الشيخ صفاء الدين الخزرجي القسم الأوّل عُرفت شخصية ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ( المتوفي 329 ه·· ) بالحديث أكثر من اشتهارها بالفقه ، وذلك من خلال مصنّفه الكبير « الكافي » الذي وضعه في الاُصول والفروع ، حيث طغت سمعة هذا المصنَّف علي سائر الجوانب العلمية الاُخري في شخصية مؤلفه ، فقد عكف ـ رضوان اللّه عليه ـ مدّة ليست بالقصيرة علي جمع أحاديثه من الاُصول المعتمدة مقدّما من خلال هذا الجهد الاستثنائي الذي دام عشرين عاما عطاءً علميا كبيرا .
ويمكن أن يشار أيضا إلي سبب آخر في ضمور البعد الفقهي في عطائه العلمي ، ألا وهو عدم تصنيفه في هذا المجال ؛ حيث لم يترك أثرا فقهيا في عداد مؤلفاته الستة التي كتبها .
ومن أجل ذلك فقد يقال ـ وكما هو المتبادر إلي الأذهان ـ باستبعاد هذا الجانب في حياته ، وبالمآل تحجيم دوره في إطار دائرة الحديث حسب ، كما هو المشهور والمعروف عنه . وعليه فيكون الحديث عن فقاهته وفقهه تحميلاً وتمحّلاً في البحث لا يستمدّ أدلته من مبررات حقيقية وواقعية .
إلاّ أنّ ثمّة وجهة نظر اُخري تري أنّ ما كتبه الكليني في باب الفروع من الكافي قد توفر علي خبرة وثروة علمية وفقهية لا يستهان بها إذا ما قورنت بخبرات الآخرين من فقهاء عصره وأبناء طبقته من أضراب علي بن بابويه وولده الصدوق ، ومما يعزز ذلك تعاطي الفقهاء آراءه ونقلهم أقواله في بحوثهم ، مما يعكس اهتمامهم بفقهه وآرائه ، حتي إنهم يستظهرون من روايته للرواية أو عنونته للأبواب الإفتاء بذلك .
وفي هذا المقال نسعي إلي تسليط الضوء علي هذا البعد الهام من حياة هذا الفقيه ، ودراسة وتحليل ما وصل إلينا من فقهه وآرائه ، لعلها تكون أساسا لدراسة أعمق وأشمل للباحثين في هذا المجال .
ويحسن بنا قبل ذلك أن نلمّ إلمامة موجزة بحياته وسيرته استكمالاً للفائدة المرجوّة ( 1 ) .
ثقة الإسلام الكليني في سطور :
ينتسب شيخنا المترجم أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني إلي اُسرة علمية عريقة من قرية « كُلين » من قري الريّ التي احتضنته وليدا في أواسط القرن الثالث الهجري معاصرا للغيبة الصغري وسفرائها ( 2 ) .
وقد غادر قريته التي يحتمل أنها ساهمت في إعداده العلمي إلي الريّ أوّل محطة له للأخذ من مشايخها ، ثمّ انطلق مواصلاً رحلته إلي الكوفة وسوراء ودمشق وأخيرا ألقي رحله ببغداد مستقرا بها ، مفيدا ومستفيدا من علمائها إلي أن وافته المنيّة بها سنة ( 328 أو 329 ه·· ) وقبره فيها معروف يـزار .
وهي عبارة عن الكتب التالية :
1 ـ كتاب الرد علي القرامطة .
2 ـ كتاب رسائل الأئمة عليهمالسلام ، أو كتاب الرسائل .
3 ـ كتاب تفسير ـ أو تعبير ـ الرؤيا .
4 ـ كتاب الرجال .
5 ـ كتاب ما قيل في الأئمة من الشعر .
6 ـ كتاب الكافي ، وفيه ثلاثون كتابا ، وهو الذي بقي من جميع كتبه .
وقد يلوح من كلام بعض العلماء نسبة كتاب له باسم ( الفتاوي السبعة عشر ) ( 3 ) ، والصحيح أنها سبعة عشر موضعا في السهو في الصلاة ذكرها في فروع الكافي بلسان الفتوي ( 4 ) .
مشايخه وتلامذته :
تلمّذ قدسسره علي جهبذة من أئمة الحديث وحفظته ، وهم كثيرون ( 5 ) نذكر فيما يلي أشهرهم :
1 ـ علي بن إبراهيم الذي أكثر الرواية عنه جدا .
2 ـ حُميد بن زياد .
3 ـ محمّد بن يحيي العطار القمي .
4 ـ محمّد بن إسماعيل النيسابوري .
5 ـ محمّد بن جعفر الرزّاز .
وأمّا تلامذته فقد تخرج عليه كوكبة كبيرة من حملة العلم وحفظة الحديث نشير إلي أسماء بعضهم :
1 ـ جعفر بن محمّد بن قولويه رحمهالله صاحب « كامل الزيارات » ، وقد أجازه رواية كتبه .
2 ـ علي بن أحمد بن موسي الدّقاق .
3 ـ محمّد بن محمّد بن عصام الكليني .
4 ـ هارون بن موسي بن أحمد بن سعيد التلعكبري .
5 ـ محمّد بن موسي بن المتوكل .
وقد ورد في بعض المصادر الفقهية أنّ من تلامذته الشيخ الصدوق ( 6 ) ، ولم ينقله أحد ؛ لأنّ الصدوق يروي عن الكليني بالواسطة ، وقد ذكر طريقه إليه في مشيخة الفقيه .
أشادت كلمات الأعلام من الفريقين بفضله ومكانته ، وأذعنت بجهوده العلمية وعطائه الفذ ، حتي لقّب بـ « ثقة الإسلام » علي الإطلاق . وإليك شطرا من كلماتهم المعربة عن فضله عندهم وإكبارهم لشخصه :
قال الشيخ النجاشي رحمهالله فيه : « كان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم . صنّف الكتاب المعروف بالكليني ـ يسمي الكافي ـ في عشرين سنة » ( 7 ) .
