الاُستاذ الشيخ حسن الجواهري القسم الثاني ثانيـا ـ عقود المناقصات وعقد المناقصة عقد جديد لم يرد له ذكر في القرآن والسنّة والفقه ، بخلاف عقد المزايدة الوارد في السنة والفقه .
تعريف المناقصة : هي « إرساء العقد علي أفضل العروض ـ عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفا ـ » وهذا الإرساء قد يتضمن تمليكا إذا تعلقت المناقصة علي توريد سلعة من السلع ، وقد يتضمن تمليك منفعة إذا تعلقت المناقصة علي الانتفاع ، وقد يتضمن عقد إجارة إذا كانت المناقصة قد تعلقت علي الأعمال ( المقاولات ) . . وهكذا . فالمناقصة التي هي إرساء العقد علي أفضل العروض ليست بنفسها تمليكا أو إجارة ، وإنّما يكون التمليك أو الإجارة أو المضاربة أو المزارعة أو السلم أو الاستصناع متضمنا لعقد المناقصة ، كالصلح الذي هو عبارة عن التسالم والتصالح الذي يتضمن التمليك إذا تعلق بعين ، وقد يتعلق بالانتفاع فيفيد فائدة العارية ( التي هي مجرد التسليط ) ، وقد يتعلق بالحقوق فيفيد الإسقاط أو الانتقال ، وقد يتعلق بتقرير أمر بين المتصالحين فيفيد مجرد التقرير .
والذي يدلنا علي ذلك : أنّ المناقصة لو كانت هي البيع والإجارة والسلم والاستصناع والاستثمار لزم كون المناقصة مشتركا لفظيا ، وهو واضح البطلان ، فلم يبقَ إلاّ أن يكون مفهوم المناقصة هو نفس إرساء العقد علي أفضل العروض الذي يتضمن في كل مورد فائدة من الفوائد حسب ما يقتضيه متعلقه .
وعلي هذا ، فالمناقصة عقد يتضمن عقد بيع ( توريد أو سلم ) أو إجارة أو استصناع أو استثمار ، الموجب فيه هو البائع ؛ وهو المورِّد أو المسلِم أو المقاول أو المستثمر أو المستصنع ، والقابل هو المشتري للبضاعة أو المسلم إليه أو المستأجر أو صاحب المال في عملية الاستثمار .
توضيح لعقود المناقصات :
إنّ ما يجري في الخارج لعقود المناقصات يحتوي علي عمليات يكون لفهمها الأثر الخاص في تشخيص الحكم الشرعي ، لذا من المستحسن أن نستعرض سير عملية المناقصة من الدعوة إلي المشاركة حتي نهاية العقد ، فنقول :
1 ـ يعلن في الصحف الكثيرة الانتشار ( إذا كانت المناقصة عامة ) ( 1 ) عن الدعوة إلي المشاركة في مناقصة لشراء سلعة أو إنشاء مشروع معين ، ويذكر آخر موعد لتسلم المضاريف التي فيها الاستعداد لتقبل الصفقة بسعر معيّن .
2 ـ يشترط في الاشتراك في عملية المناقصة شراء المعلومات التي أعدّتها الجهة الداعية إلي المناقصة حول المشروع .
3 ـ يبدأ عقد المناقصة من تسلّم المضاريف وفتحها ، ويكون تقبّل المشروع بسعر معين هو الإيجاب ، والداعي إلي المناقصة بما أنّه قد التزم باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه ، فحينئذٍ يكون بذل السلعة أو العمل بسعر أقل موجبا لسقوط الإيجاب الأوّل وبقاء الأقل .
4 ـ إذا رست المعاملة علي أحد المتناقصين باعتباره الأفضل للتعاقد ، فقد حصل القبول وتمّ العقد في هذه اللحظة .
الإيجاب ملزِم في عقد المناقصة :
ثمّ إنّ الإيجاب في كل عقد يجوز أن يُرجع عنه قبل حصول القبول ، إلاّ في عقد المناقصة ؛ فإنّ الإيجاب الذي يصدر من البائع أو المقاول لا يجوز الرجوع عنه قبل إتيان القبول ، ولهذا قد يتساءل عن سبب عدم الرجوع عن هذا الإيجاب قبل حصول القبول ؟ والجواب : هو وجود التزام بين الأطراف المتناقصة علي إرساء العقد علي أفضل العروض ، وهذا معناه عدم جواز رجوع صاحب العرض عن عرضه ( أي عدم جواز رجوع الموجب عن إيجابه ) ، وعدم جواز اختيار المشتري غير العرض الأفضل بحجة من الحجج إلاّ أن يشترط جواز ذلك له صريحا . وهذا الالتزام المتبادل بين المتناقصين مستفاد من مفهوم المناقصة التي هي إرساء العقد علي أفضل العروض ، وقد قبل بها كل الأطراف وأقدموا عليها ورتبوا أثرا علي ذلك ؛ فإنّ هذه الالتزامات التي تكون متبادلة ويرتب عليها الأثر تكون ملزمة للطرفين حسب الأدلة الشرعية في وجوب الوفاء بالشروط والالتزامات ، ولا نؤمن بالإجماع الدال علي كون الشروط الملزمة هي التي تكون في ضمن عقد ملزم ( 2 ) .
وإذا تم عقد المناقصة بإرساء العقد علي أفضل العروض لا نجد مشكلة في عقود المقاولات ؛ حيث إنّ العمل يُقدّم شيئا فشيئا ، وثمن العمل يجوز دفعه معجلاً أو مؤجلاً ونجوما . وكذا لا مشكلة في الاستثمار إذا كان مضاربة أو مزارعة أو مساقاة ؛ لأنّ طبيعة هذه العقود لا يشترط فيها تقديم كل المال المموِّل للمشروع . كما لا مشكلة أيضا في إيجار المنفعة عن طريق المناقصة ، وإنّما الإشكال يكون في المناقصة إذا كانت عقد توريد أو سلم مع تأجيل الثمن والمثمن في عقود التوريد ، أو تأجيل ثمن السلم أيضا ودفعه نجوما في عقد السلم . وهذه المشكلة تعرّضنا لحلّها في عقود التوريد فلتراجع هناك ، وخلصنا إلي أنّ عقد التوريد أو حتي السلم إذا صدق عليه أنّه عقد عرفا مع تأجيل العوضين ودفعهما نجوما فتشمله عمومات الوفاء بالعقد ، ولا مانع يمنع من صحة العقد إلاّ ما ذكر من أنّه بيع دين بدين أو بيع كالي بكالي ، وقد أجبنا ( 3 ) عن هذين الحديثين وعرفنا أنّهما لا يمنعان من صحة عقود التوريد بل وحتي السلم إذا تأجل الثمن ودفع نجوما مع صدق العقدية عليه ( 4 ) .
