التفكّر خير من العبادة - لیلة القدر معراج الصالحین نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

لیلة القدر معراج الصالحین - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

التفكّر خير من العبادة

لقد ورد في الحديث الشريف: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، ([47]) فأنت قد تعمّر سبعين عاماً تعبد الله فيها ولكن من غير توجّه تام أو تفكّر وتبصّر، ولكنك حين تعبد الله ساعـة لا ينقطع فيها تفكيرك، وتوجّهك، واتصال كيانك بالله من خلال شعورك وعقلك وبدنك، فتلك هي العبادة الحقّة التي ربّما تعادل سنّي عمرك السبعين التي قضيتها في العبادة.

ولا فرصة أعظم وأثمن لبلوغ هذه الساعة من ساعات ليلة القدر، وهنا أوضح لك دليلاً تهتدي به لنيل ثواب هذه الساعة العظيمة؛ توضّأ من أول الليل، ثم اشرع بقراءة سورة القدر ألف مرّة، ثم قم وصلِّ مائة ركعة، واقرأ في كلّ واحدة فيها سورة الإخلاص عشر مرات، وبعد أن تنتهي منها، عليك بدعاء الجوشن الكبير الذي إن قرأته بوعي ومن صميم الروح والقلب بحيث تذوب في معانيه عند قراءته، فإني أضمن لك عند الله الدخول في حفظه في الدنيا، والتحصّن بحصنه في الآخرة.

ثم عليك بعد ذلك بالدعاء لمولانا الإمام المنتظر صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف، وعندما تفرغ من الدعاء له، توجّه الى حيث سيّد الشهداء عليه السلام وأنت تعرف مقامه وعظم مصابه، فليكن توجّهك مساوياً لهذه المعرفة وذلك المقام العظيم، ولتكن منكراً في قلبك لما علمته من مصابه الأليم.

وكلّ هذه الأعمال إنّما هي مقدّمات ووسائل، فإن كنت قد أدّيتَ هذه الأعمال بشكل روتيني ومن غير اندماج وتفاعل، وبلا روح ولا مناعة ولا تفكّر ولا توجّه، فإنّ حالك سوف لا يختلف عن حال الحجر والصخر، وهذا هو الواقع!!

الاتصال بين القلب والخالق

ومن أجل كسب ثواب هذه الساعة العظيمة فإنّ المهم في الأمر أن يتمّ الاتصال بين قلبك وبين ربك، والمهمّ أيضاً أن تزول وتسقط تلك الحواجز والحجب التي تحول بين النفس وبارئها.

فكم من النعم والخيرات والبركات التي أنعم الله بها علينا كما يقول تعالى: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ» (ابراهيم/34) لو فقدنا واحدة منها لتحوّلت حياتنا الى ألم وفاقة لا ينقطعان، وذلك خزي محيط بنا والعياذ بالله -.

وتعتبر نعمة البصر من تلك النعم التي لا تحصى، فانظروا وتأمّلوا كم هي عظيمة، وكيف أنّ الحياة ستفقد طعمها وقيمتها إن هي فقدت، وقد قال لي أحد الذين حُرموا من هذه النعمة: لولا انّ الانتحار حرام لفضّلته على هذه الحياة وأنا لا أعرف تعبيراً أبلغ من هذا يظهر قيمة هذه النعمة العظيمة وفضله الكبير - سبحانه- في منحها لنا. وأنت لو نظرت في ملامح الرجل الضرير وتقاسيم وجهه بدقّة للاحظت فيه آثاراً من الذلّة، لعلّ أولى علائمها احتياجه لمن يقوده ويهديه.

النكران وقلّة الشكر

ومع ذلك كله؛ ترى عظم نكراننا، وقلّة شكرنا إن كان هناك شكر، وقلّة حمدنا إن وفّقنا لهذا الحمد. والأنكى من ذلك جرأتنا على الله تعالى في كثير من أفعالنا وأقوالنا، والحمد لله حمداً لا ينقطع إذ عاملنا بالفضل ولم يعاملنا بالعدل، وإلاّ فنحن لا نستحقّ حتى هذا الهواء الذي نتنفّسه.

أفليس الأولى بنا أن ننظر الى هؤلاء الذين من حولنا من المعوّقين الذين يستشعرون الذلّ والحاجة لمن يعيش معهم، تُرى ما الذي يجول في خاطر كسيح الرجلين واليدين وهو يرى الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً يسيرون بسهولة، ويأكلون ويشربون ويكتبون ويعملون بأيديهم بدون أي حرج أو حاجة إلى مُعين؟ لو فكّرنا بما يدور في خاطر هذا المعوّق لعرفنا قيمة النعمة العظيمة التي نرفل فيها.

لقد أعطى الله سبحانه الواحد منّا الرجلين، ولكنّه لم يشكره أو يودّي حق هذا الشكر، فمن النادر أن نجد من بيننا من يصلّي وهو متوجّه الى ربّه بكامل حواسّه وجوارحه، فنحن نصلّي ولكننا لا نؤدّي تلك الصلاة الكافية لأداء بعض هذا الشكر.

وبالاضافة الى ذلك فنحن الآن معافون، نستطيع التمنّي والعمل والتنـزّه، بينما لنا إخوة في المستشفيات يعانون ما يعانون. فلنقدّر قيمة نعمة العافية التي نحن غافلون عنها.

وينقل في هذا المجال عن أحد الأثرياء الأميريكيين أنّه كان يعاني أمراضاً في المعدة، يبدو أنه لم يجد لها علاجاً يشفيها، فحرّم عليه الاطباء أغلب أنواع الطعام، وقد قيل إنّ هذا الغني المليونير كان ينظر الى العمّال البسطاء وهم يجلسون للغذاء ويتناولون "السندويتشات" فيقول ليتني كنت مثلهم، وإنّي لمستعدّ أن أتخلّى عن نصف أموالي شريطة أن أعثر على العلاج الذي يشفيني ويتيح لي أن أتناول هذه السندويتشة.

أمّا نحن؛ فنجلس إلى المائدة كلّ يوم ونتناول الطعام ثلاث مرّات أو أكثر، ومع ذلك فإنّنا لا نحسّ بقيمة نعمة العافية، ونغفل عن عظيم فضلها.

لا مصلحة لله في شكرنا

ولننظر الى ضخامة وتشعّب الأمور التربويّة والأخلاقية التي أمرنا الله سبحانه أن نلتزم بها وهي في نفعنا نحن، وليس له سبحانه مصلحة سواء تمسّكنا بها أم لم نتمسّك، لأنها ستعود علينا بالضرر إن لم نلتزم بها اجتماعياً وربّما اقتصادياً وثقافياً، وإن التزمنا بها فإن التزامنا هذا سوف لا يضرّه ولا ينفعه.

وحتّى فيما يخصّ العبادة والفرائض العبادية التي أمرنا تعالى بتأديتها، فانّها هي الأخرى تنعكس علينا نفعاً أو ضرراً في الدنيا والآخرة في حالة التزامنا أو عصياننا، كما أشار الى ذلك تعالى في قوله: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ» (الفرقان/77).

فهو سبحانه يأمرنا بالكثير من الالتزامات الأخلاقية كالصدق والوفاء والإخلاص والتضحية والإيثار، وينهانا عن ما يخالفها من السلبيات، ولكنّك ترانا نعمل بما يخالف إرادته سبحانه فلا نلتزم بما أمر، ونفعل الذي ينهانا عنه، فترانا نكذب ونخون ونسرق ونغتاب ونستأثر ونرتكب ما شاكل ذلك من السلبيّات الأخلاقيّة غافلين عن أنّ كلّ واحدة منها تشكل حجاباً يحجبنا عن رحمة الرحمن ولطفه، وقد يستمرّ هذا الحجاب يوم القيامة خمسمائة عام كما تؤكّد على ذلك الروايات.

رحمة الله واسعة

لقد وسعت رحمة الله كل شيء. فنحن وإن ارتكبنا من المعاصي والآثام ما ارتكبناه، وتجمّعت في سماء قلوبنا تلك الغيوم السوداء المدلهمّة، لكنّه تعالى لم يقطع الأمل منّا في اللجوء الى جناح رحمته، ولم يحرمنا من الفرص التي هي واسعة تمرّ ولا يُحْرَم من وافرها إلاّ الشقيّ، ولا يفوز بها إلاّ ذو حظّ عظيم، ومن المؤكد أنّ هذه الفرص تقع في هذه الليلة، ليلة القدر المباركة.

وقد ذكرت الروايات أنّ دمعة واحدة تخرج بصدق من عين تائب صادقاً في توبته، خاشع منكسر لائذٍ بربّه، تكفي لتطفئ نيران وحرّ وادٍ من وديان جهنّم، وما أدراك ما وديانها؟!

