. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
____________
والبراهين الدامغة ، فحياك الله ، وحيا ذهنك الوقاد ، وفضلك الجم .
وامهات مباحث الرسالة ثلاث : (1) طلاق الثلاث .
(2) الحلف بالطلاق والعتاق .
(3) الاشهاد على الطلاق .
وكل واحدة من هذه المسائل قد وفيتها حقها من البحث ، وفتحت فيها باب الاجتهاد
الصحيح على قواعد الفن ، ومدارك الاستنباط القويم ، من الكتاب السنة ، فانتهى بك السير
على تلك المناهج القويمة إلى مصاف الصواب ، وروح الحقيقة ، وجوهر الحكم الإلهي ،
وفرض الشريعة الاسلامية ، وقد وافقت آراؤك السديدة في تلك المسائل ما اتفقت عليه
الامامية من صدر الاسلام الى اليوم ، ولم يختلف منهم اثنان ، حتى أصبحت عندهم من
الضروريات .
كما اتفقوا على عدم وجوب الاشهاد على الرجعة ، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق ،
بل الطلاق باطل عندهم بدونه .
وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الاشهاد فيهما معا ، فقلت ( في صفحة 120 ) :
وذهبت الشيعة الى وجوب الاشهاد في الطلاق ، وأنه ركن من أركانه كما في كتاب ( شرائع
الاسلام ) ولم يوجبوه في الرجعة ، والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه ، انتهى .
وفي كلامك هذا ـ أيدك الله ـ نظر ، أستمحيك السماح في بيانه ، وهو : إن من الغريب ـ
حسب قواعد الفن ـ مطالبة النافي بالدليل والأصل معه ، وإنما يحتاج المثبت الى الدليل ،
ولعلك ـ ثبتك الله ـ تقول : قد قام الدليل عليه ، وهو ظاهر الآية على ما ذكرته في صفحة
(118) حيث تقول : والظاهر من سياق الآية إن قوله تعالى ( وأشهدوا ) راجع إلى الطلاق
وإلى الرجعة معا. . . إلى آخر ما ذكرت .
وكأنك ـ أنار الله برهانك ـ لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من
الامعان في غير هذا المقام ، وإلا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان
خصوص الطلاق وأحكامه ، حتى أنها قد سميت بسورة الطلاق ، وابتدأ الكلام في صدرها
بقوله تعالى : ( إذا طلقتم النساء ) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة ، أي لا يكون
في طهر المواقعة ولا في الحيض ، ولزوم احصاء العدة ، وعدم اخراجهن من البيوت ، ثم
استطرد إلى ذكر الرجعة من خلال بيان أحكام الطلاق ، حيث قال عز شأنه : ( فاذا بلغن
أجلهن فأمسكوهن بمعروف ) أي اذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم امساكهن بالرجعة
( 284 )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .____________
أو تركهن على المفارقة ، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق ، فقال : ( وأشهدوا ذوي عدل
منكم ) أي في الطلاق الذي سبق الكلام لبيان أحكامه .
ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً ، ألا ترى لو قال القائل : اذاجاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه ، وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو
رفيقه ، ويجب [ عليك ] المشايعة وحسن الموادعة ، فإنك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب
المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه ، وإن تاخرا عنه . وهذا لعمري ـ حسب
القواعد العربية والذوق السليم ـ جلي واضح ، لم يكن ليخفى عليك ـ وأنت خريت
العربية ـ لولا الغفلة ، والغفلات تعرض للأريب .
هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الاية الكريمة ، وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار ، من
حيث الحكمة الشرعية ، والفلسفة الاسلامية ، وشموخ مقامها ، وبعد نظرها في أحكامها ،
وهو : أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق ، ودين الاسلام كما
تعلمون جمعي اجتماعي ، لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة ، ولا سيما في العائلة
والاسرة ، وعلى الأخص في الزوجية بعد ما أفضى كل منهما إلى اللآخر بما أفضى . فالشارع
ـ بحكمته العالية ـ يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، فكثر قيوده وشروطه على القاعدة
المعروفة من أن الشيء اذا كثرت قيوده عز ، أو قل وجوده ، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط
أولاً ، وللتأخير والاناءة ثانياً ، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما
عندها يحصل الندم ، ويعودان إلى الالفة كما اشير اليه بقوله تعالى : ( لا تدري لعل الله
يحدث بعد ذلك أمراً ) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين لا شك أنها ملحوظة للشارع
الحكيم ، مضافاً إلى الفوائد الآخر :
وهذا كله بعكس قضية الرجوع فان الشارع يريد التعجيل به ، ولعل للتأخير آفات ، فلم
يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط تصح عندنا معشر الامامية بكل ما دل عليه من قول
أو فعل أو اشارة .
ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق ، كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر
المحبوب للشارع الرحيم بعباده ، والرغبة الأكيدة في إلفتهم وعدم تفرقهم . وكيف لا يكفي
في الرجعة حتى الاشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع ، وهي ـ أي المطلقة
الرجعية ـ عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة ، ولذا ترثه ويرثها ،
وتغسله ويغسلها ، وتجب عليه نفقتها ، ولا يجوز أن يتزوج باختها وبالخامسة ؟ إلى غير ذلك
من أحكام الزوجية .
( 285 )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .____________فهل في هذه كلها مقنع لك في صحة ما ذهبت اليه الإمامية من عدم وجوب الاشهاد في
الرجعة بخلاف الطلاق ؟ فإن استصوبته حمدنا الله وشكرناك ، وإلا فانا مستعد للنظر في
ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح ، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة ، واتباع الحق أينما كان ، ونبذ
التقليد الأجوف والعصبية العمياء ، أعاذنا الله وإياكم منها ، وسدد خطواتنا عن الخطأ
والخطيئات إن شاء الله ، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة ، والأثريات
اللامعة ، والمآثر الناصة ، ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً ) ولكم
في الختام أسنى تحية وسلام من :
محمد الحسين آل كاشف الغطاء
ملاحظة : ومن جملة المسائل التي أجدت فيها البحث والنظر : بطلان طلاق الحائض ،
وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق ، وهذه الفتوى أيضاً مما اتفقت عليه الامامية ،
وهي : بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة .
هذا هو نص كتاب الاستاذ شيخ الشريعة ، لم أحذف منه شيئاً إلا كلمة خاصة لا علاقة
لها بالموضوع ، وإنما هي عن تفضله باهداء بعض كتبه الي ، وساحاول أن ابين وجهة
نظري ، وأناقش استاذي فيما رآه وأختاره بما يصل اليه جهدي في عدد قادم إن شاء الله .
أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي
هذا تمام ما نشره فضيلة القاضي في ذلك العدد ، ثم تعقبه في عدد ( 159 ) وعدد ( 160 )
بمقالين أسهب فيهما بعض الاسهاب ، مما دل على طول باع ، وسعة اطلاع ، واستفراغ
وسع ، في تأييد نظريته ، وتقوية حجته ، وكتبنا الجواب عنهما ، وأعرضنا عن ذكر تلك
المساجلات هنا ، خوف الاطالة والخروج عن وضع هذه الرسالة التي أخذنا على أنفسنا فيها
بالايجاز ، فمن أراد الوقوف عليها فليراجع أعداد مجلة ( الرسالة ) الغراء يجد في مجموعات
تلك المراجعات فوائد جمة ، وقواعد لعلها في الفقه مهمة . وإن الحقيقة منتهى القصد . « منه
تقدس سره » .
( 286 )
الخلع والمباراة
لا ينبعث الزوجان إلى قطع علاقة الزوجية بينهما إلا عن كراهة
أحدهما للآخر ، أو كراهة كل منهما للآخر ، وهذا هو سبب الفرقة غالباً .
فإن كانت الكراهة من الزوج فقط فالطلاق بيده ، يتخلص به منها إذا
أراد ، وإن كانت الكراهة منها خاصة كان لها أن تبذل لزوجها من المال ما
تفتدي به نفسها ، سواء كان بمقدار ما دفع لها أو أكثر ، فيطلقها على ما
بذلت ، وهذا هو الخلع ، فيقول : فلانة طالق على ما بذلت ، فهي مختلعة .
ويشترط فيه جميع شرائط الطلاق ، وإضافة كون الكراهة منها ، وكونها
كراهة شديدة كما يشير اليه قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا
جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها )(1).
وتفسيره في أخبار أهل البيت : أن تقول لزوجها : لا أبر لك قسماً ،
ولا اقيم حدود الله فيك ، ولا أغتسل لك من جنابة ، ولاوطئن فراشك ،
وأدخلن بيتك من تكره (2).
