البداء في القرآن الكريم
البداء في القرآن الكريم
يعتبر موضوع البداء من جملة المسائل الكلامية التوحيدية التي ثار حولها بحث واسع النطاق بين علماء الكلام ، وذلك لما ينطوي عليه من نكات دقيقة وحسّاسة . فإن البداء في اللغة يعني الظهور بعد الخفاء ، ويستعمل في المحاورات العرفية، في موارد تبدل الآراء والأفكار والأغراض والأهداف والمقاصد، فيقال : كان رأيه كذا ثم بدا له فيه ، وواضح أن البداء بهذا المعنى يستبطن جهلاً سابقاً وعلماً مستحدثاً ، وكلاهما منفيان عن الله تعالى ، لأن علم الله سبحانه وتعالى ذاتي غير مسبوق بجهل.
ولكننا إذا دققنا في البداء بمعناه اللغوي هذا وجدناه مركباً من عنصرين :
1 ـ جهل سابق وعلم لاحق .
2 ـ تبدل في الرأي والأغراض والأهداف تبعاً للعلم اللاحق .
ثم تساءلنا ، أي من العنصرين يتنافى مع التوحيد ؟ الأول أم الثاني أم كلاهما ؟
وهل بالامكان التفكيك بينهما ؟ بحيث نؤمن بنوع من التبدل والتغير لا يكون ناشئاً من جهل سابق وعلم لاحق ؟
أما بخصوص السؤال الأول: فنلاحظ ببداهة أن العنصر الأول يتنافى مع التوحيد، وليس هناك مسلم يقبل بنسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى . ولا نحتاج إلى سرد آيات وروايات في ذلك.
أما العنصر الثاني: فإن كان التبدل لازماً ذاتياً لوجود الجهل السابق وطرو العلم اللاحق ، فهو في هذه الحالة يتنافى مع التوحيد أيضاً، فكما أن الجهل يتنافى معه كذلك يتنافى معه كل تبديل وتغيير يكون بسببه . وإن كان التبديل ليس لازماً لذلك ولا ناشئاً منه وانما ناشئ من عوامل اُخرى فهو في هذه الحالة لا يتنافى مع التوحيد .
فتبدل الرأي والنظر ـ مثلاً ـ من اللوازم الذاتية لظهور العلم واضمحلال الجهل ، ولذا فكما لا يمكن نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، كذلك لا يمكن نسبة التبدل في الرأي والنظر اليه تعالى. بل إن مفهوم الرأي والنظر في نفسه لا يمكن نسبته إلى الله سبحانه فضلاً عن تبدله وتغيره; لأن هذا المفهوم متقوم بالمعنى الحصولي الاكتسابي للعلم ، وعلم الله ليس حصولياً اكتسابياً حتى يقال هذا نظر الله ورأيه ، وإنما هو علم ذاتي متقوم بذاته.
وبعد إتضاح الجواب على هذين السؤالين ، نحاول أن نلقي نظرة في القرآن الكريم لنرى هل توجد فيه آية نسبت إلى الله سبحانه التغيير والتبديل في أمر من الاُمور، أو جانب من الجوانب؟
هناك من يبادر إلى الإجابة على ذلك بسرعة، قائلاً بأن القرآن الكريم قد نفى كل تغيير وتبديل عن الله سبحانه وتعالى، وذلك طبقاً لقوله تعالى : ( ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) [1] ، وقوله تعالى : (ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) [2] .
