<a name=aaa34> </a>جيم/ الوقت - مبادئ الحکمة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مبادئ الحکمة - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ » (الرعد/2)

5/ « يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الاَرْضَ هَامِــدَةً فإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيـجٍ » (الحج/5)

6/ « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلآ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ » (العنكبوت/53)

7/ « يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ » (فاطر/13)

8/ « مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ » (الاحقاف/3)

9/ « وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بـــإِذْنِ اللّهِ كِتَابَــاً مُؤَجَّـلاً وَمَن يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَــا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ » (آل عمران/145)

وهكذا تجد أن لكل شيء أجل، وأن الله قد سمّى هذا الاجل عنده. ولكل نفس أجل، ولكل أمة أجل، وحتى للشمس والقمر أجل، وللقاء الله أجل.

وهذا الاجل هو الوقت المحدد الذي قضاه الله للأمور وهو الزمان، إذن، فتقديـر

الزمان وتدبيره بيد الله سبحانه.

جيم/ الوقت

وقد وقّت الله سبحانه الأمور، والوقت هو الزمان أو ساعاته، فقال تعالى:

1/ « وَإِذَا الرُّسُلُ اُقِّتَتْ » (المرسلات/11)

2/ « إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » (الحجر/38)

3/ « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ اَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماوَاتِ وَالاَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَاَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ » (الاعراف/187)

وبالتدبر في هذه الآيات نستوحي أن ساعات كل شيء بأمر الله سبحانه. فليس الله سبحانه قد قدر منذ اليوم الأول للخلق مقادير وآجال الاشياء، بل هو سبحانه الذي يجري كل شيء بوقته، وقد جعل سبحانه لكل أجل كتاب كما جعل لكل نبأ مستقر.

وهكذا الزمن ليس وهماً في الخيال، بل قدر مقدور وأجل مسمى ووقت موقوت، وإرادة عليا فوقها جميعاً تنفذ ما قدر وما أجل، وما وقت سبحانه فكيف يكون فوضى وعبثاً.

وفي الاحاديث أيضاً تذكرة بهذه الحقيقة؛ أن الله هو الذي وقَّت الوقت. وحدّد الأجل. نقرء فيما يلي بعضاً منها:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال : جاء حبر من الأحبار إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال : يا أميرالمؤمنين! متى كان ربك؟ فقال له : ثكلتك امك ! و متى لم يكن حتى يقال متى كان ؟ كان ربي قبل القبل بلا قبل، و بعد البعد بلا بعد، و لا غاية و لا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده، فهو منتهى كل غاية. ([111])

عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام لذعلب، إن ربي لطيف اللطافة، لا يوصف باللطف، قبل كل شيء لايقال شيء قبله -الى قوله- لا تحويه الأماكن، و لا تضمّنه الأوقات -الى قوله- سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، والابتداء أزله -الى قوله- ففرق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، و شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمعززها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه، كان رباً إذ لامربوب، و إلهاً إذ لا مألوه، و عالماً إذ لا معلوم، و سميعاً إذ لا مسموع. ([112])

فالله سبحانه هو الموقت للوقت. والذي جعل الشيء بعداً أو قبلاً سبحانه.

دال/ في أيام

لقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، وقدر أقواتها في أربعة أيام. وخلق الأرض في يومين. مما يهدينا الى أن الخلق استقر في ظرف زماني. بل يهدينا الى أن عنصر الزمن جزء من الخلق، تعالوا نقرء بعض الآيات:

1/ « الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً » (الفرقان/59)

2/ « قُلْ ءَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ اقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُالْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » (فصلت/9-12)

3/ « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » (الحج/47)

ومن آيات القـرآن الكريـم نستوحي أن معنى ( اليوم ) هو قدر محدد من الزمان، سواءً حدد بمطلع الشمس ومغربها (كأيامنا). أم حدد بحادثة معينة؛ مثلاً حيث قال بعضهم « لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ » (البقرة/249). أو حدد بحكمة أخرى؛ كاقامة العدل حيث قال سبحانه: « مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ » (الفاتحة/4) وهكذا تكون للخلقة زمان محدد.. وقد قال سبحانه في آية كريمة: « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَآءِي رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ » (الروم/8).

فالحق والأجل كانا مع خلقة الأرض والسماء. والذي يبدو لي من خلال التأمل الوجداني ومن خلال معرفة بعض الحقائق في علم الفيزياء الحديثة. وأهم من ذلك من خلال التدبر في الأيات والأحاديث هو التالي: أن حقيقة الإبداع والخلق والرزق، هي الحدوث والتغير والتطور، وهو حقيقة الزمن. فالزمن هو الحدث، ولكن بلحاظ تطوراته. ولذلك فإن خلقة السموات والأرض تمت في أزمان. وفي ذلك دلالة على أن الحدوث تم شيئاً فشيئاً. وأن الله سبحانه هو الخالق الآمر والرب المدبّر، وأنه لم يفرغ من أمر الخلقة.. تعالى الله.

بلى أن ذات الابداع، وذات المشيئة الربانية، وذات الفعل الالهي الذي يتعلق بالربوبية، لا زمان له. ولكن موضوع الابداع والانشاء وما تعلقت به الخلقة والربوبية ذات زمن لانه مُحْدَث.

ولعل النص الذي دلّ على أن الخلق الاول (الارادة) لاوزن له ولا حركة يعني ذلك، فقد قال الامام الرضا عليه السلام فيما روى عنه النوفلي: فالخلق الاول من الله عز وجل: الابداع، لاوزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس، والخلق الثاني : الحروف، لا وزن لها ولا لون وهي مسموعة موصوفة غير منظور اليها. والخلق الثالث ما كان من الانواع كلها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً اليه. والله تبارك وتعالى سابق للابداع، لانه ليس قبله عز وجل شيء، ولا كان معه شيء. والابداع سابق للحروف. والحروف لاتدل على غير أنفسها.

قال المأمون ([113]) وكيف لاتدل على غير أنفسها؟ قال الرضا عليه السلام: لأن الله عز وجل لايجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فاذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقل، لم يؤلفها لغير معنى، ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً. ([114])

ويبدو أنّ هذه البصيرة تحل اللغز العلمي الذي حارت فيه النظريات الرياضية الحديثة. حيث أن العلماء قدروا لحظة الأنفجار الكبير بوقت قصير جداً يقترب من الزمـن الصفـر، وهو حاصل تقسيم الثانية الواحدة الى رقم تُوضَع على يمينـه خمسة

واربعـون صفـراً.

ولما فكروا فيما وراء ذلك الزمن الصفر ذُهل بعضهم، حتى أن عالمين رياضيين من "بلجيكا" ادخلا المصحة العقلية، مما حدى بالآخرين غلق هذا الملف وإعتباره نهاية قدرة العقل.

بلى؛ ان المخلوق الأول. وهو ذات المشيئة وذات الابداع لايشبه سائر الحوادث، إنه مجرد من الحركة. والواقع أنه يخلق في لحظة تشبه الزمن الصفر في الحادثة التي وراءها، حيث أن أمر الله سبحانه بين الكاف والنون، فاذا أراد شيئاً فانما يقول له كن فيكون فسبحانه سبحانه.

هاء/ نور محمد صلى الله عليه وآله

ونستفيد من الأحاديث الشريفة أن الله خلق أول من خلق : نور محمد صلى الله عليه وآله والأنوار القدسية التي اشتقها من نور النبي محمد صلى الله عليه آله، وقد لايفقه البعض تفسيراً لهذه الحقيقة، كما لانفقه تفسير كثير من الحقائق الكبرى. ولكنها حقائق استفاضت بها النصوص المؤكدة. وعلينا التسليم لها لحين توفيق الله للبشرية على دركها ووعي مضامينها الحياتية. واليك عدداً من النصوص في هذا المجال :

1/ وروي عن الامام ابو جعفر الباقر عليه السلام انه قال لجابر الجعفي : " يا جابر كان الله ولا شيء غيره ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه ان خلق محمداً صلى الله عليه وآله وخلقنا أهل البيت معه من نوره وعظمته، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه، حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس، نسبّح الله تعالى ونقدسه نحمده ونعبده حق عبادته. ثم بدا لله تعالى عز وجل أن يخلق المكان فخلقه... ثم أودعنا بذلك النور صلب آدم عليه الصلاة والسلام، فمازال ذلك النور ينتقل من الاصلاب والارحام من صلب الى صلب، ولا استقر في صلب إلاّ تبيّن عن الذي انتقل منه انتقاله، وشرّف الذي استقرّ فيه حتى صار في صلب عبد المطلب... فافترق النور جزئين : جزء في عبد الله وجزء في أبي طالب...". ([115])

