فالذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله جلّ وعلا ، وبتعبير آخر؛ من أجل القيم، لا من أجل أرض، أو ذات، أو أيّة قيمة مادية أخرى، بل من أجل الإنسان المستضعف أنى كان.
وهناك في المقابل جبهة الجاهليّة التي تحارب من أجل الطاغوت. وقد دخلنا الآن مرحلة جديدة. فلو أردنا أن نقرّب ظهور الإمام الحجة عجل الله فرجه فعلينا أن نعمل من أجل إنقاذ البشرية من هذه الحروب، والويلات والمآسي ، ولابد أن نصبح جنوداً وعاملين مخلصين في جبهة وليّ الأمر.
ونحن الآن علينا أن نسجل أسماءنا في قائمة أصحاب وأنصار وجنود الإمام المهدي عجل الله فرجه، وذلك من خلال تغيير الذات، والتجرد من الأنانيات، والتحوّل إلى إنسان يعمل في سبيل الله سبحانه، ويقاتل من أجله في أية أرض، ومن أجل أي إنسان مستضعف.
إن المسافة بيننا وبين ما نريد أن نصل إليه طويلة وشاسعة، ونحن نحتاج من أجل تحقيق أهدافنا إلى العمل الجاد الدؤوب، والاجتهاد والحيوية، وتزكية أنفسنا، وطرد الأطر الضيقة منها، وأن نجاهد من أجل ان نجعل نوايانا في جهادنا خالصة بشكل كامل لوجه الله الكريم.. ومن خلال هذه الخطوات الضرورية سنستطيع حينئذ أن نمهّد لظهور الإمام المنتظر عجل الله فرجه، ونكون من جنوده.
الفصل الثالث:الولاية والايمان بالغيب
- مرتكزات الولاية الإلهية
- الولاية؛ السبيل الى تحقيق العدالة اوجه الشبه بين الامام المهدي والنبي موسى
- الايمان بالغيب؛ ماذا يعني؟
- الاتصال بالغيب حاجة ماسة
مرتكزات الولاية الإلهية
«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلآئِكَةَ وَالنَّبِيِّيِنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُسْلِمُونَ* وإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَاْ مَعَكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (آل عمران/79-83)
ليس من شك أن دين الله دين شامل وعام، فهو لا يختص بظرف زماني أو مكاني، تماماً كما هو الحال بالنسبة لنعم الله وبركاته على عباده. وعليه فإن دين الله لا يرتبط بالنظام السياسي الحاكم بأي وجه من الوجوه، حتى وإن كان هذا النظام السياسي غير منبثق عن الدين، فالإنسان مكلّف بأداء تعاليم الدين في مختلف الظروف والأحوال حسب الوسع والإمكان.
وهذه الحقيقة لا تعني افتقار الدين الى نظام سياسي، بل العكس هو الصحيح تماماً، إذ أن أعظم ما في الدين نظامه السياسي الذي شرّعه للبشرية، هذا النظام الذي يأخذ من الولاية الإلهية التي أنزلها الله وحدّدها قبل ان يخلق الخلق، معتمداً ومتّكأ.
فالله تبارك وتعالى جعل في الأرض خليفة، ثم خلق الناس؛ الناس الذين خلقهم في عالم النسل والذرية، فهؤلاء لم يخلقهم إلا بعد أن عين لهم خليفة، وهو صفوة الله أبونا آدم عليه السلام. وقد بعث الله مائة وأربعة وعشرين الف نبي ورسول وأرفدهم بالأسباط والأئمة ليكونوا خلفاء وأئمة مطاعين بإذن الله، ولا يوجد أكثر صراحة من الآية القرآنية الكريمة في هذا المجال، حيث تقول: «وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ».
وهكذا فإنّ ما من رسول أو نبي بعثه الله إلا وكان يحمل مشروعاً سياسياً للمجتمع الإنساني. والناس بين هذا وذاك مخيّرون في الاهتداء والاقتداء بقيادة السماء المنتخبة لهم أو عدم الاهتداء والاقتداء. فكانت لله الحجّة البالغة على الذين أعرضوا عن الإيمان بهذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس.
فلقد ختم الله رسالات الأنبياء برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان خاتم الأنبياء والمرسلين، كما ختم مهمة الأوصياء والأئمة بإمامة الحجة بن الحسن المهدي الموعود عجل الله فرجه الشريف، الذي جعله للناس كما الشمس في رابعة النهار، فإن حجبت الغيوم الداكنة ضوء الشمس، فلا يعني انعدام الشمس، فهي تبقى قائمة بوظائفها وباعثة لأشعتها. ومن يغلق دون أشعة الشمس نوافذ بيته، فلا يحرم إلاّ نفسه من الاستفادة منها. ومثل الإمام الحجة المنتظر مثل القرآن، تضيء بصائره العقول، وتعالج مناهجه وتعاليمه المشاكل والأزمات.. غير أن أكثر الناس يحجمون عن الاستفادة منه.
فهل - بعد كل ذلك- تكون الحجة للناس على الله ، أم لله الحجة عليهم؟
بالتأكيد كانت وتكون الحجة البالغة لله على الناس. فلقد أنزل القرآن الذي ان تمسكت البشرية بمعانيه ومناهجه لسقيت ماءً غدقا. وكذلك واقع حجة الله في أرضه الإمام المهدي المنتظر، فهو عدل القرآن، وهو القرآن الناطق دون أدنى شك.
ركائز النظام السياسي في الإسلام
بادئ بـدء أقـول: أنّ التعابيـر والألفاظ قـد تعددت في إطـار النظام السياسي في الإسلام، فتارة يسمى بولاية الفقيه أو الإمامة أو القيادة الإسلامية والدينية، وقد يسمى بولاية الله، وتعابير أخرى لا تغير من المعنى شيئاً.
إنّ الركيزة الأولى لهذا النظام، هو عدم العلاقة بين الإيمان بوجود القيادة الإلهية للأمة وبين الإيمان بغيبة الإمام المهدي الموعود.
فالإيـمان بوجـود الإمام مرتبـط بصورة مباشرة بأصل الدين وفلسفته وحكمته؛ أي أن الإيمان بالنظام السياسي الإسلامي يعني الإيمان بوجود إمام مشرف، إشرافاً مباشراً على المسيرة البشرية. إذن؛ فوجود الإمام أوسع من أن يكون مشاهداً أو غائباً عن الأنظار.
ونحن لم نصور الإيمان بالنظام الإسلامي، والإيمان بوجود الإمام بصورة واحدة، إلاّ لأننا تصفحنا الآيات القرآنية فوجدنا فيها قـولـه تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون» فعرفنا عبر هذه الآية حقائق عدة، منها :
1 - أن وجود الخلقة والخليقة قائم على أساس الطاعة.
2 - أنّ مستوى العبادة تتفاوت درجاته بحسب تفاوت درجة العابدين.
3 - أنّ وجود غير العابدين من الجن والإنس يعتبر خطوة عاصية على طريق تغيير حكمة الله في عملية الخلق، وهذا ما يجعل الحجة البالغة لله على غير العابدين.
4 - بما أنّ درجة العبادة في تفاوت مستمر، فإنّ العابد الأصدق من شأنه أن يكون الأكثر قرباً الى الله تعالى، وبالتالي فإن الأعبد من بين الناس يأخذ الحصة الأكبر في حكمة الله في خلقته للمخلوقات، وأنه -الأعبد- كان سبباً لان يخلق الله الخلق من أجله.
5 - أنّ الأنبياء والرسل هم أعبد الناس، وأن نبينا محمد وآله من بعده صلوات الله عليهم أجمعين هم أعبد الصفوة من بيـن عبـاد الله. وبالتالي فإن أسـاس الخلقـة قـام علـى أساس وجود
ومنزلة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
6 - أن أولئك الذين يختصمون في مصداقية إمامة الحجة المنتظر ووجوده وغيبته سلام الله عليه، بعيدون عن معرفة حكمة الوجود ولماذا خلق الله سبحانه الكون، إلاّ الذين أبصروا حقائق الدين وقالوا بأنّ إمامة أهل البيت ووجود الإمام الغائب تمثل التعبير الأصدق لمقولة وجود النظام السياسي الإسلامي وولاية الله..