الفرق بين المناقصة والبيع العادي :
وبما تقدم اتضح الفرق بين عقد المناقصة والبيع العادي ؛ حيث إنّ عقد المناقصة هو : إرساء العقد علي أفضل العروض ، ويتضمن بيعا أو إجارة أو استثمارا باختلاف متعلق العقد ، بينما البيع العادي هو : إنشاء تمليك شيء بعوض مع القبول .
كما أنّ عقد المناقصة يوجِد التزاما بين المتناقصين باختيار أفضل العروض ، وهذا يجعل الموجب المتقدم بعرضه غير مختار في سحب عرضه حتي قبل حصول القبول والإرساء ، كما أنّ القابل لا يجوز له أن يقبل غير أفضل العروض إلاّ مع شرط صريح بذلك . كل ذلك لمفهوم عقد المناقصة الذي يتضمن هذا الإلزام ، بينما يحق للموجب في البيوع العادية أن يسحب إيجابه قبل أن يحصل القبول .
ومن الفرق المتقدم يحصل فرق آخر هو : أنّ المناقصات تكون قد اشتُرط فيها شرط ضمني بإسقاط خيار المجلس أو عدم إعماله ؛ حيث إنّ الالتزام بالتعاقد مع أفضل من يتقدم للتعاقد ليس معناه عرفا هو الالتزام بالتعاقد حتي يتم ثمّ يفسخ بعد ذلك بخيار المجلس . ونستطيع أن نشبّه ما نحن فيه ـ من عدم وجود خيار مجلس في عقد المناقصات ـ بمن حلف أن يبيع داره إلي شخص معين ؛ فإنّه لا يحق له أن يبيعها منه ثمّ يفسخ بخيار المجلس . وهذا يفسّر لنا معني ارتكازية عدم الفسخ في عقد المناقصات ، بينما في البيوع العادية يكون خيار المجلس بحاله .
ومما ينبهنا علي الاشتراط الضمني لسقوط خيار المجلس أو عدم إعماله هو أخذ خطاب الضمان الابتدائي الذي يكون لصالح من يلتزم بالعقد ضدّ من لم يلتزم به بعد رسوّ المعاملة ، كما سيأتي .
هل المناقصة عقد ؟ وما أركانـه ؟ قد اتضح مما تقدم أنّ المناقصة عقد جديد ( أي لم يكن له ذكر في القرآن والسنّة والفقه ) يتضمن تمليك عين أو منفعة أو إجارة لعمل وأمثالها ؛ فالمناقصة عقد تتضمن عقدا آخر يختلف باختلاف الموضوع .
وأمّا أركانه فهي :
1 ـ المناقِص : الموجب الذي يعرض سلعة موصوفة أو عملاً محددا بسعر محدد ؛ لأنّ الإيجاب هو تمليك السلعة أو المنفعة أو العمل كما في المقاولات .
2 ـ المناقَص : القابل الذي يبرز قبوله لأفضل العروض ، وهو الذي يملّك الثمن ، إلاّ أنّ تمليكه للثمن تبعيّ لتمليك السلعة أو المنفعة أو العمل .
وتمامية العقد هنا قد تكون بصورتين :
الاُولي : أن يتقدم الإيجاب ؛ وهو عرض السلعة أو العمل الموصوفين بثمن معين ، ثمّ يأتي القبول من المشتري علي أفضل العروض .
الثانية : قد يتقدم القبول بقول المشتري : « أنا أشتري سلعة أوصافها معلومة » ، أو « أستأجر عاملاً لعمل معين باختيار أفضل العروض » ، ثمّ تأتي العروض فيختار أفضلها .
وبما أنّه لا يشترط تقديم الإيجاب علي القبول ويجوز أن يتقدم القبول ولكن بلفظ « اشتريت » أو « استأجرتُ » ، فيمكن أن يأتي الإيجاب بعد هذا القبول بلفظ « بعتُ » فيتم العقد .
لا غررية في هذه المعاملة :
وهذه المناقصة التي يتقدم فيها القبول لا غرر فيها ؛ لأنّنا نعلم بحصول العقد مع جهل صفته ، بينما الغرر الذي نهي عنه رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم هو ما لم يعلم بحصول الشيء المبيع .
وحتي لو قلنا : إنّ الغرر يشمل جهالة صفة المبيع ، فإنّ المبيع والمستأجَر هنا ليس فيهما جهالة عند تمامية العقد أو الإجارة وإن كانت الجهالة موجودة عند إنشاء القبول ، فلا جهالة في العقد عند إبرامه .
علاقة المناقصة بالمزايدة :
إنّ العلاقة بين المناقصة والمزايدة هي علاقة تضاد من الناحية اللغوية والموضوعية ؛ فالزيادة ضد النقص ، ولهذا وردت التفرقة بينهما في العقود باختلاف موضوعهما .
فالمناقصة : تستهدف اختيار من يتقدم بأحسن عطاء ، ويكون ذلك عادةً فيما إذا أرادت الإدارة القيام بأعمال معينة كالأشغال العامة ، أو أرادت الإدارة شراء كمية من السلع المعينة الموصوفة .
أمّا المزايدة : فهي تستهدف أيضا اختيار من يتقدم بأحسن عطاء ولكن فيما إذا أرادت الإدارة أن تبيع مثلاً .
وعلي هذا اتضح أنّ العلاقة وإن كانت بين المناقصة والمزايدة هي علاقة تضاد إلاّ أنّ تعريفهما واحد ، وهو : « إرساء العقد علي أفضل عطاء عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفا » . غاية الأمر المناقصة تكون للشراء والمقاولات ، والمزايدة تكون في البيع لما عند الإدارة من سلع أو أدوات .
أمّا الانتفاع بالشيء ، فكما يمكن أن يكون فيه المناقصة فيما إذا كان المنتفع واحدا والعرض متعددا ، كذلك يمكن أن يكون فيه المزايدة فيما إذا كان العرض واحدا والمنتفع متعددا .
