خلال تدوين التاريخ الإسلامي ، كان لطريقة تدوين تاريخ المدن والأمصار قدمٌ عريقٌ فيه . وقد احتلّ تاريخ مكّةَ وما جرى فيها من الوقائع والأحداث أهميّةً بارزةً تتناسب ومكانتها ضمن هذا السياق .
فمكّةُ مدينةٌ عريقة ذات شأن عظيم وصيت شائع في الآفاق . وكانت منذ القدم محطَّ أنظار الشعوب والأمم ، وهي من منظار القدم التاريخي تُعدُّ من أقدم الأمصار التي شيّدت على وجه المعمورة ، وضمّت بين ربوعها شعوباً وقبائلَ شتّى . وفي العصر الإسلامي كانت أخبار مكّة ، والنصوص التي تُعنى بأحداثها ووقائعها المختلفة تحظى بأهمية بالغة لدى المسلمين ، فقد كانت فضائل مكّة وأخبارها ومكانتها الرفيعة وامتدادها التاريخي تلقى اهتماماً واسعاً لدى المسلمين ولأسباب كثيرة .
فقد كانت ـ ولا زالت ـ المعرفة الدقيقة لما دوّن عن مكّة تحتلُّ أهمية قصوى نابعة من ضرورتها في تفسير القرآن ، وفهم الآيات الرّبانيّة ، وسيرة النبيِّ ، وكيفية إنبثاق الرسالة الإسلاميّة وانتشار شعاعها في كلّ الأرجاء . وعلى هذا الأساس فإنّ أقدم النُصوص المدوّنة في الحضارة الإسلاميّة هي تلك التي كتبت عن تاريخ مكّة والمدينة .
قِدَم هذه النصوص :
يظهر أن أقدم مُصَنَّف ورد في كتب التاريخ والسيرة حول هذا الموضوع ، هو كتاب محمد بن عمر الواقدي ، الذي ولد عام 130 وتوفي عام 207 للهجرة1 ، وكان محدّثاً كبيراً ومؤرخاً حاذقاً . وكان كتابه الموسوم بـ « أخبار مكّة » مصدراً لمن تلاه من المحقّقين الذين استقوا منه فيما كتبوه عن مكّة من أخبار ونصوص . وجاء من بعده علي بن محمد المدائني (135 ـ 225 هـ) وهو من المؤرخين الذين أغنوا التاريخ بغزارة مؤلّفاتهم وتنوع كتاباتهم . وذكر ابن النديم ـ الذي نقل آثاره تفصيلياً وبشكل موضوعي ـ أن له كتاباً عن مكّة اسمه « تاريخ مكّة » ، ولا يوجد لهذا الكتاب أيُّ أثر اليوم شأنه في ذلك شأن الكثير من مؤلّفاته الأخرى . وينبغي لي التذكير هنا بأن الكثير من المصادر الأخرى التي تحدّثت عن سيرته ومؤلّفاته لم تذكر عن هذا الكتاب شيئاً2 .
بعد كتاب المدائني لابدّ من الاشارة إلى الكتاب القيم الذي ألّفه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (... إلى ما يقارب 250 هـ) ، وعنوانه « أخبار مكّة » ، ونقل فيه أخباراً كثيرة عنها . ومن حسن الحظّ أن الكتاب موجود اليوم ، ولا يزال المحقّقون يرجعون إليه وينهلون من فيضهِ3 .
ألّف أيضاً الزبير بن بكّار الذي ولد عام 172 وتوفي عام 256 للهجرة كتاباً في هذا الموضوع . وكتابه هذا أشار إليه السخاوي4 ، وذكرتْه أيضاً مصادرُ أُخرى5 . إلاّ أن النصوص الواردة في الكتب التاريخية والمصادر التي تحدثّت عن سيرته ، والفهارس التي أحصت مؤلفاته لم تذكر شيئاً عن هذا الكتاب6 .
يُعَدُّ عمر بن شَبّة أيضاً من المؤرّخين الذين كتبوا عن مكّة وأخبارها ، وله كتاب يُدعى بـ « تاريخ مكّة » ذكره البخاري ونقل عنه7 ، وقال : إنّ له كتاباً آخر في هذا الصدد واسمه « أُمراء مكّة » ، لكن البعض احتمل أن يكون كلا الاسمين عنواناً لكتاب واحد8 .
نسبت بعض المصادر إلى الحسن البصري (م110) كتاباً اسمه « تاريخ مكّة » ، ويبدو أن نسخة منه موجودة الآن في أحد مكتبات مصر9 .
ثم يأتي بعد كل هذا كتاب أبي عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي ، وهو كتاب قيّم وفريد وقد سمّاه بـ « أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه » وهو محور اهتمامنا الآن :
يوصف كتاب الفاكهي بأنّه كتابٌ تاريخي واجتماعي وجغرافي ، يُتاح للمرء ـ بالاستناد إليه ـ التعرف على الكثير من الحقائق المتعلقة بمكّة ، والكيفية التي كانت عليها الأطراف المحيطة بها . والموجود حالياً هو الجزء الثاني من الكتاب وهو يحمل بين دفّتيه ما يناهز الثلاثة آلاف حديث وخبر .
أما الجزء الأول منه فقد كان في متناول أيدي المحقّقين والمحدّثين حتّى سنوات من بعد تأليفه ، فكانوا يستفيدون من مضامينه ومحتوياته . وقد أعاد محقّق هذا الكتاب ـ وبالاستناد إلى نقلهم وروايتهم ـ صياغة قسم من جزئه الأوّل ، وهذا ما سنشير اليه لاحقاً .