ومن هذا المنطلق الذي أكدته آيات القرآن والأحاديث والروايات الشريفة نتساءل عن أنّه هل من المعقول أن يخلق الله الخلق من أجل مجموعة من الأشخاص - وهو النبي وأوصياؤه من بعده- ثم يعمد الله أن يخلي الأرض منهم، حيث تبقى الدنيا دون أن تبقى الحكمة من خلقها؛ الحكمة التي تعني وجود النبي أو من ينوب عنه بالنص المباشر؟
بالتأكيد ليس من المعقول أبداً أن يحدث كلّ هذا. ولكنّ الذين في قلوبهم زيغ، والتابعون لما تشاء أهواؤهم، ومريدو الفتن والتأويل غير الصادق، إنّما أصلهم الله على علم، وأصبح مثلهم بين الناس كمثل الغني الذي مات فقراً وجوعاً.
إذن؛ فهي نقمة كبرى أن يؤمن الإنسان ثم يكفر فيطبع الله على قلبه فلا يكون ممّن يفقه قيلاً .
تسلسل نظام الولاية
لقد خُلق الإنسان مدنياً بطبعه؛ أي أنّه يميل تلقائياً إلى أقرانه، ولا يمكن أن ينتظم هذا الميل دون وجود نظام وحكم يأخذان بيد هذا الإنسان المدني إلى مدارج الرقي والتقدم، ولا يمكن أن يؤدي هذا النظام وهذا الحكم وظيفته بالصورة المطلوبة والمرجّوة دون أن يكون رمز هذا الحكم إنساناً صالحاً وأصلحاً من بين أقرانه، ولا يكون الإنسان أصلحاً ما لم يكن أقرباً إلى خالقه، وكيف يحكم من يحكم وهو لمّا يولد بعد؟!
ولقد أجمع المسلمون على وجود اثني عشر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم اختلفوا في الرأي على اسمائهم، فرأى الشيعة أنهم علي بن ابي طالب والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم الصلاة والسلام، ورأى غير الشيعة أنّ خلافة رسول الله تختص بمن بايعهم الناس وانتخبوهم من قبل، ولكنهم أجمعوا أيضاً على أنّ الإمام المهدي سيظهر في عهد من العهود ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت بالجور من قبل، ولكنهم اختلفوا أيضاً بخصوص تحقق ولادته، فقالت الامامية بأنّه قد ولد بالفعل، وقال غيرهم انّه لمّا يولد بعد، وإنه من أولاد الرسول كما قالت الشيعة بهذا الخصوص.
أقول: إننا وبالاستناد الى الروايات المؤكدة الصادرة عن النبي والأئمة من بعده، فإنّ الإمام الثاني عشر قد ولد فعلاً، وإنّه قد اضطرّ الى الغيبة القسرية مرّتين، وإنّه قد أناب عنه في غيبته الأولى أربعةً من الوكلاء، إلا أنه أطلق الأمر في غيبته الكبرى الى العلماء بالدين المطيعين لمولاهم المخالفين لأهوائهم، لقيادة الناس باعتبارهم وكلاءه العامّين في إفتاء الناس وقيادتهم نحــو
ما يريد الله لهم من خير وينهاهم عنه من شر.
ومن هنا، كان لابد من التأكيد على عدم إمكان الفصل بين الولاية الإلهية والقيادة الدينية، وهكذا كان جميع الناس مدعوّين الى البحث عن قائد يتبعونه، وهذا ما يمكن تسميته بالنظـام المرجعي، حيث يسعى كلّ إنسان بالغ غير مجتهد في الأحكـام الى تقليد مرجع من المراجع، وهذا الأمر يعود الى قناعة الإنســان.
ولعل القضية الجديرة بالاهتمام البالغ أنّ مراجعنا العظام كان كلّ منهم - وفي خضم التطور الاجتماعي ومتطلبات الحياة- يفتي الناس ويقودهم تحت مظلّة الولاية الإلهية، وهذا ما يظهر جلياً للقارئ الفطن في كتبهم وتعابيرهم الدقيقة، لا سيما في باب القضاء منها، حيث يحددون وظائف الإمام باعتباره القائد المسؤول عن شؤون الناس.
بين الشورى والديمقراطية
يعتبر مبدأ الشورى في الإسلام أصلاً أصيلاً في النظام الديني، فإذا كنا فيما مضى من الزمان نختار أئمتنا المراجع عن طريق الانتخاب العفوي، فإنّ عصرنا الراهن يؤكد الحاجة الماسة إلى استبدال تلكم الطريقة بطريقة أخرى، وعبر صناديق الاقتراع مثلاً. فالقيادة الدينية لها ارتباط مباشر بمن لـه علاقة بالدين، وبالتالي فإن الإنسان المؤمن معنيٌ بالدرجة الأولى بمن يقوده وبمن يمثل هذا الدين فقهاً وعدالة وقدوةً.
وهذا يعني أن هذا المنحى سينتهي في الخاتمة الى تحويل المجتمع المسلم الى مجتمع إلهي بعد أن كانت قيادته إلهية، وهذا الواقع نفسه يجب أن يشمل طبيعة النخبة في المجتمع أو ما يطلق عليه بالحركات الإسلامية السياسية، حيث لابد لها من قيادة مرجعية ميدانية تأخذ بزمام أمورها نحو العدل وسلوك الخير، لتتحاشى -بقيادتها تلك- احتمال الوقوع في الأخطاء والمطبات السياسية المحرّمة..
ولكنّ الديمقراطية -كما هو معروف- تأخذ مشروعيتها من الرأي العام وانتخاب الأكثرية، دون الأخذ بعين الاعتبار الوجهة الدينية والأخلاقية. ورغم ذلك فإننا لم نجد نظاماً ديمقراطياً مطلقاً في مكان ما من العالم فضلاً عن تطبيقاتها الفاشلة.
إنني اعتقد أنّ ما فصّلناه من طبيعة النظام السياسي الإسلامي يكاد لا يخفى على عاقل، ولكن الأسف الشديد يغمر وجودنا حينما تختلط الثقافات وينهار البعض أمام ما يبهرهم من تطور مدني وصناعي حاصل في بلاد الغرب، فتضيع حقيقة الدين السمح واليسير عليهم، فيرفعون رايات الإبهام والإشكال على شخصية العلماء والمراجع ، رغم أن هؤلاء لم يدّعوا في يوم من الأيام أن لهم مكانة الأئمة المعصومين، وإني لعلى حيرة من أمر بعض الناس الذين يرفضون حاكمية وولاية الفقيه، فهل يرغبون بولاية المنافقين؟ وما هو البديل الذي يرونه مناسباً؟ فإن كانوا يريدون النظام، فالنظام لا يقوده سوى العلمـاء بحـلال الله وحرامـه، فهذا الشرط يتضمن باقي شروط الشخصية القيادية الطبيعية.
إن القـرآن الكريم يؤكـد قائلا: « مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ». فالحكمة في القيادة هي دعوة القائد للناس أن يكونوا ربانيين، لا أن يدعوهم لعبادته، إذ العبادة لله تعالى وحده.
الولاية؛ السبيل إلى تحقيق العدالة
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا يحتاج إلى شهادة من خارجه، وإن ازدحمت الشهادات والشهود لـه من المؤمنين وغيرهم فهو الكتاب الذي يشهد لنفسه بنفسه على أنه ليس من وضع البشر وإبداعهم مهما بلغت درجات سموهم في العلم والفصاحة والبلاغة، ولا غرابة في ذلك مادام لسان السماء ورسالتها لمن على الأرض، فهو بما يتضمنه من آيات عظيمة، وبصائر نيرة، وحقائق مشهودة، يجعلنا نهتدي إلى حقيقة أنه كتاب الله عز وجل، وإن اختارت بعض النفوس الرفض والعناد والإصرار على الكفر والإلحاد.
القرآن شفاء كل داء
وفي كتاب الله الشفاء لكل داء ، والعلاج لكل مشكلة تعترض مسيرة الإنسانية نحو أهدافها التكاملية في الحياة، ويوم يأخذ الناس هذا الكتاب مأخذ الجد في القول والعمل والسلوك فلينتظروا إشراقة شمس السعادة في آفاق حياتهم ليسمو بنورها ودفئها، وليطمئنوا حينئذ للفلاح والنصر الإلهي وجني اليانع من ثمار الجهاد والعمل فضلاً من الثواب والأجر الجميل، والرضوان الإلهي الأكبر في الآخرة.
ومن حقائق القرآن أنه يكشف للإنسان عن القيم والمبادئ العامة التي لابد له من التحرك نحوها، والأهداف والغايات النبيلة السابقة التي ينبغي عليه بلوغها ليتنعم بوارف ظلالها، وهو -أي القرآن- يبيّن في ذات الوقت السبل التي ينبغي اتباعها، والوسائل التي من المفترض استثمارها للوصول إلى تلك الأهداف والغايات والحقائق الكبرى، فهو الدليل إلى بلوغها؛ أي أنه - بالإضافة إلى مهمته الرسالية الأساسية في الحياة وهي بيان الهدف التكاملي- الصراط المستقيم الذي يقود نحو ذلك الهدف التكاملي.
