اعجاز القرآنی (03)

محمد هادی المعرفة

نسخه متنی
نمايش فراداده

الإعجاز القرآنى(3)

فى وجوه الاعجاز فى مختلف الآراء

آية‏اللّه‏ الشيخ محمّد هادى معرفة

2. اختيار ابن عطيّه

ولأبى محمد عبدالحقّ بن غالب المحاربى الغرناطي، الفقيه المفسّر (توفى سنة 542) اختيار يشبه اختيار أبي سليمان البُستي، ولعلّه اختزال منه، ذكره فى مقدّمة تفسيره (المحرّر) و نقله الامام بدرالدين الزركشي، مع تصرّف و اختصار..

قال ابن عطيّة: إنّ الذى عليه الجمهور و الحذّاق، و هو الصحيح فى نفسه، أنّ التحّدي إنّما وقع بنظمه، وصحّة معانيه، و توالى فصاحة ألفاظه. و وجه إعجازه أنّ اللّه‏ قد أحاط بكلّ شى‏ء علما، و أحاط بالكلام كلّه علما، فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن علم ـ بإحاطته ـ أىّ لفظة تصلح أن تلي الأُولى، و يتبيّن المعنى دون المعنى، ثمّ كذلك من أوّل القرآن الى آخره. والبشر معهم الجهل والنسيان و الذهول، و معلوم ضرورةً أنّ بشرا لم يكن قطّ محيطا، فبهذا جاء نظم القرآن فى الغاية القصوى من الفصاحة، و بهذا النظر يبطل قول من قال: إنّ العرب كان فى قدرتها الإتيان بمثله، فلمّا جاءهم محّمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم صرفوا عن ذلك و عجزوا عنه! والصحيح أنّ الإ تيان بمثل القرآن لم يكن قطّ فى قدرة أحد من المخلوقين، و يظهرلك قصور البشر، فى أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لايزال ينقّحها حولاً كاملاً، ثم تعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصة فيبدّل فيها و ينقّح، ثمّ لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. و كتاب اللّه‏ سبحانه لونزعت منه لفظة، ثم اُدير لسان العرب على لفظة فى أن يوجد أحسن منها لم توجد، و نحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره، و يخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، و ميز الكلام.

قال: وقامت الحجة على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة و فطنة المعارضة كما قامت الحجة فى معجزة عيسى بالأطبّاء، و فى معجزة موسى بالسحرة، فإنّ اللّه‏ تعالى إنّما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع مايكون فى زمن النبىّ الذي أراد اظهاره، فكان السحر في مدة موسى قد انتهى الى غايته، و كذلك الطبّ في زمن عيسى، والفصاحة في مدة محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .(1)

3. رأي عبدالقاهر الجرجاني

يرى الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني (توفي سنة 471 ه··· ) ـ و هو الواضع الأوّل لاُسس علمَي المعانى و البيان ـ : أنّ إعجاز القرآن الذي تحدّى به العرب قائم بجانب فصاحته البالغة و بلاغته الخارقة، و باسلوب بيانه ذلك البديع، ممّا هو شأن نظم الكلام و تأليفه فى ذلك التناسق و التلاؤم العجيب. الأمر الذى لا يمسّ شيئا من معاني القرآن و حِكَمه و تشريعاته، و هي كانت موجودة من ذي قبل في كتب السالفين، و قد أطلق لهم المعانى من أىّ نمط كانت.

و قد وضع كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) تمهيدا لبيان وجوه إعجاز القرآن لمن مارس أسرار هذا العلم. و ثلّثهما برسالته (الشافية) التي خصّصها بالكلام حول إعجاز القرآن و الإجابة على أسئلة دارت حول الموضوع.

قال ـ في مقدمة كتابه دلائل الإعجاز، بعد أن أشاد بشأن النظم في الكلام و تأليفه و تنسيقه ـ : و إذا كان ذلك كذلك، فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الاُمور و هذه الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم، موجودة على حقائقها و على الصّحة و كما ينبغي في منثور كلام العرب و منظومه، و رأيناهم قد استعملوها و تصرّفوا فيها و كملوا بمعرفتها، و كانت حقائق لا تتبدل و لا يختلف بها الحال، إذ لايكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته فى كلام آخر...