ومما تقدم يتضح أنّ التعريف الوارد في قرار المجمع بشأن المزايدة لا يخلو عن إشكال ؛ فقد ورد في قرار رقم 73 ( 4 / 8 ) بشأن عقد المزايدة تعريف عقد المزايدة بأنّها : « عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداءً أو كتابة للمشاركة في المزاد ، ويتم عند رضا البائع . والإشكال علي هذا التعريف يكمن في أنّ « دعوة الراغبين نداءً أو كتابة للمشاركة في المزاد » التي اُخذت في التعريف لا تمتّ إلي العقد بصلة ، بل هي مقدمة للعقد ، فلا يحسن إدراجها في تعريف عقد المزايدة ، وعقد المزايدة أو المناقصة هو : « إرساء العقد علي أفضل العروض حينما تكون العروض متعددة في وقت واحد » ، ولا يخفي أنّ إرساء العقد معناه أن يختار أحد المتعاملين أفضل العروضات المتعددة في وقت واحد ؛ ففي المزايدة ، يختار البائع أفضل العروضات المتعددة من المشتركين في المزايدة ، وهذه العروضات وإن كانت من القابل إلاّ أنّها لابدّ أن تكون بعنوان التملّك بثمن معيّن ، فيأتي الإيجاب باختيار أحدها ( وهو الأفضل ) بعنوان التمليك ، فيحصل القبول المتقدم والإيجاب المتأخر . ولا خيار في هذا العقد ؛ لعدم اشتراط تقديم الإيجاب علي القبول إذا كان القبول بعنوان التملّك بثمن معيّن .
وفي المناقصة : تتقدم الإيجابات من المشتركين ، ويأتي القبول من المشتري علي اختيار أفضلها ، فيتم العقد .
التكييف الشرعي لعقد المناقصات :
بما أنّ المناقصات هي من العقود الجديدة التي لا أثر لها في نصوص الشرع ، فلا يمكن أن يستدل عليها بنصوص خاصة فيها .
ولكن بما أنّها عقد عرفي بين طرفين يتضمن بيعا أو إجارة أو مقاولة أو استثمارا ، فيشملها عموم قوله تعالي : « أوفوا بالعقود « و » تجارة عن تراضٍ « و» أحلّ اللّه البيع »إذا كانت المناقصة تتضمن بيعا عرفيا بين الطرفين ؛ لما ثبت في عقود التوريد من أنّ العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله : « أوفوا بالعقود لا »تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن صدور النص ، بل النصوص الواردة في الشريعة المقدسة وردت علي نحو القضية الحقيقية ؛ بمعني أنّ الشارع المقدس أوجد حكمه علي موضوع معين ، ومتي وجد هذا الموضوع وجد الحكم ولو لم يكن الموضوع موجودا حين صدور النص ، ولكن بشرط اشتمال الموضوع ـ وهو العقد هنا ـ علي الشروط التي اشترطها الشارع المقدس في صحة العقد ، وعدم اشتماله علي الموانع التي بيّنها الشارع لبطلان العقد ( 5 ) . وسوف نتعرض لما يقترن أو يسبق عقد المناقصات أو يلحقه من عقود أو إجراءات ، لنراها هل تكون مانعة من صحة عقد المناقصة أم لا ؟ علاقة المناقصة ببيع ما ليس عند البائـع :
ذكرنا في عقد التوريد أنّ الروايات الحاكية لنهي النبي صلياللهعليهوآلهوسلم عن بيع ما ليس عند البائع ( 6 ) وروايات عدم مواجبة البيع للمشتري إلاّ بعد أن يشتري البائع السلعة ( 7 ) ( أي عدم شراء المشتري للسلعة إلاّ بعد أن يشتريها البائع ) لابدّ من تخصيصها بالعين الخارجية ( الشخصية ) ؛ وذلك لورود الروايات الصحيحة التي عمل بها كل المسلمين في جواز بيع الكلّي الموصوف في الذمة سَلَما ، وبما أنّ المناقصات إذا كانت علي سلع موصوفة تسلّم في وقت معيّن ، فهي من السلَم الجائز قطعا ، ولا ربط لها ببيع ما ليس عند البائع .
أمّا إذا كانت المناقصة ليست متضمنة للبيع بل متضمنة للإجارة ( المقاولات ) أو الانتفاع بعين وأمثالهما ، فلا إشكال في صحتها ، ولا ربط لها ببيع ما ليس عند البائع أصلاً الذي هو مختص بالعين الشخصية الخارجية التي لا يتصور فيها المناقصة ، بل المتصور فيه المساومة والمراوضة للوصول إلي الاتفاق ، وهو غير المناقصة .
يذكر للمناقصات أنواع وتقسيمات لا تؤثر في تغيير الحكم الشرعي لها :
منها : المناقصات العامة والمناقصات الخاصة ( المحدودة ) : وهذا التقسيم واضح ؛ إذ المراد من المناقصات العامة : هي التي تفسح مجالاً لعدد غير محدود من المناقصين ، وما يتبع ذلك من إجراءات .
والمراد من المناقصات الخاصة : هي التي توجّه فيها خطابات لمن تتوفر فيهم أهليّة الاشتراك في المناقصة ؛ فهي تقتصر علي عدد محدود من المناقصين ، ولها إجراءاتها الخاصة أيضا ومبرراتها .
ومنها : المناقصات الداخلية والمناقصات الخارجية : باعتبار أنّ المناقصين قد يكونون من داخل البلد أو خارجه ، ولهما إجراءاتهما .
ومنها : المناقصات العلنية والمناقصات السرية : باعتبار حضور المناقصين في المناقصة وتقديم عروضهم بصورة علنية ، وعدم حضورهم وتقديم عروضهم بصورة مضاريف مختومة ، ويكون لكل منهما إجراءاته الخاصة .
ولكن قلنا : إنّ كل هذه الأقسام لا تؤثر في تغيير الحكم الشرعي ، فلا حاجة إلي الإطالة فيها .
نعم : إنّ المناقصات قد تتنوع بتنوع موضوعها ـ كما تقدم ذلك في تعريف المناقصة ـ فتكون المناقصة متضمنة لبيعٍ ( توريد سلعة ) أو للانتفاع أو المقاولة علي الأعمال أو الاستصناع ، أو سلَمٍ ، أو استثمار . وقد ذكرنا ذلك في التعريف فلا نعيد .