ومعلوم أن المراد بهذا ظهور الكراهة الشديدة ، وعدم إمكان الالتئام ،
لا خصوص تلك الألفاظ .
وإن كانت الكراهة منهما معا فهي المباراة ، ويعتبر فيها أيضا جميع
شرائط الطلاق ، ولا يحل له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، فيقول لها : بارأِتك
على كذا فأنت طالق .____________
(1) البقرة 2 : 229 .
(2) انظر : تفسير العياشي 1 : 117|367 ، تفسير القمي 1 :75 ، مجمع البيان في تفسيرالقران 1 : 329 .
( 287 )
والطلاق في الخلع والمباراة بائن لا رجوع للزوج فيه ، نعم لها أنترجع في البذل ، فيجوز له الرجوع حينئذ ما دامت في العدة .
مذكورة في كتب الفقه ، لم نذكرها لندرة وقوعها .
( 288 )
الفرائض والمواريث:
الإرث : عبارة عن انتقال مال أو حق من مالكه عند موته إلى آخر ،
لعلاقة بينهما من نسب أو سبب . فالحي ، القريب وارث ، والميت موروث ،
والاستحقاق إرث ، والنسب هو تولد شخص من اخر أو تولدهما من ثالث.
والوارث إن عين الله سبحانه حقه في كتابه الكريم باحد الكسور
التسعة المعروفة فهو ممن يرث بالفرض ، وإلا فيرث بالقرابة.
والفروض المنصوصة بالكتاب الكريم ستة : نصف ، وهو للزوج مع
عدم الولد ، وللبنت مع عدمه ، وللأخت كذلك .
ونصفه ، وهو الربع للزوج مع الولد ، وللزوجة مع عدمه .
ونصفه ، وهو الثمن للزوجة مع الولد.
والثلث ، وهو للأم مع عدم الولد ، وللمتعدد من كلالتها.
وضعفه ، الثلثان للبنتين ، فما زاد مع عدم الذكر المساوي ، وللاختين
كذلك للأب أو الأبوين .
ونصفه ، وهو السدس لكل واحد من الأبوين مع الولد ، وللأم مع
الحاجب وهم الاخوة ، وللواحد من كلالتها ذكرا كان أو انثى .
وما عدا هؤلاء فيرثون بالقرابة ( للذكرمثل حظ الأنثيين )(1) في جميع
طبقات الورثة وهي ثلاث : الأبوان والأبناء وإن نزلوا ، ثم الأجداد وإن علوا
والاخوة وأن نزلوا ، ثم الأعمام والأخوال وهم اولو الأرحام ، وليس فيهم ذو
فرض أصلاً .
ثم إن أرباب الفروض إما أن تساوي فرائضهم المال كأبوين وبنتين____________
(1) النساء 4 : 11 .
( 289 )
« ثلث وثلثين » أو تزيد كأبوين وبنتين وزوج ، فتعول الفريضة ، أي زادت علىالتركة بربع أو نقصت عنها بربع ، أو تنقص كاخت وزوجة ، ففضل من التركة
بعد الفريضة ربع . فالأولى مسألة العول ، والثانية مسألة التعصيب .
وليس في جميع مسائل الارث خلاف يعتد به بين الإمامية وجمهور
علماء السنة ، إلا في هاتين المسألتين ، فقد تواتر عند الشيعة عن أئمة أهل
البيت سلام الله عليهم أنه : لا عول ولا تعصيب (1).
وهو أيضاً مذهب جماعة من كبراء الصحابة ، وقد اشتهر عن ابن عباس
رضي الله عنه : أن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن الفريضة لا تعول (2).
وأن الزائد يرد لذوي الفروض على نسبة سهامهم ، والعصبة بفيها
التراب ، فلو اجتمع بنت وأبوان من الأولى ، وأخ وعم من الثانية والثالثة ،
فللبنت النصف ، ولكل من الأبوين السدس ، ويفضل السدس من المال ،
يرد عندنا على البنت والأبوين بنسبة سهامهم ، وغيرنا من فقهاء المسلمين
يورثونه الأخ والعم ، وهم العصبة .
نعم ، لا رد عندنا على زوج أو زوجة ، كم لا نقص عليهما ، أما اذا
عالت الفريضة وزادت على المال ـ كالمثال المتقدم ـ فالنقص يدخل على
البنت أو البنات ، والاخت والأخوات ، دون الزوج والزوجة وغيرهما .