فالله سبحانه يحبّ العبد التائب المستغفر المنكسر القلب، الخاشع، وهو أيضاً يحبّ المتطهّرين؛ وغير الآيسين من رحمته:

«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُالرَّحِيمُ» (الزمر/53).

وكثيراً ما نردّد مع أنفسنا ومع الله فنقول: "استغفر الله ربي وأتوب إليه"، ولكنّنا لسنا في مسيرة التوبة، وفي جهتها الحقيقية، لأن التوبة الحقيقية إنّما تصدر من صميم قلب الإنسان ووجدانه وتظهر على حركاته وسكناته وأفعاله، وتظهر على علاقاته مع زملاه ومجتمعه وتعامله مع الناس، ووفائه بالحقوق وما في ذمّته، ثم تبرز سماتها على وجهه.

المعنى الحقيقي للتوبة

فللتوبة معنىً عظيم يحمل أبعاداً واسعة لا يمكن أن تفي هذه السطور حقّها في الحديث عنها، بل تحتاج الى مجلّدات لتفصيلها، فنحن نؤمن بالتوبة، وتلهج بها ألسنتنا، ولكن هل هي التوبة الحقيقية التي يحبّها الله من العبد؟، فنحن نقول إنّنا تائبون، ولكنّنا لو دقّقنا في واقعنا وقلوبنا لوجدنا الكبر والحسد والأنانية مازالت جاثمة علينا، فلا ندع مجالاً للتوبة لكي تتجسّد عملاً بعد أن أُقرَّت لساناً، وإنّه لمن الكبر والغفلة أن ترانا نقنع أنفسنا بأنّنا مؤمنون ومستحقّون للجنّة، ولا ينقصنا من الإيمان شيء، فنأمن عذاب ناره، بينما نحن في واقعنا مملوؤون بالخطايا والذنوب والآثام.

والمجرمون حين يعرضون على النار يوم القيامة تتلى عليهم تلك الاسئلة التي يعرض لها القرآن من مثل: ألم تأتكم آياتي، ألم تأتكم رسلي، ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟ وما شاكل ذلك من أسئلة يذكّرون بها بمهمّات الرسل والبلاغات والإنذارات والتحذيرات وما آلت إليه الأمم الكافرة، وعندما لا يجدون مفرّاً من الاعتراف فيرمون في تلك النار المستعرة، وهيهات لهم من الخلاص والخروج إلاّ برحمة من الله ومغفرة.

فرص ثمينة للتوبة

فتلك الساعات التي نحياها في ليلة القدر هي الفرص المتاحة لنا للتوبة النصوح والانابة الى الله، إنها الساعات التي نرجع فيها إلى ربّنا أذلاّء خاضعين خاشعين، فنطهّر بذلك قلوبنا من الكبر وجنون العظمة بالبكاء والتضرّع والتذلّل والتصاغر والتحاقر لله.

فأنت مؤمن وتعرف أنّ الكبرياء والعظمة إنّما هما لله سبحانه، فليس لك أن تتكبّر وتصاب بالغرور فتأمن سخط الله ومكره وعذابه، فاذرف من تلك الدموع ما شئت لتطفئ تلك الوديان، وديان السعير التي أُجِّجت لعصيانك وكفرك، وتب الى الله توبة نصوحاً، واعبده وأحسن عبادته وأكثر منها، ولا تقل صلّيتُ ما فيه الكفاية، وقرأت من الدعاء ما يكفي، فلا تستكثر إيمانك، فأنت مهما عبدت وصلّيت وأخلصت بقيت محتاجاً وفقيراً في عملك الى الله، وإنّه لمن بقايا الكبر والغرور أن ترى نفسك قد بلغت درجة عالية من الإيمان، لأن المسيرة الإيمانية، مسيرة التقوى، هي كمسيرة العلم، فأنت مهما تعلّمت فإنّك تبقى لا تعلم شيئاً، وهذا المنهج في التقوى علّمنا إيّاه أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام في أدعيتهم وتبتّلهم ومناجاتهم.

طول الأمل نوع آخر من الغرور

وقد يصاب الإنسان بنوع من الغرور هو أخطر على مستقبله الإيماني وعاقبته، ألا وهو الأمل وطول الأمل الذي قيل عنه:

يـا مـن بدنيـاه أشتغـل قـد غـرّه طـول الأمـل

فـالمـوت يـأتـي بغتـة و القبـر صنـدوق العمـل

فأحدنا قد يؤمّل نفسه قائلاً: لقد فاتتني ليلة القدر لهذا العام، وسأتوب في السنة القادمة، أو قد يوفّقني الله لأزور بيته الحرام فأتوب حينئذ هناك، وربّما يجد في نفسه الذنوب والانحراف عن الجادّة فيتماهل في توبته وقت إحساسه هذا ويقول؛ أمامي أعوام أخرى سأتوب الى الله فيها!

وهذه هي الوسوسة التي يحدّث الشيطان بها الإنسان، ولا أدري متى كان الشيطان يحبّ ويريد التوبة للانسان وهو عدوّ لدود له، فالأولى للإنسان المؤمن أن يحذر الشيطان حينما يسوّف له التوبة.

وهناك حقيقة أخرى ذكرتها الروايات وانتبه إليها علماء النفس بتجاربهم، وهي أنّ حالة الوثوق بالنفس تنمو لدى الإنسان كلّما مرّت عليه سنّي العمر، فيزداد إصراره على ما يؤمن ويعتقد به، ولذلك فمن الصعب عليه أن يبدّل عاداته، ومعنى ذلك أنّه لو كان في شبابه لسهلت عليه التوبة، ولكنّه حينما يتقدّم في العمر يزداد رسوخاً في كفره وعصيانه كما يشير إلى ذلك الدعاء الشريف:

"يا ويلتا كلّما كبر سنّي كثرت معاصي، فكم ذا أتوب وكم ذا أعود، ما آن لي أن أستحيي من ربّي". ([48])

وكما يقول تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» (الحديد/16).

ولا أدري متى سنعود الى صوابنا ونعزم على التوبة؟ وإن كانت هذه الفرص والساعات التي نعيشها في ليلة القدر حيث المجالس والاجتماعات الروحانية والأجواء الإيمانية المعطّرة برياحين القرآن والأحاديث الشريفة والأدعية المباركة والمناجاة. أقول: إن كانت هذه الفرص لا تؤثّر في نفوسنا وقلوبنا ولا تطهّر أرواحنا إذن فما أقسى قلوبنا والعياذ بالله!

فلتكن لدينا الهمّة والعزيمة، ولنتّكل على الله في ولوج أبواب رحمته سبحانه وهو أرحم الراحمين.

ضمان الجنة

ومن الأعمال المستحبة الأخرى التي توصّلنا الى رحاب المغفرة والعفو وقبول التوبة قراءة سورة الروم والعنكبوت. فقد روي عن أبي بصير، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه قال: من قرء سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين، فهو والله يا أبا محمد من أهل الجنة، لا أستثني فيه أحداً، ولا أخاف أن يكتب الله عليَّ في يميني إثماً، وإنَّ لهاتين السورتين من الله مكاناً".([49]) وحقّاً فإنّ هذا أمر يثير الدهشة، فأنا حين أقرأ سورة الروم وأتعمّق فيها أقف متسائلاً عن السرّ الذي تشتمل عليه هذه السورة الكريمة والذي جعل الإمام الصادق عليه السلام يؤكّد عليها ويعتبرها مفتاحاً لدخول الجنّة، وهكذا الحال بالنسبة إلى سورة العنكبوت وأيضاً سورة الدخان التي من المستحب قراءتها في هذه الليلة. ترى ما هي أسرار هذه السور المباركة؟

أمّا بالنسبة إلى سورة الدخان؛ فإن سرّها واضح، لأنها نـزلت في ليلة القدر متحدّثة عنها وعن فضلها، ولذلك فإن تلاوتها في هذه الليلة جاءت مناسبة، وأما فيما يتعلّق بسورة العنكبوت؛ فإنها على ما يبدو توحي بأن مثل هذه الدنيا كمثل بيت العنكبوت؛ بحضاراتها ودولها وإمكانياتها وقدراتها، فهي لا قيمة لها، ولا هدف يرجى منها في حدّ ذاتها بل إنّ الآخرة هي الهدف وهي الرجاء، وعلى العكس من ذلك فإن الدنيا واهنة زائلة: «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ» (العنكبوت/41).

مفتاح التقرّب الى الله

فمادام القلب متعلّقاً بهذه الدنيا ولم يخرج حبها منه، فإنه لا يستطع التقرّب الى الله، فلا مناص إذن أن نطرد حبّ الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة من قلوبنا، ونجتثّه من أنفسنا، فلا نعيش على طول المنى والآمال للحصول على المتاع والترف المادّي، ثم ما قيمة اللذّة إن كـان انقضاؤها في دقائق أو ساعات؟ ترى ما الذي تبقى لأولئك الذين انساقوا وراء الملذات ومتع الدنيا وزخارفها، فكم عمّروا وبنوا ومشوا واشتروا، وكم ربحوا ونالوا، ولكن أين هم وأين هي دنياهم؟ لقد تركوها جميعـاً ثمّ رحلوا إلى الدار الآخرة يحملون أوزارها بما لم يشكروا ربّهـم على نعمائـه، وبما لم يعطوا حقوق الغير من حقوق الله كما يقول تعالـى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لاَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (التوبة/34-35).