وأثني عليه شيخ الطائفة الطوسي قدسسره قائلاً : « جليل القدر ، عالم بالأخبار » ( 8 ) . وقال : « ثقة ، عارف بالأخبار » ( 9 ) .
واعتبره المحقق الحلّي ممن اشتهر فضله وعرف تقدمه في نقل الأخبار وصحة الإختيار وجودة الاعتبار ( 10 ) .
وقال السيد ابن طاووس رحمهالله : « الشيخ المتفق علي ثقته وأمانته » ( 11 ) .
وأطراه الشيخ المجلسي قدسسره بقوله : « الشيخ الصدوق ، ثقة الإسلام ، مقبول طوائف الأنام » ( 12 ) .
وقال ابن الأثير : « هو من أئمة الإماميّة وعلمائهم » ( 13 ) . وقال عنه أيضا : « الإمام علي مذهب أهل البيت ، عالم في مذهبهم ، كبير فاضل عندهم مشهور » ( 14 ) .
وقال الصفدي : « كان من فقهاء الشيعة والمصنفين علي مذهبهم » ( 15 ) .
ومثله قال ابن حجر ( 16 ) . ووصفه أيضا بأنّه : « من رؤساء فضلاء الشيعة في أيّام المقتدر » ( 17 ) .
وقال الذهبي : « شيخ الشيعة وعالم الإمامية ، صاحب التصانيف ، أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني » ( 18 ) .
وقال ابن ماكولا : « من فقهاء الشيعة والمصنفين في مذهبهم » ( 19 ) .
وقال المولي خليل بن الغازي القزويني : « اعترف المؤالف والمخالف بفضله ، قال أصحابنا : وكان أوثق الناس في الحديث ، وأثبتهم وأغورهم في العلوم » ( 20 ) .
وأثني عليه الأفندي : « ثقة الإسلام . . الشيخ الأقدم المسلّم بين العامة والخاصّة ، والمفتي لكلا الفريقين » ( 21 ) .
وقال الشيخ حسن الدمستاني : « ثقة الإسلام وواحد الأعلام ، خصوصا في الحديث ؛ فإنّه جهينة الأخبار وسابق هذا المضمار ، الذي لا يُشق له غبار ولا يُعثر له علي عثار » ( 22 ) .
وقال صاحب الجواهر مثنيا عليه وعلي علي بن بابويه ومكانتهما عند ولده الصدوق : « لا ريب أنّ الكليني ووالده من أجلاّء الإمامية مع أنهما عنده ـ أي الشيخ الصدوق ـ بمكانة عظيمة جدا سيّما والده بل والكليني أيضا » ( 23 ) .
وقفة مع كتاب الكافي :
لا شك أنّ كتاب الكافي قد ملأ فراغا مرجعيا كبيرا ؛ إذ لم يكن إلي عصر مؤلّفه جامع للاُصول والفروع يرجع إليه في الفقه والحديث والكلام وغيرها من العلوم ، وإنّما الذي كان هو عبارة عن مجموعة من الاُصول والكتب المتفرقة والمبثوثة بأيدي الرواة وحفظة الحديث من غير تنقية أو تبويب أو استيعاب ، فقام الكليني ـ وقد كان خبيرا بالأخبار بصيرا بها ناقدا لها ـ بعملية جمع وضبط وفرز وانتقاء للأحاديث من تلك الاُصول ، ثمّ إفراغها ضمن تقسيم صناعي جامع ومبتكر لم يتفق مثله لكتاب مثله .
وتظهر لنا جسامة الجهد الذي بذله الكليني في هذا السبيل إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المدة الزمنية التي استغرقها تأليف هذا الكتاب ، حيث دامت عشرين عاما ، هذا مع ما كان عليه الكليني من خبرة وكفاءة عالية تؤهله للقيام به في أقصر فرصة ممكنة ، سيما مع رواج الحديث وكتبه واُصوله آنذاك ؛ إذ كان الحديث يشكل الطابع العام واللغة المدرسية لأغلب العلوم ، فليس أمام الباحث ثمّة صعوبة في تحصيل تلك المادة ، خصوصا مع ملاحظة بيئة الكليني ببغداد ـ أو الري ـ وما كانت تمثله من مركزية وريادة علي الصعيد العلمي ، مما يعني توفر جميع العوامل والدواعي لإنجاز أي عمل علمي من هذا القبيل .
إنّ ملاحظة جميع هذه العوامل والأوضاع منضمّة بعضها إلي بعض تقودنا إلي القول بأنّ ما قام به الشيخ الكليني لم يكن عملاً فنّيا أو تجميعيا صرفا ـ بالرغم من كونه مهمة أعظم بها من مهمّة ، سيما وهي الاُولي من نوعها ـ بل ينمّ ذلك ويكشف عن خبرة وجهد علمي كبيرين كانا الأساس في جمع أحاديث هذه الموسوعة وتبويبها وتنسيقها وانتقائها من الاُصول المعتمدة بإخراج الصحيح منها ، كما أوضحه في مقدمة الكتاب . وبعبارة ثانية : إنّ هذا العمل يعتبر عملاً اجتهاديا وخبرويا في فهم الأخبار وفقهها .
ومن هنا فقد احتلّ هذا المصدر المهم الصدارة والتقدم منذ اليوم الأوّل لتأليفه ، فقد ارتشف من معينه علماء هذه الاُمّة من فقهائها وأئمة الحديث فيها من الطبقة الاُولي المعاصرة لزمن تأليفه ، مذعنين بقدرة مؤلفه وبراعته في هذا الفن ، مقدّرين له جهده في هذا الكتاب .