ولا بأس بالإشارة إلي أنّ جميع المناقصات تلتزم بمبدأ تكافؤ الفرص ؛ وهو مبدأ المساواة بين المتناقصين ، ولا يخالف هذا المبدأ إلاّ بنص صريح . كما أنّها تلتزم بمبدأ المنافسة بين المتناقصين ؛ بمعني عدم كونهم متواطئين علي حدٍّ معين من السعر ، بل يجب أن يكون كل واحد منهم مستقلاً عن الآخر في تقديم عرضه .
إنّ دفتر الشروط ـ الذي يحمل قائمة احتياجات المناقصة وما يتبعها من شروط ومواصفات اشتركت خبرات واستشارات في إعدادها وبذل المعِدّ لهذا الدفتر في مقابله مالاً ـ يعتبر ذا نفع للمشارك في المناقصة وإن كان النفع اطّلاعه علي شروط ومواصفات المناقصة . وعلي هذا يحق للمعدِّ لهذا الدفتر بيعه علي المشترك في المناقصة ، سواء كان بيعه علي جميع المتناقصين بسعر التكلفة أو أكثر ؛ إذ يشمل هذه المعاملة العمومات ، مثل : « أوفوا بالعقود « و » أحلّ اللّه البيع » .
نعم ، من رست عليه المعاملة يستفيد من هذا الدفتر أكثر من غيره ، ويمكن أن يباع هذا الدفتر بسعر تكلفته علي كل واحد من المتناقصين ، ويكون خيار الفسخ لمن لم ترسُ المعاملة عليه . وحينئذٍ إذا رست المعاملة علي أحدهم أخذه وشرَع في العمل علي طبقه . وأمّا الباقون فيرجع إليهم الثمن إذا فَسخ كل واحد منهم عقده .
وفرق المعاملة الاُولي عن الثانية هو : أنّ المعاملة الاُولي إذا كان دفتر الشروط قد صُرف عليه أربعون دينارا ، يحق لمن أعدّه أن يبيعه علي المشتركين في المناقصة ـ ولنفرضهم خمسين مشاركا ـ كل دفتر بدينار أو كل دفتر بـ ( 800 ) فلس ، فيحصل علي ما خسره علي دفتر الشروط مع الزيادة أو بلا زيادة .
أمّا المعاملة الثانية : فإنّ الدفتر يباع علي كل واحد من الخمسين بأربعين دينارا ـ وهو سعر الكلفة ـ مع خيار فسخ لمن لم ترسُ المعاملة عليه ، فإن رست علي أحدهم أخذه بالأربعين واُرجع الثمن إلي الباقين إذا فسخت معاملاتهم .
حكم تقديم نسبة من الثمن ضمانا من المتقدم إلي المناقصة :
وهذا ما يسمي بالضمان النقدي الذي يقدمه من يتنافس علي العملية إلي المستفيد الذي يدعو إلي المناقصة ، ويستحقه المستفيد عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم من رسوّ العملية عليه ( 8 ) . ويسمي هذا الضمان الابتدائي ؛ تمييزا له عن الضمان النهائي الذي سيأتي .
وهذا الضمان يكشف عن جدّية عرض الخدمات من قبل كل المشتركين وجدّية إرادة المتعاقد . وتكييف هذا الضمان النقدي يكون بأحد وجوه ثلاثة :
أوّلاً ـ يمكن أن يكون في مقابل رضا ( المشتري أو المقاول ) لفسخ المعاملة ، حيث إننا علمنا أنّ هذه المعاملة لازمة ؛ ومعني ذلك عدم جواز الفسخ من قبل أحد الطرفين كالمشتري إذا لم يرضَ البائع ، وحينئذٍ يكون دفع هذا الضمان النقدي إلي المستفيد في مقابل رضاه بفسخ المعاملة أو المقاولة . وهذا التوجيه يكون صحيحا إذا كانت المعاملة قد تمت وصارت ملزمة حين قبول الداعي إلي المناقصة ، ويكون كتابة العقد للتوثيق فقط .
ثانيا ـ يمكن أن يشترط الداعي إلي المناقصة عند بيع دفتر الشروط أن يتملك كمية من المال ـ وهي الضمان النقدي ـ عند عدم الالتزام بإبرام العقد من قبل مَن رست عليه العملية ، وهذا الشرط في ضمن عقد فيكون ملزما ، سواء قلنا إنّ العقد قد تمّ عند قبول الداعي إلي المناقصة ـ كما هو الصحيح ـ أو قلنا إنّ العقد يتم عند كتابة العقد مع رضا الطرفين لا قبل ذلك .
ثالثا ـ علي أنّه يمكن القول : بأنّ المقاول أو البائع إذا كان قد تعهد أو التزم بأن يكون المال ـ الذي دفعه إلي الداعي إلي المناقصة ـ ملكا للداعي إلي المناقصة عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة عليه عند رسوّ العملية عليه ، وقد رتب الطرف الآخر عليه الأثر فعمل كل ما يلزم لعقد المناقصة حتي رست علي البائع أو المقاول ، فحينئذٍ يشمل هذا التعهدَ والالتزام من الطرفين « أوفوا بالعقود »الذي معناه أوفوا بالعهود ، كما يشمله قوله عليهالسلام : « المسلمون عند شروطهم » .
حكم الدخول إلي المناقصة علي المرخّص لهم :
قد يلجأ الداعي إلي المناقصة إلي محدودية المناقصة بألاّ يسمح للدخول في المناقصة إلاّ لمن رخّصت لهم الحكومة القيام بالتوريد أو الخدمات ( المقاولات ) ، وكذا قد تعمد الدولة أيضا إلي هذه الطريقة . وهذه الطريقة يُلجأ إليها لما فيها من التأكد من جدّية الداخلين في المناقصة ومن قدراتهم الفنية الكافية لإغناء المشروع ، وقد تكون أقل كلفة من المناقصة العامة وتكون أسعارهم أرخص ؛ لأنّ المرخّص لهم حكوميا في الدخول في المناقصة يكونون من المنتجين والمقاولين الحقيقيين لا من الوسطاء .
وحكم هذه العملية جائز بلا إشكال ؛ لاختيار الجهة الداعية إلي المناقصة في تعاملها مع عدد محدود من المناقصين ، وهم الذين تتوفر فيهم شروط معينة قد يكون منها الترخيص الحكومي للمقاولات والبيع بأقسامه ، أو غير ذلك من الشروط التي لا تخالف كتابا ولا سنّة .