... فما هذا الإعجاز الذي تجدّد بالقرآن من عظيم مزيّة، و باهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتى أعجز الخلق قاطبةً، و حتى قهر من البلغاء و الفصحاء القُوَى و القدر، و قيّد الخواطر والفكر، حتى خرست الشقاشق(2) و عدم نطق الناطق و حتى لم يجر لسان، و لم يبن بيان، و لم يساعد إمكان، و لم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حدّ، و حتى أسال الوادي عليهم عجزا، و أخذ منافذ القول عليهم أخذا؟

.. أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، و نردّه عن ضلاله، و أن نطبّ لدائه، و نزيل الفساد عن رائه(3)؟ فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغى لكلّ ذي دين و عقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه (يريد نفس كتاب دلائل الإعجاز) و يستقصى التأمّل لما أودعناه...(4).

و كرّ في الكتاب قائلاً: و إنّه كما يفضل النظم النظم، والتأليف التأليف، و النسج النسج، والصياغة الصياغة، ثم يعظم الفضل، و تكثر المزيّة، حتى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، و حتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا، و يتقدّم منه الشى‏ء الشى‏ء، ثمّ يزداد من فضله ذلك، و يترقّى منزلة فوق منزلة، و يعلو مرقبا بعد مرقب و يستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي الى حيث تنقطع الأطماع، و تحسر الظنون، و تسقط القوى و تستوي الاقدام في العجز...(5) .

ثم قال: واعلم أنّه لاسبيل الى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته، و ينتهي الى آخر ما أردت جمعه لك، و تصويره في نفسك، و تقريره عندك، إلاّ أنّ ها هنا نكتة، إن أنت تأمّلتها تأمّل المتثبّت، و نظرت فيها نظر المتأنّي، رجوت أن يحسن ظنك، و أن تنشط للإصغاء الى ما أورده عليك، و هى: إنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنّهم حين سمعوا القرآن، و حين تحدّوا الى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله، و أنّهم قد رازو أنفسهم(6) فأحسّوا بالعجز على أن يأتوا بمايوازيه أو يدانيه، أو يقع قريبا منه، لكان محالاً أن يدّعوا معارضته و قد تحدّوا إليه، و قرعوا فيه، و طولبوا به، و أن يتعرضوا لشبا الأسنّة(7) و يقتحموا موارد الموت...

فقيل لنا: قد سمعنا ماقلتم، فخبّرونا عنهم، عمّاذا عجزوا، أعَن معان من دقة معانيه و حسنها و صحتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟.. فإن قلتم: عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللفظ، أم بهرهم منه؟...

فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، و خصائص صادفوها في سياق لفظه، و بدائع راعتهم من مبادئ آيه و مقاطعها، و مجاري ألفاظها و مواقعها، و في مضرب كلّ مثل، و مساق كلّ خبر، و صورة كلّ عظة و تنبيه و إعلام، و تذكير و ترغيب و ترهيب، و مع كلّ حجة و برهان، وصفة و تبيان و بهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة، وعشرا عشرا، و آية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبوبها مكانها و لفظة ينكر شأنها، أويرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى و أخلق، بل وجدوا اتساقا بهرالعقول، وأعجز الجمهور، و نظاما و التئاما، و إتقانا و إحكاما، لم يدع فى نفس بليغ منهم لوحك بيافوخه السماء(8) موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدّعي و تقول و خلدت القروم.(9) فلم تملك أن تصول... .(10)

و يعقب ذلك بأنّ هذه كانت دلائل إعجاز القرآن، و مزايا ظهرت في نظمه و سياقه، بهرت العرب الأوائل، فهل ينبغي للفتى الذكي العاقل أن يكون مقلّدا في ذلك، أم يكون ياحثا و متتبعا كى يعلم ذلك بيقين؟

