قلت لوهب بن يعيش الرقي: لم صارت الكيفية تسري من المكيف إلى الأول والثاني؟ مثال ذلك: الرائحة التي للتفاح، فإنها تسري إلى الدماغ، وليس كذلك الكمية من ذي الكم، مثال ذلك: تفاحتان وثلاث عند زيد لا تسري كميتها إلى عمرو؟ فقال: الكمية أقرب إلى الجوهر وأشد توحداً به وأدل على المواصلة والتشبث والوحدة، وليس كذلك الكيفية بحسب الكثرة، مخالفاً لمقتضى الكيفية بحسب الوحدة، ألا ترى أن الكيفية تابعة لما ترى، أي الحس وأسبق عن الطبيعة؟ ألا ترى أن الكمية تابعة لما ترى، أي العقل ومتصل بالنفس؟
المقابسة السادسة عشر
في قولهم لم صار الإنسان إذا صور كلاماً
يريد تأييده بطبعه جبراً عليه؟
لم صار الإنسان إذا زور كلاماً لمجلس يحضره، وخصم يناظره، وصاحب يعاتبه، لا يمكنه أداؤه في حال ما يباشر المراد، وينحى على الغرض، ويتوخى غاية ما في النفس . فقال: لأنه في الحال الثانية يصير أسيراً في يد ما قدمه وقومه، فهو يحتاج في تلك الحال إلى قوة حافظة، وقوة مؤدية، وربما خانتاه أو خانته إحداهما، وليس كذلك إذا ارتجل كلاماً، وافترع معنى، فإنه يكون مطلق العنان في ضروب التصرف، وأفانين التزويق، غير موقوف على شيء متقدم، ولا متق شيئاً متوقعاً يخاف فجأته، على خلاف تقديره في وهمه ووضعه في نفسه، بخلوص الحال وسلامة البال، يفضيان به إلى آخر ما في نفسه، لأن الواسطة الحائلة ساقطة، والحجب مخروقة، والأولية مغيبة، والوحدة مساعدة. لا تسرع أيدك الله إلى الطعن والعيب في هذه المواضع التي نزل قليلاً، ولا يبلغ ظنك بها، فإن الجميع أخذ عن هؤلاء الجلة الأعلام حسب ما كانت المذكرة والمقابسة تمتدان بهم ويقرءان عليهم، وكان الغرض كله أن يستفاد كل ما تنفسوا به وتنافسوا فيه، فإن شاركتني على ذلك فالحكمة فوضى بيننا، والحق مشاع عندنا، والفائدة حاصلة لنا؟ فإن أنجبت نجدتك وفطنتك لم تخرج من جميع وجوه العدل إلى الظلم، لكن تبعد عن الخلق الجميل، وعما يليق بالرجل الأصيل، وأساس التلافي والاجتماع، والتصافي والاستمتاع، والمفاوضة بين الناس بكل ما ينطق بالتودد والإيناس على الكرم والتفضيل، والرعاية والحياء والإبقاء والإغضاء، لا على الشراسة والعناد، ولا على ما لا يجمل بذوي الحكمة والفضل والحفاظ، والله يبلغ بك ويحسن على اقتباس الحمة عونك، ويقر أعيننا بمكانك، ويهدينا جميعاً للزلفى عنده، والمكانة فيه، بمنه وإحسانه؛ على أنك إذا استشففت هذا الكتاب كله، وقبلته وعرفت غرائبه وعجائبه، وعلمت أنك ظالم إذا عتبت، وأني مظلوم في يدك إذا استزريت، و والله لقد تعبت في تحصيل ما قالوه، وخاطرت الآن برواية ما تقابسوه، ولو قمت مقامي لما أخطأ بك حالي، ولا خلوت في عبري من بعض ما تتجنى به علي، كان الله لك، وأخذ بيدك، وأدام الصنع الجميل لك.