نعم ، قد تكون هذه المعاملة مخلّة بالعدالة والمساواة بين الراغبين في التعامل ، إلاّ أنّ هذا الإخلال لا يصل إلي حدّ البطلان أو الحرمة ما دام لا يحتوي علي ظلم الآخرين وإضرارهم ، وربما كان فيه نفع للداعي إلي المناقصة .
حكم التأمينات المقدمة في المناقصة :
قد يطلب الداعي إلي المناقصة تأمينات تعادل نسبة من قيمة المعاملة ( نقدية أو غير نقدية كضمان من البنك لدفع مبلغ معين من النقود ) يستحقها المستفيد ( الداعي إلي المناقصة ) إذا تخلّف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد بين المقاول والمستفيد ( 9 ) ، عدا شرط التسليم في الموعد المقرر ، فإنّ هذا سنتكلم فيه في الشرط الجزائي .
أقول : إنّ هذا الطلب هو شرط في ضمن عقد الإيجار أو البيع ، وحينئذٍ يصح لمن اشترط هذا الشرط أن يمتلك هذه التأمينات النقدية في حالة التخلف ؛ استنادا إلي قوله تعالي : « أوفوا بالعقود » ، وإلي قوله عليهالسلام : « المسلمون عند شروطهم » ، فتحصّل أنّ العقد والشرط الذي ضمنه يجب الوفاء بهما إذا لم يكن الشرط مخالفا للقرآن والسنّة ( وهو المفروض ) .
أمّا التأمينات ( إذا كانت غير نقدية ) فكضمان البنك لنسبة من قيمة العملية عند تخلّف المقاول أو البائع عن الالتزام بالشروط المشترطة عليه ، وتخلَّف عن دفع النسبة من قيمة العملية . وهذا الضمان عرفي يكون البنك ملزما بدفع تلك النسبة عند تخلّف المشروط عليه عن العمل بتلك الشروط وتخلّفه عن دفع تلك النسبة من قيمة العملية .
حكم التأمينات إذا تأخر المقاول أو البائع عن تسليم ما يجب عليه عن الموعد المقرر :
قد يطلب الداعي إلي المناقصة غرامة في صورة التأخر عن تسليم ما يجب علي المقاول من أعمال ناجزة في موعدها المقرر ، أو في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة في موعدها المقرر ، فهل تكون هذه الغرامة صحيحة ويستحقها الداعي إلي المناقصة ؟ والجواب : أنّ هذا ما يعبّر عنه في الفقه بالشرط الجزائي ، ونتكلم في صحته تارة في عقد الإجارة وتارة في البيع :
أمّا في الإجارة : فقد ذكر علماء الإمامية صحة هذا الشرط بشرط ألاّ يحيط بجميع الكراء ؛ استنادا إلي قوله عليهالسلام : « المسلمون عند شروطهم » ، وقوله عليهالسلام في صحيح الحلبي ـ عند اشتراط المستأجر علي الأجير أن يوصله إلي السوق في يوم كذا ، وعند عدم إيصاله يحطّ من الكراء عن كل يوم كذا وكذا ـ قال : « شرطه هذا جائز ما لم يُحِط بجميع كراه » ( 10 ) .
وأمّا في البيوع : فإنّ الشرط الجزائي الذي دليله « المسلمون عند شروطهم » لا يفرّق في صحته بين الإجارة والبيع ، فيكون صحيحا إذا اشتري إنسان دارا من غيره علي أن يسلّمها له في مدة معينة ، واشترط المشتري علي البائع غرامة معينة في كل يوم يتأخر عن التسليم ، فلو تأخر البائع عن التسليم أيّاما معينة فيستحق عليه المشتري الغرامة . وهذا كله صحيح في البيع الشخصي الخارجي .
أمّا إذا كان المبيع كليا موصوفا في الذمة ( أي في ذمة المبيع ) كبيع السلم أو التوريد ـ إذا قلنا بصحته ـ فهنا يكون الشرط الجزائي ( الغرامة ) في مقابل تأخيره ربا جاهليا ، وهو محرّم ، فيكون الشرط الجزائي في هذه الصورة مخالفا للسنّة ، فلا يجوز .
ونفس الكلام المتقدم في الغرامة نقوله بالنسبة إلي اشتراط المستأجر أو المشتري التعويض عن الضرر الحاصل من تأخر تسليم العمل أو السلعة ، إلاّ أنّ الفرق بين الغرامة والتعويض هو : أنّ الغرامة يكون الضرر فيها مفترضا ولا يلزم إثباته علي الداعي إلي المناقصة ، ولا يستطيع المتعاقد الاحتجاج بعدم وقوعه . وهذا بخلاف التعويض الذي يجب فيه إثبات الضرر ومقداره ، ويستطيع المتعاقد إثبات عدم وقوعه .
هل يلزم إخبار المشتري بأنّ البضاعة تملّكها البائع بالأجل ؟ أقول : إنّ كلامنا في مناقصات البيع والتوريد والمقاولات تكون علي سلعة كلية موصوفة في الذمة ، فقد يشتري المشتري كليا في ذمة البائع يقدمه له بعد مدة معينة ، وهذا ما يسمي بالسلم ، فإن كان الثمن أيضا مؤجلاً ويسلّم بعض المثمن في وقت لاحق بنسبة من الثمن ، فهو عقد التوريد الشائع في هذه الأيّام بين الدول .
أمّا إخبار المشتري بأنّ البضاعة قد تملّكها البائع بالأجل فهو بيع المرابحة الذي نسب فيه الربح إلي الثمن ( لا إلي السلعة ) ، وهذا أحد أقسام البيع ؛ لأنّ « البائع إمّا أن يخبر برأس ماله أو لا ، والثاني المساومة ، والأوّل المرابحة إن باع بربح ، والمواضعة إن باع بنقص ، والتولية إن انتفيا معا » ( 11 ) . وعلي هذا تكون المرابحة هي البيع مع الإخبار برأس المال مع الزيادة عليه .
وهذا البيع مرابحةً مختص بالسلعة الشخصية التي اشتراها المشتري الأوّل وأراد بيعها للمشتري الثاني بربح ينسب إلي رأس المال ، فيذكر رأس ماله ويذكر زيادة عليه واحدا في المئة أو عشرة في المئة .
