2 : الأجل.
3 : العقد المشتمل للايجاب والقبول.
4 : الافتراق بانقضاء المدَّة أو البذل.
5 : العدَّة، أمةً وحرَّة، حائلا وحاملا.
6 : عدم الميراث.
وهذه الحدود هي التي نصَّ عليها أهل السنَّة والشيعة، راجع من تآليف الفريق الأوَّل: صحيح مسلم، سنن الدرامي، سنن البيهقي، تفسير الطبري، أحكام القرآن للجصّاص، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير، تفسير الفخر الرّازي، تفسير الخازن، تفسير السيوطي، كنز العمّال(53).
ومن تآليف الفريق الثاني: مَن لا يحضره الفقيه الجزء الثالث ص149، المقنع للصَّدوق كسابقه، البداية له أيضاً، الكافي 2 ص44، الإنتصار للشريف علم الهدى المرتضى، المراسم لأبي يعلي سلاّر الديلمي، النهاية للشيخ الطوسي، المبسوط للشيخ أيضاً، التهذيب له أيضاً ج 2 ص 189، الإستبصار له 2 ص 29، الغنية للسيد أبي المكارم، الوسيلة لعماد الدين أبي جعفر، نكت النهاية للمحقِّق الحلّي، تحرير العلاّمة الحلّي 2 ص 27، شرح اللمعة 2 ص 82، المسالك ج 1، الحدائق 6 ص 152، الجواهر 5 ص 165(54).
والمتعة المعاطاة بين الأُمّة الشيعيَّة ليست إلاّ ما ذكرناه، وليس إلاّ نوعاً واحداً، والشيعة لم ترَفي المتعة رأياً غير هذا، ولم تسمع أُذن الدنيا أنواعاً لِلمتعة تقول بها فرقةٌ من فرق الشيعة، ولم تكن لأيِّ شيعيٍّ سابقة تعارف بانقسامها على الصغرى والكبرى، وليس لأيِّ فقيه من فقهاء الشيعة ولا لعوامهم من أوَّل يومها إلى هذا العصر ـ عصر الكذب والإخلاق، عصر الفرية والقذف عصر القصيميِّ ـ إلماماً بهذا الفقه الجديد الُمحدَث، فقه القرن العشرين لاالقرون الهجريَّة.
وأمَّا القصيميُّ ـ ومَن يُشاكله في جهله المُطبق ـ فلا أدري ممَّن سمع ما تخيَّله من الأنواع؟ وفي أيّ كتاب من كُتب الشيعة وجده؟ وإلى فتوى أيِّ عالم من علمائها يستند؟ وعن أيِّ إمام من أئمَّتها يروي؟ وفي أيِّ بلدة من بلادها أو قرية من قراها أو بادية من بواديها وجد هذه المعاطاة المكذوبة عليها؟ أيم الله كلُّ ذلك لم يكن، لكنَّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم زخرف القول غرورا.
14 ـ قال: إنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين من يأتون بشاة مسكينة وينتفون شعرها، ويعذِّبونها أفانين العذاب، موحياً إليهم ضلالهم وجرمهم أنَّها السِّيدة عائشة زوج النبيِّ الكريم وأحبُّ أزواجه إليه.
ومَن يأتون بكبشين وينتفون أشعارهما ويعذِّبونهما ألوان العذاب، مشيرين بهما إلى الخليفتين أبي بكر وعمر، وهذا ما تأتيه الشيعة الغالية.
وإنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين هم الَّذين غيَّبوا إمامهم في السرداب، وغيَّبوا معه قرآنهم ومصحفهم، ومَن يذهبون كلَّ ليلة بخيولهم وحميرهم إلى ذلك السرداب الذي غيبَّوا فيه إمامهم ينتظرونه وينُادونه ليخرج إليهم، ولا يزال عندهم ذلك منذ أكثر من ألف عام.
وإنَّ أغبى الأغبياء وأجمد الجامدين هم الَّذين يزعمون أنَّ القرآن مُحرَّفٌ مزيدٌ فيه ومنقوصٌ منه ج 1 ص 374.
