شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 602
نمايش فراداده

حکمت 355

الشرح:

قد تقدم القول فى هذين المعنيين.

و من كلام ابن المعتز: اهمال الفرصه حتى تفوت عجز، و العجله قبل التمكن خرق.

و قد جعل اميرالمومنين (ع) كلتا الحالتين خرقا، و هو صحيح لان الخرق الحمق، و قله العقل، و كلتا الحالتين دليل على الحمق و النقص.

حکمت 356

الشرح:

من هذا الباب قول ابى الطيب فى سيف الدوله: ليس المدائح تستوفى مناقبه فمن كليب و اهل الاعصر الاول! خذ ما تراه و دع شيئا سمعت به فى طلعه البدر ما يغنيك عن زحل

حکمت 357

الشرح:

قد تقدم القول فى نحو هذا.

و فى المثل: كفى بالاعتبار منذرا، و كفى بالشيب زاجرا، و كفى بالموت واعظا، و قد سبق القول فى وجوب تجنب الانسان ما يكرهه من غيره.

و قال بعض الحكماء: اذا احببت اخلاق امرى ء فكنه، و ان ابغضتها فلا تكنه.

اخذه شاعرهم فقال: اذا اعجبتك خصال امرى ء فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على المجد و المكرمات اذا جئتها حاجب يحجبك

حکمت 358

الشرح:

لا خير فى علم بلا عمل، و العلم بغير العمل حجه على صاحبه، و كلام اميرالمومنين (ع) يشعر بانه لا عالم الا و هو عامل، و مراده بالعلم هاهنا العرفان، و لاريب ان العارف لا بد ان يكون عاملا.

ثم استانف فقال: العلم يهتف بالعمل اى يناديه، و هذه اللفظه استعاره.

قال: فان اجابه و الا ارتحل، اى ان كان الانسان عالما بالامور الدينيه ثم لم يعمل بها سلبه الله تعالى علمه، و لم يمت الا و هو معدود فى زمره الجاهلين، و يمكن ان يفسر على انه اراد بقوله: ارتحل ارتحلت ثمرته و نتيجته، و هى الثواب، فان الله تعالى لايثيب المكلف على علمه بالشرائع اذا لم يعمل بها، لان اخلاله بالعمل يحبط ما يستحقه من ثواب العلم لو قدرنا انه استحق على العلم ثوابا، و اتى به على الشرائط التى معها يستحق الثواب.

حکمت 359

الشرح:

متاع الدنيا: اموالها و قنيانها.

و الحطام: ما تكسر من الحشيش و اليبس، و شبه متاع الدنيا بذلك لحقارته.

و موبى ء: محدث للوباء، و هو المرض العام.

و مرعاه: بقعه ترعى، كقولك ماسده فيها الاسد، و محياه، فيها الحيات.

و قلعتها بسكون اللام.

خير من طمانينتها: اى كون الانسان فيها منزعجا متهيئا للرحيل عنها خير له من ان يكون ساكنا اليها، مطمئنا بالمقام فيها.

و البلغه: ما يتبلغ به.

و الثروه: اليسار و الغنى، و انما حكم على مكثريها بالفاقه و الفقر لانهم لاينتهون الى حد من الثروه و المال الا وجدوا و اجتهدوا، و حرصوا فى طلب الزياده عليه، فهم فى كل احوالهم فقراء الى تحصيل المال، كما ان من لا مال له اصلا يجد و يجتهد فى تحصيل المال، بل ربما كان جدهم و حرصهم على ذلك اعظم من كدح الفقير و حرصه، و روى: (و اعين من غنى عنها) و من رواه (اغنى) اى اغنى الله، من غنى عنها و زهد فيها بالراحه و خلو البال و عدم الهم و الغم.

و الزبرج: الزينه، و راقه: اعجبه.

و الكمه: العمى الشديد، و قيل: هو ان يولد اعمى.