وللهدف التكاملي هذا جوانب عديدة يؤطرها الإيمان، وتدور حول محور التقريب إلى الله جل وعلا؛ ومن هذه الجوانب تشكيل مجتمع العزّة والكرامة في ظل سيادة العدل، وهيمنة روح المساواة وفق الموازين والمعايير الواحدة.
حقيقة العدالة
والعدالة في مجمل معناها وتعريفها تعني وصول كل ذي حق إلى حقه دون زيادة أو نقصان، وتترتّب على ذلك المساواة في المجتمع؛ أي أن لا تعيش طائفة من الناس في قمة من الثراء والعزة، بينما يبقى الآخرون في قاع الذّل والفقر والحرمان. فليس من العدل أن تتكدس المقدرات في يد مجموعة صغيرة من الناس تمكّنهم من السيطرة على حقوق الآخرين وأرزاقهم، بل وحتى على كراماتهم وأعراضهم وحرماتهم؛ وليس من الإنصاف أيضاً أن تتخذ هذه الشرذمة لنفسها مقاعد في القصور الضخمة لتخطط بروح شيطانية للملايين من البشر ثم تنبري مدّعية ظلماً وعدواناً أن هؤلاء ليسوا ببشر، فتنظر إليهم على أنهم مجرد بهائم خلقت لتكون وسائل لخدمتهم بما يعزّز قوتهم وكيانهم، ويزيدهم جبروتاً وطغياناً.
والله سبحانه وتعالى إنما خلق الإنسان ليرحمه لا ليعذبه، كما يشير إلى ذلك في قـولـه: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»، والرسول إنما هو رحمة للناس والعالمين، ولذلك فإن الإنسان خُلق للرحمة لا للعذاب، وفي ذلك يقول عز من قائل: «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ». فالله جل وعلا هو الرحمان الرحيم، وآثار رحمته شاخصة في كل أرجاء الكون.
لماذا البؤس والحرمان؟
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا نجد الغالبية العظمى من البشرية تعيش البؤس والحرمان، وتعاني الويلات وأنواع الاضطهاد والظلم؟ ولماذا أصبحت مصادر الثورة الهائلة والأموال الطائلة وأسباب القوة والهيمنة وقفاً على أناس معدودين دون غيرهم، بينما يسرح القسم الأكبر من البشرية المعذبة في غياهب الجهل والفقر وظلمات التخلف والانحطاط، تسحقها عجلات ماكنة التقدم التكنلوجي التي يأخذ بمقودها أولئك المترفون الذين وصلوا إلى درجة من الشبع والبطر بحيث لم يدعوا سبيلاً للتبذير والإسراف إلا وسلكوه؟!
وما أكثر الأمثلة على صور الإسراف والبطر الذي يعيشه أولئك، ولنتصفح في هذا المجال المجلات والصحف ففيها ما يسبب الدوار في الرأس من شدة الاستغراب؛ فذاك يمتلك آلاف الملايين وعندما يدنو منه الموت يوصي بأمواله وممتلكاته تلك إلى قطة صغيرة كان قد ربّاها!!
إنه الشذوذ بجوانبه العديدة الذي أصيبت به تلك الأقلية التي تقود زمام الحضارة والتكنلوجيا المتطوّرة، وعلى رأسه الشذوذ العقلي الناجم عن الشعور والفراغ القاتل الذي يدفع أولئك إلى أن يحترموا الهرة إلى درجة التقديس، بينما لا يلتفتون أدنى التفاته إلى ورائهم ليروا تلك الحشود البشرية الجائعة التي تبحث عن فتات رغيف تدفع به الخطر الداهم فلا تجده ، ثم تموت أفواجاً بعد أفواج وكأنها ليست بشراً له الحق في الحياة.
الخالق يريد لنا العزة والكرامة
والله عز وعلا خلق الإنسان، وأوضح لـه مناهجه في الحياة عبر رسالات السماء، ولم يكن يريد لمسيرته أن تنتهي إلى ما هي عليه الآن من الصور القاتمة، ولم يكن يريد له أن يضيع في متاهات الفراغ أو يتخبط في مستنقع شذوذه، ثم يعاني الملأ الأعظم الويلات والمآسي في حياته، بل إنه جل وعلا عنـدما خلقـه وهـداه إلى الطريق المستقيم بالرسالات، أراد له الكرامـة والعـزة، وأن يحيـا ويمـوت عزيزاً مكـرماً شريطة أن يتحمل الأمانة التي عهد إليه بتحملها.
وبناءً على ذلك؛ فإن كرامة الإنسان وقف على الأمانة التي يتحملها كما يقول سبحانه: «اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ » (الاحزاب/72). فالذي لا أمانة لـه لا شرف لـه ولا كرامة ولا عزة؛ أي ليس له ما يجعله يستحق العيش والاستمرار في الحياة.
إن الله تبارك وتعالى يريد من الإنسان أن يكون أميناً أوأن يبذل الغالي والنفيس من أجل إعطائها حقها وإن كلّفه ذلك حياته أحياناً، وأن يكون عند كلمته، ويفي بالعهد والوعد لكي يقوم مجتمع يتسم بالأمانة والشرف والكرامة ، وتسوده روح العدل والعدالة. فلابد أن تسود وتحكم العدالة المجتمع الإنساني؛ فالظلم الذي هو ضد العدالة ظلمات وتحطيم للإنسان وشلّ لحركة الإنسانية وتطلعاتها نحو آفاق الازدهار الحضاري الحقيقي، والظلم عائق كبير دون سير البشرية نحو طموحاتها في بلوغ أهدافها التكاملية النبيلة والمدنية الفضلى.
وصيتان إلهيتان
وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» وهاتان وصيتان إلهيتان عظيمتان للبشرية لهذا الإنسان الذي جعل الله تعالى لـه عينين ولساناً وشفتين وهداه النجديـن، وليـس هناك من هو أعلم منه سبحانه بهذا الإنسان وما يكتمه في قلبـه، وما يدور في ذهنه من أفكار، وما يهيج في نفسه من عواطف.
والوصيتان -كما هو واضح من صريح الآية الكريمة- هما:
1- أداء الأمانات إلى أهلها، أي إلى أصحابها، وهذا هو موضوع الأمانة.
2- ان الحكم بين الناس ينبغي أن يكون بالعدل، وهنا تأتي الإشارة إلى موضوع العدالة.
كيف نحقق مجتمع الأمانة والعدالة؟
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف السبيل إلى تجسيد هاتين الوصيتين الإلهيتين في حياتنا العملية، وبتعبير آخر: كيف نحقق ونبني مجتمع الأمانة والعدالة في هذه الأرض؟
الجواب: ليس بعيداً عنا، ويمكننا الوصول إليه عبر الآية التالية: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ». فلكي نحقق مجتمع العدل والكرامة لابد أن نخلق في أنفسنا فضيلة الطاعة لله جل وعلا، ولمن بعثه إلينا رسولاً ، ومن ثم لمن استخلفه الرسول إماماً، أو لمن استخلفه الإمام ولياً للأمر، وهذا هو السبيل وإلا فبدونه لن يتحقق العدل، ولن يتم الوفاء بعهد الأمانة، ولعل المشكلة الكبرى التي تعاني منها البشرية بالأمس واليوم ومن الممكن أن تبقى متورطة فيها مستقبلاً، هي ضلالها عن هذا السبيل، فالجميع يتشدقون بالعدالة ويتمنونها، ولو نظرنا إلى جميع القوانين لوجدناها تحكم باســم العدالة، ولعرفنا أن هذه العدالة ليست إلا ديباجة برّاقة لكل الدساتير الموجودة في مختلف أنحاء العالم، وكلها تدعي ارتكازها واستنادها إلى مبدأ العدالة. ولكن أين هي العدالة حقـاً؟
إن البشرية مادامت قد ضلت الطريق اليها فلا يمكن أن تصلها وتبلغها وإن كان طعمها مرّاً في بعض الأحيان عندما تصطدم بالأهواء وما تشتهيه الأنفس.
سبيل العدالة
فلابد - إذن- من البحث عن سبيل العدالـة عند الله جـل جلاله، وعلى لسان أنبيائه ورسله، والأئمة والأولياء؛ وهذا هو مفهوم الطاعة؛ طاعة الله من خلال الامتثال إليه في أوامره ونواهيه التي جاءت في كتابه العزيزـ وطاعته عبر طاعة رسوله، وطاعة الذين نصبهم أئمة للناس وأولياء للأمور. وتبقى سلسلة الطاعة متصلة ابتداءً من قاعدتها المتمثلة في طاعة ولي الأمر، وانتهاءً بالقمة وهي طاعة الله عز وجل.
