اسحاق، قالا: خرج عمرو بن عبدود يوم الخندق و قد كان شهد بدرا فارتث جريحا، و لم يشهد احدا، فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما، مدلا بشجاعته و باسه، و خرج معه ضرار بن الخطاب الفهرى و عكرمه بن ابى جهل و هبيره بن ابى وهب و نوفل بن عبدالله ابن المغيره المخزوميون، فطافوا بخيولهم على الخندق اصعادا و انحدارا، يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه، حت ى وقفوا على اضيق موضع فيه فى المكان المعروف بالمزار، فاكرهوا خيولهم على العبور فعبرت، و صاروا مع المسلمين على ارض واحده و رسول الله (ص) جالس و اصحابه قيام على راسه، فتقدم عمرو بن عبدود فدعا الى البراز مررارا، فلم يقم اليه احد، فلما اكثر، قام على (ع) فقال: انا ابارزه يا رسول الله، فامره بالجلوس، و اعاد عمرو النداء و الناس سكوت كان على رئوسهم الطير، فقال عمرو: ايها الناس، انكم تزعمون ان قتلاكم فى الجنه و قتلانا فى النار، افما يحب احدكم ان يقدم على الجنه ان يقدم عدوا له الى النار! فلم يقم اليه احد، فقام على (ع) دفعه ثانيه و قال: انا له يا رسول الله، فامره بالجلوس، فجال عمرو بفرسه مقبلا و مدبرا، و جائت عظماء الاحزاب فوقفت من وراء الخندق و مدت اعناقها تنظر، فلما راى عمرو ان احدا لايجيبه، قال: و لقد بححت من الندا ء بجمعهم هل من مبارز! و وقفت مذجبن المشي ع موقف القرن المناجز انى كذلك لم ازل متسرعا قبل الهزاهز ان الشجاعه فى الفتى و الجود من خير الغرائز فقام على (ع) فقال: يا رسول الله، ائذن لى فى مبارزته، فقال: ادن، فدنا فقلده سيفه، و عممه بعمامته، و قال: امض لشانك، فلما انصرف قال: (اللهم اعنه عليه)، فلما قرب منه قال له مجيبا اياه عن شعره: لاتعجلن فقد اتا ك مجيب صوتك غير عاجز ذو نيه و بصيره يرجو بذاك نجاه فائز انى لامل ان اق يم عليك نائحه الجنائز من ضربه فوهاء يب قى ذكرها عند الهزاهز فقال عمرو: من انت! و كان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين، و كان نديم ابى طالب بن عبدالمطلب فى الجاهليه، فانتسب على (ع) له و قال: انا على بن ابى طالب، فقال: اجل، لقد كان ابوك نديما لى و صديقا، فارجع فانى لااحب ان اقتلك- كان شيخنا ابوالخير مصدق بن شبيب النحوى يقول اذا مررنا فى القرائه عليه بهذا الموضع: و الله ما امره بالرجوع ابقاء عليه، بل خوفا منه، فقد عرف قتلاه ببدر و احد و علم انه ان ناهضه قتله، فاستحيا ان يظهر الفشل، فاظهر الابقاء و الارعاء، و انه لكاذب فيهما- قالوا: فقال له على (ع): لكنى احب ان اقتلك، فقال يابن اخى، انى لاكره ان اقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع ورائك خير لك، فقال على (ع): ان قريشا تتحدث عنك انك قلت: لا يدعونى احد الى ثلاث الا اجبت و لو الى واحده منها، قال: اجل، فقال على (ع): فانى ادعوك الى الاسلام، قال: دع عنك هذه، قال: فانى ادعوك الى ان ترجع بمن تبعك من قريش الى مكه، قال: اذن تتحدث نساء قري ش عنى ان غلاما خدعنى، قال: فانى ادعوك الى البراز، فحمى عمرو و قال: ما كنت اظن ان احدا من العرب يرومها منى، ثم نزل فعقر فرسه- و قيل: ضرب وجهه ففر- و تجاولا، فثارت لهما غبره وارتهما عن العيون، الى ان سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبره، فعلموا ان عليا قتله، و انجلت الغبره عنهما، و على راكب صدره يحز راسه، و فر اصحابه ليعبروا الخندق، فظفرت بهم خيلهم الا نوفل بن عبدالله، فانه قصر فرسه، فوقع فى الخندق، فرماه المسلمون بالحجاره، فقال: يا معاشر الناس، قتله اكرم من هذه، فنزل اليه على (ع) فقتله، و ادرك الزبير هبيره بن ابى وهب فضربه فقطع ثفر فرسه و سقطت درع كان حملها من ورائه، فاخذها الزبير، و القى عكرمه رمحه، و ناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو، فحمل عليه ضرار حتى اذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه و قال: انها لنعمه مشكوره، فاحفظها يابن الخطاب، انى كنت آليت الا تمكننى يداى من قتل قرشى فاقتله.