قال الرجالي القديم الشيخ النجاشي : « كنت أتردد إلي المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي ـ وهو مسجد نفطويه النحوي ـ أقرأ القرآن علي صاحب المسجد وجماعة من أصحابنا يقرؤون كتاب الكافي علي أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب حدثكم محمّد بن يعقوب الكليني . ورأيت أبا الحسن العقرائي يرويه عنه . وروينا كتبه كلها عن جماعة شيوخنا : محمّد بن محمّد ، والحسين بن عبد اللّه ، وأحمد بن علي بن نوح ، عن أبي القاسم جعفر بن قولويه ، عنه » ( 24 ) . وهي شهادة تكشف ـ بحق ـ عن المرتبة الرفيعة لهذا المصنف الفذ ، واهتمام الوسط العلمي به آنذاك ، وروايته له إجازة وسماعا .
وقد روي هذا الأثر الخالد رجالات الفقه والحديث الأوائل ممن كان له الصدارة في الفتيا والحديث ، كالشيخ المفيد ، والسيد المرتضي ، والشيخ الطوسي ، والصدوق ، وابن قولويه ، والنجاشي ، والتلعكبري ، والزراري ، وابن أبي رافع الصيمري ، وأبي المفضل الشيباني ، وابن عبدون ، وغيرهم .
وقد أطبقت كلمات الأعلام علي تفضيله وترجيحه :
قال الشيخ المفيد : « هو من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة » ( 25 ) .
وقال الشهيد الثاني بأنّه : « لم يعمل الإمامية مثله » ( 26 ) .
وقال المجلسي الأوّل بأنّه : « أضبط الاُصول ، وأحسن مؤلفات الفرقة الناجية ، وأعظمها » ( 27 ) .
وقد تفرد هذا المصنَّف العظيم بمزايا قلّ نظيرها في غيره :
منها : قرب عهده بزمن النص ؛ حيث كان تأليفه في عصر الغيبة الصغري وعهد السفراء .
ومنها : أنّه مجموع من الاُصول المعتمدة والكتب المعوّل عليها عند الطائفة .
ومنها : الالتزام بنقل نص الحديث لا النقل بالمعني .
ومنها : الالتزام بإيراد جميع سلسلة السند من المؤلف إلي المعصوم عليهالسلام متصلاً ، وقد يحذف صدر السند ، ولعله لنقله عن أصل المروي عنه من غير واسطة أو لحوالته علي ما ذكره قريبا ، وهذا في حكم المذكور ( 28 ) .
ومنها : جامعيته لفصول المعرفة كافة ؛ من العقائد والأحكام والأخلاق ، بعكس أقرانه الثلاثة التي اختصت بالأحكام والفروع حسب .
ومنها : حسن التبويب وحسن التعبير عن عناوين الأبواب وانطباقها علي الروايات المنضوية تحتها .
ومن هنا فقد حظي هذا المصنّف بعناية الأعلام منذ القدم فأولوه اهتماما فائقا شرحا وتعليقا واختصارا وترجمةً وتحقيقا .
وقد عدّ بعض الباحثين من جملة شروحه الكثيرة إثني عشر شرحا ، ومن التعليقات عليه إحدي وعشرين تعليقة ( 29 ) .
ثمّ إنّ مما تجدر إليه الإشارة هنا هو أنّ كتاب الكافي لم يكن يمثّل جميع ما عند مصنّفه من تراث روائي ؛ فإنّ ثمّة مرويّات له لم يروِها في هذا الكتاب ، ولم أعثر علي من أشار إلي هذا أو تتبع البحث فيه ، والذي وقفت عليه ـ في استقراء ناقص ـ ما رواه تلميذه أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه ( المتوفي 368 ) في كامل الزيارات حيث أسند عنه ست روايات لم نعثر عليها في مظانّها من كتاب الكافي . وكذا ما رواه الشيخ الصدوق في بعض كتبه . وحيث إنّ المجال لا يسع لذكر تلك الروايات جميعا لخروجه عمّا نحن بصدده من البحث فلذا نكتفي بنقل بعض النماذج للاشارة والتنبيه ، عسي أن يوفق البعض للقيام بتتبع ذلك وجمع تراثه الروائي مع سائر ما تبقّي من كتبه التي وصلت إلي أيدي بعض العلماء فنقلوا عنها . وإليك أوّلاً ما رواه تلميذه ابن قولويه في كامل الزيارات :
1 ـ حدثني محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ابن عيسي ، عن علي بن الحكم ، عن زياد بن أبي الحلال ، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال : « ما من نبي ولا وصي نبي يبقي في الأرض بأكثر من ثلاثة أيّام ، ثمّ ترفع روحه وعظمه ولحمه إلي السماء ، وإنّما يؤتي مواضع آثارهم ، ويبلغونهم من بعيد السلام ، ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب » ( 30 ) .
2 ـ حدّثني محمّد بن يعقوب قال : حدّثني عدة من أصحابنا ، منهم أحمد ابن إدريس ومحمّد بن يحيي ، عن العمركي بن علي ، عن يحيي ـ وكان خادما لأبي جعفر الثاني عليهالسلام ـ عن بعض أصحابنا ، رفعه إلي محمّد بن علي بن الحسين عليهمالسلام ، قال : « قال رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم : من زارني أو زار أحدا من ذريتي زرته يوم القيامة ، فأنقذته من أهوالها » ( 31 ) .
3 ـ حدّثني محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من رجاله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسي ، عن عبد الرحمان بن أبي نجران قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليهالسلام : جعلت فداك ، ما لمن زار قبر رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم متعمدا ؟ قال : « له الجنة » ( 32 ) .
4 ـ حدّثني محمّد بن يعقوب ، عن أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال : « من أتي قبر الحسين عليهالسلام عارفا بحقّه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر » ( 33 ) .
5 ـ حدّثني محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيي ، عن أحمد بن محمّد بن عيسي ، عن الحسن بن علي الوشاء قال : سألت الرضا عليهالسلام عن زيارة قبر أبي الحسن عليهالسلام أمثل زيارة قبر الحسين عليهالسلام ؟ قال : « نعم » ( 34 ) .