غير أن هذا الجواب ليس كافياً، لأن الحقيقة القرآنية أمرٌ مستفادٌ من كل القرآن ، وما كان مستفاداً من جانب معين فقط منه لا يمثل إلاّ نصف الحقيقة القرآنية، وهذا الجواب يعبر عن نصف الحقيقة لأنه مستفاد من جانب واحد من القرآن الكريم، وهناك جانب آخر منه نسب التغيير والتبديل إلى الله سبحانه وتعالى ، مثل قوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب ) [3] وقوله تعالى : ( لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
فالآية الاولى تدلُّ على أن الله يمحو ويثبت وفي ذلك كناية عن التغيير والتبديل ، أما الآية الثانية فقد صرحت بأن الله يغير حال الناس إذا ما غير الناس ما بأنفسهم ، فالواقع الاقتصادي والسياسي للناس، عبارة عن تقديرات ربانية قابلة للتغيير، إذا ما قرّر الناس تغيير واقعهم النفسي والثقافي، من الشرك إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهداية. فهناك تقديران ، تقدير رباني لحالة الناس في الطاعة ، وتقدير رباني لحالتهم في المعصية ، فإن اختاروا الطاعة أجرى لهم التقدير الأول ، وإن اختاروا المعصية أجرى عليهم التقدير الثاني ، ومن هذا القبيل ما دل من الآيات والروايات على تأثير بعض الأعمال في الرزق والآجال والابتلاءات .
وهذا مما لا يخالف فيه أحد من المسلمين; وإنما نشأ الخلاف في مفهوم البداء عندما اُخذ بمعناه اللغوي المتنافي مع التوحيد ، وسينتفي الخلاف عند الإلتفات الى أن المراد به معنى اصطلاحي لا يلزم منه نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، فالمراد بالبداء عند مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) هو : إن الله سبحانه يقدر لعبده تقديراً طبقاً لمقتض معين ، ثم يبدل الله تقديره طبقاً لمقتض جديد يظهر في العبد نتيجة عمل معين يقوم به، مع علمه السابق في كلا الأمرين والحالين، ولو أنهم اطّلعوا على هذا المعنى لعلموا أنّه ممّا اتفق المسلمون عليه فالنزاع في الأمر لفظي فقط ، وصدق العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين، إذ يقول : فالنزاع في هذه المسألة بيننا وبين أهل السنة لفظي، ثم يقول : فإن أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى التجوز باطلاق البداء على ما قلناه، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما يشاء وليتق الله ربه في أخيه المؤمن [4] .
وقبله كتب الشيخ المفيد يقول: أما اطلاق لفظ البداء فإنما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عزّ وجل، ولو لم يرد به سمع أعلم صحته لما استجزت اطلاقه، كما أنه لو لم يرد عليَّ سمع بأن الله يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما اطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنه لما جاء أسمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه. وقد أوضحت من علتي في اطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإمامية بأسرها، وكلّ من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا يرضاه [5] .
وقبله قال الامام الصادق(عليه السلام) ، في تفسير قوله تعالى:( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب) فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل ان يصنعه ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه ، ان الله لا يبدو له من جهل [6] وقال(عليه السلام) أيضاً: من زعم أن الله عزّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤا منه [7] .
ثمّ إن عمدة أدلة الإمامية في مسألة البداء اُمور ثلاثة هي:
1 ـ قوله تعالى: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب) [8] وقوله تعالى:(يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) [9] .
2 ـ مشابهة لمسألة النسخ في التشريع، حيث قالوا: بأن النسخ في التكوين كالنسخ في التشريع، والبداء نسخ تكويني، والنسخ بداء تشريعي ، وكما أثبت المسلمون النسخ في التشريع، كما في مسألة تغيير القبلة من المسجد الأقصى الى الكعبة الشريفة، ولم يخالف منهم في ذلك أحد، ولم يعتبر أحد منهم ذلك مخالفاً لعلمه الأزلي سبحانه وتعالى، ولا مستلزماً لثبوت جهل سابق، كذلك البداء تغيير في الأحكام الكونية دون أن يلزم منها جهل سابق، ولا مخالفة لعلمه الأزلي سبحانه وتعالى، فإن اشكل أحد على البداء فإن اشكاله يقع على النسخ، وما يذكر من الجواب في باب النسخ يمكننا إيراده بتمامه في باب البداء، بلا أدنى فرق بين الأمرين، والاشكال على البداء إنّما هو تكرار لما أشكل به اليهود على النسخ في التشريع، حيث إنّهم يرون بطلان ذلك، وعدم إمكان نسبته الى الله سبحانه وتعالى، كما أن إجابة علماء المسلمين على هذا الاشكال، وإثباتهم لامكان النسخ في التشريع دون لزوم خلل منه في الساحة الربوبية المقدسة قابلة للانطباق على باب النسخ في عالم التكوين والتدبير.