و انصرف ضرار راجعا الى اصحابه، و قد كان جرى له معه مثل هذه فى يوم احد.
و قد ذكر هاتين القصتين معا محمد بن عمر الواقدى فى كتاب المغازى.
اخذ هذا المعنى الطغرائى شاعر العجم فقال: الجود و الاقدام فى فتيانهم و البخل فى الفتيات و الاشفاق و الطعن فى الاحداق داب رماتهم و الراميات سهاما الاحداق و له: قد زاد طيب احاديث الكرام بها ما بالكرائم من جبن و من بخل و فى حكمه افلاطون: من اقوى الاسباب فى محبه الرجل لامراته و اتفاق ما بينهما ان يكون صوتها دون صوته بالطبع، و تميزها، دون تميزه و قلبها اضعف من قلبه، فاذا زاد من هذا عندها شى ء على ما عند الرجل تنافرا على مقداره.
و تقول: زهى الرجل علينا فهو مزهو، اذا افتخر، و كذلك نخى فهو منخو، من النخوه و لا يجوز زها الا فى لغه ضعيفه.
قال الرضى رحمه الله تعالى: يعنى ان الجاهل هو الذى لايضع الشى ء مواضعه، فكان ترك صفته صفه له، اذ كان بخلاف وصف العاقل.
هذا مثل الكلام الذى تنسبه العرب الى الضب.
قالوا: اختصمت الضبع و الثعلب الى الضب، فقالت الضبع يا اباالحسل انى التقطت تمره، قال: طيبا جنيت، قالت: و ان هذا اخذها منى، قال: حظ نفسه احرز، قالت: فانى لطمته، قال: كريم حمى حقيقته، قالت: فلطمنى، قال: حر انتصر، قالت: اقض بيننا، قال: قد فعلت.
العراق: جمع عرق، و هو العظم عليه شى ء من اللحم، و هذا من الجموع النادره، نحو رخل و رخال و توام و توام، و لايكون شى ء احقر و لاابغض الى الانسان من عراق خنزير فى يد مجذوم، فانه لم يرض بان يجعله فى يد مجذوم- و هو غايه ما يكون من التنفير- حتى جعله عراق خنزير.
و لعمرى لقد صدق- و ما زال صادقا- و من تامل سيرته فى حالتى خلوه من العمل و ولايته الخلافه عرف صحه هذا القول.
هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى اكثر البشر، و قد شرحناه فيما تقدم، و قلنا: ان العباده لرجاء الثواب تجاره و معاوضه، و ان العباده لخوف العقاب لمنزله من يستجدى لسلطان قاهر يخاف سطوته.
و هذا معنى قوله: (عباده العبيد)، اى خوف السوط و العصا، و تلك ليس عباده نافعه، و هى كمن يعتذر الى انسان خوف اذاه و نقمته، لا لان ما يعتذر منه قبيح لاينبغى له فعله، فاما العباده لله تعالى شكرا لانعمه فهى عباده نافعه، لان العباده شكر مخصوص، فاذا اوقعها على هذا الوجه فقد اوقعها الموقع الذى وضعت عليه.
فاما اصحابنا المتكلمون فيقولون: ينبغى ان يفعل الانسان الواجب لوجه وجوبه، و يترك القبيح لوجه قبحه، و ربما قالوا: يفعل الواجب لانه واجب، و يترك القبيح لانه قبيح، و الكلام فى هذا الباب مشروح مبسوط فى الكتب الكلاميه.
حلف انسان عند بعض الحكماء انه ما دخل بابى شر قط، فقال الحكيم: فمن اين دخلت امراتك! و كان يقال: اسباب فتنه النساء ثلاثه: عين ناظره، و صوره مستحسنه، و شهوه قادره، فالحكيم من لايردد النظره حتى يعرف حقائق الصوره، و لو ان رجلا راى امراه فاعجبته ثم طالبها فامتنعت، هل كان الا تاركها! فان تابى عقله عليه فى مطالبتها كتابيها عليه فى مساعفتها قدع نفسه عن لذته قدع الغيور اياه عن حرمه مسلم.
