الشهيد الصدر قدسسره والدستور الاسلامي
الدكتور مصطفي الأنصاري
ملخص البحث
هذا البحث هو واحد من ثلاثة بحوث تشكل بمجموعها محاولة للتعرف علي معالم كتابات الشهيد السيد محمّد باقر الصدر حول القانون والدولة ، لم نوفق بعد لا نجازها جميعا فهي إذن ما زالت قيد الانجاز .
لقد راجعنا من اجل التعرف علي المعالم المذكورة كتابات السيد الشهيد فوجدنا مادة موزعة في مواضع عديدة ، ربما كان اوثقها صلة بموضوع الدستور ما جاء في اللمحة الفقهية التي كتبها السيد الشهيد عن دستور الجمهورية الاسلامية ، وفي الأسس الدستورية التي حررها قبل اللمحة بعشرين عاما ونُشر قسم منها مؤخرا تحت عنوان « اصول الدستور الاسلامي » في احد مصادر البحث .
غير ان كتابات السيد الشهيد الاُخري ليست بعيدة عن موضوع البحث ، ذلك انه ركّز في معظمها علي مسألة البحث عن حل للمعضلة الاجتماعية والتي لخصها بالبحث عن النظام الأمثل الذي « يصلح للانسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية » ، ومسألة النظام كما هو معلوم هي محور الدستور والدراسات الدستورية .
لقد تناولنا نظرات السيد الشهيد حول الدستور في ثلاثة فروع :
الاول : يهتم بتعريف الدستور وعرض العناوين الرئيسة للموضوعات التي يشتمل عليها .
الثاني : ينصب علي دراسة طبيعة الدستور ومحاولة استكشاف الموقف من هذه الطبيعة في خضم الاختلاف القائم بشأنها ، وكذلك التعرض للمواصفات الرئيسة للنصوص الدستورية ومكانتها في النظام القانوني للدولة .
الثالث : يتعرض بشكل مباشر لمضامين الدستور وبالنظر الي اننا تناولنا نظام الدولة في مبحث آخر فقد اقتصرنا هنا علي ما يتعلق بالحقوق والحريات من جهة وبالمضمون الفكري والتربوي من جهة اخري .
تتلخص نتائج البحث التي انتهينا اليها بان الدولة الاسلامية كما استكشفها السيد الشهيد دولة دستورية قانونية ، وان للدستور الاسلامي لدي السيد الشهيد معنيين احدهما واسع يشتمل علي كل احكام الشريعة الاسلامية والثاني ضيق وهو الذي يقصد به الدستور الموضوع للدولة اعتمادا علي احكام الشريعة .
ومن نتائج البحث ان احكام الدستور الاسلامي الثابتة صراحة بأحد الادلة الاربعة هي احكام ثابتة جامدة ، بمعني عدم امكان تغييرها او تعديلها ، وان الاحكام المنقولة بشكل غير مباشر من تلك الادلة الي الدستور بمعناه الضيق لها ثبات نسبي ، وان ما يمكن تغييره منها انما هو متعلق غالبا بمساحة الفراغ التشريعي الذي لم نجد فيه حكما قاطعا او توفرت لنا خيارات في الحكم اشار البحث إليها ، وفي كل الاحوال فان الدستور يمتلك مرجعية ثابتة في مواجهة قواعد ونصوص الضبط الاجتماعي الاُخري ، ويبقي الدستور بالمعني الضيق نفسه خاضعاً لاحكام الشريعة الاسلامية التي هي الدستور بالمعني الواسع ذلك المعني الذي تسمو به الاحكام المذكورة علي الراعي والرعية وعلي كافة مؤسسات الدولة ومقرراتها . وما دام اللّه سبحانه وتعالي ـ يقول السيد الشهيد ـ هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن اللّه تعالي فمن الطبيعي ان تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الاسلامية .
هذا وقد حاولنا قدر الامكان مقارنة نظرات السيد الشهيد بما يتعرض له فقهاء القانون الدستوري المعاصرون لتكون الفائدة اشمل وأعم ، آملين آن ننجز البحثين الآخرين المكملين لهذا البحث وهما يتعلقان بفلسفة القانون وبناء الدولة لدي السيد الشهيد .
تشكل دراسة « القانون الدستوري » مادة اساسية في الدراسات القانونية ، وربما جاءت الاولي في تسلسل الدراسات المذكورة من حيث الاهمية بعد المدخل الفلسفي الي حقل القانون ، ذلك انها تنصب من جهة علي الدستور وهو القانون الاساسي في الدولة ، ومن جهة اخري علي الدولة نفسها وهي الهيكل القائم علي اساس الدستور وبهدف اعمال الاحكام الواردة فيه .
ولدي استعراضنا لكتابات السيد الشهيد محمّد باقر الصدر نجد مادة غنيّة وعلي درجة من الاهمية في الموضوعات المذكورة ، وان كانت موزعة في مواضع عدة من مؤلفاته رحمه اللّه ولعل من نافلة القول ان نذكر ان تعرض السيد الشهيد لهذه الموضوعات لم يكن في اطار استكشاف ( النظرية ) بقدر ما كان في اطار استكشاف ( المذهب ) ، اي استكشاف المواقف والحلول الاسلامية المتعلقة بما تطرحه الكتابات العصرية من مشاكل في اطار ما يسمي بالقانون الدستوري . والحق اننا لم نلمس في منهجه هذا سعيا مخصصا لدحض النظريات القائمة كما فعل ذلك في فلسفتنا واقتصادنا ، وإنّما كانت كتاباته في هذا الصدد جهدا علي طريق حل مشكلات واقعية قائمة او محتملة ، ولايعني ذلك انه لم يطرح جوانب تتعلق بالنظرية ، بل علي العكس فانه في الاثناء ( كان متصديا لبيان الاسس والخلفيات الشرعية لما يختاره من حلول دستورية وكاشفا عن عيوب الخلفيات التي تقوم عليها الدول الرأسمالية والاشتراكية ) .
وعلي كل حال فاننا سنحاول في هذا المدخل ان نتعرف علي ما استنبطه السيد الشهيد من الحلول الاسلامية لطائفة مما يطرح من اسئلة في اطار القانون الدستوري بشقيه : الدستور والدولة وبما يمكن ان يشتمل عليه ذلك من تصور للمشكلة الاجتماعية التي اعتني السيد الشهيد عناية فائقة بتحليلها وابرازها علي الصعد المختلفة : الفلسفية والاقتصادية والقانونية والسياسية .