والضابطة : إن كل ما أنزله الله من فرض إلى فرض فلا يدخله النقص ،
ومن لم يكن له إلا فرض واحد كان عليه النقص ، وله الرد. أما الأب ففي
دخول النقص عليه وعدمه خلاف ، أما جمهور فقهاء المسلمين فيدخلون
النقص على الجميع .
____________
(1) انظر : علل الشرائع : 568|2 ، عيون أخبار الامام الرضا عليه السلام 2 :5 2 1 .
(2) علل الشرائع : 568|3.( 290 )
وللامامية على نفي العول والتعصيب أدلة كثيرة من الكتاب والسنةمدوّنة في مواضعها من الكتب المبسوطة.
ومما انفردوا به من أحكام المواريث : الحبوة للولد الأكبر ، فإنهم
يخصونه بثياب أبيه ، وملابسه ، ومصحفه ، وخاتمه ، زائداً على حصته من
الميراث ، على تفاصيل وشروط مذكورة في بابها .
وانفردوا أيضاً بحرمان الزوجة من العقار ، ورقبة الأرض عيناً وقيمة ،
ومن الأشجار والأبنية عيناً لا قيمة. فتعطى الثمن أو الربع من قيمة تلك
الأعيان . كل ذلك لأخبار وردت عن أئمتهم سلام الله عليهم ، والأئمة
يروونها عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله .
هذه مهمات المسائل الخلافية في الارث ، وما عدا ذلك فالخلاف
على قلته في بعض المسائل هو كالخلاف بين فقهاء الجمهور أنفسهم ،
وكاختلاف فقهاء الإمامية فيما بينهم .
( 291 )
الوقوف والهبات والصدقات:
المال الذي هو ملك لك وتريد أن تخرجه عن ملكيتك ، فإما أن يكون
إخراجه ليس عن ملكك فقط بل عن مطلق الملكية ، بمعنى أنك تجعله غير
صالح للملكية أصلاً ، فيكون تحريراً ، وذلك كالعبد تعتقه فيكون حراً ،
وكالدار أو الأرض تفكها من الملكية فتجعلها معبداً أو مشهداً . وهذا القسم
لا يصلح أن يعود الى الملكية أبداً ، مهما عرضت العوارض ، واختلفت
الطوارئ .
وإما أن يكون إخراجه لا عن مطلق الملكية بل عن ملكك إلى ملك
غيرك فقط ، وحينئذ فاما أن يكون ذلك بعوض مع التراضي في عقد لفظي ،
أو ما يقوم مقامه ، فتلك عقود المعاوضات كالبيع ، والبيع الوفائي ، والصلح
وأمثالها .
وإما أن يكون بغير عوض مالي ، فإن كان بقصد الأجر والمثوبة ولوجه
الله فهو الصدقة بالمعنى الأعم ، فإن كان المال مما يبقى مدة معتداً بها ،
وقصد المتصدق بقاء عينه ، فحبس العين وأطلق المنفعة ، فهذا هو
(الوقف).
وإن كان المال مما لا يبقى ، أو لم يشترط المتصدّق بقاءه فهو
( الصدقة ) بالمعنى الأخص .
وإن كان التمليك لا بقصد الأجر والمثوبة ، بل تمليك مجاني
محض ، فهو ( الهبة ) فإن اشترط فيها مقابلتها بهبة في ( الهبة المعوضة ) كما
لو قال : وهبتك الثوب بشرط أن تهبني الكتاب ، فقال : قبلت . وهي لازمة ،
لا يجوز لأحدهما الرجوع بهبته إلا إذا تراضيا على التفاسخ والتقايل ، وإلا
فهي ( الهبة الجائزة ) .
( 292 )
ولا يصح شيء من أنواع الهبات إلا بالقبض ، ويجوز الرجوع فيالهبات الجائزة حتى بعد القبض ، إلا إذا كانت لذي رحم ، وزوج أو زوجة ،
أو بعد التلف .
أما الصدقات ، فلا يجوز الرجوع في شيء منها بعد القبض ، ولا تصح
أيضاً إلا بالقبض .
وإذا أجرى الواقف صيغة الوقف ، وهي قوله : وقفت هذه الدار ـ مثلاً ـ
قربة إلى الله تعالى ، ثم أقبضه المتولي أو الموقوف عليهم ، أو قبضه هو بنية
الوقف ، إذا كان قد جعل التولية لنفسه فحينئذ لا يجوز الرجوع فيه أصلاً ، ولا
بيعه ، ولا قسمته ، سواء كان وقف ذرية وهو ( الوقف الخاص ) أو وقف جهة
وهو ( الوقف العام ) كالوقف على الفقراء ، والغرباء ، والمدارس ، وأمثالها .