2/ وسأل المفضل الامام الصادق عليه السلام : ما كنتم قبل ان يخلق الله السموات والارضين ؟ قال عليه السلام : كنا أنواراً حول العرش نسبح الله ونقدسه، حتى خلق الله سبحانه الملائكة فقال لهم : سبحوا، فقالوا : يا ربنا لا علم لنا، فقال لنا : سبّحوا، فسبَّحنا فسبَّحت الملائكة بتسبيحنا، ألا إنا خُلقنا من نور الله، وخُلق شيعتنا من دون ذلك النور، فإذا كان يوم القيامة التحقت السفلى بالعليا، ثم قرن عليه السلام بين إصبعيه السبابة والوسطى - وقال : كهاتين. يعني نور شيعة أهـل البيت عليـهم السـلام في يوم القيامة -. ([116])

3/ وقال ابن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخاطب علياً ويقول : يا علي إن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه، فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله، فكنا أمام عرش رب العالمين نسبح الله ونقدسه ونحمده ونهلله، وذلك قبل أن يخلق السماوات والارضين، فلما أراد أن يخلق آدم خلقني وإياك من طينة واحدة، من طينة عليين، وعجننا بذلك النور وغمسنا في جميع الانوار وأنهار الجنة، ثم خلق آدم واستودع صلبه تلك الطينة والنور، فلما خلقه استخرج ذريته من ظهره فاستنطقهم وقررهم بالربوبية، فأول خلق (الله) إقراراً بالربوبية أنا وأنت والنبيون على قدر منازلهم وقربهم من الله عز وجل، فقال الله تبارك وتعالى صدقتما واقررتما يا محمد ويا علي، وسبقتما خلقي الى طاعتي، وكذلك كنتما في سابق علمي فيكما، فأنتما صفوتي من خلقي، والائمة من ذريتكما وشيعتكما وكذلك خلقتكم. ثم قال النبي صلى الله عليه وآله: يا علي فكانت الطينة في صلب آدم ونوري ونورك بين عينيه... ([117])

الفصل السادس : بين القـدر والقضـاء

أخرجت الفلسفة البشرية الوضعية موضوع القدر والقضاء من محتواه الحقيقي، وأفقدته فائدته الايمانية المناسبة لها، وذلك بما ذهبت اليه من معتقدات فاسدة، بعيدة كل البعد عن مفاهيم القرآن الكريم وغايات الخالق العظيم.

وقبل أن نعرف القدر والقضاء والمشيئة والارادة، لابد من طرح مقدمة هي من الاهمية بمكان بالنسبة لاستيعاب الموضوع برمته.

إن الانسان حينما يتحدث عن الله سبحانه وتعالى عليه أن ينطلق بدءاً مما عرّف الله نفسه في قرآنه الكريم، والقرآن الكريم اكد في أكثر من مناسبة على أن اقتران صفةٍ ما، أو إسم ما بالله عز وجل يختلف اختلافا كليا عن اقتران صفة أو اسم ما بالمخلوق، وذلك تبعا للتفاوت الموجود بين الطرفين.

فحينما تقول : إن الله حنان ورحمان، وإن الله أراد كذا وما أشبه، فلا بد من أن تعرف بأن معنى كلامك يختلف عما إذا قلت : فلان حنان ورؤوف، وأنه غضب أو أراد كذا.

والفرق في ذلك يكمن في أن الحديث عن الله يعني الحديث عن غاية الفعل، أما الحديث عن الانسان فهو حديث عن مبدئه. فالانسان حينما يرحم أحدا من الناس فإن فعله هذا يتحقق عبر مراحل معينة، فهو ينظر إليه ثم يرى ما به من ضعف وعجز، ثم يتألم له قلبه، ثم تثور نفسه، ثم يأخذ مقدارا من المال ويعطيه. وأنت حنيما ترى رجلا جريحا قد دهسته سيارة فانك ترحمه وتنقذه وتسعفه وتذهب به الى أقرب مستشفى ؛ أي أن مراحل فعلك تمثلت بالنظر إليه، ثم بتأثر القلب، ثم بهمة النفس، ثم بالقرار والعزم على إنقاذه، ثم حمله الى المستشفى. فإذا قيل : فلان رحيم يعني أن (الرحمة) قد مرت عبر هذه المجموعة المتعاقبة من المراحل حتى تحققت.

أما إذا قلنا : (رحم الله فلاناً)، فإننا لا نعني أن الله قد نظر اليه بعينه، فالله لا عين له. ولانعني أن الله قد تأثر قلبه جراء هذا المنظر المفجع أو ذاك، فالله لا قلب له. فالله ينظر من دون عين، ويرحم الانسان من دون توجع قلب. فالانسان بحاجة الى المراحل والمقدمات ليحصل في ذاته تحول متكامل، اما الله جل جلاله فلا حاجة به الى تحول. فمعنى أن الله رحم فلانا هو ان السيارة كادت تدهسه فنبّه السائق والسائق غيّر الاتجاه ولم يدهسه، فالعمل نفسه الذي يقوم به الانسان الرحيم عبر الوسائل وبعد التحولات الذاتية يقوم به الله تعالى ولكن دون الحاجة الى مقدمات، وهذا معناه : " خذ الغايات واترك المبادئ " في إطار الحديث عن فعل الله تعالى.

ولنضرب مثلاً آخر: حينما ننعت انساناً بأنه غضبان، فنعني أن الدم تدفق الى قلبه، وان اعصابه تحركت وتشنجت، وان عينه احمرت، وأن أوداج رقبته برزت؛ فسادت الجسم والروح حالة استثنائية، ثم رفع يده وضرب صاحبه أو صرخ في وجهه أو أدى ما عبَّر عن غضبه. فتلك هي المقدمات وهذه هي النتيجة، ولكن الحديث عن غضب الله غني عن وجود أو حتى تصور وجود هذه المقدمات. فالله لا دم ولا قلب له ولا عروق ولا أوداج له.

إذاً، فالمبادئ أمر يخص الانسان، والنتيجة أمر يخص الله تعالى.

حينما يريد الانسان القيام بعمل ما فهو يفكر ويخطط ويعزم ويقرر، كأن يقف في الشارع وينظر الى هذا الطرف وذاك ويتأكد من ساعته فيفكر قليلا ويسهو قليلا ويطالع مذكرته ليراجع جملة من النقاط المدونة، ثم يصل الى نقطة الاوج في قراره فينطلق.

لكن مجمل هذه البدايات لا وجود لها في الحسابات الالهية، إنه في غنى مطلق عنها، لأنه خالقها لغيره. فهو يشاء وينتهي الأمر. ولكن كيف هي مشيئة الله تبارك وتعالى ؟ وكيف يفعل ؟

هذان سؤالان من جملة أسئلة تبقى الاجابة عليها مجهولة، ليس الآن فقط، بل والى الأبد، لأن الله جل جلاله، تعالى عن أن تدركه الابصار وهو يدرك الابصار، فقد قرئ بين يدي العالم عليه السلام قوله : " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " فقال : إنما عنى أبصار القلوب وهي الأوهام... ([118]) فالله لا يمكن أن يتوهمه الانسان، وكلما توهمه الانسان فهو مخلوق مردود عليه. هذا الذي يمكن أن يتوهمه الانسان ليس هو الله. وقد جاء في الدعاء : " إلهي طموح الآمال قد خابت إلاّ لديك، ومعاكف الهمم قد تعطلت إلاّ إليك، ومذاهب العقول قد سمت إلاّ إليك..." ([119]) ففعل الانسان يسمو ويسمو ولكنه يعجز عن الوصول الى رب العالمين.

مراحل خلـق الكـون :

أما قضية القدر والقضاء، فيمكن تصورها عبر استيعاب مراحل خلق الكون ؛ المراحل المتمثلة بخلق المشيئة التي تخلق الارادة ثم التقدير ثم القضاء ثم التحقق.

فالله جل وعلا خلق المشيئة ثم خلق الأشياء بالمشيئة الفعالة (الارادة). فالمشيئة قررت خلق مخلوق ما فهذا هو (الارادة) ثم قامت بتصميمه وهندسته ومعرفة أبعاده وأقداره من حيث المساحة والحجم والحرارة والبرودة والقابليات، وهذه هي مرحلة (التقدير) أو (القدر) المتمثلة بالتخطيط والتصميم، ثم تأتي مرحلة (القضاء)، بمعنى أن هذا المخلوق أصبح معروفاً وجاهزاً، وبعد ذلك تأتي مرحلة التحقق والامضاء ؛ أي إنزال هذا المخلوق الجديد الى أرض الواقع وحيز الوجود.

ولبيان ذلك نسوقُ مثلاً -والأمثلة تضرب ولا تقاس، وتعالى الله عن الامثال- : أن ملكاً في بلد ما يريد خوض حرب ضد عدوه، فهو يعمد أولاً الى تنصيب قائد للعمليات، ثم يقرر هذا القائد وبتوجيه من الملك ما يحتاجه الجيش من سلاح وقوات ومواقع. هذا كله يجب أن يقرر ضمن خريطة تفصيلية شاملة، ثم يأتي قرار تحديد ساعة الصفر فلا تحتاج القوات إلا الى الأمر النهائي بالهجوم، وبعد ذلك تقرع طبول الحرب...