6 ـ حدّثني أبي وعلي بن الحسين ومحمّد بن يعقوب ـ رحمهم اللّه جميعا ـ عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سأل بعض أصحابنا أبا الحسن الرضا عليهالسلام عمّن أتي قبر الحسين عليهالسلام ؟ قال : « تعدل عمرة » ( 35 ) .
وأمّا ما رواه الشيخ الصدوق عنه فننقل منه :
1 ـ ما رواه في العيون عن محمّد بن عبيدة قال : سألت الرضا عليهالسلام عن قول اللّه عزوجل لإبليس : « ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي »( 36 ) ، قال : « يعني بقدرتي وقوتي » ( 37 ) .
2 ـ ما رواه في الخصال عن محمّد بن علي بن ماجيلويه عن اثنا عشر إماما من آل محمّد كلهم محدّثون بعد رسول اللّه وعلي بن أبي طالب منهم ( 38 ) .
الملامح العامّة للبعد الفقهي تنحصر دراسة هذا البعد في حدود القسم الثاني من كتاب الكافي ؛ أي قسم الفروع ؛ إذ لا سبيل لاستكشاف الملامح العامة من فقهه وتسليط الضوء عليها غير ما بثه من آراء واستدلالات وبيانات فقهية خلال بحوثه الروائية .
وقد أورد في هذا القسم من كتابه نحو عشرة آلاف حديث من أبواب الفقه كافة ؛ من الطهارة إلي الديات ، مبوبا هذه الأحاديث بتقسيم فني مبتكر ودقيق ، خالٍ من التكرار والتداخل والخلط . وقد ختم بعض الأبواب بالنوادر من الأخبار سالكا في بيان الأحاديث الفقهية مسلك أهل الحديث في إيراد الأخبار في كلّ مسألة وباب مع بيانٍ ما ـ إذا اقتضي الأمر ذلك ـ لموارد تعارض الأخبار ، أو بيان رأيه وفتواه علي ضوء الروايات التي ينقلها ، أو ببحث فروع الباب ومسائله بحثا فقهيا استدلاليا قبل إيراد الأخبار الواردة فيها ، كما فعل ذلك في أوّل كتاب الإرث ، أو بتلخيص عام لمضمون مجموعة من الأبواب وأحاديثها ، كما فعل ذلك في باب السهو والشك في كتاب الصلاة . كما ضمّن كتابه ـ تمشيا مع طريقة الفقهاء في بحوثهم ـ استشهادات عديدة لكلمات وآراء من سبقه من الفقهاء من أصحاب الأئمة عليهمالسلام ؛ من أمثال زرارة بن أعين ، ويونس بن عبد الرحمان ، والفضل بن شاذان .
ومن أجل توضيح هذه الموارد نتوقف عندها ؛ لتسليط الضوء عليها وإيضاحها بشكل أكثر تفصيلاً :
1 ـ بيان الفتوي علي ضوء الأخبار والاستدلال عليها :
قد ذكر الفقهاء أنّ الغسلة الثانية في الوضوء سنّة ، بل ادّعي الإجماع عليه . وذهب الشيخ الكليني قدسسره إلي أنّه لا يؤجر علي الثانية ، مستدلاً علي ذلك بقول أبي عبد اللّه عليهالسلام : « ما كان وضوء علي عليهالسلام إلاّ مرّة مرّة » . ولما كان هذا الحديث يحكي فعله عليهالسلام فهو من سنخ أحاديث الوضوءات البيانية التي قد يرد عليها أنّه عليهالسلام قد اكتفي بالواجب من الغسل ، فإنّ الشيخ الكليني ـ وكأنّه يجيب علي هذا الإشكال المقدّر ـ ذكر أنّ الإمام ـ صلوات اللّه عليه ـ كان إذا ورد عليه أمران كلاهما للّه طاعة أخذ بأحوطهما وأشدّهما علي بدنه ( 39 ) .
ثمّ إنّه تعرّض بعد ذلك للروايات المعارضة الدالة علي أنّ « الوضوء مرّتان » ، جامعا بينهما بأنّ ذلك لمن لم يقنعه مرّة واستزاد .
فالملاحظ في هذه الممارسة الاجتهادية أنّه لم يقتصر فيها علي إيراد الخبر إيرادا ـ كما هو دأب المحدّثين ـ بل علّل ذلك مبيّنا الوجه في هذه العلّة ؛ وهو الحديث المروي عنه عليهالسلام من أنّه كان إذا ورد عليه أمران كلاهما للّه طاعة أخذ بأحوطهما ، وهي التفاتة ظريفة في المقام ،وبذلك فانّه يجيب عن إشكال مطوي ومقدر . كما أنّه لم يقف عند أحد طرفي الأدلّة في المسألة ، بل أورد الروايات المعارضة لها ، ثمّ صار بصدد التوجيه والجمع بينهما .
2 ـ الجمع بين الأخبار المتعارضة :
أ ـ المشهور بين الفقهاء ـ بل هو موضع وفاق بينهم ( 40 ) ـ أنّ الجد وكذا الجدّة ، لأب كانا أم لاُم ، لا يرثان مع وجود الأبوين ، فهما بمنزلة الأخ مع وجود الأبوين لا يرثان . وقد عقد الشيخ الكليني بابا في إرث الجد أورد فيه ما يدل علي أنّ الجد يقاسم الإخوة فهو بمنزلتهم ، ثمّ أورد في باب إرث ابن الأخ والجد أخبارا تدل علي أنّ لهما السدس طعمة ، معقبا عليها بأنّ « هذا قد روي ، وهي أخبار صحيحة » ، ثمّ قال في مقام علاج التعارض ورفعه : « إلاّ أنّ إجماع العصابة أنّ منزلة الجد منزلة الأخ من الأب يرث ميراث الأخ ، وإذا كانت منزلة الجد منزلة الأخ من الأب يرث ما يرث الأخ يجوز أن تكون هذه أخبارا خاصّة . إلاّ أنّه أخبرني بعض أصحابنا أنّ رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم أطعم الجد السدس مع الأب ولم يعطه مع الولد ، وليس هذا أيضا مما يوافق إجماع العصابة أنّ منزلة الأخ والجد بمنزلة واحدة » ( 41 ) .