و الاشجان: الاحزان.

و الرقص بفتح القاف: الاضطراب و الغليان و الحركه.

و الكظم بفتح الظاء: مجرى النفس.

و الابهران: عرقان مت صلان بالقلب، و يقال للميت: قد انقطع ابهراه.

قوله: (و انما ينظر المومن): اخبار فى الصوره، و امر فى المعنى، اى لينظر المومن الى الدنيا بعين الاعتبار، و لياكل منها ببطن الاضطرار، اى قدر الضروره، لا احتكار او استكثار، و ليسمع حديثها باذن المقت و البغض، اى ليتخذها عدوا قد صاحبه فى طريق، فلياخذ حذره منه جهده و طاقته و ليسمع كلامه و حديثه لا استماع مصغ و محب وامق، بل استماع مبغض محترز من غائلته.

ثم عاد الى وصف الدنيا و طالبها فقال: ان قيل اثرى قيل: اكدى، و فاعل (اثرى) هو الضمير العائد الى من استشعر الشغف بها.

يقول: بينا يقال: اثرى، قيل: افتقر، لان هذه صفه الدنيا فى تقلبها باهلها، و ان فرح له بالحياه و دوامها، قيل: مات و عدم، هذا و لم ياتهم يوم القيامه يوم هم فيه مبلسون، ابلس الرجل يبلس ابلاسا اى قنط و يئس، و اللفظ من لفظات الكتاب العزيز.

(نبذ من الاقوال الحكيمه فى وصف حال الدنيا و صروفها) و قد ذكرنا من حال الدنيا و صروفها و غدرها باهلها فيما تقدم ابوابا كثيره نافعه.

و نحن نذكر هاهنا زياده على ذلك.

فمن كلام بعض الحكماء: ويل لصاحب الدنيا، كيف يموت و يتركها، و تغره و يامنها و تخذله و يثق بها! ويل للمغترين، كيف ارت هم ما يكرهون، و فاتهم ما يحبون، و جائهم ما يوعدون! ويل لمن الدنيا همه، و الخطايا عمله، كيف يفتضح غدا بذنبه.

و روى انس قال: كانت ناقه رسول الله (ص) العضباء لاتسبق، فجاء اعرابى بناقه له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله (ص): (حق على الله الا يرفع فى الدنيا شيئا الا وضعه).

و قال بعض الحكماء: من ذا الذى يبنى على موج البحر دارا! تلكم الدنيا، فلاتتخذوها قرارا.

و قيل لحكيم: علمنا عملا واحدا اذا عملناه احبنا الله عليه، فقال: ابغضوا الدنيا يحببكم الله.

و قال ابوالدرداء: قال رسول الله (ص): (لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا، و لبكيتم كثيرا، و لهانت عليكم الدنيا، و لاثرتم الاخره.

ثم قال ابوالدرداء من قبل نفسه: ايها الناس، لو تعلمون ما اعلم لخرجتم الى الصعدات تبكون على انفسكم، و لتركتم اموالكم لا حارس لها، و لا راجع اليها الا ما لا بد لكم منه، و لكن غاب عن قلوبكم ذكر الاخره، و حضرها الامل، فصارت الدنيا املك باعمالكم، و صرتم كالذين لايعلمون، فبعضكم شر من البهائم التى لاتدع هواها، ما لكم لاتحابون و لاتناصحون فى اموركم، و انتم اخوان على دين واحد، ما فرق بين اهوائكم الا خبث سرائركم، و لو اجتمعتم على البر لتحاببتم، م ا لكم لاتناصحون فى اموركم، ما هذا الا من قله الايمان فى قلوبكم، و لو كنتم توقنون بامر الاخره كما توقنون بالدنيا لاثرتم طلب الاخره، فان قلت حب العاجله غالب، فانا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للاجل منها، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا، و تحزنون على اليسير منها بفوتكم حتى يتبين ذلك فى وجوهكم، و يظهر على السنتكم، و تسمونها المصائب، و تقيمون فيها الماتم، و عامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لايتبين ذلك فى وجوههم، و لاتتغير حال بهم، يلقى بعضهم بعضا بالمسره، و يكره كل منكم ان يستقبل صاحبه بما يكره مخافه ان يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم على الغل، و بنيتم مراعيكم على الدمن، و تصافيتم على رفض الاجل، اراحنى الله منكم، و الحقنى بمن احب رويته.