فقرار التنصيب هو بمثابة المشيئة.وقرار الحرب بمثابة الإرادة. وتعيين ما تحتاجه القوات بمثابة التقدير والقـدر. وتحديد ساعة الصفـر بمثابـة القضـاء. وقرع الطبول

بمثابـة التحقق والامضاء.

فالمراحل هكذا : شاء وأراد، وقدر وقضى وأمضى. فالله سبحانه وتعالى أراد ما شاء وقدر ما أراد وقضى ما قدر وأمضى ما قضى، هذه هي مراحل القدر والقضاء.

ولاشك أن هذه الامور الخمسة حادثة وليست قديمة مع الله تبارك وتعالى. إنما القديم مع الله هو العلم، والعلم ذاته. بينما المشيئة والارادة والقدر والقضاء والامضاء مخلوقات حادثة، والبداء في المشيئة موجود وفي الارادة موجود وفي القدر موجود، ولكن إذا تحول القدر الى قضاء فليس هناك بداء، إذ وراء القضاء مباشرة يأتي الامضاء، وإذا أمضى الله شيئا انتهى الأمر.

القدر والقضاء في أحاديث أهل البيت عليهم السلام :

أما الاحاديث والروايات الشريفة في هذا الخصوص، فقد جاء في كتاب (بحار الأنوار) عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال :.. لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. قلت : فما معنى شاء ؟ قال الامام عليه السلام : ابتداء الفعل. قلت : فما معنـى أراد ؟ قال الامام عليه السلام : الثبوت عليـه. قلت : فما معنى قدّر ؟ قال الامام عليه السلام : تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت : فما معنى قضى ؟ قال الامام عليه السلام : إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مرد له. ([120])

فابتداء الفعل هو أول ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه، وإرادة الفعل تعني الثبوت عليه. وتقدير الشيء يعني التخطيط له وهندسته. وقضاء الشيء يعني الامضاء الذي لا عودة فيه.

وقال الرضا عليه السلام ليونس مولى علي بن يقطين : يا يونس ؛ لا تتكلم بالقدر. قال (يونس) : إني لا أتكلم بالقدر، ولكن أقول - شيئاً واحداً - : لا يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدّر. فقال الامام الرضا عليه السلام : ليس هكذا أقول، ولكن أقول : لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى. ثم قال : أتدري ما المشيئة ؟ فقال (يونس) : لا. فقال عليه السلام : همّه بالشيء - وهو ليس همّنا - أوَ تدري ما أراد ؟ قال : لا. قال عليه السلام : إتمامه على المشيئة. فقال عليه السلام : أوَ تدري ما قدر ؟ قال : لا. قال عليه السلام : هو الهندسة... ثم قال عليه السلام : إن الله إذا شاء شيئا أراده، وإذا أراد قدّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه... ([121])

وفي الوافي عن الكافي مسندا عن يونس بن عبد الرحمن عن يونس قال : قال لي ابو الحسن عليه السلام : يا يونس أتعلم ما المشيئة ؟ قلت : لا. قال : هي الذكر الأول. أوَ تعلم ما الإرادة ؟ قلت : لا. قال : هي العزيمة. أفتعلم ما القدر ؟ قلت : لا. قال : هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، ثم قال : والقضاء هو الابرام وإقامة العين.

علم الله بلا حدود :

ولا ريب أن هناك مرحلة سابقة لهذه المراحل وهي مرحلة علم الله تبارك وتعالى ؛ العلم القديم الذي لا ينفصل عن ذاته، بل هو ذاته.

وقيل للامام الكاظم عليه السلام : كيف علم الله ؟ قال : علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى وقضى ما قدّر وقدّر ما أراد. فبعلمه كانت المشيئة، وبمشيئته كانت الإرادة، وبإرادتهِ كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الامضاء.

فالعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والارادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالامضاء، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما اراد لتقدير الاشياء، فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء... وبالعلم علم الاشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودهـا وأنشأها قبل إظهارها، وبالارادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلّهم عليهـا، وبالامضاء شرح عللها وأبان أمرها ؛ ذلك تقدير العزيز العليم. ([122])

وما يسعنا تفصيله وشرحه في هذا المقام هو القول بأن علم الله امر مختلف عن القدر والقضاء ؛ فعلم الله عين ذاته القدسية، فهو قديم، أما القدر والقضاء فهما حادثان مخلوقان يأتيان بعد خلق المشيئة والإرادة.

فعلم الله بلا حدود، فهو يعلم ما سيفعل وما سيحدث، وعلم البشر عاجز عن الوصول الى معرفة علم الله سبحانه وتعالى مهما كان هذا البشر عظيما إلاّ ما علمه الله نفسه. وقد جاء في القرآن الكريم على لسان الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله : « وَلَوْ كُنتُ اَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ » (الاعراف /188) وقالت الملائكة لربها جل جلاله :

« لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ » (البقرة/32 (وأمرنا الله بالدعاء اليه : « وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً » (طه/114 ) ووصف الله الخلق بقوله : « وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » (الاسراء/85 ) وجاء في المأثور من الدعاء عن الائمة عليهم السلام : " وأسألك باسمك العظيم الأعظم المكنون المخزون عندك الذي لم تطلع عليه لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ".

هذا هو العلم الالهي، وهذا هو الغيب الذي لايظهر على غيبه أحداً إلاّ من إرتضى من رسول، ولكن حينما يخرج الشيء من العلم الى المشيئة أو من المشيئة الى الارادة أو من الارادة الى التقدير أو القضاء فمن الممكن أن يتعرف إليه الملائكة أو الانبياء أو الأئمة أو المؤمنون أو حتى البشر العاديون.

الفصل السابع : القدر والقضاء بحث مقارن

من شطحات الفلسفة البشرية فيما يتعلق بموضوع القدر والقضاء، أنها ذهبت الى القول بأن القضاء عبارة عن "صور علمية لذات الله المقدسة دون تأثير أو تأثر، وهذه الصور ليس لها حيثيات عدمية أو إمكانات واقعية. فالقضاء صورة من صور علم الله القديم، باق ببقاء الذات الالهية. وأما القدر فهو بمثابة وجود صور الموجودات في العالم السماوي النفسي، مطابقة لما في مواردها الخارجية الشخصية المستندة الى أسبابها وعللها ؛ واجبة بها ملازمة لأوقاتها المعينة وأمكنتها الخصوصية..".

ويقول أحد الفلاسفة: الممكن الأشرف الأقرب وهو العقل الأول قلم ؛ وهو أيضا قضاء الله الاجمالي، حيث إنه بسيط الحقيقة مشتمل على جميع صور ما دونه بنحـو البساطة، والصور القائمة بالقلـم قيام صـدور بلا واسطة أو مع الواسطـة، وهي العقـول العرضية المتكافئة أو المثل النورية قضاءه التفصيلي لأن فيهـا كثـرة نوعيـة.

وقال المشائيون : القضاء والقدر ؛ هو الصور الكلية القائمة بالعقل بنحو الارتسام، والصور الجزئية القائمة بالنفس الجزئية المنطبعة الفلكية هي الصور القدرية...

من هنا يتبين أن الفلسفة البشرية البعيدة كل البعد عما وضحه القرآن الكريم، وبينته السنة المطهرة، تعتقد بأن القدر والقضاء مرحلتان من مراحل علم الله سبحانه وتعالى، ولان علم الله قديم فالقدر والقضاء قديمان ؛ وإذا كانا قديمين فينبغي أن يكون ما وراءهما قديما أيضا.

لقد أوضحنا فيما سلف أن مشكلة الفلسفة البشرية أنها لم تستطع أن تفهم العلاقة بين الخالق والمخلوق ؛ بين ما يسمى بالقديم وبين ما يسمى بالحادث، تماماً كما هو شأنها إزاء موضوع البداء والإرادة الالهية، وباقي الموضوعات الخاصة بهذا الشأن، حيث تذهب أغلبية التصورات البشرية بأن جميع ما يتعلق بالله جل ثناؤه لابد وأن يأخذ الطابع الأزلي القديم، رغم التفاوت الكبير بين مثل هذا الاعتقاد وبين ما فطر الله الناس عليه، فضلا عن تعاليم القرآن المجيد وروايات الرسول صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم معدن العلم الالهي المجيد.

والاعتقاد بان مجرد علم الله هو القضاء والقدر يعني أن القضاء والقدر ليس خلقاً جديداً من خلق الله، ومعنى ذلك أنه لاتبديل لقضاء الله ولقدره لانهما من ذات الله وذات الله لايتغير.