وهكذا فإن طاعة ولي الأمر تعني طاعة الإمام المعصوم، وهو في عصرنا الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه، وطاعة الإمام الحجة تعني طاعة الرسول التي تعني بدورها طاعة الله سبحانه ، وهذا بالإضافة إلى الطاعة المباشرة للخالق، وهي الامتثال لأوامره ونواهيه التي صرّح بها وبيّنها في كتابه العزيز.
مقياس ولي الأمر
وقد يسأل سائل في هذا المجال: هل أن ولي الأمر هو كل من استتبّت لـه الأمور، وحالفه الحظ في الوصول إلى السلطة وقيادة زمام الأمة؟!
وللإجابة على هذا التساؤل نقول: كلا بالطبع؛ فليس كل من يعتلي الكرسي بأية وسيلة كانت يغدو ولياً لأمر الأمة؛ بل لابـد أن يكون الولي الحقيقي للأمر ذلك الذي لا يزلّ ولا ينحرف عـن خط الرسالة ونهجها قيد أنملة، وأن تكون حياته انعكاساً للـه وللرسول. وأن لا تتناقض كلماته وكلمات الله التي لا يمتد إليهـا التبديل والاختلاف، وحاشى لله تبارك وتعالى من الإختلاف: «وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً» .
وعلى هذا؛ فليس من المعقول أن يكون أمر الله متجسداً في طاعة رجل يعاقر الخمرة، ويظلم، ويسفك الدماء بغير حق، ويقتل النفوس الزكية، ذلك لأن رسالات السماء هي دعوة لتحقيق القسط والعدل اللتين لا يمكن انتظارهما من حاكم جائر يعمل في الأمة بالظلم والبغي، ويتخلق بصفات الفسق والفجور.
إن ولي الأمر الذي ينبغي على الأمة طاعته والانقياد لـه هو ذلك الشخص الذي تتجسد في أخلاقه وسلوكه وتعامله ونهجه وعموم سيرته قيم السماء ومفاهيم الرسالة ومناهجها البينة.
أهل البيت عليهم السلام هم أولو الأمر
ونحن إذا تصفحنا التأريخ وبحثنا عن أولياء الأمور الذين تتمثل
فيهم تلك الصفات فكانوا عنواناً للقرآن الكريم، وبات كيانهم جزءاً من كيان الرسول صلى الله عليه وآله في الأخلاق والسيرة والعلم؛ فحيوا حياته، وماتوا مماته، ولم يحيدوا عن طريقه ونهجه. لا نجدهم سوى آل محمد عليهم السلام، الذين هم أولياء الأمر الحقيقيون، وفيهم شهادة القرآن العظيم؛ فكل ثناء فيه لابد أن يكون من نصيبهم هم بالذات؛ فهم الكاظمون للغيظ، والعافون عن الناس، وهم المقيمون للصلاة، والمؤتون للزكاة، وهم الراكعون الساجدون، وهم المنفقون في السر والعلانية، وهم الشاكرون لربهم في السراء والضراء... إلى عشرات بل مئات الخصال أوصى القرآن بالتحلي بها، وحث على اتباعها قولاً وعملاً، فهم عليهم السلام أمثال القرآن في حياتهم، بل إنهم القرآن الناطق بين الناس.
هل انتفت الحاجة إلى الإمامة؟
وبعد أن أدى الرسول صلى الله عليه وآله ، والأئمة المعصومون عليهم السلام ما كلّفوا به، وحُمّلوه من أمانة الرسالة، والإمامة ثم مضوا إلى بارئهم الواحد بعد الآخر، ترى هل تنتفي الحاجة حينئذ للإمامة التي بها يستتبّ العدل، وتصان الكرامات، ويزول الظلم، أم أن البشرية بلغت في مستواها العقلي والفكري مبلغ القمة التي هي عند الأئمة فلم تعد بحاجة إلى الإمامة، أم أن الحاجة إلى العدالة قد انتفت أساساً؟
أقول: إن ما يشهد لـه التاريخ أن البشرية تبقى دائماً بحاجة إلى من يأخذ بزمامها في الحياة، ويحكّم فيها العدالة، ولو كانت هذه الحاجة تنعدم بمرور الزمان لكان يكفي البشرية منذ خلقها الله تعالى وحتى يوم القيامة نبيّ واحد.
من هو الإمام في عصرنا الراهن؟
وإذا ثبت لنا أن هذه الحاجة باقية، فمن الذي يتولى - إذن- الإمامة في عصرنا الراهن؟
هنا تتكفل بالإجابة نظرية المنقذ الذي شاء الله تعالى له الغيبة إلى أجل لا يعلمه إلا هو سبحانه، ليملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً؛ فقضية حاجة البشرية في زمن ما للإمامة والقيادة، وانتفائها في زمن آخر لا تنسجم مع نظرية العدل الإلهي ، والحكمة الربانية في استمرار اللطف والرحمة، بالإضافة إلى اصطدامها بالعقل والمنطق.
آثار وجود الإمام المنتظر
ولوجود إمامنا المنتظر آثار عظيمة ومتنوعة، ربما نجهل الكثير منها، ولعل أعظم هذه الآثار ولاية الفقهاء على الناس وطاعتهم لهم، والتي هي ليست طاعة ذاتية باعتبار أن الفقهاء ومراجع الأمة نواب عن الإمام الحجة المنتظر، فولاية الفقهاء على الناس هي شعاع من أشعة ولاية الأنبياء وقبس من نورهم عليهم السلام. فلنحاول أن نبحث في هذا القبس من خلال بعض المفردات، ومن ضمنها وأهمها مفردة الاستقامة والثبات على الطريق. ومثل هذه الاستقامة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال اتباع وتولي هؤلاء الفقهاء والمراجع الذين يمثلون خط الولاية للأئمة والأنبياء والرسل أجمعين، على أن تمثيلهم هذا لخط الولاية لاينفي ضلال أكثر الناس عنهم وعدم اتباعهم لهم لجهلهم بهم، والتمرد على مذهبهم الصحيح، ولا غرابة في هذا الأمر إذا لاحظنا التصريح به في محكم القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه : «وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » ويقول: «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِ كَارِهُونَ» . فعدم إيمان الناس بالله جل جلاله لا يعني انتفاء الوجود الإلهي وصحة الإلحاد، وعدم اتباعهم للحق لايعني أن الحق مرفوض، بل إن الإنسان يميل في أعماق ضميره، إلى الحق، ولكنه عندما يصطدم بالمصلحة الذاتية يكرهه ويفرّ منه.
ونحن عندما نبحث عملياً عن السر في بقاء ديننا ، وتوجّهنا إلى الخط الصحيح، والصراط المستقيم، ومعرفة الله تعالى معرفة صحيحة خالية من أية شائبة ، نجد أن خط العلماء هو الخط الذي أنعم الله تعالى به علينا؛ فهم الذين علّمونا معالم ديننا، ونقلوا إلينا هدى الأئمة وبصائرهم التي هي بصائر القرآن، وهدى الله سبحانه، ولذلك فإن الذين يهجرون خط العلماء، ويبتعدون عنه سواء كانوا أفراداً أم جماعة، فإنهم بتركهم وابتعادهم هذين سوف يضلون ضلالاً بعيداً.
أهمية اتباع المرجعية
وهكذا ينبغي على المؤمنين أن ينتبهوا إلى الأهمية الفائقة لاتباع المرجعية، والالتفاف حولها، بالإضافة إلى توقيرها وإجلالها، وأن يعملوا ويسيروا على خط هذه المرجعية، ويزيلوا من نفوسهم كل الدواعي والأسباب التي تؤدي إلى ابتعادهم وانحرافهم عن هذا الخط -لا سمح الله- لضلال يقعون به بسبب المضلين، أو لحسد، أو كبر، أو عجب يقع في نفوسهم، فيدفعهم إلى الخروج عن طريق الاستقامة الذي أمر به نبينا صلى الله عليه وآله، ونهــي - في نفس الوقت- عن اتباع أهواء المضليـن في قوله تعــالى: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ»
خط الولاية هو الخط القويم
ويبقى الطريق مستقيماً منذ أول نبي وحتى آخر مرجع إلى حين ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، وبتوفر هذه العوامل الإيمانية يمكننا أن نحقق النجاح والنصر، فخط الولاية هو الخط الصحيح والقويم، وإذا ما سلكناه ولم ننحرف عنه قيد أنملة بلغنـا هدفنا في نشر العدالة، ونيل العزة والكرامة في حياتنا الدنيا، وسرنا نحو الهدف التكاملي المتمثل في التقرب الى الله عـز وجل، وإن اخترنـا غير هذا المسلك القويم يبقى مصيرنــا -عندئذ- التيه والضلال، ولذلك يأمرنا سبحانه ، ويحذرنا من هذا التيه والضلال فيقول: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .
والله سبحانه إنما يهدينا إلى الصراط المستقيم من خلال طاعته التي هي طاعة رسوله وأوليائه ومن ينوب عنهم، والرجوع إليهم في كل صغيرة وكبيرة، والانقياد لهم بكل طواعية عبر اتباع أوامرهم وتوجيهاتهم كما يؤكد على ذلك سبحانه في قوله: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» .
أوجه الشبه بين الإمام المهدي عليه السلام
والنبي موسى عليه السلام
هناك أوجه شبه بين النبي موسى بن عمران عليه السلام، وبين الحجة بن الحسن عجل الله فرجه، ولذلك فإن الآيات التالية من سورة القصص فسّرت في أحاديثنا وفي أحاديث المذاهب الإسلامية الأخرى بحياة الإمام المهدي، وهذه هي الآيات : «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الاَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَى اُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَاَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (القصص(4-7)
أوجه التشابه بين الإمام المهدي وموسى عليهما السلام
وتبرز أوجه التشابه تلك في النقاط التالية:
1- إنّ موسى بن عمران عليه السلام أرسله الله تقدّست أسماؤه، وبعثه بعدما علا فرعون في الأرض وملأها فساداً واستكباراً. فقد ورد في بعض التواريخ أن فرعون لم يكن يحكم مصر وحدها، بل كان يحكم جميع المناطق المتحضّرة آنذاك. وبناءً على ذلك فإن فرعون كان قد ملأ في ذلك العصر الأرض فساداً وظلماً وجوراً، فبعث الله تعالى النبي موسى ليملأها قسطاً وعدلاً وحرية وكرامة، فيكون الخالق بذلك قد أدخر رجلاً من آل عمران ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
إثبات القدرة الإلهية
2- إنّ موسى بن عمران عليه السلام كان معجزة الله عز وجل في الأرض، فعندما يئس الجميع، وعرفوا أن لا ملجأ ومنجى من الله إلا إليه، وعندما عجزت كل الوسائل الطبيعية من أن تمنح الناس الخير والسعادة والرفاهية، فإن الله سبحانه ولكي يثبت لعباده أنه هو القاهر فوقهم، وأنه هو الحاكم والمهيمن، وله السلطان والملكوت، فقد بعث موسى بن عمران عليه السلام بعد أن عاش وتربى في بيت فرعون لكي يثبت للبشرية أن الإنسان مهما طغى واستكبر في الأرض، فإن الله تعالى يبقى أكبر منه، وأنه سيجعل هلاكه على يد الذي ربّاه بيده.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمام الحجة عليه السلام فإنه سيأتي بعد أن يعم اليأس الجميع، ويستبدّ بالبشرية شعور العجز عن توفير الخير والرفاهية لنفسها إلا بالتوجّه إلى بارئها تبارك وتعالى، ولذلك فعندما يظهر الإمام المهدي عليه السلام فإن البشرية بأسرها سوف تهرع لتبايعه.
صحيح أنه عليه السلام سوف يخرج بالسيف، ويظهر به، ولكنه لا يشهره إلا ضد المعاندين، فالغالبية العظمى من الناس سيسلمون على يديه الكريمتين طواعية دون أي قهر وإجبار، لأن الله عز وجل سينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيصلّي خلف إمامنا الحجة بن الحسن كما جاء في أحاديث المذاهب الإسلامية، وعندما يشاهد المسيحيون نبيّهم يصلّي خلف المهدي فإنهم سيهرعون إلى بيعة الإمام عليه السلام.
إن الجاهلية المادية الطاغية في الأرض سوف تصل بالبشرية إلى حالة انعدام الوزن، وعند الوصول إلى هذه النقطة فإنهم يبدؤون بمراجعة أنفسهم ويتساءلون عن جدوى المذاهب المادية المختلفة التي ابتلوا بها، ثم يأخذون بالتطلّع إلى هدف آخر يعقدون عليه الآمال بعد أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الجاهلية الجهلاء. وهنا يعلو صوت الإمام المهدي عليه السلام فيسمعه جميع أهل الأرض،وفي هذا الصوت الرباني يجدون بغيتهم، فيسرعون إلى قبول دعوته فتسود الأرض عدالته، ويسود الإسلام.
الانتظار الطويل
3- إن المؤمنين من بني إسرائيل كانوا في انتظار نبيهم موسى عليه السلام سنين طويلة، وعندما استبد بهم اليأس، وبلغ مداه كفر بعضهم بالبشارة، وظنوا أن المنقذ لن يأتيهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أرسله لهم بعد اشتداد الأزمة، وسوء الظروف، فكانت بعثة موسى عليه السلام نجاة وبركة ورحمة لأولئك القوم، ونحن أيضاً قد طال انتظارنا كما طال انتظار سائر المظلومين والمحرومين في العالم.
الغيبة الصغرى
4- كانت لموسى بن عمران عليه السلام غيبة صغرى؛ فعندما ولد أمر الله تعالى أمّه أن تضعه في التابوت وتلقي به في اليم، وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمام الحجة عليه السلام فقد غاب هو الآخر عن الأنظار منذ اللحظة الأولى من ولادته إلا عن خواص مواليه.
واجبنا في عصر الغيبة
ولكن السؤال المهم المطروح هنا هو: ماذا علينا أن نعمل ونحن نعيش عصر الغيبة؟
إن علينا أن نعلم ونحن في عصر الغيبة أن شعلة الأمل الإلهي لابد أن تبقى وتستمر في قلوبنا، فالطغاة يحاولون أن يسلبوا منّا الأمل والرجاء، وهم يعملون جاهدين من أجل أن ينخر اليأس قلوبنا، ويكيلوا لنا الضربات الموجعة.. وهذا هو هدف الطغاة، ولكننا عندما نعلم ان الله سبحانه قد ادخر لنا أملاً ونجاة فإننا سنعرف أن نهاية هذه المسيرة ستكون سعادة الإنسان، وأنّ العاقبة للمتقين، فهذه المسيرة بالرغم من صعوباتهـا، وما يكتنفها من المشاق، وما تتطلّب من التضحيات الشخصية، فإنها سوف تنتهي بالنصر المؤزر.
إن الطغاة في الأرض استطاعوا أن يقهروا البشر، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا على الأمن والاستقرار رغم ذلك، لأن الشعوب ماضية في مقاومتها لهم، وهي غدت تشكل الآن خطراً حقيقياً يهدد مصالحهم، ويقضّ مضاجعهم، وما علينا إلا أن نستمر في هذه المقاومة لكي نكون بذلك قد جسّدنا المفهوم الحقيقي للانتظار الذي يعني تهيئة الأرضية المناسبة لظهور إمامنا المفدّى المهدي عجل الله فرجه.
الإيمان بالغيب؛ ماذا يعني؟!
«الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» (البقرة/1-5)
ما هو الغيب ؟ وما هو موقفنا من الغيب ؟ وما هي علاقة الغيب بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام؟
قبل استعراض الإجابة على الأسئلة المتقدمة الذكر أودّ الإشارة إلى انّ القليل من الناس من يتزود بأحسن الزاد.
وإننا جلوس حول مائدة العقيدة المباركة ؛ فلا يكن حظّنا سوى رشحات ، وإنما ليحاول كلٌ منّا أن يكون زاده الأكثر والأنفع. لذلك فإنني حاولت وأحاول أن أتحدث عن قضية هامة جداً، وهي قضية الغيب، لأنها من وجهة نظر العقيدة الإسلامية قضية محوريـة من شأنها أن تحدد علاقاتنا بالحقائق، فما هو الغيب يا ترى ؟
يؤكد القرآن الحكيم بادئ بدء أن آياته الكريمة هدىً، ولكــن ليس لكل من هبّ ودبّ، بل هي هدىً للمتقين. وأبرز صفات هـؤلاء المتقـين الذين سيقول عنهم القرآن في الموقع التالي: «أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» أبرز الصفات فيهم هي الإيمان بالغيب، فهو الشرط الأساس في إيمان الإنسان المتقي الذي حصر الله سبحانه وتعالى فيه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
ومرة أخرى ؛ أتساءل : ما هو الغيب ؟ ولماذا أصبح الإيمان بالغيب محوراً أساسياً للإيمان ؟
إن الله جلّ جلاله هو الغيب، إن الرسالات السماوية هي الغيب، إن الآخرة هي الغيب، إن الإمامة في أهل البيت وعصمتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي الغيب. وإن أبرز وأهم غيب في حياتنا، هو الإيمان بوجود وظهور وانتصار الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ولكن لماذا ؟..