و قال حكيم لاصحابه: ارضوا بدنى ء الدنيا مع سلامه الدين، كما رضى اهل الدنيا بدنى ء الدين مع سلامه الدنيا.

و قيل فى معناه: ارى رجالا بادنى الدين قد قنعوا و لا اراهم رضوا فى العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اس تغنى الملوك بدنياهم عن الدين و فى الحديث المرفوع: (لتاتينكم بعدى دنيا تاكل ايمانكم كما تاكل النار الحطب).

و قال الحسن رحمه الله: ادركت اقواما كانت الدنيا عن دهم وديعه فادوها الى من ائتمنهم عليها، ثم ركضوا خفافا.

و قال ايضا: من نافسك فى دينك فنافسه، و من نافسك فى دنياك فالقها فى نحره.

و قال الفضيل: طالت فكرتى فى هذه الايه: (انا جعلنا ما على الارض زينه لها لنبلوهم ايهم احسن عملا و انا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا).

و من كلام بعض الحكماء: لن تصبح فى شى ء من الدنيا الا و قد كان له اهل قبلك و يكون له اهل من بعدك، و ليس لك من الدنيا الا عشاء ليله، و غداء يوم، فلا تهلك نفسك فى اكله، و صم عن الدنيا و افطر على الاخره، فان راس مال الدنيا الهوى، و ربحها النار.

و قيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الابدان، و يجدد الامال، و يقرب المنيه، و يباعد الامنيه.

قيل: فما حال اهله؟ قال من ظفر به تعب، و من فاته اكتاب.

و من هذا المعنى قول الشاعر: و من يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمرى عن قليل يلومها اذا ادبرت كانت على المرء حسره و ان اقبلت كانت كثيرا همومها و قال بعض الحكماء: كانت الدنيا و لم اكن فيها، و تذهب الدنيا و لا اكون فيها، و لست اسكن اليها، فان عيشها نكد، و صفوها كدر، و اهلها منها على وجل، اما بنعمه زائله، او ببليه نازله، او ميته قاضيه.

و قال بعضهم: من عيب الدنيا انها لاتعطى احدا ما يستحق، اما ان تزيد له، و اما ان تنقص.

و قال سفيان الثورى: اما ترون النعم كانها مغضوب عليها، قد وضعت فى غير اهلها.

و قال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان، فلاتسرق من حانوته شيئا، فانه يجى ء فى طلبك حتى ياخذك.

و قال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى و الاخره من خزف يبقى لكان ينبغى لنا ان نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى، فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى! و قال بعضهم: ما اصبح احد فى الدنيا الا و هو ضيف، و لا شبهه فى ان الضيف مرتحل، و ما اصبح ذو مال فيها الا و ماله عاريه عنده، و لاريب ان العاريه مردوده.

و مثل هذا قول الشاعر: و ما المال و الاهلون الا وديعه و لا بد يوما ان ترد الودائع و قيل لابراهيم بن ادهم كيف انت فانشد: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع و زار رابعه العدويه اصحابها، فذكروا الدنيا فاقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا عن ذكرها و كفوا، فلو لا موقعها فى قلوبكم ما اكثرتم من ذكرها، ان من احب شيئا اكثر من ذكره.

و قال مطرف بن الشخير: لاتنظروا الى خفض عيش الملوك، و لين رياشهم، و لكن انظروا الى سرعه ظعنهم، و سوء منقلبهم.