ولكن مثل هذا الاعتقاد الجاف يتسبب للبشرية كلها في خلق مشكلة كبرى للغاية تتمثل في العيش - كمرحلة أولى - دون التطلع الى أدنى بصيص نور من الأمل ؛ الأمل في أن يدفع الله البلاء عن الانسان، او على الأقل إمكانية العمل على تغيير الواقع بارادة واختيار الانسان.

ثم إن مفهوم جمود القدر والقضاء يتناقض مع جملة من الآيات القرآنية الكريمة التي هي من صنع الخالق القديم ايضا، بالاضافة الى سيرة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت عليهم السلام الذين هم خلفاؤه الشرعيون. فالآيات القرآنية المباركة تؤكد في غير مناسبة على ضرورة أن يتوجه العبد الى ربه الاكبر لطلب العفو والمغفرة والى التماس الطِلبة منه، لا من غيره. فإذا كان الداعي يتضرع الى الله جل جلاله ويدعوه لأن يمحوه من قائمة الأشقياء وأن يكتبه من السعداء ؛ فهو من منظور الفلسفة البشرية لا يذهب الى الواقع، بل إنه يتعلق بشيء هو أقرب الى السراب منه الى الحقيقة. فما دام القدر والقضاء أمرين قديمين فلا أمل في تبديلهما أو تبدلهما، إذاً فالانسان شقي أو سعيد منذ أن خلق، بل منذ أن قرر الله خلقه، بل هو شقي أو سعيد منذ القدم والى الابد القادم. فليصلِّ هذا المسكين ما بدا له، وليفسق هذا السعيد ما بدا له، فسلوكهما لايغير من الأمر شيئاً مطلقاً !!

هذا من جانب، ومن جانب آخر لنا ان نتساءل عن السر من وراء خلق الجنة والنار ؟ ولنا أن نعتقد بخطأ وجودهما - والعياذ بالله - وفق الاعتقاد بأزلية القدر والقضاء، أو أن نعتقد بوجود ظلم فادح في طريقه الى النزول بحق البشرية على اعتبار نفي قانون الثواب والعقاب بالنسبة الى الجنة والنار. فالقدر والقضاء بعد أن رسما الخارطة التفصيلية لحياة الانسان في الدنيا قررّا ان يدخلا ثلة من البشرية الى الجنة، وأن يحشـرا مليارات البشر الى النار حشرا. فالبعض يدخل الجنة دون عمل

لان هذا قدر الله، وأهل النار يدخلون النار بدون ذنب لأن هذا أيضاً قدر الله !!

وهذا الاعتقاد يتناقض مطلق التناقض مع قول الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم :

1/ « مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (فصلت/46)

2/ « ذَلِكَ بِمَـا قَــدَّمَتْ أَيْدِيكُـمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (آل عمران / 182) و (الانفال/51)

3/ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (يونس/44)

4/ « فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (الروم/9)

وعشرات الآيات القرآنية الأخرى بهذا المضمون.

ولا يفوت كل ذي عين تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، حيث كانت مليئة بصور التعبد والتضرع الى الله جل ثناؤه. وهذا الامام زين العابدين عليه السلام سُميّ ذو الثفنات لكثرة سجوده، وهو مع ذلك كان يتحسر على عبادة وتضرع جده أمير المؤمنين عليه السلام الى ربه عز وجل. وذاك الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام الذي قضى سني سجنه المديدة في الدعاء والتطلع الى مزيد من الرحمة والغفران الالهي، له ولشيعته الرازحين تحت وطأة ظلم بني العباس على عهد هارون الرشيد. وكل هذه السيرة تعني أن كل شيء في الحياة قابل للتغيير بارادة جديدة من الله سبحانه وتعالى، فليس القدر والقضاء قديمين ثابتين كعلم الله وذاته المقدسة.

إن الفكرة القائلة بقدم القدر والقضاء وأنهما من ذات الله سبحانه، فكرة تنتهي الى القول بالجبر. والجبر ينتهي الى استحالة المسؤولية والتهرب أو الهروب منها، فضلا عن تفنيد قانون الجزاء والثواب والعقاب، وبالتالي ظلم الله لعباده. وهذا القول بعيد عن شرع الله، وفطرة وعقل الانسان.

اما القول بحدوث القدر والقضاء - وهو مفهوم ومنطوق الشريعة الاسلامية - فمنبعه القول بالقدرة الالهية التي أوجدت هذا الانسان من التراب وستعيده إليه مرة أخرى. وهومفهوم ومنطوق قوله تعالى : « إِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ » (البقرة/156) فالله سبحانه هو الذي خلقنا وملكنا ونحن اليه عائدون. ونحن بين الخلق والعود احرار بالقدرة الربانية التي تمدنا بأسباب الحياة، وتُهيء لنا فرص إثبات الوجود وجدارة استحقاق الدخول الى الجنة التي هي مصداق العدالة والرحمة الالهيــة. فالله جـل جلالـه ليس ينبوعـاً يخـرج الماء منه فلا يعود اليه، بـل الحكمة ذاتـه والعدل ذاتـه والعلم ذاتـه، وحاشـاه ان يخلق الانسان فيقضي عليـه بالشقاء الدنيوي ثم يدخله نارا في الآخـره. فهـو لارغبة لديـه في تعذيب أحـد أبـداً.

وذهبت فئة أخرى الى نفي القدر والقضاء مرة واحدة، وقال أتباع هذه الفلسفة بأن الله قد خلق الكون وتركه لشأنه. ومنهم من عزا ذلك الى ان الله يتعالى عن التدخل في شـؤون المخلوقات، بل هو عاجـز عن التدخل بسبب الفاصلة غير القابلة للتصور بيـن عظمة ذاته وبين حقارة الكون والمخلوقات. في حين بررّ آخرون القول بنفي القدر والقضاء بأن الله خلق الخلق ضمن قانون آلي - ميكانيكي - مثل ما يصنع صانع الساعات الساعة، فهو يصنع آلاتها ثم يركب هذه الآلات ثم يشحنها بالطاقة ثم يتركها لشأنها تعمل وتعمل حتى تنفذ طاقتها. ونفي القدر والقضاء هذا كان يسمى في المنطق القديم ( التفويض ) .

وبين الجبر والتفويض لا يزال الاسلام يؤكد حقيقة أخرى ؛ حقيقة صادرة عن الخالق نفسه، وهي في الوقت ذاته تتلاءم والفطرة الانسانية النزيهة.

تشير الشريعة السمحاء الى أن الله رسم خريطة الكون من حيث التقدير ؛ وللانسان حرية انتخاب الطريق الذي يرتئيه لنفسه للسير ضمن هذه الخريطة. فالله تعالى أنبأ هذا المخلوق بحتمية وجود يوم القيامة ؛ اليوم الذي لا يعلم ميقاته إلاّ الله، والله نفسه بيّن للانسان طرق الملتقى حتى ذلك اليوم. فالانسان ليس كالساعة، إذ من الحمق تشبيهه بالآلة، وهو ليس سجيناً، إذ من الظلم نسبة الظلم الى الله.

ولقد لعن نبي الاسلام محمد صلى الله عليه وآله قدرية هذه الامة واعتبرهم كاليهود، والمقصود هنا : القدرية بالمعنيين: الجبر والتفويض. فالقدرية اصطلاح يعم من قال بجمود القدر ومن قال بفوضويته.

وسواء قال الانسان بالجبر أو قال بالتفويض فالنتيجة واحدة، وهي تجرده عن إنسانيتـه ومسؤوليته. فمن يذهب الى الجبر يؤكد بأن الله هو المسؤول عن أعمالنـا ؛ لانه هو الذي يحركنا. ومن يذهب الى التفويض يؤكد بأن لا شأن لله في خلقه، وبالتالـي وقوف هذا المخلوق حائراً متسائلاً عن سبب وجوده والى أية نقطة يسير ؟!

أما الايمان بالقضاء والقدر فهو دافع الى الايمان بوجود شريعة لله والى الالتزام بها، كما هو دافع الى الايمان بقدرة الله على أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب ؛ فيحركه الى المزيد من العمل الصالح والجد والاجتهاد في الدعاء والتوسل الى قوة الوجود المطلقة. فبين الجبر والاختيار يتحرك الانسان باتجاه تكريس حسناته وتلافي سيئاته.

وقد روى الامام أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : سبعة لعنهم الله وكل نبي مجاب : المغيّر لكتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمبدل سنة رسول الله، والمستحلّ من عترتي ما حرم الله عز وجل، والمتسلط في سلطانه ليعز من أذل الله ويذل من أعزّ الله، والمستحل لحرم الله، والمتكبر على عبادة الله عز وجل. ([123])

وقال النبي صلى الله عليه وآله أيضاً : يقول الله عز وجل : من لم يرضَ بقضائي ولم يشكر لنعمائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سوائي. ([124])

فلله سبحانه وتعالى قضاء لا يرد ولا يبدل، وله نعم علينا يجب أن نشكره عليها، ويختبرنا ببلاء لابد من الصبر عليه.