فإنّ الملاحِظ لهذا النص يجده أنّه قد انطوي علي عملية اجتهادية توازن بين كفّتي الروايات المتعارضة في مسألة إرث الجد لتحسم التنافي بينهما لصالح الأخبار التي قام الإجماع علي مدلولها ، بمعني عدم توريثه ، ومن هنا فإنّ ما ورد في إطعامهما السدس محمول علي الندب ، قال في الجواهر : « المحكي عن الكليني رحمهالله ـ بعد اعترافه بأنّ اجماع العصابة علي تنزيل الجد منزلة الأخ المعلوم عدم مشاركته الأبوين ـ يقضي بإرادة الندب له » ( 42 ) .
وكذا في مسألة وجود أب وجد ولم يكن له ولد ، حيث ورد بعض الأخبار بإطعامه السدس في هذه الصورة خاصّة ؛ فإنّه صرّح أيضا بأن « ليس هذا أيضا مما يوافق إجماع العصابة أنّ منزلة الأخ والجد بمنزلة واحدة » ( 43 ) .
ب ـ المشهور المعروف بين الإمامية أنّ من شرائط القصد في السفر ألاّ يكون سفره أكثر من حضره ؛ كالمكاري والملاح وغيرهم ، بل ادعي عليه الإجماع ، إلاّ ما عن ظاهر العماني من وجوب القصد علي كل مسافر ، ويدل علي فتوي المشهور الروايات المستفيضة ( 44 ) ، منها : ما رواه الكليني بسنده عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « أربعة قد يجب عليهم التمام ؛ في السفر كانوا أو الحضر : المكاري ، والكريّ ، والراعي ، والاشتقان ؛ لأنّه عملهم » ( 45 ) . وروي أيضا في نفس الباب عن أحدهما عليهماالسلام قال : « ليس علي الملاّحين في سفينتهم تقصير ، ولا علي المكاري والجمّال » ( 46 ) .
إلاّ أنّه أخرج رواية اُخري معارضة دلّت علي أنّ « المكاري إذا جدّ به السير فليقصّر » ( 47 ) .
وقد جمع بينهما : بأنّ ذلك إذا جدّ به السير فجعل المنزلين منزلاً واحدا ، واختار وجه الجمع هذا شيخ الطائفة في التهذيب ، وتابعه عليه فقال : « الوجه في هذين الخبرين ما ذكره محمّد بن يعقوب الكليني رحمهالله قال : هذا محمول علي من يجعل المنزلين منزلاً ؛ فيقصّر في الطريق ويتمّ في المنزل » ( 48 ) .
قال في الجواهر معلقا علي هذا الوجه من الجمع : « ولعلّه لأنّه مقتضي الجمع بين الإطلاق والتقييد ، ولما يلاقونه في الفرض من شدّة الجهد والتعب المناسبين لشرعية القصر ، ولانصراف تلك الإطلاقات إلي السير المتعارف » ( 49 ) .
وقد عمل بذلك أيضا من المتأخرين جماعة ؛ منهم صاحب المدارك والمنتقي والمحدث الكاشاني والفاضل الهندي وصاحب الذخيرة والحدائق والمستند ( 50 ) .
ج·· ـ روي في وقت التلبية للإحرام روايات عدّة ، ثمّ جمع بينها :
الكليني عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال : « إذا صلّيت في مسجد الشجرة فقل وأنت قاعد في دبر الصلاة قبل أن تقوم ما يقول المحرم ، ثمّ قـم فامشِ حتي تبلغ الميل وتستوي بك البيداء ، فاذا استوت بك فلبّه » ( 51 ) .
وروي أيضا في نفس الباب عن عبد اللّه بن سنان أنّه سأل أبا عبد اللّه عليهالسلام : هل يجوز للمتمتّع بالعمرة إلي الحجّ أن يظهر التلبية في مسجد الشجرة ؟ فقال : « نعم ، إنّما لبّي النبي صلياللهعليهوآلهوسلم علي البيداء ؛ لأنّ الناس لم يكونوا يعرفون التلبية ، فأحبّ أن يعلّمهم كيف التلبية » ( 52 ) .
وأيضا عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن عليهالسلام قال : قلت له : إذا أحرم الرجل في دبر المكتوبة أيلبّي حين ينهض به بعيره أو جالسا في دبر الصلاة ؟ قال : « أيّ ذلك شاء صنع » ( 53 ) .
قال الكليني ـ في مقام الجمع بينها بالتخيير وشاهد الجمع عنده هو خبر اسحاق بن عمار الآنف ـ : وهذا عندي من الأمر المتوسّع ، إلاّ أنّ الفضل فيه أن يظهر التلبية حيث أظهر النبيّ صلياللهعليهوآلهوسلم علي طرف البيداء ، ولا يجوز لأحد أن يجوز ميل البيداء إلاّ وقد أظهر التلبية ، وأوّل البيداء أوّل ميل يلقاك عن يسار الطريق ( 54 ) .
وتبعه علي هذا الوجه من الجمع الشيخ في الاستبصار ( 55 ) ، والعلاّمة المجلسي في شرحه ( 56 ) .