3 ـ تأثير الأعمال في مصائر الإنسان، وهذه حقيقة قرآنية مؤكدة، اضافة الى ما في السنّة النبوية من تأكيد متواتر عليها، وهي أن أعمال الإنسان من الإيمان والشرك والطاعة والمعصية، بر الوالدين وعقوقهما والانفاق على الفقراء والامساك عن ذلك، وصلة الرحم وقطيعتها، ... الخ ، مؤثرة في الرزق والبركة وطول العمر والسعادة، وهذه الاُمور ذكرها القرآن الكريم مراراً، وأيدتها السنّة النبوية كراراً، وقد لخصها القرآن الكريم، بقوله تعالى: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والذي ينكر البداء لابد وأن يعرف أن انكاره ينجرّ الى انكار مثل هذه الحقيقة الواضحة، فإن كان يؤمن بها، فليعلم أن هذا الذي يؤمن به هو الذي تسميه الإمامية بالبداء.
أقوال علماء الإمامية في البداء
وهذا هو المعنى الذي أكّد عليه علماء الإمامية المتقدمون منهم والمتأخرون . قال الشيخ المفيد: قول الإمامية في البداء، طريقه السمع دون العقل... وليس المراد منه تعقب الرأي ووضوح أمر كان قد خفي عنه، وجميع أفعاله تعالى الظاهرة في خلقه بعد أن لم تكن، فهي معلومة له فيما لم يزل [10] .
وقال الشيخ الطوسي: البداء حقيقته في اللغة هو الظهور ولذلك يقال بدا لنا سور المدينة وبدا لنا وجه الرأي... فأما إذا اُضيفت هذه اللفظة الى الله تعالى، فمنه ما يجوز اطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز، فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون اطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين(عليهما السلام) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء الى الله تعالى دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد إن لم يكن، ويكون وجه اطلاق ذلك فيه تعالى التشبيه وهو انّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ويحصل لهم العلم به، بعد أن لم يكن حاصلاً لهم، اُطلق على ذلك لفظ البداء [11] .
وقال السيد عبدالله شبر: للبداء معان بعضها يجوز عليه وبعضها يمتنع وهو ـ بالفتح والمد ـ أكثر ما يطلق في اللغة على ظهور الشيء بعد خفاءه وحصول العلم به بعد الجهل، واتفقت الاُمة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلا من لا يعتدّ به، ومن نسب ذلك الى الإمامية فقد افترى عليهم كذباً والإمامية براء منه [12] .
وقال السيد عبدالحسين شرف الدين: وحاصل ما تقوله الشيعة هنا إن الله ينقص من المرض وقد يزيد فيه، وكذا الأجل والصحة والمرض والسعادة والشقاء والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب) [13] وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي وائل وقتادة، وقد رواه جابر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان كثير من السلف يدعون ويتضرعون الى الله تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا(عليهم السلام) في أدعيتهم المأثورة ، وورد في السنن الكثيرة إن الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر، وصحّ عن ابن عباس، أنّه قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر، هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة، تجوزوا في اطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة... فالنزاع في هذه بيننا وبين أهل السنة لفظي... وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامة المسلمين... [14] .