يقولون أقوالاً و لا يعلمونها و لو قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا(11) و من ثمّ وضع كتابه الحاضر (دلائل الإعجاز) ليدلّ الناشدين على ضالّتهم، و يضع يدهم على مواقع الإعجاز من القرآن، و يدعم مدعاه في ذلك بالحجة و البرهان. والرائد لايكذب أهله. قال: و بذلك قد قطعت عذر التهاون، و دللت على ما أضاع من حظّه، و هدايته لرشده... .(12)

و قال ـ في رسالته الشافية ـ: كيف يجوز أن يظهر في صميم العرب و في مثل قريش ذوي الأنفس الأبية و الهمم العلية و الأنفة و الحمية من يدّعي النبوّة و يقول: و حجّتي أنّ اللّه‏ قد أنزل عليّ كتابا تعرفون ألفاظه و تفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله و لا بعشر سور منه و لا بسورة واحدة، و لو جهدتم جهد كم واجتمع معكم الجنّ و الإنس. ثم لاتدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه و يبيّنوا سرفه في دعواه، لو كان ممكنا لهم، و قد بلغ بهم الغيظ من مقالته حدّا تركوا معه أحلامهم و خرجوا عن طاعة عقولهم، حتى واجهوه بكلّ قبيح ولقوه بكلّ أذىً و مكروه و وقفوا له بكلّ طريق. و هل سمع قطّ بذي عقل استطاع أن يخرس خصمه بكلمة يجيبه بها، فيترك ذلك الى اُمور ينسب معها الى ضيق الذرع و أنّه مغلوب قد أعوَزته الحيلة و عزّ عليه المخلص، و هل مثل هذا إلاّ مثل رجل عرض له خصم فادّعى عليه دعوى خطيرة و أقام على دعواه بيّنة، و كان عند المدّعى عليه ما يبطل تلك البيّنة أويعارضها، فيترك إظهار ذلك و يضرب عنه الصفح جملة، ليصير الحال بينهما الى جدال عنيف و إخطار بالمهج و النفوس.... قال: هذه شهادة الأحوال، و أما شهادة الأقوال فكثيرة... .(13)

ثم قال ـ فى وجه التحدّى ـ لم يكن التحدّى الى أن يعبّروا عن معانى القرآن أنفسها و بأعيانها بلفظ يشبه لفظه و نظم يوازي نظمه، هذا تقدير باطل. فإنّ التحدّي كان الى أن يجيؤوا، في أيّ معنى شاؤوا من المعاني، بنظم يبلغ نظم القرآن، في الشرف أو يقرب منه. يدلّ على ذلك قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مَثْلِهِ مفترياتٍ»(14) أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترىً لما قلتم. فلا الى المعنى دعيتم، ولكن الى النظم... .(15)

قال: ويجزم القول بأنهم تحدّوا الى أن يجيؤوا في أيّ معنى أرادوا مطلقا غير مقيّد، و موسّعا عليهم غير مضيّق، بما يشبه نظم القرآن أن يقرب من ذلك.(16)

4. رأى السكاكى

يرى أبو يعقوب، يوسف بن محمد بن علي السكاكى، صاحب مفتاح العلوم، (توفى سنة 567)، أنّ الإعجاز في القرآن أمر يمكن دركه و لا يمكن وصفه، و المدارك هو الذوق، الحاصل من ممارسة علمَي الفصاحة و البلاغة و طول خدمتهما لاغير. فقد جعل للبلاغة طرفين، أعلى و أسفل و بينهما مراتب لا تحصى. والدرجة السفلى هي التي إذا هبط الكلام عنها شيئا التحق بأصوات الحيوانات، ثم تتزايد درجة درجة متصاعدة، حتى تبلغ قمّتها و هو حدّ الإعجاز، و هو الطرف الأعلى و ما يقرب منه... فقد جعل من الدرجة القصوى و ما يقرب منها كليهما من حدّ الإعجاز.