وهكذا الحال بالنسبة الى الذين ملكوا وحكموا من قبل، فما الذي وجدوه؟ فمنهم من أصبح ملكاً لروسيا وآخر لأميركا، وها هي مذكراتهم تنطق بأحوالهم، فهذا أحدهم يقول: إن عيني لم تر النوم لستة أشهر بسبب ما عانيته من هموم ومشاكل شتّى حتى وصلت الى ما وصلت إليه من ملك ومال وجاه وعظمةً، لكن هذه المظاهر المادية جمعها على حساب راحته وسعادته، فقضى شبابه بالكد والسهر والتعب والهموم والمشاكل.

الشكر يوجب الزيادة

ومن الظواهر التي تكاد تمثّل سنّة إلهية أن الله تعالى حين يعطي شيئاً فإنّ هذا العطاء يكون سبباً في انتقاص شيء مقابله إن لم يكن هناك الشكر؛ فقد يعطي سبحانه نعمة المال الوفير لكنّ هذا المال إن لم يؤدَّ حق الله وحق الناس فيه فيخمّس ويزكّى فانّ لذة الاستمتاع به سوف تنغّص بأمر يحدث أو يساور الإنسان فعندئذ تذهب ذلك المال، فالتاجر -مثلاً- حين لا يوفي الناس حقوقهم فيحتكر ويبيع بأسعار فاحشة ويتركز همّه على جمع الأموال فإنه سيحرم وبسبب الطمع من نعمة النوم والاستقرار الفكريّ، فتراه يعمل نهاراً دون انقطاع، ويعيش ليله في حسابات لا طائل من ورائها، وإذا بالنوم يفرّ من عينيه، والأرق يسيطر عليه ويعكّر راحته وصفوه!

إنّ الإنسان - وبدافع من طمعه وجشعه - يظلّ يأمل ويحلم بالكثير حيث يزيّن له الشيطان سيّء أخلاقه وآماله، وحين يرجع هذا الإنسان الى نفسه، ويعجب لحال الذل الذي آل إليه إذا بملك الموت يقف أماماه ليسترد منه الأمانة وحينئذ لا ينفع الندم إذ الأوان قد فات والآمال تبخّرت وإذا به يصبح مصداقاً لقوله تعالى: «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (الحج/11).

فلا عمل صالح يرفع عنه العذاب وأوزار ما حمله من دنياه تثقل ظهره، ولا فرصة يكفّر فيها عن ذنبه ويتوب إلى ربّه.

فملك الموت - مهما تأخّر عنك ولو أعطيت ألف سنة من العمر - فإنّه حينما يأتي ستستقل عمرك والفـرص التي أتيحت لك في الحيـاة، كما قال تعـالى: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ» (البقرة/96).

للشرك معنى واسع

فطول الأمل والحرص هما من سمات المشركين بالله، والشرك ليس هو عبادة الأصنام والأوثان فحسب؛ بل إنّ له عشرات المذاهب والصور، والمال قد يصبح سبباً في نوع من أنواع الشرك وصوره؛ فالذي يفكّر ماذا سيربح غداً وبعد غد، وكيف ستكون تجارته في العام القادم وما بعده، وكيف سيحصل على المزيد والمزيد ليؤمّن حياته بهذا المال، فإنه سينسى الله ويعبد هذا المال، وهذا هو الشرك الصريح والواضح.

فكلّ ليلة قدر فرصة العمر الثمينة، فلنشدّ الرحال، رحال الإيمان والتقوى ولنسافر في رحابها وأجوائها الى الله تعالى، "والراحل إليك يا ربّ قريب المسافة منك، وأنت لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال السيئة دونك". ([50])

فنسأل الله بحق نبيّه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله أن يعيننا في ليلة القدر على أنفسنا ويرزقنا عزيمة التوابين والمؤمنين، ويوفّقنا للاقتراب منه، فقد خُلقنا من ضعف فصار هذا الضعف جزءً من كياننا، فمثلنا كمثل الذين وقع في بئر فلا يستطيع الخروج منها إلاّ بوسيلة تعينه على ذلك، فنسأل الله أن يمدّنا بهذا الحبل لنعتصم به ونخرج من ذلّ وشح أنفسنا ومن أحلامنا وأوهامنا ووساوسنا. وتلك هي مضامين ومعاني سورة العنكبوت المباركة.

مضامين سورة (الروم) الأخلاقية

أما سورة الروم؛ فهي تحدّثنا عن أهم عبادة، والتي أشار إليها الحديث المروي عن زرارة، عن أحدهما (الإمام محمد الباقر أو الإمام جعفر الصادق) عليهما السلام، قال: "ما عُبد الله عز وجلّ بشيء مثل البداء".([51]) فهي تعني أنّ الله إذا أراد أن ينظر إليك ويهبك مّما لا تتصوّره فانه سبحانه يفعل ذلك بإرادته ومشيئته وليس مهمّاً من تكون أنت، وعندها قد تتحوّل الى شخصية خيّرة طيبة مؤمنة متقية مخلصة كشخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، أو شخصية سلمان وعمّار بن ياسر وغيرهما من الصالحين، وليس ذلك على الله بعزيز إن أنت عقدتَ العزم وخضت الغمار في رحاب الله وقدسه، فأعطيت ليلة القدر وكلّ الليالي والأيام حق الله فيها، وسلكت فيها سبل النجاة.

ولا يغيب عنا إن الشيطان قد يكرّس اليأس في قلب الإنسان بحيث يجعله لا يفكر في التوبة ولا يمنّي نفسه بها، وبالتالي يمضي في غيّه وضلاله وظلمه لنفسه وللناس، فيرتكب ما يرتكبه من المحرّمات والفجور والخطايا.

فعلى الواحد منّا إن هو ارتكب ظلماً أو إثماً أن لا ييأس من روح الله فيحسب نفسه من أهل النار وأنّه لا مفرّ له منها، وأنّ الله لن يتوب عليه، بل على العكس من ذلك فإنّ الله يحبّ العبد حين يلح عليه بالتوبة، فلابدّ أن تحلّ ساعة خشوع وخضوع وانكسار ورقة في القلب متناهية فيسيل على أثرها الدمع مختلطاً بنغم النحيب الذي تغرفه أوتار القلب النادم الذليل المنكسر الخاشع التائب فتطفئ ألسنة النيران في وديان السعير:

"ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينك أين كنت يا وليّ المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين". ([52])

قصّة طريفة في هذا المجال

ولا بأس هنا أن أذكر واقعة حدثت لي أثناء الحج؛ إذ كان في سفرنا الكثير من الناس الذين كانوا على تباين كبير في تقواهم وإيمانهم، ومن بينهم كان هناك رجل جاء حاجاً وهو لا يفكّر في هذه الفريضة، ولا يستشعر في وجدانه أحاسيسها ومشاعرها، فكان يهتم بما يشبع بطنه وما يجعله يؤمّن نوماً ريحاً، وماذا سيشتري من الهدايا، وكأنه جاء لتحقيق هذه الأغراض المادّية فحسب، فكنت أنصحه وأنبّهه بقدسيّة الحج وقدسيّة مناسكه وأماكنه كعرفات ومنى والمشعر وما إلى ذلك، فكان لا يصغي لي ولا يهتم بتذكيري حتى بلغت مناسك الحج الطواف، فقد انتهى الطواف وكان قلبه ما يزال قاسياً لا يلين، أي أنّه كان يطوف ويردّد التلبية ولكنّه منصرف في فكره عن ذلك كلّه فلا يشعر بحلاوة الطواف ولذّته.

وعند انتهاء طواف الوداع المسمّى بطواف النساء وفي اللحظات الأخيرة لاحظت ذلك الرجل اللاأباليّ قد تغيّر حاله، فراح يبكي وينتحب انتحاباً شديداً، فاجتمع الناس حوله، فحاولت أن أهدّئه ولكني لم استطع فبقي على حاله هذه فترة طويلة حتّى هدأ شيئاً فشيئاً، ففكرت في نفسي قائلاً: يا سبحانه الله! لقد كان لحظة صعقة بنور الله أوقظت روحه وضميره.

