لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية - وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه .وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ هذا جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . . شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني .كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماض المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته بل تبعيته .