ج ـ يكاد القلم أن يرتج عليه القول في دحض هذه المفتريات، لأنَّها دعاو شهوديَّة بأشياء لم تظلّ عليها الخضراء ولا أقلّتها الغبراء، فإنَّ الشيعة منذ تكوَّنت في العهد النبويِّ، يوم كان صاحب الرِّسالة يلهج بذكر شيعة عليٍّ (عليه السلام)، والصحابة تُسمّي جمعاً منهمْ بشيعة عليٍّ، إلى يومها هذا، لم تسمع بحديث الشاة والكبشين، ولا أبصرت عيناها ما يُفعل بهاتيك البهائم البريئة من الظلم والقساوة، ولا مُدَّت إليها تلك الأيادي العادية، غير أنَّهم شاهدوا القصيميَّ متَّبعاً لابن تيميَّة يُدنِّس برودهم النزيهة عن ذلك الدَرَن.
وليت الرَّجل يُعرِّفنا بأحد شاهدَ شيعيّاً يفعل ذلك، أو بحاضرة من حواضر الشيعة أطَّردت فيها هذه العادة، أو بصقع وقعت فيه مرَّة واحدة ولو في العالم كلِّه.
وليتني أدري وقومي هل أفتى شيعيٌّ بجواز هذا العمل الشنيع؟ أو استحسن ذلك الفعل التافه؟ أو نوَّه به ولو قصِّيصٌ في مقاله؟ نعم يوجد هذا الإفك الشائن في كتاب القصيميِّ وشيخه ابن تيميَّة المشحون بأمثاله.
وفرية السرداب أشنع وإن سبقه إليها غيره من مؤلِّفي أهل السنَّة، لكنَّه زاد في الطمّور نغمات بضمِّ الحمير إلى الخيول، وادِّعائه اطِّراد العادة في كلِّ ليلة واتِّصالها منذ أكثر من ألف عام.
والشيعة لا ترى أنَّ غيبة الإمام في السَّرداب، ولاهم غيَّبوه فيه، ولا أنَّه يظهر منه. وإنَّما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنَّه يظهر بمكّة المُعظّمة تجاه البيت، ولم يقل أحدٌ في السرداب: إنَّه مغيب ذلك النور، وإنَّما هو سرداب دار الأئمَّة بسامرَّاء، وإنَّ من المطَّرد ايجاد السراديب في الدور وقايةً من قايظ الحرِّ، وإنَّما اكتسب هذا السرداب بخصوصه الشرف الباذخ لانتسابه إلى أئمَّة الدين، وإنّه كان مبوَّءً لثلاثة منهم كبقيَّة مساكن هذه الدار المباركة، وهذا هو الشأن في بيوت الأئمّة عليهم السَّلام ومشرِّفهم النبيُّ الأعظم في أيِّ حاضرة كانت، فقد أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.
وليت هؤلاء المتقوِّلون في أمر السرداب إتَّفقوا على رأي واحد في الأُكذوبة، حتّى لا تلوح عليها لوائح الإفتعال فتفضحهم، فلا يقول ابن بطوطة(55) في رحلته 2 ص 198: إنَّ هذا السرداب المنوَّه به في الحلّة، ولا يقول القرماني في «أخبار الدُّول»: إنّه في بغداد، ولا يقول الآخرون: إنّه بسامراء. ويأتي القصيميُّ مِن بعدهم فلايدري أين هو، فيطلق لفظ السرداب، ليستر سوءته.
وإنّي كنتُ أتمنّى للقصيميِّ أن يحدِّد هذه العادة بأقصر من (أكثر من ألف عام) حتّى لا يشمل العصر الحاضر والأعوام المتَّصلة به، لأنَّ انتفائها فيه وفيها بمشهد ومرئى ومسمع من جميع المسلمين، وكان خيراً له لوعزاها إلى بعض القرون الوسطى حتّى يجوِّز السامع وجودها في الجملة، لكنَّ المائن غير مُتحفِّظ على هذه الجهات.
وأمّا تحريف القرآن فقد مرّ حقُّ القول فيه ص 85 وغيرها.
هذه نبذٌ من طامّات القصيميِّ، وله مئاتٌ من أمثالها، ومَن راجع كتابه عرف موقفه من الصِّدق، ومبوَّئه من الأمانة، ومقيله من العلم، ومحلّه من الدين، ومستواه من الأدب.
(الّذين يُجادلون في آيات الله بغيرِ سُلطان أتاهم كَبُر مَقتاً عند الله وَعند الّذين آمنوا كذلِكَ يطبَعُ اللهُ على كلِّ قلبِ متكبِّر جبّار)
(سورة غافر : 35)
المحدَّث في الاسلام
أصفقت الأُمَّة الإسلاميَّة على أنَّ في هذه الأُمَّة ـ لدة الأُمم السابقة ـ أُناسٌ مُحدَّثون «على صيغة المفعول»، وقد أخبر بذلك النبيُّ الأعظم كما ورد في الصِّحاح والمسانيد من طرق الفريقين «العامَّة والخاصَّة».