نعم ، قد يصح البيع في موارد استثنائية تلجى إليها الضرورة
المحرجة ، يجمعها خراب الوقف خراباً لا ينتفع به منفعة معتداً بها ، أو خوف
أن يبلغ خرابه إلى تلك المرتبة ، أو وقوع الخلاف بين أربابه بحيث يخشى
أن يؤدي إلى تلف الأموال أو النفوس أو هتك الأعراض .
ومع ذلك كله لا يجوز بيع الوقف بحال من الأحوال ، ولا قسمته إلا
بعد عرض المورد الشخصي على الحاكم الشرعي ، وإحاطته بالموضوع من
جميع جهاته ، وصدور حكمه بالبيع أو القسمة لحصول المسوغ الشرعي ،
وبدون ذلك لا يجوز.
وقد تساهل الناس في أمر الوقف ، وتوسعوا في بيعه وإخراجه عن
الوقفية توسعاً أخرجهم عن الموازين الشرعية ، والقوانين المرعية ، والله من
وراء القصد ، وهو اللطيف الخبير.
هذا كله على طريقة المشهور ، ولنا تحقيق ونظر آخر في الوقف لا
مجال له هنا.
( 293 )
القضاء والحكم:
لولاية القضاء ونفوذ الحكم في فصل الحكومات بين الناس منزلة
رفيعة ، ومقام منيع ، وهي عند الإمامية شجن من دوحة النبوة والإمامة ، ومرتبة
من الرئاسة العامة ، وخلافة الله في الأرضين ( يا داود إنا جعلناك خليفة في
الأرض فاحكم بين الناس بالعدل ) (1) ( فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّوا
تسليماً ) (2).
كيف لا ، والقضاة والحكام أمناء الله على النواميس الثلاثة : النفوس ،
والأعراض ، والأموال . ولذا كان خطره عظيماً ، وعثرته لا تقال ، وفي
الأحاديث من تهويل أمره ما تخف عنده الجبال ، مثل قوله عليه السلام :
القاضي على شفير جهنم ، ولسان القاضي بين جمرتين من نار»(3) .
« يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي ، أو وصي نبي ، أو
شقي » (4).
وفي الحديث النبوي : « من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين » (5).
إلى كثير من نظائرها .
والحكم الذي يستخرجه الفقيه ويستنبطه من الأدلة إن كان على____________
(1) سورة ص 38 : 26 .
(2) النساء 4 : 65.(3) التهذيب 6 : 292|808 .(4) الكافي 7 : 456|2 ، الفقيه 3 :322315 ، المقنع : 32 1 .(5) المقنعة : 721 ، سنن ابي داود 3 : 298|3571 ، سنن الترمذي3 : 614|1325 ، سننابن ماجة 2 : 84|2308 ، مسند أحمد 2 : 230 .
( 294 )
موضوع كلي فهو ( الفتوى ) مثل : إن مال الغير لا يجوز التصرف فيه إلا بإذنمالكه ، وإن وطء الزوجة حلال ووطء الأجنبية حرام . . .
وإن كان على موضوع جزئي فهو ( القضاء والحكومة ) مثل : إن هذه
زوجة ، وتلك أجنبية ، وهذا مال زيد .
وكل منهما من وظائف المجتهد العادل ، الحائز [ على ] منصب النيابة
العامة عن الإمام ، سوى أن القضاء ـ الذي هو في الحقيقة عبارة عن
تشخيص الموضوعات مع المرافعة والخصومة أو بدونها ، كالحكم بالهلال ،
والوقف ، والنسب ، ونحوها ـ يحتاج إلى لطف قريحة ، وقوة حدس ، وعبقرية
ذكاء ، وحدة ذهن ، أكثر مما تحتاجه الفتوى واستنباط الأحكام الكلية بكثير ،
ولو تصدى له غير الحائز لتلك الصفات كان ضرره أكبر من نفعه ، وخطأه أكثر
من صوابه .