ثم قال بشأن الإعجاز: واعلم أنّ شأن الإعجاز عجيب، يدرك و لا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك و لا يمكن وصفها، و كالملاحة. و مدرك الإعجاز ـ عندي ـ هو الذوق ليس إلاّ، و طريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العِلمين (المعاني و البيان)...

ثمّ أخذ في تحديد البلاغة و إماطة اللثام عن وجوهها المحتجبة، و كذا الفصاحة بقسميها اللفظيّ و المعنويّ، و ضرب لذلك مثلاً بآية «و قيل يا أرض ابلعي ماءك..»(17) و بيان جهاتها الأربع من جهتي المعاني و البيان، و هما مرجعا البلاغة، و من جهتى الفصاحة المعنويّة و اللفظيّة و أسهب في الكلام عن ذلك، و قال ـ أخيرا ـ : وللّه‏ درّ التنزيل، لا يتأمّل العالم آية من آياته، إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر.(18)

و غرضه من ذلك: أنّ لحدّ الإعجاز ذروة لا يبلغها الوصف، ولكن يمكن فهمها و درك سنامها، بسبب الإحاطة بأسرار هذين العلمين، فهى حقيقة تدرك و لا توصف.

5 . رأي الراغب الإصفهاني

لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الإصفهاني (توفي سنة 502) صاحب كتاب المفردات، رأي في إعجاز القرآن يخصّه، أنّه يرى من الإعجاز قائما بسبكه الخاصّ الذي لم يألفه العرب لحدّ ذاك، فلا هو نثر كنثرهم المعهود، لأنّ فيه الوزن و القافية و أجراس النغم. و لا هو شعر، لأنّه لم يجر مجرى سائر أشعار العرب و لا على أوزانها المعروفة و إن كانت له خاصّية الشعر،

من التأثير فىِ النفس بلحنه الشعريّ النغميّ الغريب.

قال ـ بعد كلام له في وصف إعجاز القرآن قدّمناه آنفا ـ :

و هذه الجملة المذكورة، و إن كانت دالّة على كون القرآن معجزا، فليس بمقنع إلاّ بتبين فصلين:

أحد هما: أن يبين ما الذي هو معجز: اللفظ أم المعنى أم النظم؟ أم ثلاثتها؟ فإن كل كلام منظوم مشتمل على هذه الثلاثة.

و الثاني: أن المعجز: هو ما كان نوعه غير داخل تحت الإمكان، كإحياء الموتى و إبداع الأجسام.

فأما ما كان نوعه مقدورا، فمحلّه محل الأفضل و ما كان من باب الأفضل في النوع فإنه لايحسم نسبة مادونه إليه. و إن تباعدت النسبية حتى صارت جزءً من ألف، فإن النجار الحاذق و إن لم يبلغ شأوه لا يكون معجزا إذا استطاع غيره جنسَ فِعْلِه، فنقول و باللّه‏ التوفيق:

إن الإعجاز في القرآن على وجهين: أحدهما: إعجاز متعلق بفصاحته، و الثاني: بصرف الناس عن معارضته.

فأما الإعجاز المتعلّق: بالفصاحة: فليس يتعلّق ذلك بعنصره الذي هو اللفظ و المعنى، و ذلك أنّ ألفاظه ألفاظهم، و لذلك قال تعالى: «قُرآنا عَربيا»(19) و قال: «الم ذلكَ الكِتابُ»(20) تنبيها أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادّة الكلام.

و لا يتعلّق أيضا بمعانيه، فإن كثيرا منها موجود في (الكتب المتقدمة) ولذلك قال تعالى: «وإنّهُ لَفى زُبُر الأوّلين»(21) و قال: «أوَلَم تأتِهم بيّنة ما في الصُّحفِ الأُولى».(22) و ما هو معجز فيه من جهة المعنى، كالإخبار بالغيب، فاعجازه ليس يرجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبرا بالغيب، و ذلك سواء كونه بهذا النظم أو بغيره، و سواء كان موردا بالفارسية أو بالعربية أو بلغة أُخرى، أو بإشارة أو بعبارة.