وقال الامام الرضا عليه السلام : ثمانية أشياء لا تكون إلا بقضاء الله وقدره ؛ النوم واليقظة والقوة والضعف والصحة والمرض والموت والحياة. ([125])

وسأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام بعد انصرافه من صفين قائلا : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا الى الشام أبقضاء وقدر ؟ فقال الامام عليه السلام : نعم يا شيخ ؛ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدره. فقال الرجل : عند الله احتسب عنائي، والله ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال علي عليه السلام : بلى، فقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون، وعلى منصرفكم وأنتم منقلبـون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين. فقال الرجل : فكيف لانكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ويحك ! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ! ولوكان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلِّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعِباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً: « ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (ص/27) فنهض الرجل مسروراً وهو يقول: أنت الامام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرحمن رضواناً. ([126])

وجذوة القول إن الانسان المسلم لابد وأن يأخذ تعاليمه من مصدرها الحقيقي وهو القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، وذلك لينطبق الاسم على المسمى. ومن جملة هذه التعاليم ضرورة الحفاظ على عقله وإدراكه السليم وتحليله للاعتقادات تحليلا نزيها، مشفوعا بما تمليه عليه الآيات القرآنية؛ وضرورة ألا يكون فكره فكرا انتقائياً، إذ طريقة الانتقاء تخرج المرء عن مصداقيته ككائن مفكر مستقل، لا سيما وأن انتخاب النظريات الفلسفية محل البحث يبدو أمراً صعباً للغاية ، على إعتبار أن هذه النظريات تمتاز بخلفية تأريخية - وان اعتنقها بعض المسلمين - قد تكون مجهولة الأساس، أو أن تكون ذات مصدر معاد لكل ما من شأنه تكريس العبودية لله سبحانه وتعالى. فأن ينتخب الانسان فكرة معينة أو مذهبا خاصا أو حتى دينا خاصا فهو حرٌ في ذلك، ولكن أن يعمد الى التقاط فكرة من هذا الدين ونظرية من تلك الفلسفة ويحسبها على الشريعة الاسلامية فذاك الخطأ بعينه، لأنه لا يمكن ترتيب النظريات المتناقضة أبداً.

إن كتاب الله وسنة النبي واهل بيته عليهم السلام وحدة متكاملة ؛ تفسر بعضها بعضا. فلا يمكن بأي حال من الأحوال الايمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، أوالاستعاضة بأفكار فلسفية بشرية عن آيات الله وروايات النبي وأهل بيته الصادقة المصدقة..

الفصل الثامن : بيـن الجبـر والاختيـار

تفضي معظم مسائل العرفان الى مسألة الجبر والتفويض ؛ فهي مسألة بالغة الحساسية من حيث أنها طرحت كموضوع فلسفي حينا، وعالجها علم التربية والقانون وعلم الكلام أحياناً أخرى ؛ إذ يعتمد عليها كثير من القضايا التربوية والأخلاقية والتوجيهية والحقوقية. فالانسان إذا عجز عن تكريس فكرة الاختيار المحدودة وفكرة ( البينية ) الخاصة بالجبر والتفويض، فإنه سيكون أعجز من أن يبني على أساسها رؤاه ومعتقداته التربوية والتشريعية.

لقد عجزت ظنون البشر عن أن تصل الى خط واضح في هذا الاطار، وقد انتهت هذه الظنون البالية الى الجبر تارة والى التفويض أخرى. ونحن سنتناول الموضوع ونبحث عن حل هذه المشكلة من خلال ما نستوحيه من آيات الذكر الحكيم وروايات النبي وأهل بيته عليهم السلام ؛ نشرح تفاصيل الحل، ونفند الشبهات التي حامت حول مسألة الاختيار .

لقد قال فلاسفة البشـر بصـورة عامـة بأن الانسـان كائن مجبر في سلوكه. كما

إنهم تهربوا من الاعتراف بخطئهم الفادح هذا، حينما سئلوا عن العلة في أن يأمرهم الله سبحانه وتعالى وينهاهم ويحمّلهم التكاليف الشرعية والاخلاقية ؛ هذا فضلاً عما يلزمهم العرف والمجتمع بالتزامات متفق عليها.

ومن الملاحظ ؛ أن الجاهلية الغربية الحديثة بكل مدارسها تقول أيضاً بالحتمية، وهي تعبير آخر عن (الجبر). ومثال ذلك قول الماركسية المادية بحتمية الصراع الطبقي، وكذلك الحال بالنسبة للمذهب الاجتماعي الذي بنيت عليه الديمقراطية الغربية الحاكمة، حيث يؤكد هذا المذهب حتمية تأثير القوانين الاجتماعية على حركة الانسان. وهناك المذهب الجنسي القائل بحتمية انصياع حركة الفرد الى ما تمليه عليه احتياجاته الجنسية.

إن هذه المذاهب وغيرها من المذاهب الحديثة يتفق جميعها على الحتمية، وعلى أن الانسان كائن عاجز ؛ لا حول له ولا قوة. ولكنها تختلف فيما يسيطر على هذا الكائن ؛ فبعض يقول المجتمع، وبعض يقول الاقتصاد ووسائل الانتاج، وبعض يقول العقد النفسية، وبعض يؤكد على الحركة التأريخية ودوراتها.

إذاً، فالانسان في متاهة النظريات هذه لا يعدو أن يكون اكثر من عربة يحركها سائقها، فهي تسير كما يشاء القائد ولا إختيار لها بالمرة. هذه هي نهاية مبلغ الفلسفة البشرية.

أما رسالات الله فتؤكد على أن الانسان كائن حر في تصرفاته، ومسؤول عن مصيره. وأستطيع في هذا المجال الجزم بأن احد أهم أبعاد الشرك بالله العلي العظيم هو الاعتقاد بحتمية تفوق العوامل الارضية على الانسان، وبالتالي القول بحتمية وجود فاصلة بين الانسان وربه الخالق.

الرب القاهر.. والانسان الحر..

إن الكثير من الناس يتصورون بأن السلطات الظالمة عامل قاهر لا يستطيعون تجاوزه أبداً، ولأنهم كانوا يزعمون بقاهرية السلطة والسلالة الحاكمة فقد رفعوها الى مصافّ الإله، أو استعاضوا بها عن الإله. وقد عمد البعض الى الخنوع والخضوع لتصورات خرافية أخرى، حيث اعتقدوا بقاهرية الظواهر الطبيعية والموجودات الفضائية من قبيل النجوم والشمس والقمر، حتى رفعوها الى مستوى الرب الجليل.

فجاء القرآن الكريم نافيا بالدليل القاطع كل تلك التصورات الخاطئة ؛ مؤكداً في الوقت ذاته بأن الله "هو القاهر فوق عباده"، وهو مصدر الوجود ومنبع الخيرات، وهو الذي زوّد الانسان بالحرية والاستطاعة.. مشيرا في غير آية مباركة الى أن الله الذي أنعم على الانسان بالقابليات العديدة، جعله حرياً بأن يستفيد من الحرية الممنوحة له، وأن يستثمر هذه الاستطاعة في تسخير العالم لمصلحته ؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

ونطالع في قصة آدم عليه السلام والأمر الالهي المقدس القاضي بسجود الملائكة له وإطاعته إشارات واضحة الى ما أنعم الله به عليه، باعتباره أباً للبشرية. لقد انصاع الملائكة كلهم لهذا الأمر إلاّ إبليس - لعنه الله -. ومن المعلوم إن إبليس لم يكن من جنس الملائكة؛ ولكن الله استثناه منهم - رغم إن هذا الاستثناء وهذا التجريد مخالف في ظاهره لاصول علم اللغة واستخداماتها - لنكون على اطلاع بأن المقصود أن جميع الوجود قد سجد لآدم والانسان، لأنه الكائن الوحيد الذي قبل بإختياره حمل الأمانة والمسؤولية في تحكيم الارادة الالهية في الوجود الرحب : « اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً » (الاحزاب/72). لقد سجد الجميع للانسان إلا إبليس ؛ ابى عن أن ينصاع للأمر الالهي المقدس، واستكبر على السجود وطاعة الانسان ؛ الانسان الذي هو خليفة خالقه في أرضه.

إن الانسان الذي تفوق على الجميع، حين قبوله تحمل أمانة المسؤولية الكبرى، أصبح الجميع طوع اختياره إلا طرف واحد يقف على النقيض منه، وهو إبليس وجنوده. فهذا الكائن الشيطاني أصبح موكلا - بتمرده - باضطهاد قلب الانسان، فهو قرين النفس الأمارة بالسوء. فكان لابد على الانسان أن يقاوم هذا العداء، وهذا العدوان، وينتصر عليه خير انتصار.