الجواب: إن الغيب هو خلق الشهود، وهو أصل الشهود، وهو روح الشهود، وهو محتوى الشهود ، وهو في الحقيقة النور الأسطع للشهود . فاللّب أهم من القشرة ، ومن أراد شراء بضاعة ما فهو يهتم بتحديد حقيقة هذه البضاعة دون الاكتفاء أو الاهتمام بما يعكسه مظهرها. وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الناس يقول بأن ماكنة السيارة هي التي تحرّك السيارة؛ لكنني أقول - كما هي الحقيقة - إن وقود السيارة، هو غيب السيارة وهو الوجه الآخر الأصيل لذاتها. وإنّ ضوء الشمس ليس هو الشمس، وإنما عين الشمس الغائبة عنّا هو التفاعلات الذرية الحادثة باستمرار في الشمس، ولولا هذه التفاعلات لما أضاءت الشمس ولو للحظة واحدة وإن غيب الإنسان ليس حركته أو سكنته، وإنما الغيب فيه كامن في قوة قلبه وسلامة أعصابه وشرايينه ومخّه. وإذا أمعنّا النظر في حقيقة الإنسان لوجدنا أن مخّه ليس هو الأساس فيه ، وإنما الروح هي المحور لديه ، وإذا أمعنا النظر ثانيةً لعرفنا أن العقل هو موجّه هذه الروح. ثم إن هذا العقل والحياة والقدرة الكامنة في الروح يقف وراءها أمراً أهم بكثير منها مجتمعةً، وهي إرادة الله سبحانه وتعالى، ولولا مشيئته وإفاضته وقدرته ونوره لتلاشت الروح الإنسانية؛ أو لنقل: لو لم تكن الإرادة الإلهية في إيجاد الروح والقدرة لدى الإنسان، لأصبح هذا الأخير كالجماد أو هو أعجز من الجماد، إن صحّ التعبير عن وجود جمادٍ في هذا الكون العجيب !...
إذن؛ فكلّ حلقة من حلقات الغيب تأخذ أهميّتها وموقعها من مستوى التعمق في النظر إليها. فكلما كانت هذه الحلقة أبعد من حيث الترتيب والعمق، كلما جسّدت هي الأساس والمصدر؛ أما النور والمظهر فلا شيء مهم يذكر فيهما، هذا هو الغيب ...
والإيمان بالغيب عادةً ما يكون فارقاً بين الإنسان والحيوان؛ الحيوان العاجز عن النفوذ إلى اللّب والجوهر إلاّ بالحواس المادية. والبشر بدورهم على مراتب متفاوتة تجاه هذه المسألة؛ فالرجل العادي منهم ينظر الى طبيعة المجتمع المتخلفة والفقيرة والمتوترة والمضطربة ، ولكنه لا يعرف السبب من وراء ذلك، وهو قد يقول : لعلّ الله خلقهم كذلك !.. ولكن الخبير منهم ينظر بعين متفحصة وخلفية فكرية متينة ، فهو يؤكد - عالماً - بأن هناك أسباب للاختلاف والتخلف والفقر والتوتر والاضطراب وباقي الظواهر الأخرى. فالخبير يتعمق ويصل إلى العمق، في حين أن الإنسان البسيط أو المعاند أو الجاهل يقتصر على التعامل مع المظاهر فقط . والفرق بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين هو في بالذات. فالكافرون لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا ، فهم لا يعرفون إلاّ أنهم يتوالدون ويتناسلون ويتكاثرون، وأنه لا يميتهم إلاّ الدهر. وأما عن الآخرة فهم قوم عمون ، لا ينظرون إليها، ولا يعرفون عنها شيئاً. أما فريق المؤمنين فهو من لا يضطر الى جعل الغيب شهوداً حتى يؤمن به، بل هو يرتفع إلى مستوى الإيمان به .
وماذا يعني ذلك ؟!
يعني أن الإنسان المؤمن لم يعترف بالموت أو بما وراء الغيب من رؤيته القبر، أو ماوراء القبر من عذاب أو ثواب، وهو لم يؤمن بالغيب من رؤية رآها في المنام ، وهو لم يؤمن بأن الميت الفلاني يتعذب في الوقت بعذاب القبر لأنه قد رأى ذلك في منامه، وهو لا يقول إنّ فلاناً في الجنّة لأنه قد رأى رؤية في ذلك، فرؤية المنام لا ينبغي أن تكون العامل الحاسم في الإيمان بالغيب ، كيف كان ومتى كان؛ بل إن المؤمن ومن خلال محاكمة عقلية، ومحاسبة علمية، ومن خلال ارتفاع مستوى روحه الى الاستشراف على الغيب يؤمن بما وراء المادة والغيب. فهو يعلو ويعلو، ويسمو ويسمو إلى أن يصل الى أفق الغيب فيؤمن به كحقيقة ثابتة لا تقبل الشك .
من هنا يقول البعض: اُؤمن بالإمام الحجة، ويسأل: من رأى الحجة ؟
ويجيبه رفيقه : لقد رآه بعضهم وقصته كذا وكذا. فهو يؤمن بالإمام المنتظر لأن أحدهم قد رآه في اليقظة أو في المنام، ولو كان لم يُرَ عليه السلام في اليقظة أو في المنام لأصبح لا وجود له !!
إن الاعتماد على النقل الموثّق أمر صحيح، ولكنه يعبّر عن إيمانٍ جاهل وناقص ؛ جاهل من حيث أنه لم يصدر عن ذات عالمة بذاتها ، وناقص بالمقارنة مع ما هو كامل .
إن الإيمان الكامل والواعي والقوي هو الإيمان المتنامي من خلال دراسة القرآن وجوهره وروحه، ومن خلال دراسة الأحاديث النبوية الشريفة التي خرجت عن مصدر الحق والصدق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وآله، من خلال ذلك يؤمن الإنسان إيماناً أساسياً بحقائق الغيب، لا من خلال رؤية أحد الناس .
الإيمان بالحقائق الغيبية
إن الإيمان بالحقائق الغيبية ينبغي أن يكون تسليماً للأوامر الدينية؛ بمعنى أن هذين الأمرين ينبغي أن يكون الإيمان بهما من البديهيات في عقيدة الإنسان المسلم ، وذلك قبل البحث عن الاستدلال أو الكشف عن أسبابهما ونتائجهما المادية.
فالله سبحانه وتعالى حينما حرّم أكل لحم الخنزير، إنما حرّمه ليكون موضع ابتلاء وتمييز للملتزم من غير الملتزم، قبل أن يحرمه لمضارّه الصحية. والإنسان المسلم عليه التقيد بهذا القيد ، إذ من دونه تكون نار جهنم بانتظاره .
ثم إن من دون الاعتماد على الله والنصوص التي أوردها في قرآنه الحكيم وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وآله يكون دين الإنسان المسلم أمراً معلّقاً على معرفة الأسباب قبل التأدية، وبالتالي فإنّ نوعاً من اليأس من روح الله تعالى يسيطر عليه، الواقع الذي وصفه الله بالكفر، حيث قال سبحانه: «وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» (يوسف/87)
إن الصحيح في الأمر هو التصور المجرد بأنّ وراء الأوامر الإلهية جنات وثواب ورضوان ، وأن وراء المناهي نيران وعقاب وسخط إلهي كبير، وأن الإيمان بالغيب هو العامل الأهم في تلقي واستيعاب هذه الحقيقة .
إن الشريعة الإسلامية -كما هو واضح- تشجعنا على العلم، وتحرّضنا على السعي نحو معرفة أسباب الأحكام والأوامر والمناهي. ولكن لا يعني ذلك أنّ إيماننا بالشريعة الإسلامية يكون متوقفاً على معرفة أسبابها ، فهذا الإيمان لا يعدّ أبداً إيماناً بالغيب .