وهكذا الحال بالنسبة لنا، فيجب علينا أن لا نيأس من روح الله، علّ مثل تلك الصعقة الربانية أن تدركنا فتوقظ فينا الضمير والروح، وعسى أن تهبط علينا وترسل موجة من أمواج النور الالهيّ فننقلب برحمة من الله على أوضاعنا التي كنا عليها بالأمس، ولا يكون ذلك إلاّ بالإخلاص وعقد العزم على ولوج طريق التوبة، فتبدأ مثلاً من هذه البصيرة، التي قالها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "أنت كما أحبُّ فاجعلني كما تحبُّ". ([53])

فحاول أن توصل نفسك الى مرحلة العزيمة والثقة في تغيير ما في نفسك وكما يريد الله منك وهو معينك لا محالة: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (العنكبوت/69).

محور سورة الروم

أمّا المحور الذي تدور حولـه سورة الروم بآياتها المباركة؛ فهـو كون الأمور جميعاً بيد الله، يفعل بها ما يشاء: «لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (الروم/4)، فالله سبحانه هو مقلّب القلوب والأحوال، وهو الذي يقرّب الإنسان منه ويدينه إليه أو يبعده عنه ويقضيه، ولعلّ أحداً منا لا يجهل قصّة ذلك البطل "الحر الرياحي" ومواقفه في كربلاء بين أمسه ويومه، أفليس هو الذي حال بين الحسين عليه السلام وبين العودة الى الحجاز، فأبى إلاّ أن يسلّمه لعبيد الله أو يسلك سبيلاً لا يؤدّي إلى الكوفة أو الحجاز، لقد كان ذلك في أمس كربلاء، حيث لم يصح ضميره بعد رغم أنّه قد عرف الحسين عليه السلام، وعرف ابن من هون ومن التي ولدته؟

لقد كانت الغشاوة ما تزال تغطّي قلبه، حتّى بدأت الجذوة تتّقد شيئاً فشيئاً في ضميره حين عرف نوايا القوم، واتّضحت له أهدافهم، فقال قولته المشهورة: "إني لأخيّر نفسي بين الجنّة والنار"، فما أعظم وأحلى وأطيب الإنسان حين يستيقظ منه الضمير والوجدان الخالصان النقيّان، وحين يعود الى ربّه، وقد جسّد الحرّ الرياحيّ ذلك بقوله: "والله لا أختار على الجنّة شيئاً". فهزّ اللجام وراح صوب مولاه، ووقف بين يديه قائلاً: "عذراً أبا عبد الله! فأنا الذي فعلت بك كذا وكذا..." إلى آخر ذلك الموقف المشرّف؛ موقف التوبة النصوح.

فالمسافة بين المعسكرين كانت قصية في الحساب المادّي، ولكن هل تعلمون أنّ هذه المسافة في حقيقتها وبقياس المعنويات والقيم الروحيّة هي أكثر وأوسع من ذلك بكثير، ولعل أدقّ تعبير يصف هذه المسافة أن تقول إنها الطريق بين الجنّة والنار.

فكلّ واحد منّا يشعر أن كاهله قد ثقل من الأوزار أن يضع نصب عينيه موقف الحرّ وأمثاله، فلا ييأس من رحمة الله، لأنّ الأمر كلّه بيد الله: «لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (الروم/4)، فليس هناك أمر يصعب عليه سبحانه فهو يفعل ما يريد.

الاستغفار هو البداء

ليس من الصحيح أن نحكم على أحد ما بكونه من أهل جهنّم، فما أدرانا لعلّه أن يتوب ويستغفر فيتوب الله عليه، ويغفر له، وهذا هو البداء، الذي جسّده تعالى بقوله: «لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ».

والبداء هذا يتّصل بفكرة الحرية الأساسية في الإسلام، ولذلك كان نفحة من نفحات الحضارة الراقية، لأنّه بالشكل الذي عرضناه يدلّنا على انسجام المجتمع، وتماسكه، ووحدته، وخلوصه شيئاً فشيئـاً لله سبحانه، فيصبح عندها مجتمعاً حرّاً كريماً، وهذه هي سمـة التمدّن الحضاري المنشود.

ويعتبر الدعاء من أعظم المظاهر التي يتجلّى فيها البداء، ولذلك كان الدعاء مخّ العبادة، كما جاء عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام؛ رجلان افتتحا الصلاة في ساعة واحدة فتلا هذا من القرآن فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا فكان دعاؤه أكثر من تلاوته ثمَّ انصرفا في ساعة واحدة أيهما أفضل؟ فقال: كلٌّ فيه فضل، كلٌّ حسن. قال: قلت قد علمت أنَّ كلاً حسن وأنَّ كلاً فيه فضل. فقال: الدُّعاء أفضل، أما سمعت قول الله تبارك وتعالى «وَقَال رَبّكم ادْعُوني اَسْتَجِبْ لَكُم إنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبرونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهنَّمَ دَاخِِرينَ». هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست هي العبادة، هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست أشدّهنّ، هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدهنَّ. ([54])

والقـرآن الكريم يؤكد على الدعاء في الكثير من آياته كقوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (غافر/60) وقوله: «وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (البقرة/186) وقوله: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً» (الفرقان/77).

فعلنيا أن نتوجّه إلى الله بكل جوارحنا، وبقلوب نقية، وخلوص نيّة، فندعوا ربنا ولا نكون مصداقاً لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر/60).

فلنجد في الدعاء، ولا نيأس ولا نتكبّر ولا نكن غافلين عنه، فهذا هو الله سبحانه معنا أينما كنّا، ولا شيء يفصل بيننا وبينه إلاّ الذنوب، ولذلك كان الوصول إليه واجتيازها عبر جسر التوبة النصوح، وطلب المغفرة، والدعاء، فلنقف بين يدي الجليل سويعات بقلوب منكسرة وعيون تفيض بالدمع، ولنعرض ونعترف بذوبنا وخطايانا وظلمنا أمام الله، ولنتب إليه، ونعاهده على أن نردّ مظلمة كلّ من ظلمناه، وحقّ كلّ من بخسناه حقّه فأكلناه بالحرام، ثم لنسأله سبحانه أن يغفر لنا، ويتوب علينا، فهو التواب الرحيم ذو المغفرة.

أسأل الله سبحانه أن يجعل في هذا الدعاء بركة لنفسي ولإخواني، وأن يعرّفنا فضيلة ليلة القدر، وشرفها، ويعيننا على أنفسنا، وينصرنا على عدوّنا وعدوّه الشيطان الرجيم، انّه ولي التوفيق.

ليلة القدر خير من ألف شهر

في حديث مروي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حدّد فيه هدف خلقة الإنسان ضمن كلمات مختصرة هي غاية في العبقرية والبلاغة، إذ يقول صلوات الله عليه:

"أيها الناس؛ إن الله تبارك وتعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب، والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب، والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم، والترهيب لا يكون إلاّ بضد ذلك. ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات ليستدلّوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة. وأراهم طرفاً من الآلام ليستدلّوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة، ألا وهي النار. فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها.([55])

إن هذا القول الشريف تجسيد خالص لنظرية الإسلام في سبب الخلقة، النظرية التي احتوتها عشرات الآيات القرآنية ومئات الروايات التي وصلتنا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام، وتناولها العلماء الاعلام قدس الله أرواحهم بالشرح والتفصيل. وعن هذا الحديث يقول الجاحظ وهو من أشد المعاندين لحق أئمة أهل البيت ما نصه: "هو جُماع الكلام الذي دوّنه الناس في كتبهم، وتحاوروه بينهم". أما أبو علي الجبائي وهو من كبار علماء الكلام فقد قال حينما سمع كلام الجاحظ ووصفه: "لقد صدق الجاحظ، هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان".

وكما هو واضح، فإن المفاهيم التي انطوى عليها حديث أمير المؤمنين عليه السلام مناسبة تماماً بالنسبة الى سياق أحاديثنا في هذه الأيام الرمضانية الجليلة، لا سيما وأن هذه الأيام قد اجتمعت فيها مناسبتان عظيمتان؛ إحداهما استشهاد سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام، والذي نحزن لحزنه ونفرح لفرحه ونقتدي بهديه، ويشعّ على قلوبنا إن شاء الله تعالى نور ولايته. والمناسبة الثانية هي ليلة القدر التي تبيّن للناس أكثر من غيرها عظمة الهيمنة الإلهية عليهم والعناية الربانية بهم؛ الليلة التي هي مهبط الملائكة الداعين بالمغفرة لبني البشر. وهذا الهبوط قد يكون رمزاً يستطيع الناس الاستلهام منه، كلٌ حسب مستوى إدراكه ووعيه..

