قلت لأبي سليمان: كنا أمس في مجلس أبي علي القومسي فجرى كلام في الظرف فقال له الأندلسي: أيها الشيخ، لم صار الظرف المخصوص بالزمان أطثر من الظرف المخصوص بالمكان فسكت هنية ثم قال: لا أدري. وليس هذا من النحو، وإنما النحو في هذا أن تعرف أن الظرف ظرفان، ظرف زمان وظرف مكان، وتحصي أسماء هذا وتميزها من أسماء هذا، وتقف على المواضع المخصوصة بهما والأعراب اللازم لهم أوبهما. فقال أبو سليمان: صدق أبو علي، فلقد ظلمه الأندلسي! من أين يعلم ذلك وليس عليه في صناعته أن يبحث عنه؟ لأن مبادئ كل صناعة مأخوذة من ناس آخرين قوامين عالمين؟ قلت: فلو أقدتنا فيه شيئاً؟ فقال: الظرف الزماني ألطف من ظرف المكان، والمكاني أكثف من ظرف الزمان، وكأن المكان من قبيل الحس، والزمان من قبيل النفس، وكأن الزمان من حد المحيط، والمكان من حد المركز، فوفر لهذا أن يكون تصرف الألطف اكثر من تصرف الأكثف، وبحسب تصرفه تكون أسماء أحواله في تصرفه أكثر، والزمان منسوب إلى حركات الفلك، فجوهره شريف. والمكان من جوهر المحيط، فجوهره محطوط. والفلك أقرب من الأمور العالية، فكذلك مرسومه الذي هو الزمان. قال: ومما يشهد أن الزمان ألطف، أنك تقول: زمان حاضر، وزمان ماضي، وزمان مستقبل. هذا بالنظر الأول، وقد أحس به كل الناس، وهو يزيد بالمنطق على هذه القسمة زيادة بينة، ومن أجل تصرف الزمان في الوجوه الكثيرة، استخرج يحيى بن عدي المنطقي من قول القائل: القائم غير القاعد، وجوها تزيد على عشرين ألف وجه بآلاف، ورسالته في ذلك حاضرة. ثم قال: ومما يزيد لطافة الزمان وضوحاً أن الزمان الواحد يجر إلى أكثر من واحد، إلى مالا آخر لهما، والمكان الواحد متى شغل بالواحد عجز عن الثاني. ثم قال: وأي نظر أشرف من نظر الفيلسوف الذي يرتقي من السفل فيجول في الوسائط، ويبلغ إلى العلو، وربما انحدر من العلو فخرق بمدة الحجب كلها، مبيناً عنها وعن جملتها وتفصيلها، بمعرفة موزونة من العقل، وروية مؤيدة بالبصيرة، وحقائق بالعدل موزونة، وتصفح بالغ إلى الحد الأقصى، بلا ظرف ولا ترقب ولا شك ولا مرية، بل علم ثابت ومعرفة راسخة، وبيان جلي، وشاهد قائم، وبرهان موجود، وللمشغوف بالحكمة في هذه المواضع مراد ومسرح، ومرمي ومفتح، وذلك لأن الآلهية عالية، وعلائقها متشاكلة متناسبة، ومواهبها متقاربة متواصلة، ومتى كشف الغطاء بالنظر والفحص بأن منها ما يبهر كشعاع الشمس. وكان نضر الله وجهه إذا سلك هذا الوادي سال عرقاه، ولم يدرك طرفاه، وكان يخرج من باب إلى باب، ومن صنف إلى صنف، استراحة من طول جمامه، وإنسا بمن يفهم عنه بعض مرامه،