الإمام الصادق عليه السلام يقول : "نحن - الأئمة - صُبّر، وشيعتنا أصبر منّا"، قلت (الراوي): جعلت فداك كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟ قال: "لأنا نصبر على ما نعلم، وشيعتنا يصبرون على مالا يعلمون". ([5])
إذن؛ فالقضية تكمن في ضرورة الارتفاع الى مستوى الإيمان بالغيب وما يتطلبه ، وليس الاتجاه نحو تجيير الحقائق الإيمانية لصالح المذاقات النفسية والمادية ، وإنما يتم ذلك عبر تعويد الذات على عدم الاكتفاء بما تشاهده العينان وتحسّه الحواس. بل لابد من الإيمان بما يشهد عليه القلب والعقل، وما يطمئن إليه الضمير، وينصّ عليه الكتاب والرسول.
وببالغ الأسف أقول: إن بعض الناس من المسلمين أصبح لا يؤمن بحكم شرعي حتى يعرف سببه أو يفسر له العلماء ذلك، وهذا يعتبر تجاوزاً صارخاً على حقيقة القرآن والأحكام الشرعية القائلة بضرورة الإيمان بالغيب والتسليم بإخلاص الى أوامر الله ونواهيه ، لاسيما وأنّ الآيات القرآنية الكريمة التي تلوتها على مسامعكم في مقدمة الحديث تشير بكل وضوح إلى أن الإيمان بالغيب أمر متقدم على إقامة الصلاة - وهي عمود الدين - وعلى الإنفاق في سبيل الله تعالى ذكره .
وكما تقدم ؛ فإن الله ووحدانيته هما من مصاديق الغيب رغم أننا نعجز عن رؤيته بأعيننا، ولقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال : فقال: ويلك ما كنت اعبد رباً لم أره؛ قال: كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان.([6]) فالله تعالى قد خلق أرضاً واحدة، وجعل فيها ماءً واحداً، وشمساً واحدة ، ولكنّه جعل أنواع متعددة من الفاكهة.. ونحن من خلال كل هذا نصل الى معرفة أسماء الله، وآيات الله، وقدرة الله و تدبيره.
وهكذا من كان يشك في وجود أو ظهور أو انتصار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف فالمشكلة فيه هو لا غير. فالأدلة كثيرة للغاية ، ولكنه هو بذاته أصبح - لضعف إيمانه - لا يؤمن بالشيء دون أن تراه عيناه .
ويروى أن أحد الزنادقة جاء الى مقبرة الكفار فتناول عظماً من عظام الموتى، وقال لمن كان حاضراً من المسلمين : أرى أنكم تقولون إن الكفار يتعرضون لنار القبر، وإن هذا العظم بارد كقطعة ثلج في يدي .. فجيء به إلى أمير المؤمنين عليه السلام الذي أجابه بعد أن تناول حجرين من الأرض وضرب بعضهما ببعض فأنقدحت شرارة من نار: أين كانت هذه النار ؟
نعم؛ إن جهنم محيطة بالكافرين ، انسياقاً واتّساقاً مع أعمالهم ومعتقداتهم الشيطانية .
وفيما يروى من الأحاديث الشريفة، هو القول بأن فائدة الإمام الحجة عليه السلام كفائدة الشمس التي تسترها السحب.
ولتوضيح ذلك، أقول بأن الإمام عجل الله فرجه الشريف - كما كان آباؤه الطاهرون- هو عدل القرآن ، وهما ثقلان ورافدان إلهيان؛ ولكن لمن كان له قلب وأراد أن يتذكر ويتبصّر ويستفيد. فهؤلاء العلماء الربانيون والمجاهدون العاملون إنما يتزودون بزاد هذا الإمام العظيم ، وإن سلوكهم الشريف وعدم انصياعهم وراء الهوى والوساوس الشيطانية ، إنما هو انعكاس لعمق اتحادهم مع توجيهات الحجة عجل الله فرجه الشريف لهم.
سنّة سماوية
إن من سنن الله تعالى في خلقه، هو أن من يرتدّ عن دينه الحنيف - نظرياً أو عملياً - يصاب بالذلة والضياع في دنياه قبل آخرته. وفضلاً عن أن هذه الحقيقة مثبتة في الآيات والأحاديـث، فهـي مجربـة وملموسة ، بالذات لمن اهتدى الى الإسلام، حيث يجد في داخله راحة واطمئناناً عجيباً .
وفي القصة القرآنية التالية يشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة ، وإلى ضرورة الإيمان بالغيب والتسليم للتكاليف الشرعية، وإلى ضرورة نبذ ثقافة التبرير الجاهلية التي تعتبر مصداقاً على تراجع الأمة ودليلاً على تخاذلها وذلها . ففي سورة البقرة يوضح الله تعالى الذل والتراجع الذي أصاب بني إسرائيل، حينما أصابهم مرض الرغبة في التهرب من التكاليف الشرعية، وعدم إيلائهم رسول الله موسى بن عمران عليه السلام حقّ منزلته وشرفه .
«وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ اِنَّهُ يَقُولُ اِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِنْ شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَشِيَةَ فِيهَا قَالُوا الاَنَ جَئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ» (البقرة/67-71)
إنهم اتّهموا نبيهم بالسخرية والاستهزاء رغم أنه لم يكن كذلك، بل كان رجلاً قائداً عملاقاً شديد المراس. وأرادوا التملّص من الواجب المكتوب عبر التساؤل المتكرّر، حيث كانوا يأملون نفاذ صبر النبي موسى عليه السلام، أو عسى الله أن يبدل رأيه ... ثم إنهم ولفرط الضعف في إيمانهم كانوا يصفون الله بأنه رب موسى، وكأنه ليس ربهم أيضاً؛ أي كأن الأمر لا يعنيهم، وأنهم حينما ينفذون المهمة يمنون على نبيهم وعلى ربه ..!
«فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ». أي أنهم نفذوا الأمر دون تسليم أو رغبة أو تعبّد أو رجاء للثواب.. وهم كلّما يتباطؤون في التنفيذ، كلما زادت عليهـم المشاكل. ففي وقت كان المطلوب منهم ذبح مجرد بقرة - تلاحظ الصيغة النكرة هنا - سوّفوا الأمر حتى اضطروا في نهاية المطاف الى البحث عن بقـرة فريدة من نوعها ، وبعد عناء شديد وجدوها في حوزة عجوز فيهم ، وهذه العجوز حينما علمت حاجتهم الى بقرتها أخذت بالمساومة والتمنّع ورفع السعر أضعافاً مضاعفاً ، حتى اضطرتهم الى القبول بشرائها مقابل أن يملؤوا جلدها - بعد سلخها - ذهباً !!
هذا واقع بني إسرائيل، أما صحابة الرسول صلى الله عليه وآله، والخلّص من الشيعة، فقد كانت سمتهم الأولى أنهم كانوا يتمتعون بروح الانضباط والتسليم، إيماناً منهم بالله الذي لا يريد سوى فائدتهم، وحبّاً في التعبّد الخالص الذي هو الآخر لا يعود بغير الفائدة عليهم .
أمّا نحن - في الوقت الراهن - فلو كنّا أطعنا قياداتنا الإسلامية منذ النداء الأول، ودخلنا في العمل بروح جماعية، لما وصل بنا الحال على ما هو عليه الآن ، ولكانت التضحيات أقل بكثير ، ولكانت النتائج الإيجابية أكثر بكثير . إلا أن ثقافة التبرير والتسويف قد تأصلت بنا وتجذرت فينا الى حدٍ لا يمكن الخلاص منها من دون العودة الى مفاهيم القرآن الكريم، وتفسيره
للسنن الكونية الخاصة بهذا الإطار .
إننا بأمس الحاجة إلى الاقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي كان قوله وفعله وسكنه رهن إشارة صغيرة من النبي صلى الله عليه وآله. فكنت تراه أول المضحين، وأول المقاتلين، وأول المؤمنين، وأول المنفذين.. وهو بذلك يضرب للمسلمين المثل الأعلى في الانصهار في المفاهيم القرآنية، وفي التربية الرسالية؛ روحاً ومظهراً، فما أحوجنا نحن اليوم الى تطبيق الإسلام، وهو الموجود في كتاب الله المقدّس، تطبيقاً فردياً واجتماعياً ومصيرياً ..
الاتصال بالغيب حاجة ماسة
من المعلوم أن العقبات والمشاكل التي تقف في طريقنا كثيرة، وهي مختلفة وسائدة في جميع المجالات، وخصوصاً النفسية والاجتماعية والسياسية، وجميع هذه العقبات من شأنها أن تعترض طريق تطبيق الإسلام، وبتعبير آخر؛ فإننا نريد أن نجتاز في حياتنا كل هذه العقبات، وأن نحقق نصراً مؤزراً، وأن نوحّد الأمة الإسلامية، وننقذها وننقذ شعوبنا المحرومة البائسة من براثن الظلم، والاستغلال، والتبعية، والتخلف.