والُمحدَّث: مَن تُكلّمه الملائكة بلا نبوَّة ولا رؤية صورة، أو يُلهم له ويُلقى في روعه شيءٌ من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو يُنكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه. فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الأُمَّة مُطبقٌ عليه بين فرق الإسلام، بيد أنَّ الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمَّة صلوات الله عليهم من الُمحدَّثين، وأهل السنَّة يرون منهم عمر بن الخطاب، وإليك نماذج من نصوص الفريقين:
نصوص أهل السنّة
أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج2 ص194 عن أبي هريرة قال:
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمَّتي منهم أحدٌ فعمر»، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: من نبيٍّ(56) ولا محدَّث.
قال القسطلاني(57): ليس قوله «فإن يكن» للترديد، بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديقٌ ففلان. إذ المراد إختصاصه بكمال الصَّداقة، لا نفي الأصدقاء. وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمَّة المفضولة، فوجوده في هذه الأُمَّة الفاضلة أحرى.
وقال في شرح قول ابن عبّاس: «من نبيٍّ ولا محدَّث»: ثبت قول ابن عبّاس هذا لأبي ذر وسقط لغيره، ووصله سفيان بن عيينة في أواخر جامعه وعبد بن حميد بلفظ: كان ابن عبّاس يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث.
وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار ج 2 ص 171 عن أبي هريرة مرفوعاً: «أنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم مُحدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنَّه عمر بن الخطاب».
قال القسطلاني في شرحه 5 ص 431: قال المؤلِّف: يجري على ألسنتهم الصَّواب من غير نبوَّة. وقال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنَّه قد حُدِّث به يظنُّ فيصيب ويخطر الشيء بباله فيكون، وهي منزلةٌ رفيعةٌ من منازل الأولياء.
وقال في قوله «إن كان في أُمَّتي»: قال (صلى الله عليه وآله) على سبيل التوقّع وكأنَّه لم يكن إطلّع(58) على أنَّ ذلك كائنٌ وقد وقع، وقصَّة: يا سارية الجبل(59) مشهورةٌ مع غيرها.
وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله)«قد كان في الأُمم قبلكم مُحدَّثون، فإن يكن في أُمَّتي منهم أحدٌ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم»، قال ابن وهب: تفسير محدَّثون: ملهمون.
ورواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» 1 ص 104 وقال: حديثٌ متَّفقٌ عليه، وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» 2 ص 257 بطرق شتَّى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عبّاس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث، قال: معنى قوله محدَّثون أي مُلهمون، فكان عمر (رضي الله عنه) ينطق بما كان ينطق ملهماً.
ثمَّ عدَّ من ذلك ما قد رُوي عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربّي أو وافقتُ ربِّي في ثلاث:
قلت: يا رسول الله! لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: (واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)(60).
وقلت: يا رسول الله إنَّ نساءك يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب(61).
واجتمع على رسول الله (صلى الله عليه وآله) نساؤه في الغيرة فقلت: عسى ربّي إن طلّقكنَّ أن يُبدِّله أزواجاً خيراً منكنَّ(62)، فنزلت كذلك.
قال الأميني: إن كان هذا من القول بإلهام فعلى الإسلام السَّلام، وما أجهل القوم بالمناقب حتّى أتوا بالطامّات الكبرى كهذه وعدّوها فضيلة، وعليهم إن عقلوا صالحهم إنكار مثل هذا القول على عمر، وفيه حطٌّ لمقام النبوَّة، ومسَّةٌ على كرامة صاحب الرِّسالة (صلى الله عليه وآله).
قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدَّثون، فقال ابن وهب: مُلهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنَّهم حدّثوا بشيىء فظّنوه. وقيل: تُكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون. وقال البخاري: يجري الصَّواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء(63).
وقال الحافظ محب الدين الطبري في «الرِّياض» اص 199: ومعنى محدَّثون والله أعلم: أي يُلهمون الصّواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدِّثهم الملائكة لا بوحي وإنّما بما يُطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلةٌ عظيمةٌ.