أصبح الانسان على اطلاع كامل بأن قابلياته المخلوقة فيه قادرة على تسخير كل شيء ؛ قوة الشمس والرياح والذرة والنفط والجبال والبحار.. ولكنه ينبغي أن يحذر أمراً واحداً وهو إبليس المتعرض له في الطريق. وعليه أن يسخره أيضاً بواسطة الحذر من أن يتمكن من سلب قابلياته، وحريته في استخدام هذه القابليـات.

إن القرآن كله عبارة عن هتاف عال موجه الى الانسان ؛ الانسان فحسب، يقول بأن الانسـان كائن حر مسـؤول، « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (الانسان/3 ) و « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ » (الزلزلة/7-8) وغير ذلك مما يجسّد ويصوّر حقيقة شرك من يعتقد بقاهرية الاقتصاد والجنس والطبيعة والاجتماع.

وكرَّم اللـهُ.. الانسان :

نعم.. نعتقد نحن المؤمنين بالله أن للعوامل المحيطة بالانسان تأثير لا يخفى، ولكنه ليس تأثيرا مطلقا. وهذا التأثير من الممكن أن يحيد بالمخلوق عن الجادة الصواب، إلا أن الله جل جلاله الذي خلق المخلوق أعلم بخصوصياته وقابلياته ؛ هذا الرب العظيم هو ذاته أمر الإنسان بمقاومة ما يؤثر فيه من محيط، لأن الأمل كبير جدا في الانتصار على المؤثرات.

إن القـرآن الكريم يقول : « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ » (الانسان/3 (ويقول أيضاً : « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ » (الاسراء/70 ( ويقول كذلك : « لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ » (التين/4 ) فيا ترى ما هي الهداية ولماذا ؟ وما هو التكريم ولماذا ؟ وأين أحسن التقويم المشار إليه ولماذا ؟... ثم يخاطب الله العظيم الانسان بقوله : « يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيه » (الانشقاق/6) فلماذا هذا الكدح، ومن أين يبدأ، والى أين يختتم ؟

فإذا كان الانسان قد خلق مجبرا فما معنى التكريم ؟ وإذا كان مجبراً فإلى من هداه الله ولماذا ؟ وهذا التقويم الأحسن أين موقعه من الانسان - الآلة ؟!

كلها أسئلة لاتجد لها إجابة في أوساط القائلين بأن الانسان خلق مجبرا، أو أنه خاضع لقهر العوامل المحيطة به. فكل المذاهب الوضعية، وكل الفلسفات البشرية تسلب الانسان قدرته وكرامته وحريته ومسؤوليته تجاه ربه ونفسه والكائنات التابعة له.

إذاً ؛ فتوحيد الباري تعالى يمنح الناس الحرية والكرامة، فيما يؤدي الشرك بالله العلي العظيم الى عبودية الانسان للطبيعة، والاقتناع بحتمية وقاهرية ما يحيط بالانسان للانسان، فيحوله الى كائن ذليل بمعنى الكلمة، فيصبح هذا المخلوق المكرم اضل سبيلا من الانعام : « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » (الفرقان /44).

الكائن الحر..

وهنا يجرنا البحث في نفي الجبر عن الانسان ومقهوريته الى البحث عن مستوى الحرية الممنوحة له. وقبل هذا وذاك ؛ لابد من الاشارة الى أن إرادة الانسان أمر مكتسب وليس ذاتيا، فهذا المخلوق من وجهة النظر الفلسفية التي يحددها الدين الاسلامي ويبين أبعادها لا يختص بقدرة ذاتية او حرية ذاتيه او حساً ذاتياً بالمسؤولية، بل إن الانسان ضعيف بالذات وفقير بالذات، ولكن ربنا تبارك وتعالى وعن طريق قدرته الشاملة والمطلقة هو الذي حول الانسان الى كائن قادر وحر ومسؤول. ومن هذا المنطلق نخرج البحث عن إطار التفويض، او لنقل الفوضوية.

لقد كانت المعتزلة تتصور التفويض كنقطة بدء في سلوك الناس، وتتصور وجود قدرة ذاتية في داخل الانسان تخوله التصرف والانطلاق كيف يشاء وأنى يشاء..

ولكننا نحن المؤمنين بالله نذهب الى غير هذا المذهب، ولسنا بحاجة الى أدلة فلسفية أو علمية في هذا المجال. إذ يكفينا تصور الانسان طفلا عاجزا عن القدرة والارادة في التعبير عن رغبته أو عدم رغبته في الدخول الى الحياة، فهو إذ يولد مسلوب الارادة عاجز عن اتخاذ قرار مناسب، ولكن يتكامل شيئا فشيئا من حيث التفكير والقدرة والفعل.

يقول القرآن الكريم : « وَمَا تَشَآؤُونَ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ » (الانسان/30 )، وفي الحديث القدسي يؤكد ربنا سبحانه وتعالى هذا المعنى الشريف فيقول: " يا إبن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء ". ([127]) ثم يقول الله تعالى : « اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ » (الاحزاب/72 )

فالميشئة الالهية هي التي أرادت للانسان أن يشاء، وأن الله جل ثناؤه أراد للانسان أن يكون حرا متفوقا على سائر المخلوقات. وحينما جرت المقارنة بين قدرة الانسان وبين قدرة السماوات والارض والجبال، تجلت قابليات هذا الكائن المكرّم من قبل الله على غيره، وبدا التناسب واضحاً بين قدراته التي أودعها الله فيه ونوع الامانة المعروضة عليه، فقبلها وحملها بكل إقدام.

القدرة على خلق الارادة :

هذه من النعم الالهية البالغة التي أولى الانسان بها، وهي مسألة حساسة جدا. فلحظة التحول في وجدان الكائن البشري، لحظة من الممكن أن تسمو به الى أعلى عليين، كما من الممكن أن تهبط به الى أسفل سافلين. فهذه اللحظة هي لحظة الخلق، ومن المستصعب علىالمرء أن يتحكم فيها، اللهم إلا إذا كان قد استعد لها سلفا ؛ الاستعداد الذي تمثله التربية، وتمثله الوراثة، ويمثله نمط التفكير والقناعات، وتهيئه الظروف المتوافرة..

إن ربنا العلي العظيم لم يجعل فينا الارادة فحسب، بل هو منحنا القدرة على خلق وإيجاد الارادة، أو على الاقل القدرة على تنمية وتنظيم الارادة.

وفي التأريخ البشري أمثلة عديدة تشهد على صدق هذه الحقيقة، فهذا هو ابن نبي الله نوح عليه السلام الذي ناداه أبوه في خضم الطوفان والعذاب العظيم الذي أخذ بإحاطة الارض برمتها، قرر في لحظة واحدة خلق إرادة جديدة له، بالرغم من تناقضها مع الواقع المشاهد آنذاك.فكان من المغرقين.

وهذه آسية بنت مزاحم زوجة فرعون ؛ المرأة التي لم يكن يعوزها شيء من النعيم والشهرة والقوة.. ولكنها استطاعت أن تخلق في نفسها الارادة الحية القاضية بالاقتداء بنبي الله موسى عليه السلام.

وهذا عمر بن سعد قائد الجيش الاموي لقتال سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين عليه السلام، الذي بات ليلته مسهدا متضارب الافكار والاختيارات. فهو كان على مطلق الحرية في انتقاء الخير من الشر، إلا أنه في لحظة واحدة قرر قراره الحاسم بالقضاء على الحسين عليه السلام.

وفي قبالة ذلك كان الحر بن يزيد الرياحي، هذا الرجل العظيم الذي اتخذ قـراراً مخالفـاً بالمـرة لقـرار عمـر بن سعـد. حيث غــادر معسكر الباطل والتحق - بكل شجاعة - بمعسكر الامام الحسين عليه السلام فالرجلان كانا يعرفان كل المعرفة عظمة الحسين عليه السلام ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وكانا يعرفان أيضاً فضاعة احتمال ما قد يقدمان عليه من جريمة شنعاء.

وهذا معاوية بن يزيد بن معاوية الذي كان يعيش في قلب الحكم الاموي، والذي ورث السلطة من أبيه يقرر تسليم الحق إلى اصحابه وهم اهل بيت النبوة لقناعته بعدم احقيته في الخلافة. لقد أتخذ هذا القرار رغم الضغوط الهائلة المحيطة به. فقد كانت جدة أبيه هند آكلة الأكباد، وكان جد أبيه أبو سفيان المعاند لرسول الله صلى الله عليه وآله، وكان جده معاوية المحارب لأمير المؤمنين عليه السلام، وكان أبوه يزيد قاتل سيد شباب أهل الجنة، وكان نموذجا فريدا للحاكم الفاجر وغير الملتزم. ثم كان أقرباؤه بإختلاف أشخاصهم وأسمائهم عبارة عن موجودات شيطانية بحتة تضغط باتجاه مواصلة مسيرة آبائه المعادية لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله. وعلى هذا الاساس فإن قراراً كهذا من المستحيل أن يصدر عن إرادة من النوع البسيط، بل كان هذا القرار قد قدح في ذهنه في اللحظة الخلاّقة المشار اليها.

