قال يحيى بن عدي: الحركة صورة واحدة لكنها توجد في مواد كثيرة ومحال مختلفة، وبحسب ذلك تولى أسماء مختلفة، وقد يظن من أجلها أنها في نفسها ليست واحدة، وأن لها أخوات ونظائر. والبحث الفلسفي قد قرن واحدة بواحدة على ما دل الاسم عليه في الأصل، وذلك أنه يقال: الحكة كون وفساد، ونمو ونقصان، واستحالة وإمكان؛ وإنما تباينت هذه الأسماء لمعان تحققت في النفس بالاعتبار الصحيح. فالحركة في النار لهب، وفي الهواء ريح، وفي الماء موج، وفي الأرض زلزلة. هذا باب كما ترى قد حصل في الاستقصات ولم يغادر منه شيء. ثم إن الحركة بعد ذلك في العين طرف، وفي الحاجب اختلاج، وفي اللسان منطق، وفي النفس بحث، وفي القلب فكر، وفي الإنسان استحالة، وفي الروح تشوف، وفي العقل إضاءة واستضاءة ، وفي الطبيعة كون وفساد، وفي العالم بأسرة شوق إلى الذي به نظامه، وبوجوده قوامه، وإليه توجهه، وبه تشبهه، ونحوه تولهه وتدلهه. ثم قال: وهذا بين الحجة، وكل شاد من الفلسفة شيئاً يسلم بهذه الإشارة ويتوصل بها إلى ما هو من جنسها اقتداء بما يتراءى منها ويشيع عنها. والكلام في الحركة في غاية الشرف لأنه دال على كل ما قد اشتمل العالم عليه من العلويات والسفليات، ولا مانع من تقصيه إلا العجز عن جله، والكسل عن بعضه، وبين هذين ذهاب العلم وضلال الفهم. وهكذا حكم من قلت دواعيه إلى الشيء، وكثرت صوارفه عنه. إلى الله نلتجئ فيما دهمنا وفيما نزل بنا من غيرنا، فما خسر من لاذ به في السراء، ولا خاب من عاذبه في الضراء، إنه نعم الرب والكافي، والمعين والكالئ، والمرشد والناصر، به يوجد كل مطلوب، ويملك كل محبوب، وينجي من كل أذية، ويتعرى عن كل رزية، لطيف التدبير، عجيب التقدير، خبير بجميع الأمور، لا تنكر ذاته، ولا يدرك كنهه، جل معبوداً وعز موجوداً مشهوداً.
المقابسة الخمسون
في الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب
سئل أبو سليمان عن الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب، وعن التنجيم وما يقدر به على أحكام المستقبل، وعن النبوة التي هي في محلها الأعلى ومكانها الأشراف؟ فتصرف في الجواب أحسن تصرف، على سعة من اللفظ والمعنى. ولكن لو نقلت كثيراً منه لنسبوه للكفر وقلة العناية. ومقدار الحاصل منه قد أثبته في هذا الموضع خوفاً من أن يذهب نسياً. فإن وافتني فيه معاندة حاصلة، أو حصلت لي محالة محتملة، فما على إلا الجهد وبذل المطاق، وإذا عذرني المتكلم المنصف، لم أحفل بالمتعنت المسرف، والله يعين أهل الحق بلطفه. قال: الكهانة قوة إلهية توجد في شخص بعد شخص بسهام سماوية، وأسباب فلكية، وأقسام علوية، فإذا توسطت صارت في منصف البشرية والربوبية، فحينئذ يكون ما يبدو بها مشيراً إلى غيب أمور الدنيا وإلى غيب أمور الآخرة على حد يكون على سواء. والغلب مع ذلك لأمور الدنيا، لأن الإنسان بالطبيعة أكثر منه بغيرها، في الأعم الأغلب والشائع الأشمل، فإن تحدرت هذه القوة قليلاً كانت الإشارة إلى أمور عالية شريفة. ومحل النبوة بين أبناء هذه القوة بالترقي والتحدر، وكلما كان التباس النفس بالمزاج الموافق، وكان النور المقتبس من هذه القوة