و كان يقال: من اتعب نفسه فى الحلال من النساء لم يتق الى الحرام منهن كالطليح مناه ان يستريح.
قد تقدم الكلام فى التوانى و العجز، و تقدم ايضا الكلام فى الوشايه و السعايه.
و رفع الى كسرى ابرويز ان النصارى الذين يحضرون باب الملك يعرفون بالتجسس الى ملك الروم، فقال: من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبه له.
و رفع اليه ان بعض الناس ينكر اصغاء الملك الى اصحاب الاخبار، فوقع: هولاء بمنزله مداخل الضياء الى البيت المظلم، و ليس لقطع مواد النور مع الحاجه اليه وجه عند العقلاء.
قال ابوحيان: اما الاصل فى التدبير فصحيح لان الملك محتاج الى الاخبار، لكن الاخبار تنقسم الى ثلاثه اوجه: خبر يتصل بالدين، فالواجب عليه ان يبالغ و يحتاط فى حفظه و حراسته و تحقيقه و نفى القذى عن طريقه و ساحته.
و خبر يتصل بالدوله و رسومها، فينبغى ان يتيقظ فى ذلك خوفا من كيد ينفذ، و بغى يسرى.
و خبر يدور بين الناس فى منصرفهم و شانهم و حالهم، متى زاحمتهم فيه اضطغنوا عليك، و تمنوا زوالى ملكك، و ارصدوا العداوه لك، و جهروا الى عدوك و فتحوا له باب الحيله اليك.
و انما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض، لان فى منع الملك اياهم عن تصرفاتهم و تتبعه لهم فى حركاتهم، كربا على قلوبهم و لهيبا فى صدورهم، و لا بد لهم فى الدهر الصالح و الزمان الم عتدل، و الخصب المتتابع، و السبيل الامن، و الخير المتصل، من فكاهه و طيب و استر سال و اشر و بطر، و كل ذلك من آثار النعمه الداره، و القلوب القاره، فان اغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا، و ان تنكر لهم فقد استاسدهم اعداء.
و السلام.
قال الرضى رحمه الله تعالى: و قد روى ما يناسب هذا الكلام عن النبى (ص)، و لاعجب ان يشتبه الكلامان فان مستقاهما من قليب و مفرغهما من ذنوب!
الذنوب: الدلو الملاى، و لا يقال لها و هى فارغه: ذنوب و معنى الكلمه ان الدار المبنيه بالحجاره المغصوبه و لو بحجر واحد، لا بد ان يتعجل خرابها، و كانما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب، اى كما ان الرهن لا بد ان يفتك، كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهنا عليه ان يحصل.
و قال ابن بسام لابى على بن مقله لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب و ظلم الرعيه: بجنبك داران مهدومتان و دارك ثالثه تهدم فليت السلامه للمنصفي ن دامت فكيف لمن يظلم! و الداران: دار ابى الحسن بن الفرات، و دار محمد بن داود بن الجراح.
و قال فيه ايضا: قل لابن مقله مهلا لاتكن عجلا فانما انت فى اضغاث احلام تبنى بانقاض دور الناس مجتهدا دارا ستنقض ايضا بعد ايام و كان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا، فان داره نقضت حتى سويت بالارض فى ايام الراضى بالله.
قد تقدم الكلام فى الظلم مرارا.
و كان يقال: اذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك، و عند القدره قدره الله تعالى عليك.
و انما كان يوم المظلوم على الظالم اشد من يومه على المظلوم، لان ذلك اليوم يوم الجزاء الكلى، و الانتقام الاعظم، و قصارى امر الظالم فى الدنيا ان يقتل غيره فيميته ميته واحده، ثم لا سبيل له بعد اماتته الى ان يدخل عليه الما آخر، و اما يوم الجزاء فانه يوم لايموت الظالم فيه فيستريح، بل عذابه دائم متجدد، نعوذ بالله من سخطه و عقابه!
يقال فى المثل: ما لايدرك كله لايترك كله.
فالواجب على من عسرت عليه التقوى باجمعها ان يتقى الله فى البعض، و ان يجعل بينه و بينه سترا و ان كان رقيقا.
و فى امثال العامه: اجعل بينك و بين الله روزنه، و الروزنه لفظه صحيحه معربه، اى لاتجعل ما بينك و بينه مسدودا مظلما بالكليه.