إن جوهر المسألة هو أن الله عزوجل هو الذي يمنح الانسان قدرة اتخاذ القرار واختيار أحد الطريقين، وذلك بما يمنحه من ارادة وحرية. واستثمار الانسان لهذه القدرة، هو بمثابة مزيج من العقل والحرية والارادة.

وروي عن ابن حكيم عن البزنطي أنه قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام إن اصحابنا بعضهم يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة. فقال لي : أكتب - ويبدو أن الامام قد أولى المسألة إهتمامه الخاص لمعرفته بخطورتها على إيمان الانسان واسلامه - : قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديّت الي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذلك أني أوْلى بحسناتك منك وأنت أوْلى بسيئاتك مني، وذلك : " لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون"، (ثم قال الرضا عليه السلام): قد نظمت لك كل شيء تريد. ([128])

وجاء عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال : "في التوراة مكتوب مسطور : ياموسى! اني خلقتك واصطفيتك وقويتك وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي، فان اطعتني اعنتك على طاعتي، وإن عصيتني لم اعنك على معصيتي، ولي المنّة عليك في طاعتك، ولي الحجة عليك في معصيتك". ([129])

حينما يعلّم الاستاذ تلميذه طيلة السنة الدراسية يكون بمقدور هذا التلميذ استيعاب ماتلقاه من دروس، وبمقدوه أن يثبت ذلك عبر إجاباته الصحيحة عند الامتحان. ولكنه لو تشاغل عن التعلم والاستيعاب فسيكون مصيره الفشل، وفي مثل هذه الحال سوف لن يكون في متسع الاستاذ والعرف بصورة عامة إلاّ اتهام التلميذ بالتقصير.. وعلى ذلك يكون من المنطقي القول بأن الفضل في نجاح التلميذ يعود الى الاستاذ، أما فشله فيعود الى ذاته وذاته فقط.

إن هذا المثال وغيره من الامثلة التي يطول علينا توضيحها ليس إلاّ لتقريب وتصوير ما نريد إثباته، وإلاّ فإن الله تعالى عن الامثال.

إن دخول الانسان الجنة يعود الى فضل الله ورحمته ونعمائه، ولكن سقوطه في جهنم إنما هو أمر يتنافى والطبيعة الالهية المقدسة، بل السقوط عائـد بدءاً وانتهـاءً الى الانسان. والله سبحانه يؤكد : « وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون » (النحل/118)

الفصل التاسع : شبهات وردود

قبل الشروع في الرد على الشبهات التي حامت حول مسألة الجبر الاختيار، ينبغي الاشارة الى حقيقة هامة ؛ وهي أن هناك منهاجاً دقيقاً للغاية لمعرفة الصواب من الخطأ ؛ بإمكان الانسان استخدامه، وبفضل هذا المنهاج تتم المعرفة ذاتياً، والتمييز بين السليم والسقيم من الافكار، وبصورة واضحة. وقد أشارت الآيات القرآنية الكريمة والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام الى هذا المنهاج غير مرة.

والمنهاج هو عبارة عن عرض هذه الفكرة أو تلك على هوى النفس، فما وافق الهوى فإنه يكون مخالفاً للحق وللصواب عادةً ما، وما خالف هوى النفس الأمارة بالسوء يكون موافقاً للحق وللصواب عادةً ما.

ولكن كيف يتم ذلك ؟ وماهي التجارب البشرية في هذا الاطار ؟

يمكن القول بأن المرء حينما يعيش في ظل حكومة ظالمة - مثلاً - فهو لايعدو أن يكون واقفاً بين موقفين لا غير ؛ فهو إما مؤيّد وإما معارض، والسكوت

على جرائم الحكومة الظالمة ليس إلاّ تأييداً لها.

فالتأييد يعني الرغبة الشخصية في استمرار الظلم، وذلك تبعاً لما يؤديه هذا الظلم للشخص المؤيد من مصالح، حسب تفاوت الدرجات. فهو يغضّ الطرف عن كلّ السلبيات التي تقال عن النظام الظالم، بل ويذهب أبعد من ذلك، حيث يسعى الى تصوير الظلم عدلاً، وتبرير الجرائم بما يوافق هواه، ويضمن له الاستمرار في الاستغلال والانتهازية.

أما المعارضة للظلم، فهي تأخذ طابعاً آخر مغايراً للظلم وأسبابه ودوافعه ونتائجه، آخذة بنظر الاعتبار المصلحة العليا للمجتمع، المنبثقة عن عدالة القوانين السماوية، او على الأقل ما يقرّه العقل وما تقرّه الفطرة من سلوك، وبالتالي فان معارضة الظالمين تصطدم بهوى الانسان ورغبات النفس.

إن الرأسمالي الكبير، الواسع الثراء لايمكنه الاعتراف بمساوئ الرأسمالية ؛ والحزبي الكبير في النظام الشيوعي السابق -مثلاً- عاجز عن قول الحق تجاه ما ألحقه نظام الحزب الواحد والديكتاتورية المطلقة، بواقع ومستقبل البلاد الشيوعية.. والسبب في كلّ ذلك أنه ليس من السهل على المرء الاعتراف بأخطائه، فضلاً عن أن تكون هذه الاخطاء قد وصلت الى حدود الجريمة، وذلك لأن الاعتراف بالخطأ فيه الكثير من مخالفة الهوى.

وحول موضوعنا بالذات فإن القضية تنطبق على هذا المنهاج الصادق والسليم ؛ فهوى الانسان إما ان يتّجه الى الجبر أو التفويض. إنه يتجه الى الجبر ليتحلل عن مسؤولياته الشرعية والذاتية والاجتماعية، ويتّجه الى التفويض ليتهرب من مسؤولياته الشرعية والذاتية والاجتماعية أيضاً. والفرق بين الاتجاهين يكمن في المظهر فقط، فالجوهر في الحالتين متفق تماماً على ملازمة الهوى. فالمجبرة يقولون بأنّ الله أمرنا بأوامره ونهانا عن نواهيه ولكنه لم يعطنا القدرة على الالتزام بالأوامر والنواهي. والمفوضة يقولون بأن الله لم يأمرنا بشيء، ولم ينهنا عن شيء، بل فوّض الواقع الينا.

القدرية والمسؤولية :

وعلى ذلك لايبدو أي فارق بين الطرفين والاتجاهين، بل انهما خطّان متوازيان ينتهيان الى نقطة واحدة، هي التملّص من تحمل المسؤوليات، ولذلك فإن لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله حقت على القدرية التي تشمل أهل الجبر وأهل التفويض في وقت واحد.

وإنما ضلّ فلاسفة البشر غير المهتدين بهدى الله وهدى رسالاته بسبب القول بالجبر، وأكثر ما ضلّ البسطاء من الناس بسبب القول بالتفويض. ولأننا نناقش الفلاسفة في أحاديثنا ؛ فلابدّ أن نناقش الشبهات التي أوردوها في هذه المسألة.

إن من قال بالجبر يهدف الى التحلل من مسؤولياته من دون شك. فهم لكي يقولوا بأن رسالات الله باطلة، وأن الله أمر عبثاً ولم يأمرنا حقيقة، وأنّ القرآن نوع من المزاح، وأن الرسل نوع من اللعب واللهو، وأن أقوال الرسالات السماوية نوع من الكلام الفارغ ؛ لكي يصلوا الى هذه النتائج ثم ينتهوا بالتالي الى نبذ الواجبات والأوامر والمناهي قالوا : بأن الله هو الذي يجبرنا على أعمالنا، وأنه لا حول ولا قوة لنا فيما نمارسه من أفعال.

ونحن في مقابل ذلك ينبغي أن نقاوم هذه الفكرة بكلّ وعي وتحدٍ ؛ مرتين ؛ مرة باعتبارها فكرة خاطئة، ومرة باعتبارها موافقة لهوى النفس الأمارة بالسوء ؛ مخالفة للعقل والمنطق والفطرة والوجدان، وأساس العدل الالهي الذي يقوم عليه الكون بما فيه.