وكتب الشيخ (آغا بزرك الطهراني) يقول: البداء معناه في اللغة ظهور رأي لم يكن، واستصواب شيء عُلم بعد أن لم يعلم، وهذا المعنى يحصل لعامة أفراد البشر، ولكنه يستحيل على الله تعالى شأنه لاستلزام بدو الرأي بشيء لم يكن الجهل به أولاً أو العجز عنه وهو تعالى منزّه عنهما... البداء الذي يعتقده الإمامية هو بالمعنى الذي لابد أن يعتقده كل من كان مسلماً في مقابل اليهود القائلين بأن الله تعالى قد فرغ من الأمر وأنّه لا يبدو منه شيء (يد الله مغلولة)أو من تبع أقاويل اليهود زاعماً أنّه تعالى أوجد جميع الموجودات وأحدثها دفعة واحدة... فلا يوجد منه شيء إلا ما وجد أولاً، أو كان معتقداً بالعقول والنفوس الفلكية، قائلاً: انّه تعالى أوجد العقل الأول وهو معزول عن ملكه يتصرف فيه سائر العقول، إذ لابد لكل مسلم أن ينفي هذه المقالات ويعتقد بأنه تعالى:كل يوم هو في شأن [15] ... [16] .
الدور العقائدي والتربوي البنّـاء للبداء
اتّضح مما سبق أن البداء معنى قرآني متداول لدى المسلمين جميعاً، وأن الإمامية لا يمتازون على سائر المسلمين إلا في التسمية التي يُفهم منها خطأً نسبة الجهل الى الله سبحانه وتعالى، وقد اتضح عدم صحة هذه النسبة ويهمنا الآن أن نطرح جانباً آخر من البحث، وهو أهمية فكرة البداء بالنسبة الى عقيدة الإنسان المسلم. فإن الأفكار توزن باُسسها العلمية وأدلتها المنطقية تارة، وبجدواها وثمرتها من جهة اُخرى. وفي موضوع البداء قد يقال على وجه الاستفهام، إذا كان الجعل الأول سوف لا يأخذ دوره الى الواقع، بل سينتهي الى الإلغاء فما الفائدة من الأخبار عنه؟ وماهي الثمرة المترتبة على الاعتقاد بالبداء حينئذ؟
والجواب: أن الاعتقاد بالبداء ينطوي على أهمية فائقة من جهتين: جهة عقائدية وجهة تربوية.
أما الجهة العقائدية فيكفينا كلام العلاّمة المجلسي، حيث كتب يقول: إنّهم(عليهم السلام) إنّما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون: إن الله قد فرغ من الأمر وعن النظام، وعلى بعض المعتزلة الذين يقولون إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ماهي عليه الآن من معادن ونبات وحيوان وإنسان ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها. وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، والقائلين بأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الأول، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه، وينسبون الحوادث إليها لا الى الباري عز وجل [17] .
بمعنى أن تأكيد الأئمة(عليهم السلام) على البداء، جاء لإبطال كل فكرة تجعل قدرة الله ومشيئته سبحانه وتعالى محدودة بحد معين، وإثبات أنها حقيقة مطلقة من كل الجهات حتى من جهة القدر الذي يقدره الله سبحانه وتعالى بنفسه في عالم التكوين والخلقة والتدبير والربوبية، وأن تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه الأقدار لا يجعله مسلوب الارادة والاختيار أزاءها.
كما أن البداء جاء للتأكيد على اختيار الإنسان وإرادته من خلال بيان أن القدر الإلهي فيه لوح محفوظ لا يقبل التغيير، ولوح آخر هو لوح المحو والإثبات الذي قد قدّره الله سبحانه وتعالى منذ البدء قابلاً للتغيير، تبعاً لما يقوم به الإنسان من أعمال في دار الدنيا.
وكأن عقيدة البداء جاءت تكملة لعقيدة القضاء والقدر، فلكي يُدفع الغلو والإفراط في عقيدة القضاء والقدر ، ولا تؤخذ بمعنى يسلب الاختيار عن الله سبحانه وتعالى وعن الإنسان ، كان لابد من تتميمها بعقيدة البداء التي جاءت لتؤكد أن القدر لا يصل حد سلب الاختيار عن الله، ولا سلب الاختيار عن الإنسان.