وفي هذا البيع ذكر الفقهاء أنّه : « يجب علي البائع الصدق في الثمن ، والمؤن ، وما طرأ من موجب النقص ، والأجل ، وغيره » ( 12 ) .
وله الحق في ذكر الثمن ، كأن يقول : « اشتريته بكذا واُريد ربح كذا » ، أو يقول : « تقوّم عليَّ بكذا » ، فيزيد في ثمن شرائه لو صدق عليه ما يوجب نقله وحفظه وأمثال ذلك .
أمّا في المبيع الكلي الذي نحن بصدده فلا يوجد ثمن قد اشتُريت به السلعة أوّلاً حتي يخبر به وبأجله لو كان له أجل ، فلا موجب لهذا العنوان في بيع المناقصات والمقاولات .
نعم ، لو أمكن أن يكون عقد التوريد منصبّا علي سلعة شخصية خارجية قد رئيت من قبل المشتري واشترط توريدها إلي بلده في أوقات معينة يُسلّم فيها نسبة من الثمن إلي البائع ، يمكن هنا أن يكون البيع مرابحة ، وحينئذٍ يجب علي البائع الإخبار بالأجل لو كان البائع قد اشتري سلعته بثمن مؤجل ؛ لأنّ المفروض أنّ البائع يبيع بنفس الثمن مع زيادة معينة ، فلو كان قد اشتراه مؤجلاً وباعه بنفس الثمن حالاًّ مع زيادة لم يكن بيع مرابحة ، وكان خيانة وكذبا .
مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة :
قد يتسلّم المشتري البضاعة من البائع ويماطل في تسديد الثمن ، فهل هناك حالة يضمن فيها البائع عدم مماطلة المشتري في تسديد الثمن ؟ الجواب : هناك عدة أجوبة لضمان عدم مماطلة المشتري :
الأوّل : إنّ البائع يحق له ( في عقد السلم إذا تأجل الثمن تبعا لتأجل المبيع ، أو في عقد التوريد الذي يكون فيه البدلان مؤجلين ) ألاّ يُسلّم المبيع حتي يقبض الثمن ، وفي هذه الحالة تنتفي مماطلة المشتري موضوعا .
ولكن هذه الحالة غير متيسرة في هذه العقود ؛ لأنّ البائع في دولة والمشتري في دولة اُخري ، وتسليم الثمن مباشرة إلي البائع غير متيسِّر ، بالإضافة إلي أنّ المشتري قد يتصور مماطلة البائع في تسليم المثمن بعد قبضه للثمن فيتوقف عن تسليم ثمنه أوّلاً ، وله الحق في ذلك أيضا ، ولهذا وجد الجواب التالي لضمان عدم مماطلة المشتري وهو :
الثاني : أن يدفع المشتري الثمن إلي البنك ، ويأمره بتسليمه إلي البائع عند تصدير البضاعة إلي المشتري حسب الوثائق التي يبرزها بنك البائع بتصدير البضاعة إلي المشتري . وهذه الحالة يضمن فيها البائع ثمنه والمشتري مثمنه بواسطة بنك البائع وبنك المشتري بعد وصول مدارك إرسال البضاعة ووصولها .
وهذه الصورة الثانية هي ما يصطلح عليه بـ « الاعتمادات المستندية » المنتشرة في عمليات التجارة الخارجية ، فيفتح المشتري في البنك « اعتمادا » خلاصته : تعهد بنك المشتري للبائع ـ بناءً علي طلب المشتري ـ أن يدفع له مبلغا من المال ( الثمن ) في مقابل المستندات التي تبيّن أنّ البضاعة التي اشتراها المشتري قد شحنت بقصد وصولها إلي المشتري خلال مدة معينة ، وهذا ما يسمي باعتماد الاستيراد ( 13 ) .
ويظهر من هذه الصورة الثانية : أنّ دور البنك هو دور المتعهد بوفاء دين المشتري للبضاعة الخارجية فيما إذا اطلع علي شحن السلعة بواسطة الوثائق الرسمية .
وهناك صورة اُخري يكون البنك مسؤولاً عن دفع ثمن البضاعة في صورة ما إذا استلم مستندات التصدير من البائع وسلّمها إلي المشتري وقبلها . ولكن هذه الصورة قد تلكّئ عملية ضمان ثمن البضاعة للبائع ؛ إذ قد تصدّر السلعة ولم يقبل المشتري المستندات ، فتحصل المماطلة .
ويستحق البنك علي عمله هذا اُجرة ؛ لأنّه عمل جائز وخدمة يقدمها البنك للمشتري ؛ لأنّ تسلّم المستندات التي تدل علي شحن البضاعة ، وفحصها للتأكد من عدم تزويرها ، وتسديد الثمن للمصدِّر أو بنكه ، هي أعمال يقوم بها البنك لصالح المشتري ، فيستحق اُجرة عليها .
الثالث : قد يقال : إنّ البائع لأجل أن يضمن عدم مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة قد يلجأ إلي الشرط الجزائي في صورة تأخر المشتري في التسديد ، فيحصّل عن كل يوم يتأخر فيه المشتري في التسديد للثمن غرامة معينة أو تعويضا معينا ، وهذا الشرط ( الغرامة ) أو التعويض تمنع المشتري من التأخير ؛ لأنّ البائع يتمكن أن يقاضيه إلي القضاء الحكومي عند تأخره ، فيستحق عليه الثمن والغرامات أو التعويضات التي حصلت من التأخير لتسديد الثمن .
أقول : إنّ الثمن ما دام دينا في ذمة المشتري يجب دفعه في مدة محددة ، فتأخيره في مقابل الغرامات أو التعويضات يكون ربا جاهليا محرّما ؛ لأنّ الربا الجاهلي ما عُبّر عنه في الروايات : « أتقضي أم تربي ؟ ! » ، وهذا بنفسه موجود في الشرط الجزائي عند تأخر الثمن الذي هو دين علي ذمة المشتري ، فيكون محرّما .
والذي ننتهي إليه من هذا البحث لعقود التوريد والمناقصات هو ما يلي :
أوّلاً ـ عقود التوريد :
1 ـ إنّ كل عقد عرفي ولو كان جديدا يجب الوفاء به إذا كان مشتملاً علي الشروط التي اشترطها الشارع ولم يكن هناك ما يمنع منه شرعا ؛ استنادا إلي قوله تعالي : « أوفوا بالعقود » .