قال الشاعر: ارى طالب الدنيا و ان طال عمره و نال من الدنيا سرورا و انعما كبان بنى بنيانه فاقامه فلما استوى ما قد بناه تهدما و قال ابوالعتاهيه: تعالى الله يا سلم بن عمرو اذل الحرص اعناق الرجال هب الدنيا تساق اليك عفوا اليس مصير ذلك الى الزوال! و ما دنياك الا مثل فى ء اظلك ثم آذن بانتقال و قال بعضهم: الدنيا جيفه، فمن اراد منها شيئا فليصبر على معاشره الكلاب.

و قال ابوامامه الباهلى: لما بعث الله محمدا (ص) اتت ابليس جنوده و قالوا: قد بعث نبى و جدت مله و امه، فقال: كيف حالهم؟ ايحبون الدنيا؟ قالوا: نعم.

قال: ان كانوا يحبونها فلا ابالى الا يعبدوا الاصنام، فانما اغدو عليهم و اروح بثلاث: اخذ المال من غير حقه، و انفاقه فى غير حقه، و امساكه عن حقه، و الشر كله لهذه الثلاث تبع.

و كان مالك بن دينار يقول: اتقوا السحاره فانها تسحر قلوب العلماء يعنى الدنيا.

و قال ابوسليمان الرازى: اذا كانت الاخره فى القلب جائت الدنيا فزاحمتها، و اذا كانت الدنيا فى القلب لم تزاحمها الاخره، لان الاخره كريمه، و الدنيا لئيمه.

و قال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الاخره من قلبك، و بقدر ما تحزن للاخره يخرج هم الدنيا من قلبك.

و هذا مقتبس من قول اميرالمومني ن (ع): الدنيا و الاخره ضرتان: فبقدر ما ترضى احداهما تسخط الاخرى.

و قال الشاعر: يا خاطب الدنيا الى نفسها تنح عن خطبتها تسلم ان التى تخطب غداره قريبه العرس من الماتم و قالوا: لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت احسن من قول ابى نواس فيها: اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو فى ثياب صديق و من كلام الشافعى يعظ اخا له: يا اخى، ان الدنيا دحض مزله، و دار مذله، عمرانها الى الخراب سائر، و ساكنها الى القبور زائر، شملها على الفرقه موقوف، و غناها الى الفقر مصروف، الاكثار فيها اعسار، و الاعسار فيها يسار، فافزع الى الله، و ارض برزق الله، و لاتستسلف من دار بقائك فى دار فنائك، فان عيشك فى ء زائل، و جدار مائل.

اكثر من عملك، و اقصر من املك.

و قال ابراهيم بن ادهم لرجل: ادرهم فى المنام احب اليك ام دينار فى اليقظه فقال دينار فى اليقظه؟ فقال: كذبت ان الذى تحبه فى الدنيا فكانك تحبه فى المنام، و الذى تحبه فى الاخره فكانك تحبه فى اليقظه.

و قال بعض الحكماء: من فرح قلبه بشى ء من الدنيا فقد اخطا الحكمه، و من جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، و من غلب علمه هواه فهو الغالب.

و قال بعضهم: الدنيا تبغض الينا نفسها و نحن نحبها، ف كيف لو تحببت الينا! و قال بعضهم: الدنيا دار خراب، و اخرب منها قلب من يعمرها، و الجنه دار عمران، و اعمر منها قلب من يطلبها.

و قال يحيى بن معاذ: العقلاء ثلاثه: من ترك الدنيا قبل ان تتركه، و بنى قبره قبل ان يدخله، و ارضى خالقه قبل ان يلقاه.

و قال بعضهم: من اراد ان يستغنى عن الدنيا بالدنيا كان كمطفى ء النار بالتبن.