أما تصدي غير المجتهد العادل ـ الذي له أهلية الفتوى ـ فهو عندنا
معشر الإمامية من أعظم المحرمات ، وأفظع الكبائر ، بل هو على حد الكفر
بالله العظيم ، بل رأينا أعاظم علماء الإمامية من أساتيذنا الأعلام يتورعون من
الحكم ، ويفصلون الحكومات غالباً بالصلح ، ونحن لا نزال غالباً على هذه
الوتيرة اقتداء بسلفنا الصالح .
ثم أن امهات أسباب الحكم والخصومات والحقوق ثلاثة : الاقرار ،
البينة ، اليمين . والبينة هي الشاهدان العادلان ، وإذا تعارضت البينتان ـ أو
البينات ـ فخلاف عظيم في تقديم بينة الداخل والخارج ، أو الرجوع إلى
المرجحات .
وقد أفرد الكثير من فقهائنا للقضاء مؤلفات مستقلة في غاية البسط
والإحاطة ، سوى ما دونوه في الكتب المشتملة على تمام أبواب الفقه ، ولا
يسعنا بأن نأتي بأقل قليل منه ، فضلاً عن الكثير ، وقد ذكرنا جملة صالحة من
( 295 )
هذه المباحث في الجزء الرابع من ( تحرير المجلة ) فليرجع إليه من شاء .وإذا حكم الحاكم الجامع للشرائط المتقدمة فالراد عليه ، والمتخلف
عن اتباع حكمه راد على الله تعالى ، ولا يجوز لغيره بعد حكمه أن ينظر في
تلك الدعوى . نعم له أن يعيد النظر فيها بنفسه ، فاذا تبينّ له الخلل نقض
حكمه بالضرورة .
( 296 )
الصيد والذباحة :الأصل في الحيوان مطلقاً عند الإمامية حرمة أكله ونجاسته بالموت إذا
كانت له عروق يشخب دمها عند القطع ، وهو المعبر عنه عند الفقهاء بذي
النفس السائلة .
ثم إن الحيوان قسمان : نجس العين ذاتاً ، وهو ما لا يمكن أن يطهر
أبدا ، كالكلب والخنزير ، وطاهر العين ، وهو ما عدا ذلك .
والأول لا تفارقه النجاسة ، وحرمة الأكل حياً وميتاً ، مذكى أو غير
مذكى . والثاني إذا مات بغير الذكاة الشرعية فهو نجس العين ، حرام الأكل
مطلقاً ، طيراً كان أو غيره ، وحشياً أو أهلياً ، ذا نفس أو غير ذي نفس ، أما إذا
مات بالتذكية فهو طاهر العين مطلقاً كما كان في حياته .
ثم إن كان من السباع أو الوحوش فهو حرام الأكل ، وإن كان طاهراً ،
وإلا فهو حلال الأكل أيضاً .
وتذكية ذي النفس تحصل شرعاً بأمرين :
الأول : الصيد ، ولا يحل منه إلا ما كان بأحد أمرين : الكلب المعلم
الذي ينزجر إذا زجر ، ويأتمر إذا أمر ، ولا يعتاد أكل صيده ، ويكون الرامي
مسلماً ويسمي عند إرساله ، ولا يغيب عن عين مرسله .
أو السهم ، ويدخل فيه : السيف ، والرمح ، والمعراض إذا خرق ، وكل
نصل من حديد ، بل حتى البندقية إذا خرقت ـ من حديد كانت أو غيره ـ.
ويلزم أن يكون الرامي مسلماً ، وأن يسمي . فلو قتل الكلب أو السهم
صيدا ومات حل أكله ، ولو أدركه حيا ذكاه ، ولا يحل بباقي آلات الصيد
كالفهود والحبالة وغيرهما ، نعم لو أدركه حيا ذكاه .
الثاني من أسباب التذكية : الذباحة الشرعية ، ويشترط عندنا في
( 297 )
الذابح الاسلام أو ما بحكمه ، كولده أو لقيطه ، وأن يكون الذبح بالحديد معالقدرة ، ومع الضرورة بكل ما يفري الأوداج ، وأن يسمي ويستقبل ، وأن
يفري الأوداج الأربعة : المري ، والودجين ، والحلقوم . ويكفي في الإبل
نحرها عوض الذبح ، ولوتعذر ذبح الحيوان ونحره ـ كالمتردي والمستعصي ـ
يجوز أخذه بالسيف ونحوه مما يقتل ، فإن مات حل وإلا ذكاه .
أما ما لا نفس له فلا يحل شيء منه ، إذ حيوان البحرلا يحل إلا ما
كان له فلس كالسمك .