ومن الجهه التربوية نلاحظ أن عقيدة البداء ذات أثر تربوي بنّاء في حياة الإنسان، وقد بيّن العلاّمة المجلسي هذا الأثر في تتمة كلامه السابق عن أسباب تأكيد الأئمة(عليهم السلام) على البداء، حيث ذكر أولاً الفائدة العقائدية التي ذكرناها، وعطف عليها بذكر الفائدة التربوية حيث استمر، يقول: فنفوا(عليهم السلام)ذلك وأثبتوا أنّه تعالى كل يوم في شأن من إعدام وإحداث آخر وإماتة شخص وإحياء آخر الى غير ذلك، لئلا يتركوا العباد التضرع الى الله ومسألته وطاعته، والقرب إليه بما يصلح اُمور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند التصدق على الفقراء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين والمعروف والاحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق.
ومن هذه الجهة تكون عقيدة البداء مساوقة في إيجابيتها لعقيدة التوبة وشروط قبولها عند الله، فكما أن للتوبة أثراً إيجابياً في بناء الإنسان ومن جهة غلق منافذ اليأس والقنوط ، وفتح أبواب الأمل والرجاء، وخلق روحية التغيير والاستعداد للصلاح، كذلك للبداء هذا الأثر في حياة الإنسان، بل البداء لازم من لوازم التوبة وأمثالها من الأعمال، فإن من لوازم التوبة أن يعتقد التائب بأن قلم الله سبحانه وتعالى لم يجف بعد في لوح المحو والإثبات، فله سبحانه أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ويسعد من شاء ويشقي من شاء حسب ما يتحلى به العبد من مكارم الأخلاق وبصالح الأعمال أو يرتكب من طالح الأعمال، وليست مشيئته سبحانه جزافية غير تابعة لضابطة حكيمة، بل لو تاب العبد وعمل بالفرائض وتمسّك بالعصم خرج من صفوف الأشقياء ودخل في عداد السعداء، وبالعكس.
وفي اطار ذلك كله نستطيع أن نفهم معنى كلام الأئمة(عليهم السلام)بأنه ما عبدالله بشيء مثل البداء [18] و وما عُظّم الله عزّ وجل بمثل البداء [19] و ما بعث الله نبيّاً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال، الإقرار بالعبودية وخلع الأنداد، وأن الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء [20] .
أسئلة حول الاعتقاد بالبداء
وهنا تطرح أسئلة تستحق الإجابة الوافية وهي:
1 ـ إن القول بالبداء يؤدي الى صدور اللغو منه تعالى، فإنه مع علمه بما سيتحقق لديه من التغيير والبداء يكون الإخبار بالجعل الأول لغواً؟
والجواب:
إن اللغوية تتصور فيما إذا افترضنا عدم وجود غرض ومنفعة مُتصوّرة من الإخبار بالجعل الأول، وهذا ما لا يمكن إثباته، فمن الممكن أن تكون هناك منفعة وغرض يعود على العبد بفائدة جليلة من ذلك الإخبار.
2 ـ إن النبي أو الإمام إذا أخبر بشيء ثم حصل البداء في تحققه فلابد أن يستند في خبره الأول الى شيء يكون مصدراً لخبره ومنشأً لاطلاعه، فعلى ماذا يعوّل النبي أو الإمام في خبره الأوّل؟
والجواب:
يتطلب بيان مثال، كما لو تناول إنسان السمّ المهلك المؤدي الى وفاته حتماً ، فإنّك إذا شاهدت هذه الحادثة كان بوسعك الإخبار عن تحقق وفاته بعد ساعات وهو إخبار صادق بلحاظ المقتضي الأكيد له، فلو لم يتحقق الموت بسبب طروء مانع غير متوقع كحضور طبيب يعالجه بكفاءة عالية، لا يكون ذلك الإخبار كاذباً، ولا يعد إخباراً بلا مستند وهكذا الأمر في الإخبارات السماوية التي تخبر عن تحقق بعض الاُمور في المستقبل، فإنها صادقة بلحاظ المقتضي المشروط بعدم تحقق المانع، ولا يلزم من هذا الجواب محذور سوى عدم اطلاع النبي أو الإمام بتحقق المانع فيما بعد، فلنقل إن الله سبحانه وتعالى أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) بالمقتضي وشاء أن لا يخبره بتحقق المانع فيما بعد لمصلحة تتعلق بالعباد.