و من كلام بعض فصحاء الزهاد: ايها الناس اعملوا فى مهل، و كونوا من الله على و جل، و لاتغتروا بالامل، و نسيان الاجل، و لاتركنوا الى الدنيا، فانها غداره غراره خداعه، قد تزخرفت لكم بغرورها، و فتنتكم بامانيها، و تزينت لخطابها، فاضحت كالعروس المتجليه، العيون اليها ناظره، و القلوب عليها عاكفه، و النفوس لها عاشقه.

فكم من عاشق لها قتلت، و مطمئن اليها خذلت! فانظروا اليها بعين الحقيقه، فانها دار كثرت بوائقها، و ذمها خالقها، جديدها يبلى، و ملكها يفنى، و عزيزها يذل و كثيرها يقل، و حيها يموت، و خيرها يفوت، فاستيقظوا من غفلتكم، و انتبهوا من رقدتكم، قبل ان يقال: فلان عليل، و مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، و هل الى الطبيب من سبيل؟ فتدعى لك الاطباء، و لايرجى لك الشفاء، ثم يقال: فلان اوصى، و ماله احصى، ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلم اخوانه، و لايعرف جيرانه، و عرق عند ذلك جبينك، و تتابع انينك، و ثبت يقينك، و طمحت جفونك، و صدقت ظنونك، و تلجلج لسانك، و بكى اخوانك، و قيل لك: هذا ابنك فلان، و هذا اخوك فلان، منعت من الكلام فلاتنطق، و ختم على لسانك فلاينطبق، ثم حل بك القضاء، و انتزعت روحك من الاعضاء، ثم عرج بها الى السماء، فاجتمع عند ذلك اخوانك، و احضرت اكفانك، فغسلوك و كفنوك، ثم حملوك فدفنوك، فانقطع عوادك، و استراح حسادك، و انصرف اهلك الى مالك، و بقيت مرتهنا باعمالك.

و قال بعض الزهاد لبعض الملوك: ان احق الناس بذم الدنيا و قلاها من بسط له فيها و اعطى حاجته منها، لانه يتوقع آفه تغدو على ما له فتجتاحه، و على جمعه فتفرقه او تاتى على سلطانه فتهدمه من القواعد، او تدب الى جسمه فتسقمه، او تفجعه بشى ء هو ضنين به من احبابه، فالدنيا الاحق بالذم، و هى الاخذه ما تعطى، الراجعه فيما تهب، فبينا هى تضحك صاحبها اذ اضحكت منه غيره، و بينا هى تبكى له اذ ابكت عليه، و بينا هى تبسط كفه بالاعطاء اذ بسطت كفها اليه بالاسترجاع و الاسترداد، تعقد التاج على راس صاحبها اليوم و تعفره فى التراب غدا، سواء عليها ذهاب من ذهب و بقاء من بقى، تجد فى الباقى من الذاهب خلفا، و ترضى بكل من كل بدلا.