( 298 )
ظريفة :قال محمد بن النعمان الأحول مؤمن الطاق : دخلت على أبي حنيفة
فوجدت لديه كتباً كثيرة حالت بيني وبينه ، فقال لي : أترى هذه الكتب ؟
قلت : نعم ، قال : كل هذه الكتب في أحكام الطلاق .
فقلت له : قد أغنانا الله سبحانه عن جميع كتبك هذه بآية واحدة في
كتابه : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)(1) .
فقال لي : هل سألت صاحبك جعفر بن محمد عن بقرة خرجت من
البحر هل يحل أكلها ؟
فقلت : نعم ، قال لي : كل ما له فلس فكله جملاً كان أو بقرة ، وكل
ما لا فلس له لا يحل أكله ، وذكاة السمك عندنا موته خارج الماء(2)
____________
(1) الطلاق 65 : 1 .
(2) الاختصاص : 206 ، رجال الكشي 2 : 681|781 . وفيهما عن حريز بدلاً من مؤمنالطاق .
( 299 )
الأطعمة والاشربة والمحلّل والمحرم منهما :أنواع الحيوان ثلاثة : حيوان الأرض ، حيوان الماء ، حيوان الهواء . وقد
عرفت أنه لا يحل من حيوان البحر إلا السمك ، وبيضه تابع له .
ولا يحل من حيوان الأرض إلا الغنم الأهلية ، وبقر الوحش ، وكبش
الجبل ، والحمير ، والغزلان ، واليحامير .
ويحل الخيل ، والبغال ، والحمير على كراهة ، ويحرم الجلال منها ،
وهو ما يتغذى بالعذرة ، ويطهر بالاستبراء .
ويحرم كل ذي ناب ، كالسباع ، والذئاب .
وتحرم الأرانب ، والثعالب ، والضب ، واليربوع ، وأمثالها من
الوحوش .
وتحرم الحشرات مطلقاً ، كالخنافس ، والديدان ، والحيات ، ونحوها .
أما حيوان الهواء ـ وهي الطيور ـ فيحرم منها سباع الطير ، كالصقر
والبازي ونحوهما مطلقاً .
أما ما عداها فقد جعل الشارع لما يحل أكله منها ثلاث علامات في
ثلاث حالات : فإن كان طائراً في الجو فما كان رفيفه أكثر من صفيفه فهو
حلال ، وإلا فلا . وإن كان على الأرض فإن كان له صيصية ـ وهي ما يكون
كالاصبع الزائد ـ فهو حلال ، وإلا فلا . وإن كان مذبوحاً ، فإن كانت له
حوصلة أو قانصة فهو حلال ، وإلاّ فلا .
فالخفاش والطاووس والزنابير والنحل ونحوها كلها محرمة ، أما الغراب
فما يأكل الجيف محرم ، وما يأكل النبات حلال .
أما المحرم من المشروب والمأكول غير الحيوان فيمكن ضبطه ضمن
قواعد كلية :
( 300 )
1 ـ كل مغصوب حرام .2 ـ كل نجس حرام .
3 ـ كل مضر حرام .
4 ـ كل خبيث حرام .
وأعظم المحرمات من المائعات البول ، وأعظم منه الخمر وأخواتها من
النبيذ ، والفقاع ، والعصير إذا غلا ، ولم يذهب ثلثاه .
ولحرمة الخمر ونجاستها عند الإمامية من الغلظه والشدة ما ليس عند
فرقة من المسلمين ، فقد ورد في التحذير منها عن أئمتهم سلام الله عليهم
أحاديث هائلة ، وزواجر دامغة ، تشيب لها النواصي ، ويرتجف منها أجرأ
الناس على المعاصي ، وتكررت منهم لعنة الله على عاصرها ، وجابيها ،
وبائعها ، وشاربها ، وتعرف في شرعنا بأم الخبائث (1) .