فإذا بالنظم المخصوص صار القرآن قرآنا، كما أنه بالنظم المخصوص صار الشعر شعرا، و الخطبة خطبة.

فالنظم صورة القرآن، واللفظ و المعنى عنصره، و باختلاف الصور يختلف حكم الشى‏ء و اسمه لابعنصره، كالخاتم و القرط و الخلخال اختلف أحكامها و أسماؤها باختلاف صورها لا بعنصرها الذى هو الذهب و الفضة فإذا ثبت هذا ثبت أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بالنظم المخصوص.

و بيان كونه معجزا هو أن نبين نظم الكلام، ثم نبيّن أن هذا النظم مخالف لنظم سائره، فنقول: لتأليف الكلام خمس مراتب:

الاولى: النظم: و هو ضمّ حروف التهجّي بعضها الى بعض، حتى يتركب منها الكلمات الثلاث: الاسم و الافعل و الحرف.

و الثانية: أن يؤلف بعض ذلك مع بعض حتى يتركب منها الجمل المفيدة و هى النوع الذى يتداوله الناس جميعا فى مخاطباتهم، و قضاء حوائجهم، و يقال له: المنثور من الكلام.

و الثالثة: أن يضم بعض ذلك إلى بعض ضمّا له مبادٍ و مقاطع، و مداخل و مخارج، و يقال له: المنظوم.

والرابعة: أن يجعل له: في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، و يقال له: المسجّع.

والخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن مخصوص، و يقال له: الشعر. و قد انتهى.

و بالحق صار كذلك: فإن الكلام إما منثور فقط، أو مع النثر نظم، أو مع النظم سجع، أو مع السجع وزن.

والمنظوم: إما محاورة، و يقال له: الخطائة، أو مكاتبة، و يقال لها: الرسالة، و أنواع الكلام لاتخرج عن هذه الجملة. و لكل من ذلك نظم مخصوص.

و القرآن حاوٍ لمحاسن جميعه بنظم ليس هو نظم شيء منها بدلالة أنه لايصح أن يقال:

القرآن رسالة، أو خطابة، أو شعر، كما يصح أن يقال: هو كلام، و من قَرَع سمعه فصل بينه و بين سائر النظم. و لهذا قال تعالى: «وإنّه لكِتابَ عزيزٌ. لا يأتِيهِ الباطلُ مِن بينِ يَديهِ و لا مِن خَلْفِه»(23) تنبيها أن تأليفه ليس على هيأة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يزاد فيه كحال الكتب الأُخر.

فإن قيل: و لم لم يبلغ بنظم القرآن الوزن الذى هو الشعر، و قد علم أن للموزون من الكلام مرتبة أعلى من مرتبة المنظوم غير الموزون، إذ كلّ موزون منظوم و ليس كلّ منظوم موزونا؟

قيل: إنما جنّب القرآن نظم الشعر و وزنه لخاصيّة في الشعر منافية للحكمة الإلهيّة، فإن القرآن هو مقر الصدق، و معدن الحق. و قصوى الشاعر: تصوير الباطل في صورة الحق، و تجاوز الحدّ في المدح و الذم دون استعمال الحق في تحرّي الصدق، حتى أن الشاعر لايقول الصدق و لا يتحرى الحق ألاّ بالعرض. و لهذا يقال: من كانت قوّته الخيالية فيه أكثر كان على قرض الشعر أقدر. و من كانت قوّته العاقلة فيه أكثر كان في قرضة أقصر. و لا جل كون الشعر مقرّ الكذب، نزّه اللّه‏ نبيّة عليه‏السلام عنه لما كان مرشحا لصدق المقال، و واسطة بين اللّه‏ و بين العباد، فقال تعالى: «و ما عِلّمناهُ الشِّعرَ و ما يَنبغِي لَه»(24) فنفى ابتغاءه له. و قال: «و ما هو بقول شاعر»(25) أي: ليس بقول كاذب. و لم يعن أن ذلك ليس بشعر فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفى عنه. ولأجل شهرة الشعر بالكذب، سمىّ أصحاب البراهين الأقيسة المؤدية فى أكثر الأمر إلى البطلان و الكذب شعرية، و ما وقع فى القرآن من ألفاظ متزنة فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العرض بالاتفاق و قد تكلم الناس فيه.