و كتب الحسن البصرى الى عمر بن عبدالعزيز: اما بعد، فان الدنيا دار ظعن ليست بدار اقامه، و انما انزل اليها عقوبه فاحذرها فان الزاد منها ربحها، و الغنى منها فقرها، لها فى كل حين قتيل، تذل من اعزها، و تفقر من جمعها، هى كالسم ياكله من لايعرفه و هو حتفه، فكن فيها كالمداوى جراحه، يحمى قليلا مخافه ما يكرهه طويلا، و يصبر على شده الدواء، مخافه طول البلاء، فاحذر هذه الدنيا الغداره المكاره، الختاله الخداعه، التى قد تزينت بخدعها، و فتنت بغرورها، و تحلت بامالها، و تشرفت لخطابها، فاصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها، العيون اليها ناظره، و القلوب عليها و الهه، و النفوس لها عاشقه، و هى لازواجها كلهم قاتله، فلا الباقى بالماضى معتبر، و لا الاخر بالاول مزدجر، و لا العارف بالله حين اخبره عنها مدكر، فمن عاشق لها قد ظفر منها بحاجته، فاغتر و طغى و نسى المعاد، و شغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت ندامته، و كثرت حسرته، و اجتمعت عليه سكرات الموت بالمه، و حسرات الفوت بغصته، و من راغب فيها لم يدرك منها ما طلب، و لم يرح نفسه من التعب، خرج منها بغير زاد، و قدم على غير مهاد، فاحذرها ثم احذرها، و كن اسر ما تكون فيها احذر ما تكون لها، فان صاحبها كلما اطمان منها الى سرور اشخصته الى مكروه، و السار منها لاهلها غار، و النافع منها فى غد ضار، قد وصل الرخاء منها بالبلاء، و جعل البقاء فيها للفناء، فسرورها مشوب بالاحزان، و نعيمها مكدر بالاشجان، لايرجع ما ولى منها و ادبر، و لايدرى ما هو آت فينتظر، امانيها كاذبه، و آمالها باطله، و صفوها كدر، و عيشها نكد، و الانسان فيها على خطر ان عقل و نظر، و هو من النعماء على غرر، و من البلاء على حذر، فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا، و لم يضرب لها مثلا، لكانت هى نفسها قد ايقظت النائم، و نبهت الغافل، فكيف و قد جاء من الله عنها زاجر، و بتصاريفها واعظ، فما لها عند الله قدر، و لانظر اليها منذ خلقها، و لقد عرضت على نبيك محمد (ص) بمفاتيحها و خزائنها لاينقصه ذلك عند الله جناح بعوضه، فابى ان يقبلها، كره ان يخالف على الله امره، او يحب ما ابغضه خالقه، او يرفع ما وضعه مليكه، زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا، و بسطها لاعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها، المقتدر عليها، انه اكرم بها، و ينسى ما صنع الله تعالى بمحمد (ص) من شده الحجر على بطنه، و قد جائت الروايه عنه عن ربه سبحانه انه قال لموسى: اذا رايت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته، و اذا رايت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، و ان شئت اقتديت بصاحب الروح و الكلمه عيسى، كان يقول: ادامى الجوع، و شعارى الخوف، و لباسى الصوف، و صلائى فى الشتاء مشارق الشمس، و سراجى القمر، و وسادى الحجر، و دابتى رجلاى، و فاكهتى و طعامى ما انبتت الارض، ابيت و ليس لى شى ء، و ليس على الارض احد اغنى منى.

و فى بعض الكتب القديمه: ان الله تعالى لما بعث موسى و هارون (ع) الى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذى لبس من الدنيا، فان ناصيته بيدى ليس ينطق و لايطرف و لايتنفس الا باذنى، و لايعجبكما ما متع به منها، فان ذلك زهره الحياه الدنيا، و زينه المترفين، و لو شئت ان ازينكما بزينه من الدنيا يعرف فرعون حين يراها ان مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت، و لكنى ارغب بكما عن ذلك، و ازوى ذلك عنكما، و كذلك افعل باوليائى، انى لاذودهم عن نعيمها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراتع الهلكه، و انى لاجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعى الشفيق ابله عن مبارك العر، و ما ذاك لهوانهم على، و لكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفورا، انما يتزين لى اوليائى بالذل و الخضوع و الخوف، و ان التقوى لتثبت فى قلوبهم، فتظه ر على وجوههم، فهى ثيابهم التى يلبسونها، و دثارهم الذى يظهرون، و ضميرهم الذى يستشعرون، و نجاتهم التى بها يفوزون، و رجاوهم الذى اياه ياملون، و مجدهم الذى به يفتخرون، و سيماهم التى بها يعرفون، فاذا لقيهم احدكما فليخفض لهم جناحه، و ليذلل لهم قلبه و لسانه، و ليعلم انه من اخاف لى و ليا فقد بارزنى بالمحاربه، ثم انا الثائر به يوم القيامه.