3 ـ إن حصول البداء يؤدي الى تعريض النبي أو الإمام الى الاتهام بالكذب؟
والجواب:
إن اتهام النبي أو الإمام بالكذب أمر يقع وزره على مرتكبه، والاتهام إن صدر من كافر فهذا ليس منه بغريب بعدما رفض الإيمان بأصل التوحيد والنبوة والمعاد، وإن صدر من مؤمن بالمفروض أن إيمانه يمنعه من ذلك، فإن لم يمنعه فذلك دليل على ضعف الإيمان عنده.
والمهم أن البداء ليس سبباً منطقياً للاتهام بالكذب، بل إن أكثر حالات البداء كانت مقرونة بما يفيد التصديق، كما في قصة إبراهيم(عليه السلام) لما أُمر بذبح ابنه، فإن الأمر الجديد بالفداء يفيد تصديق الأمر الأول بذبح اسماعيل(عليه السلام) ولولا أن الخبر الأول كان صادقاً لما كان الأمر بذبح الكبش بدلاً عنه فداءاً ، فإن الفداء بمعنى البدل.
الخلاصـة
إنّ البداء (بمعنى تبدّل الرأي) مستحيل على الله تعالى ولا تقول به الإمامية، بل تقول باستحالته وبكفر من يقول به وبلزوم التبرّي منه [21] .
نعم، إن البداء المعقول والذي يجب الاعتقاد به هو ما عبّرت عنه الآية القرآنية الكريمة (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب) ويتجلّى هذا المحو والإثبات في ما يظهره الله من شيء على لسان نبيّه أو وليّه في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي الإظهار ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أوّلاً مع سبق علمه تعالى بذلك. ويشبه البداء النسخ لأحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيّنا محمد(صلى الله عليه وآله)أو نسخ بعض الأحكام التي جاءت بها شريعة نبيّنا(صلى الله عليه وآله)بأحكام تلتها [22] .
إنّ من لم يعتقد بهذا النحو من البداء فقد حدَّد قدرة الله وإرادته المطلقة، كما أشار القرآن الكريم الى ذلك في جملة من عقائد اليهود بقوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّت ايديهم) [23] . وهذا ما قد تسرّب الى بعض الفرق الإسلامية غير الإمامية.
[1] فاطر : 43 .
[2] الاحزاب : 62 .
[3] الرعد : 39.
[4] أجوبة مسائل جار الله: 79.
[5] أوائل المقالات : 92 ـ 93.
[6] بحار الأنوار : 4 / 121، ح 63.
[7] بحار الأنوار : 4 / 111، ح 30.
[8] الرعد : 39.
[9] الرحمن : 29.
[10] تصحيح اعتقادات الامامية : 66 ط دار المفيد.
[11] عــدة الاُصول : 2 / 29.
[12] مصابيح الأنوار: 1 / 33 .
[13] الرعد : 39.
[14] أجوبة مسائل جار الله: 101 ـ 103.
[15] الرحمن : 29.
[16] الذريعة : 3 / 51 ـ 53.
[17] بحار الأنوار : 4 / 129 ـ 130 ط طهران.
[18] اُصول الكافي: 1/146.
[19] المصدر السابق: 1/ 146 كتاب التوحيد باب البداء.
[20] المصدر السابق: 1/ 147 كتاب التوحيد ، باب البداء.
[21] عقائد الامامية ، محمد رضا المظفر : 45 طبعة النجف، الثانية.
[22] المصدر نفسه : 46.
[23] المائدة : 64 .