'ازهد فى الدنيا يبصرك الله عوارتها، و لا تغعل فلست بمغفول عنك' [ شرح محمد عبده ص 646.]
و هكذا فانه 'من اعتبر ابصر، و من ابصرفهم، و من فهم علم' [ تصنيف نهج البلاغه ص 389.]
- تسلسل رائع يحمل الانسان على اخذ نفسه بالرياضه، بالتدرب على الزهد.
العبره نقود الى الزهد و الزهد الى البصيره الواعيه، و البصيره الى الفهم، فهم ما فطرت عليه الدنيا و فهم ثوابها و عقابها، ثم الى العلم...!
- فان لم يكف الانسان كل هذا ليعتبر فيبصر فان امامه من القدوه ما يفتح القلب العمى، اتظن ايها الانسان ان فى الزهد مذله؟ لو كان كذلك ما رضيه الله لانبيائه و ان كان الزمن قد باعد بيننا و بينهم ففى الكتاب خبرهم و ان لم يردنا خبر الكتاب ففى سيره النبى "ص" احسن قدره.
'و قد كان- صلى الله عليه و آله- ياكل على الارض- و يجلس جلسه العبد، و يخصف بيده نعله، و يرفع بيده ثوبه...' [ تصنيف نهج البلاغه ص 284.]
و ما سيره الامام عليه السلام الا استمرار لسيره النبى "ص". لذا جعل منها درسا عظيما شاملا فى المدرسه الشامله و هذا الدرس يفرضه كونه فى محل قطب الرحى من قياده المومنين، و مولاهم جميعا 'اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه' و هو مرجعهم بعد غياب النبى "ص"، و حجه الله على خلقه.
و هو فى ذلك كله امثل الاعلى لهم و القدوه التى لاتدرك، و قد حفلت كتب التاريخ و السيره باخبار زهده المعجز، و حفلت خطبه بدروس الاقتداء حتى انه يصرح بواجب اقتدائهم بسيرته فهاهوذا يكتب الى عثمان الانصارى عامله على البصره:
'الا و ان لكل ماموم اماما يقتدى به و يستضى بنور علمه، الا و ان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه و من طعمه بفرصيه. الا و انكم لاتقدرون على ذلك. ولكن اعينونى بورع و اجتهاد وعفه و سداد' [ شرح محمد عبده ص 505.]
هاهى ذى سيرته فدوه لعماله و رجاله ولكن صبره معجز لايستطيعونه، و لايريد ان يحملهم على المشقه، فلياخذوا انفسهم بمايجب ان يتصف بها كل حاكم الورع عن الحرام لانه يصد عن الحق، و الاجتهاد فى طلب العلم و الثواب لكيلا بطول الامل،
و التعفف عند الطمع لئلا تشغلهم الدنيا، و سداد البصيره حتى لايغلبهم غرورها.
و من رائع سيريه فى الزهد حديث "المدرعه" التى قال فيها:
'و الله لقد رقعت مدرعتى حتى استحييت من راقعها، و لقد قال قائل: الا تنبذها عنك؟ فقلت: اعرب عنى، فعند الصباح يحمد القوم السرى' [ الامام على عليه السلام ص 189 بلااسناد.]
سمات تيار الزهد الثورى الاسلامى
صار لزهد الامام و الصحابه السباقين بقياده الرسول "ص" ملامح مذهب ثورى، و توضحت هذه الملامح بعد التحاق الرسول بالرفيق الاعلى بقياده الامام على عليه السلام فليس الزهد بان نجوع و نعرى ولكن بان نروض النفس ونر بابها عن ان تطلب ما ليس ضروريا لامساك الرمق. و ليست الحياه مطلبا بل هى فرصه للاجتهاد "و نفهم فى الاجتهاد: العمل. و العلم". و ليست الدنيا نقيض الاخره بل سبيل اليها. و قد راينا انهم لم يتاثروا فى ثورتهم بغير القرآن الكريم.
و هكذا ثارالزهاد بقياده الامام "ع" على من يحاولون تمييع ثوريه الاسلام و روحيته و تحويلها الى سياسه و طبقات. كما ثاروا بقياده النبى "ص" على وثنيه
الجاهليه و طبقاتها. و كانهم بذلك يسنون للعصر الحديث سنه "الثوره على الثوره".
و قد جعلوا من الزهد قاعده ى لثورتهم فى حب الله و رسوله و آله، و اقاموا زهدهم على جانبين هامين من الاجتهاد:"العمل فى حب الله- و طلب معرفته". و امثالهم كان الامام "ع" يصف
'طوبى للزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الاخره، اولئك قوم اتخذوا الارض بساطا، و ترابها فراشا، و مائها طيبا، و القرآن شعارا و الدعاء دثارا. ثم قرضوا الدنيا "اى تركوها خلفهم" على منهاج المسيح.' [ شرح ابن ابى الحديد ج 4 ص 286.]
و لعلنا نستطيع ان نلمح فى هذا القول الشريف- الذى جمع بين الزهاده و الانقطاع الى العباده- بذره من بذور التصوف الاسلامى الذى ستشهده القرون التاليه.