وفي بعض أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يظهر منه حرمة
الجلوس على مائدة وضع فيها قدح خمر(2) ، ولعل السر شدة الحذر والتحرز
من أن يتطاير بخار منها يمس الطعام فيفسده ، أو يدخل في جوف الآكل ذرة
من جراثيمها الخبيثة وموادها الهالكة ولو بعد حين ، وقد اهتدى العلم
الحديث بعد الجد والجهد في تحليلها الكيماوي ، وتمحيصها الطبي ، إلى
مضارها التي أنبأ عنها الاسلام قبل ثلاثة عشر قرناً بدون كلفة ولا عناء ،
فحرموا على أنفسهم ما يحرمه دينهم ، وتمنعه شريعتهم ، فلله شريعة الاسلام
ما أشرفها ، وأنبلها ، وأدقها ، وأجلها ، وأفضلها ، وأكملها ، وخسرت صفقة
المسلمين الذين أضاعوها فضاعوا ، واستهانوا بها فهانوا ، وعسى أن يحدث
____________
(1) راجع كتاب الوسائل 25 : 296 ( باب تحريم شرب الخمر والابواب التي بعده ) فقد أورد
الحر العاملي رحمه الله تعالى فيها جملة واسعة من الروايات الخاصة بهذا الباب .
(2) انظر : الكافي 6 : 229|2 ، الفقيه 4 : 41|132 ، التهذيب 9 : 116|501 .( 301 )
الله بعد ذلك امراً.هذا مجمل القول في امهات الحلال والحرام من المأكول
والمشروب ، وهناك بنات فروع كثيرة لا يتسع لشرحها صدر هذه الرسالة
الوجيزة .
( 302 )
( 303 )
الحدود :عقوبات عاجلة على جنايات خاصة ، الغرض منها حفظ نظام
الاجتماع ، وقطع دابر الشر عن البشر.
حد الزنا
كل بالغ عاقل وطأ امرأة لا يحل له وطؤها شرعاً ، عالماً عامداً وجب
على ولي الأمر أن يحذه بمائة جلدة ، ثم بالرجم بالحجارة إن كان محصناً ،
أي عنده من الحلال ما يسد حاجته ، وإن لم يكن محصناً فبالجلد وحده ،
ويحلق رأسه ، وينفى عن البلد سنة .
ثم إن كانت هي راضية حذت أيضاً بهما إن كانت محصنة ، وإلا
فبالجلد وحده .
وإذا زنى باحدى محارمه النسبية أو الرضاعية ، أو بامرأة أبيه ، أو
بمسلمة وهو ذمي ، أو أكره امرأة على الزنا كان حده القتل .
ويثبت الزنا باقراره أربع مرات ، أو بأربعة شهود عدول ، أو ثلاثة رجال
وامرأتين.
ولو شهد رجلان وأربع نسوة ثبت الجلد دون الرجم ، ولا يثبت بأقل
من ذلك ، ولو شهد ثلاثة أو اثنان حد واحد القذف ، ويشترط اتفاق شهادتهم
من كل وجه ، والمشاهدة عياناً .
ولو اقر بموجب الرجم ثم انكر سقط ، ولو أقر ثم تاب تخير الامام ، ولو
تاب بعد البينة لم يسقط ، ولو زنى ثالثا بعد الحدين قتل .
ولا تجلد الحامل حتى تضع ، ولا المريض حتى يبرأ.
( 304 )
حد اللواط والسحق
لا شيء من المعاصي والكبائر أفظع حداً وأشد عقوبة من هذه
الفاحشة والفعلة الخبيثة ، حتى أن التعذيب بالاحراق بالنار لا يجوز بحال من
الأحوال إلا في هذا المقام .
وحد اللائط أحد امور يتخير ولي الأمر فيها : القتل ، أو الرجم ، أو
إلقاؤه من شاهق تتكسر عظامه ، أو إحراقه بالنار. ويقتل المفعول به أيضاً إن
كان بالغاً مختاراً ، وإن كان صغيراً عزر.
ويثبت اللواط بما ثبت به الزنا ، وكذا السحق ، وتجلد كل من الفاعلة
والمفعولة مائة جلدة ، ولا يبعد الرجم مع الاحصان .
ويجلد ( القواد ) خمسة وسبعين جلدة ، ويحلق رأسه ، ويشهر ، وينفى .
ويثبت بشاهدين وبالاقرار مرتين.
حد القذف
يجب أن يحد المكلف إذا قذف المسلم البالغ العاقل الحر بما فيه
حد ـ كالزنا واللواط أو شرب الخمر ـ بثمانين جلدة ، ويسقط ذلك بالبينة
المصدقة ، أو يصدقه المقذوف .
ويثبت بشهادة العدلين أو الاقرار مرتين .
ولو واجهه بما يكره : كالفاسق ، والفاجر ، والأجذم ، والأبرص ، وليس
فيه ، كان حكمه التعزير.
ومن ادعى النبوة ، أو سب النبي صلى الله عليه وآله ، أو أحد الأئمة