وقال القرطبي في تفسيره ج 12 ص 79: قال ابن عطيّة: وجاء عن ابن عبّاس إنَّه كان يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث. ذكره مسلمة بن القاسم بن عبدالله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس. قال مسلمة: فوجدنا المحدَّثين معتصمين بالنبوَّة ـ على قراءة ابن عبّاس ـ لأنَّهم تكلّموا بأُمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة، فأصابوا فيما تكلّموا، وعصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصّة ساريةوما تكلّم به من البراهين العالية.
وأخرج الحافظ أبو زرعة حديث أبي هريرة في طرح التثريب في شرح التقريب 1 ص 88 بلفظ: «لقد كان فيمَن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال مكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أُمَّتي أحدٌ فعمر».
وأخرجه البغوي في «المصابيح» 2 ص 270، والسيوطي في «الجامع الصغير»(65).
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير 4 ص 507: قال القرطبي: «مُحدَّثون» بفتح الدال اسم مفعول جمعٌ محدَّث بالفتح، أي مُلهم أو صادق الظنّ، وهو من ألقي في نفسه شيءٌ على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصَّواب على لسانه بلاقصد، أو تكلّمه الملائكة بلانبوَّة، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنَّ ظنّاً أصاب كأنَّه حُدِّث به، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامةٌ يكرم الله بها مَن شاء من صالح عباده، وهذه منزلةٌ جليلةٌ من منازل الأولياء.
«فإن يكن من أُمَّتي منهم أحدٌ فإنِّه عمر»، كأنَّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنَّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة الترديد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والإختصاص قولك: إن كان لي صديقٌ فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكَّ في صداقته، بل المبالغة في أنَّ الصداقة مختصَّة به لا تتخطّاه إلى غيره.
وقال القرطبي: قوله «فإن يكن» دليلٌ على قلّة وقوعه وندرته، وعلى أنَّه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنّون، لأنَّه كثيرٌ في العلماء، بل وفي العوام مَن يقوى حدسه فتصحُّ إصابته فترتفع خصوصيَّة الخبر و خصوصيَّة عمر، ومعنى الخبر قد تحقّق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبيُّ (صلى الله عليه وآله) لم يجزم بالوقوع، وقد دلَّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصَّة: الجبل يا سارية! الجبل. وغيره، وأصحّ ما يدلَّ على ذلك شهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) له بذلك حيث قال: «إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه»(66).
قال ابن حجر: وقد كثر هؤلاء المحدَّثون بعد العصر الأوّل، وحكمته زيادة شرف هذه الأُمَّة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء، فلمّا فات هذه الأُمَّة المحمَّديَّة كثرة الأنبياء; لكون نبيّهم خاتم الأنبياء، عُوِّضوا تكثير الملهمين.
تنبيهٌ:
قال الغزالي: قال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس، فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثمَّ إلى يمينه كذلك، ثمّ أطرق إلى صدره فقال: ما تقول؟ ثمَّ أجاب فسألته عن إلتفاته؟ فقال: لم يكن عندي علمٌ فسألت الملكين فكلٌّ قال: لا أدري، فسألت قلبي فحدَّثني بما أجبت، فإذا هو أعلم منهما. قال الغزالي: وكأنَّ هذا معنى هذا الحديث. اهـ .
ويجد الباحث في طيِّ كتب التراجم جمعاً ممَّن كلّمتهم الملائكة منهم: عمران ابن الحصين الخزاعي المتوفّى سنّة 52 هـ ، أخرج أبو عمر في «الاستيعاب» 2 ص 455: أنَّه كان يرى الحفظة وكانت تكلّمه حتّى اكتوى، وذكره ابن حجر في الإصابة 3 ص 26.
وقال ابن كثير في تأريخه 8 ص 60: قد كانت الملائكة تسلّم عليه، فلمّا اكتوى انقطع عنه سلامهم، ثمّ عادوا قبل موته بقليل، فكانوايسلّمون عليه (رضي الله عنه).
وفي شذرات الذهب 1 ص 58: أنَّه كان يسمع تسليم الملائكة عليه، ثمّ اكتوى بالنار فلم يسمعهم عاماً، ثمَّ أكرمه الله بردِّ ذلك.
وذكَر تسليم الملائكة عليه الحافظ العراقي في «طرح التثريب» ج 1 ص 90، وأبو الحجَّاج المزّي في «تهذيب الكمال» كما في تلخيصه ص 250، وقال ابن سعد وابن الجوزي في «صفة الصفوة» 1 ص 283: كانت الملائكة تصافحه، وذكره ابن حجر في «تهذيب التهذيب» 8 ص 126.