3 ـ عنايته بالأقوال :
من المسائل المهمّة في البحث الفقهي الوقوف علي أقوال الآخرين وآرائهم سيّما في المسائل الخلافية الحسّاسة ؛ وذلك لتحصيل الوفاق والخلاف فيها . ومن هنا نجد الكليني رحمهالله قد اهتم بهذا الجانب في بعض المسائل الخلافية الهامّة في باب الإرث ؛ فتارة نجده يعني بنقل أقوال فقهائنا السابقين كيونس والفضل وزرارة ، وربما يستغرق نقله عنهم صفحات من كتابه ـ وقد ينحصر النقل عنهم أحيانا به ـ وتارة ينقل آراء جمهور المسلمين ومواضع خلافهم أو وفاقهم معنا ، وقد نقلنا ما ورد في كتابه من فقه يونس والفضل بن شاذان وزرارة في الأعداد السابقة من المجلة . وأمّا ما نقله عن الجمهور وعنايته بمواضع إجماع المسلمين والخلاف معهم فننقل هنا بعض النماذج منه :
ميراث الولد :
قال قدسسره : « الإجماع [ قائم علي ] أنّ ولد الولد يقومون مقام الولد ، وكذلك ولد الإخوة إذا لم يكن ولد الصلب ولا إخوة ، وهذا من أمر الولد مجمع عليه ، ولا أعلم بين الاُمّة في ذلك اختلافا » ( 57 ) .
ميراث البنتين :
قال قدسسره : « وقد تكلم الناس في أمر الابنتين : من أين جُعل لهما الثلثان ، واللّه ـ جلّ وعزّ ـ إنّما جعل الثلثين لما فوق اثنتين ؟ فقال قوم : بإجماع ، وقال قوم : قياسا ؛ كما ان كان للواحدة النصف كان ذلك دليلاً علي أنّ لما فوق الواحدة الثلثين ، وقال قوم بالتقليد والرواية . ولم يُصب واحد منهم الوجه في ذلك . . . » ( 58 ) . إلي آخر كلامه الذي تقدم نقله بتمامه .
قال قدسسره : « ثمّ ذكر [ عزّوجل ] فريضة الأزواج فأدخلهم علي الولد وعلي الأبوين وعلي جميع أهل الفرائض علي قدر ما سمّي لهم . وليس في فريضتهم اختلاف ولا تنازع ، فاختصرنا الكلام في ذلك .
ثمّ ذكر فريضة الإخوة والأخوات من قبل الاُم فقال : « وإن كان رجل يورث كلالة اءو امرأة وله أخ أو اُخت »يعني : لاُمّ « فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث » ، وهذا فيه خلاف بين الاُمّة ، وكل هذا « من بعد وصيّة يوصي بها أو دين »( 59 ) . فالإخوة من الاُم لهم نصيبهم المسمّي لهم مع الإخوة والأخوات من الأب والاُمّ ، والإخوة والأخوات من الاُم لا يزادون علي الثلث ولا ينقصون من السدس ، والذكر والاُنثي فيه سواء ، وهذا كلّه مجمع عليه ، إلاّ أن لا يحضر أحد غيرهم » ( 60 ) .
إنّ الملاحظ لهذه النماذج يلمس من خلالها سعة اطلاع المؤلف ، وعنايته بموارد الخلاف والوفاق في فقهنا وفقه الجمهور .
4 ـ البحث الاستدلالي في بعض البحوث الهامّة :
إنّ الملاحظ لمصنفات القدماء يجد اهتماما خاصّا منهم ببعض الأبواب الفقهية ، حيث كانت بعض مسائلها مدار البحث والخلاف بين الفريقين ، وذلك نظير مسائل باب الوضوء والنكاح والطلاق والإرث . والسبب في ذلك هو أنّ مدارك تلك الأحكام والفروع هو القرآن الكريم ، وهو مصدر مشترك بين الجميع قطعي الصدور عندهم ؛ ومن هنا فإنّ الجميع يحاول التمسك بآياته وتقريب الاستدلال بها علي مقصوده .
ولذا نجد أنّ الشيخ الكليني قدسسره في كتاب الإرث والفرائض قد عدل عن طريقته التي سار عليها في مجمل بحوث كتابه بالاقتصار علي إيراد الأخبار ، فقام أوّلاً في أوّل كتاب الإرث ببيان الطبقات وتوضيحها ، ثمّ قام في باب آخر ببيان الفرائض المكتوبة لهم في الكتاب شارحا ذلك ببيان وافٍ علي ضوء الآيات المبيّنة للفرائض والأسهم ، مع استعراض للأقوال ومواطن الإجماع والخلاف في تلك المسائل ، وطرح المناقشات التي يمكن أن ترد في البحث مجيبا عليها ، ثمّ يشرع بعد ذلك بتبويب الأخبار المتعلقة بمسائل كتاب الإرث ، كل ذلك يضع الباحث أمام نموذج من نماذج البحث الفقهي في كتاب الكافي ، ليقف عند صورة تعكس مستوي البحث الفقهي لمؤلّفه الفقيه وهو يخرج عن منهجه الحديثي التقليدي الذي سار عليه في كتابه ليحرر بحثا فقهيا استدلاليا في فروع ومسائل شتي .
يظهر للمتتبع لتأريخ علم الاُصول أنّ التكوين الأوّل لهذا العلم قد بدأ ـ بشكل رسمي ومقرر ـ في القرنين الرابع والخامس . وهذا لا يلغي ـ بالطبع ـ الجهود العلمية الاُولي التي سبقت هذه الفترة والتي ظهرت في بعض مصنفات أصحاب الأئمة في هذا المجال ؛ إذ أنّا نتكلم عن الوجه الرسمي لهذا العلم كصناعة مقررة تمتلك مقوماتها ومنهجها الخاص بها .
وقد عاصر فقيهنا الكليني بدايات تلك المرحلة التي أرسي قواعدها بعض معاصريه من فقهائنا العظام الذين افتقدنا آثارهم وعطاءهم العلمي ، الأمر الذي أفقدنا امتلاك تصور كامل وجامع في هذا المجال .