إن الله جل جلاله وصف نفسه بـ «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» والرحمن في اللغة يعني واسع الرحمة، والرحيم يعني عميم الرحمة ودائمها. فهو - عظمت قدرته- تشتد عنايته بالناس في ليلة القدر، إذ جعل الله سبحانه هذا الاشتداد قريناً بما يقرّر الإنسان لنفسه من مصير، لا سيما وأنه قال في القرآن الكريم في وصف ليلة القدر بأنها: «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (القدر/3) أي ما يساوي معدل عمر الإنسان تقريباً. ثم قال عنها أيضاً: «سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (القدر/5) وقد ترتل الآيات وتتوقف بعد كلمة «سَلاَمٌ» أو قبلها في اختيار المعاني التي تعطيها القراءة. ففي كل أمر يقضى من ربّ العباد سلام، وفيها سلام وتحية للإنسان من خالقه، فينبغي له أن يرد التحية ويقول: يا رب؛ وعليك السلام ومنك السلام وإليك السلام وأنت السلام، حتى يُدخله الله سبحانه وتعالى دار السلام ويهديه سبل السلام. إذ في طريق الإنسان الذي يوصله الى رضوان الله تعالى مئات أو آلاف العثرات والسقطات والمهاوي والأخطار. ومن الممكن أن يكون السقوط والضياع والانحراف في أية واحدة من هذه العثرات والمهاوي.

فالمرء معرّض بين لحظة وأخرى الى الأخطار الجسيمة، وهذه الأخطار لا تتمثل في الموت أو المرض، فهذان الأمران ليسا سوى حالتين مكتوبتين ومقدرتين على الناس كما كتبتا وقدّرتا على الأنبياء وسائر المخلوقات الحيّة الأخرى. إن الخطر الأعظم هو خطر الانحراف عن جادة التوحيد وعبادة أرباب آخرين من دون الله جل جلاله. الخطر الحقيقي يكمن في أن يصل الحال بالإنسان الى أن ينادي من قبل الرب بأن يعمل ما بدا له فهو لن يُغفر لـه...

الخطر الأول والأخير أن تكون حالة الإنسان كحالة ذاك الذي قصّ الإمام الصادق عليه السلام قصته حيث قال: "اُقعد رجل من الأخيار في قبره فقيل له: إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله. فقال: لا اُطيقها. فلم يزالوا به حتى انتهوا إلى جلدة واحدة، فقالوا ليس منها بدّ. فقال: فبما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك لأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره. قال: فجلدوه جلدة من عذاب الله عزّ وجلّ، فامتلأ قبره ناراً". ([56])

أقول: إن ليلة القدر فيها من العظمة مالا يعدّ أو يوصف، حيث حيى فيها الرب عبده الإنسان، فكان من الواجب عليه أن يطلب العبد الى سيده الهداية الى سبل السلام وإلى الورع والتقوى، فمن دونها يصبح هذا العبد عرضة لعواصف السقوط والانحراف والضياع الأبدي، ويكون كما الجسد الفاقد المناعة، فما أن يدخله الداء حتى ينتشر في أوصاله ويقضي عليه. كذلك الإنسان لابد له من الطلب إلى بأن يزوده بالتقوى واليقين وأن يتـزوّد بهما، فهما خير زاد وخير لبوس ودرع وحصن.

إن الإنسان ينبغي عليه أن يعرف بأن الله سبحانه وتعالى إذ يأمره وينهاه، إنما لحبّه له وحنوه عليه. وهذا الحب لابد وأن يقابل بحبّ متقابل، ولو كلّف ذلك تضحيةً وصبراً وصعبة. فمهما يبذل الإنسان في هذه الدنيا من تضحية فهو لا يعدو كونه قد ضحّى برخيص في مقابل الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بأن ينصر من ينصره وأن الجنة قد أُعدّت للمتقين..

أقول؛ إن الناس مدعوون في هذه الليلة بشكل مباشر إلى التعمق والتدبر والتبصر في حكمة وجود الإنسان وسر خلقته أساساً.

ويؤكد القرآن العظيم عن لسان الله سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات/56) ويفسر الإمام الحسين بن علي عليهما السلام هذا المنطوق: بـ: "إنَّ الله جلَّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه. فقال له رجل: يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كلِّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته. ([57])

إن العلاقة بين مناسبة حلول ليلة القدر وحلول ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي هو أبو الأئمة في تشابك بليغ. فالملائكة حين تتـنـزّل في هذه الليلة إنما تتـنـزّل على حجّة الله ووليه عليه السلام، ولهذا فإن من الأهمية بمكان أن يسعى الإنسان المسلم الى تحديد قراره المصيري بشأن عقائده وسلوكياته في هذه الدنيـا بدقة متناهية، فإن كان يطلب النجاة الى الجنّة فعليه أن يعرف سادة الجنة، وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت المعصومين عليهم السلام.

وليحاول الواحد منا في هذه المناسبة الجليلة أن يكون إيمانه بالمفاهيم الدينية إيماناً مستقراً عميقاً، لا إيماناً مستودعاً سطحياً. وهذا الإيمان لا يستقرّ في قلب المرء ما لم يتبصر موقعه في الدنيا ومن الدنيا، ومالم يتعرف أو يحاول التعرّف الى الدار الآخرة، فهي خلقت من أجل الإنسان وبإرادته.. إذ لو لم ينتخب الناس أو بعضهم طريق السعادة لما خلقت الجنة، ولو لم ينتخب الباقون الذنوب لما خلق الله النار.

وهذه النعم القائمة بين أيدينا إنما هي دلائل النعم الأبدية التي سينالها المؤمنون في جنّات الله، أما الآلام البدنية والنفسية فهي الأخرى أمارات غضب الله الأخروي وما أعده للمذنبين المسرفين.

في الحياة الأولى؛ حينما يصل الألم الى درجة معينة يغمى على المريض فيفقد الاحساس بالألم، وإذا بلغ مرتبة أشد سيموت؛ وهذا من رحمة الله بعباده أن جعل حدّاً محدوداً لألمهم. لكنّ آلام يوم القيامة ليست على هذه الصورة وهذه البساطة، فالله عز وجل يقول: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً» (النساء/56) فالألم في جهنم لا تحدّه الضوابط ولا تتعرض له الرحمـة. «وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ» (الزخرف/77).

فلا تجديد في القضاء والحكم، ولا نهاية للألم، بل هناك نار سجّرها جبّارها لغضبه. أتعلم أيها الإنسان الغافل ماذا يفعل العطش بأهل النار؟ إنه يشتد عليهم الى درجة يؤتى اليهم بالماء وهو يغلي بمعدن مذاب أو بصديد لا توصف رائحته، وعندما يشربونه يتساقط لحم وجوههم فيه، ولكن مع ذلك فهم يشربون لشدة العطـش. وهذه صورة مبسطة من صور جهنم أعاذنا الله وإياكم من دخولها -.

أما الجنة؛ ففيها من النعيم الأبدي ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. النعيم الخالد الذي يتوجب على الناس أن يهرعوا إليه ويطلبوه من الله سبحانه بكل حماس وإصرار. فمن أكثر طرق الباب أوشك أن يسمع الجواب، ومن لجّ ولج. وهذا الإلحاح المتواصل والمطلوب هو لإسقاط الحجب المتراكمة على قلب الإنسان؛ حجاباً بعد حجاب، فيومئذ لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ليصل الى معدن النور.

ومن صفات الجنّة ما جاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في خطبة طويلة:

"من تولّى أذان مسجد من مساجد الله فأذّن فيه وهو يريد وجه الله أعطاه الله عزّ وجل ثواب أربعين ألف ألف نبي، وأربعين ألف ألف صدّيق، وأربعين ألف ألف شهيد، وأدخل في شفاعته أربعين ألف ألف اُمّة، في كل اُمّة أربعين ألف ألف رجل. وكان له فـي كـل جنة من الجنان أربعين ألف ألف مدينة، في كل مدينة أربعون ألف ألف قصر، في كل قصر أربعون ألف ألف دار، في كل دار أربعون ألف ألف بيت، في كل بيت أربعون ألف ألف سرير، في كل سرير زوجة من الحور العين؛ سعة كل بيت منها مثل الدنيا أربعون ألف ألف مرة، بين يدي كل زوجة أربعون ألف ألف وصيف وأربعون ألف ألف جارية وأربعون ألف ألف وصيفة، في كل بيت أربعون ألف ألف مائدة على كل مائدة أربعون ألف ألف قصعة فـي كل قصعة أربعون ألف ألف لون من الطعان، لو نـزل بـه الثقلان لأدخلهم أدنى بيت من بيوتها، لهم فيها ما شاؤوا من الطعام والشراب والطيب والثمار وألوان التحف والطرائـف من الحلـيّ والحلل، كل بيت منها يكتفي بما فيه من هذه الأشياء عمّا في البيت الآخر. فإذا أذّن المؤذّن فقال أشهد أن لا إله إلاّ الله اكتنفه أربعون ألف ألف ملك كلهم يصلّون عليه ويستغفرون له وكان في ظل الله عزّ وجل حتى يفرغ وكتب له ثوابه أربعون ألف ألف ملك ثم صعدوا به الى الله عز وجل".([58])

هل اشتقت الى الجنـة أم لا؟ إنك ستدخل الجنة وما تقدم وصف واحد من أوصافها فقط بشرط وحيد و هو «فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ» (البقرة/132).