2 ـ إنّ عقد التوريد : هو عبارة عن توريد سلعة أو مواد محددة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع علي أقساط .
3 ـ إنّ عقد التوريد لا يشمله حديث نهي النبي صلياللهعليهوآلهوسلم عن بيع الدين بالدين ، ولا حديث النهي عن بيع الكالي بالكالي . وليس عقد التوريد عقدا ربويا ، ولا إجماع علي بطلانه ؛ لأنّ النهي عن بيع الدين بالدين ـ بالإضافة إلي ضعف سنده ـ قد فُسّر بما إذا كان هناك دينان قبل العقد ويباع أحدهما بالآخر .
كما أنّ حديث نهي النبي صلياللهعليهوآلهوسلم عن بيع الكالي بالكالي ضعيف السند أيضا ، وقد فُسّر إمّا بمعني بيع الدين بالدين ، أو بمعني أن يكون هناك دين في سلم فيباع في أجل ، ولم يكن عقد التوريد كذلك .
كما أنّ من الواضح أنّ بيع التوريد ليس بربا ؛ لأ نّه بيع سلعة بثمن . وهو عقد جديد لا إجماع علي بطلانه ، كما هو واضح .
4 ـ لا علاقة لعقد التوريد بالنهي عن بيع ما ليس عندك ؛ لأنّ التوريد غالبا ما يكون علي سلعة موصوفة كلية ، بينما النهي عن بيع ما ليس عندك يختص بالسلعة الشخصية الخارجية فيما إذا باعها غير مالكها لنفسه ، بينما عقد التوريد وإن كان علي سلعة شخصية معينة ؛ فإنّ المفروض بيعها من قبل صاحبها إلي المشتري ، فلا محذور فيه .
5 ـ أركان عقد التوريد هي : البائع ( المورِّد ) الذي يكون موجبا ، والمشتري الذي يقبل البيع .
6 ـ شروط عقد التوريد هي الشروط العامة للمتعاقدين ( بلوغ ، عقل ، اختيار ) . وشروط العوضين هي نفس شروط السلَم ، لكنها تكون للثمن وللمثمن معا .
7 ـ انّ عقد التوريد عقد لازم ؛ للأدلة القرآنية والروائية الدالة علي اللزوم في العقود ، بالإضافة إلي الأصل العملي والعقلائي .
8 ـ يثبت خيار المجلس في عقد التوريد إذا كان فيه مكان للعقد ، وينقضي بالتفرق ؛ للحديث المشهور : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » .
9 ـ يثبت خيار الشرط في عقد التوريد ؛ للأدلة العامة علي صحة الشرط : « المسلمون عند شروطهم » .
10 ـ يثبت خيار الغبن في عقد التوريد إذا تصورنا الغبن فيه مع جهل المغبون .
11 ـ لا يثبت خيار الرؤية ( وهو المسبب عن رؤية المبيع علي خلاف ما اشترطه فيه المتبايعان ) إذا كان التوريد علي سلعة كلية موصوفة ؛ لأنّ خيار الرؤية في العين الشخصية . أمّا إذا كان التوريد علي سلعة شخصية معينة مرئية ثمّ اتضح أنّها علي خلاف الرؤية والوصف ، ثبت خيار الرؤية في عقد التوريد .
12 ـ لا يأتي خيار العيب في عقد التوريد إذا وقع علي كلّي موصوف في الذمة . أمّا إذا وقع عقد التوريد علي عين معينة شخصية فيثبت خيار العيب : إذا وجدت معيبة ، وكان العيب قبل القبض ، ولم يعلم به المشتري .
13 ـ الشرط الجزائي ( غرامة أو تعويضا ) صحيح في بيع التوريد عند عدم تسليم البضاعة نهائيا من قبل البائع ، وهو يؤول إلي أنّ حق الفسخ إنّما يثبت للبائع عند دفع الغرامة أو التعويض .
14 ـ الشرط الجزائي ( غرامة أو تعويضا ) صحيح عند مخالفة البائع الشروط المشترطة في العقد ، وهو يؤول إلي إسقاط حق المشتري في الفسخ أو عدم إعماله لخياره في مقابل الغرامة أو التعويض .
15 ـ الشرط الجزائي ( غرامة أو تعويضا ) لا يصح عند عدم تسليم البضاعة في تاريخها المعين وسلّمت بعد ذلك ؛ لأ نّه يؤول إلي الربا الجاهلي التي منعت منه الشريعة .
ثانيـا ـ عقود المناقصات :
1 ـ عقد المناقصة : هو إرساء العقد علي أفضل العروض عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفا .
2 ـ عقد المناقصة قد يتضمن تمليكا لعين أو لمنفعة ، وقد يتضمن عقد إجارة ، وقد يتضمن استثمارا ( كعقد مضاربة أو مزارعة أو مساقاة ) ، حسب متعلق عقد المناقصة .
3 ـ الإيجاب المتقدم به البائع أو المقاول ملزِم في عقد المناقصة علي خلاف بقية العقود ، كما أنّ الداعي إلي المناقصة ملزَم باختيار أفضل العروض ؛ كل ذلك للتعهد الموجود بين الأطراف علي ذلك المعلوم من مفهوم المناقصة التي أقدموا عليها ورتبوا عليها الأثر ، فهذه الالتزامات إمّا تعهدات من الأطراف أو شروط مشترطة في المناقصة ، ويجب العمل علي وفقها حسب الأدلة الشرعية ؛ لوجوب الوفاء بالعهد أو الشرط .
4 ـ إنّ ارتكازية عدم الفسخ في عقود المناقصات ترجع إلي الشرط الضمني بإسقاط خيار المجلس أو عدم إعماله ، فهو عقد يشبه بيع الدار المحلوف علي بيعها لشخص آخر .
5 ـ المناقصة : عقد جديد لم يذكر في الكتاب والسنّة والفقه ، أركانه : المناقِص والمناقَص ، يتم بتقديم الإيجاب المتمثل بعرض السلعة أو العمل الموصوفين بثمن معين ، ويأتي القبول من الداعي إلي المناقصة علي أفضل العروض . وقد يتم العقد بتقديم القبول بلفظ « اشتريتُ » أو « استأجرتُ » ، ثمّ يأتي الإيجاب بلفظ « بعتُ » و « أجرتُ » .