والكليني بالرغم مما اشتهر وعرف عنه من اهتمامه بأمر الحديث ، فإنّ المتتبع في مجموع آرائه وبحوثه الفقهية التي ضمّنها كتابه الروائي يجد أنّ ثمّة مرتكزات ومنطلقات اُصولية للبحث الفقهي عند الكليني ، نشير إليها لعلها تكون ومضة في الكشف عن خلفيات البعد الفقهي عند هذا الفقيه :
1 ـ الأدلّة :
يدور محور البحث الفقهي لدي الكليني علي الأدلّة التالية : الكتاب ، السنّة ، الإجماع .
أمّا الدليل الأوّل فقد استند إليه في مجموعة من آرائه وبحوثه ، والدليل الثاني يمثل المحور الأساس في كتابه .
وأمّا الإجماع فقد ارتكن إليه في مواضع من كتاب الإرث ، مرتئيا حجيّته بالرغم من عدم الوقوف علي منشأ الحجّية والاعتبار لديه . وإليك بعض النماذج والتطبيقات في هذا المجال :
أ ـ قال في كتاب الإرث ـ في بيان الفرائض ـ : « إنّ اللّه ـ جلّ ذكره ـ جعل المال كلّه للولد في كتابه ، ثمّ أدخل عليهم بعد الأبوين والزوجين ، فلا يرث مع الولد غير هؤلاء الأربعة ؛ وذلك أنّه عزّوجل قال : « يوصيكم اللّه في أولادكم »( 61 ) ، فأجمعت الاُمّة علي أنّ اللّه أراد بهذا القول الميراث ، فصار المال كله بهذا القول للولد » ( 62 ) .
فإنّ المتأمل في هذا النص يلاحظ كيف أنّه حكّم الإجماع في فهم النص ، وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام حيث تلفتنا إلي دور الإجماع في تبيين النص وتفسيره .
ب ـ وقال أيضا في وجوه الفرائض : « إنّ اللّه جعل الفرائض علي أربعة أصناف ، وجعل مخارجها من ستة أسهم ، فبدأ بالولد والوالدين الذين هم الأقربون وبأنفسهم يتقربون لا بغيرهم ، ولا يسقطون من الميراث أبدا ، ولا يرث معهم أحد غيرهم إلاّ الزوج والزوجة ؛ فإن حضر كلّهم قُسّم المال بينهم علي ما سمّي اللّه عزوجل ، وإن حضر بعضهم فكذلك ، وإن لم يحضر منهم إلاّ واحد فالمال كلّه له . ولا يرث معه أحد غيره إذا كان غيره لا يتقرب بنفسه وإنّما يتقرب بغيره ، إلاّ ما خصّ اللّه به من طريق الإجماع أن ولد الولد يقومون مقام الولد ، وكذلك ولد الإخوة إذا لم يكن ولد الصلب ولا إخوة . وهذا من أمر الولد مجمع عليه ، ولا أعلم بين الاُمّة في ذلك اختلافا » ( 63 ) .
وهنا نلاحظ أيضا دور الإجماع في استثناء إرث ولد الولد من الحكم المذكور .
ج·· ـ وقال أيضا بعد أن أورد ما يدل علي إرث الجد والجدّة السدس طعمة المخالف للمجمع عليه من أنهما لا يرثان ذلك مع وجود الأبوين : « هذا ـ أي ما يدل علي إطعامهم السدس ـ قد روي ، وهي أخبار صحيحة ، إلاّ أنّ إجماع العصابة أنّ منزلة الجد منزلة الأخ من الأب يرث ميراث الأخ » ( 64 ) .
لقد جعل الإجماع عاضدا ومرجحا لأحد شقّي التعارض بين هذه الأخبار ، وسيأتي الكلام عن ذلك عند التعرض لبحث المرجحات في حالات التعارض .
2 ـ حجّية الظواهر :
وهذا ما يظهر منه في مواطن عديدة في كتابه حين استشهد بالنصوص القرآنية معولاً علي ظاهرها مضافا إلي نصّها .
3 ـ حجّية خبر الآحاد :
وهي من المسائل التي احتدم الكلام فيها عند الأقدمين من فقهائنا ، فذهب البعض إلي منعها وعدم العمل بها بل إلي استحالتها ، والحجة عندهم خصوص الخبر المتواتر ، فيما ذهب الآخرون إلي حجّية أخبار الآحاد واعتبارها . وممن ذهب إلي هذا الرأي فقيهنا المترجم ، حيث أفتي في عدّة مواضع من كتابه بمضمون أخبار الآحاد ، كما سنقف علي ذلك عند التعرض للمجموع من فقهه وفتاواه .
4 ـ التعارض :
وهو من أهم مسائل علم الاُصول وأجلّها ؛ لكثرة ابتلاء الفقيه بها في مقام البحث والاستنباط ، ويُرجع في مثل هذه الحالات عادة إلي المرجحات ، وقسّمها الاُصوليون إلي المرجحات السندية والمرجحات الدلالية .
وقد أشار الشيخ الكليني إلي القسم الثاني منها في مقدمة كتابه عند الإشارة إلي اختلاف الأخبار وتعارضها ، منبها علي عدم إمكان الجمع بينها بالرأي دون الرجوع إلي الموازين التي أقامها الأئمة عليهمالسلام في مثل هذه الحالات . وهذه الموازين بحسب ما حدّدها هي :
أ ـ الموافقة للكتاب .
ب ـ مخالفة الجمهور .
ج·· ـ الأخذ بالخبر المجمع عليه .
قال قدسسره : « إنّه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهمالسلام برأيه ، إلاّ علي ما أطلقه العالم بقوله عليهالسلام : « اعرضوها علي كتاب اللّه ؛ فما وافق كتاب اللّه عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه » ، وقوله عليهالسلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم » ، وقوله عليهالسلام : « خذوا بالمجمع عليه ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » . ثمّ يشير إلي موارد تطبيق هذه القواعد وقلّة الاطلاع علي تشخيصها والوقوف عليها فيقول : « ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّة ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلي العالم عليهالسلام ، وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليهالسلام : « بأيّ ما أخذتم من باب التسليم وسعكم » ( 65 ) » .