ولقد جاء في الحديث أن في صحف موسى بن عمران: "يا عبادي إني لم أخلق الخلق لأستكثر بهم من قلة، ولا لآنس بهم من وحشة، ولا لأستعين بهم على شيء عجزت عنه، ولا لجرّ منفعة ولا لدفع مضرة. ولو أن جميع خلقي من أهل السماوات والأرض اجتمعوا على طاعتي وعبادتيّ لا يفترون عن ذلك ليلاً ولا نهاراً مازاد ذلك في ملكي شيئاً سبحاني وتعاليت عن ذلك". ([59])

وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولـم يتركه سدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة، ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم الى نعيم الأبد". ([60])

إن الله سبحانه وتعالى غني عن العباد على الإطلاق، إلا أنه أحب أن يدخلنا جنّاته وأن يصيبنا رضوانه؛ فلماذا نبخل على أنفسنا بالجنة، ونغفل عن هذا الكرم والحب والرأفة بنا؟ ولماذا نضيّع من بين أيدينا عميم الفائدة التي تكتنـزها ليلة القدر المباركة؟

و لا يغيب عنا إن عهد المؤمنين الصادقين بالله في الدنيا هو عهدهم به

في الآخرة، إنهم على يقين من أمر ربهم وأمرهم، وإنهم ليرون بعين القلب الحكمة من وراء خلقهم ووجودهم في الدنيا، ويطلعون اطلاع الخبير على ما أعدّ الله تبارك وتعالى لهم في الآخرة. لذلك فإنه لم يكن من الغريب على شخصية فذّة كشخصية أمير المؤمنين عليه السلام أن يؤكد لنفسه وللمسلمين أنه قد فاز مقسماً برب الكعبة، إذ قال عندما ضربه ابن ملجم على أم رأسه بسيفه القاتل: "فزت ورب الكعبة".

نسأل الله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة المعصومين من أولاد الحسين وبحق كل نبي وصدّيق وشهيد ومؤمن أن يجعلنا من عباده المرحومين ولا يجعلنا من المحرومين، وأن يحيينا بالإيمان ويميتنا عليه، وأن يحسن عاقبتنا بفضله، وأن يجعلنا من المهتدين ويلحقنا بالصالحين بحق محمد وآله الهداة الميامين.

ليلة تنـزّل الملائكة والروح

بِسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيمْ

« إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (القدر/1-5)

توقف المفسّرون التابعون لمذهب أهل البيت عليهم السلام طويلاً عند كلمة (تنـزّل) التي هي في الأصل (تتنـزّل). فهي كلمة تدلّ على الاستمرار، لأن صيغة المستقبل والمضارع لا تدلّ على المستقبل فحسب، وإنّما تدلّ على حالة الاستمرار والتداوم والتواصل.

وعند هذه الكلمة تتبيّن ميـزة عظيمة يتميّز بها مذهب أهل البيت عليهم السلام عن كلّ المذاهب. فبينما ترى الديانات القائمة اليوم والمذاهب المعاصرة أنّ الاتصال بين ربّ العباد وأهل الأرض قد تمّ في فترات محدّدة تأريخياً ثم انقطع؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أناساً يزعمون ان الاتصال بين السماء والأرض قد انقطع بعد مقتل عيسى عليه السلام - حسب زعمهم - وهكذا الحال بالنسبة الى اليهود الذين يرون أنّ هذا الاتصال قد انقطع منذ أربعة آلاف سنة.

هذا في حين أنّ مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي يمثّل جوهر الإسلام نراه يتميّز بانّه يؤمن أن هذا الاتصال ما يزال قائماً وسيظلّ قائماً إلى يوم الدين. فهناك في كل عام ليلة هي ليلة القدر، تتنـزّل فيها الملائكة على حجة الله فوق الأرض، والذي هو الإمام المهدي الحجة بن الحسن عجل الله فرجه. فمذهبنا يؤمن أنّ الأرض لا يمكن أن تخلو من حجّة، وأنّ الله تبارك وتعالى لا يترك الأرض سدىً، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم.

صحيح أنّ الإمام عليه السلام مغيّب، ولكنّ حجاب الغيبة لا يمنع آثار الخير والبركة. فأثر الرسول صلى الله عليه وآله في أمّته لم يكن أثراً مادّياً فحسب، والدليل على ذلك قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (الانفال/33) فمجرد وجود الرسول صلى الله عليه وآله بين أمّته هو رحمة، وتبليغه للدعوة هو إضافة لهذه الرحمة. ونحن نعلم أنّ الله عزّ وجل لم ينـزل العذاب على قوم إلاّ بعد أن أمر رسوله أن يترك قومه.

فوجود الإمام الحجة عليه السلام في هذه الأرض يمنع عنها النكبات والنقمات وعذاب الاستئصال، وهذا هو واحد من أبعاد أثره، وهناك أبعاد أخرى لا ندركها رغم انّها موجودة، وملموسة الآثار.

وأهل البيت عليهم السلام يأمروننا ان نستدلّ بسورة القدر على استمرار التواصل بين الأرض والسماء. فحجّة الله تعالى في هذه السورة بالغة علينا، فهو عز وجل يصرّح بانّ الملائكة تتنـزّل في ليلة القدر. ومعنى التنـزّل الإنزال على شكل مراحل، وفي نهاية الآية تفسير وبيان لما تتنـزّل به الملائكة وهو الذي يشير إليه تعالى في قوله: «مِن كُلِّ أَمْرٍ».

ما هو الروح؟

وقبل أن نقف قليلاً عند هذه الكلمة لابدّ من وقفة أخرى عند قوله عزّ من قائل: «الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ». فالظاهر من هذه الآية أنّ الملائكة شيء، والروح شيء آخر، لأنّ الشيء لا يمكن أن يُعطف على نفسه. وعلى هذا؛ فإنّ الروح غير الملائكة، فمن هم، ولماذا ينـزلون في ليلة القدر، وهل يمثّلون شخصاً واحداً أم أشخاصاً متعدّدين؟

لقد اختلف المفسّرون كثيراً في تفسير هذه الآية، فمنهم من قال إنّ الروح يمثّل إشراف الملائكة، وقال بعضهم بل إنّ الروح هو شخص جبرائيل عليه السلام؛ أي الروح الأمين، ولأنّه يتنـزّل في هذه الليلة فقد خصّه الله عز وجل بالذكر للإشارة الى ميزته وخصوصيّته.

الآثار العمليّة للإيمان بالملائكة

ومما يجب على كلّ واحد منّا الإيمان بالملائكة، فهم وسائل رحمة الله، وسبل مواهبه. كما أنّ من الواجب علينا أن نحبّ جبرائيل عليه السلام كما نحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله، لأن حبّ الملائكة يدفعك الى أن تتشبّه بصفاتهم، وتقترب من أعمالهم وأفعالهم. فالآيات القرآنية التي تذكّرنا بالملائكة، لا تذكّرنا عبثاً، بل لكي يجري في داخلنا تحوّل باتجاههم.

ولأننا ينبغي أن نضمر الحب للملائكة، فانّه من الواجب علينا أن نصلح أنفسنا وواقعنا لكي تتنـزّل الملائكة على بيوتنا. فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويذكر فيه الله، ويتدارس العلم، والبيت الذي يعمّه الخير والفضيلة والحبّ وكان منبعاً للإحسان الى الناس، هذا البيت تتنـزّل فيه الملائكة.

أمـا البيت الذي يمتلئ غيبة ونميمة وتهمة وسوء ظن وريـاءً وغنـاءً

وطرباً.. فانّ الملائكة لا تقترب منه، وعندما تبتعد الملائكة تحلّ الشياطين.

فلنعش مع الملائكة ولنكنّ الاحترام والتقدير لهم دائماً، ولنحاول أن نكرّس في أنفسنا حبّهم.

(الروح) غير الملائكة

ها هي أحاديث أهل البيت عليهم السلام تصرّح أن الروح هو صنف

آخر غير الملائكة، بل هم خلق أعظم من الملائكة ومن جبرائيل نفسه وميكائيل وإسرافيل. ويظهر من بعض الروايات أن إسرافيل هو أقرب الملائكة الى الله سبحانه وتعالى، وهناك روايات أخرى تفيد أنّ جبرائيل هو الأقرب. ولكنّ الذي يبدو من مجمل الروايات أنّ إسرافيل هو أقرب الملائكة، لأنّه آخر ملك يبقى بعد قيام الساعة. ومع ذلك فإنّ إسرافيل ليس بأعظم من الروح، وهذا الروح على عظمته يتنـزّل على الإمام الحجة عليه السلام، وهنا يمكننا أن نعرف جانباً من عظمة الإمام المهدي عجل الله فرجه، بل جانباً من عظمة الإنسان عندما يعبد الله عز وجل حق عبادته بحيث يصل الى درجة يتنـزّل فيها الروح عليه. فالإنسان المخلوق من لحم ودم يصبح بفضل الله في مستوىً ينـزّل فيه الروح عليه.