الزهد و الصوفيه
فتح مثل هذا الباب الواسع فى مقالنا يخرجنا من ميدانه، لكن الموقف يقتضى ان نشير الى اهم ما يميز زهد الامام "ع" و اصحابه عما سمى من بعد بالتصوف الاسلامى فنحن نرى ان زهد الامام تصاعد مع التاريخ مواجها لامعان القياده السياسيه فى طغيانها فاذا جمعنا الى هذا اخفاق تورات اهل النبى استطعنا ان نميز تراجع الجانب او الوجه العملى الثورى من الزهد و تصاعد الوجه الروحى من مجاهده النفس الى تنظيم للرياضه الروحيه و امعان فيها طلبا لمعرفه الله. و هكذا تطور مبدا رفض ما يفتن الحواس الى رفض حياه الحواس، لان كل حسى امتداح للطبيعه و حياه الحواس ارتباط بالطبيعه و هو بالتالى نفى للاخلاق، فالاخلاق تناضل ضد الطبيعه بقياده العقل و مثل هذا الكلام يشير الى ان تعابير الفلسفه و اقيستها قد دخلت التصوف من بابه الامامى اما زهد الامام "ع" فقد كان مبنيا على البساطه فى المبدا و الصدق فى الموقف
الزهد و الرهبانيه
على الرغم من قول الحسن البصرى: "رحم الله عليا، كان رهبانى هذه الامه" فان بعد مابين الزهد و الرهبانيه يبقى وجود صله تاثر بينهما الا ان يكون رهبانيها ممن حيث احاطته بالعلم الذى لم يحط به غيره او ان يكون التعبير لايقصد به الدقه العلميه
و نقاط التباين واضحه يمكن اختصارها بمايلى:
- الرهبانيه تكبت الفطره البشريه للنفس و الاسلام يرفض ذلك و يرفض الرهبانيه، و زهد الامام من صميم الاسلام.
- الرهبانيه تقوم على الانقطاع الى التعبد و التامل و بذا تنفى الجانب العملى من العباده. و الزهد عباده و عمل: عمل فى رزق يمسك الرمق. و عمل فى حب الله.
- الرهبانيه هرب من شرور الدنيا، و الزهد مواجهه لها، و كفاح لاحقاق الحق. فهو زهد هيادى تربوى للامام و الماموم و القائد و المقود.
- و نتيجه لما سبق تبدوالرهبانيه كما ابتدعوها غير ملائمه لروح العصر. لسلبيتها سلوكا و علما. اما زهد الامام فهو صالح اساسا لكل ثورات الامم الحديثه المكافحه لتحقيق الحق و السلام. بل هو خير اساس.
غاية الزهد
اذا كان هدف كل من الصوفيه و الرهبانيه انفاذ النفس البشريه "الذات" من مداحض الدنيا تقربا الى الخالق، فان غايه الزهد ليست فرديه ذاتيه فقط، بل اننا نستطيع ان نلمس فيه الهدف الذاتى و الغايه الغيريه العامه. و اهم ما يرمى اليه:
عصمة النفس
'انما هى نفسى اروضها بالتقوى، لتاتى آمنه يوم الخوف الاكبر' و ليس هذا اذلالا لانسانيتها بل ارتقاء بها عما يحول دون خلودها. و من نافله القول ان نذكر ان العصمه عن طريق الزهد غيرالنجاه السلبيه الهاربه بالرهبانيه او التصوف.
العدل
العدل اسمى ما تريد الشعوب ان تستظل به فى حياتها السياسه و الاجتماعيه و ترويض النفس بالزهد خير وسيله لتسليح الانسان بالقدره على اقامه العدل و احقاق الحق- و هذا الهدف العام للزهد- و قد كان الامام عليه السلام خير قدوه فى ذلك فان زهده لم يضعف قوته فى القتال، و ما عرف عنه انه سكت على باطل. او توانى فى قياده المومنين فى سبيل الله. و ما الاماره فى نظره الا وسيله لاقامه الحق و دفع الباطل فهو يقول فى نعل يخصفها: 'لهى احب الى من امرتكم الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا' [ شرح محمد عبده ص 88.]
و هو عليه السلام يرى اقامه الحق امانه فى عنقه بعد الرسول "ص" و هو منه بمنزله هارون من موسى. او بمنزله الراس من الجسد.
خاتمه
هذا غيض من فيض ماجاء فى خطب الامام على عليه السلام فى الزهد: سواء ما كان تفسيرا له و بيانا لسبيله و اظهارا لفضل اهله. ام ذما لمتاع الدنيا و تمجيدا لثواب الاخره.
و لم يكن غرضنا احصائيا بل كان تلمس ميزان هذا السلوك الانسانى السامى الذى صار تيارا او مذهبا ثوريا فى تاريخ المسلمين كان له الفضل الكبير فى الحفاظ على قدسيه رساله محمد صلى الله عليه و آله، و لن يشق على دارس كتاب نهج البلاغه ان يختار مزيدا من الاقوال ذات المعنى الجليل او التوجيه العميق الى الزهد قد تجاوزناها لكفايه ما انتقينا منها
بهذا الزهد قامت رساله محمد "ص" و بفضله ثم الفتح، و ظل المناره المضيئه فى ليل اهوائهم و انوائهم. نذر اصحابه انفسهم لحمايه الدين و نشر احكامه، و احقاق الحق. و نصره الله. و ان الله و الحق لايفترقان.
فما احوجنا- اليوم- و قد مزقت رياح الاهواء شراع الرساله، وطفا المسلمون على امواج التاريخ كغثاء السيل، و وقف بنا العالم على شفا حفره من نار- ما احوجنا الى زهد مثل زهد مدرسه الامام، يعصم نفوسنا من الميل الى الباطل و يروضنا على احقاق الحق، و يقينا شر طول الامل و اتباع الهوى علنا نعيد لرساله الحق سيرتها الظافره، و الله ولى التوفيق.