ترى ماذا نملك من الزاد لمواجهة هذه العقبات؟ إن أكثر الناس ينهارون نفسياً أمام ضخامة المشاكل قبل أن يواجهوها، لأنها كثيرة ومتنوعة .
زادنا أمام العقبات
إننا نمتلك في هذا المجال زاداً واحداً هو الاتصال بالغيب، وبمعنى آخر؛ فإن إيماننا بالإمام المنتظر عليه السلام هو الذي يسعفنا ويغيثنا في هذه الحالات، فهو عليه السلام يمثل لنا نقطة ضوء ساطعة تلوح لنا من بعيد، وتفهمنا بأن اليأس حرام، وأن نهاية العالم ستكون نهاية سعيدة، وأن العدالة سوف تسود الكرة الأرضية.
وحتى لو لم نمتلك هذا العامل النفسي، والأثر الروحي بالنسبة إلى إيماننا بالإمام الحجة عجل الله فرجه، فهناك فوق كل ذلك الاتصال المباشر بين قلب الإنسان المسلم وإشعاع هذا الإمام أو تجلّيه في هذا القلب، ففي أصعب الحالات وفي مواجهة أشد الظروف حراجة على كل واحد منا أن يتوجه بقلبه إلى الإمام المهدي عليه السلام وأن يطلب إلى الله تبارك وتعالى أن ينصره بوجاهة هذا الإمام. وحينئذ سنحسّ بمدى قوتنا، ومدى الثقة بأنفسنا التي ستغمرنا عند مواجهة المشاكل والعقبات.
إننا بصفتنا مؤمنين وحاملي رسالة، فإن علينا أن لا نقطع علاقتنا به، بل علينا أن نبقى على اتصال مستمر به، وأن ندعوا له ونطلب الفرج من الله له.
القيادة والقرار الصعب
وهذه العلاقة القلبية ستمنحنا -ولا ريب- القدرة على مواجهة المشاكل، وأنا أوجه هنا حديثي إلى المؤمنين العاملين في سبيل الله في كل مكان لأقول لهم: إنكم تعيشون الآن مع بعضكم البعض، وتقتبسون النشاط والحيوية من بعضكم البعض، وإذا ما ساءت بكم الأوضاع فإنكم ستستمدون الروحية والمعنوية ممن هو فوقكم، ولكنكم عندما تصبحون -إن شاء الله- قادة هذه الأمة فحينئذ ستشعرون بالوحشة، وفي هذه الحالة يجب أن تتخذوا القرار المناسب الذي ترون أنفسكم مسؤولين عنه أمام الله عز وجل وأمام الناس، وبذلك ستشعرون بالرهبة والوحشة، فلا تعرفون كيف تعملون، وفي نفس الوقت فإنكم لا تستطيعون أن تتهربون من اتخاذ القرار، ولا يمكنكم أن تستعجلوا في اتخاذه.
وقد مرّت هذه الظروف نفسها بالميرزا محمد حسن الشيرازي المرجع الأعلى لأتباع مذهب آل البيت عليهم السلام آنذاك، فقد كان هذا الرجل يشعر بضخامة المسؤولية عندما علم أن البريطانيين أمسكوا بزمام الأمور في إيران، وأن الملك قد تحالف معهم، وأن الناس لاذوا بالصمت، وبعض العلماء قد تعاونوا مع السلطة ، وبذلك فقد كان يشعر بالتهيب والوحشة، فهل يتخذ القرار أم لا يتخذه، وعندما اشتد الضغط الجماهيري على الميرزا بأن يقوم بعمل ما، انتظر حتى كان يوم الجمعة، وفي عشية هذا اليوم ذهب إلى (السرداب) المنسوب إلى الإمام الحجة عليه السلام وأمر الناس أن ينفضّوا من حـولـه، وبقي وحده لفترة في السرداب ثم أصدر بعد ذلك فتواه المعروفة والقاضية بأن استعمال التبغ اليوم يعتبر بمثابة إعلان الحرب ضد الإمام المهدي عليه السلام.
وعندما أصدر رضوان الله عليه هذه الفتوى كانت بمثابة الصاعقة التي نزلت على هشيم البريطانيين ، فاحترق هذا الهشيم، وكانت أول هزيمة لحقت بالاستعمار البريطاني في تأريخه، وهنا أريد أن أسلط الأضواء على لقطة من هذه الحادثة وهي أن أصدقاء الميرزا الشيرازي والمقربين إليه كانوا قد سألوه بالقول له: لماذا صبرت هذه الفترة الطويلة؟ فأجاب قائلاً: كنت انتظر الأمر من الإمام الحجة.
ترى هل كانت لهذا المرجع علاقة مباشرة مع الإمام أو مع بعض أصحابه؟ أنا لا أعلم بالضبط، ولكن الذي أعلمه أن الإنسان عندما يكون مخلصاً للخالق عز وجل ويجد صعوبات حادة في حياته، فإن علاقته بالإمام المنتظر عجل الله فرجه ستنفعه حينئذ وسيسدّد من قبل ولي الله .
ضرورة الاهتمام بالمسائل الغيبية
وهنا أوجّه خطابي إلى طلاب العلوم الدينية فأقول لهم: إنكم بصفتكم طلبة علوم دينية، فإن من الشرف العظيم لكم أن تسيروا على خطى أهل البيت عليهم السلام وان تصبحوا نوّاباً للإمام الحجـة الذي قال: " وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليكم"([7]).
إن هناك مسائل ظاهرة، وهناك أيضاً مسائل عميقة، فالمسائل الظاهرة فيما يتعلق بطالب العلم أن يذهب إلى الحوزة أو المدرسة، وينشغل في الدراسة والمباحثة، ويصلح ما بينه وما بين أخوته، ويصلح أخلاقه، ولكن هناك بالإضافة إلى ذلك مسائل غيبية ينبغي أن يرقى إليها ويصل قلبه بها، فيتصل بالنور الأعظم من خلال تفجير العلم في قلبه، وجعله طاهراً نقياً كما يقول الدعاء الشريف: المروي عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله: " اللهم ارزقني قلباً تقياً نقياً من الشرك بريئاً لا كافراً ولا شقياً"([8]). فعندما يكون قلبك نقياً، صافياً، طاهراً، زكياً، بعيداً عن الغي، والغش، والحقد، والحسد.. فحينئذ سيشعّ نور الله تبارك وتعالى في قلبك، وستكون علاقتك بأولياء الله المغيبين منهم والظاهرين علاقة التفاعل.
لإنقاذ المستضعفين
وبالإضافة إلى ذلك فإننا نحمل شعار الدفاع عن المستضعفين والمظلومين، وهو شعار كبير، ومن يحمل شعار كهذا فلابد ان يسود الاعتقاد نفسه بأنه قادر على تطبيق هذا الشعار في واقعه.
وفيما يتعلق بعقيدتنا بالإمام الحجة عليه السلام فإننا يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي وهو: كيف ننقذ المستضعفين في الأرض؟
وبالطبع فإن الشيطان لابد أن يدخل في هذا المجال قلوب البعض منّا، فيقول: ومن أنا لكي أستطيع إنقاذ المستضعفين؟
إن الحركات التاريخية الكبرى في العالم بدأت من خلال أشخاص مستضعفين أمثالنا، وهؤلاء الأشخاص هم الذين غيرّوا التاريخ في الاتجاه الصحيح، وقد كانوا بشراً مثلنا، ولكن كان يحدوهم الأمل الراسخ والوطيد بأنهم يستطيعون إنقاذ المستضعفين من شعوبهم.
ونحن أيضاً علينا - باعتبارنا مسلمين متبعين لخط النبي وأهل البيت عليهم السلام- أن نعمّق اتصالنا بالله سبحانه وتعالى أولاً، ثم بوليّه الأعظم الإمام الحجة عجل الله فرجه؛ ومن دون هذه العلاقة التي تبعث فينا روح الأمل والتفاؤل، وتثير فينا العزم الراسخ والإرادة القوية، فإننا سوف نصبح مشلولين تماماً، وسوف نعجز تمام العجز عن القيام بأي عملٍ في سبيل ديننا، وأمتنا.
فلنقوِّ هذا الاتصال ولنوطّده من خلال قراءة الأدعية، وأداء العبادات المستحبة المتعلّقة بالإمام المنتظر شريطة أن تكون تلك القراءة ، وهذا الأداء نابعين من صميم قلوبنا، وخالصين لوجه الله الكريم.