و من كلام بعض الحكماء: الايام سهام، و الناس اغراض، و الدهر يرميك كل يوم بسهامه، و يتخرمك بلياليه و ايامه، حتى يستغرق جميع اجزائك، و يصمى جميع ابعاضك، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الايام بك، و سرعه الليالى فى بدنك! و لو كشف لك عما احدثت الايام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم ياتى عليك و استثقلت ممر الساعات بك، و لكن تدبير الله تعالى فوق النظر و الاعتبار.

و قال بعض الحكماء و قد استوصف الدنيا و قدر بقائها: الدنيا وقتك الذى يرجع اليه طرفك، لان ما مضى عنك فقد فاتك ادراكه، و ما لم يات فلا علم لك به، و الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته، و تطويه ساعاته، و احداثه تتوالى على الانسان، بالتغيير و النقصان، و الدهر موكل بتشتيت الجماعات، و انخرام الشمل، و تنقل الدول، و الامل طويل، و العمر قصير و الى الله تص ير الامور.

و قال بعض الفضلاء: الدنيا سريعه الفناء، قريبه الانقضاء، تعد بالبقاء، و تخلف فى الوفاء، تنظر اليها فتراها ساكنه مستقره، و هى سائره سيرا عنيفا، و مرتحله ارتحالا سريعا، و لكن الناظر اليها قد لايحس بحركتها فيطمئن اليها، و انما يحس بذلك بعد انقضائها، و مثالها الظل فانه متحرك ساكن: متحرك فى الحقيقه، و ساكن فى الظاهر، لاتدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيره الباطنه.

حکمت 360

الشرح:

ذياده، اى دفعا.

ذدته عن كذا، اى دفعته و رددته.

و حياشه: مصدر حشت الصيد بضم الحاء، احوشه، اذا جئته من حواليه لتصرفه الى الحباله، و كذلك احشت الصيد و احوشته، و قد احتوش القوم الصيد اذا نفره بعضهم الى بعض.

و هذا هو مذهب اصحابنا، ان الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقه، و قد كان يمكنه ان يجعلها غير شاقه عليهم بان يزيد فى قدرهم، وجب ان يكون فى مقابله تلك التكاليف ثواب، لان الزام المشاق كانزال المشاق، فكما يتضمن ذلك عوضا، وجب ان يتضمن هذا ثوابا، و لا بد ان يكون فى مقابله فعل القبيح عقاب، و الا كان سبحانه ممكنا الانسان من القبيح، مغريا له بفعله، اذ الطبع البشرى يهوى العاجل، و لايحفل بالذم، و لايكون القبيح قبيحا حينئذ فى العقل، فلا بد من العقاب ليقع الانزجار.

حکمت 361

الشرح:

هذه صفه حال اهل الضلال و الفسق و الرياء من هذه الامه، الا تراه يقول: سكانها و عمارها، يعنى سكان المساجد، و عمار المساجد شر اهل الارض، لانهم اهل ضلاله كمن يسكن المساجد الان ممن يعتقد التجسم و التشبيه و الصوره و النزول و الصعود و الاعضاء و الجوارح، و من يقول بالقدر يضيف فعل الكفر و الجهل و القبيح الى الله تعالى، فكل هولاء اهل فتنه، يردون من خرج منها اليها، و يسوقون من لم يدخل فيها اليها ايضا.

ثم قال حاكيا عن الله تعالى: انه حلف بنفسه ليبعثن على اولئك فتنه، يعنى استئصالا و سيفا حاصدا يترك الحليم اى العاقل اللبيب فيها حيران لايعلم كيف وجه خلاصه.

ثم قال (ع): و قد فعل و ينبغى ان يكون قد قال هذا الكلام فى ايام خلافته، لانها كانت ايام السيف المسلط على اهل الضلال من المسلمين، و كذلك ما بعثه الله تعالى على بنى اميه و اتباعهم من سيوف بنى هاشم بعد انتقاله (ع).