6 ـ لا غرر في عقود المناقصات ؛ لأنّنا نعلم بحصول العقد وصفة المبيع والثمن ، أو صفة العمل والاُجرة عند حصول العقد وتمامه .
7 ـ المناقصة والمزايدة يتفقان في التعريف ويختلفان في الهدف والغاية .
8 ـ المناقصة عقد جديد يدلّ علي صحتها العمومات القرآنية ؛ كقوله تعالي : « أوفوا بالعقود »أو « تجارة عن تراضٍ » ، و « أحلّ اللّه البيع »إذا كانت المناقصة تتضمن بيعا .
9 ـ لا علاقة للمناقصة ببيع ما ليس عندك ؛ لأنّ المناقصة تكون علي أمر كلّي ، بينما النهي عن بيع ما ليس عندك مختص بالعين الشخصية .
10 ـ يجوز بيع دفتر الشروط الذي بذل الداعي إلي المناقصة في إعداده مالاً ، فيصح بيعه علي جميع المناقصين بسعر التكلفة مقسمة علي عدد الدفاتر ، أو أكثر من التكلفة . كما يصح بيع كل دفتر بسعر التكلفة ، ويجعل خيار الفسخ لمن لم ترسُ عليه المعاملة ، فإن رست المعاملة علي أحدهم فهو المستفيد من دفتر الشروط حيث يعتمد عليه في عمله ، أمّا بقية المناقصين فيستعاد الثمن لهم إذا فسخوا المعاملة .
11 ـ يجوز أخذ نسبة من الثمن لصالح المشتري أو المستأجر إذا امتنع البائع أو المستأجر من القيام بما يجب عليه بعد رسوّ المعاملة عليه ، ومعني ذلك أنّ البائع يحق له الفسخ عند دفع نسبة من الثمن إلي المشتري مثلاً . كما يمكن أن يكون استحقاق المشتري أو المستأجر لهذه النسبة بواسطة الشرط الذي اشترط في ضمن عقد البيع أو الإجارة ( المقاولة ) ، كما يمكن أن يكون عقدا برأسه .
12 ـ يجوز قصر المناقصة علي المرخّص لهم حكوميا بالدخول في مناقصات التوريد والأعمال ؛ لأنّ الجهة الداعية إلي المناقصة مختارة في التعامل مع من تريد .
13 ـ يجوز للداعي إلي المناقصة أن يأخذ تأمينات نقدية أو غير نقدية كغرامة يستحقها إذا لم يقم العميل بالوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد ، عدا شرط التسليم في الموعد المقرر ؛ لأ نّه يؤول إلي الربا الجاهلي الممنوع منه شرعا إذا كان في عقد بيع كلي ، أمّا إذا كان في عقد إجارة أو في بيع عين شخصية فهو جائز ؛ استنادا إلي عموم « المسلمون عند شروطهم » ، ولا مانع يمنع من ذلك ؛ لعدم وجود الربا الجاهلي هنا . وجواز أخذ التأمينات النقدية في صورة عدم القيام بالشروط ـ إلاّ شرط تأخر التسليم ـ استنادا إلي كونه شرطا في ضمن عقد لازم .
14 ـ يجب إخبار البائع المشتري بالأجل الذي اشتري فيه البضاعة إذا كان البيع لبضاعة شخصية قد اشتراها بأجل وكان البيع مرابحة ، ولا يجب إذا كان البيع مساومة .
وينتفي موضوع هذا الحكم إذا كان المبيع كليا في الذمة ، كما هو الغالب في عقود التوريد .
15 ـ يمكن سدّ الباب أمام مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة بطلب البائع فتحَ الاعتماد المستندي من قبل المشتري لدي البنك ، ولكن لا يجوز جعل الشرط الجزائي علي المشتري في صورة تأخيره في دفع الثمن لردعه عن المماطلة ، سواء كان الشرط الجزائي غرامة أو تعويضا ، وذلك في صورة كون الثمن دينا في ذمة المشتري ، كما هو الغالب ، لأنّ هذا يؤول إلي الربا الجاهلي الممنوع منه شرعا .
( 6 ) وسائل الشيعة 12 : 374 ، ب 7 من أحكام العقود ، ح 2 و 5 . ( 10 ) تقدمت الرواية في بحث عقود التوريد من هذا البحث . ( 9 ) وقد يطلب العميل تأمينات ( نقدية أو غير نقدية ) إذا شعر بأنّ الجهة المقابلة قد لا تلتزم بالعقد أو قد لا تؤدي ما عليها من مال في الوقت المحدد . ( 13 ) أمّا اعتماد التصدير : فهو الذي يفتحه المشتري الأجنبي في الخارج لصالح المصدِّر ( البائع ) لشراء ما يبيعه هذا البائع الذي في داخل البلد . ( 4 ) الرأي عند علماء الامامية عدم صحة البيع إذا كان الثمنان مؤجلين ، إمّا علي نحو الفتوي أو علي نحو الاحتياط الوجوبي ، وحينئذٍ تكون عقود التوريد عندهم عبارة عن تفاهم علي البيع فعند تسليم كل وجبة يحصل البيع بالنسبة لها فقط ولا إلزام علي الطرفين قبلها . ( 12 ) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3 : 428 . ( 5 ) راجع عقود التوريد من هذا البحث ، تمهيد . ( 3 ) راجع بحث عقود التوريد من هذا البحث . ( 7 ) المصدر السابق : 376 ـ 378 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 13 و 4 و 6 . ( 8 ) أقول : إنّ صورة خطاب الضمان النقدي يؤدي إلي تجميد المال لمدة من الزمن ، وقد استبدل بخطاب ضمان بحوالة أو شيك مصرفي أو ضمان بتعهد من شركة تأمين يجب عليها الدفع عند أوّل طلب من الجهة الداعية إلي المناقصة دون أي معارضة تصدر من صاحب العرض . ( 11 ) جواهر الكلام 23 : 303 . ( 2 ) هذا الرأي مخالف لمشهور علماء الإمامية الذين يقولون بأنّ الشرط والالتزام الابتدائي لا يجب الوفاء به ، والذي يجب الوفاء به هو ما كان في عقد لازم . ( 1 ) أو ترسل كتب إلي جهات معينة تدعوهم إلي المشاركة ، فيما إذا كانت المناقصة محدودة .