وعلى هذا الأساس؛ فانّ الروح هو خلق من خلق الله جل ثناؤه، وأنّه يؤيّد به ملائكته. فاذا ما سمعنا أنّ جبرائيل يسمّى بـ (الروح) فلأنّ الله يؤيّده به كما يؤيّد نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسائر الأنبياء، ويؤيّد كذلك المؤمن الصالح من روحه. وأقصد بالروح هنا (النور)؛ أي أنّه يؤيّده تأييداً عينيّاً بالروح. فالروح يتلقّى النور من الله جل وعلا، ومنه ينبعث الى الملائكة؛ أي أنّ الله يؤيد كلاًّ من الملائكة والرسل بالروح.

وفي الحيقيقة؛ فانّ هذه هي الروح التي سألوا النبي صلى الله عليه وآله عنها، وأشار إليها تعالى في قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» (الاسراء/85) فجاءهم الجواب: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (الاسراء/85). وهي نفسها الروح التي قـال عنها عز من قائل: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة/87). وأخيراً هي الروح التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة القدر قائلاً: «تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا».

(فروح القدس) هو خلق أعظم من الملائكة، وبواسطته تؤيّد الملائكة والأنبياء والصالحون، ومن خلالها أيضاً تؤيّد أرواحنا الموجودة في أجسامنا.

الخطّ الفاصل بين الشرك والتوحيد

وفي قوله تعالى «تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم» فكرة دقيقة، وأشارة لطيفة الى الخطّ الفاصل بين الشرك والتوحيد؛ فالمشركون كانوا يزعمون أنّ في الكون قوىً فاعلة غير الله سبحانه وتعالى؛ أي أنّهم كانوا يزعمون أنّ هناك حالة من الانفصام والتناقض بين الملائكة، وبين الله تعالى شأنه، ولذلك فإنّ فكرة الشفاعة عندهم كانت تنبع من هذه الزاوية. فكانوا يتوهّمون أنّ الملائكة تحتمّ على الله تقدّست أسماؤه الشفاعة، فإذا اذنبوا ذنباً لا يرضى الخالق عنه، فإنّ الملائكة تفرض على الله تعالى أن يغفر لهم ذنوبهم!

أمّا الإسلام؛ فيرى أنّ الملائكة عبادٌ لله لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون - كما قال القرآن - وهذه هي عقيدتنا في الأنبياء عليهم السلام أيضاً، فهم عظماء ولكنّهم عبيد الله أمام الله. وهذه العقيدة هي الحدّ الفاصل بين الشرك والتوحيد. فلنا الحق في أن نعتقد بالإنسان أنه مؤمن وعالم ومجاهد.. ولكن ليس لنا الحق مطلقاً في أن نعتقد أنّه متّصل اتصالاً مباشراً بالله سبحانه وتعالى. فالعبد مهما ارتفع، ومهما تقرّب الى الله، فانه لا يستطيع أن يصل إليه، لانّ الله خالق وهو مخلوق، والمسافة بين الخالق والمخلوق تبقى موجودة دائماً. ولذلك فإنّ القرآن الكريم لم يطرح مطلقاً مفهوم (الاتّصال المباشر بالله)، بل طرح مفهوم (التقرّب) لكي يبقى الخالق خالقاً، والمخلوق مخلوقاً.

ويقول تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم» فعلينـا أن

نتوقّف عند مثل هذا التعبير «بِإِذْنِ رَبِّهِم»، فالملائكة لا تسبق ربّها بالقول، بل هي وسائل. فالتوجّه الأوّل يجب أن يكون الى ربّ هذه الملائكة، لا إلى الملائكة نفسها.

أمّا بالنسبة إلى عبارة «سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ». فالسلام يعمّ أرجاء هذه الليلة، وأيّ سلام أعظم من إرسال الله عز وجل ملائكته إلى الانسان، هذا العبد المحدود، الموجود الضعيف، المخلوق من عجل، الهلوع... يبعث الله له سلاماً، ويرسل له الملائكة والروح، ولكنّ الشقيّ من يحوّل هذا السلام الى عذاب، فيسلّم عليه ربّه ولا يجيبه، ويدعوه الى ضيافته فلا يقبل دعوته!!

كلمة الى الشباب

وهنا أوجّه حديث الى الشباب بالخصوص، وأطلب منهم أن يعوّدوا أنفسهم على الممارسات العباديّة من تعبّد وتهجّد وخضوع؛ وعلى سبيل المثال فإن قراءة دعاء (أبي حمزة الثمالي) جنّة من الخطايا والتعلّق بالدنيا. فمن المفروض في الشاب المسلم أن يتقرب إلى الله سبحانه ويشعر أنّه يتحدّث مع الخالق، وأنّ الخالق يتحدّث معه، وفي هذا ا لمجال يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "وأنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك، وقد قصدت إليك بطلبتي، وتوجهت إليك بحاجتي، وجعلت بك استغاثتي، وبدعائك توسلي من غير استحقاق لاستماعك مني".([61])

إن شهر رمضان يمثّل فترة زمانية محدودة لا تلبث أن تنتهي، وفي السنين القادمة لا نعرف هل سنكون من الأحياء أم الأموات. فعلينا أن نحذر من التسويف في استغلال هذا الشهر المبارك العظيم، وأن نترك الممارسات التي لا طائل من ورائها من مثل الحضور في المجالس التي ترتكب فيها الذنوب والمعاصي، والأحاديث التي تشغل الإنسان عن ذكر الله عز وجل. فعلينا أن نحذر من أن نفسد صيامنا بمثل هذه الأعمال التي ترين على القلب، وتجعل الإنسان قاسياً لا يخشع عند الدعاء لقوله تعالى: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (المطففين/14).

فلنطهّر قلوبنا، ولنحذر من أن نخرج من شهر رمضان كما دخلنا فيه. فلقلقة اللسان لا يمكن أن تنفع، بل علينا أن نستشعر الندم الحقيقي على ذنوبنا، وأن نعزم عزماً راسخاً على تركها، وأن لا نعمد إلى تبرير ذنوبنا فنضاعفها، ويحرمنا الله جلّ وعلا من المغفرة.

شهر رمضان؛ ولادة جديدة

وهناك من الناس من يدخلون في شهر رمضان وهم مليئون بالذنوب، ولكنّهم يخرجون منه وكأنهم ولدوا من جديد، فتصبح قلوبهم وأنفسهم طاهرة نقية. ولكن هناك آخرين لا يغتنمون حتى ليالي الجمع، فما بالك بليلة القدر؟!

إن مثل هذه الأوقات وفي طليعتها ليلة القدر قد خصّصت أساساً لأن ينشغل الإنسان في العبادة والتهجّد والدعاء وذكر الله، وتصحيح مسار النفس، وتحديد الذنوب، والتفكير في المستقبل والتخطيط له. فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليدخلنا نار جهنم، بل لكي يستضيفنا في الجنة، ويغدق علينا من فضله، ويوفّقنا الى رضوانه الذي هو غاية ما يجب أن يطمح إليه الإنسان المؤمن في حياته.

ليلة العلم والعزم

خير الأحاديث الحديث الذي يتمخّض عن علم أو عزم؛ فمـن الأحاديث ما يمنحك العلم، ويزيد في معارفك، ومنها ما يعطيك عزيمـة جديدة، وارادة قويّة. وقد يستفيد الإنسان من حديث ما علماً دون أن يريد ذلك، في حين انّه لا يستطيع أن يستفيد من هذا الحديث عزماً دون أن يريد ذلك وينفتح قلبـه عليه، ولذلك يقول تعالى: «وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ» (الحاقة/12). فاذا لم تكن اُذن الإنسان واعية، فليس من السهل عليه أن يستوعب الحقائق الكبرى ويتذكّر ويتبصّر.

وحديث ليلة القدر حديث يعطينا قدراً كبيراً من العزم، بل إنّ هذه الليلة قد تشكّل - عند استيعابها ووعيها- منعطفاً أساسياً في حياة الإنسان يحدث انقلاباً جذريّاً في حياته.