ومنهم أبو المعالي الصّالح المتوفّى 427 هـ ، أخرج الحافظان إبنا الجوزي وكثير: أنَّ أبا المعالي أصابته فاقةٌ شديدةٌ في شهر رمضان، فعزم على الذهاب إلى رجل من ذوي قرابته ليستقرض منه شيئاً، قال: فبينما أنا أُريده فنزل طائرٌ فجلس على منكبي وقال: يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمضي إليه نحن نأتيك به. قال: فبكّر إليّ الرَّجل «صف ـ صفة الصفوة لابن الجوزي ـ 2 ص 280، ظم ـ المنتظم لابن الجوزي ـ 9 ص 136، يه ـ البداية والنهاية لابن الأثير ـ 12 ص 163».
وقال أبو سليمان الخطّابي: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «قد كان في الأُمم ناسٌ مُحدَّثون، فإن يكن في أُمَّتي فعمر» وأنا أقول: فإن كان في هذا العصر أحدٌ كان أبو عثمان المغربي «طب ـ تأريخ بغداد للخطيب البغدادي ـ 9 : 113».
ومن هذا القبيل تكلّم الحوراء مع أبي يحيى الناقد، أخرج الخطيب البغدادي وابن الجوزي عن أبي يحيى زكريّا بن يحيى الناقد المتوفّى 285 هـ ، «أحد أثبات المحدِّثين» قال: إشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيتَ بعهدك فها أنا التي قد اشتريتني(67).
هذا ما عند القوم، وأمّا نصوص الشيعة:
فأخرج ثقة الإسلام الكليني في كتابه «أُصول الكافي» ص 84 تحت عنوان «باب الفرق بين الرَّسول والنبيّ والُمحدَّث» أربعة أحاديث:
منها باسناده عن بُريد عن الإمامين الباقر والصّادق صلوات الله عليهما في قوله عزَّ وجلَّ في سورة الحجِّ: وما أرْسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رسول وَلا نبيٍّ وَلا مُحَدَّث، قال بُريد: قلت: جُعِلتُ فداك ليست هذه قراءتنا(68)، فما الرَّسول والنَّبيّ والُمحَدَّث؟ قال: «الرَّسول الَّذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبيّ هو الذي يرى في منامه، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرِّسالة لواحد، والُمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصّورة» قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أنَّ الذي رأى في النّوم حقٌّ وأنَّه من الملك؟ قال: «يوفَّق لذلك حتَّى يعرفه، ولقد ختم الله عزَّ وجلَّ بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء»(69).
وحديث آخر أيضاً فصّل بهذا البيان بين النبيِّ والرَّسول والمحدَّث(70).
وحديثان بالتفصيل المذكور غير أنَّ فيهما مكان لفظة المحدَّث، الإمام، أحدهما عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجلَّ: (وكان رسولا نبيّا)(71) ما الرَّسول؟ وما النبيّ؟ قال: «النبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصّوت ولا يعاين المَلك، والرَّسول الذي يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك». قلتُ: الإمام مامنزلته؟ قال: «يسمع الصّوت ولا يرى ولا يعاين الملك»، ثمَّ تلا هذه الآية: وما أرسلنا مِن قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث(72).
والثاني: عن إسماعيل بن مرّار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروف إلى الرضا (عليه السلام): جُعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرَّسول والنبيّ والإمام؟ قال: فكتب أوقال: «الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام: أنَّ الرَّسول الذي ينزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام)، والنبيّ ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص»(73).
هذا تمام ما في هذا الباب من الكافي، وأخرج في ص 135 تحت عنوان «باب أنَّ الأئمَّة عليهم السّلام مُحدَّثون مُفهمون» خمسة أحاديث.
منها: عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً» فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتكم بعجيبة: فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان عليٌّ مُحدَّثاً، فقالوا: ما صنعتَ شيئاً ألا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فرجعت إليه فقلتُ: إنِّي حدَّثت أصحابي بما حدَّثتني فقالوا: ما صنعتَ شيئاً ألا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فقال لي: «يحدِّثه ملَك»، قلت: تقول إنّه نبيٌّ؟ قال: فحرَّك يده هكذا، أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أوَما بلغكم أنّه قال: وفيكم مثله»(74)؟
وحديث آخر ما ملخَّصه: انَّ عليّاً (أمير المؤمنين) كان يعرف قاتله ويعرف الأُمور العظام التي كان يُحدِّث بها النَّاس بقول الله عزَّ ذكره. وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث(75).