و أمّا الإعجاز المتعلّق بصرف الناس عن معارضته: فظاهر أيضا إذا اعتبر، و ذلك أنه ما من صناعة و لا فعلة من الأفعال محمودة كانت أومذمومة، الاّ و بينها و بين قوم مناسبات خفية، و اتفاقات إلهية بدلالة أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها، و تطيعه قواه في مزاولتها فيقبلها باتساع قلب، و يتعاطاها بانشراح صدر، و قد تضمن ذلك قوله تعالى: «لكلٍّ جَعلنا مِنكم شِرعةً و مِنهاجا»(26) و قول النبى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».(27)

فلما رُئى أهل البلاغة و الخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم، و قد دعا اللّه‏ جماعتهم إلى معارضة القرآن، و عجزهم عن الاتيان بمثله، و ليس تهتزَ غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته لم يخف على ذي لب أن صارفا الهيا يصرفهم عن ذلك. وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيّره في الظاهر أن يعارضوه، و مجبرة في الباطن عن ذلك. و ما أليقهم بإنشادما قال ابوتمام:


  • فإنْ نكُ اهْمِلْنا فَأضْعِفْ بِسَعْينا فإنْ نكُ اهْمِلْنا فَأضْعِفْ بِسَعْينا

  • و إنْ نَكُ اجْبِرْنا فَفِيمَ نُتَعْتِعُ و إنْ نَكُ اجْبِرْنا فَفِيمَ نُتَعْتِعُ

  • و اللّه‏ ولى التوفيق والعصمة(28) و اللّه‏ ولى التوفيق والعصمة(28)

6 . رأي الامام الرازي

و لأبى عبداللّه‏ محمدبن عمر بن حسين فخرالدين الرازي (توفي سنة 606) المفسّر المتكلّم الأُصولي الكبير، رأي في إعجاز القرآن طريف، و هو جمعه بين اُمور شتّى، كانت تستدعي هبوطا في فصاحة الكلام، لو كان أحد من البشر حاول القيام بها أجمع، لولا أنّ القرآن كلام اللّه‏ الخارق لمألوف الناس، فقد جمع بين أفنان الكلام، و مع ذلك فقد بلغ الغاية في الفصاحة، و تسنّم الذروة من البلاغة، و هذا أمر عجيب!

قال: اعلم أنّ كونه (القرآن) معجزا يمكن بيانه من طريقين:

الأوّل أن يقال: إنّ هذا القرآن لا يخلوحاله من أحد وجوه ثلاثة: إمّا أن يكون مساويا لسائر كلام الفصحاء، أوزائدا على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة، أوزائدا عليه بقدر ينقض. والقسمان الأوّلان باطلان فتعيّن الثالث.

و انّما قلنا: أنّهما باطلان، لأنّه لوكان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين او منفردين، فإن وقع التنازع و حصل الخوف من عدم القبول، فالشهود و الحكام يزيلون الشبهة، و ذلك نهاية في الاحتجاج، لأنّهم كانوا في معرفة اللغة و الاطّلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، و كانوا في محبّة إبطال أمره في الغاية، حتى بذلوا النفوس، و الأموال و ارتكبوا ضروب المهالك و المحن، و كانوا فى الحميّة و الأنفة على حدّ لا يقبلون الحقّ فكيف الباطل. و كلّ ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، و المعارضة أقوى القوادح. فلمّا لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها، فثبت أنّ القرآن لا يماثل قولهم، و أنّ التفاوت بينه و بين كلامهم ليس تفاوتا معتادا، فهو إذن تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزا.

.. واعلم أنّه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته، و مع ذلك فإنّه في الفصاحة بلغ النهاية التى لاغاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزا.

أحدها: أنّ فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات، مثل وصف بعير أو فرس أوجارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، و ليس في القرآن من هذه الأشياء شى‏ء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم.