حکمت 362

الشرح:

قال تعالى: (افحسبتم انما خلقناكم عبثا و انكم الينا لاترجعون).

و من الكلمات النبويه: ان المرء لم يترك سدى، و لم يخلق عبثا.

و قال اميرالمومنين (ع): ان من ظفر من الدنيا باعلى و اعظم امنيه ليس كاخر ظفر من الاخره بادون درجات اهل الثواب، لا مناسبه و لا قياس بين نعيم الدنيا و الاخره.

و فى قوله (ع): (التى قبحها سوئالمنظر عنده) تصريح بمذهب اصحابنا اهل العدل رحمهم الله، و هو ان الانسان هو الذى اضل نفسه لسوئنظره، و لو كان الله تعالى هو الذى اضله لما قال: قبحها سوئالنظر عنده.

حکمت 363

الشرح:

كل هذه المعانى قد سبق القول فيها مرارا شتى، ناتى كل مره بما لم نات به فيما تقدم، و انما يكررها اميرالمومنين (ع) لاقامه الحجه على المكلفين، كما يكرر الله سبحانه فى القرآن المواعظ و الزواجر، لذلك كان ابوذر- رضى الله عنه- جالسا بين الناس فاتته امراته فقالت: انت جالس بين هولاء، و لا و الله ما عندنا فى البيت هفه و لا سفه، فقال يا هذه، ان بين ايدينا عقبه كوودا، لاينجو منها الا كل مخف.

فرجعت و هى راضيه.

و قيل لبعض الحكماء: ما مالك؟ قال: التجمل فى الظاهر، و القصد فى الباطن، و الغنى عما فى ايدى الناس.

و قال ابوسليمان الدارانى: تنفس فقير دون شهوه لايقدر عليها افضل من عباده غنى الف عام.

و قال رجل لبشر بن الحارث: ادع لى فقد اضر الفقر بى و بعيالى، فقال: اذا قال لك عيالك: ليس عندنا دقيق و لا خبز فادع لبشر بن الحارث فى ذلك الوقت، فان دعائك افضل من دعائه.

و من دعاء بعض الصالحين: اللهم انى اسالك ذل نفسى، و الزهد فيما جاوز الكفاف.

حکمت 364

الشرح:

قد تقدم القول فى هذه المعانى.

و الحاصل انه ربط اثنتين من اربعه احداهما بالاخرى، و كذلك جعل فى الاثنتين الاخريين، فقال: ان قوام الدين و الدنيا باربعه: عالم يستعمل علمه، يعنى يعمل و لايقتصر على ان يعلم فقط و لايعمل، و جاهل لايستنكف ان يتعلم، و اضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم، فانهم يستمرون على الجهاله الى الموت، و الثالث جواد لايبخل بالمعروف، و الرابع فقير لايبيع آخرته بدنياه، اى لايسرق، و لايقطع الطريق او يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله، كالقمار، و المواخير، و المزاجر، و الماصر، و نحوها.

ثم قال: فالثانيه مرتبطه بالاولى اذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم، و ذلك لان الجاهل اذا راى العالم يعصى و يجاهر الله بالفسق زهد فى التعلم، و قال: لماذا تعلم العلم اذا كانت ثمرته الفسق و المعصيه.

ثم قال: و الرابعه مرتبطه بالثالثه، اذا بخل الغنى بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه، و ذلك لانه اذا عدم الفقير المواساه مع حاجته الى القوت دعته الضروره الى الدخول فى الحرام، و الاكتساب من حيث لايحسن، و ينبغى ان يكون عوض لفظه جواد لفظه غنى ليطابق اول الكلام آخره، الا ان الروايه هكذا وردت، و ج واد لايبخل بمعروفه، و فى ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غني، ا لانه قد جعل له معروفا و المعروف لايكون الا عن ظهر غنى، و باقى الفصل قد سبق شرح امثاله.