ليلة القدر صفوة الصفوة

وكما تدل على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة فإنّ شهر رمضان إنّما اكتسب عظمته من ليلة واحدة فيه هي ليلة القدر. فلقد اختار الله تعالى من الشهور شهراً، واصطفى من الليالي ليلة تقع في هذا الشهر هي صفوة الصفوة. فهذه الليلة هي المحور الأساسيّ لهذا الشهـر الكريم، ومن خسرها فإنّه الشقيّ حقاً كما روي عن أمير المؤمنين عليـه السلام قـال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله خطبنا ذات يوم فقـال:" .... فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".([62])

إنّ الليالي والأيام وبالتالي أيّ زمن من الأزمنة إنّما يكتسب ميـزته من الحدث الذي يقع فيه، وقد وقع في ليلة القدر أهمّ ما حدث في تأريـخ البشرية على الاطلاق، إلا وهو نزول القرآن الكريم كما قال سبحانه: « إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (القدر/1)

والسبب الذي جعل نزول القرآن الكريم يعطي هذه الليلة العظمة الكبرى هو انّ القرآن كلام الله. ونـزول القرآن يعني أنّ أهل السماء اتّصلوا بأهل الأرض، ويعني التفاتة رحيمة شاملة من قبل الله جلّ وعلا الى الأرض، كما ويعني أنّ المسافة بين الخالق والمخلوق قد تقلّصت، فنـزلت السعادة الأبديّة على الإنسان الذي هو أكرم ما خلق الله.

وعلى هذا؛ فإنّ ليلة القدر هي ليلة عظيمة، بل إنّها تعتبر بالنسبة الى الإنسان المؤمن بداية السنة ونهايتها، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: " ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها".([63]) وأن الله عز وجل يقدّر فيها للإنسان خيره وشرّه، ونفعه وضرّه، وسعادته وشقاءه، حتّى ليلة القدر من العام القادم.

موهبة إلهية عظيمة

والقرآن الكريم يشير بوضوح الى هذه الحقيقة قائلاً: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (القدر/3) بمعنى أنّ هذه الليلة تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فأن يصل الإنسان الى هذا العمر فهذا شيء مهمّ جدّاً، وقد روي أنه (صلى الله عليه وآله) لمّا غزا تبوك ورجع سالماً، استبشر الناس، وقالوا: ما فعل مثل هذا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وآله: "كان في بني اسرائيل رجل، يقال له ابن نانين، وكان له ألف ابن، فغزاهم عدوّ، فحاربوه ألف شهر، كلّ ابن شهراً، حتى قتلوا جميعاً، وأبوهم يصلي ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ثم قاتل بنفسه حتى قتل" فتمنى المسلمون منـزلته، فأنزل الله: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» يعني لذلك الرجل. ([64])

وبهذا حصلت الأمة الإسلامية على موهبة عظيمة تميّزت بها عن سائر الأمم.

ومع ذلك؛ فإنّ الإنسان الخاسر بكلّ ألوان الخسارة، والشقيّ بكلّ أبعاد الشقاء، هو ذلك الذي تمرّ عليه هذه الليلة الشريفة دون أن يستغلّها وينتفع بها. فالتوفيق الإلهيّ في هذه الليلة لا يمكن أن يكون من نصيب الإنسان الغافل الساهي عن فضيلة شهر رمضان. فالذي يبدأ اعتباراً من اليوم الأول من شهر رمضان المبارك بالطاعة والعبادة والتبتّل وقراءة القرآن، فإنّ الله جلّت قدرته سيمنحه درجة من التوفيق، وهكذا الحال بالنسبة الى اليوم الثاني، والثالث... حيث يتدرّج في معارج التوفيق حتّى يصل الى مستوى الاستفادة والانتفاع من ليلة القدر.

وفي المقابل؛ فإنّ الإنسان المسلم الذي لا يحاول استغلال ليالي شهر رمضان، سيفوت بطبيعة الحال ليلة القدر نفسها من دون الاستفادة منها الى درجة أنّه قد لا يعرف متى تصادف هذه الليلة، وحتى إذا عرف ليلة القدر وأراد التعبّد فيها، فإنّه لا يوفّق الى ذلك.

وعلى هذا الأساس؛ فإنّ علينا منذ الآن أن نعدّ أنفسنا لهذه الليلة لكي يكون حظّنا فيها وافراً بإذن الله تعالى، وأن نطلب منه أن يوفّقنا لليلة القدر التي تؤكّد عليها الأدعية منذ بداية شهر رمضان ومن ضمنها الدعاء الذي نقرأه في كل يوم من أيام الشهر المبارك والذي يقول: "... وجعلت فيه ليلة القدر وجعلتها خيراً من ألف شهر". ([65])

وما أدراك ما ليلة القدر!

وقد عرفنا من خلال الروايات؛ إنّ ليلة القدر تقع في الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، والقرآن الكريم يحدّثنا عن هذه الليلة العظيمة متسائلاً ومشيراً إلى خطرها وعظمتهـا: «إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»؛ أي أنّ علمك يا رسول الله بليلة القدر ضئيل بسيط إلاّ أن يكشف لك الخالق عن حقيقتها. وكلمة «مَآ أَدْرَاكَ» في القرآن تمنحنا مفهوماً عظيماً عن المعنى الذي يريد أن يطرحه الله سبحانه وتعالى. فالبعض يمرّ على بعض المعاني مروراً سريعاً خاطفاً، وينظر إليها نظرة سطحية، في حين أننا لابدّ في مثل هذه الحالات أن نتوجّه إلى العمق، وأن نتصوّر المعنى تصوّراً دقيقاً.

فالقرآن الكريم عندما يقول: «وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» أو «وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ» (القارعة/3) أو «وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ» (الطارق/2)، فانه يستهدف أن يفهمنا أنّ جبل الإيمان والرسالة الذي نريد ان نتسلّقه حتّى نصل الى قمته هو جبل عالٍ، صعب العبور، وعر المسالك، مليء بالعقبات، فعلينـا أن نستعدّ منذ الآن له. فالعلم الذي نريد الحصول عليه - وهو علم ليلة القدر- ليس علماً سهلاً أو بسيطاً، فنحن ما الذي فهمناه من هذه الليلة؟ إنّنا نتبادل الكلمات فحسب، أما المعاني؛ فهي بعيدة عن متناولنا. فليلة القدر ليست كلمة تقال، ولا لقلقة لسان، بل هي ليلة عظيمة خير من ألف شهر لا نستطيع أن نتصوّر أبعاد معناها بسهولة..

الليلة الوحيدة في التأريخ

وقبل أن أوضح - قدر مستطاعي- مفهوم (القدر) وما جاء في القرآن الكريم حول هذا المفهوم، أحبّ أن أطرح هنا فكرة لعلّها جديدة بالنسبة لنا... وهي كما هو المفهوم من الرواية التالية أنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة عبر التأريخ؛ أي أنّ في تأريخ الكون الذي يبلغ عمره - حسب تقديرات العلم الحديث - خمسة عشر ألف مليون سنة ليلةً واحدة اسمها "ليلة القدر"، وما يتكرّر في كلّ عام هو ذكرى هذه الليلة كما هو الحال في أيّة ذكرى أخرى بالإضافة إلى ان الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء في كل ليلة من ليالي القدر المتكررة كل عام.

وفي هذه الليلة قدّر الله سبحانه وتعالى كلّ ما كان ويكون الى يوم القيامة. عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال: قال: لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عليّ؛ أتَدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: "إنَّ الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدَّر عزَّ وجل ولايتـك

وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة". ([66])

إنّ ليلة القدر هي ليلة التقدير، والليلة التي جرى فيها القلم على اللوح بكلّ شيء؛ بالمنايا والبلايا، بما يحدث وبما حدث، وبما كان وما يكون... وفي كلّ سنة تأتي ليلة تحاكي ليلة القدر الأصليّة وتوازيها وتذكّر بها. وحتى ليلة نـزول القرآن والوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله - ولعلّها ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان فإنّها حكاية عن الليلة التي كانت عند الله تبارك وتعالى.

ليلة نزول القرآن

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: إذا كان القرآن قد نزل في ثلاثة وعشرين عاماً فكيف يقول تعالى: «إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ؟.

وللجواب على هذا السؤال نقول: إنّنا نعرف تأريخياً- أن القرآن الكريم قد نزل منجماً على ثلاثة وعشرين عاماً، فهناك مثلاً- معارك كثيرة وقعت في غير شهر رمضان ومع ذلك فقد نزلت آيات قرآنية بشأنها.

والفقهاء يجيبون على ذلك قائلين: إنّ القرآن نزل مرّتين؛ مرّة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله جملة واحدة وذلك في ليلة القدر، ومن ثم كان جبرئيل عليه السلام ينـزل على النبي صلى الله عليه وآله في كلّ مناسبة ليبلغه أمر ربّ العالمين بقراءة هذه الآية أو تلك.

وهكذا؛ فإنّ القرآن كان موجوداً، ولكن النبيّ صلى الله عليه وآله كان مأموراً بأن لا يقرأه على الناس إلاّ عندما تقتضي الظروف.

وتأسيساً على ما سبق؛ فإنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة تأريخياً، وليلـة

/ 5