إن النفس البشرية الأمارة بالسوء لاتقوم ولا تستمر إلاّ على دواعي التبرير والتزوير للحقائق ؛ فهي تؤكد بكل ضلال وإضلال بأن الشقي شقي منذ ان كان في بطن أمه، وأن السعيد سعيد في بطن أمه. وكما جاء على لسان أحد الفلاسفة بأن الله لم يجعل الشقي شقياً ولم يجعل السعيد سعيداً، وإنما خلقهما كذلك!! دون أن يوضح ما هو الفرق بين أن يجعل الله الشقي شقياً وبين أن يخلقه شقياً، فكلاهما بالتالي يؤدي الى النتيجة ذاتها. فسواء تقول بهذه المقولة أو بتلك، فأنت تنسب الباطل الى الله سبحانه، وإذا كانت مثل هذه النتيجة صحيحـة فإنها تتضارب وقول الله عز وجلّ : « وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (آل عمران/182)

فالله لايخلق المخلوق شقياً ثم يقذفه بنفسه في النار خالداً فيها. إن الآية القرآنية لاتقول : ليس بظالم للعبيد، إذ أن الله يكون ظلاّماً - مبالغة في الظلم - إذا ماخلقك شقياً وجعلك منحرفاً ثم يقوم بحشرك في النار.

إن عبد الرحمن بن ملجم وهو في حضيض جريمته التي تجسدت في اغتيال شخص الامام علي بن أبي طالب عليه السلام إزداد كفراً وإلحاداً حينما قال: أأنت تنقذ مَن في النار ؟ مجيباً على معاتبة أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال له: أكنتُ بئس الإمام لك ؟ وهو بذلك يكون قد شابه فرعون في كفره وهو في حال الغرق حيث قال : آمنتُ بالذي آمنت به بنو اسرائيل. وواضح أن بني اسرائيل لم يؤمنوا وحتى اللحظة بإله العالمين الواحد الأحد، بل إنهم يؤمنون بإله خاصٍ بهم، غير واضح المعالم والصفات حتى بالنسبة لهم بالذات !!

إنك أيها الانسان يجب ان تعرف أنك حينما تخوض في دائرة تبرير الذنوب بأن الوالدين والمجتمع والدهر هم الذين دفعوك أو أرادوا لك ارتكاب الخطيئة، أن هذا الشيطان هو الذي يريد ان يقذفك في النار بمقولتك بأنك كنت مجبراً على ارتكاب الذنب. إن الشيطان يزيّن لك التبرير، ويؤكد لك بأنك إنسان طيب، غير أن المجتمع هو الذي يفسدك. ولكنك يجب أن لاتغفل وللحظة عن حقيقة أن المجتمع ليس إلاّ أنا وأنت وزيد وعمرو، وأننا كلنا نشكل هذا المجتمع. والشاعر يقول :

نعـيـب زمـانـنــا والـعيــب فـيـنـــا و لــو نطـــق الــزمـان إذاً هـجــانــــا

والحديث الشريف يؤكد : لا تسبّ الدهر فإنه هو الله. ([130]) فإن ينسب الفرد خطاياه الى غيره يعني بشكل أو بآخر أنه ينسب الظلم الى الله تعالى، نظراً إلى أن الله يحاسب الفرد على عمله هو دون غيره؛ إن خيراً فخير ؛ وإن شراً فشر.

ثم إن الدليل على إن ادعاء الجبر إدعاء نابع عن الهوى والشيطان والرغبة في التهرب من المسؤولية، هو أن الانسان لايقول بالجبر إلا في حالة ارتكابه الذنب أو إحساسه بالخطأ، لكي يبرئ نفسه ويبرر لها. غير أنّه حينما يقوم بعمل محمود وممدوح فإنه ينتظر الثواب والجائزة لنفسه هو فقط دون الناس والمؤثرات المحيطة، علماً أن بعض ما يقوم به الفرد من أعمال صالحة قد لايكون له أي ارتباط أو تعلق بها، حيث ليس هو إلاّ أداة منفعلة فيها.

الشبهة الأولى: مسلسل الجبر

ينسب البعـض من الفلاسفة حركة الانسان الى الجبر ضمن سلسلة مترابطـة في

الظاهر ؛ خاوية في الباطن، فيقول إن مصدر حركة الانسان هو إرادته. فمثلاً هو يقوم بشرب الماء بإرادته، إلا أنه لم يرد ذلك لو لم تكن هذه الارادة نابعة أو مدفوعة بعوامل أخرى ؛ بمعنى أن ارادته مظهر لتلك العوامل، فهو يشرب الماء لأنه أراد، وهو أراد لأنه عطشان، وهو عطشان لأن كبده قد أصبح حاراً، وكبده أصبح حاراً لأنه مشى تحت حرارة الشمس منذ مدة، وهو مشى لأنه أراد ذلك، وهو أراد ذلك لعوامل خارجية أخرى، حتى تتسلسل المراتب لتعود الى أصل خلقته، وبالتالي فهو يدور في حلقة ملؤها الجبر.

إنهم ينسبون الزنا - مثلاً - الى الشهوة الجنسية، وأن الشهوة الجنسية طبيعة خلقها الله داخل الانسان، إذاً فهو مجبر على ارتكاب الزنا.

انهم ينسبون السرقة الى الحاجة، وأن الحاجة قضية فُطِر الانسان عليها من قبل الله تعالى، وأن عدم سداد الحاجة يولد الفقر، ولقد كاد الفقر أن يكون كفراً...

إن الإجابة على هذه الشبهة وما وضعوه لها من أمثلة ومصاديق يكمن في مسألة واحدة، وهي حصول التفاوت بين الضغوط والدوافع التي تحرك الانسان وبين الارادة الفاعلة التي تعتبر الاساس لكل عمل يقوم به الانسان، علما أن الدوافع والعوامل الخارجية والظواهر الكونية واحدة في أنها لا تشكل العلة التامة لاعمال الانسان بل العلة هي إرادة الانسان واختياره لاغير.

إنك لا ترى كل من يعطش يشرب الماء حتما، فمن أصيب بنزيف دموي يمتنع عن شرب الماء رغم شدة الحاجة اليه، وهذا الصائم يمتنع، وهذا المرتاض يمتنع أيضاً فما السبب في ذلك، ولماذا يكون باستطاعة هؤلاء أن يمتنعوا؟ بينما انسان آخر قد يكون أقل عطشاً الا أنه لايمتنع عن شرب الماء لأنه يريد ذلك.

إنك لا ترى كل من تفاقمت شهوته الجنسية يقوم بعملية الزنا المحرمة ؛ فهذا المؤمن يغضّ أساساً نظره عن محارم الله رغم الفتن والابتلاءات ومظاهر الخلاعة والتعري، وذلك الشاب المعتكف على بناء مستقبله يجد في الزنا حضيض الرذيلة رغم كونه محتاجاً الى ذلك، ورغم عجزه عن توفير مستلزمات وأوليات الزواج الباهضة. لماذا؟ هؤلاء يريدون الامتناع عن الحرام وغيرهم لايريد ذلك.

وإنك لاترى ايضاً كل الفقراء والجوعى ومن اشتدت بهم الحاجة يلجؤون الى السرقة، بل قد يبدو العكس هو الصحيح، حيث السرقة والخيانة متفشية في الأغنياء أكثر منها في الفقراء. إذ الفقر كثيراً ما يولد القناعة والعفّة عما في أيدي الناس، في حين ان وفرة المال، لاسيما إذا كانت قد ظهرت دونما تعب، تخلق الرغبة في الاستزادة والتكاثر فتتولد السرقة التي هي أقرب الطرق الى ذلك.. وكل هذا وذلك يعود الى ارادة الانسان.

صحيح إن العوامل الخارجية لها تأثير، ولكن هذا التأثير يقف عند حدود الارادة التي هي الشاخص والمصداق الحقيقي لشخصية الانسان المتفاوت والمختلف عن بقية المخلوقات. فعلة الحاجة أو الشهوة الجنسية لو كانت علّة تامة لانتفى التفاوت في حركات الناس جميعاً.

لقد أصبح الحرّ بن يزيد الرياحي حجة لله على من شارك في قتل الامام الحسين وأولاده وأصحابه عليهم صلوات الله جميعاً، إذ لا يسع هذا الجيش القاتل أن يبرر جريمته بما كانوا يتعرضون له من ضغوط من قبل يزيد بن معاوية وعبيد الله ابن زياد أو عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن لعنهم الله جميعاً. فحجة الله تصدعهم بموقف الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تمكن من التخلص من الظلمة، والتمكن من الدفاع عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله رغم تساويه في العلّة والضغوط معهم.

لاشكّ أن الله سبحانه وتعالى يحتج ببعض العباد على بعضهم، والاحتجاج الالهي العادل لايكون إلاّ في حال تساوي العلة والظروف. إن سحرة فرعون الذين أصبحوا فيما بعد من أخلص المؤمنين برب العالمين، إنما كانوا أكثر اندفاعاً نحو الكفر والعبودية لفرعون من غيرهم من الكافرين الذين كانوا يحسّون أكثر من غيرهم بظلم فرعون وجرائمه، الا أنهم حين اكتشفوا الحقيقة آمنوا برب هارون وموسى بارادتهم المحضة رغم كل الظروف والدوافع التي كانت تضغط في الاتجاه المعاكس.

/ 8