ولم نعثر ـ في حدود التتبع ـ علي تطبيق لهذه المرجحات سوي المرجح الثالث في مسائل باب الإرث . وهذا لا ينفي ـ بالطبع ـ إعمالها جميعا بحسب الواقع عند اختياره للأخبار التي أوردها في كتابه . قال الحجة السيد حسن الصدر في عداد مميزات كتاب الكافي : « ومنها : أنّه غالبا لا يورد الأخبار المعارضة ، بل يقتصر علي ما يدل علي الباب الذي عنونه ، وربما دلّ ذلك علي ترجيحه لما ذكر علي ما لم يذكر » ( 66 ) .
وعلي أي حال ، فإنّ من تطبيقات المرجح الثالث ما أشرنا إليه سابقا في مسألة إرث الجد مع وجود الأبوين ، حيث قدم الروايات الدالة علي منعه من الإرث علي روايات الطعمة سدسا ؛ لقيام الإجماع علي الاُولي مع صحة الروايات الثانية .
( 42 ) جواهر الكلام 39 : 140 . ( 63 ) المصدر السابق : 73 . ( 6 ) جواهر الكلام 5 : 3 . ( 31 ) المصدر السابق : 41 ، ح 4 . ( 32 ) المصدر السابق : 4 ، ح 13 . ( 60 ) فروع الكافي 7 : 76 . ( 7 ) رجال النجاشي : 377 . ( 15 ) الوافي بالوفيات 5 : 226 . ( 10 ) مقدمة المعتبر 1 : 33 . ( 13 ) الكامل في التأريخ 8 : 128 . ( 26 ) بحار الأنوار 25 : 67 . ( 49 ) جواهر الكلام 14 : 272 . ( 23 ) جواهر الكلام 5 : 30 . ( 36 ) سورة ص : 75 . ( 14 ) جامع الاُصول 12 : 220 . ( 17 ) روضات الجنات 6 : 111 ، نقلاً عن التبصير . ( 64 ) المصدر السابق : 116 . ( 50 ) انظر : مستند الشيعة 8 : 288 . ( 58 ) المصدر السابق : 75 . ( 3 ) جواهر الكلام 10 : 129 . ( 18 ) سير أعلام النبلاء 15 : 280 . ( 33 ) المصدر السابق : 266 ، ح 410 . ( 28 ) انظر : الوافي 1 : 13 . ( 34 ) المصدر السابق : 497 ، ح 769 . ( 54 ) المصدر السابق . ( 2 ) قال السيد الخوئي قدسسره في معجم رجال الحديث 18 : 54 : « أقول : إنّ تأريخ تولّد محمّد بن يعقوب مجهول ، فلعلّ تولّده كان بعد وفاة العسكري عليهالسلام » وقد كانت وفاته عليهالسلام سنة ( 260 ه·· ) . وهو المناسب أيضا لوفاة ثقة الإسلام سنة ( 329 ه·· ) ، فيكون له من العمر نحو سبعين عاما . ( 47 ) المصدر السابق . ( 53 ) المصدر السابق . ( 44 ) جواهر الكلام 14 : 268 ـ 269 . ( 29 ) انظر : مقدمة الكافي للدكتور حسين علي محفوظ : 30 و 32 . ( 4 ) فروع الكافي 3 : 361 . ( 66 ) نهاية الدراية : 545 . ( 45 ) فروع الكافي 3 : 435 . ( 38 ) الخصال : 480 . ( 39 ) فروع الكافي 3 : 36 . ( 48 ) التهذيب 3 : 215 / 528 . ( 41 ) فروع الكافي 7 : 116 . ( 21 ) رياض العلماء : 226 . ( 9 ) الفهرست للطوسي : 135 . ( 59 ) النساء : 12 . ( 65 ) اُصول الكافي ( خطبة الكتاب ) 1 : 56 . ( 8 ) رجال الطوسي : 495 . ( 27 ) مرآة العقول 1 : 3 . ( 19 ) الإكمال 7 : 186 . ( 16 ) لسان الميزان 5 : 433 . ( 43 ) فروع الكافي 7 : 116 . ( 5 ) قد أشار في معجم رجال الحديث 18 : 54 إلي ما يزيد علي الثلاثين من أساتذته . وفي كتاب الكليني والكافي : 166 ذكر ( 48 ) شيخا له . ( 20 ) الشافي : 2 ، نقلاً من مقدمة الكافي للدكتور حسين علي محفوظ . ( 1 ) نشرت مجلة فقه أهل البيت عليهمالسلام في عددها الأوّل مقالاً وافيا عن حياة ثقة الإسلام الكليني . ( 52 ) المصدر السابق . ( 25 ) تصحيح الاعتقاد : 27 . ( 37 ) عيون أخبار الرضا عليهالسلام 2 : 110 . ( 61 ) النساء : 176 . ( 40 ) انظر : جواهر الكلام 39 : 139 . ( 12 ) مرآة العقول 1 : 3 . ( 35 ) المصدر السابق : 290 ، ح 471 . ( 57 ) فروع الكافي 7 : 73 . ( 56 ) انظر : فروع الكافي 4 : 329 . ( 55 ) الاستبصار 2 : 226 ، ط ـ دار الأضواء . ( 11 ) كشف المحجة : 185 . ( 30 ) كامل الزيارات : 544 ، ح 831 . ط ـ مؤسسة نشر الفقاهة . ( 62 ) فروع الكافي 7 : 74 . ( 46 ) المصدر السابق . ( 22 ) الانتخاب الجيد : 137 ، نقلاً من مقدمة الكافي للدكتور محفوظ . ( 51 ) فروع الكافي 4 : 329 . ( 24 ) رجال النجاشي : 377 .