و ثانيها: أنّه تعالى راعى فيه طريقة الصدق و تنزّه عن الكذب في جميعه، و كل شاعر ترك الكذب و التزم الصدق نزل شعره و لم يكن جيّدا، الأ ترى أنّ لبيد بن ربيعة وحسّان بن ثابت لمّا أسلما نزل شعرهما و لم يكن شعرهما الإسلامىّ في الجودة كشعرهما الجاهلي. و أنّ اللّه‏ تعالى مع ماتنزّه عن الكذب و المجازفة جاء بالقرآن فصيحا كماترى.

و ثالثها: أنّ الكلام الفصيح و الشعر الفصيح، إنّما يتّقق في القصيدة في البيت و البيتين و الباقي لايكون كذلك. و ليس كذلك القرآن، لأنّه كلّه فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته.

و رابعها: أنّ كلّ من قال شعرا فصيحا في وصف شى‏ء فإنّه إذا كرّره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأوّل: و في القرآن التكرار الكثير، و مع ذلك، كلّ واحد منها في نهاية الفصاحة و لم يظهر التفاوت أصلاً.

و خامسها: أنّه اقتصر على ايجاب العبادات و تحريم القبائح و الحثّ على مكارم الأخلاق و ترك الدنيا و اختيار الآخرة، و أمثالُ هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة.

و سادسها: أنّهم قالوا في شعر امرئ القيس: يحسن عندالطرب و ذكر النساء وصفة الخيل. و شعر النابغة عند الخوف. و شعر الأعشى عندالطلب و وصف الخمر. و شعر زهير عندالرغبة و الرجاء. و بالجملة فكّل شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنّه يضعف كلامه في غير ذلك الفنّ. أمّا القرآن فإنّه جاء فصيحا في كلّ الفنون على غاية الفصاحة:

ألا ترى أنّه سبحانه و تعالى قال في الترغيب: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا اخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ»(29) و قال تعالى: «وَفِيهَا ما تَشْتَهيهِ الأنْفُسُ و تَلَذُّ الأَعْيُنُ».(30)

و قال فى الترهيب: «أَفَأ مَنْتُمْ أنْ يَخسَفِ بَكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ».(31)

و قال: «أَمِنتُم مَن فِى السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُم الأرْضَ فَإذا هَىِ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُم».(32)

و قال: «وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ ـ الى قوله ـ و يَأتِيهِ الْمَوتُ مِنْ كُلِّ مَكان».(33)

و قال فى الزجر مالا يبلغه و هم البشر، و هو قوله: «فَكُلّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ـ الى قوله ـ و مَنْهُمْ مَنْ أغرقنا».(34)

و قال فى الوعظ ما لا مزيد عليه: «أَفَرأَيْتَ إنْ مَتَّعنَا هُم سِنين».(35)

و قال فى الإلهيّات: «اللّه‏ُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ انثى وَ مَا تَغِيضُ الأَرحامُ وَ مَا تَزْدَادُ».(36)

و سابعها: أنّ القرآن أصل العلوم كلّها، فعلم الكلام كلّه في القرآن، و علم الفقه كلّه مأخوذ من القرآن، و كذلك علم اصول الفقه و علم النحو و اللغة، و علم الزهد في الدنيا و أخبار الآخرة، و استعمال مكارم الأخلاق.

و من تأمل كتابنا فى دلائل الإعجاز،(37)علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة الى النهاية القصوى.

الطريق الثانى: أن نقول: إنّ القرآن لا يخلو إما أن يقال أنّه كان بالغا في الفصاحة الى حدّ الإعجاز، أولم يكن كذلك، فإن كان الأوّل ثبت أنّه معجز. و إن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمعارضة، مع كون المعارضة ممكنة، و مع توفّر دواعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزا، فثبت أنّ القرآن معجز على جميع الوجوه.

و هذا الطريق عندنا أقرب الى الصواب.(38)

و كلامه هذا الأخير لعلّه ترجيح للقول بالصرفة!